رسالة في حقيقة الوضع

12 شوال 1432

18:13

۱۴,۴۷۲

الخلاصة :
ذهب السيّد الشهيد الصدر(قدس سره) إلى أنّ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى لا تكون أمراً اعتبارياً صرفاً، بل هي من الاُمور الواقعيّة ونشأت عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى، وهو من صغريات قانون الاستجابة الشرطية.
ولا يخفى انّ البحث عن الوضع وأقسامه من المبادئ التصوّرية اللغوية لمسائل علم الاُصول وثمرته إنّما تظهر في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وعدمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

نشست های علمی

تأليف: آية الله الشيخ محمّد جواد الفاضل اللنكراني

بسم الله الرحمن الرحيم


تمهيد:



ذهب السيّد الشهيد الصدر(قدس سره) إلى أنّ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى لا تكون أمراً اعتبارياً صرفاً، بل هي من الاُمور الواقعيّة ونشأت عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى، وهو من صغريات قانون الاستجابة الشرطية.

وقد أثّرت هذه النظرية تأثيراً وافياً في كثير من المباحث اللفظيّة، ونحن نشير إلى موارد منها:

الأوّل: إنّ هذه النظرية توجب تقوية كون البشر واضعاً وتنفي المبعدات التي ذكرها الاُصوليّون لبشرية الواضع من جهة أنّه بناءً على نظرية القرن الأكيد يكون الوضع عملاً طبيعيّاً بسيطاً مأنوساً عند الإنسان من دون أن يحتاج إلى الاعتبارات العقلائيّة. فالسيّد الشهيد وإن استقرب إلهية الوضع واعترف بأنّه من البعيد جدّاً أن يطّلع الإنسان على المعاني واستعمل الألفاظ فيها من دون إلهام من الله تبارك وتعالى لكنّه قد أبطل المبعدات التي ذكروها لبشرية الواضع في ضوء هذه النظرية(1).

الثاني: قد اختلف الأصوليّون في إمكان القسم الرابع من أقسام الوضع وهو الوضع العام والموضوع له الخاص، فذهب الكثير إلى استحالته، فقد ذكر السيّد الشهيد أنّه بناءً على كون الوضع أمراً اعتبارياً صرفاً فهذا القسم بمكان من الإمكان كسائر الأقسام، لكنّه إذا بنينا على كون حقيقة الوضع عبارة عن القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، وبعبارة اُخرى قلنا بكون الوضع أمراً واقعيّاً فلابدّ أن يتصوّر الواضع المعنى الخاص بالحمل الشائع حتّى يحقّق الاقتران بين اللفظ والمعنى الخاصّ. ثمّ إنّه صرّح بإنّه بناءً على هذه النظرية يتحقّق هذا القسم عن طريق تكرار الاقتران بين اللفظ والمعاني الخاصّة(2).

الثالث: تأثير هذا المعنى في تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني. فإنّ الوضع التعييني بناءً على القرن الأكيد عبارة عن إيجاد القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى بإنشاء واحد. وامّا الوضع التعيّني فإنّه بناءً على مسلك الاعتبار في حقيقة الوضع، عبارة عن إيجاد العلقة الوضعية بسبب كثرة الاستعمال امّا بناءً على القرن الأكيد فيتحقّق الوضع التعيّني بتكرار الاقتران بين اللفظ والمعنى في الاستعمالات الكثيرة حتّى ينجرّ إلى التلازم التصوّري بينهما(3).

الرابع: معقولية الوضع بالاستعمال بناءً على القرن الأكيد، فإنّ استعمال اللفظ في المعنى الغير المعهود استعماله فيه سابقاً يكون بنفسه مصداقاً للقرن الخارجي، بخلاف المسالك الاُخرى في حقيقة الوضع، فإنّ الوضع بالاستعمال بناءً عليها مشكل جدّاً لأنّ المجعول الاعتباري والتعهّد الاعتباري أمرٌ نفساني لا ينطبق على الاستعمال الخارجي ويحتاج إلى عناية زائدة على الاستعمال حتّى يمكن أن يفهم أنّ المستعمل يتعهّد بنفس هذا الاستعمال تفهيم المعنى الحقيقي(4).

الخامس: عدم إمكان تقييد العلقة الوضعية بناءً على مسلك القرن الأكيد لأنّها أمر واقعي تكويني لا يناله يد الاعتبار والجعل وليس مجعولاً حتّى يمكن أن تتقيّد بحالة دون حالة اُخرى بخلاف مسلك الاعتبار أو التعهّد فإنّ تقييد العلقة الوضعية بمكان من الإمكان، ويعقل أن يشترط الواضع الاعتبار بشرط أو بحالة أو أن يتعهّد في حالة دون حالة اُخرى(5).

السادس: إنّ الدلالة اللفظية بين اللفظ والمعنى يكون تصوّرياً بناءً على القرن الأكيد بخلاف مسلك التعهّد فإنّ الدلالة بينهما تصديقيّة لأنّ الملازمة بين اللفظ والمعنى إنّما هي بين الوجودين لا بين التصورين(6).

السابع: إنّ تبعية الدلالة للإرادة غير معقولة بناً على مسلك التعهّد لأنّ الدلالة بناءً عليه دلالة تصديقية، وقصد المعنى متعلّق للإرادة في الدلالة التصديقية ولا يكون من شروط المعنى، وامّا بناءً على مسلك القرن الأكيد فالتبعية غير معقولة جدّاً لأنّ الوضع عبارة عن الاقتران بين اللفظ والمعنى في الذهن. وهذا الاقتران يوجب الملازمة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى وكلاهما غير قابل للتقييد(7).

الثامن: إمكان الترادف والاشتراك، بناءً على نظرية القرن الأكيد كما هو كذلك بناءً على نظرية الاعتبار، امّا بناءً على مسلك التعهّد فهما مشكل ثبوتاً; وإن ذكر(قدس سره) في آخر كلامه طريقاً لإمكانية الترادف والاشتراك حتّى بناءً على مسلك التعهّد والاعتبار، فراجع(8).

التاسع: معقولية علاقية التبادر بناءً على مسلك القرن الأكيد لأنّ انسباق الذهن إلى المعنى فرع وجود الملازمة بين اللفظ والمعنى وهذه الملازمة فرع الاقتران بينهما وهذا أمر واقعي خارج عن مقولة العلم والتصديق، فالتبادر غير موقوف على العلم بالوضع(9).

فتبيّن أنّ هذه النظرية ذو أثر مهمّ في شتّى مباحث الاُصول، فالجدير أن نبحث عن حقيقة الوضع والمسالك الموجودة فيها.


في كيفية الدلالة وفي حقيقة الوضع


في حقيقة الوضع


ولا يخفى انّ البحث عن الوضع وأقسامه من المبادئ التصوّرية اللغوية لمسائل علم الاُصول وثمرته إنّما تظهر في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وعدمه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقبل الورود في البحث لابدّ أن يقال إنّ هنا أمرين قد وقع الخلط بينهما في كلمات القوم:

الأمر الأوّل: في حقيقة الدلالة الموجودة بين الألفاظ والمعاني وكيفية الارتباط الموجود بينهما .

الأمر الثاني: في حقيقة الوضع وأنّه ماذا فعل الواضع وماذا يتحقّق بفعله ولا يذهب عليك انّ البحث ليس في مفهوم الوضع بحسب اللغة فإنّه أمر واضح جدّاً ، بل البحث إنّما هو في حقيقة الوضع وفي كيفية عملية الوضع ، وهذا من فروع الأمر الأوّل . فاعلم انّ القوم على أقوال ثلاثة:

ذهب جمع ومنهم عبّاد بن سليمان الصيمري إلى أنّ هذه الدلالة أمر واقعي ذاتي تكويني ، وذهب جمع منهم المحقّق النائيني(10) إلى أنّه الوسط بين الأمر الواقعي والأمر الجعلي الاعتباري ، وذهب المشهور إلى أنّه أمر جعلي صرف لا يمسّه الواقع التكويني وهم اختلفوا أيضاً في كيفية الاعتبار على أقوال متعدّدة: الأوّل انّه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى ، والثاني انّه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى ، والثالث انّه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى ، والرابع انّه عبارة عن التعهّد . هذا مجمل الكلام في مذاهب المقام ، وامّا تفصيل البحث هو:

انّ القول بكون دلالة اللفظ على المعنى أمراً واقعياً ذاتياً يمكن أن يفسّر بأحد الوجوه الثلاثة:

الأوّل: انّ المراد منها أنّ المعنى من ذاتيات اللفظ كما أنّ الزوجية من ذاتيات الأربعة .

الثاني: انّ المراد أنّ الواضع لم يهمل المناسبة بين اللفظ والمعنى كما هو مذهب أهل الاشتقاق ذكروا انّ الفصم بالفاء لكسر الشيء مع عدم الإبانة والقصم بالقاف لكسر الشيء مع الإبانة للفرق بين الفاء والقاف في الشدّة والرخاء .

الثالث: انّ المراد من الذاتية انّ الدلالة بينهما أمر غير قابل للتغيير والتبديل وإن كان اعتباريّاً لكن بعد تحقّق الاعتبار وتماميته لا يتبدّل ولا يتغيّر .


وقد استدلّوا بوجهين:



الوجه الأوّل: انّه لو لم تكن الدلالة ناشئة من سنخية ذاتية بين اللفظ والمعنى لكان كلّ لفظ صالحاً للدلالة على المعنى واختيار لفظ لمعنى دون لفظ آخر موجب للترجيح بلا مرجّح وللتخصيص بلا مخصّص وهو محال ، ويرد عليه:

أوّلا: عدم امتناع الترجيح بلا مرجّح وإنّما المحال هو ما إذا كان بنحو الترجّح بلا مرجّح هذا بناءً على عدم رجوع الترجيح إلى الترجّح وإلاّ فهو أيضاً محال .

ثانياً: انّ المرجّح في مقام الوضع والجعل موجود وهو إرادة الواضع أو سبق اللفظ إلى الذهن .

الوجه الثاني: انّه لو كانت الدلالة أمراً اعتبارياً لكانت متقوّمة بالاعتبار ووجود المعتبر وينهدم بانقراضه مع انّا نرى بالوجدان بقاء الدلالة في الألفاظ في جميع الأزمنة .

