کلمة لسماحة آیة الله فاضل لنکراني(دامت برکاته) في الجلسة الختامیة للاجتماع المنعقد حول الفقه وحقوق الإنسان
29 شوال 1433
20:12
۶,۶۷۵
خلاصة الخبر :
آخرین رویداد ها
-
مدونة بخط اية الله الفاضل اللنكراني في مذكرات شهيد الفخر والجهاد قائد حزب الله لبنان
-
اهتمام الحوزة الخاص بالذكاء الاصطناعي / واجب رجال الدين الاهتمام بتدين الناس
-
البدعة في الدين منشا الفتن
-
المعيار في قبول الاعمال هو المودة في القربى
-
السبيل الوحيد لسير المجتمع في الاتجاه الصحيح الارتباط برجال الدين
-
رجال الدين صمام أمان للدين وامتداد لطريق ألائمة(ع)
بسم الله الرّحمن الرّحیم
الحمدلله ربّ العالمین و الصّلاة و السّلام علی سیّّدنا و نبینا أبي القاسم محمد وعلی آله الطّاهرین، أقدم شکري الجزیل لمدیر معاونیة البحوث والدراسات الأخ الفاضل والعالم الدکتور المقدادي وأخونا العزیز الدکتور ضیاییفر رئیس لجنة حقوق الإنسان الإسلامية.
لقد کان من الضروري جداً إقامة هذه الدورة ولأول مرة،وإن کان تنفیذه متأخراً في الحوزة العلمیة. من الواضح أن الهدف من إقامة هذه الدورة هو أمران:
الأول: تعرف الشباب الفضلاء والباحثون الحوزیون بما یدور الیوم في أروقة العالم، ویتناقل فیه من اتهامات للحوزة العلمیة علی أنها مجموعة مغلقة وضیقة، لاعلم لها بما یدور حولها من تحرکات دولیة وعالمیة، وما یقع من أحداث في العالم فالحمد لله لم تتعرض حوزتنا العلمیة لهذا الإشکال بعد، ویمکنني أن أدعي الیوم بحق أن رجل الدین وطالب العلوم الدینیة الباحث والمحقق في الحوزة مطلع علی أجدّ الأفکار وأحدثها، وتحدیداً في باب الفقه و الحقوق، أما الأبحاث الفلسفیة، فقد یرافقها نوع من آراء ونظریات الغرب، لم تکن تعرض کما ینبغي لها أن تعرض في موسوعتنا العلمیة، أما في باب الحقوق، فالأمر لیس کذلک، والحوزة مطلعة ومشرفة تماماً علی کل ما یجري من حرکة علمیة للمراکز الدولیة والعالمیة في باب الحقوق، إذ تتوفر في هذه المرحلة إمکانات أکثر للفضلاء في کوکبة سیر تحقیقاتهم وأبحاثهم الفقهیة، فعندما تتداعی الأسئلة والشبهات الموجودة في زوایا ذهنه، یحصل لدیه حینئذ دراسة وتحلیل للأدلة وأسالیب الاستنباط بشکل أعمق وأوسع قطعاً، وسیکون فهم مجموعة الدین أقوی وأعمق في النتیجة.
الثاني: هو أن نری وجهة الحرکات العالمیة ومنطلقها؟هل تتجه نحو الاصلاح، النمو وایجاد العدالة والسلام؟ یعني أن نقوم بتحلیلها بقطع النظر عن المباحث العلمیة، الدینیة و الفقهیة، لمعرفة اتجاهها وحرکتها، هل هي کظاهر الأوامر والمواثیق والبیانات الصادرة، التي تسعی لایجاد وحدة متکاملة في مجموعة حقوق الإنسان والعالم، وممارسات العدل والمنع من تفشي الظلم،أم لا؟
فقد مضی ما یقارب السبعین عاماً علی صدور میثاق حقوق الإنسان. أننا إن أردنا تقدیم مقارنة بما کان قبل صدور هذا المیثاق، هل نشاهد هذا الأثر أم لا؟ وهذان الهدفان هما أساس بحثنا هنا وقد جاء من الأساتذة المحترمین في الخمسة أیام هذه، فبینوا نظریاتهم، وهذه المطالب طبعا هي نظریاتهم الشخصیة، سواء کانت مجموعة شبهات و اشکالات ذکروها أو حلولاً، لکن هدفنا هو عرض مجموعة من المباحث، وقد تحققت مثل هذه الخطوات و الحمد لله. وهذا هو بدایة الطریق، فعلی الفضلاء و المحقّقین الباحثین أن یکتبوا تبعاً لذلک مقالات وأبحاث قویة، وعرض دراسات للأزمات الحادة والدعاوی بشکل کامل ومنطقي، وأنا أری أننا لو أردنا أن نمتلک مجموعة أقوی ان شاء الله في العام القادم في هذا المرکز الفقهي، فسنواجه عشرات المقالات القویة والنظریات الراسخة و المستنبطة من عمق المصادر الدینیة وفي إطار الاجتهاد إن شاء الله.
وأنتم أیها الفضلاء قد بذلتم اهتمامات کبیرة وواسعة في هذا المجال، وفي هذه الخمسة أیام في هذا الفصل الحار، أشکر الله علی ما حدث من حرکة وتواصل وأبین مطالبي حالاً في ثلاث محاور، ثم استنتج في نهایة البحث: دور ووظیفة الفقهاء و المراکز الفقهیة بالنسبة إلی هذا الموضوع؟ والحلول العاجلة التي ینبغي وضعها في هذا الصیاغ.
المحور الاول: دراسة وتحلیل المیثاق الصادر حول حقوق الإنسان، وبعض المواثیق المتأخرة، بقطع النظر عن وجود الفقه، بل نری أساساً هل أنها تتضمن فقرات حول حقوق الإنسان أم لا؟
المحور الثاني: هل أن صدور هذا المیثاق یعاني من تحدیات المجامیع الدینیة أم لا؟ یعني من قبل الشرائح المتدینة، وأتباع الأدیان السماویة تحدیداً، وهل هناک تعارض بینها أم لا؟
المحور الثالث: بحث خصوص التعارض مع فقه الامامیة والشیعة والفقه الاسلامي أیضاً بشکل أوسع.
وأما سبب فصلي المحور الثاني والثالث عن بعضهما، فلعل البعض یقول: أننا لو قمنا بترمیم وإصلاح الاجتهاد قلیلاً، والتفتنا إلی بعض الأمور الهامة والمؤثرة في عملیة الاستنباط، وأخذنا بنظر الاعتبار الملاکات والمقاصد، فإنه یمکن التلاحم والحرکة باتجاه واحد ورفع التعارض، ویکون سؤالنا آنذاک هو: ماذا تفعلون في التعارض مع الدین؟
أما المحور الاول:
في اعتقادي أن علی کل فرد أن یطالع ولعدة مرات هذا المیثاق، وتحدیداً مقدمته ودیباجته بدقة تامة، وأن یحلل الثلاثین مادة التي یتضمنها هذا المیثاق، فمن کان قادراً علی التنظیر في مجال الحقوق، لیقل: هل أن هذا المیثاق الصادر لبیان حقوق الإنسان صالح ومقبول أم أن هناک فیه إشکالات وخلل ونواقص؟
وقد لاحظت کلاماً کثیراً بین مؤید ورافض لها، وتردد کلام کثیر منهم عنها، وقد اکتفی البعض ببعض المواد الصادرة عنه، والتي هي بحسب الظاهر جمیلة جداً، وقد یقال عنهم في بعض تعابیرهم: إن هذه المواد هي بعینها أوامر موجودة وثابتة في دیننا الإسلامي، وسألفت النظر إلی جانب الانطباق علی الدین في المحور الثاني، ولکن اللازم تحلیله کما یبدو هو: من الذي کتب هذا المیثاق؟ وماهي مطالباته بشکل محدد؟ وما هي توجهات ونوایا کتابة هذا المیثاق؟ وهل أن الذین نهجوا هذا المنهج تنتج هذا حقیقة أم لا؟
وهنا أشیر إلی بعض الإشکالات الواردة علی هذا المیثاق کما یتبادر إلی ذهني، قد تکون منشئاً للکثیر من الأبحاث وتحتوي دیباجة هذا المیثاق علی سبعة مطالب مهمة:
المطلب الأول: الاعتماد علی مسألة الحرمة الذاتیة للإنسان، وعدها أساساً ورکنا مهماً للصلح والسلام والعدل والامن وعناوین أخری، وسؤالنا هو: ما معنی الحرمة الذاتیة للانسان؟ ومن القادر علی أن یفسر لنا الحرمة الذاتیة أساساً؟ وأي مجمع و مرکز قام بتنقیح الحرمة الذاتیة للانسان؟ وبأي المعاییر؟ وهل أن الحرمة الذاتیة للانسان تعني أن للإنسان قیمة وکرامة ذاتیة تفتقدها الموجودات الأخری؟
وإذا أردنا أن نقول بهذا، فمعناه أن الإنسان بما هو عاقل، وفي الوقت الذي کتب السادة هذا المیثاق، قد أصروا علی یکون موضوع هذا المیثاق هو الانسان بما هو انسان، فإذا کان الانسان بما هو انسان یضم أشخاصاً یمتلکون قوة عاقلة بالفعل، وهذه الفعلیة غیر متوفرة فیهم، لعارضٍ من العوارض، کأصابتهم بالجنون والعاهات مثلاً، فهل تریدون علی کل حال إخراجهم عن دائرة هذا المیثاق أم لا؟ فلو قلنا: إن المراد هو الإنسان، بقطع النظر عن القوة العاقلة، یعني ان الهیکل الخارجي هو المراد،(لأن بعض المفسّرین في الآیة الشریفة: «ولقد کرّمنا بنی آدم» یقولون: «کرّمنا» یعني: أن هذا الکیان الموزون یتمثل بهذا الموجود ولا موجود آخر سواه)، ومن الواضح أنه لا یکون الموضوع للحقوق، إذ مجرد الکیان الموزون کیف یکون موضوعاً للحقوق، بل إن هذا العنوان فقط یمکن أن یصبح موضوعاً للمدح و الحُسن.
الاحتمال الثالث: المراد بالحرمة الذاتیة هي کون هذا الموجود لازم الاحترام، وهذا هو معنی الموضوع، ولهذا حقوق یمکن أن تطرح. الاحتمال الرابع: بما أن الانسان محیط ومشرف علی کافة الموجودات، وأن هذه الموجودات مسخرة له، فله إذاً حرمة وقیمة ذاتیة وهذا الاحتمال مرفوض وغیر مقبول طبعاً، لأن معنی هذا الاحتمال أن هذا الانسان ولأجل ذلک الموجود والعلة التي سخرت لها کافة الموجودات له، قد أصبح له أهمیة وقیمة، فهي بذاتها لا قیمة ذاتیة لها، بل لها قیمة موضوعة واعتباریة، وفي النتیجة ینبغي سؤال واضعها عن حقوقها . وعلی کل حال هم بحاجة علی أن یبینوا: ما معنی الحرمة الذاتیة؟
وعلینا أن نقول: إن لهذا الانسان إما حرمة ذاتیة أو حرمة مجعولة؟ إذ هي لا تخرج عن کلا الأمرین، فإن کانت مجعولة ،فجاعلها إما أن یکون البشر نفسه أو لا؟ ونفس البشر لا یمکنه ذلک، فلا محالة أن نسیر باتجاه غیر البشر، هذا هو المطلب الأول.
2ـ ورد في الاصل الثالث في هذه الدیباجة هذه العبارة: «علی الإنسان وکآخر تدبیر له أن لا یلجأ إلی استخدام العنف ضد الظلم والاستبداد، بل یبذل قصاری جهده للحفاظ علی حقوق الانسان عن طریق الاحتکام إلی القانون» وهذه العبارة مغلفة بوجهین ومزدوجة أحدهما: ولعل الکثیر أراد منها ذلک، أن علینا أن نوجه أي حرکة واتجاه لطبیعة المجریات البشریة بهذا الاتجاه، وهو أن یحکم القانون، واذا حکمنا القانون، فسیرفض الإنسان الظلم والاستبداد وان یتجه نحوه، وهذا المعنی جید أما المعنی الآخر: فهو محاولته أن یکون عائقاً في مواجهة الظلم والاستبداد وتستبطن هذه العبارة شکلین مزدوجین: یعني طریق مواجهة الظالم محددة بحاکمیة القانون، یعني لو کان هناک ظالم أو بلد ظالم مهما ظلم، فلیس أمامکم سوی الاحتکام إلی سیادة القانون ومواجهته، وهذا هو طرف آخر لتفسیر هذه المادة.
والآن، من هو الذي یرید أن یفسر لنا هذا؟ وقد فسرت بعض المواثیق والمعاهدات هذه المواد أحیاناً، ولکنني لم أعثر علی خصوص هذا المورد أن هذا التفسیر هل هو موجود أم لا؟ ولکننا نقول باعتبار أن هذه المسألة حقوقیة: إن الرجل الحقوقي یتمسک الیوم في المحکمة بمادة حقوقیة بحسب الظاهر، ونحن وظاهر هذا الکلام، نقول: علی الإنسان وکآخر تدبیر له أن لا یلجأ إلی استخدام العنف ضد الظلم والاستبداد، یعني أننا نرید القیام بعمل لا یتجه الانسان فیه إلی هذه الجهة، لکن الدفاع في النتیجة أمر فطري وطبیعي، إذ لو هوجم حیوان ما، فإنه یدافع عن نفسه، ویهجم علی من هاجمه، نأتي نحن ونسد الطریق أمام الإنسان ونقول: إن وقع علیک ظلم، فاذهب الی الجهة والمرکز القانوني، وقد عمل في السبعین عاماً بهذا النحو، یعني لو هوجم بلد ما، فأول رد فعل لحکومة ذلک البلد یصدر مباشرة هو: أنه یبعث رسالة إلی مجلس الأمم المتحدة، وسؤالنا هو: في أي موضع من میثاق حقوق الإنسان قد سمح بمنح هذا الحق في أن یقف بوجه الظالمین؟!فلو هوجمت أسرة مثلاً،فبإمکانها صد هذا الهجوم والدفاع عن نفسها، ومهاجمة هذا العدو الغاشم، حتی لو توقف الدفاع علی القضاء علی العدو المهاجم وإسقاطه، وقد سمح العقل والفطرة بذلک،وأیدته التجربة.
وأنا أبدي عن وجهة نظري: بأن مجموعة هذا المیثاق إنما یتم في نطاق نفي الأمور الهامة للدین، ولو تعمق شخص في ذلک، فسیجد أن معناه نفي الجهاد، وحقه في الوقوف بوجه الظالم. بل رفض إغاثة المظلوم أیضاً، فلو تعرض شخص إلی ظلم، فباعتبار کونه نظیر لي في الخلق، بأي مادة من هذا المیثاق یمکنني نصرته وإغاثته؟ إذ لیس هناک شيء یذکر، سوی الرجوع الی الجهات والمراکز القانونیة فقط، جاءوا وأسسوا مراکز مثل مجلس الأمم المتحدة و... وهي کلها خاضعة لهم، وها أنتم تشاهدون ما یجري في العالم، وما یحل بالبشریة من ظلم. طبعاً أنا لا أرید أن یستبدل البحث إلی بحث سیاسي، بل إننا نقوم بتحلیل وتفسیر هذه المواد.
أما الأصل الرابع من هذه الدیباجة، فقد جاء فیه «إن من الضروري توسیع علاقات الصداقة بین الشعوب» فالسؤال المطروح هو: أي الشعوب تلک التي یتحدث عنها المیثاق؟ هل کافة الشعوب مع بعضها؟ أنا عندما قرأت هذه العبارة، تذکرت جملة قال قائلها: «أن بعض مواطنیننا في البلاد أطلق عبارات بضرورة إقامة علاقات الصداقة مع شعب إسرائیل» فقلت مع نفسي: قد یکون هو أیضاً قد ألهم ذلک من هذا الأصل وکما یقول طلاب العلوم الدینیة: «إن إطلاق هذه المادة یقتضي أن علی الانسان إقامة علاقات الصداقة معهم» فتعالوا أنتم وقولوا کلا إن قصدهم هو إقامة العلاقات الودیة والصداقة مع الشعوب المشروعة. فأي هذه المادة فیها ذلک؟ أنهم یفرضون علی الشعوب إقامة العلاقات الودیة والصداقة مع بعضها، أما أن یجيء جماعة ویطردوا شعباً من أرضهم ویخرجوهم من بیوتهم، فتضیق الأرض بما رحبت بهم، ویشردوا ویضیعوا، ومن ثم یطلق المحتل علی نفسه «شعباً» فکیف یقیموا مع هؤلاء علاقات المودة والصداقة والألفة؟ إن هذا مستحیل من الجانب الفطري والغریزي.
أما الأصل الخامس من هذه الدیباجة: فقد ورد فیها «التأکید علی المساواة بین الرجل والمرأة» یقولون: «تتساوی شعوب الأمم المتحدة في منشور إیمانها، ومن حقوقها الأساسیة: ضرورة احترام ومنح القیمة للانسان، ومساواة حقوق الرجل والمرأة التي تعاهدوا علیها» فما هذا الأصرار منکم في أن تدرجوا مثل هذه المسألة في الدیباجة قبل عرض مواد هذا المیثاق؟ ومن الواضح أن الهدف الأساسي هو رفض مواجهة الظلم، وإقامة علاقات الصداقة مع کل الشعوب، والمساواة بین الرجل والمرأة هذا ما جاء في الدیباجة أو اللائحة وهذه الإشکالات مجملة، وهناک نقاط أخری أیضاً نغض النظر عنها.
نأتي الآن إلی المادة الأولی من لائحة المیثاق التي تنص علی أن: «کافة البشر خلقوا أحراراً وعلیهم أن یعیشوا أحراراً، وهم متساوون في الحقوق والحیثیة والکرامة» السؤال الأول کما نقول نحن طلاب العلوم الدینیة: ما وجه الملازمة بین الکون حرّاً والتساوي في الحقوق؟ مثل أن نقول: إن کل الناس یعیشون حول الأرض، فهم متساوون إذاً في الحقوق، فلیس هناک ملازمة بین الکون حرّاً والتساوي في الحقوق؟ فأي ملازمة في ذلک؟
هذا أولاً وثانیا: لیست الحریة أمراً ولیداً من شيء، بل الحریة في مقابل العبودیة والرقیة هما عنوانان اعتباریان، وهذان العنوانان سواء قلنا إنهما اعتباریان أو انتزاعیان، فمنشأ الانتزاع او الاعتبار یلزم منه أن الانسان الولید لا یمکن أن نسمیة حراً أو رقا، فهو لیس حر ولا رق، ولاشيء منهما أصلاً لکونهما عنوانان اعتباریان أو انتزاعیان، بل هما بحاجة إلی منشأ اعتبار آخر، ولو لم یکن المنشأ واحداً، فالآخر موجود.
ثالثاً: ما المقصود بالحر؟ هل المراد به أن هذا الإنسان یولد مطلقاً حراً؟ کیف؟ وضحوا لنا معنی الحریة رجاء؟ فمن الإشکالات المهمة في کل المیثاق هو أنهم لم یفسروا لنا معنی الحریة أصلاً، ولم یبینوا قیودها، بل ترکوها لحالها علی نحو الاجمال وهنا أبین هذه النقطة وهي: جاء في المادة 18:«من حق کل شخص أن یتمتع بحریة الفکر، الضمیر والوجدان، والدین» فالحریة أولاً: لا معنی لها، فما معنی ذلک؟ وحریة الضمیر والوجدان تعبیر خاطئ إلا أن یکون المترجم قد أخطأ، ولکن البحث هو: ینبغي الاستمتاع بحریة الفکر والدین وقد کتبت في کراسات تتعلق برد شبهات الارتداد ووزعت علی الإخوة ومقتضی میثاق حقوق الإنسان هو التحرر في کل شيء حتی في مسألة اللواط، إذ یستند بعض المنادین بحریة اللواط بهذا المواد أیضاً، وأرادوا القیام بتظاهرة في موسکو احتجاجاً وتندیداً بقرارات الحظر، وأقیمت اجتماعات تدعو إلی ذلک وتندد بحظره، وألقیت خطابات وکلمات تطالب بذلک، إلا أن حکومة موسکو اعترضت بشدة علی هذه الممارسات، مما دعا بهؤلاء إلی تقدیم شکوی للأمم المتحدة استناداً لهذه المادة المذکورة في المیثاق تطالب حریة اللواط.
