رسالة في تأثير الزمان والمكان في الفقه

۰۳ شهریور ۱۳۹۰

۱۷:۰۶

۲,۱۴۸

چکیده :
ليس من العسير العثور على جوهرة ثمينة تسمّى بـ «الزمان والمكان»، و رصد تأثيرها على فروع فقهيّة عديدة في البحر الواسع والمترامي الأطراف لعلم الفقه، الجوهرة التي تمنح علم الفقه حياة وحركة. وبكلمة جامعة: تمنحه الخلود والامتداد الفاعل في أبعاد هامّة للمجتمع البشري. ويمكن القول بأنّه لو لم تبذل عناية خاصّة في دراسة واستكشاف هذا العنصر المؤثِّر فسوف يُصاب الفقه بالجمود والركود، ويصل الاجتهاد إلى طريق مسدود، وبالتالي يتمّ تحنيط الفقه في زاوية معيّنة من العالم والمجتمع البشري.
نشست های علمی

رسالة في تأثير الزمان والمكان في الفقه
وقد ألّفت في سنة 1415 هـ . ق بمناسبة المؤتمر
للبحث عن آراء الفقهي للإمام الخميني (قدس سره)

(كانت هذه الرسالة باللغة الفارسيّة بقلم المؤلّف حفظه الله
وقد نقلت إلى اللغة العربيّة)

بسم الله الرحمن الرحيم

و في هذه الرسالة يقع البحث في فصول:

الفصل الأوّل: كلّيات البحث

ليس من العسير العثور على جوهرة ثمينة تسمّى بـ «الزمان والمكان»، و رصد تأثيرها على فروع فقهيّة عديدة في البحر الواسع والمترامي الأطراف لعلم الفقه، الجوهرة التي تمنح علم الفقه حياة وحركة. وبكلمة جامعة: تمنحه الخلود والامتداد الفاعل في أبعاد هامّة للمجتمع البشري. ويمكن القول بأنّه لو لم تبذل عناية خاصّة في دراسة واستكشاف هذا العنصر المؤثِّر فسوف يُصاب الفقه بالجمود والركود، ويصل الاجتهاد إلى طريق مسدود، وبالتالي يتمّ تحنيط الفقه في زاوية معيّنة من العالم والمجتمع البشري.

وبالرغم من أنّ تبيين هذا الأمر المهمّ، وتسليط الضوء على جوانبه المتنوّعة وأبعاده المختلفة; هي من شأن كبار الفقهاء والاُصوليّين من ذوي المباني، والمتمرِّسين والمتضلِّعين في الفقه والاُصول، بحيث يستطيعون حلّ العُقد المستصعبة في هذين العلْمين، نتيجة الممارسة الطويلة في عمليّة البحث الفقهي والاُصولي، وليس الأشخاص مثلي القدرة على التوسّع والتعمّق في دراسة هذا الموضوع بصورة وافية، إلاّ أنّنا بحسب الضرورة سنشير إجمالاً إلى هذا الموضوع المهمّ في هذه المقالة. ولعلّنا نستطيع بذلك تسليط الأضواء على زاوية من أفكار الإمام الخميني(قدس سره) الواسعة، و بالتالي نتمكّن من تحقيق مقصوده الأصلي في هذا المجال.

ونأمل أن يكون هذا البحث وسيلة للمحقّقين في دائرة الفقه والفقهاء العاملين الذين يحملون على عاتقهم أمانة الأنبياء والأولياء(عليهم السلام) إن شاء الله.

أ) مفهوم الزمان والمكان، وتأثيرهما في الفقه

قبل الدخول في أصل الموضوع لابدّ من توضيح إجماليّ لهذا العنوان، رغم أنّه سيتّضح أكثر ضمن المطالب اللاّحقة.

من المعلوم أنّ المراد بالزمان والمكان ليس هو معناهما اللغوي، وكذلك ليس المراد معناهما الفلسفي الذي يختلف الفلاسفة في تحقّقه اختلافاً شديداً، بل المراد هي الظروف، والخصوصيّات، والعلاقات الجديدة الحاكمة على الأفراد والمجتمع، والمتغيِّرة بتغيّر الزمان والمكان. وكذلك الاستنباطات المختلفة التي يستخرجها الفقيه من الأدلّة والمنابع الفقهيّة، نتيجة ارتباطه بالعلوم البشريّة الجديدة.

إنّ الأصل المقوّم لهذا الموضوع ـ وبمثابة الفصل المميّز له عن سائر المواضيع المتعلِّقة بعلم الفقه ـ هو تغيير الظروف والشرائط الموجودة في المجتمع، أو فئة من الناس بما من شأنه خلق مناسبات جديدة في علاقات الأفراد، وبالتالي اختلافهم في الفهم للحكم الشرعيّ بالاستناد على المباني الفقهيّة. وبما أنّ هذا الأمر يتحقّق غالباً بمرور الزمان، وتغيّر الأمكنة والظروف الجغرافيّة المختلفة، تمّ التعبير عنه بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد، وإلاّ فمن الممكن تحقّق هذا المعنى في زمان واحد; كأن يكون لشيء معيّن حكم خاصّ بسبب اختلاف الروابط، وتغيّر الظروف ممّا يستدعي طروّ عناوين جديدة عليه.

وفي نفس الوقت يكون له حكم آخر مع قطع النظر عن تلك الروابط والظروف. وعليه: فإنّ عنوان الزمان والمكان بنفسه ليس له دور في هذا البحث. وما له دور في هذا البحث عبارة عن:

أوّلاً: تغيير الشرائط وطروّ خصوصيّات جديدة تستدعي عناوين جديدة، وبالتالي تستلزم أحكاماً جديدة، وهذا التغيير يرتبط بأحد عنوانين:

1 ـ تغيير الموضوع نفسه، أو تغيير أحد قيوده بنحو يصلح لتبديل الحكم; من قبيل أنّ الشطرنج كان يستخدم في الماضي كأداة من أدوات القمار، ولكن فيما لو استعمل كلعبة فكريّة في هذا الزمان، من دون تدخّل عنصر المراهنة، خرج عن دائرة التحريم.

2 ـ حدوث حاجات وضرورات جديدة لم تكن محلّ ابتلاء في السابق، ولكنّ المجتمع البشري في هذا العصر، أو الأعصار القادمة يعتبرها أمراً ضروريّاً; من قبيل المسائل المستحدثة في الطب، كالتشريح ووصل أعضاء الميّت ببدن الحيّ. وكذلك الضرورات الاقتصاديّة; من قبيل التأمين، والبنوك وغيرها.

وثانياً: مع غضّ النظر عن تغيّر وتبدّل الموضوعات، أو الحاجات والضرورات الجديدة، فقد يحدث للفقيه ـ بسبب مرور الزمان وسعة العلوم البشريّة والارتباط الثقافي مع العالم ـ فهماً جديداً من الأدلّة والمنابع الفقهيّة يقوم على أساس نفس المباني الاجتهاديّة، مثلاً يفهم من الأدلّة التي تشترط إذن المعصوم (عليه السلام) أو نائبه الخاصّ في الجهاد، أنّ الجهاد الابتدائي يفتقد للمشروعيّة بدون إذن. والحال أنّ بعض الفقهاء في هذا العصر يرون أنّه يجب معرفة الملاك لهذا الشرط أوّلاً.

ومن المعلوم أنّ المقصود من شرطيّة هذا الشرط هو: أنّ الجهاد الابتدائي ليس من قبيل الصلاة والصوم، بل يحتاج إلى إمام وقائد يدرس جوانب الموضوع بنحو دقيق، ويتمّ الجهاد على أساس هذا النظر الدقيق له، ولسنا في صدد المناقشة في صحّة أو سقم هذه النظريّة، ولكن ذكرنا هذا المورد بعنوانه شاهداً على اختلاف الفهم بالنسبة للأدلّة الفقهيّة على أثر مرور الزمان.

وقد يتوهّم أنّ هذا الفهم نفسه كان في السابق لدى بعض الفقهاء أيضاً، وليس له أيّ ارتباط بمسألة الزمان والمكان، ولكنّنا في مقام الجواب نقول: رغم أنّ هذا التوهّم قد يكون له نصيب من الواقع، ولكنّ الفقيه يمكنه إمضاء هذا الفهم بمشاهدته للحروب وأشكال الدفاع.

ب) تأثير الزمان والمكان في العلوم الاعتباريّة

إنّ تأثير الزمان والمكان في الكثير من العلوم يكاد يكون مشهوداً وملموساً. وهذا المعنى واضح في العلوم التجربيّة والإنسانيّة إلى درجة لا يحتاج معها إلى بيان وتمثيل، مضافاً إلى ذلك فإنّ هذه المسألة لها دور هامّ في بعض العلوم الإلهيّة غير النظريّة أيضاً كالعرفان، يقول «صائن الدِّين علي بن محمد التُركة» في كتابه المعروف:

«ولا شكّ أنّ المناسبة الزمانيّة من أتمّ المناسبات»(1).