وفيه:

انّ هذا أمر صحيح لا ينكر وهذا هو الفارق الأساسي بين الاُمور الواقعية التكوينية التي لا تتقوّم بوجود جاعل وبفرض فارض والاُمور الاعتبارية التي تتقوّم بالمعتبر والفارض ولكن انهدام المعتبر لا يستلزم انقراض الدلالة لتبعية الباقي عنه في الاعتبار وتأييدهم لبقاء الدلالة عملا .

وبعد إبطال الوجهين نقول: إنّ القول بالذاتية باطل جدّاً من حيث الثبوت; لأنّه مضافاً إلى دفعه بوجود الوضع للنقيضين أو الضدّين يقال إنّ القول بها مدفوع بطريقين:

الطريق الأوّل: انّ الاُمور الواقعية على قسمين: الأوّل الاُمور الخارجية التي يكون الخارج ظرفاً لوجودها وتنقسم إلى الجواهر والاعراض ، والثاني الاُمور النفس الامرية التي لها واقعية من دون أن يكون الخارج ظرفاً لوجودها بل الخارج ظرف لانفسها كاستحالة اجتماع النقيضين والملازمات الواقعية بين طلوع الشمس ووجود النهار وأمثالها . ومن الواضح انّ العلقة الموجودة بين اللفظ والمعنى ليست من القسم الأوّل لعدم كونها من الجواهر حيث إنّها وجودات لا في موضوع والدلالة أمر ربطي لا وجود لها غير الطرفين وأيضاً ليست من قبيل الاعراض التي لها وجود في الموضوع لأنّها موجودة بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ولا تتوقّف على وجود اللفظ واستعماله مع أنّه لو كانت من الاعراض لوجب أن تتحقّق بعد وجود اللفظ خارجاً وهكذا ليست العلقة والدلالة من قبيل الاُمور الواقعية النفس الامرية لعدم وجود التبديل والتغيير فيها فإنّ استحالة اجتماع النقيضين أمر غير قابل للتغيير والتبديل وهكذا الملازمات العقلية مع أنّ الدلالة قد تتغيّر بسبب النقل من المعنى اللغوي إلى الشرعي أو العرفي(11) . فثبت انّ العلقة الموجودة بين اللفظ والمعنى ليست من الاُمور الواقعية .

الطريق الثاني:

ما ذكره الوالد المعظَّم في بحثه وهو انّ القول بالذاتية لا يخلو عن أربع كلّها مخدوشة:

الأوّل: أن يكون وجود اللفظ علّة تامّة لوجود المعنى وهذا مع أنّه لم يقل به أحد ، بديهي البطلان أيضاً لتحقّق المعاني قبل تحقّق الألفاظ كما هو واضح في أسماء الأعلام .

الثاني: أن يكون اللفظ علّة تامّة للانتقال إلى المعنى وهذا باطل أيضاً لاستلزام أن يكون كلّ شخص عالماً بالمعنى بمجرّد سماع اللفظ وهو كما ترى .

الثالث: أن يكون اللفظ مقتضياً لوجود المعنى وهذا أيضاً باطل لنفس ما قلناه في الاحتمال الأوّل .

الرابع: أن يكون اللفظ مقتضياً للانتقال إلى المعنى وهذا مخدوش أيضاً لوجود الألفاظ الدالّة على ا لضدّين مع وضوح عدم إمكان الشيء والحد لأن يكون مقتضياً للضدّين على أنّ هذا القول مستلزم لوجود التركّب في ذات الباري لتعدّد الأسماء والألفاظ في ذات الباري في اللغة الواحدة لاقتضاء كلّ لفظ جهة خاصة لا يقتضيها اللفظ الآخر وهذا موجب للتركّب المحال في ذات الباري(12) .

ثمّ إنّه يستفاد من كلمات المحقّق العراقي والمحقّق النائيني انّ الدلالة الموجودة بين اللفظ والمعنى أمر وسط بين الاعتباري والواقعي ، لابدّ أن نذكر كلامهما مع المناقشات الواردة عليهما .


1 ـ كلام المحقّق العراقي



فإنّه ذكر كلاماً طويلا في هذا المقام في مقالاته(13) واختلف الأعلام فيما يستفاد من كلامه ولا سيما انّ كلامه في هذا المجال مضطرب جدّاً ، ونحن نذكر لُبّ مختاره وأساس مرامه فنقول:

إنّه بعد أن أنكر الذاتية وذهب إلى أنّ العلقة الموجودة بينهما امّا أن يكون بجعل الجاعل أو بكثرة الاستعمال فهي حادثة لا ذاتية ، قال ما ملخّصه:

أوّلا: انّ الارتباط بينهما من قبيل ارتباط المرآة مع المرئي ، فكما أنّ الانتقال إلى المرآة عبارة عن نفس الانتقال إلى المرئي وليس بينهما تغاير فكذلك الانتقال من اللفظ عين الانتقال إلى المعنى وهذا هو السبب لسراية صفات المعنى إلى اللفظ وبالعكس وبهذا البيان يتّضح انّ دلالة اللفظ ليست من قبيل دلالة الدخان على النار حيث إنّ الانتقال إلى أحدهما يكون مغايراً مع الانتقال إلى الآخر .

ثانياً: انّ هذه العلقة أمر اعتباري من جهة انّها مجعولة بتوسّط جعل الجاعل لكن ليست اعتبارية محضة حتى تزول بتوهّم المعتبر أو غفلته بل اعتباري بمعنى عدم وجود ما بازاءها في الأعيان ، ومن جهة اُخرى انّها أمر واقعي لتعلّق الالتفات إليها تارة والغفلة اُخرى ، وأيضاً اعتباريتها من جهة عدم إيجاد تغيير في اللفظ والمعنى بخلاف النسب الخارجية التي توجب تغييراً في الهيئة الخارجية ومن جهة أنّها بنفسها خارجية لا بوجودها ، تكون من الاُمور الواقعية .

ثالثاً: انّ الاعتبار ليس واسطة في الثبوت بالنسبة إلى هذه الدلالة حتّى يكون علّة لتحقّقها ، بل طريق إلى الواقع كالقضايا الحقيقة التي يكون فرض وجود الموضوع طريقاً إليها .

رابعاً: انّه(قدس سره) قد عبّر عن الدلالة تارةً بالملازمة بين اللفظ والمعنى ، واُخرى باختصاص اللفظ بالمعنى وثالثة بقالبية اللفظ أو مبرزيته
للمعنى والظاهر انّ هذه التغييرات مآلها إلى شيء واحد في نظره
الشريف .

فنتيجة كلامه انّ الواضع قد وضع الملازمة الواقعية بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ومن هذه الجهة لها موطن ذهني كما أنّ لها موطن خارجي أيضاً بين وجود اللفظ ووجود المعنى وعدم انحصارها بالذهن دليل على عدم كونها من الاعتباريات المحضة والاعتبار ليس علّة لثبوتها بل طريق إلى الملازمة الواقعية واستدلّ في مجموع كلماته لعدم كونها من الاعتباريات المحضة بأمرين: الأوّل زوال الاعتبار بنوم المعتبر أو غفلته ، والثاني انّا نرى في ما إذا كانت الدلالة معلولة لكثرة الاستعمال ، بقائها وإن اعتبر خلافها مع أنّ الاُمور الاعتبارية تزول باعتبار الخلاف .

وقد أورد عليه المحقّق الخوئي(14) بأنّه إن أراد وجود الملازمة مطلقاً حتّى للجاهل بالوضع فبطلانه من الواضحات لاستلزام كون سماع اللفظ علّة للانتقال إلى المعنى ولازمه استحالة الجهل باللغات ، وإن أراد ثبوتها للعالم بالوضع فقط فيرد عليه انّها وإن كانت ثابتة للعالم فقط إلاّ أنّها ليست بحقيقة الوضع بل هي متفرعة عليها بمعنى انّها أثر الوضع لا حقيقته ومحل النزاع إنّما هو في تعيين حقيقة الوضع التي تترتّب عليها الملازمة . مضافاً إلى أنّ القول باختصاص الملازمة للعالم بالوضع مستلزم للدور لتوقّف الوضع على العلم بالوضع وبالعكس .

وفيه:

انّ الملازمة من جهة العلم بالوضع وعدمه مهملة وليست بمطلقة ولا مقيّدة كسائر الملازمات الواقعية فإنّه ليس يصحّ أن يقال هل الملازمة الموجودة في قولنا لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، مختصة بالعالم بها أو الأعمّ منه ومن الجاهل ، بل من هذه الجهة مهملة . والصحيح في الايراد على المحقّق العراقي أن يقال: إنّ الالتزام بكون الاعتبار يمكن أن يكون طريقاً إلى الواقع ، غير معقول جدّاً بل الاعتبار في الاُمور الاعتبارية دائماً يكون من قبيل الواسطة في الثبوت والدليل على ما ذكرنا لزوم السنخية بين العلّة والمعلول; لأنّه لا يمكن أن يكون الاعتبار علّة للأمر الواقعي التكويني . فنحن نسأل عنه انّه هل المراد من كون الاعتبار طريقاً إلى الواقع ، هل هو طريق إلى تحقّق الواقع فيرجع إلى كونه واسطة في الثبوت التي فررتم منها ، أم هو طريق إلى كشف الواقع فيلزم تحقّق الملازمة قبل تحقّق الوضع وهو غير مرامكم ومقصودكم فالقول بأنّ الاعتبار طريق إلى الواقع ليس له محصّل . امّا القياس بين ما نحن فيه وبين القضايا الحقيقية فهو قياس مع الفارق لأنّ في القضايا الحقيقية يكون فرض وجود الموضوع طريقاً إلى إنشاء حكم كلّي الذي هو من الاُمور الاعتبارية بخلاف ما نحن بصدده لأنّ الادّعاء كون الاعتبار طريقاً إلى الواقع الحقيقي .


2 ـ كلام المحقّق النائيني



قد ذهب إلى أنّ الوضع أمر يعتبره الشارع وهو السبب لتخصيص اللفظ بالمعنى ، وبناءً عليه لا معنى لتقسيم الوضع إلى التعيين والتعيّن بل منحصر في الأوّل ، وتوضيح ذلك على ما جاء في فوائد الاُصول(15) انّه أنكر استناد الوضع إلى البشر بدليلين ، ثمّ أضاف إليهما مبعّدين .