وقد تساءل البعض: أین جاء ذکر حریة اللواط في هذا المیثاق؟ ونحن نقول: أیلزم التصریح بهذا المطلب؟ فعندما ینادی بحریة الفکر، فإذا التقی فکر رجلین أن یمارسا عملیة اللواط أو الزواج، فیتزوجا فما الضیر في ذلک في منهجهم ومعتقدهم؟ وهم یطالبون بشرعنة ذلک حسب ما جاء في المیثاق؟ ولا علاقة لهذا العمل بالآخرین، إذ لا یتوجههم ضرر من ذلک؟ فیقول رجلان یمارسان عملیة اللواط أو امرأتان تمارسان عملیة المساحقة نحن نعتقد بحقنا المشروع کإنسان أن یمارس حریته المطلقة، من دون فرق بین الرجل والمرأة، فنقیم علاقة الزواج معاً، وأنتم تقولون: إن کل واحد منه یمکنه ممارسة حریاته والقول بحریة الفکر.
وکثیر من الأشخاص ممن یدعون لنفسهم العلم، فالذي یؤسف له أن توجههم وفهمهم لهذه الألفاظ قلیل جداً، هذا المطلب هو بمنزلة اثنین زائد اثنین یساوي أربعة، وهو واضح وسهل، فإذا أعطیت هذه العبارة لأحد لیقرأها ویفسرها، فسیری أن من جملة مصادیق حریة الفکر هي هذه الممارسات المنحرفة واللاأخلاقیة، أما أنتم، فتقولون کلا المراد بحریة الفکر هو الفکر الدیني، إذ لیس في العبارة هذا القید لیقتبس منها أن المراد بحریة الفکر هو الضمیر والدین وجاء تبعاً لذلک، أن هذا الحق یستلزم حریة تغییر الدین أو الاعتقاد، وکذلک حریة اظهار الدین أو الاعتقاد، وسیأتي نقد هذه العبارة في یحث رفض الدین، بأن المادة 18وردت في المیثاق لرفض الادیان الإلهیة و السماویة أصلاً، ولیس لها هدف آخر سوی ذلک وأضیفوا إلی هذا المطلب أیضاً: أنهم ذکروا في أحد المواد قضیة الزواج والنکاح، ولکنهم لم یشیروا إلی قضیة الدعارة واللواط أو المساحقة، ومن الناحیة الحقوقیة: أن ما دام أن القانون لم یحظر ذلک، فهو کاف في الجواز والصحة، وعلی هذا، فإن بإمکاننا أن ننسب قضیة الدعارة واللواط والمساحقة بطریقین إلی ذلک المیثاق.
وهناک إشکال آخر علی المادة18 وهو أننا إذا قلنا: إن علی کل أحد أن یمارس حق الحریة في الفکر، فسیتبعه استلزام کتابة هذا الحق وهو: حریة تغییر الدین أیضاً. وسؤالنا هو أین یوجد هذا الاستلزام؟ فقد نقل إلی أسماعي أن أحد السادة الذین یعدون أنفسهم في زمرة أهل الرأي والنظر، أنه إذا أراد الإشکال بالارتداد، قال: ما هذا المنطق بأن نقول: إن الدخول إلی الدین لا مانع فیه، ولکن الخروج من الدین فیه إشکال؟ وسؤالنا هو ماهذه الملازمة في أنه متی ما دخل اختیاراً أن یخرج اختیاراً أیضاً؟ فما هي الملازمة في ذلک أصلاً؟ فإذا قال الدین مثلاً: إن حکم دیني هذا هو أنه لو دخل شخص بهذا الدین، فلا یحق له الخروج منه؟ إذ کل الأدیان تقول بهذا؟ فبإمکان الشخص أن یرفض هذا من البدایة.
إن هناک نقاطاً فیها نوع من الظرافة في باب الارتداد، لا تستدعي مني أن أخلط بین الأبحاث ففي باب الارتداد مثلاً، قبل الشخص الدین منذ البدایة الدین الذي یقول له: لا یحق لک أن تخرج منه، وقبل هو ذلک، فإذا قال: لا کله قبلته، لکنني أرفض هذا القسم، فسیکون هذا: نؤمن ببعض و نکفر ببعض، إذ هو قبل الإسلام من البدایة، فالخروج عن کافة الادیان السماویة یوجب حکم القتل، وبحث الارتداد لا یخصّ الاسلام وحده، بل نادت به کافة الأدیان السماویة وقد ذکرت في تلک الرسالة أیضاً أن مواجهة حالات الارتداد یمکن استفادتها من القرآن الکریم فقد کانت هذه القضیة في قوم موسی علیه السلام، بعد أن ذهب علیه السلام إلی طور سیناء، أخذ جماعة من قومه بعبادة العجل، یعني أنهم خرجوا عن دین موسی وارتدوا، فعندما رجع علیه السلام، خاطبوه: کیف نتوب؟ فنزل جبرئیل علی موسی علیه السلام وقال: « فاقتلوا انفسکم»، یعني: أن توبتکم هي أن یقتل کل منکم الآخر.
ومحور کلامي هو: لماذا یستدعي حق حریة الفکر، لحریة الخروج منه؟ روما هذا الاستلزام؟ کما لو قیل: إن کل من یخرج من هذه الغرفة دون إذن، فلا یقدر أن یخرج فهل یقد أحد أن یقول: إنني دخلت باختیاري، فلماذا یستلزم خروجي أخذ الإذن؟ فالجواب علیه هو: أن الضابطة في ذلک هي هذه، نعم لو کان هناک مورداً یقول: إن کل من دخل، فمن حقه أن یخرج، فعلیه أن یعمل علی طبقه.
الاشکال الآخر في الماده 18 في حریة الفکر هو: ما هذا الاستلزام بین حریة الفکر وحریة الإظهار له؟ فلو قال شخص مثلاً: عقیدتي هي أن کل البشر مجانین، وأنا عاقل فقط، أو أن کل البشر سراق، فعبارة المیثاق تقول: لا مانع في ذلک، تعال أنت وأعلن عن ذلک، فأي عقل یسمح بذلک؟
أما في آخر الماده 26 وهي مختصة ببحث التربیة والتعلیم فقد جاء فیها: «للأب والأم الأسبقیة في اختیار نوع التربیة والتعلیم لأبنائهم علی الآخرین» فنتسائل: لماذا؟ فإن أردتم أن تتناولوا موضوع الإنسان بما هو إنسان، ولا علاقة لکم بخالق الإنسان، (لأنکم شاهدتم البعض منهم عندما یرید أن یدافع فإنه یقول: لا علاقة لهذا المیثاق بهذه الجهات، ویتصور أن هذا بیان صحیح في هذا المیثاق)، فإذا لم تکن لکم علاقة وارتباط بالخالق والآخرین، فما هو الملاک العقلي في تربیة وتعلیم الأب والأم في حق الأسبقیة والتقدم علی الآخر؟ فطالب المدرسة یعلم أستاذه أنه أي فرع یمکنه أن یختاره تلمیذه ویستمر في دراسته؟ لکن الأب یقول له: بما أنني أبوک، فلا تختار هذا الفرع الدراسي واختر لنفسک فرعا دراسیاً آخر وتقول هذه المادة من هذا المیثاق:إن للأب حق الأسبقیة والتقدم، فأي ملاک صحیح لهذا؟ ونحن نقول: إذا اخترت الأب والأم ملاکاً للإنسان، فلماذا لا تختار الخالق؟ ولماذا لا تبینوا حقوق الإنسان باختیار خالقه؟!
لاحظوا، جاء هؤلاء وصوتوا علی مواد حقوق الإنسان، وعرضوها علینا، وهم یقولوا بملئ فمهم: لا تذکروا اسم الله، ولا علاقة لنا بالله، فلو عرض هنا بحث الأب والأم، فلماذا لا یتناولوا بحث الخالق ومن هم علی شاکلته؟ وذکروا في هذه المادة وفي المادة 29علاقة الفرد بالمجتمع، ولکنهم لم یتعرضوا إلی علاقة الفرد مع الله خالقه، وهذا إشکال وارد علیهم أیضاً وهناک جملة من النواقص المذکورة علی هذا المیثاق:
أحدها: من أمضی هذا المیثاق؟ وبأي ثمن یقدر هذا النوع من التراضي والتوافق؟ وهل أنه لو تراضی اثنین مثلاً، یکون هذا التراضي دلیلاً علی أحقیتهما؟ فلو تراضی اثنان علی قتل شخص مثلاً، أو تراضیا علی بعثرة الأوضاع وتأزیم البلاد، أو سرقة المال العام، فلا یصح منا أن نأتي ونقول: بما أنهما تراضیا، فهو حق مشروع إذاً ویظهر من خلال اللقاءات والحدیث الذي یتناقل عن الأساتذة المحترمین، أن جماعة تمسکوا بقوله تعالی: «أوفوا بالعقود»، فالحکومات التي صوتت علیها شعوبها، قد وقّعوا علی ذلک، وینبغي الالتزام بذلک وتطبیق بنوده، وأنا لا أرید القول: بفسخها وعدم الالتزام والتقید بها، وماذا یکون ویکون...! کلا، فأنا لا شأن لي بذلک، ولکن مقتضی البحث العلمي هو أن التراضي بما هو تراضي، لا اعتبار له عندنا عقلاً ولا نقلاً.
أما من تمسک بقوله: «اوفوا بالعقود»، فهو محکوم ومستلزم لقواعد أخری عندنا،کما لو تراضیا بالإفساد في الأرض مثلاً، فإن القاعدة القویة تقول: «لا طاعة لمخلوق في معصیة الخالق» هي الحاکمة، وأما «اوفوا بالعقود» ونظائرها، فکلها محکومة بتلک القواعد، ولو لم تکن تلک القواعد، فالمراد ب«اوفوا بالعقود» العقود التي لها شروط الصحة، ولیس کل عقد فلا یمکن جعل التراضي ملاکاً، فبماذا یتعلق هذا المیثاق إذاً؟ ینبغي بیان هذا المطلب لنا، ومجرّد التراضي لا یمکن عده أمراً مقبولاً لنا.
أما المقطع الثاني في هذا المیثاق: وهو «محور الانسان بما هو الانسان» فنحن نقول: إن هذا غلط وخطأ أیضاً فالحقوق العدیدة للانسان بما هو عبد مذکورة، فلماذا نتغاضی عنها إذاً؟ وبعبارة أخری: الانسان بغض النظر عن المخلوقیة والعبودیة، لیس له هویة أخری ونحن غیر قادرین علی منحه حقوقاً أخری بغض النظرعن هذا العنوان، فإذا أردنا منحه حقوقاً بکونه مخلوقاً وعبداً، فلا محالة أن علینا أن نأخذ بنظر الاعتبار المخلوقیة والمعبودیة، لنتمکن من أن نرسم له حقوقاً بشکل صحیح وواضح.
أما الإشکال والنقص الثالث فهو: أن مجموعة مواد المیثاق والاعلان الذي یتضمنه تصور الانسان علی أنه کائن یتمحور حول الحق، ویرفض محور التکلیف، وأنه صاحب حق فقط، وهو غیر مکلف، إذ لوکان له تکلیف، لأشیر إلیه بنحو من الأنحاء، فبمجرد أن نقول: إن للإنسان حق وحقوق، فمن معانیه رفض مدار تکلیفه فیطرح حینئذ إشکال مهم وأساسي وهو: أن المیثاق لم یذکر علاقة الإنسان بربه أصلاً، ولا خصائصه الفطریة ونحن نقول: لو تعرض الإنسان إلی ظلم، فالعقل یحکم بتقدیم الآخرین ید العون له ومساعدته، أما بحث الشرع و الفقه فهو في محله، فالانسان المریض، الملقی علی الرصیف، وهو یلفظ أنفاسه الأخیرة، فهو وأن کان لا دین له، لکنه(نظیر لک في لخلق)، وهذا یفرض علیه وظیفة معینة، لکن المیثاق لم یتعرض إلی حقوق الآخرین ونوع تعامل الإنسان مع أخیه الإنسان.
أما القسم الثاني: فهو أن علینا أن نبین في البدایة أن بعض مواد هذا المیثاق وإن کانت تنسجم بحسب الظاهر مع أقوی الأوامر والقوانین الدینیة، فقد بین الإسلام ذلک قبل ألف وأربعمائة عام مضت بأفضل بیان، فالمادة12مثلاً تنص علی عدم جواز التجسس في المسائل الشخصیة للافراد و حفظ کرامتهم وشرفهم. وهذه المادة جمعت کافة المطالب لکل إنسان، وقد صرح الاسلام و القرآن الکریم بمسألة عدم جواز التجسس بالنسبة للمؤمنین، وحرمة المؤمن والتأکید علی رعایة شرفه وکرامته فهل یختص هذا الحکم بالمؤمن، أو لکل انسان یُذکر؟
وینبغي البحث عن أدلته في محله المناسب ونحن نتابع بیان هذه النقطة وهي: أن أصل هذا المطلب قد ورد في الإسلام، فهل أن هذه المادة في المیثاق تبحث عن السعة، وتلتزم بهذا من هذه الجهة أم لا؟ وینبغي أن تدرس بدقة لکن النقطة المهمة هي: أن هذا المیثاق یتعارض بصورة واضحة مع المجموعة الدینیة، فلا نأتي ونتصور أن التحدیات تجتاز فقهنا، ونقول: إن استطعنا حل بعض الموارد الفقهیة کالارتداد و شهادة المرأة و...، فسینصلح کل شيء، کلا، إذ لو تعمقنا في محتواه بدقة، لوجدنا إذاً التعارض مع أصل الدین.
ونظیر مسألة الصداقة مع الشعوب کما ذکرت،لاحظوا أیضاً قول الله سبحانه وتعالی في القرآن الکریم في سورة الممتحنة:«یا ایها الذین آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوکم اولیاء تلقون إلیهم بالمودة» أو آخر آیة من هذه السورة «یا ایها الذین آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله علیهم» إذ یقول هؤلاء: ینبغي أن تتبادل الشعوب علاقات المودة والصداقة فیما بینها، ولو أن الله قد غضب علی شعب ما، فقد جاء في سورة المجادلة الآیة 22قوله تعالی«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» ففي الآیة القرآنیة بحث اعتقادي کلامي و دیني، إذ لا یحلّ موادة هؤلاء أصلاً، وهو حرام، فهذا هو أول التعالیم الدینیة، لکن المیثاق یعارض ذلک، ویقول: کلا، دعوا هذا الکلام جانباً، وعلی الشعوب أن تتوادد وتتحابب ویقیموا علاقات الصداقة بینهم.
الأمانة هي أحد المحاور الأساسیة والأصلیة في الدین، فهل هذا المیثاق بهذا الوضوح في هذه الجهة؟ لاحظوا الجملة التي عرضها الامام السجاد علیه السلام أین محلها من الإنسان وهذه المجتمعات المنادیة بحقوق الإنسان، هل تصل عقولهم إلی هذا المستوی العالي من التفکیر، وهل یسمحوا لأنفسهم ببیان مثل هذا الشيء قال الإمام السجاد علیه السلام: «فوالذی بعث محمداً صلی الله علیه وآله بالحق نبیاً، لو أنّ قاتل أبي الحسین بن علي ائتمنني علی السیف الذي قتله به، لأدیته له» هذه الجملة عجیبة ومدهشة جداً، فهذا حقّ البشر بالنسبة للآخر، ولکنه لم یلتفت له أصلاً في هذه المجموعة، وأنا أتصور أننا لو لاحظنا هذه المفاهیم الدینیة في القرآن الکریم أو سائر الکتب السماویة، فإن حقوق الإنسان وهذا المیثاق سینسخها کلها، أو أن أغلب مواده لها هذه النتیجة.
ولا فرق في هذا المیثاق بین الموحد والمشرک،بدعوی أننا نحلل حقوق الإنسان من زاویة کونه إنسان بما هو إنسان، ولا نتوجه له من جهات دینیة، مع أن الأدیان کلها تضع مایزاً بین المتدیّن و غیر المتدیّن، الموحد والمشرک، الفاسق وغیر الفاسق،وهذا المایز هو منشئ لظهور الحقوق.
النقطة الثالثة في هذا الخصوص هو أن المادة 18وهي مسألة حریة الفکر تقول: ومن مصادیق حریة الفکر: «رفض الدین و اختیار العلمانیة» فلو قال شخص: لادین لي، فسیقال له: لا مانع من ذلک، یعني أنه یمنحه الرخصة، ویقول له: أنک تمتلک أي نوع من الحریة، ویعدّ ذلک حقِّاً له یمارسه في حیاته الشخصیة، فإذا کان حرا في رفض الدین، فسیتعارض هذا ضرورة مع الدین.
ومن الامور التي اکدت علیها کافة الادیان، و خصوصاً في الدین الاسلامي: الاهتمام بقضایا الانسان، أي: «النظیر له في الخلق» وضرورة تقدیم العون والدعم لهم فلو أن إنساناً نادی یاللمسلمین ولم یجبه، فلا دین له وقد أکد المیثاق علی علی الحرمة الذاتیة للانسان ومن آثار ذلک هو هذا المعنی: وهو أن علی الإنسان أن یهتم بقضایا بني نوعه، ومن هم نظیر له في الخلق، فإذا ظلم منهم أحداً، یقف إلی جانبه، ویمد له ید العون والمساعدة، ویقف بوجه الظالم، ولکن لم یصرح بهذا المعنی في المیثاق، وکان من الضروري واللازم أن یصرح به. نعم، ذکر في المادة 8: «اذا حصل اعتداء علی إنسان، فإن له حق الرجوع إلی المحاکم الوطنیة وتقدیم الشکوی علی المعتدي». فهل یکفي هذا المقدار؟
اما المحور الثالث الذي یتعارض فیه المیثاق مع بعض الاحکام الفقهیة، ففیه بحث مفصل وعلینا أن نبحث مواده الواحدة تلو الأخری، بدءاً من بحث الارتداد وهو الیوم من الأبحاث المستجدة في عالمنا المعاصر، تناقله کافة المحافل الدولیة والعالمیة وقد شن هجوماً عنیفاً علی الاسلام في بحث الارتداد وقبل أن نبدأ الحدیث هنا، أقول: مما یؤسف له جداً: أن أشخاصاً ادعوا أننا طالعنا الفقه، وتذوقنا حلاوته، فلیأتوا ویرفعوا أیدیهم عن الأحکام المسلم بها والواضحة، ولا شأن لهم بها وقد نقل کلام آخر لهم یقولون فیه: إن المیثاق الصادر في مجال حقوق الإنسان یتعارض مع مواد کثیرة من الفقه ثم فکروا أعمق من هذا فقالوا: أننا نرید أن نبین الفقه بهذا النحو، وتبینموه کما نحن نبینه،أي بالنحو الذي نراه صحیحاً أي الفقه العاري عن الجهاد والحدود الإسلامیة، ولا تراعی فیه الضوابط والحدود للرجل والمرأة، والفقه العاري عن ولایة الأب، ولا یفرق في الزواج بین الرجل والمرأة، فهؤلاء یریدون أن یعنعوا إذاً فقهاً جدیداً ملیئاً بالسخریة ثم یقولون بعد ذلک: إن هذا الفقه لا یتعارض مع حقوق الإنسان ولا أحد یسأل من هذا الشخص: هل فکرت أنت بما تقول؟ وفي هذه الحالة، لیس هما اثنان لیتعارضا، فصار ذاک نفسه، فأنت عندما جئت ورفعت حکم الجهاد عن فقهنا، فقد رفعت الحدود الاسلامیة عنا بالمرّة ومسائل الارث و الشهادة والنکاح والطلاق والحجاب، وهو کلام باطل کما تزعمون ثم تقولون: إن هذا یؤدي إلی نوع من التمییز في الجنسیة فحذتموه، فلیس هما اثنان بعد ذلک، وهذا هو نفسه ما جاء في میثاق حقوق الإنسان ولا داعي بعد الآن أن تتتعبوا أنفسکم، وتقولوا: بعدم التعارض فکل تلمیذ وطالب العلوم الدینیة في بدایة دراسته یعلم جیداً إن هنا تعارض، إذ هنا تتواجد نیتان وطرفان متقابلان هما شرط ولکن لو ترکنا نحن و الفقه الموجود، و فقه الامام رضوان الله علیه، فإن العوامل المؤثرة في الاجتهاد منقحة ومتحرکة. ولو کنا نحن ودائرة الفقه الجواهري،فإن حقوق الإنسان تتعارض تماماً مع فقهنا.