ومن الواضح أنّ المناسبات الزمانيّة والشرائط الخاصّة بالزمان والمكان لها أثر مهمّ في المسائل العرفانيّة والواردات القلبيّة، والمكاشفات المعنويّة للعارف. والغرض من نقل هذا المطلب بيان سعة دائرة تأثير الزمان والمكان، وإلاّ فإنّ ماجاء في باب العرفان يتفاوت كلّياً مع ما سيأتي من تأثير هذه المسألة في علم الفقه.

وما هو جدير بالذكر أنّ هذا العنصر الهامّ لا يتدخّل أبداً في المسائل النظريّةالحقيقيّة، فالعلوم المبتنية على القواعد العقليّة من قبيل الفلسفة والرياضيات لا تتأثّر بتغيّر الشرائط والخصوصيّات. نعم، لا يمكن إنكار تأثير تغيّر الزمانوالمكان في ظهور معادلات علميّة جديدة أفضل من السابق، من قبيل تغيير بعض القواعد الهندسيّة المبتنية على الاُمور الخارجيّة، مثل كرويّة الأرض، ولكن لا يمكن تغيير القواعد الرياضيّة والهندسيّة المبتنية على المباني العقليّة والمنطقيّة، وعليه يكون بإمكاننا بيان قاعدة كلّية في هذا المجال، وهي: أنّ جميع العلوم الاعتباريّة كالفقه تقع تحت تأثير هذا العنصر الهامّ، إلاّ أنّ تأثيره في العلوم الحقيقيّة محدود جدّاً، بل في حيّز العدم.

وبالرغم من أنّ علم الفقه كالعلوم الاعتباريّة الاُخرى له ملاكات مشخّصة من الناحية العلميّة، وله موضوع ومبادئ ومسائل مشخّصة كسائر العلوم الاُخرى، فلماذا يستنكر ويستوحش الفقهاء في البداية من مسألة تأثير هذا العنصر في الأحكام الشرعيّة، والحال أنّنا لا نرى أيّ لون من ألوان الاستنكار والاستيحاش في دائرة العلوم التجربيّة؟

هل أنّ وجود منبع استدلاليّ ثابت ومتقن ـ كالقرآن الكريم، ومعه الثقل الآخر وهي الروايات ـ يمثِّل نقطة الفرق بين علم الفقه وسائر العلوم؟

هل أنّ وجود بعض القواعد والأحكام التعبّدية هو السبب الذي يقف وراء ذلك؟

هل أنّ عدم الإحاطة بملاكات الأحكام الشرعيّة استوجب هذا الافتراق؟

لابدّ لمعرفة الجواب عن هذه الأسئلة ونظائرها من بيان أُمور:

الأوّل: أنّ هذه المسألة من أيّ مسائل العلوم؟ وبأدوات ووسائل أيّ علم يمكننا توضيح وبيان هذه المسألة؟

الثاني: لابدّ من بيان الفرق الأساسي بين هذه المسألة، والمسائل الاُخر: من

قبيل العرف، وبناء العقلاء، وحتّى المسائل المستحدثة; لأنّ البعض(1) تصوّر عدم وجود فرق بين هذه المسألة (تغيّر الزمان والمكان) وبين مسألة العرف وبناء العقلاء. فهذه تعبيرات مختلفة لمعنى واحد.

الثالث: لابدّ من دراسة الأبعاد الموجودة في علم الفقه من قبيل: الملاكات والموضوعات، والمتعلّقات، وكذلك أنواع وأقسام الحكم الشرعيّ.

ج) موقع مسألة الزمان والمكان

لم تبحث مسألة تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد في أيّ من العلوم المدوّنة الحاليّة، كالفقه والاُصول والكلام، ولهذا يجب البحث في أنّ الموقع العلمي لهذه المسألة في ضمن مسائل أيّ علم ستكون؟

من الواضح: أنّ علم الفقه لا يتكفّل تبيين هذه المسألة المهمّة; لأنّ الضابطة في المسألة الفقهيّة هي بيانها لحكم جزئيّ في موضوع معيّن، في حين أنّ مسألة الزمان والمكان ليست كذلك، ولا ترتبط مباشرة بفعل المكلّف، الذي يشكّل الموضوع لعلم الفقه.

وكذلك الحال بالنسبة لعلم الاُصول، حيث لا يتكفّل هذا الأمر; لأنّ معيار المسألة الاُصوليّة هووقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، أو بتعبير البعض(2): ما تقع في كبرى القياس، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان ليس لها هذه الصلاحيّة.

قد يخطر على الذهن في البداية أنّ هذا البحث مربوط بمبادئ الأحكام، وهذه المبادئ عبارة عن اللوازم والحالات المترتّبة على الأحكام الشرعيّة; من قبيل مسألة التضادّ وعدمه بين الأحكام الشرعيّة، وبما أنّ في هذا البحث تُبحث مسألة تأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة، يكون البحث عن عوارض وحالات الحكم الشرعيّ. وعليه: يدخل في مبادئ الأحكام الشرعيّة.

وسوف يتّضح لاحقاً أنّ هذا البحث ليس له تأثير مباشر في الأحكام الشرعيّة نفسها، بل يؤثّر غالباً في إيجاد تغييرات في دائرة الموضوعات والمتعلّقات.

وعليه: لا يمكن اعتباره من مبادئ الأحكام، والتحقيق هو: أنّ هذا البحث لا ينبغي أن يبحث بعنوان مسألة من المسائل حتّى نبحث عن العلم الذي تُبحث فيه هذه المسألة، بل هو عنوان كلّي عامّ يعبّر عنه بنظريّة دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ويرتبط بالنظريّات الفقهيّة العامّة.

وقد بيّنا في محلّه(3) أنّ بين المسألة الاُصوليّة والمسألة الفقهيّة والقواعد الفقهيّة من جهة، والنظريّة الفقهيّة العامّة من جهة اُخرى، بونٌ شاسع وتفاوت أساسيّ.

النظريّة الفقهيّة العامّة عبارة عن المباحث المتعلِّقة ببعض الموضوعات السائدة في أبواب مختلفة من علم الفقه، ولها دور في كثير من الفروعات المتفرّقة، وكذلك تكون أساساً ومبنىً لموضوعات أُخر; من قبيل البحث عن العرف وحقيقته وحدوده وتأثيره في المسائل الفقهيّة.

وعليه: فإنّ النظريّة الفقهيّة العامّة لاتتضمّن حكماً شرعيّاً، بل تتضمّن بيان شرائط وأركان أمر معيّن، وكذلك تحوي قضايا متعدّدة.

إنّ مسألة تأثير الزمان والمكان في الأبواب المختلفة لعلم الفقه هي نظريّة فقهيّة عامّة، يجب أن تُبحث في مكان آخر على مستوى تعريفها، وماهيّتها، ومقدار تأثيرها، وحدودها، وسائر الخصوصيّات الأُخر، فعلى هذا لا يمكن اعتبارها من مسائل أيّ علم من العلوم.

ويتبيّن من هذا المطلب:

أوّلاً: أنّ مسألة الزمان والمكان لا تدخل في أيّ علم من العلوم المتعارفة، كالفقه أو الأُصول.

وثانياً: أنّ هذه المسألة ليست قضيّة واحدة متشخّصة، بل تتضمّن عدّة قضايا متنوّعة.

وثالثاً: أنّ هذه المسألة ليس لها أيّ ارتباط مباشر بالأحكام الشرعيّة، ولاتستتبع حكماً شرعيّاً، وكذلك لا تعتبر دليلاً للحكم الشرعيّ، كما هو الحال في سائر أدلّة الأحكام. وعليه: فمن الخطأ أن نتصوّر أنّ بإمكاننا استخراج الحكم الشرعيّ، أو إقامة الدليل عليه من خلال الزمان والمكان.

ورابعاً: أنّ هذه المسألة ليس لها دور في عمليّة الاستدلال، بل لها دور في تبيين الموضوعات، أو إحدى الطرق الممهّدة لفهم الخصوصيّات والشرائط الجديدة لموضوع معيّن، أو في مقام تبيين ظاهر أحد الأدلّة.

وخامساً: بما أنّ هذه المسألة لا تُؤخذ بعنوان دليل مستقلّ، فلا يمكنهاأن تكون بمثابة مخصّص لدليل، أو حاكم على دليل، ولكن لها صلاحيّة أن تكون فعليّة من جهة الحكومة على دليل آخر; يعني أنّ من الممكن أن لا يكون بين دليلين أيّ ارتباط في بعض الموارد والظروف، ولكن في ظروف اُخر يكون أحدهما ناظراً إلى الآخر، ويرتدي عنوان الدليل الحاكم على الآخر، وسيتّضح هذا المعنى أكثر في المباحث اللاحقة.