امّا الدليل الأوّل وهو مرتبط بمقام الثبوت وهو أن مع كثرة الألفاظ والمعاني أو عدم تناهيهما كيف يقدر البشر المتناهي على جعل الألفاظ للمعاني ومع قطع النظر عن عدم التناهي فنفس كثرة الألفاظ والمعاني بحيث تكون خارجة عن قدرة البشر ، كافية لعدم استناد الوضع إلى البشر .

والدليل الثاني وهو مرتبط بمقام الإثبات انّه لو كان الواضع واحداً من أفراد البشر ليجب أن يذكر اسمه في التواريخ ، فإنّ هذا من المسائل المهمة التي ثبتت عادةً في التاريخ فمن عدم ذكره في التاريخ نكشف عن عدم وجود واضع بين البشر .

وامّا المبعدان فالأوّل منهما انّه لو كان الواضع إنساناً فهل تحقّق الوضع منه دفعاً أو تحقّق تدريجياً؟ لا سبيل إلى الأوّل لامتناعه عادةً والثاني غير قابل للالتزام لأنّه نسأل عن انّه قبل الوضع كيف تفهمون الناس مقاصدهم إلى الآخرين مع وضوح تحقّق التفهيم والتفهم بينهم .

امّا المبعد الثاني انّ الواضع حينما أراد الوضع كيف فعل؟ فهل أنّه قال: وضعت أو قال: يا أيّها الناس ، مع أنّ الناس لا يقدرون على فهم هذه الكلمات .

فبالجملة لابدّ أن يستند الوضع إلى الله تبارك وتعالى فإنّه أمر اعتباري يعتبره الشارع لكنّه خلاف سائر الاعتباريات الشرعية التي وصلت إلى الناس بطريق الرسل والأنبياء ، بل الشارع يعلّم الناس عن طريق الإلهام فيلهم إليهم انّهم حينما أرادوا المايع السيّال ، يقولون الماء فالشارع يخصّص لفظ الماء للمعنى المقصود وهذا التخصيص ناشئ عن علمه تبارك وتعالى بوجود مناسبة ذاتية بينهما لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح ، فالوضع من ناحية أمر اعتباري يعتبره الشارع ومن ناحية اُخرى أمر واقعي وهو لحاظ المناسبة الذاتية بينهما التي أدركها الشارع فقط .

وبهذا البيان يتّضح ضعف ما أورده المحقّق الخوئي(16) عليه من أنّا لا نتعقل حقيقة ثالثة بين الواقع والجعل والاُمور لا تخرج من هذين .

ووجه الضعف انّه لم يرد من هذا الكلام انّه حقيقة ثالثة بل أراد انّه من جهة مرتبط بالاعتبار لأنّ الشارع قد اعتبر ومن جهة يرتبط بالواقع من جهة لحاظ المناسبة الذاتية بينهما ، وبهذا التفسير يظهر الضعف أيضاً فيما فسّره بعض(17) من أنّ المراد من الواسطية انّ الوضع ليس كسائر الاُمور الاعتبارية الشرعية التي تتقدّمه بإبلاغ الرسل بل أمر اعتباري يتحقّق بواسطة الإلهام من الله إلى الناس .

ووجه الضعف انّه لا يكون بين التبليغ والإلهام فرق من جهة الواقعية والاعتبارية فتدبّر ، انتهى ملخّص كلامه مع توضيح منّا .

ويرد على الدليل الأوّل انّه تام إذا كان الوضع دفعياً من شخص واحد مع انّ المشهور يعتقدون بتدريجية الوضع من اشخاص بحسب احتياج كلّ شخص أو قوم إلى ما هو المقصود لهم وبهذا البيان يتّضح ما في الدليل الثاني فإنّه تام إذا كان الواضع شخصاً واحداً . امّا إذا كانوا متعدّدين فلا وجه لذكرهم في التواريخ .

وامّا مسألة الإلهام فلا يصحّ الالتزام به فانّا نسأل عن أنّ الله تعالى هل ألهم كلّ الناس بالنسبة إلى لفظ خاص أو ألهم شخصاً خاصّاً وكلاهما غير صحيح جدّاً ، امّا الأوّل فللزوم عدم جهالة الإنسان بمعنى لفظ من الألفاظ ، وامّا الثاني فلأنّه بعد إلهام إليه من الله تعالى فكيف يفهم الآخرين بدلالة هذا اللفظ لذلك المعنى مع عدم إلهامه بالنسبة إليهم ، هذا مضافاً إلى أنّ مسألة الإلهام لو كانت لبيّنت في الكتب السماوية مع خلوّها عن هذا .

فالنتيجة انّه لا مانع من كون البشر واضعاً من حيث الإمكان بل الاعتبار مساعد له وكون الواضع هو الله تبارك وتعالى خصوصاً في الاعلام الشخصية ممّا لا يقبله الذوق السليم والفكر المستقيم .

نعم قد استدلّ بعض بكون الله تبارك وتعالى هو الواضع ، ببعض الآيات الشريفة:

الآية الاُولى: قوله تعالى: « وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ»(18) .

وجه الاستدلال انّ المراد من اختلاف الألسن هو الاختلاف من حيث اللغة فبعض يتكلّم بالعربية وبعض آخر يتكلّم بالفارسية وهكذا وليس المراد منه الاختلاف من جهة الأصوات كما احتمله بعض المفسِّرين . وعلى هذا يكون استناد اختلاف الألسن إليه تعالى وجعله من آياته دليلا على كونه واضعاً للّغات سيما مع كون خلق السماوات والأرض واختلاف الألوان اللذين هما من الاُمور التكوينية ، فجعل الاختلاف في الألسن بينهما قرينة على استناده إليه تعالى حتى من جهة التكوين .

وفيه:

انّه لا منافاة بين كون الواضع إنساناً مع استناد الاختلاف في الألسن إليه تعالى ، وبعبارة اُخرى لا ملازمة بين كون الاختلاف مستنداً إليه تعالى وبين كون الواضع هو الله تبارك وتعالى وهذا نظير قوله تعالى: « عَلَّمَهُ الْبَيَانَ» فإنّ البيان يصدر من الإنسان بإرادته مع أنّه مستند إليه تعالى فتدبّر .

الآية الثانية: قوله تعالى: « وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمَاءَ كُلَّهَ ». وجه الاستدلال انّ كلمة الأسماء جمع اسم ، الذي هو دالّ على المسمّى فلازم تعليم آدم وجود الأسماء قبل خلق آدم(عليه السلام) وهو بمعنى وضع الله تبارك وتعالى  .

وفيه:

انّ المراد من الأسماء ليست الأسماء المتداولة بين الألسن ، بل المراد منها خصوصاً بقرينة رجوع ضمير ذوي العقول في قوله: « ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ» وقوله تعالى: « أَنْبِئُونِي بِأسْمِاءِ هَؤُلاَء» ، إلى الأسماء ، الأسماء الخاصة التي وردت في بعض الروايات ، وبالجملة من الواضح انّه ليس المراد منها مثلا كلمة الماء ونظائرهما خصوصاً مع استعمال الملائكة واعتراضهم على الله واستعمالهم الكلمات المتداولة مع أنّ الله تبارك وتعالى يقول في هذه الآيات بعدم علم الملائكة بالأسماء .

ثمّ إنّه قد ذكر في بعض الكلمات(19) مبعدات لبشرية الواضع لا بأس بذكرها:

الأوّل: انّ الإنسان الابتدائي كيف قدر أن يفهم انّ من طرق إفادة المقاصد استخدام الألفاظ ولا يمكن توجيه الاستخدام إلاّ بالإلهام من الله تبارك وتعالى .

الثاني: انّه وإن سلّمنا قدرته على فهم الاستخدام لكنّه كيف كان قادراً لتفهيم الآخرين وهل للتفهيم استخدم ألفاظاً فنسأل عنها كيف كانوا قادرين على فهمها .

الثالث: انّ حقيقة الوضع البشري طبقاً للمسالك الموجودة عند الاُصوليين كجعل الملازمة أو الهوهوية أو التعهّد ، أمر كان خارجاً عن درك البشر الابتدائي والواضع الأوّلي .

الرابع: انّه لو كان الواضع مجموع الموجودين في الزمان الأوّل بحيث جلسوا واتّفقوا على كون لفظ الماء لذاك المعنى الخارجي لكان هذا بعيداً بحسب حساب الاحتمالات ولو كان شخصاً واحداً اتّبعوه القوم فهذا يناسب كون الواضع رئيساً للقوم والبقية تابع له مع أنّ هذه الكيفية ـ أي تبعية القوم عن شخص واحد ـ أمر لم يكن في البشر الابتدائي .

وبعد هذه المبعدات نحن نحتمل كما احتمل الشهيد الصدر بل نطمئن بأنّ كيفية صياغة الدلالة ليست بقول مطلق ولا مجال لنا لأن نقول انّ الواضع هو الله تبارك وتعالى في جميع الألفاظ وفي جميع المعاني حتى بالنسبة إلى الاعلام الشخصية والاختراعات الجديدة ولا مجال لنا أن نقول بأنّ اوّل شخص خلق كآدم على نبيّنا وآله وعليه السلام قد وضع الألفاظ على المعاني بل لابدّ من التفصيل بهذه الكيفية وهي انّ دلالة الألفاظ على المعاني كانت في أوّل الخلقة بين الموجودين ، بإلهام من الله تبارك وتعالى سيّما بالنسبة إلى آدم وحواره مع حوّاء سيّما قبل هبوطهما إلى الأرض ، فمن البيّن جدّاً انّ آدم حينما أراد أن يتكلّم مع حوّاء بالنسبة إلى الشجرة المعروفة فألهمه الله تبارك وتعالى ألفاظاً مخصوصة حتى يستخدمها حين الاحتجاج والتكلّم .

ثمّ إنّه بعد مرور الزمان وسعة الاحتياجات قد وضع الإنسان ألفاظاً لمعان تقليداً من الله تبارك وتعالى كما في سائر الاُمور التقليدية منه تبارك وتعالى كصنعة المجسمة والنقش وغيرهما ، فالإنسان واضع لكن تقليداً من الله تعالى وخصوصاً في الاعلام الشخصيّة والاختراعيات ، امّا في الاُمور التكوينية كالسماء والأرض وأشباههما فمن البيّن انّ ندّعى انّ واضعها هو الله تبارك وتعالى وهذا يظهر بعد وضوح انّ من جعل لفظ آدم له عليه السلام ومن جعل لفظ حوّاء لزوجته عليه السلام ومن جعل لفظ النار والنور وأشباههما فإنّه من المسلّم انّ الواضع في هذه الاُمور هو الله تبارك وتعالى .