فهل علی الفقیه إذاً أن یقول: إنني أرفض میثاق حقوق الإنسان، ولنترک الفقه جانباً؟ أو نقول:یمکن توجیه ذلک، للتقریب بینهما؟ کلا، فقد حصل خلط بین هذین المطلبین في کلام الأفاضل، ففقهنا منفتح ومتحرک، قادر علی أن یجیب علی المسائل المستحدثة وأقواها، وقد وضع فقهنا الیوم إجابات واضحة عن عملیات الاستنساخ، ولم تتقدم حقوق الإنسان الیوم إلی الأمام کما یتقدم فقهنا، وقد قدم فقهنا الیوم طفرة نوعیة من خلال عرضه أحدث الأدلة وأقواها في مسألة تغییر الجنسیة وعملیات الاستنساخ، ومسائل التلقیح الصناعي، والمسائل المتعلقة بالمعاملات الجدیدة في فقه الامامیة و فقهاء الشیعة، بعد أن أبدی عن استعداده وتواجده القوي للإجابة عن کافة التساؤلات المستجدة وأما ان نقول:إن الحضور یعني التأثیر و التأثر المتقابل، ولهذا نأتي ببعض مواد حقوق الإنسان لنلحقها بفقهنا، لنتحرر عن بعض القیود المذکورة في الفقه، ونضعها جانباً، هذا من جانب ونرید من جانب آخر: أن نؤثر فیها، فإن تأثیرنا في اتفاقیات حقوق الطفل، یجعل لنا حق الاحتفاظ به لأنفسنا، فلا یکون تأثیر وتأثر إذاً.
وأقول هنا: إن من یقرأ المیثاق والعقود والإتفاقیات العدیدة التي تشتمل علی العدید من المواد الحقوقیة والقانونیة، سیجعل تصورنا عنها هو هذا، ولدینا استدلالات حول ذلک أیضاً، لرفض کل الفقه، ولیس الموارد المذکورة وحدها کبحث تفکیک الجنسیة، فهم یقدموا مرحلة تلو الأخری ثم یقولوا: أنت انسان بما هو انسان، من الذي قال لک أن تنحني یمیناً وشمالاً وتصلي، فأنت بنفسک لک قیمة، فإذا أحببت فارکع وانحني، وإذا رفضت ذلک، فلا وینتهي الأمر إلی هنا وعلی الفضلاء و الفقهاء أن یلتفتوا إلی أن الهدف الأخیر في المیثاق لا ینحصر في رفع بعض احکام الفقه، بل في البحث للعثور علی بدیل للحقوق في کافة أبواب الفقه.
والنقطة الاولی التي أرید أن أقولها وقد قلتها في المحور السابق أیضاً هي: أن هناک تحدیات أساسیة بین المیثاق والمجموعة الدینیة، کالتوحید، الاخلاقیات، والاعتقادات تماماً وأرید أن أقول في هذا القسم: إن هذا المیثاق یواجه تحدیات مع کل الفقه، بل حتی الموارد التي یقول فیها:إن الإنسان حر في اختیار التربیة والتعلیم المناسب له، وکثیر منها یمکننا أن نقول: بأن کثیراً من الأمور التي نقول بها، هي نفسها مما یقول بها الإسلام، ولکن الهدف هو شيء آخر، فبعضها کلمةٌ حقٍ یراد بها باطل.
وأُشیر اجمالاً هنا في بحث الارتداد: إلی أن الارتداد أمر له جذور قرآنیة، وقد أشرت إلی قضیة قوم موسی علیه السلام في تلک الرسالة، فالاسلام في فقهنا یقف بوجه المرتد الذي یعلن خروجه عن الدین، أو نقول علی الأقل أنه مضافاً إلی الاظهار، أنهم یعاندوا ویخالفوا الدین أیضاً، وفي هذه الصورة کذلک یعارضوا حکمه، وإلا،فما دام أنه لم یصل إلی حد الاظهار والعناد، فلا شأن له به، فمن الذي یطلع علی سریرة الشخص الآخر لیعرف بماذا یفکر؟ وماالذي یجري في وجدانه وضمیره، هل أنه أنکر الدین أم لا؟ ونحن نقول أي ملاک لهذا الإظهار؟ وبأي هدف یمکن أن یتحقق؟
فقد یکون للشخص شبهات تعلق في ذهنه یقول المرحوم والدنا (رضوان الله علیه): لو قال شخص شاب من أبوین مسلمین في أول بلوغه: عندي بعض الشبهات حول الإسلام، فإنه یقول: لیس هذا مرتداً، بل له الحق أن یأتي ویستعرض شبهاته وإشکالاته، ولکنه بعد أن یقول: أنا مسلم، لو قال ثانیة: خرجت عن الاسلام، فهذا بمثابة أن یحاول زعزعة الإسلام عند الآخرین، وهذا بمنزلة من لا یسمح لمن به داء مسري أن یحضر في وسط جماعة. لقد أرسل الله الأنبیاء والرسل، وهم یحملون البیّنات و المعجزات و الکتب السماویة، والمعاناة والجهود التي بذلت لتدین البشر فلو أنکر شخص بجهالة منه کل ذلک، وأراد زعزعة الآخرین، فهذا أسوأ بمئات المرات من إعلان الحرب الظاهریة ضدهم، وهو یواجه بأسلحة المؤمنین في هذه المسألة کافة الأدیان، فإن ارتد شخص إذاً، فما اللزوم بإظهاره ذلک؟
ذکر بعض الزملاء من الأخوة: بأن موضوع حکم المرتد في القرآن هو ما إذا کان عرض الارتداد بعنوان أنه معرکة سیاسیة، فهل هذا ذا صحیح أم لا؟ وذلک یعود إلی قلة تواجده في الأذهان أیضاً، إذ قد حصلت مواجهات للمرتد في صدر الإسلام الأول، بسبب أن المنافقین کانوا یقولون: «آمنوا بالذي أنزل علی الذین آمنوا وجه النهار واکفروا آخره» . لیوجدوا بلبلة بین المؤمنین وزعزتهم عن الدین، وقد فکان یحثل هذا لقصد سیاسي کان حدیثي هو أن تشاهدوا الآیات التي أشرت إلی بعضها، فأین تمثلت الوجهة السیاسیة في هذه الآیات الشریفة أصلاً؟ إذ لم یعرض فیها بأي وجه من الوجوه، فهل یستفاد من الآیة 217 من سورة البقرة «ومن یرتدد منکم عن دینه فیمت وهو کافر فاولئک حبطت اعمالهم فی الدنیا والآخرة» حکم القتل؟ الذي استفاده الفخر الرازي أم لا؟ ولا شأن لنا بذلک فعلاً، لکنه یقول: «ومن یرتدد منکم عن دینه»، فلفظة «من یرتدد» هي قضیة حقیقیة، فأین محل القضیة السیاسیة منها؟ وأن تکون هناک فتنة؟ أو أن الارتداد إذا کان مؤامرة جماعیة، فله مثل هذه العقوبة.
وأرید أن أسأل: هل أنکم تقولون بهذا في باب المحاربة أیضاً؟ فالآیة الشریفة في مورد مسألة المحاربة: «إنما جزاء الذین یحاربون الله و رسوله» هل تعني أن لو تآمر جماعة لمحاربة الله،أن سیکون جزاؤهم هذا؟ أو إذا کان المحارب شخصاً واحداً، فهل هذا حکمه أیضاً؟ فلا یصح هذا الانطباع والفهم أننا نغیر موضوعاً تسالم علیه الفقهاء لفترة ألف وأربعمائة عام لمجرد احتمال واحد؟ فمثل هذا بحاجة إلی دلیل، ولا یکتفي مجرد الاحتمال وجاء في الآیة المبارکة أیضاً قوله تعالی: «آمنوا بالذي أنزل علی الذین آمنوا وجه النهار واکفروا آخره» فلا یمکنه أن یقید الآیات، لکونها من مصادیق وموارد الارتداد، ولا یمکن للمصداق أن یحصر الموضوع العام ویتعارض حکم الارتداد مع المیثاق العالمي لحقوق الإنسان تماماً، فماذا نفعل بهذا؟ هل نرفع أیدینا عن هذا الحکم؟أما بحث التنفیذ فهو بحث آخر ولا یمکننا أن نجرح الفقه ونقص أجنحته في بعض الموارد، لکي لا یتعارض مع المیثاق العالمي لحقوق الإنسان مثلاً فهذا هو فقهنا أما هل یمکن العمل علی تنفیذ هذا المطلب في مرحلة التطبیق أم لا؟ فهو بحث آخر ونحن نرید أن نقول: إن هذا المیثاق یتعارض مع الفکر وعلم الفقه ومن موارد التعارض ما کتب في لوائح متفرقة أیضاً من هذا المیثاق یعني أن هذه المادة تتعارض مع الحدود و القصاص وقسم العقوبات في الاسلام، وقد ألغي فیها حکم القصاص و العقوبات البدنیة والتعزیرات، و ...، وهي تتعارض مع فقهنا.
أما البحث الأساسي الذي تتناقله المحافل والأوساط العلمیة،فهو بحث تغییر الجنسیة، ومحور عمدة الکلام هو هذا، وهو: لماذا یفرق بین المرأة والرجل في إدارة المجتمع،القضاء، الشهادة، المیراث، والطلاق؟ اسمحوا لي أن أسلط الضوء علی نقطتین علمیتین هامتین في هذا الخصوص:
النقطة الاول: ان هذه الاحکام بحسب الظاهر تدل علی وجود الفرق بین المرأة والرجل،أو الفوارق التي بینهما، أو یمکن القول بأن هذا الفرق یسوق الی الظلم والإجحاف بحق المرأة؟ وإذا حدد الاسلام إرث المرأة نصف الرجل، وشهادة المرأتین تعدل شهادة رجل واحد،ودیة المرأة نصف دیة الرجل، فهذا یعني أن المرأة قد ظلمت في الإسلام؟ وأقول في الجواب عنه: إن من لهم مثل هذه النظریة،یقبلوا بدایة هذا الأصل بعنوان أنه افتراض مسبق، وهو: أن أحکام الله المتعال ینبغي أن تبنی علی اساس العدالة، و أن الآیة الشریفة: «إن الله یأمر بالعدل و الإحسان»، وقد عدوه دلیلاً أیضاً علی هذا المدعی، وبالنتیجة، فإن نسبة کل حکم إن شاهدناها لا تتعارض مع العدالة، فعلینا أن نغیرها، ونفسّرها ونبیّنها طبقاً للعدالة ولکن هذا خطأ کبیر جداً من وجهة نظري، وقد وقع فیه کبار العلماء من أهل الرأي والنظر مع الأسف والتحقیق هو أننا في الوقت الذي نعتقد فیه أن الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح والمفاسد، ولا یخلو حکم من هذا الملاک، وقد اتفق جمیع الأصولیین من الفقهاء الامامیة علی ذلک، ولکن قبول هذه القاعدة لا یستلزم أن نعتقد بلزوم العدالة التشریعیة، ونقول: ینبغي أن تتطابق کافة الاحکام مع العدالة، لأن العدالة أحد الموارد الموجودة في الملاکات، وربما تکون ملاکات أخری من قبیل التسهیل في الامور، عدم وقوع المشاجرة والنزاع و نظائرها، قد أکد علیها الشارع المتعال.
ویمکن القول في بحث الإرث أن التقسیم لم یکن ملاکاً عادلاً، ولذلک لا یلاحظ أختان متساویتان في الأرث، أیهما غنیة والأخری فقیرة؟وکذلک الأب والأم، لکل منهما السدس، فلا یلاحظ فیهما الاحتیاج وعدم الاحتیاج؟ وأیهما غني والآخر فقیر؟ فمن مسلمات الفقه أیضاً من جهة أن للمیت الثلث من ترکته، یوصي أن ما یطالب به منحصر بذلک الثلث، فهل أن هذا الثلث قائم علی معیار العدالة؟ ولو قال الله بالنصف أو الربع، فهل یخرج هذا علی العدالة؟ ومن الواضح أن الله المتعال طبّق هذا التقسیم علی ملاک آخر، وذلک الملاک هو غیر ملاک العدالة ومثال آخر: في مورد شهادة المرأة، ینبغي أن لا یتصور أن عدم قبول شهادة المرأة في کثیر من الموارد، أو أن شهادة امرأتین تعادل شهادة رجل واحد، ینبغي أن نفسره علی ملاک العدالة، بل من الممکن في باب الشهادة أن یجر ذلک غالباً إلی نزاع ومشاجرة، وأن الله المتعال قد جعل هذا الحکم لحفظ النساء من تعرض من یشهد علیه ویؤیده: ما ورد في بعض الروایات والفتاوی من قبول شهادة المرأة في الأمور التافهة والضئیلة، بقولهم«تجوز شهادة المرأة في الشيء الذی لیس بکثیر في الامر الدون ولا تجوز في الکثیر»ومن الواضح أن المرأة أن فقدت قیمتها في الإسلام أساساً،کان اللازم من ذلک رفض شهادتها في کل شيء، کما أن شهادة الطفل والمجنون لا تقبل في کل شيء.
ولو أنکرنا في مورد ملاکات الاحکام، عموم العدالة التشریعیة وکلیاتها، وقبلناها بنحو الموجبة الجزئیة، واعتقدنا أن الاحکام کما أنها تابعة للملاکات،فإن المصالح و المفاسد الزاماً لا تختص بالعدالة فقط، وأن هناک عناوین و جهات أخری أیضاً لها عنوان الغایة، وأن هناک کثیر من الاشکالات التي ذکرها المثقفون ومدافعوا حقوق المرأة حول الاحکام المتعلقة بالمرأة في الفقه قد أجیب عنها.
ولو قبلنا في باب الدیات، أن تعیین الدیة لیس علی اساس قیمة الانسان، لیشکل مثلاً: لماذا دیة المرأة نصف دیة الرجل؟ بل أن الدیة غرامة تدفع بدلاً عن العقوبة والجریمة، وهي یمکن أن تختلف بحسب الموارد، وقد اقتضت الإرادة والحکمة الالهیة بحسب المصلحة العامة بقاء النسل البشري،ولزوم دفاع الرجال عن العوائل والأسر والمجتمع البشري، وأن یقرر الإسلام فرض عقوبات صارمة وأکثر علی قتل الرجل، وفي هذه الصورة، یجاب علی هذه الاشکالات، ولا یلزم من جعل المسائل الاقتصادیة محوراً،لیشکل في الجواب: أن نساءنا یشاطرن الرجل في أعماله الیومیة في القطاع الاقتصادي أیضاً وعلی کل حال، بعد أن ارتضینا وسلمنا بالحکمة الربانیة والإلهیة المتعالیة، فإننا نعلم بهذا القدر:أن کل حکم یقوم علی أساس هذه الحکمة، قد نجهل به ولا نعلمه،أو یعلم بعض جهاته، وتخفی علینا جهات أخری.
وننقل هنا کلاماً للمرحوم المحقق الحائري مؤسس الحوزة العلمیة في قم، فقد قال سماحته في بحث الأقل والأکثر[في خصوص أدلة القائلین بالاحتیاط بالنسبة للاکثر، الذین تمسکوا بلزوم تحصیل غرض المولی، وقول المرحوم الآخوند الخراساني والشیخ الأعظم الأنصاري قدس سرهما: إن هذا الدلیل مبني علی نظریة المعتزلة والامامیة الذین یرون أن الاحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد، أما إذا قبلنا نظریة الاشاعرة، فسیسقط بعد ذلک هذا الدلیل عن الحجیة والاعتبار]: «لیس هذا الکلام مبنیاً علی قواعد العدلیة القائلین بوجود المصلحة والمفسدة، لوضوح أن لکل آمر غرضاً فی اتیان المأمور به و إن کان جزافاً»، إذ تصرح هذه العبارة: أن للآمر الذي یأمر غرض، وهذا الغرض هو غیر المصلحة والمفسدة. نعم،قد یکون هذا الغرض في بعض الموارد هو امر غیر صادر من الله عزوجل، وهو جزاف، وأما الغرض غیر الجزاف فهو لا ینحصر بالمصلحة والمفسدة في المتعلق أو في نفس الأمر. وقد ناقش المرحوم المحقق الأصفهاني في نهایة الدرایة 4 / 299 هذا الکلام، والتعرض لهذا خارج عن منهجیة البحث هنا.
ونستنتج من النقطة الأولی أن مسألة العدالة التشریعیة لا یمکن قبولها ملاکاً في کل الأحکام، وعلی نسائنا المؤمنات وأخواتنا الفاضلات العالمات الالتفات إلی أنهن إذا شاهدن فارقاً بینهن مع الرجال في عدة موارد بحسب الظاهر في الفقه الاسلامي، فسببه التمییز في القیمة، ولیس عدم رعایة العدالة، إذ لکل مشرع للقوانین ملاکات تخصه أساساً، فالتنظیم في الامور، استمرار لحیاة المجتمع الانساني، وعدم وجود مشاجرة، ونظائرها، وهي من الأمور التي تلفت نظر المشرّع.
قال الامام الخمیني(رضوان الله تعالی علیه)في أحد خطبه: لم یکن الهدف الأساسي للانبیاء العظام تشکیل الحکومة الاسلامیة و الالهیة، وإقامة العدل فحسب، بل کان هدفهم أسمی من ذلک، وهو أن یکون البشر والإنسان عارفاً بالله، وأن یصل بحد معرفته وعلمه إلی الذات الأحدیة اللامتناهیة.
وعلی هذا یمکن القول: بأن هناک غایة وملاک آخر هو غیر مسألة العدل أیضاً، ولهذا فما قیل: إن المطلب المعروف القائل بان کافة الملاکات ینبغي أن تنتهي إلی حسن العدل أو قبح الظلم، هو مطلب غیر صحیح وغیر تام، بل إن وراء هذه القضایا أو إلی جانبها ملاکات أخری أیضاً، وخاصة في سنّ-بفتح السین- وتشریع القوانین والمشرع، فإن لها مؤشراتها وخصائصها المتعلقة بها، أما في باب المعاملات، فلا یمکن أن نفسر صحة المعاملة علی أساس العدالة، والا فالعدید من المعاملات عند الشارع أو حتّی العقلاء لها عنوان المعاملة الصحیحة، لکن علینا أن نعتقد ببطلانها.