د) تفاوت الزمان والمكان مع بعض الاُمور المشابهة

1 ـ الزمان والمكان ومسألة العرف

يرى بعض المحقّقين(4) أنّه لا فرق بين هاتين المسألتين، فكلّ واحدة منهما تعبير عن عنوان آخر لمسألة واحدة، في حين يتّضح مع التأمّل والدقّة في المطلب أنّ بينهما فرقاً أساسيّاً وواضحاً، ومن أجل تبيين هذا المطلب لابدّ من ذكر بعض الاُمور حول مفهوم العرف:

يقول الشهيد آية الله الصدر (قدس سره) في تعريف العرف: «وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاُصول اسم «السيرة العقلائيّة». والسيرة العقلائيّة عبارة عن ميل عامّ عند العقلاء ـ المتديّنين وغيرهم ـ نحو سلوك معيّن دونأن يكون للشرع دور إيجابيّ في تكوين هذا الميل، ومثال ذلك: الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم»(5).

والتحقيق: أنّه بالرغم من وجود نقاط مشتركة بين هاتين المسألتين، ولكنّهما يفترقان في خمس جهات:

الاُولى: يتضمّن عنوان العرف اتّجاهاً وميلاً لدى عموم الأفراد، وهو السبب وراء وجود منهج عمليّ لدى الناس كافّة.

في حين أنّ مسألة الزمان والمكان لا تكون بهذه الصورة دائماً، بل قد تحدث وقائع اجتماعيّة غير متوقّعة أحياناً، ولاتتضمّن أيّ نحو من الميل العامّ للناس.

الثانية: ترتبط مسألة العرف بعامّة الناس وأغلبيّة الأفراد الذين يعيشون في مجتمع واحد، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان ـ مضافاً إلى دورها الأساسيّ في صياغة المجتمع ـ لها تأثير واضح على الفرد المعيّن أيضاً، مثلاً الشيخ الأنصاري (قدس سره) (6)يرى في مسألة منجّزية العلم الإجمالي أنّ ابتلاء المكلّف هو أحد شرائط التكليف. ومن الواضح أنّ الشيء الواحد يمكنه أن يكون محلّ ابتلاء المكلّف في زمان معيّن، ويخرج ذلك الشيء نفسه عن محلّ الابتلاء في زمن آخر.

الثالثة: ترتبط مسألة الزمان والمكان في بعض مواردها ومصاديقها بحفظ الدِّين وصيانته من الزوال، وليس لهذه المسألة ارتباط بالعرف.

مثلاً: في زمان حياة الإمام الخميني(قدس سره) حصلت ظروف معيّنة أوجبت تعطيل الحجّ لمدّة ثلاث سنوات(7)، بل يمكن القول بأنّ وجوب الحجّ غير ثابت في تلك الظروف، والاستطاعة غير متحقّقة; لأنّ جميع الفروعات والأحكام الشرعيّة محكومة في مقابل مسألة حفظ أساس الدِّين، فهذه المسألة حاكمة على جميع تلك الموارد، ومقتضيات الزمان والمكان هي التي تقرّر فعليّة هذه الحكومة، رغم أنّنا قلنا سابقاً: إنّ هذه المسألة لا ترتبط مباشرة بمسألة تخصيص دليل بالنسبة إلى دليل آخر، أو حكومة دليل على دليل آخر، ولكنّها قد تكون سبباً لفعليّة حكومة الدليل الحاكم.

الرابعة: في بعض الموارد يمكن أن يحدث لموضوع يرتبط بالعلاقات الاجتماعيّة السائدة في المجتمع حكماً آخر، وليس لذلك أيّ ارتباط بالعرف.

الخامسة: في بعض الموارد يكون للعرف دور هامّ، ليس لمسألة الزمان والمكان أيّ تأثير فيها، مثلاً للعرف دور أساسيّ في فهم ظواهر الألفاظ والمفردات في اللغة، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان أجنبيّة عن هذا الأمر.

وعلى هذا الأساس; فالنسبة بين مسألة العرف، ومسألة الزمان والمكان هي العموم والخصوص من وجه.

2 ـ الزمان والمكان، وبناء العقلاء

ورد بناء العقلاء في علم الاُصول باعتباره أحد الأدلّة التي تُبحث ضمن موضوع السنّة، فلو أنّ العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ اتّفقوا على أمر من الاُمور في دائرةجلب المصلحة أو دفع المفسدة، وقد تمّ إمضاء هذا الاتّفاق من قِبل المعصوم (عليه السلام) . فحينئذ يعتبر دليلاً شرعيّاً يمكن الاستفادة منه في إثبات الحكم الشرعيّ، والحال أنّه قد تقدّم(8) أنّ مسألة الزمان والمكان ليس لها أيّ ارتباط مباشر مع الأحكام الشرعيّة.

ولا تعتبر دليلاً من الأدلّة الشرعيّة، ولتوضيح هذا المطلب لابدّ من بيان معنى بناء العقلاء باختصار:

إنّ المحقّق الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) يقول في تحقيقاته في البحوث الاُصوليّة: إنّ السيرة العقلائيّة لا تحتاج حجّيتها إلى إمضاء الشارع في موردين :

الأوّل : أن تكون السيرة العقلائيّة بنفسها منقّحة ثبوتاً لفرد حقيقيّ، من الموضوع، كما إذا لاحظنا دليل وجوب إمساك الزوجة بمعروف، أو تسريحها بإحسان(9) ، الذي دلّ على وجوب النفقة تحت عنوان «الإمساك بمعروف» ; فإنَّ المعروف من العرف، وهو الشايع والمستساغ .

الثاني : أن تتدخّل السيرة في تنقيح الموضوع إثباتاً وكشفاً، لاثبوتاً، كما كان في النحو الأوّل . كما إذا دلّ دليل على أنّ «المؤمنين عند شروطهم» ، واكتشفنا من تباني العقلاء، وسيرتهم على خيار الغبن، أنَّهم لايرضون في البيع والمعاوضة بفوات الماليّة، وإنَّمايرفعون اليدعن الخصوصيّة مع الحفاظ على الماليّة بما يساويها عرفاً في العوض .

وأمّا ما تحتاج في إثبات حجّيتها إلى إمضاء الشارع ففي موردين آخرين :

الأوّل : السيرة التي تنقّح ظهور الدليل، وهذا يدخل تحته أعمال المناسبات العرفيّة، والمرتكزات الاجتماعيّة المرتبطة بفهم النصّ .

الثاني : السيرة المتشرّعيّة; وهي التي يراد الاستدلال بها على كبرى الحكم الشرعي، كالسيرة العقلائيّة القائمة على أنّ من حاز شيئاً من الأموال المنقولة المباحة ملكها، وكذلك السيرة القائمة على خيار الغبن في المعاملة إذا اُريد الاستدلال بها على إثبات الخيار ابتداء(10) .

ويستفاد من كلمات الإمام الخميني (قدس سره) بأنّه لو فرض عدم العمل ببناء العقلاء في المورد الثاني; فإنّه يلزم منه اختلال النظام. وعليه: فليس فقط نستغني عن إمضاء الشارع، بل إنّ الشارع المقدّس لا يتمكّن من المخالفة في مثل هذا المورد، بل لابدّ له من العمل به بما أنّه أحد العقلاء(11).

وبالرغم من أنّ مرور الزمان، واكتشاف العلوم البشريّة الجديدة يؤثِّر في ظهور سلوكيّات، وسير عقلائيّة جديدة، ويهيّئ الأرضيّة لتحقّقها على أرض الواقع الاجتماعي ـ ومن هنا يتجلّى الارتباط الوثيق بين هاتين المسألتين ـ ولكن في الوقت نفسه فإنّ موارد كثيرة في مسألة الزمان والمكان لا ترتبط بمسألة بناء العقلاء وتوافقهم، على سبيل المثال ظهور موضوعات وضرورات جديدة من قبيل تشريح بدن المسلم.

وكذلك لو وصل الفقيه إلى حكم شرعيّ نتيجة سعة إطّلاعه، والوثوق بملاكه، وعمل على إجرائه في سائر الموارد، أو تعيين المصاديق في باب الاحتكار، حيث يكون بعهدة الوليّ المتصدّي للحكومة في كلّ زمان ـ فيختار المصاديق لهذا الأمر طبقاً لمقتضيات الزمان ـ أو ما نجده في باب الحجّ في مورد رمي الجمرات، حيث تمّ إضافة بناء جديد لها، فهل أنّ رمي الأحجار الإضافيّة مجز، أم لا؟ وأمثال هذه الموارد التي لا يكون لبناء العقلاء أيّ دور فيها.

3 ـ الزمان والمكان، والمسائل المستحدثة

توجد مسائل في الفقه المعاصر لم تُذكر في كتب فقهاء السلف، ولهذا ذكرت بعنوان المسائل المستحدثة; أي المسائل الجديدة; من قبيل تشريح بدن الميّت المسلم، هل يجوز ذلك، أم لا؟ أو هل يجوز وصل الأعضاء من بدن الحيّ لحيٍّ آخر، أو من ميِّت إلى بدن حيّ، أم لا؟

عنوان «المسائل المستحدثة» ـ بعكس المسألتين السابقتين ـ له ارتباط وثيق بمسألة الزمان والمكان، ولكن في نفس الوقت هناك فرق بين هذين العنوانين في جهة من الجهات.