وهذا التفصيل يقوي بعد عدم إقامة دليل على نفي الهية الوضع بقول مطلق وأيضاً على نفي بشرية الوضع بقول مطلق فكلا القولين لم يقيما دليلا على نفي القول الآخر .

إلى هنا قد ثبت بطلان ذاتية الدلالة وانّ القول بكونها أمراً متوسّطاً بين الذاتية والجعلية غير صحيح أيضاً . نعم قد اخترنا كون الواضع الأصلي في بدو خلقة البشر هو الله تبارك وتعالى ثم يتبع الناس وقلّده في هذا الأمر ، فالإنسان أيضاً واضع في العصور المتأخّرة عن بدو الخلقة .

لكن قد وقع الخلاف بين المشهور بناءً على كون الدلالة بين اللفظ والمعنى ، اعتبارياً محضاً وجعلية صرفة من دون وجود مناسبة بينهما ، في أنّه ما هي حقيقة هذا الاعتبار؟ على أقوال ومسالك :


المسلك الأوّل:



 ذهب المشهور إلى أنّ الدلالة بينهما إنّما هي بالوضع والمراد منه تخصيص اللفظ بالمعنى ، وعدل عنه المحقّق الخراساني إلى أنّه عبارة عن نحو اختصاص اللفظ بالمعنى ، وجه العدول انّ تعريف المشهور غير شامل للوضع التعيّني لأنّ التعبير بالتخصيص ظاهر في استناده إلى الفاعل المعيّن بخلاف التعبير بكلمة الاختصاص فإنّها غير ظاهرة في الاستناد إليه ومع ذلك يرد عليه أمران:

الأوّل: انّه لا يسمن ولا يُغني من جوع لأنّ التعريف بالشيء المبهم لا يفيدنا شيئاً ، نعم يستفاد من كلمات المحقّق العراقي في مقالاته(20) انّ المراد من قوله: نحو اختصاص ، انّ الجاعل أراد كون اللفظ قالباً ومبرزاً للمعنى ومرجع ذلك إلى توجّه الإرادة إلى ثبوت القالبية له .

الثاني: انّ الاختصاص عبارة عن أثر الوضع وليس في حقيقة الوضع ، وبعبارة اُخرى بعد تحقّق الوضع يصير اللفظ مختصّاً بالمعنى فعليه يكون التعريف تعريفاً للوضع بمعنى اسم المصدر مع أنّا بصدد تعريفه بالمعنى المصدري .


المسلك الثاني: وهو التنزيل والهوهوية الاعتبارية:



ذهب جمع ومنهم المحقّق البجنوردي(21) إلى أنّ الوضع عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى فهو وجود تنزيلي للمعنى وبهذا يكون متّحداً معه بالاتّحاد الاعتباري ، ولا يخفى انّه قد غفل بعض عن اتّحاد مسلك التنزيل ومسلك الهوهوية ، وقال: إنّهما مسلكان في باب الوضع مع أنّ الدقّة تقتضي بالقول باتحاد كلا المسلكين فانّ من يقول بتنزيل اللفظ منزلة المعنى فهدفه منه عبارة عن اتحاد اللفظ والمعنى كالقائل بالهوهوية وهو لا يصل إليها إلاّ بالتنزيل فلا تغفل ، وعلى كلّ حال فالمراد من التنزيل إنّما هو التنزيل في عالم الاعتبار لا في الخارج والمراد من الهوهوية والاتحاد انّما هو الاتّحاد اعتباراً لا بحسب الواقع ، فالواضع قد اعتبر الاتحاد بين اللفظ والمعنى ويجعل اللفظ منزلة المعنى وقد استدلّوا على ذلك بوجهين:

الأوّل: إنّ القاء اللفظ عبارة عن القاء المعنى للمخاطب فكلّ ما تلقّى لفظاً للمخاطب فإنّما هو تلقى المعاني وهذا دليل على الاتحاد لأنّه لا معنى لكون الشيء إلقاء للشيء الآخر فيما إذا كان بينهما تغاير واختلاف .

الثاني: انّ للشيء أنحاء أربعة ووجودات أربعة: الأوّل الوجود الخارجي ، الثاني الوجود الذهني ، الثالث الوجود الكتبي ، الرابع الوجود اللفظي . فجعل الوجود اللفظي أحد أنواع وجود الشيء فكما انّ الوجود الذهني ليس مغايراً مع الوجود الخارجي فكذا الوجود اللفظي .

ثمّ إنّهم بعد ذكر الوجهين قد أيّدوا مَرامهم بشيئين:

الأوّل: سراية حسن المعنى وقبحه إلى اللفظ والسراية دليل على الاتحاد .

والثاني: انّ الوضع مقدّمة للاستعمال ومن الواضح عدم توجّه المستعمل في مقام الاستعمال إلاّ بالمعنى دون اللفظ وهذا يقرب الاتحاد بينهما .

وقد نوقش فيه باُمور:

الأوّل: انّ التنزيل يحتاج إلى مصحّح وهو في التنزيلات الشرعية والعرفية كقوله: الطواف بالبيت صلاة ، موجود حيث إنّه بعد التنزيل يترتّب أثر الصلاة أو شرطها على الطواف فكما أنّ الصلاة محتاجة إلى الطهارة فكذا الطواف ولكن المصحّح فيما نحن فيه غير موجود حيث إنّه لا يعقل ترتيب آثار المعنى للّفظ فما معنى التنزيل والاتحاد .

وقد اُجيب عن ذلك: بأنّ هنا فرق بين تنزيل شيء منزلة شيء آخر بلحاظ ترتيب الآثار وبين اعتبار شيء مقام شيء آخر(22) .

وفيه: انّه قد قلنا بعدم وجود الفرق بينهما فإنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر يورث الاتحاد الاعتباري كما أنّ اعتبار شيء شيئاً موجب للاتحاد الاعتباري .

والصحيح في الجواب أن يقال: إنّ المصحّح ليس دائماً بعنوان الأثر الخارجي ، بل المعتبر في التنزيل وجود أثر في المنزل عليه حتّى يترتّب على المنزل وهنا موجود فكما انّا حين نرى فرداً ما من الماء في الخارج ننتقل إلى الحقيقة الكلّية يعني طبيعة الماء فمن لفظ الماء أيضاً ننتقل إليها وهذا كاف في التنزيل .

الثاني: انّ هذا المعنى دقيق جدّاً وبعيد عن أذهان الواضعين الذين من جملتهم الأطفال والمجانين بل الحيوانات ، وهذا الإشكال يجري بالنسبة إلى كثير من المسالك في الوضع .

وفيه: انّه لا منافاة بين كون الشيء رائجاً عند العرف وبين كون حقيقته من الاُمور الدقيقة التي تحتاج إلى التأمّل والدقّة ومصداق هذا الأمر كثير جدّاً .

الثالث: انّ ما ذكرتم من كون الشخص في مقام الاستعمال يرى المعنى فقط دون اللفظ ، لا يكون دليلا على الاتحاد والتنزيل لأنّه يناسب مع كون اللفظ آلة مضافاً إلى وجود الفرق بين مقام الوضع والاستعمال فإنّه لا شكّ في كون الواضع في مقام الوضع لابدّ أن يتصوّر اللفظ مستقلاًّ كما يتصوّر المعنى كذلك بخلاف مقام الاستعمال فإنّ تصوّر اللفظ ليس استقلالياً فتدبّر . ومنه يظهر النظر في الدليل الأوّل ، فافهم .

الرابع: انّ القول بالتنزيل والهوهوية لا يناسب الوضع بالمعنى اللغوي .

وفيه وجود المناسبة لأنّ الوضع بحسب اللغة بمعنى الجعل وهو يحتاج إلى مجعول ومن الواضح إمكان أن يكون التنزيل أو الهوهوية مجعولا بنحو الاعتبار .

الخامس: انّ الهدف الأساسي من الوضع هو الدلالة ولا شكّ في أنّها تحتاج إلى طرفين دالّ ومدلول ، فالتنزيل والهوهوية لا يناسب غرض الوضع فاعتبار الوحدة بينهما لغو .

وفيه:

انّه لا ريب في احتياج نفس التنزيل والهوهوية إلى الطرفين ومع عدمهما فما ينزّل منزلة شيء آخر ؟ ومع عدم وجود الطرفين كيف يمكن أن يدّعى انّ هذا ذاك . وبعبارة اُخرى في الشيء الواحد لا يتصوّر التنزيل والهوهوية ، نعم بعدهما يكونان متّحدين اعتباراً لا وجوداً خارجاً فالدلالة التي تحتاج إلى الطرفين مناسبة لحقيقة الوضع .

السادس ـ وهو الإشكال الأساسي ـ : انّ التنزيل يحتاج إلى ادّعاء وعناية ومن البديهي عدم تحقّقهما حين الوضع فهل الوالد الذي يضع اسماً لولده يدّعي انّ هذا بمنزلة ذاك أو يدّعي مسامحة انّ هذا هو؟ كلاّ .

فتبيّن عدم تمامية مسلك التنزيل والهوهوية .


المسلك الثالث: وهو التعهّد والالتزام النفساني



وقد اختاره المحقّق النهاوندي في تشريح الاُصول والمحقّق الرشتي في بدائع الأفكار ثمّ تبعه المحقّق الحائري(23) واختاره المحقّق الخوئي(24) مع تفصيل وبسط في المقال .

وذكر المحقّق العراقي في مقالاته(25): انّ التعهّد لو كان المراد به قالبية اللفظ للمعنى ومبرزية اللفظ للمعنى لكان معنىً صحيحاً .

وقال المحقّق الحائري: بأنّه لا يعقل إيجاد ارتباط بين أمرين اللذين لا علاقة بينهما كعدم إمكان إيجاد العلقة بين الإنسان والجدار مثلا وظاهر كلامه عدم الإمكان حتى بنحو الاعتبار واللفظ والمعنى من مقولتين مختلفتين فلا يعقل إيجاد العلقة بينهما والمعقول التزام الواضع بتفهيم المعاني بسبب الألفاظ واستعمالها عند إرادة تفهيم المعاني والمخاطب يلتفت إذا علم بالتزامه وتعهّده .