روی الشیخ الطوسي في الأمالي وصاحب الوسائل في ج 27 ص 167 من کتاب القضاء ابواب صفات القاضي الباب 12 ح 45 عن النعمان بن بشیر قال:«سمعت رسول الله(ص) یقول:«إن لکل ملک حمی،وإن حمی الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بین ذلک». ویستفاد من هذه الروایة أن لکافة القوانین الالهیة حمی، لا ینبغي تخطیها وتجاوزها، بل ینبغي الحفاظ علیها تماماً، فهل أن المشرع الذي له هذا القدر من شأنیة وصلاحیة سنّ وتشریع القوانین، أن یکون له الحق بوضع حدود معینة في کل شيء، ولا یکون هذا بنفسه عاملاً مهماً؟ ولو أخذنا بنظر الاعتبار صلاحیات سن وتشریع القوانین لله، فحینئذ وإن کانت القوانین علی ملاک قبول العرف أیضاً، فهل لا یلزم التبعیة والالتزام کذلک؟ وینبغي عرض هذا السؤال وهو: ما سبب لزوم التبعیة في مورد القوانین الإلهیة؟
ومن الواضح أن سبب لزوم التبعیة هو أن الله تبارک و تعالی بعنوان کونه خالقنا و مالکنا، فله الحق من هذه الجهة أن یضع حدوداً معینة لأفعالنا وسلوکنا في کل الأمور، ولکن بما أنه حکیم، فإن له غایة خاصة حتماً، إلا أن هذه الغایة لزوماً سوف لن تکون مسألة العدالة أبداً.
ویمکن أن نشیر في هذا المضمار إلی مسألة نجاسة الکفّار والمشرکین، وقد قبل کثیر من فقهاء الاسلام ذلک، إذ من الواضح أن هذه النجاسة لیست بسبب وجود القذارة والوسخ علی أبدانهم، یعني صیانة المسلمین عن أخلاق و آداب و سلوک الکفار. وبعبارة أخری: المصالح و المفاسد هي في نفس موضوعات الأحکام. أما في الاحکام الشرعیّة، فلا یلزم أن تکون في نفس الافعال أو في نفس اوامر هذه الملاکات. بل یمکن أن یؤثر البعض ومن جهات خارجیة في جعل الأحکام وقد صرح الامام الخمیني رضوان الله تعالی علیه بهذا المطلب في (تهذیب الاصول 3 / 76، طباعة جامعة المدرسین).
المؤید الآخر في هذا الخصوص: هي الأحکام الظاهریة فقد ذکر في موارد الأصول العملیة، ومن لهم باع في معرفة أصول الفقه: بأن مجری البراءة، الاحتیاط، التخییر، أو الاستصحاب، لا ینشأ عن رعایة العدالة و ملاکها أبداً، بل أن هناک ملاکات أخری قد أخذها الله المتعال بنظر الاعتبار.
ویؤید هذا القسم ما قاله المرحوم العلامة الطباطبائي في ذیل الآیة الثانیة من سورة الملک، قوله تعالی: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»: «إن حسن العمل والصلاح غایة لخلق الإنسان لا لنفسه،وامتیاز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملاً هم المقصودون بالخلقة، وغیرهم مقصودون لأجلهم» وعلی هذا یمکن أن نقول: إن لا حسن ذاتي لنفس العدالة أیضاً،بل إن حسن العدالة متعلق بجزاء یوم القیامة و بعبارة أخری: إن لم یترتب للعدالة جزاء أخروي، فلا یمکن القول إنه بذاته له قیمة وأما من تمسک من أهل الفکر بالآیة الشریفة: «إن الله یأمر بالعدل والاحسان» لاثبات هذا المدعی: وهو أن کافة الأحکام قائم علی أساس العدالة فینبغي القول في جوابهم: لا تدل هذه الآیة الشریفة علی هذا المدعی أبداً، بل ظاهرها هو أن الله تبارک و تعالی أمر برعایة العدل بین الناس، أي بمعنی رعایة الناس للعدل في علاقاتهم الاجتماعیة والأعمال التي تمتّ لهم بصلة، کما أمر بالإحسان أیضاً.
ولا تدل هذه الآیة الشریفة أبداً بأن کل حکم صادر من الله هو مبتني علی العدالة، فهذه الآیة لا تبین ذلک. والنقطة التي ینبغي التدقیق فیها هي: أن الروایات المبیّنة لعلل الاحکام لا تشیر إلی مسألة العدالة أبداً، بل فیها إشارة إلی أصل المصلحة.
فقط روی المفضّل بن عمر عن الامام الصادق(ع) قال: «لکنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما یصلحهم، فاحله لهم و اباحه، تفضلاً منه علیهم به، لمصلحتهم و علم ما یضرهم، فنهاهم عنه، وحرم علیهم» و روی محمد بن سنان ایضاً عن الامام الرضا (ع) قال: «إنا وجدنا کل ما أحلّ الله، ففیه صلاح العباد وبقائهم، ولهم الیه الحاجة التي لا یستغنون عنها، ووجدنا المحرم من الأشیاء لا حاجة بالعباد الیه، ووجدناه مفسداً» وقد أشارت هذه الروایة إلی دوام وبقاء النسل البشري، ولا علاقة لهذا بمعیار العدالة.
النقطة الثانیة: عندنا بحث في الأصول لم ینقحه کبار العلماء مع الأسف قد ورد في متن الکفایة و متن خارج الأصول، وقد استعرضه في الأساس المرحوم المحقق النائیني، وأقوی منه وأدق المرحوم المحقق الإصفهاني، وهذا البحث مهم وأساسي في الأصول جداً، أرجو أن تلتفتوا إلیه بدقة، ولو أن المجال لا یسع، ولا أستطیع أن أوضحه أکثر البحث هو: هل أن علی المکلّف في الشریعة أن یتابع أمر ونهي الشارع فقط بأي أمر کان؟ أم أن علیه أن یتبع تحصیل أغراض الشارع أیضاً؟ ویشاهد هل یترتب مورد علی غرض الشارع فیمتثله أم لا؟ وإن لم یکن هناک تکلیف بحسب الظاهر في هذا المورد، أما الأبحاث التي أوجدت الیوم بعنوان الفقه فلها مقاصد، قد سبقنا أهل السنة بذکرها قبل مئات السنین، وأقول هنا: إن فقه اهل السنة أخذ یعرض نفسه قلیلاً قلیلاً في میثاق حقوق الإنسان، لیتخلوا عن کافة فتاوی أسلافهم، والجهة المهمة فیه أیضاهي: أنهم یریدون معرفة أن یری الفقیه: ما هي أغراض الشارع؟ وهل أننا مکلفون بمعرفة أغراض الشارع؟ لنتجه نحوهاوأن نتصرف في بعض الموارد بظاهر بعض النصوص التي تتعارض مع غرض الشارع فالبحث هنا هو: هل نحن مکلّفون أن نلتفت إلی أمر ونهي الشارع، أم أن علینا أن نستعرض بحث الأغراض والمقاصد؟
هناک کلام للمرحوم النائیني في المجلد الرابع من فوائد الاصول، إذ یقسم الغرض إلی نوعین، فیقول: إن نسبة بعض الأغراض إلی فعل المأمور به، هو کنسبة المعلول إلی علّته التامة، ونسبة بعض الاغراض إلی فعل المأمور به، هو بمنزلة نسبة المعلول إلی العلل الاعدادیّة.ثم یضرب للقسم الأول مثالاً، فیقول: افرضوا في مورد یکون الغرض فیه ذبح حیوان، ویقول الشارع: ینبغي فري الأوداج الأربعة فیه، فتکون نسبة هذا الذبح بفري الاوداج الأربعة کنسبة المعلول إلی العلّة التامة، أما إذا أمر الشارع بالزراعة مثلاً، فغرضه أن یجني الحنطة، فیقول هنا: إن نسبة المعلول إلی الزرع کنسبة المعلول إلی العلل الاعدادیّة.
وهذا التقسیم هو من ابداعات المرحوم النائیني، یقول:أما تحصیل غرض النوع الأوّل فواجب، فیما إذا کانت نسبة الغرض إلی فعل المأمور به کنسبة المعلول إلی العلل التامة،ثم یقول:فتحصیله واجب، اما في القسم الثاني، فإنما یکون الامر خارج عن قدرة المکلّف، فیما إذا کان تحصیل الغرض غیر واجب!وکأن المرحوم النائیني یرید أن یقول في الحقیقة:أینما کان الغرض امر حتميِ مقدور،فإن تحصیله واجب،وأما إن کان للشارع غرض،إلا أن هناک عوامل أخری دخیلة أیضاً مضافاً إلی هذه الافعال الظاهریة التي نؤدیها،وهي خارجة عن قدرة البشر،فذلک فیما إذا لم یکن تحصیل الغرض لازماً! هذا هو مبنی المرحوم الخوئي في مصباح الاصول2 / 437،وقد عده محل إشکال،وقد استعرضنا نحن هذا في بحثنا خارج الأصول في العام الماضي (91 ـ 90) في الدرس 102 وبعده،وناقشنا فیه کلام النائیني.
کلام للمرحوم المحقق الأصفهاني:
للمرحوم المحقق الأصفهاني تحقیقاً ذکر فیه کلاماً للامام الخمیني و آیة الله الخوئي(قدس سرهما) قبلا فیه أصل المطلب بتعابیر أخری أیضاً،إذ یعد هذا التحقیق من أقوی وأجمل تحقیقات المحقق الإصفهاني، فهو یقول: الغرض علی ثلاثة أقسام: غرض فیه وجوب عقليِ نفسي، شرعیاً کان أم لا، أمراً من ناحیة الشارع أم لا، کحفظ النفس، فهو أحد الاغراض العقلیة، وحفظ النسل أو المال هما من الاغراض أیضاً، فلا یلزم أن یقول الشارع: حافظ علی نفسک، نسلک، ومالک القسم الثاني: هو الوجوب العقلي المقدّمي. وهو غرض یکون مقدمة لاثبات امر ما. اما القسم الثالث: فهوالغرض الشرعي المولوي. إذ لا یجب تحصیل هذا الغرض الموجود في کثیر من الواجبات والمحرّمات. ویقول أکثر من ذلک: بأن هذه الأغراض لا تتعلق بالتکلیف أصلاً، «لیس مراداً و مطلوباً لا بالذات و لا بالعرض فلیس بواجب».
ثم یضیف المرحوم الأصفهاني: ولا یلزم للملاکات في الاحکام الشرعیة المولویة أن تکون نفس ملاکات الحسن والقبح عقلیة أیضاً، بل إن عندنا قسمان من الاحکام الشرعیة: قسم من الاحکام الشرعیة المستندة إلی الاحکام العقلیة، افرضوا أن الشارع یقول:الظلم حرام، والعقل یقول: الظلم حرام أیضاً، فمثل هذه الاحکام هي الملاکات العقلیة، یجب فیها تحصیل الملاکات العقلیة ورعایتها، ولا بحث في ذلک أبداً. إلا إن عندنا أحکاماً شرعیة الکثیر منها یعد من هذا القسم الثاني،وهي:الاحکام المولویِة الشرعیة لا تستند إلی الاحکام العقلیة.
فالإرث هو حکم شرعي، لا یستند أصلاً إلی الاحکام العقلیة، فیرث أخوین اثنین بنفس المقدار،قد یکون أحدهما غني والآخر فقیر، أو ترث اختین بنفس المقدار، قد تکون أحدهما غنیة والأخری فقیرة، أو أحدهما عالم والآخر جاهل، أحدهما متق والآخر فاسق، فالشارع هو الذي شرّع هذا الحکم، وهو حکم مولوي شرعي، له غرض شرعي أیضاً، ولکن الغرض الشرعي هذا لا یکون متعلّق الأمر والنهي أصلاً، فیکون للمرحوم الإصفهاني هنا بحث دقیق جداً و لطیف، إذ یقول: إن کافة الحیثیات التعلیلیة في الاحکام العقلیه، تقییدیة، یعني ولو في الظاهر الحیثیة تعلیلیة، إلا أنها في الواقع تقییدیة، فیجوز الضرب للتأدیب مثلاً، فعنوان التأدیب ولو في الظاهر تعلیلي، إلا أنه في واقعه موضوع للحکم وتقییدي، یعني أن للعقل حکم بالنسبة للادب، ولکن لا حکم له في خصوص الضرب، وأما في الاحکام الشرعیّة فالعکس من ذلک،(ولنا في بحث الأصول حاشیة علی هذا الکلام) لکن له هذه الدعوی أن یقول: إن لکافة الاحکام الشرعیّة حیثیات، تتواجد فیها حیثیة تعلیلیة، فعندما یقول الله عزوجل: «أن تضل احداهما فتذکر احداهما الاخری»، فإن فیها حیثیة تعلیلیة،وقد شاهدنا في کلمات الفقهاء من زملائنا أنهم قالوا: لقد أطبقنا علی الصمت لسنوات عدیدة ولم نحر له جواباً في العالم حول مسألة: لماذا شهادة امرأتین تعدل شهادة رجل واحد؟ مع أن القرآن الکریم قال: «أن تضل احداهما فتذکر إحداهما الاخری». فنستنتج بوضوح من ذلک، أنه یکفي إن تذکرت إحداهما ولم تضل، ویصح هذا الکلام فیما لو اعتقدنا أن هذه الحیثیة هي حیثیة تقییدیة، ونقول إن الشارع هو الذي قال: عدوها ملاکاً، ولو لاحظتم الروایات الواردة في باب الشهادات، فأي إمام جاء لیلفت النظر إلی هذا الملاک؟ وکیف أننا نقول في بحث الربائب: «وربائبکم اللائي في حجورکم»، فیها قید غالبي، لا حیثیة تقییدیة، إلا أننا إذا وصلنا إلی هنا نقول: إنها حیثیة تقییدیة.
ویترتب علی کلام و تحقیق الإصفهاني آثاراً هامة جداً، وإن لم یکن هو قد صرح بذلک.
1) فبناءعلی هذا التحقیق،سیزول وینتهي البحث المعروف بالعلة والحکمة والفرق بینهما،فلا ینبغي أن نبحث: هل أن المورد الفلاني،التعبیر الفلاني الذي فیه هو علة أو حکمة؟وأن ما ذکر لکافة الأحکام من علل الأحکام،لها عنوان الغایة والغرض، یمکن أن یترتب علی الفعل،ولکن لا یجب تحصیله.
2) بدل مسألة العلة والحکمة، ینبغي سوق الملاک نحو الحیثیة التقییدیة والتعلیلیة،ونحو کل ما بینه الشارع في الاحکام الشرعیة الغیر مستندة إلی الاحکام العقلیة،إذ له عنوان الحیثیة التعلیلیة.
3) من الآثار المهمة المترتبة علی هذا التحقیق هو رفض نظریة حق الطاعة.
وینبغي الالتفات والتوجه إلی هذه النقطة وهي: أن هناک کثیراً من الوظائف والمسئولیات قد رفعت عن المرأة، کالشهادة مثلاً، فهي مسئولیة، یحرم کتمانها أیضاً، فجاء الشارع وخففها عنها، فألقی هذه المسئولیة علی عاتق اثنین من النساء، أن تضل إحداهما فتذکر إحداهما الأخری، وغیر متوفر هذا المطلب في مورد الرجلین،فلو شهد رجلان،فقال أحدهما:ظللت ونسیت فذکرني!فالقاضي یقول:لا یمکنني أن أقبل هذه الشهادة!ولکن الله وضعها وصححها في مورد المرأتین،فنأتي بعد ذلک ونشکل مثلاً: لماذا صارتا انتین ولم تصیرا ثلاثة أو أربعة؟ ولماذا لا تقبل شهادة المرأة في القضایا المالیة؟!وفي الحدود أیضاً،لا تقبل شهادة المرأة في کثیر من الموارد أصلاً وفي باب الشهادة علی الطلاق!إذ لو شهدت مائة امرأة وقلن:إن الرجل الفلاني طلق امرأته! فهذه الشهادة مرفوضة ولا تقبل. فماذا نصنع هنا؟ وما هذا الفهم والتصور عن الفقه؟ الاجتهاد ظریف و دقیق جداً، ومن لا یجلس علی مائدة المرحوم الإصفهاني والنائیني والخوئي والإمام (رضوان الله تعالی علیهم)، فلن یتذوق حلاوة طعم الفقه،وما في الاجتهاد من أجزاء دقیقة سیعثر علیها،وسوف لن یصل إلی حقیقة الفقه،فلا یحق لنا أن نقول نحن هکذا: فلیتساوی إرث الرجل والمرأة بعد ذلک؟!فما شأننا نحن بذلک؟
روي في تفسیر الإمام الحسن العسکري علیه السلام روایة لطیفة عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «جاءت امرأة فوقفت قبالة رسول الله صلی الله علیه وآله وقالت: بأبي أنت وأمي یارسول الله، أنا وافدة النساء إلیک، ما بال المرإتین برجل في الشهادة وفي المیراث، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: یا أیتها المرأة، إن ذلک قضاء من ملک عدل حکیم لا یجور ولا یحیف ولا یتحامل» ثم قال صلی الله علیه وآله: «إن إحداکن تقعد نصف دهرها لا تصلي بحیضة عن الصلاة لله وإنکن تکثرن اللعن» هذه أمور قد ذکرها النبي صلی الله علیه وآله جواباً، ألم یکن بإمکان تلک المرأة في تلک الفترة أن تقول: إنني من الممکن أن لا أضل وأسهو، فتذکر احداهما الاخری، أو إذا دققت المرأة فقد لا تسهو وتنسی، أو تتعهد وتلتزم أن لا تلعن، فهل یرفع هذا الحکم وینتفي؟ أم أن هذه المرأة فهمت أن أغلب النساء في کافة العصور والأزمنة تمتلک مثل هذه النفسیة، وأن الله تعالی أصدر هذا الحکم من خلال الالتفات إلی هذه الحالات، وهذا المطلب لا یدعونا إلی أن نرفع أیدینا عن فقهنا، الفقه الذي طوی مسافة ألف وأربعمائة عاماً بعمق، ولیس الأمر کذلک أن فقهاءنا لا یعلمون حکم هذه المسائل؟ وطرحت الیوم مسألة حقوق الإنسان بالتوجه إلی هذه المطالب، وقد شاهدت في کلام أحد فلاسفة إیران قال: لم تکن عناوین ومفاهیم حقوق الإنسان انتاج محلي في الداخل، بل هو من برکات الغرب، مع أنکم لو لاحظتم ذلک، فمع أن هذه المرأة ترعرعت في عصر الجاهلیة، عرضت تلک الإشکالات برحابة صدر وثقة تامة علی رسول الله صلی الله علیه وآله، واستمعت منه الإجابة، ولهذا، فلیس من الصحیح أن نأتي ونصطدم معه ونواجهه.
أرید أن أقول: إن أمام الفقهاء والمراکز الدینیة مسئولیات ووظائف کثیرة جداً، وعلینا أن نبذل وقتاً طائلاً للدفاع عن الدین، ونتأمل أکثر،ونفهم الدین علی حقیقته بشکل أفضل وأحسن، وأما أن نقول: لا یعتني الفقهاء بکل ذلک، ویقول: لا نعیر أهمیة لما یجري حولنا من أمور، فهذا خطأ وغیر صحیح. بأن نفکر بسذاجة وسطحیة ونقول: إن بعض مواد هذا المیثاق هو کل ما یفرضه الإسلام ویقول به، فهذا خطأ أعظم، بل ینبغي رعایة الإنصاف والاعتدال، والدخول إلی الساحة من خلال الوعي والتسلح بالعلم، فلیأتي السادة الأفاضل ویتناقشوا، ویستعرضوا هذه الإشکالات التي ذکرتها، ولعل للآخرین مثلها أیضاً، وأما أن نقول: فلندع المیثاق جانباً، فهذا غیر صحیح أیضاً، بل علینا أن نحتفظ بالإطار الدیني للاجتهاد وتحلل مواد هذا المیثاق وغیره بدقة، ولم یحن الوقت لأبین دور تأثیر الفقه الحکومي في هذا المجال، ویبق هذا لنتناوله في حلقات أخری قادمة.