ففي بعض المسائل يكون للمكان دور أساسيّ في تغيير الموضوع، في حين أنّه لا يعتبر من المسائل المستحدثة، وقد ذكر في كتب القوم; من قبيل مسألة بيع الماء في البيداء، حيث يتمتّع بماليّة وقيمة شرائيّة، ولكنّه في غير البيداء لا ماليّة له، وغير قابل للبيع والشراء، أو مسألة بيع وشراء الدم، حيث منع منه الفقهاء الماضون. ولكنّ الفقهاء المعاصرين أجازوا هذه المعاملة لترتّب المنفعة العقلائيّة عليها، فهذه المسألة مذكورة في كتب القدماء، وليست من المسائل المستحدثة.

النتيجة هي: أنّ المسائل المستحدثة تدور نوعاً حول الموضوعات الجديدة التي لم تبحث في السابق، أو لم تحقّق قبل ذلك، كالصلاة في المناطق القطبيّة، في حين أنّ مسألة الزمان والمكان أعمّ من هذه المسألة، وتدور حول تغيير خصوصيّات الموضوع الذي تمّ بيان حكمه سابقاً.

ونستنتج ممّا تقدّم أنّ مسألة الزمان والمكان بحث واسع يستوعب مسألة العرف، وبناء العقلاء، والمسائل المستحدثة، وهذه المسائل تعدّ في كثير من الموارد من صغريات هذه المسألة.

4 ـ الزمان والمكان، ومسألة النسخ

لا شكّ في وقوع النسخ في الشرائع السابقة، وكذلك في بعض أحكام الشريعة الإسلاميّة، والمقصود من النسخ هو: أنّ الشارع المقدّس يرفع حكماً كان قد قرّره في مدّة معيّنة من الزمان لمصلحة فيه بعد انقضاء تلك المدّة. وعليه: فإنّ النسخ في الاصطلاح يختصّ بالأحكام الشرعيّة، وكذلك من اللازم في النسخ أن يتمّ رفع الحكم السابق بواسطة نصّ شرعيّ آخر يدلّ على حكم آخر.

إنّ علماء أهل السنّة لا يرون فرقاً بين النسخ وتأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة، ويقولون بأنّ النسخ عبارة عن إبطال نصّ شرعيّ سابق بوسيلة نصّ لاحق.

أمّا مسألة تغيير الأحكام بسبب شرائط الزمان، فهي عبارة عن عمل بنصّ سابق، ولكن يستفاد منه حكم جديد مبتن على دليل مستفاد من ظروف النصّ تبعاً للمصلحة الزمانيّة; يعني أنّ العمل بحكم النصّ تابع للمصلحة الوقتيّة، فلو تغيّرت المصلحة تغيّر الحكم تبعاً لها، دون أن يكون هناك حاجة لتغيير النصّ. ومن جهة يكون المبطل للعمل بالنصّ في المسألة هو الشارع، ولكن من يغيّر العمل بالحكم في مسألة تغيير المصلحة هو المجتهد(12).

وسوف نذكر لاحقاً(13) أنّ الإماميّة ترى عدم وجود مرجع لإبطال الحكم أو تغييره سوى الشارع المقدّس. وفي الوقت نفسه هناك تفاوت واضح بين هاتين المسألتين; لأنّ مسألة الزمان والمكان لا ترتبط مباشرة بالأحكام، بل تبحث عن تغيّر وتبدّل الموضوعات وحدوث خصوصيّات جديدة في موضوع معيّن، أو اختلاف الفهم من ظاهر الدليل.

وأمّا مسألة النسخ، فترد مع حفظ الموضوع ومن دون طروّ أيّ تغيير في خصوصيّاته.

5 ـ الزمان والمكان، وقاعدة الأهمّ فالأهمّ

أحياناً يتصوّر الشخص أنّه مع وجود القواعد العقليّة والعقلائيّة ـ من قبيل قاعدة «لزوم تقديم الفعل الأهمّ على الفعل المهمّ» ـ لا تبقى حاجة للبحث في مسألة تأثير الزمان والمكان، ولعلّ هذا المعنى يخطر على الذهن في البداية، وهو أنّ التمسّك بهذه القاعدة يمكنه أن يفي بالإجابة على جميع فروعات مسألة الزمان والمكان.

ولكن لرفع ودفع هذا التصوّر لابدّ من بيان الفرق بين هاتين المسألتين، فرغم وجود الارتباط الوثيق والعميق بينهما، أنّ هناك موارد في مسألة الزمان والمكان تكون هذه القاعدة أجنبيّة عنها.

مثلاً في مسألة بيع وشراء الدم ـ حيث يتمّ تجويزها لدى العقلاء، هذه الأيّام، لوجود المنفعة المعتبرة ـ لا يوجد أيّ ارتباط بينها ، وبين قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ، ولكن من جهة اُخرى تجري هذه القاعدة في موارد لا ترتبط بمسألة تأثير الزمان والمكان، كالمثال المعروف حين الورود إلى المسجد، فلو التفت المكلّف إلى وجود نجاسة في المسجد، وجب عليه فوراً تطهير المسجد منها.

وهذا الفعل يكون أهمّ من الصلاة في الوقت الموسّع.

والملاحظة الجديرة بالاعتبار هي: أنّ اختلاف الأزمنة وحدوث شرائط زمانيّة ومكانيّة معيّنة، بإمكانها إعطاء الأهمّية لفعل من الأفعال. وبعبارة اُخرى: إنّ الموضوع الذي كان عديم الأهمّية في السابق، يضحى مهمّاً في اللاحق.

6 ـ الزمان والمكان، وقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»

من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي قاعدة مفادّها: أنّه في حال وجود ضرورة، أو اضطرار لشيء ممنوع شرعاً أو عقلاً، يرتفع المنع أو النهي، ويرتدي الفعل لباس الجواز; من قبيل حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه، ففي صورة الضرورة أو الاضطرار، كالعبور من ملك الغير بدون إذنه لغرض إنقاذ نفس محترمة، يخرج هذا الفعل من دائرة المنع، وعلى أساس هذه القاعدة، فالضرورات تبيح المحظورات، أو الممنوعات(14).

ورغم وجود خلاف ونزاع في تفسير هذه القاعدة، ومدركها، وحدودها، ومواردها، إلاّ أنّها بنحو الإجمال إحدى القواعد المسلّمة التي أجراها الشارع المقدّس في شريعته.

وأمّا مورد جريان هذه القاعدة، فمقيّد بأمرين:

الأوّل: وجود المنع أو النهي.

الثاني: أن يكون المكلّف مضطرّاً إلى ارتكابه.

هذا، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان لا تتحدّد بهذين القيدين، فالكثير من الموارد يكون للموضوع حكم جديد مع تغيّر خصوصيّات ذلك الموضوع بمرور الزمان، من دون أن يكون هناك ضرورة واضطرار في البين.

الفصل الثاني :

كيفيّة تأثير الزمان والمكان، ودائرتهما

أ) تأثير الزمان والمكان في ملاكات الأحكام

طبقاً لمبنى المعتزلة والإماميّة بأنّ جميع الأحكام مترتّبة على وجود ملاكات; أي المصالح والمفاسد، ولا يوجد حكم من دون الأخذ بنظر الاعتبار ملاك إنشائه، ففي هذا القسم نبحث في تأثير الزمان والمكان بملاكات الأحكام، وارتباطهما بهذه المسألة.

ومع قليل من التأمّل يمكننا أن ندرك جيّداً أنّ الزمان والمكان مؤثِّران قطعاً في إيجاد ملاك معيّن أو رفعه، وكذلك في تضعيفه أو تشديده، ومن الممكن أن لا يكون لفعل مصلحة في زمان معيّن، ولكن نفس ذلك الفعل تترتّب عليه منفعة ومصلحة في زمن آخر، من قبيل بيع وشراء الدم، حيث لم تكن فيه منفعة في السابق، ولكنّه ذو منفعة في العصر الحاضر.

ومن أجل توضيح هذا المطلب: لابدّ من وضع ملاكات الأحكام في أقسام وأنواع مختلفة ودراستها.

ففي تقسيم ابتدائي وسطحي تنقسم الأحكام الشرعيّة إلى أربعة أقسام:

1 ـ أحكام عباديّة.

2 ـ أحكام معاملاتيّة.

3 ـ أحكام شخصيّة.

4 ـ أحكام تتعلّق بالنظام السياسيّ، والمجتمع (أحكام اجتماعيّة).

1 ـ ملاكات الأحكام العباديّة

المراد من الأحكام العباديّة: التعليمات والأوامر التي يحتاج المكلّف لامتثالها والإتيان بها إلى قصد القربة، وقد جعلها الشارع المقدّس لغرض تهذيب النفوس وتقوية جانب العبوديّة في الإنسان، ورغم أنّ بعض العبادات مجهولة الملاك وهويّته في أنظار المحقّقين، ولكن لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أنّه في بعض الموارد يمكننا استخراج ملاكات الأحكام العباديّة من باطن الشريعة.

طبقاً لفتوى بعض الفقهاء: أنّه لو اُقيمت صلاة الجمعة وجب على المؤمنين حضورها والاشتراك فيها على الأحوط، ولكن في حالة عدم إقامتها في زمن معيّن فسوف لاتكون مجزئة عن صلاة الظهر أيضاً(15).