وقد ذكر المحقّق الخوئي أدلّة ثلاثة لما ذهب إليه ثمّ ذكر ما يترتّب على القول بالتعهّد .


امّا الأدلّة الثلاثة:



الدليل الأوّل: الوجدان ، وبيانه انّه من الواضح انّ من وضع اسماً لموجود فإنّما يتعهّد في الحقيقة تفهيم هذا الموجود بسبب هذا اللفظ الخاص .

الدليل الثاني: انّ القول بالتعهّد يناسب الغرض الأساسي من الوضع فإنّه لا شكّ في كون الغرض منه التفهيم والتفهّم وهذا لازم ذاتي للالتزام والتعهّد .

الدليل الثالث: انّ هذا القول مناسب للوضع بحسب المعنى اللغوي فانّه في اللغة عبارة عن الجعل والإقرار ومنه وضع القوانين الذي هو بمعنى الالتزام بها وبالعمل بها .


وامّا ما يترتّب على القول بالتعهّد فاُمور أربعة:



الأمر الأوّل: انّ كلّ مستعمل واضع لأنّ من استعمل لفظاً في معنى فقد تعهّد بتفهيم المعنى بسبب اللفظ الخاص فكل مستعمل واضع ولكن إطلاق الواضع على شخص معيّن إنّما هو باعتبار أسبقيته من حيث الزمان لا لأجل انّه واضع في الحقيقة دون غيره .

الأمر الثاني: انّه بناءً على هذا يصحّ تقسيم الوضع إلى قسمين: التعييني وهو ما كان التعهّد فيه ابتدائياً غير مسبوق بكثرة الاستعمال ، والتعيّني وهو ما كان التعهّد فيه مسبوقاً بكثرة الاستعمال .

الأمر الثالث: انّ الدلالة الوضعية دلالة تصوّرية على المشهور ، وامّا بناءً على مسلك التعهّد تكون الدلالة الوضعية هي الدلالة التصديقية لكن بالإرادة الاستعمالية ففيما لا يكون المعنى مراداً للمستعمل بالإرادة الاستعمالية لا تكون الدلالة موجودة وما يتبادر من الألفاظ حين صدورها عن شخص بلا قصد التفهيم أو عن شخص بلا شعور أو عن اصطكاك جسم بجسم آخر ، إنّما هو من جهة الاُنس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها .

الأمر الرابع: انّه بناء على هذا لا يكون الوضع أمراً اعتبارياً فليكن هذا خارجاً عن مسلك الاعتبار بل هو امّا أمر واقعي بما أنّ التعهّد والالتزام النفساني من الاُمور الواقعية أو أمر انتزاعي ينتزع من التعهد وهو منشأ للانتزاع .

وقد صرّح في حاشية أجود التقريرات: انّ الارتباط الموجود بين اللفظ والمعنى يكون من توابع الوضع ومن الاُمور الانتزاعية ومنشأها إنّما هو التعهد(26) .

إن قلت: إنّ القول بالتعهّد مستلزم للدور ولبيان الدور تقريبان:

التقريب الأوّل: انّ الإتيان باللفظ ليس مطلوباً نفسياً والإرادة المتعلّقة به إرادة غيرية ومن المسلّم انّ المتعلّق فيها يلزم أن يكون موجوداً قبل تحقّق الإرادة ولا يعقل تحقّق الغيرية بنفس الإرادة لأنّه مستلزم للدور لأنّ تعلّق الإرادة المقدّمية متوقّف على وجود المتعلّق مع أنّ وجود المتعلّق في المقام يتحقّق بعد التعهّد .

وبعبارة اُخرى يجب قبل التعهد أن يكون اللفظ مقدّمةً لتفهيم المعنى مع أنّه يتحقّق هذا بسبب التعهد فهذا دور واضح .

التقريب الثاني: انّ التعهد متوقّف على مقدورية متعلّقه وهو التفهيم مع أنّ القدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير موجودة قبل التعهد لأنّه حسب الفرض تكون قابلية اللفظ للدلالة على المعنى بحسب التعهد  .

قلت: امّا عن التقريب الأوّل: انّ التعهد في مقام الوضع إنّما هو ثابت بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى وهو التعهد الكلّي وفي هذا المقام يحتاج إلى تصوّر اللفظ والمعنى فقط  .

نعم التعهّد في مقام الاستعمال يتوقّف على الحكم بكون هذا اللفظ موجباً لتفهيم المعنى ولكن هذا يكون تعهّداً شخصياً فردياً موجوداً بين الفردين من طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى . فتلخّص انّ ما يتوقّف على العلم بالوضع إنّما هو التعهّد الشخصي الثابت في مرحلة الاستعمال دون التعهّد الكلّي الثابت في مرحلة الوضع فيرتفع الدور .

وامّا الجواب عن التقريب الثاني فبأنّه يكفي في صحّة التعهد القدرة على التفهيم في مرحلة الاستعمال الذي هو ظرف العمل ولا يلزم حصول القدرة في ظرف الوضع .

انتهى ملخص القول في التعهّد .

وقد أورد عليه إيرادات بعضها مخدوش وبعضها متوجّه عليه جدّاً:

الإيراد الأوّل: ما ذكره المحقّق النائيني من أنّ القول بالتعهّد ممّا يقطع بخلافه فادّعى(قدس سره)القطع بخلاف التعهد بمعنى انّا إذا راجعنا وجداننا نرى عدم أثر من التعهد في حقيقة الوضع .

ولا يخفى انّ المسألة الاختلافية لا يمكن فيها دعوى الوجدان على أحد الأقوال فيها وبهذا يندفع ما ذكره القائل بالتعهد في الدليل الأوّل من ادّعاء الوجدان على كون الوضع في الحقيقة إنّما هو تعهّد من ناحية الواضع فإنّ دعوى الوجدان في مثل هذه المسألة الاختلافية غير صحيحة جدّاً .

الإيراد الثاني: ما ذكره السيّد الإمام الراحل(27) ردّاً على ما ذكره المحقّق الحائري في درره من عدم تعقل إيجاد العلاقة بين أمرين اللذين لا علاقة بينهما ، وملخّص الرد انّ إيجاد العلاقة التكوينية بينهما ممتنع جدّاً ، وامّا إيجاد العلقة الاعتبارية فمعقول جدّاً وهذا متين جدّاً لأنّ الاعتبار خفيف المؤونة .

ثمّ إنّه(قدس سره) أورد إيراداً على القول بالتعهّد من أنّه عبارة عن الالتزام بالعمل بالوضع وهذا أمر مترتّب على الوضع ومتفرّع عليه ولا يكون داخلا في حقيقة الوضع .

وفيه: انّ التعهّد كما أنّه يمكن أن يتعلّق بالعمل فكذلك يمكن أن يتعلّق بشيء آخر كالتفهيم والقائل بالتعهد يقول بالثاني فمتعلّق التعهد إنّما هو تفهيم طبيعي المعنى بطبيعي اللفظ مضافاً إلى أنّ التعهد بالعمل إنّما هو بالنسبة إلى مقام الاستعمال لا بالنسبة إلى مقام الوضع فإنّ التعهد فيه كلّي لا يرتبط بالعمل أصلا لا ذهناً ولا خارجاً فتدبّر .

الإيراد الثالث: ما يستفاد من كلمات الشهيد الصدر(28) من أنّ التعهد مستلزم للتعهد الضمني بعدم الاستعمال المجازي بمعنى أنّ الّذي يتعهد بتفهيم المعنى بلفظ خاص فإنّما يتعهّد ضمناً بعدم استعمال اللفظ المخصوص في غير تلك المعنى وهو كما ترى .

إن قلت: إنّ التعهّد في مقام الوضع مقيّد بعدم الإتيان بالقرينة فالتعهد إنّما في هذه الصورة فقط .

قلت: هذا مستلزم للغوية جريان أصالة الحقيقة .

وتوضيح ذلك: انّ جريانها إنّما هو في مورد الشكّ في وجود القرينة وعدمه مع أنّه بناءً على أن يكون التعهد مقيّداً بعدم إتيان القرينة يصحّ حمل اللفظ على المعنى الحقيقي فيما إذا أحرزنا عدم القرينة مع أنّ في فرض الإحراز لا نحتاج إلى اجراء الأصل .

فهذا الإيراد تامّ جدّاً .

الإيراد الرابع: ما ذكره والدنا المعظّم مدّ ظلّه العالي في مجلس بحثه وهو: انّ الذهاب إلى أنّ كلّ مستعمل واضع خلاف المرتكز العرفي وهذا يظهر من الرجوع إلى وضع الاعلام الشخصية فإنّه فيها يعين الأب لفظاً لولده والناس يتبعونه في ذلك من دون صحّة إطلاق الواضع عليهم عرفاً ومن بطلان اللاّزم أي كون كلّ مستعمل واضع ينتج بطلان الملزوم أي القول بالتعهد فالقول بالتعهد في الاعلام الشخصية بطلانه من الواضحات ، ومن هذا يظهر بطلانه في سائر الألفاظ الكلية كلفظ الماء والحيوان والإنسان وغيرها ولا يصحّ التفصيل بين الوضع في الاعلام الشخصية والوضع في غيرها .

وهذا الإيراد متين جدّاً .

الإيراد الخامس: انّ ما ذكروه من المناسبة بين التعهد وبين المعنى اللغوي للوضع ممنوع جدّاً فإنّ الوضع بمعنى الجعل أو الإقرار غير الالتزام بالعمل ووضع القانون ليس بمعنى الالتزام بالعمل به بل الالتزام بالعمل واجراء القانون يحتاج إلى سبب آخر فهل وضع القوانين الشرعية بمعنى التزام الشارع بالعمل بها؟

الإيراد السادس: ذكر بعض لبطلان التعهد ، ان ليس يصح أن يقال إنّ قولنا: وضعت هذا لهذا بمعنى تعهدت هذا لهذا .

وفيه: قد قلنا سابقاً انّ النزاع ليس في مفهوم الوضع بحسب اللغة بل النزاع إنّما هو في حقيقة الوضع فهذا الإيراد غير قابل للذكر أصلا لكن للتذكّر لمحلّ النزاع ذكرناه فتدبّر .