أقدم شکري الجزیل لکافة الأخوة الذین تحملوا عناء الاستماع، وأعتذر منهم علی الإطالة، وإن علق في أذهانهم بعض الاشکالات أو الاستفسارات، فأنا مستعد لاستماعها، وأجدد شکري مرة أخری لکافة الأخوة العاملین في المرکز الفقهي الذین صبروا وتحملوا خمسة أیام لإقامة هذا المهرجان العظیم، آمل أن یکون هذا العمل في لیلة الولادة السعیدة والمشرقة لإمام العصر«عج» محل رضاه، وأن نوفق نحن وأنتم وکافة الحوزویین للتصدي والدفاع عن الدین والفقه والحدود الإلهیة بمعناها العامّ ان شاء الله.
لقد کان من الضروري جداً إقامة هذه الدورة ولأول مرة،وإن کان تنفیذه متأخراً في الحوزة العلمیة. من الواضح أن الهدف من إقامة هذه الدورة هو أمران:
الأول: تعرف الشباب الفضلاء والباحثون الحوزیون بما یدور الیوم في أروقة العالم، ویتناقل فیه من اتهامات للحوزة العلمیة علی أنها مجموعة مغلقة وضیقة، لاعلم لها بما یدور حولها من تحرکات دولیة وعالمیة، وما یقع من أحداث في العالم فالحمد لله لم تتعرض حوزتنا العلمیة لهذا الإشکال بعد، ویمکنني أن أدعي الیوم بحق أن رجل الدین وطالب العلوم الدینیة الباحث والمحقق في الحوزة مطلع علی أجدّ الأفکار وأحدثها، وتحدیداً في باب الفقه و الحقوق، أما الأبحاث الفلسفیة، فقد یرافقها نوع من آراء ونظریات الغرب، لم تکن تعرض کما ینبغي لها أن تعرض في موسوعتنا العلمیة، أما في باب الحقوق، فالأمر لیس کذلک، والحوزة مطلعة ومشرفة تماماً علی کل ما یجري من حرکة علمیة للمراکز الدولیة والعالمیة في باب الحقوق، إذ تتوفر في هذه المرحلة إمکانات أکثر للفضلاء في کوکبة سیر تحقیقاتهم وأبحاثهم الفقهیة، فعندما تتداعی الأسئلة والشبهات الموجودة في زوایا ذهنه، یحصل لدیه حینئذ دراسة وتحلیل للأدلة وأسالیب الاستنباط بشکل أعمق وأوسع قطعاً، وسیکون فهم مجموعة الدین أقوی وأعمق في النتیجة.
الثاني: هو أن نری وجهة الحرکات العالمیة ومنطلقها؟هل تتجه نحو الاصلاح، النمو وایجاد العدالة والسلام؟ یعني أن نقوم بتحلیلها بقطع النظر عن المباحث العلمیة، الدینیة و الفقهیة، لمعرفة اتجاهها وحرکتها، هل هي کظاهر الأوامر والمواثیق والبیانات الصادرة، التي تسعی لایجاد وحدة متکاملة في مجموعة حقوق الإنسان والعالم، وممارسات العدل والمنع من تفشي الظلم،أم لا؟
فقد مضی ما یقارب السبعین عاماً علی صدور میثاق حقوق الإنسان. أننا إن أردنا تقدیم مقارنة بما کان قبل صدور هذا المیثاق، هل نشاهد هذا الأثر أم لا؟ وهذان الهدفان هما أساس بحثنا هنا وقد جاء من الأساتذة المحترمین في الخمسة أیام هذه، فبینوا نظریاتهم، وهذه المطالب طبعا هي نظریاتهم الشخصیة، سواء کانت مجموعة شبهات و اشکالات ذکروها أو حلولاً، لکن هدفنا هو عرض مجموعة من المباحث، وقد تحققت مثل هذه الخطوات و الحمد لله. وهذا هو بدایة الطریق، فعلی الفضلاء و المحقّقین الباحثین أن یکتبوا تبعاً لذلک مقالات وأبحاث قویة، وعرض دراسات للأزمات الحادة والدعاوی بشکل کامل ومنطقي، وأنا أری أننا لو أردنا أن نمتلک مجموعة أقوی ان شاء الله في العام القادم في هذا المرکز الفقهي، فسنواجه عشرات المقالات القویة والنظریات الراسخة و المستنبطة من عمق المصادر الدینیة وفي إطار الاجتهاد إن شاء الله.
وأنتم أیها الفضلاء قد بذلتم اهتمامات کبیرة وواسعة في هذا المجال، وفي هذه الخمسة أیام في هذا الفصل الحار، أشکر الله علی ما حدث من حرکة وتواصل وأبین مطالبي حالاً في ثلاث محاور، ثم استنتج في نهایة البحث: دور ووظیفة الفقهاء و المراکز الفقهیة بالنسبة إلی هذا الموضوع؟ والحلول العاجلة التي ینبغي وضعها في هذا الصیاغ.
المحور الاول: دراسة وتحلیل المیثاق الصادر حول حقوق الإنسان، وبعض المواثیق المتأخرة، بقطع النظر عن وجود الفقه، بل نری أساساً هل أنها تتضمن فقرات حول حقوق الإنسان أم لا؟
المحور الثاني: هل أن صدور هذا المیثاق یعاني من تحدیات المجامیع الدینیة أم لا؟ یعني من قبل الشرائح المتدینة، وأتباع الأدیان السماویة تحدیداً، وهل هناک تعارض بینها أم لا؟
المحور الثالث: بحث خصوص التعارض مع فقه الامامیة والشیعة والفقه الاسلامي أیضاً بشکل أوسع.
وأما سبب فصلي المحور الثاني والثالث عن بعضهما، فلعل البعض یقول: أننا لو قمنا بترمیم وإصلاح الاجتهاد قلیلاً، والتفتنا إلی بعض الأمور الهامة والمؤثرة في عملیة الاستنباط، وأخذنا بنظر الاعتبار الملاکات والمقاصد، فإنه یمکن التلاحم والحرکة باتجاه واحد ورفع التعارض، ویکون سؤالنا آنذاک هو: ماذا تفعلون في التعارض مع الدین؟
أما المحور الاول:
في اعتقادي أن علی کل فرد أن یطالع ولعدة مرات هذا المیثاق، وتحدیداً مقدمته ودیباجته بدقة تامة، وأن یحلل الثلاثین مادة التي یتضمنها هذا المیثاق، فمن کان قادراً علی التنظیر في مجال الحقوق، لیقل: هل أن هذا المیثاق الصادر لبیان حقوق الإنسان صالح ومقبول أم أن هناک فیه إشکالات وخلل ونواقص؟
وقد لاحظت کلاماً کثیراً بین مؤید ورافض لها، وتردد کلام کثیر منهم عنها، وقد اکتفی البعض ببعض المواد الصادرة عنه، والتي هي بحسب الظاهر جمیلة جداً، وقد یقال عنهم في بعض تعابیرهم: إن هذه المواد هي بعینها أوامر موجودة وثابتة في دیننا الإسلامي، وسألفت النظر إلی جانب الانطباق علی الدین في المحور الثاني، ولکن اللازم تحلیله کما یبدو هو: من الذي کتب هذا المیثاق؟ وماهي مطالباته بشکل محدد؟ وما هي توجهات ونوایا کتابة هذا المیثاق؟ وهل أن الذین نهجوا هذا المنهج تنتج هذا حقیقة أم لا؟
وهنا أشیر إلی بعض الإشکالات الواردة علی هذا المیثاق کما یتبادر إلی ذهني، قد تکون منشئاً للکثیر من الأبحاث وتحتوي دیباجة هذا المیثاق علی سبعة مطالب مهمة:
المطلب الأول: الاعتماد علی مسألة الحرمة الذاتیة للإنسان، وعدها أساساً ورکنا مهماً للصلح والسلام والعدل والامن وعناوین أخری، وسؤالنا هو: ما معنی الحرمة الذاتیة للانسان؟ ومن القادر علی أن یفسر لنا الحرمة الذاتیة أساساً؟ وأي مجمع و مرکز قام بتنقیح الحرمة الذاتیة للانسان؟ وبأي المعاییر؟ وهل أن الحرمة الذاتیة للانسان تعني أن للإنسان قیمة وکرامة ذاتیة تفتقدها الموجودات الأخری؟
وإذا أردنا أن نقول بهذا، فمعناه أن الإنسان بما هو عاقل، وفي الوقت الذي کتب السادة هذا المیثاق، قد أصروا علی یکون موضوع هذا المیثاق هو الانسان بما هو انسان، فإذا کان الانسان بما هو انسان یضم أشخاصاً یمتلکون قوة عاقلة بالفعل، وهذه الفعلیة غیر متوفرة فیهم، لعارضٍ من العوارض، کأصابتهم بالجنون والعاهات مثلاً، فهل تریدون علی کل حال إخراجهم عن دائرة هذا المیثاق أم لا؟ فلو قلنا: إن المراد هو الإنسان، بقطع النظر عن القوة العاقلة، یعني ان الهیکل الخارجي هو المراد،(لأن بعض المفسّرین في الآیة الشریفة: «ولقد کرّمنا بنی آدم» یقولون: «کرّمنا» یعني: أن هذا الکیان الموزون یتمثل بهذا الموجود ولا موجود آخر سواه)، ومن الواضح أنه لا یکون الموضوع للحقوق، إذ مجرد الکیان الموزون کیف یکون موضوعاً للحقوق، بل إن هذا العنوان فقط یمکن أن یصبح موضوعاً للمدح و الحُسن.
الاحتمال الثالث: المراد بالحرمة الذاتیة هي کون هذا الموجود لازم الاحترام، وهذا هو معنی الموضوع، ولهذا حقوق یمکن أن تطرح. الاحتمال الرابع: بما أن الانسان محیط ومشرف علی کافة الموجودات، وأن هذه الموجودات مسخرة له، فله إذاً حرمة وقیمة ذاتیة وهذا الاحتمال مرفوض وغیر مقبول طبعاً، لأن معنی هذا الاحتمال أن هذا الانسان ولأجل ذلک الموجود والعلة التي سخرت لها کافة الموجودات له، قد أصبح له أهمیة وقیمة، فهي بذاتها لا قیمة ذاتیة لها، بل لها قیمة موضوعة واعتباریة، وفي النتیجة ینبغي سؤال واضعها عن حقوقها . وعلی کل حال هم بحاجة علی أن یبینوا: ما معنی الحرمة الذاتیة؟
وعلینا أن نقول: إن لهذا الانسان إما حرمة ذاتیة أو حرمة مجعولة؟ إذ هي لا تخرج عن کلا الأمرین، فإن کانت مجعولة ،فجاعلها إما أن یکون البشر نفسه أو لا؟ ونفس البشر لا یمکنه ذلک، فلا محالة أن نسیر باتجاه غیر البشر، هذا هو المطلب الأول.
2ـ ورد في الاصل الثالث في هذه الدیباجة هذه العبارة: «علی الإنسان وکآخر تدبیر له أن لا یلجأ إلی استخدام العنف ضد الظلم والاستبداد، بل یبذل قصاری جهده للحفاظ علی حقوق الانسان عن طریق الاحتکام إلی القانون» وهذه العبارة مغلفة بوجهین ومزدوجة أحدهما: ولعل الکثیر أراد منها ذلک، أن علینا أن نوجه أي حرکة واتجاه لطبیعة المجریات البشریة بهذا الاتجاه، وهو أن یحکم القانون، واذا حکمنا القانون، فسیرفض الإنسان الظلم والاستبداد وان یتجه نحوه، وهذا المعنی جید أما المعنی الآخر: فهو محاولته أن یکون عائقاً في مواجهة الظلم والاستبداد وتستبطن هذه العبارة شکلین مزدوجین: یعني طریق مواجهة الظالم محددة بحاکمیة القانون، یعني لو کان هناک ظالم أو بلد ظالم مهما ظلم، فلیس أمامکم سوی الاحتکام إلی سیادة القانون ومواجهته، وهذا هو طرف آخر لتفسیر هذه المادة.
والآن، من هو الذي یرید أن یفسر لنا هذا؟ وقد فسرت بعض المواثیق والمعاهدات هذه المواد أحیاناً، ولکنني لم أعثر علی خصوص هذا المورد أن هذا التفسیر هل هو موجود أم لا؟ ولکننا نقول باعتبار أن هذه المسألة حقوقیة: إن الرجل الحقوقي یتمسک الیوم في المحکمة بمادة حقوقیة بحسب الظاهر، ونحن وظاهر هذا الکلام، نقول: علی الإنسان وکآخر تدبیر له أن لا یلجأ إلی استخدام العنف ضد الظلم والاستبداد، یعني أننا نرید القیام بعمل لا یتجه الانسان فیه إلی هذه الجهة، لکن الدفاع في النتیجة أمر فطري وطبیعي، إذ لو هوجم حیوان ما، فإنه یدافع عن نفسه، ویهجم علی من هاجمه، نأتي نحن ونسد الطریق أمام الإنسان ونقول: إن وقع علیک ظلم، فاذهب الی الجهة والمرکز القانوني، وقد عمل في السبعین عاماً بهذا النحو، یعني لو هوجم بلد ما، فأول رد فعل لحکومة ذلک البلد یصدر مباشرة هو: أنه یبعث رسالة إلی مجلس الأمم المتحدة، وسؤالنا هو: في أي موضع من میثاق حقوق الإنسان قد سمح بمنح هذا الحق في أن یقف بوجه الظالمین؟!فلو هوجمت أسرة مثلاً،فبإمکانها صد هذا الهجوم والدفاع عن نفسها، ومهاجمة هذا العدو الغاشم، حتی لو توقف الدفاع علی القضاء علی العدو المهاجم وإسقاطه، وقد سمح العقل والفطرة بذلک،وأیدته التجربة.
وأنا أبدي عن وجهة نظري: بأن مجموعة هذا المیثاق إنما یتم في نطاق نفي الأمور الهامة للدین، ولو تعمق شخص في ذلک، فسیجد أن معناه نفي الجهاد، وحقه في الوقوف بوجه الظالم. بل رفض إغاثة المظلوم أیضاً، فلو تعرض شخص إلی ظلم، فباعتبار کونه نظیر لي في الخلق، بأي مادة من هذا المیثاق یمکنني نصرته وإغاثته؟ إذ لیس هناک شيء یذکر، سوی الرجوع الی الجهات والمراکز القانونیة فقط، جاءوا وأسسوا مراکز مثل مجلس الأمم المتحدة و... وهي کلها خاضعة لهم، وها أنتم تشاهدون ما یجري في العالم، وما یحل بالبشریة من ظلم. طبعاً أنا لا أرید أن یستبدل البحث إلی بحث سیاسي، بل إننا نقوم بتحلیل وتفسیر هذه المواد.
أما الأصل الرابع من هذه الدیباجة، فقد جاء فیه «إن من الضروري توسیع علاقات الصداقة بین الشعوب» فالسؤال المطروح هو: أي الشعوب تلک التي یتحدث عنها المیثاق؟ هل کافة الشعوب مع بعضها؟ أنا عندما قرأت هذه العبارة، تذکرت جملة قال قائلها: «أن بعض مواطنیننا في البلاد أطلق عبارات بضرورة إقامة علاقات الصداقة مع شعب إسرائیل» فقلت مع نفسي: قد یکون هو أیضاً قد ألهم ذلک من هذا الأصل وکما یقول طلاب العلوم الدینیة: «إن إطلاق هذه المادة یقتضي أن علی الانسان إقامة علاقات الصداقة معهم» فتعالوا أنتم وقولوا کلا إن قصدهم هو إقامة العلاقات الودیة والصداقة مع الشعوب المشروعة. فأي هذه المادة فیها ذلک؟ أنهم یفرضون علی الشعوب إقامة العلاقات الودیة والصداقة مع بعضها، أما أن یجيء جماعة ویطردوا شعباً من أرضهم ویخرجوهم من بیوتهم، فتضیق الأرض بما رحبت بهم، ویشردوا ویضیعوا، ومن ثم یطلق المحتل علی نفسه «شعباً» فکیف یقیموا مع هؤلاء علاقات المودة والصداقة والألفة؟ إن هذا مستحیل من الجانب الفطري والغریزي.
أما الأصل الخامس من هذه الدیباجة: فقد ورد فیها «التأکید علی المساواة بین الرجل والمرأة» یقولون: «تتساوی شعوب الأمم المتحدة في منشور إیمانها، ومن حقوقها الأساسیة: ضرورة احترام ومنح القیمة للانسان، ومساواة حقوق الرجل والمرأة التي تعاهدوا علیها» فما هذا الأصرار منکم في أن تدرجوا مثل هذه المسألة في الدیباجة قبل عرض مواد هذا المیثاق؟ ومن الواضح أن الهدف الأساسي هو رفض مواجهة الظلم، وإقامة علاقات الصداقة مع کل الشعوب، والمساواة بین الرجل والمرأة هذا ما جاء في الدیباجة أو اللائحة وهذه الإشکالات مجملة، وهناک نقاط أخری أیضاً نغض النظر عنها.
نأتي الآن إلی المادة الأولی من لائحة المیثاق التي تنص علی أن: «کافة البشر خلقوا أحراراً وعلیهم أن یعیشوا أحراراً، وهم متساوون في الحقوق والحیثیة والکرامة» السؤال الأول کما نقول نحن طلاب العلوم الدینیة: ما وجه الملازمة بین الکون حرّاً والتساوي في الحقوق؟ مثل أن نقول: إن کل الناس یعیشون حول الأرض، فهم متساوون إذاً في الحقوق، فلیس هناک ملازمة بین الکون حرّاً والتساوي في الحقوق؟ فأي ملازمة في ذلک؟
هذا أولاً وثانیا: لیست الحریة أمراً ولیداً من شيء، بل الحریة في مقابل العبودیة والرقیة هما عنوانان اعتباریان، وهذان العنوانان سواء قلنا إنهما اعتباریان أو انتزاعیان، فمنشأ الانتزاع او الاعتبار یلزم منه أن الانسان الولید لا یمکن أن نسمیة حراً أو رقا، فهو لیس حر ولا رق، ولاشيء منهما أصلاً لکونهما عنوانان اعتباریان أو انتزاعیان، بل هما بحاجة إلی منشأ اعتبار آخر، ولو لم یکن المنشأ واحداً، فالآخر موجود.
ثالثاً: ما المقصود بالحر؟ هل المراد به أن هذا الإنسان یولد مطلقاً حراً؟ کیف؟ وضحوا لنا معنی الحریة رجاء؟ فمن الإشکالات المهمة في کل المیثاق هو أنهم لم یفسروا لنا معنی الحریة أصلاً، ولم یبینوا قیودها، بل ترکوها لحالها علی نحو الاجمال وهنا أبین هذه النقطة وهي: جاء في المادة 18:«من حق کل شخص أن یتمتع بحریة الفکر، الضمیر والوجدان، والدین» فالحریة أولاً: لا معنی لها، فما معنی ذلک؟ وحریة الضمیر والوجدان تعبیر خاطئ إلا أن یکون المترجم قد أخطأ، ولکن البحث هو: ینبغي الاستمتاع بحریة الفکر والدین وقد کتبت في کراسات تتعلق برد شبهات الارتداد ووزعت علی الإخوة ومقتضی میثاق حقوق الإنسان هو التحرر في کل شيء حتی في مسألة اللواط، إذ یستند بعض المنادین بحریة اللواط بهذا المواد أیضاً، وأرادوا القیام بتظاهرة في موسکو احتجاجاً وتندیداً بقرارات الحظر، وأقیمت اجتماعات تدعو إلی ذلک وتندد بحظره، وألقیت خطابات وکلمات تطالب بذلک، إلا أن حکومة موسکو اعترضت بشدة علی هذه الممارسات، مما دعا بهؤلاء إلی تقدیم شکوی للأمم المتحدة استناداً لهذه المادة المذکورة في المیثاق تطالب حریة اللواط.