يستفاد من هذه الفتوى جيّداً أنّ الفعل العبادي يمكنه أن يكون ذا مصلحة في ظروف زمانيّة خاصّة، وفاقداً لها في ظروف وشرائط اُخر. وبعبارة اُخرى: يمكننا اكتشاف ملاك هذه العبادة في بعض الأزمنة من هذه الفتوى.

إنّ ما هو المسلّم هنا أنّ من بين المسائل العباديّة ما يكون مقدّماً في نظر الشارع المقدّس على الآخر، وما أكثر ما يكون لمسألة الزمان ومقتضياته وخصوصيّاته دوراً واضحاً في هذا التقدّم.

وعليه: فإنّ ما تصوّره بعض الكتّاب(16) من أنّ بحث العبادات خارج عن دائرة مسألة تأثير الزمان والمكان، هو توهّم لا أساس له من الصحّة، ويستفاد جيّداً من كلمات الإمام الراحل (قدس سره) أنّ هذا البحث يشمل مسألة العبادات أيضاً، والشاهد على ذلك مسألة الحجّ وتعطيله لمدّة ثلاث سنوات(17)، وكذلك يمكن القول بأنّ إقامة صلاة الجمعة في عصر الحكومة الإسلاميّة، بإمكانه أن ينفي على الأقلّ استحباب صلاة الظهر جماعة، فتأمّل.

2 ـ ملاكات الأحكام المعاملاتيّة

أمّا في دائرة المعاملات، فالمسألة أوضح بكثير من العبادات; لأنّ المعاملات في حقيقتها أُمور عقلائية تمّ إمضاء الشارع المقدّس للكثير منها. وعليه: فإنّ ملاكات المعاملات واضحة لدى العقلاء غالباً.

ومن جهة الرجوع إلى العقلاء نرى أنّهم يرون أهمّية فائقة للزمان والمكان في هذه الدائرة، فيمكن أن لا يكون لشيء معيّن ماليّة وقيمة لدى العقلاء في زمان خاصّ، ولكن ذلك الشيء نفسه يتمتّع بقيمة في زمن آخر، وتتمّ المعاملة عليه، أو أنّ نوعاً من المعاملة يعتبر في زمان ومكان معيّنين من أنواع المعاملة الغبنيّة، وفي زمان آخر أو مكان آخر لا يكون كذلك، فعلى هذا فإنّ مسألة الزمان والمكان لها دور أساسيّ في جميع العناوين والشرائط التي يعتبرها العقلاء في المعاملات.

أمّا الشرائط والخصوصيّات التي اعتبرها الشارع المقدّس بصورة مستقلّة وبعنوان كونه شارعاً، من قبيل جعل الخيار لمشتري الحيوان ثلاثة أيّام، أو مسألة التنجيز في العقود، أو بعض موارد الضمان، فلا أثر للزمان والمكان في هذه الموارد.

وفي هذا البين نواجه بعض الخصوصيّات الموجودة في بعض العقود والإيقاعات، الذي يورث الشكّ لدى الفقيه ابتداءً في أنّ الشارع هل اشترط ذلك بعنوان ملاك تعبّدي، أو على أنّه ملاك عقلائيّ، مثلاً في عقد النكاح الذي يعدّ من المعاملات بالمعنى الأعمّ، قد قرّر الشارع بعض العلل لفسخ النكاح من قبيل القرنأو البرص، ففي مثل هذا المورد يحصل لدينا شكّ في البداية بأنّ مجرّد وجود هذا العيب هل يسوّغ فسخ النكاح، والشارع ـ بعنوان كونه شارعاً ـ أنشأ هذا الأمر، أو أنّ مثل هذه العيوب، وبسبب كونها صعبة العلاج في الماضي أوجبت جواز الفسخ؟ وفي هذا العصر حيث تطوّر علم الطبّ، وبإمكانه علاج مثل هذه الأمراض بسهولة من خلال عمليّة جراحيّة بسيطة، هل يزول بسببيّتها فسخ النكاح؟

ومن جهة اُخرى: هل أنّ أسباب فسخ النكاح منحصرة في هذه العيوب الخمسة الواردة في الروايات(18)، أو أنّ الأمراض العسيرة العلاج في هذا الزمان، مثل السرطان والإيدز يمكن أن تكون من موجبات فسخ النكاح؟

ومن أجل حلّ هذه الإشكالات وعلامات الاستفهام يمكننا القول بأنّ الشارع إذا قصد إعمال التعبّد في الحكم، فلابدّ من نصب قرينة وإضافة بيان خاصّ بذلك، وبدون إقامة القرينة يجب حمل ذلك الحكم على وفق الارتكازات العقلائيّة وتفسيره على هذا النحو. وبعبارة اُخرى: في مورد العبادات يكون وجود ملاك تعبّديّ لا يتمكّن العقلاء من دركه وفهمه محتمل جدّاً.

ولكن وجود مثل هذا الملاك في الموارد غير العباديّة ـ بحيث يعجز العقلاء عن درك مغزاه وفحواه، ويكون الشارع قد جعل الحكم بلحاظ ذلك الملاك ـ بعيد جدّاً، وعلى فرض تحقّق هذا الأمر من الشارع ولو في صورة نادرة، فلابدّ للشارع من نصب قرينة لبيان قصده في إعمال التعبّد لكيلا يُحمل على الملاك الارتكازي للعقلاء.

3 ـ ملاكات الأحكام الشخصيّة

توجد في علم الفقه بعض الأحكام يطلق عليها عنوان «الأحكام الشخصيّة» والمراد منها: الأحكام التي يكون موضوعها، أو متعلّقها غير مرتبط بالمجتمع ونظام الحكم فيه، بل يؤخذ الشخص بما هو شخص في موضوعها.

وبعبارة أُخرى: إنّ ملاك هذا النمط من الأحكام وجود المصلحة أو المفسدة المتعلّقة بالشخص فحسب، دون المجتمع، من قبيل المعاملات الشخصيّة التي تُعقد بين شخصين.

فمثل هذه المعاملة تقع صحيحة شرعاً، ويؤخذ في هذا الحكم الملاك الشخصي. وهكذا الحال في وجوب الصلاة، وكثير من الأحكام العباديّة، فالشارع المقدّس قد وضع الصلاة على الشخص المكلّف بعنوان تكليف فرديّ، فيجب عليه امتثاله والإتيان به في جميع الظروف، وفي كلّ زمان ومكان، وهذا الحكم وإن كان لا يخلو من فوائد اجتماعيّة، ولكنّ الملاك الأساسي فيه هي المصلحة المتعلِّقة بالأفراد.

وهنا لابدّ من ذكر هذا الأمر; وهو: أنّ بعض العناوين والموضوعات، كالبيع مثلاً، تارةً: تكون شخصيّة، مثل كثير من المعاملات المنعقدة بين الناس، وتارةً أُخرى: تخرج عن الإطار الشخصي، مثل شراء بضاعة من شركة صهيونيّة، فمع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ ربح هذه المعاملة سيصبّ في جيب الصهاينة، ويؤدّي إلى تقوية هذه الدولة الغاصبة، ففي هذه الصورة لا يمكن القول بجواز هذه المعاملة.

4 ـ ملاكات الأحكام الاجتماعيّة

الأحكام التي يُلحظ فيها جهة حفظ مصالح المجتمع، ونظامه السياسيّ، لها خصوصيّة متميِّزة في علم الفقه، ورغم أنّ هذه الأحكام لم تُبحث بشكل مستقلّ في الفقه، ولكن يمكن العثور على مثل هذه الأحكام ضمن أبواب الفقه وأحكامه.

وهذا النوع من الأحكام له ارتباط وثيق بالأحكام الحكوميّة، وقد ذهب البعض إلى أنّ هذه الأحكام من حيث الكمّية والمقدار أكثر بكثير من الأحكام الشخصيّة في الشريعة المقدّسة، وأنّ الأحكام الجزائيّة والقضائيّة في الفقه هي من هذا النوع من الأحكام.

وبديهيّ أنّ الملاك الأساسي في مثل هذه الأحكام هو حفظ الدِّين والمجتمع والنظام الاجتماعي، ومن جهة أُخرى: من البديهي أنّ المصالح تختلف باختلاف الظروف والأزمنة، وعليه: فإنّ الأحكام المتعلِّقة بالنظام الاجتماعي سوف تتغيّر تبعاً لتغيّر الزمان واختلاف المكان، وأحد الأركان والمراجع المهمّة في الفقه الإسلامي، الذي يمكنه تشخيص المصلحة في الأزمنة المختلفة، وإعطاء الحكم وفقاً لتلك المصلحة هو الوليّ الفقيه.

النتيجة: أنّ الزمان والمكان بالمعنى الاصطلاحي له صلاحيّة التأثير في ملاكات الأحكام الشرعيّة، ولكن هذا التأثير يكون محدوداً جدّاً في دائرة الأحكام العباديّة، والشخصية، وواسع جدّاً في دائرة الأحكام المعاملاتيّة والاجتماعيّة.