الإيراد الثامن: ما ذكره بعض أهل النظر(29): من انّ التعهد إنّما يصحّ فيما إذا لم يكن الدالّ منحصراً ، امّا فيما إذا كان منحصراً كما نحن فيه فلا يصحّ . وتوضيح ذلك انّ التعهد إنّما يصح في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ الخاص بأن كان هناك دالّ آخر من لفظ أو غيره فيكون لهذا التعهد معنى معقول كما يقع التعهد باستعمال خصوص هذه الآلة في القرب دون غيرها امّا مع انحصاره فيه بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الذي يحتمل مفهميته بالتعهد كان هذا التعهد غير معقول .

وفيه: انّه يكفي في صحّة التعهد بالتفهيم باللفظ الخاص ، صلاحية بقية الألفاظ لأصل المفهمية لا المفهمية الفعلية بالنسبة إلى المعنى المخصوص .

وبعبارة اُخرى: لو لم يكن غير اللفظ المخصوص صالحاً لأصل المفهمية بل هي منحصرة ومحدودة باللفظ الخاص فقط لكان التعهد غير معقول ، امّا إذا كانت الألفاظ الاُخر صالحة لأصل المفهمية فالتعهد باستعمال لفظ خاص في مفهمية المعنى المخصوص يكون أمراً معقولا  .

الإيراد التاسع: ما ذكره المحقّق الاصفهاني (30) من اتّحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه ، مع حيثية دلالة سائر الدوالّ كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ مع عدم وجود تعهد من ناصب العَلَم بل ليس هناك إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه .

وفيه: ما سيأتي من عدم صحّة قياس دلالة اللفظ على دلالة سائر الدوال فانتظر .


المسلك الرابع:



وهو مسلك الاعتبار الذي ذهب إليه المحقّق الاصفهاني(31) وتبعه جمع من أعلام المتأخّرين ومنهم الوالد المعظَّم مدّ ظلّه العالي ، وتوضيح كلامه مع تلخيص منّا هو:

انّه لا شكّ في ارتباط اللفظ مع المعنى واختصاصه به إنّما الخلاف في حقيقة هذا الاختصاص فهو لا يخلو عن احتمالات خمسة امّا أن يكون من الاُمور الواقعية العرضية أو يكون من الاعتباريات الذهنية أو يكون من الاُمور الانتزاعية التي يكون المنشأ للانتزاع فيها هو الوضع أو يكون من مقولة الإضافة أو يكون من الاعتباريات التي تكون قائمة بنفس المعتبر ولكن الأربعة الاُولى باطلة فتعيّن الاحتمال الخامس .

امّا الاحتمال الأوّل فبطلانه واضح بالأدلّة الثلاثة:

الأوّل: انّ العرض يتوقّف على موضوع في الخارج مع أنّ الاختصاص لا يتوقّف على وجود اللفظ في الخارج بل ولا في الذهن بل هو متحقّق بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى لا بقيد كونهما خارجياً ولا ذهنياً .

الثاني: انّ الاُمور الواقعية لا تختلف باختلاف الأنظار بخلاف غيرها مع أنّ لفظاً عند قوم يدلّ على معنى ونفس هذا اللفظ يدلّ على معنى آخر عند قوم آخرين .

الثالث: انّ العرض كسائر الأجناس العالية إنّما هو للماهية ، وبعبارة اُخرى انّ المقولات الحقيقية أجناس عالية للماهيات ولا تصدق المقولة صدقاً خارجياً إلاّ إذا تحقّقت تلك الماهية في الخارج وقد عرفت انّ الاختصاص بين اللفظ والمعنى ليس مقيّداً بالوجدان الخارجي .

فتبيّن من ذلك انّ الاختصاص والارتباط بينهما لا يمكن أن يكون من الاُمور الواقعية لأنّ فرضه منها منحصر في كونه عرضاً للّفظ وقد ظهر عدم إمكانه .

وامّا الاحتمال الثاني فبطلانه من جهة انّ الاعتباريات الذهنية معروضها إنّما هو أمر ذهني كالكلية التي تكون عارضة للإنسان المتصوّر الموجود في الذهن وقد قلنا إنّ معروض الاختصاص ليس هو اللفظ الذهني ولا اللفظ الخارجي .

وامّا الاحتمال الثالث فلأنّ المعتبر في الاُمور الانتزاعية حملها أو حمل ما يشتقّ منها على منشأ الانتزاع كمحلّ الفوق على السقف الذي هو منشأ لانتزاع الفوقية وهذا الملاك لا يجري فيما نحن فيه لأنّه لو قلنا بأنّ قول الواضع: وضعت ، يكون منشأ لانتزاع الاختصاص والارتباط بين اللفظ والمعنى لما يصحّ حمل الاختصاص أو المشتق منه على كلمة وضعت .

وامّا الاحتمال الرابع فلوجود الفرق بين كون شيء من المفاهيم الإضافية وبين صدق مقولة الإضافة والمسلّم فيما نحن فيه هو الأوّل الذي لا ينفع للخصم والذي ينفع له هو الثاني لأنّ الشيء لا يصدق عليه حدّ مقولة الإضافة إلاّ إذا وجد في الخارج وقد قلنا بأنّ الاختصاص غير متوقّف على وجود اللفظ في الخارج .

فتعيّن الاحتمال الخامس وهو كونه من الاُمور الاعتبارية كالملكية والزوجية لكنّها على قسمين: الاُمور الاعتبارية التسبيبيّة والاُمور الاعتبارية المباشرية . والمراد من الأوّل انّ اعتبار المعتبر يحتاج إلى إيجاد سبب كإيجاد العقد الذي هو سبب لاعتبار الشارع أو العقلاء والمراد من الثاني انّ نفس اعتبار المعتبر مباشرة يكفي في تحقّق المعتبر والاختصاص الوضعي من هذا القبيل فالوضع ليس إلاّ اعتبار الارتباط والاختصاص بين لفظ خاص ومعنى خاص .

ثمّ قال في أثناء كلامه: إنّه لا شبهة في اتحاد حيثية دلالة اللفظ على معناه وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثية دلالة سائر الدوال كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ فإنّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر انّ الوضع فيه حقيقي بمعنى أنّ كون العلم موضوعاً على رأس الفرسخ خارجي ليس باعتبار معتبر بخلاف اللفظ فإنّه كان وضع على المعنى ليكون علامة عليه .

ثمّ إنّه ذكر في أثناء كلامه أيضاً: انّ الاختصاص والارتباط إنّما هو من آثار الوضع وتوابعه لا نفسه .

انتهى ملخّص كلامه قدّس سرّه الشريف .


وقد أورد عليه إيرادات:

الإيراد الأوّل:



 ما ذكره السيّد المحقّق الخوئي(32) من أنّ هذا المعنى دقيق وبعيد عن أذهان الواضعين وفيه أوّلا: قلنا سابقاً لا منافاة بين كون شيء رائجاً عند العرف مع أنّهم غافلون عن كنهه وحقيقته وفيما نحن فيه إنّما الموجود عند العرف عملية الوضع فقط ، امّا التوجّه بحقيقتها فلا يقدرون عليها وليس من شأنهم .

وثانياً: انّ الاعتبار بما أنّه خفيف المؤونة فهو أمر سهل سيّما انّ الاعتبارات كثيرة عند العرف .


الإيراد الثاني:



 انّ قياس ما نحن فيه بالوضع الخارجي غير صحيح; لأنّ فيه ثلاثة عناوين: الموضوع وهو في المثال السابق العَلَم ، والموضوع عليه وهو المكان الذي وضع العلم فيه ، والموضوع له وهو أنّ العَلَم دالّ على كون هذا المكان رأس فرسخ مع أنّ في اللفظ والمعنى يكون الموضوع والموضوع له موجود من دون تحقّق للموضوع عليه وإطلاقه على المعنى لو لم يكن من الأغلاط فإنّما هو غير معهود من ناحية المستعملين .

وفيه:

إن كان المراد عدم وجود الموضوع عليه فيما نحن فيه فعدمه ليس بمضرّ وإن كان المراد منه صحّة إطلاق الموضوع عليه على المعنى فهو بمكان من الإمكان وقد صرّح بعض أهل اللغة(33) بأنّ المعنى هو الموضوع عليه  .


الإيراد الثالث:



ما جاء في كلمات جمع(34) من أنّ في الدوال الخارجية كالعَلَم لا يكون الموضوع وهو العَلَم دالاًّ على الموضوع له نفسه بل مسبوق بقرار والتزام الذي هو المستند للدلالة وإلاّ فمع قطع النظر عن هذا القرار لا يكون العَلم دالاًّ على كون هذا المكان رأس فرسخ ويترتّب عليه انّه إذا كان الوضع الحقيقي يكون الدلالة فيه غير مستند إلى الموضوع ففي الوضع الاعتباري بطريق أولى فهو في الدلالة متوقّف على سبق القرار والبناء على دلالة اللفظ على المعنى .

وهذا الإيراد متين جدّاً من جهة الصدر ، وامّا من جهة الذيل وما ترتّب عليه ففيه إشكال لأنّ كلام الاصفهاني ليس مبتنياً على هذا القياس بل بعد إقامة الدليل على مختاره قد أضاف في ذيل كلامه تشبيهاً وقياساً فإذا كان فاسداً لم يكن مضرّاً بأصل المدّعى ، وبالجملة انّ الدلالة في العَلَم يكون سابقاً على وضعه في المكان وفي اللفظ لم يكن كذلك لكنّه لا يستلزم أن يكون في اللفظ أيضاً مستنداً إلى قرار وبناء سابق على وضع اللفظ .


الإيراد الرابع:



وهو ما يخطر بالبال بالنسبة إلى ما ذكره في ردّ انتزاعية الاختصاص حيث قال: إنّه ليس بأمر انتزاعي منتزع من قول وضعت لعدم صحّة حمله عليه فنحن نقول: ما الدليل على كون الملاك في الاُمور الانتزاعية عبارة عن صحّة حمله أو حمل ما يشتقّ منه على منشأ الانتزاع؟ فهل الدليل استقراء الاُمور الانتزاعية أو البرهان القطعي قائم عليه؟ والظاهر انّه (قدس سره) بعد أن لاحظ بعض الموارد في الاُمور الانتزاعية كالفوقية والابوّة فقد حكم بهذا الحكم الكلّي ولكنّه ينتقض ببعض آخر نظير الحق الذي هو أمر ينتزع من الحكم على ما أثبتناه في رسالة في موضوع الحكم والحقّ والفرق بينهما ، فكلّ حقّ منتزع من حكم من الأحكام الشرعية مع عدم صحّة حمل الحقّ على الحكم .