وقد تساءل البعض: أین جاء ذکر حریة اللواط في هذا المیثاق؟ ونحن نقول: أیلزم التصریح بهذا المطلب؟ فعندما ینادی بحریة الفکر، فإذا التقی فکر رجلین أن یمارسا عملیة اللواط أو الزواج، فیتزوجا فما الضیر في ذلک في منهجهم ومعتقدهم؟ وهم یطالبون بشرعنة ذلک حسب ما جاء في المیثاق؟ ولا علاقة لهذا العمل بالآخرین، إذ لا یتوجههم ضرر من ذلک؟ فیقول رجلان یمارسان عملیة اللواط أو امرأتان تمارسان عملیة المساحقة نحن نعتقد بحقنا المشروع کإنسان أن یمارس حریته المطلقة، من دون فرق بین الرجل والمرأة، فنقیم علاقة الزواج معاً، وأنتم تقولون: إن کل واحد منه یمکنه ممارسة حریاته والقول بحریة الفکر.
وکثیر من الأشخاص ممن یدعون لنفسهم العلم، فالذي یؤسف له أن توجههم وفهمهم لهذه الألفاظ قلیل جداً، هذا المطلب هو بمنزلة اثنین زائد اثنین یساوي أربعة، وهو واضح وسهل، فإذا أعطیت هذه العبارة لأحد لیقرأها ویفسرها، فسیری أن من جملة مصادیق حریة الفکر هي هذه الممارسات المنحرفة واللاأخلاقیة، أما أنتم، فتقولون کلا المراد بحریة الفکر هو الفکر الدیني، إذ لیس في العبارة هذا القید لیقتبس منها أن المراد بحریة الفکر هو الضمیر والدین وجاء تبعاً لذلک، أن هذا الحق یستلزم حریة تغییر الدین أو الاعتقاد، وکذلک حریة اظهار الدین أو الاعتقاد، وسیأتي نقد هذه العبارة في یحث رفض الدین، بأن المادة 18وردت في المیثاق لرفض الادیان الإلهیة و السماویة أصلاً، ولیس لها هدف آخر سوی ذلک وأضیفوا إلی هذا المطلب أیضاً: أنهم ذکروا في أحد المواد قضیة الزواج والنکاح، ولکنهم لم یشیروا إلی قضیة الدعارة واللواط أو المساحقة، ومن الناحیة الحقوقیة: أن ما دام أن القانون لم یحظر ذلک، فهو کاف في الجواز والصحة، وعلی هذا، فإن بإمکاننا أن ننسب قضیة الدعارة واللواط والمساحقة بطریقین إلی ذلک المیثاق.
وهناک إشکال آخر علی المادة18 وهو أننا إذا قلنا: إن علی کل أحد أن یمارس حق الحریة في الفکر، فسیتبعه استلزام کتابة هذا الحق وهو: حریة تغییر الدین أیضاً. وسؤالنا هو أین یوجد هذا الاستلزام؟ فقد نقل إلی أسماعي أن أحد السادة الذین یعدون أنفسهم في زمرة أهل الرأي والنظر، أنه إذا أراد الإشکال بالارتداد، قال: ما هذا المنطق بأن نقول: إن الدخول إلی الدین لا مانع فیه، ولکن الخروج من الدین فیه إشکال؟ وسؤالنا هو ماهذه الملازمة في أنه متی ما دخل اختیاراً أن یخرج اختیاراً أیضاً؟ فما هي الملازمة في ذلک أصلاً؟ فإذا قال الدین مثلاً: إن حکم دیني هذا هو أنه لو دخل شخص بهذا الدین، فلا یحق له الخروج منه؟ إذ کل الأدیان تقول بهذا؟ فبإمکان الشخص أن یرفض هذا من البدایة.
إن هناک نقاطاً فیها نوع من الظرافة في باب الارتداد، لا تستدعي مني أن أخلط بین الأبحاث ففي باب الارتداد مثلاً، قبل الشخص الدین منذ البدایة الدین الذي یقول له: لا یحق لک أن تخرج منه، وقبل هو ذلک، فإذا قال: لا کله قبلته، لکنني أرفض هذا القسم، فسیکون هذا: نؤمن ببعض و نکفر ببعض، إذ هو قبل الإسلام من البدایة، فالخروج عن کافة الادیان السماویة یوجب حکم القتل، وبحث الارتداد لا یخصّ الاسلام وحده، بل نادت به کافة الأدیان السماویة وقد ذکرت في تلک الرسالة أیضاً أن مواجهة حالات الارتداد یمکن استفادتها من القرآن الکریم فقد کانت هذه القضیة في قوم موسی علیه السلام، بعد أن ذهب علیه السلام إلی طور سیناء، أخذ جماعة من قومه بعبادة العجل، یعني أنهم خرجوا عن دین موسی وارتدوا، فعندما رجع علیه السلام، خاطبوه: کیف نتوب؟ فنزل جبرئیل علی موسی علیه السلام وقال: « فاقتلوا انفسکم»، یعني: أن توبتکم هي أن یقتل کل منکم الآخر.
ومحور کلامي هو: لماذا یستدعي حق حریة الفکر، لحریة الخروج منه؟ روما هذا الاستلزام؟ کما لو قیل: إن کل من یخرج من هذه الغرفة دون إذن، فلا یقدر أن یخرج فهل یقد أحد أن یقول: إنني دخلت باختیاري، فلماذا یستلزم خروجي أخذ الإذن؟ فالجواب علیه هو: أن الضابطة في ذلک هي هذه، نعم لو کان هناک مورداً یقول: إن کل من دخل، فمن حقه أن یخرج، فعلیه أن یعمل علی طبقه.
الاشکال الآخر في الماده 18 في حریة الفکر هو: ما هذا الاستلزام بین حریة الفکر وحریة الإظهار له؟ فلو قال شخص مثلاً: عقیدتي هي أن کل البشر مجانین، وأنا عاقل فقط، أو أن کل البشر سراق، فعبارة المیثاق تقول: لا مانع في ذلک، تعال أنت وأعلن عن ذلک، فأي عقل یسمح بذلک؟
أما في آخر الماده 26 وهي مختصة ببحث التربیة والتعلیم فقد جاء فیها: «للأب والأم الأسبقیة في اختیار نوع التربیة والتعلیم لأبنائهم علی الآخرین» فنتسائل: لماذا؟ فإن أردتم أن تتناولوا موضوع الإنسان بما هو إنسان، ولا علاقة لکم بخالق الإنسان، (لأنکم شاهدتم البعض منهم عندما یرید أن یدافع فإنه یقول: لا علاقة لهذا المیثاق بهذه الجهات، ویتصور أن هذا بیان صحیح في هذا المیثاق)، فإذا لم تکن لکم علاقة وارتباط بالخالق والآخرین، فما هو الملاک العقلي في تربیة وتعلیم الأب والأم في حق الأسبقیة والتقدم علی الآخر؟ فطالب المدرسة یعلم أستاذه أنه أي فرع یمکنه أن یختاره تلمیذه ویستمر في دراسته؟ لکن الأب یقول له: بما أنني أبوک، فلا تختار هذا الفرع الدراسي واختر لنفسک فرعا دراسیاً آخر وتقول هذه المادة من هذا المیثاق:إن للأب حق الأسبقیة والتقدم، فأي ملاک صحیح لهذا؟ ونحن نقول: إذا اخترت الأب والأم ملاکاً للإنسان، فلماذا لا تختار الخالق؟ ولماذا لا تبینوا حقوق الإنسان باختیار خالقه؟!
لاحظوا، جاء هؤلاء وصوتوا علی مواد حقوق الإنسان، وعرضوها علینا، وهم یقولوا بملئ فمهم: لا تذکروا اسم الله، ولا علاقة لنا بالله، فلو عرض هنا بحث الأب والأم، فلماذا لا یتناولوا بحث الخالق ومن هم علی شاکلته؟ وذکروا في هذه المادة وفي المادة 29علاقة الفرد بالمجتمع، ولکنهم لم یتعرضوا إلی علاقة الفرد مع الله خالقه، وهذا إشکال وارد علیهم أیضاً وهناک جملة من النواقص المذکورة علی هذا المیثاق:
أحدها: من أمضی هذا المیثاق؟ وبأي ثمن یقدر هذا النوع من التراضي والتوافق؟ وهل أنه لو تراضی اثنین مثلاً، یکون هذا التراضي دلیلاً علی أحقیتهما؟ فلو تراضی اثنان علی قتل شخص مثلاً، أو تراضیا علی بعثرة الأوضاع وتأزیم البلاد، أو سرقة المال العام، فلا یصح منا أن نأتي ونقول: بما أنهما تراضیا، فهو حق مشروع إذاً ویظهر من خلال اللقاءات والحدیث الذي یتناقل عن الأساتذة المحترمین، أن جماعة تمسکوا بقوله تعالی: «أوفوا بالعقود»، فالحکومات التي صوتت علیها شعوبها، قد وقّعوا علی ذلک، وینبغي الالتزام بذلک وتطبیق بنوده، وأنا لا أرید القول: بفسخها وعدم الالتزام والتقید بها، وماذا یکون ویکون...! کلا، فأنا لا شأن لي بذلک، ولکن مقتضی البحث العلمي هو أن التراضي بما هو تراضي، لا اعتبار له عندنا عقلاً ولا نقلاً.
أما من تمسک بقوله: «اوفوا بالعقود»، فهو محکوم ومستلزم لقواعد أخری عندنا،کما لو تراضیا بالإفساد في الأرض مثلاً، فإن القاعدة القویة تقول: «لا طاعة لمخلوق في معصیة الخالق» هي الحاکمة، وأما «اوفوا بالعقود» ونظائرها، فکلها محکومة بتلک القواعد، ولو لم تکن تلک القواعد، فالمراد ب«اوفوا بالعقود» العقود التي لها شروط الصحة، ولیس کل عقد فلا یمکن جعل التراضي ملاکاً، فبماذا یتعلق هذا المیثاق إذاً؟ ینبغي بیان هذا المطلب لنا، ومجرّد التراضي لا یمکن عده أمراً مقبولاً لنا.
أما الإشکال والنقص الثالث فهو: أن مجموعة مواد المیثاق والاعلان الذي یتضمنه تصور الانسان علی أنه کائن یتمحور حول الحق، ویرفض محور التکلیف، وأنه صاحب حق فقط، وهو غیر مکلف، إذ لوکان له تکلیف، لأشیر إلیه بنحو من الأنحاء، فبمجرد أن نقول: إن للإنسان حق وحقوق، فمن معانیه رفض مدار تکلیفه فیطرح حینئذ إشکال مهم وأساسي وهو: أن المیثاق لم یذکر علاقة الإنسان بربه أصلاً، ولا خصائصه الفطریة ونحن نقول: لو تعرض الإنسان إلی ظلم، فالعقل یحکم بتقدیم الآخرین ید العون له ومساعدته، أما بحث الشرع و الفقه فهو في محله، فالانسان المریض، الملقی علی الرصیف، وهو یلفظ أنفاسه الأخیرة، فهو وأن کان لا دین له، لکنه(نظیر لک في لخلق)، وهذا یفرض علیه وظیفة معینة، لکن المیثاق لم یتعرض إلی حقوق الآخرین ونوع تعامل الإنسان مع أخیه الإنسان.
أما القسم الثاني: فهو أن علینا أن نبین في البدایة أن بعض مواد هذا المیثاق وإن کانت تنسجم بحسب الظاهر مع أقوی الأوامر والقوانین الدینیة، فقد بین الإسلام ذلک قبل ألف وأربعمائة عام مضت بأفضل بیان، فالمادة12مثلاً تنص علی عدم جواز التجسس في المسائل الشخصیة للافراد و حفظ کرامتهم وشرفهم. وهذه المادة جمعت کافة المطالب لکل إنسان، وقد صرح الاسلام و القرآن الکریم بمسألة عدم جواز التجسس بالنسبة للمؤمنین، وحرمة المؤمن والتأکید علی رعایة شرفه وکرامته فهل یختص هذا الحکم بالمؤمن، أو لکل انسان یُذکر؟
وینبغي البحث عن أدلته في محله المناسب ونحن نتابع بیان هذه النقطة وهي: أن أصل هذا المطلب قد ورد في الإسلام، فهل أن هذه المادة في المیثاق تبحث عن السعة، وتلتزم بهذا من هذه الجهة أم لا؟ وینبغي أن تدرس بدقة لکن النقطة المهمة هي: أن هذا المیثاق یتعارض بصورة واضحة مع المجموعة الدینیة، فلا نأتي ونتصور أن التحدیات تجتاز فقهنا، ونقول: إن استطعنا حل بعض الموارد الفقهیة کالارتداد و شهادة المرأة و...، فسینصلح کل شيء، کلا، إذ لو تعمقنا في محتواه بدقة، لوجدنا إذاً التعارض مع أصل الدین.
ونظیر مسألة الصداقة مع الشعوب کما ذکرت،لاحظوا أیضاً قول الله سبحانه وتعالی في القرآن الکریم في سورة الممتحنة:«یا ایها الذین آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوکم اولیاء تلقون إلیهم بالمودة» أو آخر آیة من هذه السورة «یا ایها الذین آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله علیهم» إذ یقول هؤلاء: ینبغي أن تتبادل الشعوب علاقات المودة والصداقة فیما بینها، ولو أن الله قد غضب علی شعب ما، فقد جاء في سورة المجادلة الآیة 22قوله تعالی«لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» ففي الآیة القرآنیة بحث اعتقادي کلامي و دیني، إذ لا یحلّ موادة هؤلاء أصلاً، وهو حرام، فهذا هو أول التعالیم الدینیة، لکن المیثاق یعارض ذلک، ویقول: کلا، دعوا هذا الکلام جانباً، وعلی الشعوب أن تتوادد وتتحابب ویقیموا علاقات الصداقة بینهم.
الأمانة هي أحد المحاور الأساسیة والأصلیة في الدین، فهل هذا المیثاق بهذا الوضوح في هذه الجهة؟ لاحظوا الجملة التي عرضها الامام السجاد علیه السلام أین محلها من الإنسان وهذه المجتمعات المنادیة بحقوق الإنسان، هل تصل عقولهم إلی هذا المستوی العالي من التفکیر، وهل یسمحوا لأنفسهم ببیان مثل هذا الشيء قال الإمام السجاد علیه السلام: «فوالذی بعث محمداً صلی الله علیه وآله بالحق نبیاً، لو أنّ قاتل أبي الحسین بن علي ائتمنني علی السیف الذي قتله به، لأدیته له» هذه الجملة عجیبة ومدهشة جداً، فهذا حقّ البشر بالنسبة للآخر، ولکنه لم یلتفت له أصلاً في هذه المجموعة، وأنا أتصور أننا لو لاحظنا هذه المفاهیم الدینیة في القرآن الکریم أو سائر الکتب السماویة، فإن حقوق الإنسان وهذا المیثاق سینسخها کلها، أو أن أغلب مواده لها هذه النتیجة.
ولا فرق في هذا المیثاق بین الموحد والمشرک،بدعوی أننا نحلل حقوق الإنسان من زاویة کونه إنسان بما هو إنسان، ولا نتوجه له من جهات دینیة، مع أن الأدیان کلها تضع مایزاً بین المتدیّن و غیر المتدیّن، الموحد والمشرک، الفاسق وغیر الفاسق،وهذا المایز هو منشئ لظهور الحقوق.
النقطة الثالثة في هذا الخصوص هو أن المادة 18وهي مسألة حریة الفکر تقول: ومن مصادیق حریة الفکر: «رفض الدین و اختیار العلمانیة» فلو قال شخص: لادین لي، فسیقال له: لا مانع من ذلک، یعني أنه یمنحه الرخصة، ویقول له: أنک تمتلک أي نوع من الحریة، ویعدّ ذلک حقِّاً له یمارسه في حیاته الشخصیة، فإذا کان حرا في رفض الدین، فسیتعارض هذا ضرورة مع الدین.
ومن الامور التي اکدت علیها کافة الادیان، و خصوصاً في الدین الاسلامي: الاهتمام بقضایا الانسان، أي: «النظیر له في الخلق» وضرورة تقدیم العون والدعم لهم فلو أن إنساناً نادی یاللمسلمین ولم یجبه، فلا دین له وقد أکد المیثاق علی علی الحرمة الذاتیة للانسان ومن آثار ذلک هو هذا المعنی: وهو أن علی الإنسان أن یهتم بقضایا بني نوعه، ومن هم نظیر له في الخلق، فإذا ظلم منهم أحداً، یقف إلی جانبه، ویمد له ید العون والمساعدة، ویقف بوجه الظالم، ولکن لم یصرح بهذا المعنی في المیثاق، وکان من الضروري واللازم أن یصرح به. نعم، ذکر في المادة 8: «اذا حصل اعتداء علی إنسان، فإن له حق الرجوع إلی المحاکم الوطنیة وتقدیم الشکوی علی المعتدي». فهل یکفي هذا المقدار؟
اما المحور الثالث الذي یتعارض فیه المیثاق مع بعض الاحکام الفقهیة، ففیه بحث مفصل وعلینا أن نبحث مواده الواحدة تلو الأخری، بدءاً من بحث الارتداد وهو الیوم من الأبحاث المستجدة في عالمنا المعاصر، تناقله کافة المحافل الدولیة والعالمیة وقد شن هجوماً عنیفاً علی الاسلام في بحث الارتداد وقبل أن نبدأ الحدیث هنا، أقول: مما یؤسف له جداً: أن أشخاصاً ادعوا أننا طالعنا الفقه، وتذوقنا حلاوته، فلیأتوا ویرفعوا أیدیهم عن الأحکام المسلم بها والواضحة، ولا شأن لهم بها وقد نقل کلام آخر لهم یقولون فیه: إن المیثاق الصادر في مجال حقوق الإنسان یتعارض مع مواد کثیرة من الفقه ثم فکروا أعمق من هذا فقالوا: أننا نرید أن نبین الفقه بهذا النحو، وتبینموه کما نحن نبینه،أي بالنحو الذي نراه صحیحاً أي الفقه العاري عن الجهاد والحدود الإسلامیة، ولا تراعی فیه الضوابط والحدود للرجل والمرأة، والفقه العاري عن ولایة الأب، ولا یفرق في الزواج بین الرجل والمرأة، فهؤلاء یریدون أن یعنعوا إذاً فقهاً جدیداً ملیئاً بالسخریة ثم یقولون بعد ذلک: إن هذا الفقه لا یتعارض مع حقوق الإنسان ولا أحد یسأل من هذا الشخص: هل فکرت أنت بما تقول؟ وفي هذه الحالة، لیس هما اثنان لیتعارضا، فصار ذاک نفسه، فأنت عندما جئت ورفعت حکم الجهاد عن فقهنا، فقد رفعت الحدود الاسلامیة عنا بالمرّة ومسائل الارث و الشهادة والنکاح والطلاق والحجاب، وهو کلام باطل کما تزعمون ثم تقولون: إن هذا یؤدي إلی نوع من التمییز في الجنسیة فحذتموه، فلیس هما اثنان بعد ذلک، وهذا هو نفسه ما جاء في میثاق حقوق الإنسان ولا داعي بعد الآن أن تتتعبوا أنفسکم، وتقولوا: بعدم التعارض فکل تلمیذ وطالب العلوم الدینیة في بدایة دراسته یعلم جیداً إن هنا تعارض، إذ هنا تتواجد نیتان وطرفان متقابلان هما شرط ولکن لو ترکنا نحن و الفقه الموجود، و فقه الامام رضوان الله علیه، فإن العوامل المؤثرة في الاجتهاد منقحة ومتحرکة. ولو کنا نحن ودائرة الفقه الجواهري،فإن حقوق الإنسان تتعارض تماماً مع فقهنا.