ب) تأثير الزمان والمكان في موضوعات ومتعلّقات الأحكام

1 ـ تعريف الموضوع والمتعلّق

إنّ كلّ قضيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً لابدّ أن يكون لها موضوع يترتّب عليه الحكم، وكذلك لابدّ أن يكون لها متعلّق يتعلّق به الحكم، ولهذين الأمرين ـ أي الموضوع، والمتعلّق ـ اصطلاحات مختلفة لدى الاُصوليّين، فالمحقّق النائيني (قدس سره) (19) يقول في مثال حرمة شرب الخمر: إنّ الحكم عبارة عن الحرمة، والمتعلّق هوالشرب، والموضوع هو الخمر، وفي مثال وجوب الزكاة يكون الوجوب هو الحكم، والأشياء متعلِّق الحكم، والزكاة موضوعه أو متعلّق المتعلّق.

الموضوع عبارة عن شيء مفروض الوجود في مرتبة سابقة على الحكم، بخلاف المتعلّق; فإنّه ليس كذلك، بل هو في مرتبة الأمر والحكم، ومن خلال الأمر يكون المكلّف مأموراً بالإتيان به، وكذلك بالنهي يكون مأموراً بتركه.

والبعض الآخر(20) يرى أنّ الموضوع في المثالين المذكورين ـ أي حرمة شرب الخمر، ووجوب الزكاة ـ هو الإنسان المكلّف.

والحكم غير قابل للتغيّر من دون تغيّر الموضوع، أو قيوده، أو المتعلّق. إلاّأن يكون المراد من تغيير الحكم: أنّ نظر الفقيه على أثر مرور الزمان، وسعة إحاطته العلميّة يكون أقوى من السابق في دائرة الاستنباط من الأدلّة الشرعيّة، ويأخذ بنظر الاعتبار مباني جديدة في حركة الاجتهاد.

والبحث هنا يدور حول كيفيّة تأثير الزمان والمكان في الموضوعات أو المتعلّقات، فالزمان والمكان لاتأثير لهما في نفس عناوين الموضوعات والمتعلّقات; بمعنى أنّ الموضوع أو المتعلّق لا يخرج عن إطار عنوانه مع تغيّر الظروف والخصوصيّات الزمانيّة والمكانيّة; أي أنّ شرب الخمر مثلاً يبقى دائماً متعلِّقاً للحرمة، والتأثير الوحيد الذي يمكن تحقيقه في هذا المجال، هو أن يقوم بتغيير الشرائط والخصوصيّات التي تمّ جعل الحكم بالنظر لها، والإتيان بشرائط وخصوصيّات جديدة ممّا يستتبع تبدّل الحكم.

والملاحظة المهمّة التي لابدّ أن تؤخذ بنظر الاعتبار هي: أنّ الفقيه يجب عليه أن يدرك جيّداً ـ من خلال التأمّل والتدبّر ـ أنّ هذه الخصوصيّة والحيثيّة

الملازمة للموضوع، هل يمكنها أن تكون مؤثِّرة في تغيير وتبدّل الموضوع إلى موضوع آخر، أم لا؟

وببيان أوضح: من الممكن أن يحمل حكم على موضوع معيّن بنحو الإطلاق; أي أنّ الظاهر هو أنّ الدليل يترتّب الحكم على ذلك الموضوع بجميع شرائطه وخصوصيّاته، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الواقع هل هو كذلك؟

مثلاً يمكن أن يدّعي أحد الأشخاص ـ على أساس رواية واردة في هذا الموضوع ـ أنّ الشطرنج الذي كان حسب الظاهر من أدوات القمار في مرحلة الحدوث، قد حرّمه الشارع على الدوام، وحرّم جميع أنحاء استعمالاته، حتّى في الزمن الذي خرجت فيه هذه اللعبة عن عنوان القماريّة ، فالذي هو المهمّ في هذا المورد، ومحلّ تأكيد الإمام الراحل (قدس سره) أيضاً أنّ الفقيه يجب أن يعلم أنّ الأحكام الصادرة من الشرع لم تطرح يوماً من دون اعتبار الخصوصيّات، والظروف المحيطة بالموضوع في ذلك الزمان، بل تمّ جعل ذلك الحكم على ذلك الموضوع مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الخصوصيّات والظروف.

ومن أجل توضيح وتكميل هذا المطلب لابدّ من بيان أنواع الموضوع وأقسام التغيير على سبيل الإجمال.

2 ـ أقسام التغيير في خصوصيّات وشرائط الموضوع

الأوّل: أحياناً تحدث تغيّرات على أثر مرور الزمان في بعض الموضوعات، بحيث يخرج ذلك الموضوع من العلّة التي أوجبت طروّ الحكم عليه، ويدخل في علّة جديدة توجب حكماً جديداً له، مثلاً في مسألة بيع وشراء الدم، حيث لم يحدث تغيّر في ذات الموضوع; أي الدم، بل إنّ الدم لم تكن فيه منفعة محلّلة مقصودة لدى العقلاء، وهذا هو السبب في بطلان المعاملة، ولكن في هذا الزمان خرج الموضوع من دائرة تلك العلّة ودخل في علّة أُخرى; وهي عبارة عن المنفعة المقصودة لدى العقلاء، ومن هنا يدخل في دائرة الحكم بالصحّة والجواز.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّه مع أثر مرور الزمان وحدوث تغييرات جديدة في الموضوع، إذا خرج الموضوع من دائرة التعليل لذلك الحكم، ودخل في تعليل آخر، استوجب حكماً جديداً. وينحصر هذا الأمر بالموضوعات التي تمّ التصريح بعلّة حكمها، أو علمنا بالعلّة بشكل قطعيّ.

الثاني: في بعض الموضوعات للقضيّة المتضمِّنة للحكم لا يوجد تعليل خاصّ للحكم، بل ذكر الحكم للموضوع بنحو مطلق، ففي مثل هذه الموارد إذا كان الموضوع أمراً عباديّاً، ولا طريق لنا للوصول إلى العلّة بشكل قطعيّ، فمرور الزمان، وتغيّر الظروف لا يستوجب أيّ تغيير في الحكم، بل تجري حينئذ قاعدة الأهمّ فالأهمّ، بحيث يقدّم الأمر الآخر الذي له ملاك أقوى وأهمّ، على هذا الموضوع العبادي.

وطبعاً; فإنّ بعض الموضوعات العباديّة رغم عدم وجود علّة الحكم في ظاهر الدليل، إلاّ أنّنا بإمكاننا الوثوق بعلّة الحكم في نظر الشارع، مثلاً في رمي الجمرات حيث نستفيد من مناسبات الحكم والموضوع أنّ طول وعرض الجمرة لا دخل له في ترتّب الحكم، بل نحن على ثقة بأنّ رمي الجمار إنّما يحكي عن تذكير الناس بعمل إبراهيم وآدم (عليهما السلام) ، ولغرض امتثال أمر الله تعالى.

وعليه: يمكننا الفتوى بجواز رمي المقدار الزائد، بخلاف ما ذهب إليه بعض الفقهاء العظام من الإشكال في هذا المورد(21).

وأمّا لو كان الموضوع غير عباديّ; أي لم يؤخذ في الإتيان به قصد القربة، فعلى الفقيه أن يسعى للعثور على العلّة الأساسيّة للحكم، مثلاً في تحريم الموسيقى لم تذكر علّة خاصّة في لسان الشريعة، فيكون هذا الأمر بعهدة الفقيه ليتحقّق ويرى أنّ هذا العنوان واقع ضمن أيّ من العناوين المحرّمة في الشريعة، هل هو محكوم بالحرمة من باب اللهو، أو من باب شمول عنوان الباطل له، أو لعلل أُخر؟

ما هو الجدير بالذكر أنّ القطع بالعلّة في مثل هذه الموارد غير ضروريّ، بل يكفي الوثوق بها، ويرى المحقّق البروجردي (قدس سره) ـ في بحث أسانيد الروايات ـ أنّه لو كان الحديث غير متواتر، ولكنّ الفقيه يثق بصدوره بسبب تعدّد النقل، كفى هذا المقدار للعمل بذلك الحديث(22)، فهذه النظريّة يمكنها أن تكون حلاًّ مناسباً لما نحن فيه.

ففي نظرنا أنّ العلّة الأساسيّة للاختلاف في تأثير الزمان والمكان في الفتوى الاجتهاديّة هو هذا الأمر، حيث يذهب المنكرون للتأثير أنّ الموارد التي لم يرد فيها بيان علّة الحكم بصورة قطعيّة، لا يمكننا تغيير الحكم بسبب اختلاف الأزمنة وتغيّر الأمكنة، في حين أنّنا لو ذهبنا إلى أنّ الفقيه يمكنه من خلال التتبّع في الموارد المماثلة الوثوق بالعلّة، فيكون هذا المورد بحكم مقطوع العلّية، ويجب أن يترتّب عليه حكم جديد بسبب خروج موضوعه من العلّة الاُولى، ودخوله في علّة أُخرى.