وبعبارة اُخرى انّ المنتزع إذا كان منتزعاً من شيء خارجي فيصحّ الحمل عليه وإذا كان منشأ الانتزاع أمراً من الاُمور الاعتبارية كالحكم الذي هو منشأ للحق ، فلا يعتبر حينئذ حمل الأمر الانتزاعي على منشأه .

وبناءً على هذا لا يكون مانعاً من كون الاختصاص أو الارتباط بين اللفظ والمعنى أمراً منتزعاً من اعتبار الواضع فتأمّل .


المسلك الخامس:



ما ذهب إليه الشهيد الصدر(35) ويسمّى بالقرن الأكيد وهو انّ الوضع من صغريات القانون الطبيعي التكويني المجعول في ذهن البشر من ناحية الله تبارك وتعالى وهو انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن ما يكون مقترناً بذلك الشيء المنتقل إليه فمثلا عندما يدرك الذهن اقتران صوت الأسد مع نفسه ينتقل من تصوّر صوته إلى تصوّر نفس الأسد وهذا ما يسمّى بالمنبه الشرطي والاستجابة الشرطية ، ولابدّ أن يكون هذا الاقتران على وجه شديد بحيث يكون مترسّخاً في الذهن امّا نتيجة كثرة تكرّر الاقتران خارجاً أمام الذهن وهذا هو العامل الكمي ويسمّى بالوضع التعيني أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعة واحدة وهذا هو العامل الكيفي ، وبالجملة الواضع يمارس عملية الاقتران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ .


ويتلخّص مرامه في اُمور:



الأوّل: انّ الذهن بعد إدراك الاقتران بين أمرين يقدر عند تصوّر أحدهما أن ينتقل إلى تصوّر الشيء الآخر وهذا هو المراد من المنبّه الشرطي والإنسان في مقام تفهيم الآخرين يستفيد من هذا القانون الطبيعي .

الثاني: انّ الوضع ليس من الاُمور الاعتبارية التي متقوّمة بنفس المعتبر كالملكية بل هو أمر تكويني يتمثّل في اقتران لفظ خاص بمعنى خاص الذي هو الصغرى للقانون الطبيعي المذكور وقد يستخدم الانشاء لإيجاد هذان الآمران لكن الاقتران ليس هو المنشأ بل الإنشاء سبب لتحقّق الاشتراط  .

الثالث: انّ الدلالة الوضعية تصورية دائماً كما ذهب إليه المشهور ومتى تحقّق الاقتران ينتقل الذهن من تصوّر اللفظ إلى المعنى ولا معنى لتحقّق الاقتران في صورة دون صورة اُخرى .

الرابع: الدلالة الوضعية تتوقّف على العلم بالوضع غالباً فمن لم يعلم بالوضع لم يكن اللفظ دالاًّ عنده ، نعم قد تحصل على أساس تلقيني كأن تقرن أمام طفل بين اللفظ والمعنى على نحو خاص فتحصل العلقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين .

ويرد عليه:

أوّلا: انّ الظاهر انّ الاقتران الذهني بين اللفظ والمعنى إنّما يحصل بعد الوضع فهو متأخّر عنه ومن آثاره وتوابعه وليس داخلا في حقيقة الوضع ، فإنّه بعد جعل اللفظ للمعنى يصير اللفظ مقترناً بالمعنى في أذهان المخاطبين والسامعين وبعد هذا الاقتران ينتقل الذهن من تصوّر أحدهما إلى الآخر  .

وبعبارة اُخرى بعد تحقّق الاقتران الاعتباري بين اللفظ والمعنى بتوسط الوضع يدرك الذهن ويتصوّر الاقتران وبعد دركه للاقتران ينتقل من اللفظ إلى المعنى .

ويؤيّد ذلك انّه قد يوجد الوضع من دون أن يوجد مخاطب ومستعمل ففي هذه الصورة لا يتحقّق الاقتران الذهني أصلا بل المتحقّق نفس تعيين اللفظ للمعنى .

وثانياً: سلّمنا تحقّق الاقتران حين الوضع ولكنه منحصر بالعامل الكمّي فقط بمعنى أنّ أذهان الناس يدركون الاقتران بعد كثرة استعمال اللفظ بالمعنى وإلاّ فمجرّد استعمال واحد لا يدرك الاقتران وعلى هذا ينحصر الوضع بالتعيني وهو كما ترى .

وثالثاً: انّه لو قلنا بأنّ الوضع من الاُمور التكوينية ومن صغريات القانون الطبيعي لكان اعتبار الخلاف فيه ممتنعاً بمعنى عدم إمكان اعتبار استعمال اللفظ في معنى آخر غير المعنى الأوّل وهو وإن كان مقبولا في الوضع التعيّني ولكنّه في التعييني غير صحيح .

ورابعاً: انّ الاقتران مستلزم لكون كلّ من اللفظ والمعنى دالاًّ ومدلولا بمعنى انّ لازم الاقتران هو الانتقال من المعنى إلى اللفظ أيضاً وهو مع عدم إمكانه عادةً مستلزم لكون المعنى دالاًّ أيضاً مع أنّه من الواضح كون اللفظ دالاًّ فقط والمعنى مدلولا فقط ، فتدبّر .


المسلك السادس:



ما ذهب إليه جمع من المتأخّرين ومنهم شيخنا الاستاذ(36) من أنّ الوضع عبارة عن اعتبار اللفظ علامة للمعنى فحقيقته ترجع إلى العلامية وتوضيح هذا يحتاج إلى ذكر أمرين:

الأمر الأوّل: انّ الأفعال الخارجية وكذا الصفات النفسانية تكون مقرونة بأمور ، فمثلا الحكم مقرون بتصوّر الموضوع والمحمول ، وأيضاً الإرادة النفسانية مقرونة بتصوّر المراد والتصديق بفائدته ، والوضع من الصفات النفسانية التي تكون مقرونة بالاُمور التي ذكرت في المسالك السابقة بمعنى انّ التلازم الذي ذهب إليه العراقي والتنزيل أو الهوهوية والتعهد الذي ذهب إليه الخوئي ليست داخلة في حقيقة الوضع بل إنّما هي من الاُمور الطارئة له واللاّزم كشف الأمر الذي تكون هذه الاُمور من مقارناته .

الأمر الثاني: انّ اللاّزم في كشف حقيقة كلّ شيء أن يستفاد من الاُمور المناسبة له والأسباب المسانخة له فمثلا الأدلّة التي تكون جارية في الحكمة مغايرة من حيث الكيفية مع الأدلّة التي جارية في الفقه وكذا الأدلّة الجارية في العلوم الأدبية مغايرة لها في سائر العلوم ، واللاّزم فيما نحن فيه الاستفادة من المدارك والمنابع المسانحة للوضع وهي ثلاثة:

الاُولى: ما ورد من طريق الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين في بيان كيفية الوضع .

الثانية: ما ورد في كلمات أساطين اللغة والأدب .

الثالثة: المراجعة إلى الارتكاز والوجدان .

امّا الاُولى: فقد ورد في بعض النصوص ما يظهر منه انّ الوضع في الحقيقة عبارة عن جعل العلامية ، منها ما ذكره الصدوق في معاني الأخبار عن حسن بن علي الفضال عن أبيه قال: سألت الرضا(عليه السلام)عن بسم الله قال: معنى قول القائل : بسم الله أي اسم نفسي بسمة من سمات الله عزّوجلّ وهي العبادة فقلت: ما السمة؟ قال: العلامة .

وهذه الرواية معتبرة من حيث السند لأنّ طريق الصدوق إلى حسن بن علي الفضال صحيح يعتمد عليه ، وامّا الدلالة فإنّها ليست في مقام بيان مفهوم السمة لأنّ السائل مع جلالة شأنه كان عالماً بمفهومه من ال سؤال إنّما هي عن حقيقة السمة ، وأجاب فيها الإمام(عليه السلام) بأنّ حقيقة السمة عبارة عن العلامة بمعنى انّ الواضع يعتبر أن يكون الاسم علامة للمسمّى لكن هذه العلامة ليست علامة خارجية بل علامة اعتبارية .

وامّا الثانية: فقد ذكر في لسان العرب والقاموس انّ الاسم علامة للمسمّى والألفاظ علامات للمعاني .

وامّا الثالثة: فإنّ الارتكاز يحكم بأنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى لأنّ اللفظ في الإنسان الذي يقدر على التكلّم يكون بمنزلة الإشارة في الأخرس فكما انّها عبارة عن كونها علامة للمقصود والمعنى فكذا الألفاظ .

ويرد عليه:

أوّلا: انّ ما ذكره في الأمر الأوّل من أنّ الوضع من الصفات النفسانية كالإرادة غير صحيح جدّاً ، بل هو من الاُمور الخارجية التي يكون الخارج ظرفاً له لا قيداً له فما لم يتحقّق شيء في الخارج لم يتحقّق وضع أصلا . وبعبارة اُخرى: انّ صرف اعتبار العلامة في عالم الذهن بين اللفظ والمعنى لا يكون مصحّحاً للوضع بل يحتاج إلى التكلّم والتنطّق بالقول أو بنفس الاستعمال .

وثانياً: انّ الاستدلال برواية علي بن فضال مخدوش من جهة انّ المدّعى أعمّ من ذلك فإنّ الرواية لو كانت دالّة على أنّ حقيقة الوضع عبارة عن العلامية ، فإنّما دالّة على خصوص الوضع في الأسماء وليست دالّة على أنّ الوضع في الحروف وما يشابهها أيضاً كذلك فالدليل أخصّ من المدّعى .

وثالثاً: انّ الظاهر انّ اللفظ بعد تحقّق الوضع يصير علامة للمعنى فربّما يكون العلامية من آثار الوضع لا نفسه .

ورابعاً: انّ قياس الألفاظ بالإشارات غير صحيح جدّاً فإنّ قبح المعنى أو حسنه يسري إلى اللفظ بخلاف الإشارة فلا سراية فيها .

فمسلك العلامية غير قابل للاعتماد .