فهل علی الفقیه إذاً أن یقول: إنني أرفض میثاق حقوق الإنسان، ولنترک الفقه جانباً؟ أو نقول:یمکن توجیه ذلک، للتقریب بینهما؟ کلا، فقد حصل خلط بین هذین المطلبین في کلام الأفاضل، ففقهنا منفتح ومتحرک، قادر علی أن یجیب علی المسائل المستحدثة وأقواها، وقد وضع فقهنا الیوم إجابات واضحة عن عملیات الاستنساخ، ولم تتقدم حقوق الإنسان الیوم إلی الأمام کما یتقدم فقهنا، وقد قدم فقهنا الیوم طفرة نوعیة من خلال عرضه أحدث الأدلة وأقواها في مسألة تغییر الجنسیة وعملیات الاستنساخ، ومسائل التلقیح الصناعي، والمسائل المتعلقة بالمعاملات الجدیدة في فقه الامامیة و فقهاء الشیعة، بعد أن أبدی عن استعداده وتواجده القوي للإجابة عن کافة التساؤلات المستجدة وأما ان نقول:إن الحضور یعني التأثیر و التأثر المتقابل، ولهذا نأتي ببعض مواد حقوق الإنسان لنلحقها بفقهنا، لنتحرر عن بعض القیود المذکورة في الفقه، ونضعها جانباً، هذا من جانب ونرید من جانب آخر: أن نؤثر فیها، فإن تأثیرنا في اتفاقیات حقوق الطفل، یجعل لنا حق الاحتفاظ به لأنفسنا، فلا یکون تأثیر وتأثر إذاً.
وأقول هنا: إن من یقرأ المیثاق والعقود والإتفاقیات العدیدة التي تشتمل علی العدید من المواد الحقوقیة والقانونیة، سیجعل تصورنا عنها هو هذا، ولدینا استدلالات حول ذلک أیضاً، لرفض کل الفقه، ولیس الموارد المذکورة وحدها کبحث تفکیک الجنسیة، فهم یقدموا مرحلة تلو الأخری ثم یقولوا: أنت انسان بما هو انسان، من الذي قال لک أن تنحني یمیناً وشمالاً وتصلي، فأنت بنفسک لک قیمة، فإذا أحببت فارکع وانحني، وإذا رفضت ذلک، فلا وینتهي الأمر إلی هنا وعلی الفضلاء و الفقهاء أن یلتفتوا إلی أن الهدف الأخیر في المیثاق لا ینحصر في رفع بعض احکام الفقه، بل في البحث للعثور علی بدیل للحقوق في کافة أبواب الفقه.
والنقطة الاولی التي أرید أن أقولها وقد قلتها في المحور السابق أیضاً هي: أن هناک تحدیات أساسیة بین المیثاق والمجموعة الدینیة، کالتوحید، الاخلاقیات، والاعتقادات تماماً وأرید أن أقول في هذا القسم: إن هذا المیثاق یواجه تحدیات مع کل الفقه، بل حتی الموارد التي یقول فیها:إن الإنسان حر في اختیار التربیة والتعلیم المناسب له، وکثیر منها یمکننا أن نقول: بأن کثیراً من الأمور التي نقول بها، هي نفسها مما یقول بها الإسلام، ولکن الهدف هو شيء آخر، فبعضها کلمةٌ حقٍ یراد بها باطل.
وأُشیر اجمالاً هنا في بحث الارتداد: إلی أن الارتداد أمر له جذور قرآنیة، وقد أشرت إلی قضیة قوم موسی علیه السلام في تلک الرسالة، فالاسلام في فقهنا یقف بوجه المرتد الذي یعلن خروجه عن الدین، أو نقول علی الأقل أنه مضافاً إلی الاظهار، أنهم یعاندوا ویخالفوا الدین أیضاً، وفي هذه الصورة کذلک یعارضوا حکمه، وإلا،فما دام أنه لم یصل إلی حد الاظهار والعناد، فلا شأن له به، فمن الذي یطلع علی سریرة الشخص الآخر لیعرف بماذا یفکر؟ وماالذي یجري في وجدانه وضمیره، هل أنه أنکر الدین أم لا؟ ونحن نقول أي ملاک لهذا الإظهار؟ وبأي هدف یمکن أن یتحقق؟
فقد یکون للشخص شبهات تعلق في ذهنه یقول المرحوم والدنا (رضوان الله علیه): لو قال شخص شاب من أبوین مسلمین في أول بلوغه: عندي بعض الشبهات حول الإسلام، فإنه یقول: لیس هذا مرتداً، بل له الحق أن یأتي ویستعرض شبهاته وإشکالاته، ولکنه بعد أن یقول: أنا مسلم، لو قال ثانیة: خرجت عن الاسلام، فهذا بمثابة أن یحاول زعزعة الإسلام عند الآخرین، وهذا بمنزلة من لا یسمح لمن به داء مسري أن یحضر في وسط جماعة. لقد أرسل الله الأنبیاء والرسل، وهم یحملون البیّنات و المعجزات و الکتب السماویة، والمعاناة والجهود التي بذلت لتدین البشر فلو أنکر شخص بجهالة منه کل ذلک، وأراد زعزعة الآخرین، فهذا أسوأ بمئات المرات من إعلان الحرب الظاهریة ضدهم، وهو یواجه بأسلحة المؤمنین في هذه المسألة کافة الأدیان، فإن ارتد شخص إذاً، فما اللزوم بإظهاره ذلک؟
ذکر بعض الزملاء من الأخوة: بأن موضوع حکم المرتد في القرآن هو ما إذا کان عرض الارتداد بعنوان أنه معرکة سیاسیة، فهل هذا ذا صحیح أم لا؟ وذلک یعود إلی قلة تواجده في الأذهان أیضاً، إذ قد حصلت مواجهات للمرتد في صدر الإسلام الأول، بسبب أن المنافقین کانوا یقولون: «آمنوا بالذي أنزل علی الذین آمنوا وجه النهار واکفروا آخره» . لیوجدوا بلبلة بین المؤمنین وزعزتهم عن الدین، وقد فکان یحثل هذا لقصد سیاسي کان حدیثي هو أن تشاهدوا الآیات التي أشرت إلی بعضها، فأین تمثلت الوجهة السیاسیة في هذه الآیات الشریفة أصلاً؟ إذ لم یعرض فیها بأي وجه من الوجوه، فهل یستفاد من الآیة 217 من سورة البقرة «ومن یرتدد منکم عن دینه فیمت وهو کافر فاولئک حبطت اعمالهم فی الدنیا والآخرة» حکم القتل؟ الذي استفاده الفخر الرازي أم لا؟ ولا شأن لنا بذلک فعلاً، لکنه یقول: «ومن یرتدد منکم عن دینه»، فلفظة «من یرتدد» هي قضیة حقیقیة، فأین محل القضیة السیاسیة منها؟ وأن تکون هناک فتنة؟ أو أن الارتداد إذا کان مؤامرة جماعیة، فله مثل هذه العقوبة.
وأرید أن أسأل: هل أنکم تقولون بهذا في باب المحاربة أیضاً؟ فالآیة الشریفة في مورد مسألة المحاربة: «إنما جزاء الذین یحاربون الله و رسوله» هل تعني أن لو تآمر جماعة لمحاربة الله،أن سیکون جزاؤهم هذا؟ أو إذا کان المحارب شخصاً واحداً، فهل هذا حکمه أیضاً؟ فلا یصح هذا الانطباع والفهم أننا نغیر موضوعاً تسالم علیه الفقهاء لفترة ألف وأربعمائة عام لمجرد احتمال واحد؟ فمثل هذا بحاجة إلی دلیل، ولا یکتفي مجرد الاحتمال وجاء في الآیة المبارکة أیضاً قوله تعالی: «آمنوا بالذي أنزل علی الذین آمنوا وجه النهار واکفروا آخره» فلا یمکنه أن یقید الآیات، لکونها من مصادیق وموارد الارتداد، ولا یمکن للمصداق أن یحصر الموضوع العام ویتعارض حکم الارتداد مع المیثاق العالمي لحقوق الإنسان تماماً، فماذا نفعل بهذا؟ هل نرفع أیدینا عن هذا الحکم؟أما بحث التنفیذ فهو بحث آخر ولا یمکننا أن نجرح الفقه ونقص أجنحته في بعض الموارد، لکي لا یتعارض مع المیثاق العالمي لحقوق الإنسان مثلاً فهذا هو فقهنا أما هل یمکن العمل علی تنفیذ هذا المطلب في مرحلة التطبیق أم لا؟ فهو بحث آخر ونحن نرید أن نقول: إن هذا المیثاق یتعارض مع الفکر وعلم الفقه ومن موارد التعارض ما کتب في لوائح متفرقة أیضاً من هذا المیثاق یعني أن هذه المادة تتعارض مع الحدود و القصاص وقسم العقوبات في الاسلام، وقد ألغي فیها حکم القصاص و العقوبات البدنیة والتعزیرات، و ...، وهي تتعارض مع فقهنا.
أما البحث الأساسي الذي تتناقله المحافل والأوساط العلمیة،فهو بحث تغییر الجنسیة، ومحور عمدة الکلام هو هذا، وهو: لماذا یفرق بین المرأة والرجل في إدارة المجتمع،القضاء، الشهادة، المیراث، والطلاق؟ اسمحوا لي أن أسلط الضوء علی نقطتین علمیتین هامتین في هذا الخصوص:
النقطة الاول: ان هذه الاحکام بحسب الظاهر تدل علی وجود الفرق بین المرأة والرجل،أو الفوارق التي بینهما، أو یمکن القول بأن هذا الفرق یسوق الی الظلم والإجحاف بحق المرأة؟ وإذا حدد الاسلام إرث المرأة نصف الرجل، وشهادة المرأتین تعدل شهادة رجل واحد،ودیة المرأة نصف دیة الرجل، فهذا یعني أن المرأة قد ظلمت في الإسلام؟ وأقول في الجواب عنه: إن من لهم مثل هذه النظریة،یقبلوا بدایة هذا الأصل بعنوان أنه افتراض مسبق، وهو: أن أحکام الله المتعال ینبغي أن تبنی علی اساس العدالة، و أن الآیة الشریفة: «إن الله یأمر بالعدل و الإحسان»، وقد عدوه دلیلاً أیضاً علی هذا المدعی، وبالنتیجة، فإن نسبة کل حکم إن شاهدناها لا تتعارض مع العدالة، فعلینا أن نغیرها، ونفسّرها ونبیّنها طبقاً للعدالة ولکن هذا خطأ کبیر جداً من وجهة نظري، وقد وقع فیه کبار العلماء من أهل الرأي والنظر مع الأسف والتحقیق هو أننا في الوقت الذي نعتقد فیه أن الأحکام الشرعیة تابعة للمصالح والمفاسد، ولا یخلو حکم من هذا الملاک، وقد اتفق جمیع الأصولیین من الفقهاء الامامیة علی ذلک، ولکن قبول هذه القاعدة لا یستلزم أن نعتقد بلزوم العدالة التشریعیة، ونقول: ینبغي أن تتطابق کافة الاحکام مع العدالة، لأن العدالة أحد الموارد الموجودة في الملاکات، وربما تکون ملاکات أخری من قبیل التسهیل في الامور، عدم وقوع المشاجرة والنزاع و نظائرها، قد أکد علیها الشارع المتعال.
ویمکن القول في بحث الإرث أن التقسیم لم یکن ملاکاً عادلاً، ولذلک لا یلاحظ أختان متساویتان في الأرث، أیهما غنیة والأخری فقیرة؟وکذلک الأب والأم، لکل منهما السدس، فلا یلاحظ فیهما الاحتیاج وعدم الاحتیاج؟ وأیهما غني والآخر فقیر؟ فمن مسلمات الفقه أیضاً من جهة أن للمیت الثلث من ترکته، یوصي أن ما یطالب به منحصر بذلک الثلث، فهل أن هذا الثلث قائم علی معیار العدالة؟ ولو قال الله بالنصف أو الربع، فهل یخرج هذا علی العدالة؟ ومن الواضح أن الله المتعال طبّق هذا التقسیم علی ملاک آخر، وذلک الملاک هو غیر ملاک العدالة ومثال آخر: في مورد شهادة المرأة، ینبغي أن لا یتصور أن عدم قبول شهادة المرأة في کثیر من الموارد، أو أن شهادة امرأتین تعادل شهادة رجل واحد، ینبغي أن نفسره علی ملاک العدالة، بل من الممکن في باب الشهادة أن یجر ذلک غالباً إلی نزاع ومشاجرة، وأن الله المتعال قد جعل هذا الحکم لحفظ النساء من تعرض من یشهد علیه ویؤیده: ما ورد في بعض الروایات والفتاوی من قبول شهادة المرأة في الأمور التافهة والضئیلة، بقولهم«تجوز شهادة المرأة في الشيء الذی لیس بکثیر في الامر الدون ولا تجوز في الکثیر»ومن الواضح أن المرأة أن فقدت قیمتها في الإسلام أساساً،کان اللازم من ذلک رفض شهادتها في کل شيء، کما أن شهادة الطفل والمجنون لا تقبل في کل شيء.
ولو أنکرنا في مورد ملاکات الاحکام، عموم العدالة التشریعیة وکلیاتها، وقبلناها بنحو الموجبة الجزئیة، واعتقدنا أن الاحکام کما أنها تابعة للملاکات،فإن المصالح و المفاسد الزاماً لا تختص بالعدالة فقط، وأن هناک عناوین و جهات أخری أیضاً لها عنوان الغایة، وأن هناک کثیر من الاشکالات التي ذکرها المثقفون ومدافعوا حقوق المرأة حول الاحکام المتعلقة بالمرأة في الفقه قد أجیب عنها.
ولو قبلنا في باب الدیات، أن تعیین الدیة لیس علی اساس قیمة الانسان، لیشکل مثلاً: لماذا دیة المرأة نصف دیة الرجل؟ بل أن الدیة غرامة تدفع بدلاً عن العقوبة والجریمة، وهي یمکن أن تختلف بحسب الموارد، وقد اقتضت الإرادة والحکمة الالهیة بحسب المصلحة العامة بقاء النسل البشري،ولزوم دفاع الرجال عن العوائل والأسر والمجتمع البشري، وأن یقرر الإسلام فرض عقوبات صارمة وأکثر علی قتل الرجل، وفي هذه الصورة، یجاب علی هذه الاشکالات، ولا یلزم من جعل المسائل الاقتصادیة محوراً،لیشکل في الجواب: أن نساءنا یشاطرن الرجل في أعماله الیومیة في القطاع الاقتصادي أیضاً وعلی کل حال، بعد أن ارتضینا وسلمنا بالحکمة الربانیة والإلهیة المتعالیة، فإننا نعلم بهذا القدر:أن کل حکم یقوم علی أساس هذه الحکمة، قد نجهل به ولا نعلمه،أو یعلم بعض جهاته، وتخفی علینا جهات أخری.
وننقل هنا کلاماً للمرحوم المحقق الحائري مؤسس الحوزة العلمیة في قم، فقد قال سماحته في بحث الأقل والأکثر[في خصوص أدلة القائلین بالاحتیاط بالنسبة للاکثر، الذین تمسکوا بلزوم تحصیل غرض المولی، وقول المرحوم الآخوند الخراساني والشیخ الأعظم الأنصاري قدس سرهما: إن هذا الدلیل مبني علی نظریة المعتزلة والامامیة الذین یرون أن الاحکام الشرعیة تابعة للمصالح و المفاسد، أما إذا قبلنا نظریة الاشاعرة، فسیسقط بعد ذلک هذا الدلیل عن الحجیة والاعتبار]: «لیس هذا الکلام مبنیاً علی قواعد العدلیة القائلین بوجود المصلحة والمفسدة، لوضوح أن لکل آمر غرضاً فی اتیان المأمور به و إن کان جزافاً»، إذ تصرح هذه العبارة: أن للآمر الذي یأمر غرض، وهذا الغرض هو غیر المصلحة والمفسدة. نعم،قد یکون هذا الغرض في بعض الموارد هو امر غیر صادر من الله عزوجل، وهو جزاف، وأما الغرض غیر الجزاف فهو لا ینحصر بالمصلحة والمفسدة في المتعلق أو في نفس الأمر. وقد ناقش المرحوم المحقق الأصفهاني في نهایة الدرایة 4 / 299 هذا الکلام، والتعرض لهذا خارج عن منهجیة البحث هنا.
ونستنتج من النقطة الأولی أن مسألة العدالة التشریعیة لا یمکن قبولها ملاکاً في کل الأحکام، وعلی نسائنا المؤمنات وأخواتنا الفاضلات العالمات الالتفات إلی أنهن إذا شاهدن فارقاً بینهن مع الرجال في عدة موارد بحسب الظاهر في الفقه الاسلامي، فسببه التمییز في القیمة، ولیس عدم رعایة العدالة، إذ لکل مشرع للقوانین ملاکات تخصه أساساً، فالتنظیم في الامور، استمرار لحیاة المجتمع الانساني، وعدم وجود مشاجرة، ونظائرها، وهي من الأمور التي تلفت نظر المشرّع.
قال الامام الخمیني(رضوان الله تعالی علیه)في أحد خطبه: لم یکن الهدف الأساسي للانبیاء العظام تشکیل الحکومة الاسلامیة و الالهیة، وإقامة العدل فحسب، بل کان هدفهم أسمی من ذلک، وهو أن یکون البشر والإنسان عارفاً بالله، وأن یصل بحد معرفته وعلمه إلی الذات الأحدیة اللامتناهیة.
وعلی هذا یمکن القول: بأن هناک غایة وملاک آخر هو غیر مسألة العدل أیضاً، ولهذا فما قیل: إن المطلب المعروف القائل بان کافة الملاکات ینبغي أن تنتهي إلی حسن العدل أو قبح الظلم، هو مطلب غیر صحیح وغیر تام، بل إن وراء هذه القضایا أو إلی جانبها ملاکات أخری أیضاً، وخاصة في سنّ-بفتح السین- وتشریع القوانین والمشرع، فإن لها مؤشراتها وخصائصها المتعلقة بها، أما في باب المعاملات، فلا یمکن أن نفسر صحة المعاملة علی أساس العدالة، والا فالعدید من المعاملات عند الشارع أو حتّی العقلاء لها عنوان المعاملة الصحیحة، لکن علینا أن نعتقد ببطلانها.
روی الشیخ الطوسي في الأمالي وصاحب الوسائل في ج 27 ص 167 من کتاب القضاء ابواب صفات القاضي الباب 12 ح 45 عن النعمان بن بشیر قال:«سمعت رسول الله(ص) یقول:«إن لکل ملک حمی،وإن حمی الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بین ذلک». ویستفاد من هذه الروایة أن لکافة القوانین الالهیة حمی، لا ینبغي تخطیها وتجاوزها، بل ینبغي الحفاظ علیها تماماً، فهل أن المشرع الذي له هذا القدر من شأنیة وصلاحیة سنّ وتشریع القوانین، أن یکون له الحق بوضع حدود معینة في کل شيء، ولا یکون هذا بنفسه عاملاً مهماً؟ ولو أخذنا بنظر الاعتبار صلاحیات سن وتشریع القوانین لله، فحینئذ وإن کانت القوانین علی ملاک قبول العرف أیضاً، فهل لا یلزم التبعیة والالتزام کذلک؟ وینبغي عرض هذا السؤال وهو: ما سبب لزوم التبعیة في مورد القوانین الإلهیة؟
ومن الواضح أن سبب لزوم التبعیة هو أن الله تبارک و تعالی بعنوان کونه خالقنا و مالکنا، فله الحق من هذه الجهة أن یضع حدوداً معینة لأفعالنا وسلوکنا في کل الأمور، ولکن بما أنه حکیم، فإن له غایة خاصة حتماً، إلا أن هذه الغایة لزوماً سوف لن تکون مسألة العدالة أبداً.