ومسألة الشطرنج من هذا القبيل، رغم أنّ الروايات(23) ذكرت تحريمه بصورة مطلقة، ولكن بالتأمّل والتدقيق يتّضح لنا بأنّ هذه الآلة بسبب أنّها كانت من آلات القمار ـ بضميمة وجود المراهنة ـ ورد تحريمها في الشرع(24).

وعلى هذا الأساس المهمّ جدّاً هو أن يقوم الفقيه بالتحقيق في الموضوعات غير العباديّة، والتي لها علّة غير تعبّديّة طبعاً، بل تعتمد على نكتة ارتكازيّة عقلائيّة، وتكون مورد درك العقلاء أيضاً، ويرى ما هي النكتة الأساسيّة لذلك الحكم، وطبعاً بعد الوثوق من العلّة يتحرّك لتطبيقها على صغريات مسألة تأثير

الزمان والمكان مع اختلاف الشرائط والظروف.

ولأجل توضيح المطلب نستعين بذكر مثال آخر في هذا الباب، فقد ورد في الروايات الصحيحة أنّ المرأة الزانية غير المحصنة ـ مضافاً إلى عقوبة الجلد ـ يجب أن يُحكم بتبعيدها عن موطنها(25)، وجملة من الفقهاء أفتوا بلزوم التبعيد استناداً إلى هذه الروايات(26)، في حين أنّ جماعة الاُخر بعد التأمّل والتدقيق أفتوا بعدم جواز التبعيد، وعلّلوا ذلك بأنّ تلك المرأة رغم وجودها في إطار الاُسرة ارتكبت ما ينافي العفّة، فكيف لو خرجت من ذلك الإطار؟ فإنّ احتمال البغي والفساد سيشتدّ في شأنها(27).

وهذه الفتوى صدرت في زمان لم يكن فيه سجن خاصّ بالنساء.

ولكن في الحال الحاضر حيث توجد مثل هذه السجون الخاصّة بالنساء المجرمات، فمن الطبيعي أن يكون التبعيد جائزاً، ويجب الانتباه إلى أنّ السجن هو غير التبعيد، فالمراد من التبعيد هو أن يعيش الشخص في محلّ بعيد عن المحلّ الذي يعرفه الناس فيه، وطبعاً نفس معرفة الناس هذه تسبّب في وجود روابط وعلاقات خاصّة، ولكن في مسألة السجن لا يختلف الحال بين سجن مدينته، أو سجن مدينة أُخرى.

ومن هنا نستنتج بأنّ الأمر بالتبعيد في هذه الروايات أمرٌ إرشاديّ،والشارع قد ذكر هذه العقوبة من أجل إبعاد المجرم عمّن يعرفه في عمليّةعلاج هذه الواقعة.

والجدير بالذكر أنّ علاج وحلّ بعض المشاكل الاجتماعيّة ـ ممّا لا ينسجم مع ما ورد في الروايات ـ يدور في هذا الإطار، فيجب على الفقيه المتبحِّر التحقيق ابتداءً في التكاليف الواردة في الروايات ليرى هل أنّ ذلك التكليف هو تكليف مولويّ لا يقبل التغيير والتبديل، أو أنّه تكليف إرشاديّ قابل للتغيير مع تغيّر خصوصيّات الموضوع المُشار إليه؟ وهذه المسألة ـ مضافاً إلى كونها تفيد هذه الفائدة ـ تمثِّل إحدى طرق حلّ التعارض الظاهري بين الروايات. وهناك أمثلة كثيرة لهذا المطلب في الفقه.

الثالث: في بعض الموارد تتغيّر خصوصيّات الموضوع، بعد تغيّر الظروف بمرور الزمان، دون أن يكون هناك بحث في العلّة، مثلاً في صحّة البيع لا يوجد هناك فرق بين بيع المسلم والكافر، فالمعاملة في كلا الحالين صحيحة، ولكن في الظروف الحاليّة قد يستوجب البيع والشراء من الكفّار تقوية موقعهم السياسي، وحينئذ قد يستشكل في جواز البيع في هذا المورد، ففي هذا المثال حدث تغييرات في الموضوع; أي في خصوصيّات البيع على مستوى البائع والمشتري، فدخل تحت قاعدة «نفي السبيل».

وعليه: فالتغييرات التي حصلت للموضوع، وأدّت إلى نشوء خصوصيّات جديدة له; فمن الطبيعي أن يكون له ـ مع هذه الخصوصيّات الجديدة ـ حكم جديد.

و يتّضح من خلال ما تقدّم أنّ إحدى المهامّ والوظائف المهمّة للفقيهة الالتفات إلى أنّ الموضوع في حال تغيير الشرائط، وحدوث خصوصيّات جديدة، سوف يدخل في أيّ دائرة من الأدلّة والموضوعات. فالفقيه مع تسلّطهفي جميع الأبواب الفقهيّة، وإحاطته الكاملة بجميع المباني الاُصوليّة، وجميعالأدلّة يمكنه في حال تغيّر الشرائط إدراك أنّ هذا الموضوع مصداق لأيّ عنوانمن العناوين.

وهنا تتّضح حركة وفاعليّة الفقه المتداول والموروث. وعلى هذا الأساس فالفقيه قادر على حفظ حركة الفقه، ورشده بذلك المنهج المتداول الذي يصطلح عليه بـ «فقه الجواهري»، ويمكنه وضع كلّ موضوع في دائرة دليله الخاصّ مع مرور الزمان.

إنّ أكثر المعاملات الجارية في زماننا الحاضر، والسائدة بين العقلاء; هي في الموضوعات التي أصبح لها حكم جديد مع تغيّر الظروف وحدوث خصائص جديدة لذلك الموضوع.

الرابع: بعض الموضوعات لم يكن لها وجود في السابق، بل وُجدت مع مرور الزمان، وحدوث احتياجات وارتباطات جديدة للبشر، والتي يعبَّر عنها بالمسائل المستحدثة، ومن وظائف الفقيه المهمّة هي: دراسة هذه الموضوعات واستنباط حكمها الشرعيّ، من قبيل: التلقيح الصناعي، وحقّ التأليف، وزرع الأعضاء من الحيّ إلى الحيّ، أو من الميّت إلى الحيّ.

فهذه الموضوعات وإن لم يكن لها وجود في السابق، ولكن يمكننا اكتشاف حكمها من خلال الملاكات المشتركة بينها، وبين نظائرها. وكذلك من خلال العمومات والإطلاقات الواردة، مثلاً في مسألة التلقيح الصناعي لابدّ من البحث أنّه هل هذا العمل يتنافى مع وجوب حفظ الفرج الوارد في الشرع في قوله ـ تعالى ـ : {قُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (28)، أم لا؟

وبعبارة اُخرى: هل يمكن القول بأنّ حذف المتعلِّق يدلّ على العموم؟ أي أنّ حفظ الفرج واجب عن كلّ شيء لم يقم الدليل على عدم لزوم حفظه تجاهه، وبما أنّه لم يقم دليل على عدم لزوم حفظ الفرج من إدخال منيّ الأجنبي، فهو داخل تحت ذلك العموم، أو لابدّ يُقال بأنّ الكبرى الكلّية لهذا الدليل مخدوشة; وهي : أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم، بل يجب الأخذ ـ بنظر الاعتبار في تحقّق العموم ـ بالمناسبات العرفيّة والقرائن المحفوفة بالكلام.

ومن أجل تحصيل حكم شرعيّ في بعض موارد هذا النوع من الموضوعات، لا يمكن الدخول من خلال الإطلاق، أو العموم، أو الملاك المشترك، بل من خلال المبنى الاُصوليّ للفقيه، فمثلاً في حقّ التأليف يجب البحث في أنّ السيرة العقلائيّة القائمة الآن هل تكون حجّة في الشرع، أو أنّ السيرة العقلائيّة لا تكون حجّة معتبرة إلاّ إذا كانت موجودة في زمن الشارع، وتمّ إمضاؤها من قبله، أو على الأقلّ لم تقع مورد ردع الشارع ونهيه؟

النتيجة هي: أنّه يمكننا من أجل تحصيل الحكم الشرعيّ سلوك أحد هذه الطرق الأربعة:

1 ـ من طريق الإطلاقات.

2 ـ من طريق العمومات.

3 ـ من طريق الملاك المشترك.

4 ـ من طريق المباني الاُصوليّة.

ج) تأثير الزمان والمكان في مفاد الأدلّة، ومباني الاجتهاد

1 ـ الزمان والمكان، ومفاد الأدلّة

إنّ من جملة المطالب الضروريّة هو: هل للزمان والمكان، والتغيّرات الحالّة فيهما تأثير في مفاد الأدلّة، أم لا؟

هناك عدّة صور لبيان كيفيّة تأثير الزمان والمكان في مفاد الأدلّة، حيث يجب دراستها كلاًّ على حِدة:

الصورة الاُولى: أن يكون المقصود من التأثير هو أنّ المفهوم من الأدلّة، نظير القرآن الكريم، والسنّة يتغيّر بسبب مرور الزمان والظروف; أي أنّ الدليل الذي كان له معنىً معيّناً في زمان، يفقد ذلك المعنى في زمان آخر، وهذا النحو من التأثير باطل بلا شكّ، فالأدلّة اللفظيّة تبتني في دلالتها على المعاني والمفاهيم على قواعد أدبيّة خاصّة في تلك اللغة، وهذه القواعد واللغة لا تتغيّر بمرور الزمان، مثلاً لا يمكن القول بأنّ صيغة الأمر أو النهي في السابق كانت تدلّ على معنىً خاصّ في اللغة، ولكنّها الآن وبسبب مرور الزمان فقدت دلالتها على ذلك المعنى.