فتبيّن إلى هنا عدم صحّة جميع المسالك المذكورة إلاّ ما ذهب إليه المشهور من أنّ الوضع عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بمعنى انّ الواضع قد جعل اللفظ للدلالة على المعنى ، ولا يرد عليه شيء ممّا أوردناه على المسالك الاُخرى وذلك يتّضح بعد بيان نكات:

النكتة الاُولى: قد مرّ آنفاً انّ ظرف تحقّق الوضع عبارة عن الخارج فما لم يتحقّق في الخارج شيء لم يتحقّق الوضع أصلا فإنّ صرف الاعتبار الذهني بين اللفظ والمعنى أو التعهد أو اعتبار التنزيل لا يفيد شيئاً أصلا فنحن نرى دائماً انّ الشخص لو لم يذكر أو لم يستعمل اللفظ في الخارج لم يتحقّق الوضع أصلا فهو محتاج إلى الخارج ومتحقّق فيه ولو بنفس الاستعمال فتدبّر . ثمّ بعد تحقّقه في الخارج يمكن أن ينتقل إلى المعنى بنفس تصوّر اللفظ ، نعم يكون الاعتبار من المبادئ المتوقّفة عليها الوضع ولكنّه خارج عن حقيقته بل في الخارج يذكر اللفظ للدلالة على المعنى ومن أجل هذا يمكن انتزاع العناوين المتعدّدة من قبيل التعهد والتنزيل والملازمة منها فمنشأ الانتزاع يكون من الاُمور الخارجية .

النكتة الثانية: انّ مقام الوضع غير مقام الاستعمال ، ففي الثاني يكون اللفظ فانياً في المعنى أو علامة له بخلاف الأوّل ففيه يتصوّر اللفظ مستقلاًّ كما يتصوّر المعنى مستقلاًّ أيضاً ، فما ذكره المحقّق العراقي من أنّ اللفظ مرآة للمعنى وبهذا يفترق عن سائر العلامات ، والدوال غير مُجد لأنّه في مقام الوضع لا يكون اللفظ متصوّراً بالتصوّر الآلي بل هو متصوّر بالتصوّر الاستقلالي كصانع المرآة الذي ينظر فيه لا به وكذا ما ذكره القائل بالتنزيل من أنّ إلقاء اللفظ عبارة عن إلقاء المعنى فإنّ هذا لا يجري في مقام الوضع بل هو من مختصّات مقام الاستعمال .

النكتة الثالثة: ـ وهي من أهم النكات ـ انّ الاُمور الحقيقية لها حقيقة واحدة يجب أن تستخرج وتستنبط ، وامّا الاُمور الاعتبارية التي تكون متقوّمة بالاعتبار أو التي تكون مبادئها من الاُمور الاعتبارية فليست بلازم أن تكون لها حقيقة واحدة ، بل هو غير ممكن لاختلاف الإرادة بكيفية الاعتبار والمعتبر فبعض يعتبر التنزيل وبعض آخر يعتبر التلازم فليس فيها ملاك واحد لكن نوع الواضعين لم يعتبروا شيئاً من الاُمور المذكورة بل يجعلون اللفظ دالاًّ على المعنى ويعيّنون اللفظ للمعنى من دون شيء زائد .

وبهذه النكات يظهر انّ الحقّ ما ذهب إليه المشهور .


تقسم الوضع إلى التعييني والتعيّني



قد ذكر في بعض الكلمات انّ الوضع ينقسم إلى قسمين : تعييني وهو ما كان الارتباط والاختصاص بين اللفظ والمعنى مستنداً إلى جعل جاعل معيّن والتعيّني وهو ما كان الاختصاص حاصلا بسبب كثرة الاستعمال .

وربما يقال(37): بعدم معقولية الوضع التعيّني ببيان انّه لا وجه لأن يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بنفس كثرة الاستعمال بمعنى أنّ كثرة الاستعمال لا تصلح لأن يجعل اللفظ دالاًّ على المعنى بل اللفظ يتوقّف في الدلالة على وجود القرينة فهي موجبة للدلالة على المعنى فلا يعقل أن يقال إنّ نفس اللفظ بدون القرينة صار دالاًّ على المعنى بسبب كثرة الاستعمال .

وفيه أنّ القرينة إنّما تكون واسطة في الثبوت وعليه يصحّ أن يقال أنّ نفس اللفظ دالّ على المعنى بواسطة القرينة لكن بعد كثرة الاستعمال نستغني عن القرينة فكثرة الاستعمال لا تكون بنفسها موجبة للدلالة بل تكون قائمة مقام القرينة فتدبّر .


في جريان التقسيم على المسالك الموجودة في حقيقة الوضع



ثمّ إنّه بعد فرض المعقولية في الوضع التعيّني يجب تصويره على المسالك المذكورة في حقيقة الوضع وانّه على أيّ واحد منها لا يتحقّق وعلى أيّ منها يتحقّق ويمكن وقوعاً .

امّا على المسلك المشهور الذي اخترناه أيضاً فواضح انّ الوضع منحصر بالوضع التعييني ودعوى كون التقسيم صدر من المشهور أيضاً وهذا لا يجتمع مع ما ذكروه في بيان حقيقة الوضع فاسدة جدّاً; لعدم الدليل على صدور التقسيم من المشهور والانتساب إليهم غير صحيح ، بل إنّما وقع في كلمات بعض من الاُصوليين .

وامّا على ما ذهب إليه الآخوند من كونه نحو اختصاص اللفظ في المعنى فالتقسيم صحيح كما صرّح به نفسه في الكفاية .

وامّا على مسك التنزيل والهوهوية فهو كالمشهور لا يجري فيه التقسيم; لأنّ التنزيل يحتاج إلى منزِّل وكثرة الاستعمال لا تصلح لجعل شيء منزلة شيء آخر أو لإيجاد الاتحاد الاعتباري بين اللفظ والمعنى .

وامّا بناءً على مسلك التعهد والالتزام النفساني فقد ورد في كلمات السيد الخوئي انّ التعهد إن كان ابتدائياً فهو الوضع التعييني وإن كان مسبوقاً بكثرة الاستعمال فهو تعيّني .

ويرد عليه انّه لو كانت الكثرة على حدّ موجب لدلالة اللفظ بنفسه على المعنى فالتعهد وعدمه سيّان ، وبعبارة اُخرى يكون التعهد لغواً لسببية كثرة الاستعمال من دون دخل للتعهد فالوضع التعيني على القول بالتعهد غير مقبول .

وامّا على مسلك الاعتبار فتقسيمه إلى التعييني والتعيّني غير صحيح لأنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار الواضع فلا جامع بين التعييني والتعيّني بل التعيّني يشترك مع التعييني في نتيجة الأمر إذ كما أنّ اعتبار الواضع يوجب الملازمة بين اللفظ والمعنى من حيث الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى كذلك كثرة الاستعمال توجب استئناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى فلا حاجة إلى دعوى اعتبار أهل المحاورة على حدّ اعتبار الواضع فإنّه لغو بعد حصول النتيجة(38) .

وامّا على مسلك قرن الأكيد فقد ذكر الشهيد الصدر(39) انّ التقسيم صحيح لأنّه كما انّ القرن الأكيد يحصل بعمل كيفي كوضع الواضع كذلك يحصل بعمل كمي وهو تكرار قرن اللفظ بالمعنى في استعمالات كثيرة على نحو يؤدي إلى قيام علاقة التلازم التصوّرية بينهما وهي العلاقة الوضعية . وقد مرّ منّا في بيان الإيرادات الواردة على هذا المسلك انّ القول بكون الارتباط بين اللفظ والمعنى إنّما حصل من القرن الأكيد بينهما  ، مستلزم لكون الوضع تعييناً دائماً ولا مجال للوضع التعيّني أصلا . فإنّ إنشاء الواضع لا يكون موجباً للقرن الأكيد أصلا ، وإن كان موجباً لأصل الاقتران الاعتباري لكنّه لا يفيد بنظر القائل بهذا المسلك .

وامّا بناءً على مسلك العلامية: فالتقسيم صحيح لأنّه كما يمكن أن يكون وضع الواضع موجباً لاعتبار كون اللفظ علامة للمعنى فكذلك كثرة الاستعمال موجبة لكونه علامة للمعنى وإن كانت مستغنية عن الاعتبار .

وامّا بناءً على مسلك جعل الملازمة الذي ذهب إليه العراقي فصحيح لأنّها كما أنّها تحصل بجعل الجاعل فكذلك تجعل بكثرة الاستعمال .

وامّا بناءً على ما ذهب إليه المحقّق النائيني من كون الواضع هو الله تبارك وتعالى فالأمر واضح من جهة اختصاص الوضع بالتعييني وعدم المجال للوضع التعيّني .


(1) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 85 .
(2) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 92.
(3)  ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 95.
(4)  ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 97.
(5) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 102 ـ 103.
(6) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 104.
(7) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 106.
(8) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 116.
(9) ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 165.
(10) ـ أجود التقريرات 1 : 10 .
(11) ـ راجع إلى نهاية الدراية ج1 ص12  .
(12) ـ تهذيب الاُصول ج1 ص
(13) ـ مقالات الاُصول ج1 ص60 .
(14) ـ محاضرات ج1 ص39  .
(15) ـ فوائد الاُصول ج1 ص30 .
(16) ـ محاضرات ج1 ص39  .
(17) ـ منتقى الاُصول ج1
(18) ـ الروم : 22  .
(19) ـ بحوث في علم الاُصول ج1 ص
(20) ـ المقالات 1 / 65  .
(21) ـ منتهى الاُصول ج1 ص
(22) ـ بحوث في علم الاُصول ج1 ص77  .
(23) ـ درر الفوائد ص35  .
(24) ـ محاضرات ج1 ص41 ـ 42 .
(25) ـ المقالات : 1 / 65  .
(26) ـ حاشية أجود التقريرات ج1 ص12  .
(27) ـ مناهج الوصول ج1 ص58  .
(28) ـ بحوث في علم الاُصول ج1 ص79  .
(29) ـ منتقى الاُصول ج1 ص63  .
(30) ـ نهاية الدراية ج1 ص14  .
(31) ـ نهاية الدراية ج1 ص14  .
(32) ـ محاضرات ج1 ص
(33) ـ لسان العرب
(34) ـ منهم منتقى الاُصول ج1 ص56  .
(35) ـ بحوث في علم الاُصول ج1 ص81  .
(36) ـ تقريرات بحث آية الله وحيد الخراساني (مخطوط) .
(37) ـ منتقى الاُصول ج1 ص72  .
(38) ـ نهاية الدراية ج1 ص15  .
(39) ـ مباحث الدليل اللفظي ج1 ص95  .

الملصقات :