ویمکن أن نشیر في هذا المضمار إلی مسألة نجاسة الکفّار والمشرکین، وقد قبل کثیر من فقهاء الاسلام ذلک، إذ من الواضح أن هذه النجاسة لیست بسبب وجود القذارة والوسخ علی أبدانهم، یعني صیانة المسلمین عن أخلاق و آداب و سلوک الکفار. وبعبارة أخری: المصالح و المفاسد هي في نفس موضوعات الأحکام. أما في الاحکام الشرعیّة، فلا یلزم أن تکون في نفس الافعال أو في نفس اوامر هذه الملاکات. بل یمکن أن یؤثر البعض ومن جهات خارجیة في جعل الأحکام وقد صرح الامام الخمیني رضوان الله تعالی علیه بهذا المطلب في (تهذیب الاصول 3 / 76، طباعة جامعة المدرسین).
المؤید الآخر في هذا الخصوص: هي الأحکام الظاهریة فقد ذکر في موارد الأصول العملیة، ومن لهم باع في معرفة أصول الفقه: بأن مجری البراءة، الاحتیاط، التخییر، أو الاستصحاب، لا ینشأ عن رعایة العدالة و ملاکها أبداً، بل أن هناک ملاکات أخری قد أخذها الله المتعال بنظر الاعتبار.
ویؤید هذا القسم ما قاله المرحوم العلامة الطباطبائي في ذیل الآیة الثانیة من سورة الملک، قوله تعالی: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ»: «إن حسن العمل والصلاح غایة لخلق الإنسان لا لنفسه،وامتیاز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملاً هم المقصودون بالخلقة، وغیرهم مقصودون لأجلهم» وعلی هذا یمکن أن نقول: إن لا حسن ذاتي لنفس العدالة أیضاً،بل إن حسن العدالة متعلق بجزاء یوم القیامة و بعبارة أخری: إن لم یترتب للعدالة جزاء أخروي، فلا یمکن القول إنه بذاته له قیمة وأما من تمسک من أهل الفکر بالآیة الشریفة: «إن الله یأمر بالعدل والاحسان» لاثبات هذا المدعی: وهو أن کافة الأحکام قائم علی أساس العدالة فینبغي القول في جوابهم: لا تدل هذه الآیة الشریفة علی هذا المدعی أبداً، بل ظاهرها هو أن الله تبارک و تعالی أمر برعایة العدل بین الناس، أي بمعنی رعایة الناس للعدل في علاقاتهم الاجتماعیة والأعمال التي تمتّ لهم بصلة، کما أمر بالإحسان أیضاً.
ولا تدل هذه الآیة الشریفة أبداً بأن کل حکم صادر من الله هو مبتني علی العدالة، فهذه الآیة لا تبین ذلک. والنقطة التي ینبغي التدقیق فیها هي: أن الروایات المبیّنة لعلل الاحکام لا تشیر إلی مسألة العدالة أبداً، بل فیها إشارة إلی أصل المصلحة.
فقط روی المفضّل بن عمر عن الامام الصادق(ع) قال: «لکنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما یصلحهم، فاحله لهم و اباحه، تفضلاً منه علیهم به، لمصلحتهم و علم ما یضرهم، فنهاهم عنه، وحرم علیهم» و روی محمد بن سنان ایضاً عن الامام الرضا (ع) قال: «إنا وجدنا کل ما أحلّ الله، ففیه صلاح العباد وبقائهم، ولهم الیه الحاجة التي لا یستغنون عنها، ووجدنا المحرم من الأشیاء لا حاجة بالعباد الیه، ووجدناه مفسداً» وقد أشارت هذه الروایة إلی دوام وبقاء النسل البشري، ولا علاقة لهذا بمعیار العدالة.
النقطة الثانیة: عندنا بحث في الأصول لم ینقحه کبار العلماء مع الأسف قد ورد في متن الکفایة و متن خارج الأصول، وقد استعرضه في الأساس المرحوم المحقق النائیني، وأقوی منه وأدق المرحوم المحقق الإصفهاني، وهذا البحث مهم وأساسي في الأصول جداً، أرجو أن تلتفتوا إلیه بدقة، ولو أن المجال لا یسع، ولا أستطیع أن أوضحه أکثر البحث هو: هل أن علی المکلّف في الشریعة أن یتابع أمر ونهي الشارع فقط بأي أمر کان؟ أم أن علیه أن یتبع تحصیل أغراض الشارع أیضاً؟ ویشاهد هل یترتب مورد علی غرض الشارع فیمتثله أم لا؟ وإن لم یکن هناک تکلیف بحسب الظاهر في هذا المورد، أما الأبحاث التي أوجدت الیوم بعنوان الفقه فلها مقاصد، قد سبقنا أهل السنة بذکرها قبل مئات السنین، وأقول هنا: إن فقه اهل السنة أخذ یعرض نفسه قلیلاً قلیلاً في میثاق حقوق الإنسان، لیتخلوا عن کافة فتاوی أسلافهم، والجهة المهمة فیه أیضاهي: أنهم یریدون معرفة أن یری الفقیه: ما هي أغراض الشارع؟ وهل أننا مکلفون بمعرفة أغراض الشارع؟ لنتجه نحوهاوأن نتصرف في بعض الموارد بظاهر بعض النصوص التي تتعارض مع غرض الشارع فالبحث هنا هو: هل نحن مکلّفون أن نلتفت إلی أمر ونهي الشارع، أم أن علینا أن نستعرض بحث الأغراض والمقاصد؟
هناک کلام للمرحوم النائیني في المجلد الرابع من فوائد الاصول، إذ یقسم الغرض إلی نوعین، فیقول: إن نسبة بعض الأغراض إلی فعل المأمور به، هو کنسبة المعلول إلی علّته التامة، ونسبة بعض الاغراض إلی فعل المأمور به، هو بمنزلة نسبة المعلول إلی العلل الاعدادیّة.ثم یضرب للقسم الأول مثالاً، فیقول: افرضوا في مورد یکون الغرض فیه ذبح حیوان، ویقول الشارع: ینبغي فري الأوداج الأربعة فیه، فتکون نسبة هذا الذبح بفري الاوداج الأربعة کنسبة المعلول إلی العلّة التامة، أما إذا أمر الشارع بالزراعة مثلاً، فغرضه أن یجني الحنطة، فیقول هنا: إن نسبة المعلول إلی الزرع کنسبة المعلول إلی العلل الاعدادیّة.
وهذا التقسیم هو من ابداعات المرحوم النائیني، یقول:أما تحصیل غرض النوع الأوّل فواجب، فیما إذا کانت نسبة الغرض إلی فعل المأمور به کنسبة المعلول إلی العلل التامة،ثم یقول:فتحصیله واجب، اما في القسم الثاني، فإنما یکون الامر خارج عن قدرة المکلّف، فیما إذا کان تحصیل الغرض غیر واجب!وکأن المرحوم النائیني یرید أن یقول في الحقیقة:أینما کان الغرض امر حتميِ مقدور،فإن تحصیله واجب،وأما إن کان للشارع غرض،إلا أن هناک عوامل أخری دخیلة أیضاً مضافاً إلی هذه الافعال الظاهریة التي نؤدیها،وهي خارجة عن قدرة البشر،فذلک فیما إذا لم یکن تحصیل الغرض لازماً! هذا هو مبنی المرحوم الخوئي في مصباح الاصول2 / 437،وقد عده محل إشکال،وقد استعرضنا نحن هذا في بحثنا خارج الأصول في العام الماضي (91 ـ 90) في الدرس 102 وبعده،وناقشنا فیه کلام النائیني.
کلام للمرحوم المحقق الأصفهاني:
للمرحوم المحقق الأصفهاني تحقیقاً ذکر فیه کلاماً للامام الخمیني و آیة الله الخوئي(قدس سرهما) قبلا فیه أصل المطلب بتعابیر أخری أیضاً،إذ یعد هذا التحقیق من أقوی وأجمل تحقیقات المحقق الإصفهاني، فهو یقول: الغرض علی ثلاثة أقسام: غرض فیه وجوب عقليِ نفسي، شرعیاً کان أم لا، أمراً من ناحیة الشارع أم لا، کحفظ النفس، فهو أحد الاغراض العقلیة، وحفظ النسل أو المال هما من الاغراض أیضاً، فلا یلزم أن یقول الشارع: حافظ علی نفسک، نسلک، ومالک القسم الثاني: هو الوجوب العقلي المقدّمي. وهو غرض یکون مقدمة لاثبات امر ما. اما القسم الثالث: فهوالغرض الشرعي المولوي. إذ لا یجب تحصیل هذا الغرض الموجود في کثیر من الواجبات والمحرّمات. ویقول أکثر من ذلک: بأن هذه الأغراض لا تتعلق بالتکلیف أصلاً، «لیس مراداً و مطلوباً لا بالذات و لا بالعرض فلیس بواجب».
ثم یضیف المرحوم الأصفهاني: ولا یلزم للملاکات في الاحکام الشرعیة المولویة أن تکون نفس ملاکات الحسن والقبح عقلیة أیضاً، بل إن عندنا قسمان من الاحکام الشرعیة: قسم من الاحکام الشرعیة المستندة إلی الاحکام العقلیة، افرضوا أن الشارع یقول:الظلم حرام، والعقل یقول: الظلم حرام أیضاً، فمثل هذه الاحکام هي الملاکات العقلیة، یجب فیها تحصیل الملاکات العقلیة ورعایتها، ولا بحث في ذلک أبداً. إلا إن عندنا أحکاماً شرعیة الکثیر منها یعد من هذا القسم الثاني،وهي:الاحکام المولویِة الشرعیة لا تستند إلی الاحکام العقلیة.
فالإرث هو حکم شرعي، لا یستند أصلاً إلی الاحکام العقلیة، فیرث أخوین اثنین بنفس المقدار،قد یکون أحدهما غني والآخر فقیر، أو ترث اختین بنفس المقدار، قد تکون أحدهما غنیة والأخری فقیرة، أو أحدهما عالم والآخر جاهل، أحدهما متق والآخر فاسق، فالشارع هو الذي شرّع هذا الحکم، وهو حکم مولوي شرعي، له غرض شرعي أیضاً، ولکن الغرض الشرعي هذا لا یکون متعلّق الأمر والنهي أصلاً، فیکون للمرحوم الإصفهاني هنا بحث دقیق جداً و لطیف، إذ یقول: إن کافة الحیثیات التعلیلیة في الاحکام العقلیه، تقییدیة، یعني ولو في الظاهر الحیثیة تعلیلیة، إلا أنها في الواقع تقییدیة، فیجوز الضرب للتأدیب مثلاً، فعنوان التأدیب ولو في الظاهر تعلیلي، إلا أنه في واقعه موضوع للحکم وتقییدي، یعني أن للعقل حکم بالنسبة للادب، ولکن لا حکم له في خصوص الضرب، وأما في الاحکام الشرعیّة فالعکس من ذلک،(ولنا في بحث الأصول حاشیة علی هذا الکلام) لکن له هذه الدعوی أن یقول: إن لکافة الاحکام الشرعیّة حیثیات، تتواجد فیها حیثیة تعلیلیة، فعندما یقول الله عزوجل: «أن تضل احداهما فتذکر احداهما الاخری»، فإن فیها حیثیة تعلیلیة،وقد شاهدنا في کلمات الفقهاء من زملائنا أنهم قالوا: لقد أطبقنا علی الصمت لسنوات عدیدة ولم نحر له جواباً في العالم حول مسألة: لماذا شهادة امرأتین تعدل شهادة رجل واحد؟ مع أن القرآن الکریم قال: «أن تضل احداهما فتذکر إحداهما الاخری». فنستنتج بوضوح من ذلک، أنه یکفي إن تذکرت إحداهما ولم تضل، ویصح هذا الکلام فیما لو اعتقدنا أن هذه الحیثیة هي حیثیة تقییدیة، ونقول إن الشارع هو الذي قال: عدوها ملاکاً، ولو لاحظتم الروایات الواردة في باب الشهادات، فأي إمام جاء لیلفت النظر إلی هذا الملاک؟ وکیف أننا نقول في بحث الربائب: «وربائبکم اللائي في حجورکم»، فیها قید غالبي، لا حیثیة تقییدیة، إلا أننا إذا وصلنا إلی هنا نقول: إنها حیثیة تقییدیة.
ویترتب علی کلام و تحقیق الإصفهاني آثاراً هامة جداً، وإن لم یکن هو قد صرح بذلک.
1) فبناءعلی هذا التحقیق،سیزول وینتهي البحث المعروف بالعلة والحکمة والفرق بینهما،فلا ینبغي أن نبحث: هل أن المورد الفلاني،التعبیر الفلاني الذي فیه هو علة أو حکمة؟وأن ما ذکر لکافة الأحکام من علل الأحکام،لها عنوان الغایة والغرض، یمکن أن یترتب علی الفعل،ولکن لا یجب تحصیله.
2) بدل مسألة العلة والحکمة، ینبغي سوق الملاک نحو الحیثیة التقییدیة والتعلیلیة،ونحو کل ما بینه الشارع في الاحکام الشرعیة الغیر مستندة إلی الاحکام العقلیة،إذ له عنوان الحیثیة التعلیلیة.
3) من الآثار المهمة المترتبة علی هذا التحقیق هو رفض نظریة حق الطاعة.
وینبغي الالتفات والتوجه إلی هذه النقطة وهي: أن هناک کثیراً من الوظائف والمسئولیات قد رفعت عن المرأة، کالشهادة مثلاً، فهي مسئولیة، یحرم کتمانها أیضاً، فجاء الشارع وخففها عنها، فألقی هذه المسئولیة علی عاتق اثنین من النساء، أن تضل إحداهما فتذکر إحداهما الأخری، وغیر متوفر هذا المطلب في مورد الرجلین،فلو شهد رجلان،فقال أحدهما:ظللت ونسیت فذکرني!فالقاضي یقول:لا یمکنني أن أقبل هذه الشهادة!ولکن الله وضعها وصححها في مورد المرأتین،فنأتي بعد ذلک ونشکل مثلاً: لماذا صارتا انتین ولم تصیرا ثلاثة أو أربعة؟ ولماذا لا تقبل شهادة المرأة في القضایا المالیة؟!وفي الحدود أیضاً،لا تقبل شهادة المرأة في کثیر من الموارد أصلاً وفي باب الشهادة علی الطلاق!إذ لو شهدت مائة امرأة وقلن:إن الرجل الفلاني طلق امرأته! فهذه الشهادة مرفوضة ولا تقبل. فماذا نصنع هنا؟ وما هذا الفهم والتصور عن الفقه؟ الاجتهاد ظریف و دقیق جداً، ومن لا یجلس علی مائدة المرحوم الإصفهاني والنائیني والخوئي والإمام (رضوان الله تعالی علیهم)، فلن یتذوق حلاوة طعم الفقه،وما في الاجتهاد من أجزاء دقیقة سیعثر علیها،وسوف لن یصل إلی حقیقة الفقه،فلا یحق لنا أن نقول نحن هکذا: فلیتساوی إرث الرجل والمرأة بعد ذلک؟!فما شأننا نحن بذلک؟
روي في تفسیر الإمام الحسن العسکري علیه السلام روایة لطیفة عن أمیر المؤمنین علیه السلام: «جاءت امرأة فوقفت قبالة رسول الله صلی الله علیه وآله وقالت: بأبي أنت وأمي یارسول الله، أنا وافدة النساء إلیک، ما بال المرإتین برجل في الشهادة وفي المیراث، فقال رسول الله صلی الله علیه وآله: یا أیتها المرأة، إن ذلک قضاء من ملک عدل حکیم لا یجور ولا یحیف ولا یتحامل» ثم قال صلی الله علیه وآله: «إن إحداکن تقعد نصف دهرها لا تصلي بحیضة عن الصلاة لله وإنکن تکثرن اللعن» هذه أمور قد ذکرها النبي صلی الله علیه وآله جواباً، ألم یکن بإمکان تلک المرأة في تلک الفترة أن تقول: إنني من الممکن أن لا أضل وأسهو، فتذکر احداهما الاخری، أو إذا دققت المرأة فقد لا تسهو وتنسی، أو تتعهد وتلتزم أن لا تلعن، فهل یرفع هذا الحکم وینتفي؟ أم أن هذه المرأة فهمت أن أغلب النساء في کافة العصور والأزمنة تمتلک مثل هذه النفسیة، وأن الله تعالی أصدر هذا الحکم من خلال الالتفات إلی هذه الحالات، وهذا المطلب لا یدعونا إلی أن نرفع أیدینا عن فقهنا، الفقه الذي طوی مسافة ألف وأربعمائة عاماً بعمق، ولیس الأمر کذلک أن فقهاءنا لا یعلمون حکم هذه المسائل؟ وطرحت الیوم مسألة حقوق الإنسان بالتوجه إلی هذه المطالب، وقد شاهدت في کلام أحد فلاسفة إیران قال: لم تکن عناوین ومفاهیم حقوق الإنسان انتاج محلي في الداخل، بل هو من برکات الغرب، مع أنکم لو لاحظتم ذلک، فمع أن هذه المرأة ترعرعت في عصر الجاهلیة، عرضت تلک الإشکالات برحابة صدر وثقة تامة علی رسول الله صلی الله علیه وآله، واستمعت منه الإجابة، ولهذا، فلیس من الصحیح أن نأتي ونصطدم معه ونواجهه.
أرید أن أقول: إن أمام الفقهاء والمراکز الدینیة مسئولیات ووظائف کثیرة جداً، وعلینا أن نبذل وقتاً طائلاً للدفاع عن الدین، ونتأمل أکثر،ونفهم الدین علی حقیقته بشکل أفضل وأحسن، وأما أن نقول: لا یعتني الفقهاء بکل ذلک، ویقول: لا نعیر أهمیة لما یجري حولنا من أمور، فهذا خطأ وغیر صحیح. بأن نفکر بسذاجة وسطحیة ونقول: إن بعض مواد هذا المیثاق هو کل ما یفرضه الإسلام ویقول به، فهذا خطأ أعظم، بل ینبغي رعایة الإنصاف والاعتدال، والدخول إلی الساحة من خلال الوعي والتسلح بالعلم، فلیأتي السادة الأفاضل ویتناقشوا، ویستعرضوا هذه الإشکالات التي ذکرتها، ولعل للآخرین مثلها أیضاً، وأما أن نقول: فلندع المیثاق جانباً، فهذا غیر صحیح أیضاً، بل علینا أن نحتفظ بالإطار الدیني للاجتهاد وتحلل مواد هذا المیثاق وغیره بدقة، ولم یحن الوقت لأبین دور تأثیر الفقه الحکومي في هذا المجال، ویبق هذا لنتناوله في حلقات أخری قادمة.
أقدم شکري الجزیل لکافة الأخوة الذین تحملوا عناء الاستماع، وأعتذر منهم علی الإطالة، وإن علق في أذهانهم بعض الاشکالات أو الاستفسارات، فأنا مستعد لاستماعها، وأجدد شکري مرة أخری لکافة الأخوة العاملین في المرکز الفقهي الذین صبروا وتحملوا خمسة أیام لإقامة هذا المهرجان العظیم، آمل أن یکون هذا العمل في لیلة الولادة السعیدة والمشرقة لإمام العصر«عج» محل رضاه، وأن نوفق نحن وأنتم وکافة الحوزویین للتصدي والدفاع عن الدین والفقه والحدود الإلهیة بمعناها العامّ ان شاء الله.