وطبعاً، فالمعاني العرفيّة قابلة للتغيير، وبإمكان المتكلِّم أيضاً استعمال الألفاظ في غير معانيها اللغويّة مع ضمّ القرينة إليها.

الصورة الثانية: أن يكون المقصود هي الشرائط الموجودة في الأدلّة حين صدورها; أي أنّ الحكم الصادر ضمن شرائط وخصوصيّات معيّنة يزول بزوال تلك الخصوصيّات، وتغيّر تلك الشرائط، وهذا النحو من التأثير لا يتصوّر إلاّ في الروايات. أمّا بالنسبة للقرآن الكريم، فلا وجود لهذا النحو من التأثير.

ولهذا النحو من التأثير في دائرة الروايات نظائر كثيرة:

1 ـ ما ورد في عدم خضاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد رحلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فاعترض عليه البعض وقال: لم لا تخضب; فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خضب؟ فقال (عليه السلام) : كان ذلك والإسلام قُلٌّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاق الإسلام، فامرُؤٌ، وما اختار(29). ولذا فإنّ ذلك الحكم قد فقد شرائطه وخصوصيّاته.

2 ـ طبقاً لما ورد في بعض الروايات يستحبّ حلق الشارب وإعفاء اللّحى; لأنّ اليهود في ذلك الزمان كانوا يحلقون لحاهم ويعفون شاربهم، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)

بالعمل بخلاف ذلك(30)، فكان ذلك لإظهار المخالفة العمليّة لهم. وعليه: فإنّ اليهود في هذه الأيّام ليسوا كأسلافهم، أو على الأقلّ لا يلتزمون بتلك الكيفيّة بصورة شاخصة، فمن البديهي أن لا يكون لاستحباب حلق الشارب وجه معقول.

3 ـ في عصر الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) كان نشر الأحكام الإسلاميّة مهمّاً جدّاً، ومن جهة أُخرى كان الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة على أشدّه، ولكنّ الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) واجها تلك المسألة بحكمة بالغة، ففي ظاهر الأمر كانا (عليهما السلام) يبيّنان الفقه السائد، والذي كان يقوم عليه نظام الحكم في ذلك الزمان إنّما هو لأجل تجنّب إثارة الخلاف في الاُمّة الإسلاميّة، ولكن في حال الخفاء مع الأصحاب المخلصين يبيّنان الحكم الواقعيّ للمسألة، ويأمران أصحابهما بالتقيّة، فعلى هذا كانت التقيّة في ذلك المناخ، وتلك الظروف الزمانيّة، ضروريّاً جدّاً(31).

الصورة الثالثة: أن يكون المقصود هو: أنّه مع مرور الزمان، وتطوّر العلوم والمعارف البشريّة، سيحصل الفقيه على أصحّ فهم وأكثر جامع من الأدلّة الشرعيّة، وهذا النحو من التأثير صحيح، وله واقعيّة في دائرة العمل.

الروايات التي تدلّ على أنّ للقرآن بطن، وللبطن بطن(32)، يمكن حملها على هذا المعنى أيضاً، أو الروايات التي تدلّ على أنّ الله ـ تعالى ـ أنزل سورة التوحيد; لأنّه سوف يكون هناك قوم في آخر الزمان يمكنهم فهم المعاني العميقة والسامية للقرآن(33).

أو الرواية الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، التي تقرّر كراهة التبوّل في الماء; لأنّ للماء أهلاً(34)، وقد أثبتت العلوم الحديثة أنّ الماء يحوي على أحياء مجهريّة قد تموت بذلك العمل.

ولعلّ كلمة الأهل الواردة في هذه الرواية كانت تُفسَّر في الأزمنة القديمة بمعنى الناس، أي بما أنّ الناس سوف ينتفعون بهذا الماء، فلذا كره التبوّل فيه، ولكنّه قد اتّضح في هذا الزمان أنّ المراد من الأهل هي تلك الأحياء المجهريّة في الماء التي لاترى إلاّ بالمجهر.

وعلى هذا الأساس، فتأثير الزمان والمكان بمعنى الفهم الدقيق والجامع للأدلّة أمرٌ صحيح ولا شكّ فيه.

وهناك لابدّ من ذكر نكتة، وهي: أنّ البعض في هذا العصر توهّم بأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة تتعلّق بالزمان الماضي فقط طبقاً للقاعدة المقرّرة في علم الألسنة واللغات; وأنّ اللغة أمرٌ تاريخيّ، وكلّ لغة من اللغات في أيّ مجتمع، وفي أيّ حضارة وعصر، تتعلّق بذلك العصر والمجتمع وتلك الحضارة، والسياق اللغوي لحضارة بشريّة معيّنة لا يمكن أن يكون ناظراً إلى حضارة أُخرى.

وقد استنتج البعض من هذا البيان بأنّ الألفاظ من قبيل قوله ـ تعالى ـ : {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (35) تشمل البيع الذي كان سائداً في زمان نزول القرآن فقط، ولا يمتدّ ليستوعب في دلالته جميع الأعصار والمجتمعات.

وبطلان هذا التوهّم واضح جدّاً; لأنّ الألفاظ الواردة في القرآن الكريم وردت بعنوانها تكليفاً مشتركاً، وقانوناً عامّاً، وبشارة، وإنذاراً لجميع البشر في جميعالأعصار، والخلاف إنّما هو في دائرة الخطابات الشفاهيّة، وأنّها هل تشمل الغائبين والمعدومين أم لا؟

وهذا الاختلاف من حيث شمول الألفاظ فقط، وإلاّ لا شكّ في الاشتراك من ناحية الملاك.

الإمام الراحل (قدس سره) في مسألة «التأمين» يقول ضمن استعراضه للإشكالات التي يحتمل ورودها على القول بصحّة التأمين: «إذا أشكل شخص بأنّ العمومات من قبيل {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (36) إنّما تتناول العقود والشروط المعهودة المتعارفة بين الناس في زمن صدورها، ومن المتسالم عليه أنّ مثل هذا العهد لم يكن متعارفاً بينهم حتّى يدخل في نطاقها، وليس لنا غير العمومات دليل آخر نركن إليه في تصحيحه، فيكون مثل هذا العهد داخلاً في الباطل المنهيّ عنه في قوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِـلِ)(37).

وفيه ما لا يخفى من التعسّف; فإنّ دعوى قصر العمومات على العهود المتداولة في زمن الوحي والتشريع خلاف المفهوم منها وتضييق لدائرتها، حيث إنّ تلك القضايا العامّة تأبى عن مثل هذا الجمود والتحجّر المخالف للشريعة السمحة السهلة، ولا أظنّ أنّه يختلج ببال أحد من العرف ـ العارف باللسان العاري الذهن عن الوساوس ـ أنّ قوله ـ تعالى ـ : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (38) الوارد في مقام التقنين المستمرّ إلى يوم القيامة منحصر في العهود المعمول بها في ذلك الزمان; فإنّ مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه، بل عن ربقة الدِّين نعوذ بالله من ذلك. لعمرك إنّ هذا الجمود ليس بأقلّ من جمود بعض المذاهب الإسلاميّة على كثير من الظواهر، الذي هو أبرد من الزمهرير(39).

وهنا نجد من الضروري تذكير أرباب الفقه والفقاهة والمحقِّقين في بحر الفقه الواسع بأنّ تحديد مدلول ألفاظ الكتاب والسنّة في دائرة المصاديق السائدة في زمان الصدور، مضافاً إلى منافاته الواضحة والبديهيّة لشموليّة الدِّين، وخلود معجزته، وهي القرآن; فإنّه لاينسجم، وتفسير الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) للآية الشريفة. فمثلاً ورد في الروايات في تفسير الآية الشريفة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : أنّ المراد من العقود; العهود(40)، وقد تمّ توسعة دائرتها.

وبعبارة اُخرى: إذا قلنا بتحديد هذه العمومات، فلماذا لم يذكر الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) هذه الملاحظة، بل حكموا بخلافها؟

من هنا نأسف جدّاً كيف ذهب بعض المعاصرين ـ رغم تضلّعهم في الفقه والتفسير ـ إلى أنّ أكثر عمومات الكتاب والسنّة محدودة بالمصاديق السائدة في زمن النزول؟

فقد ذكر في كلماته أنّ تسعين في المائة من عمومات القرآن تتعلّق بالمصاديق المعهودة في ذلك الزمان، وكذلك الكلام في العمومات الواردة في أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأئـمّة الدِّين(عليهم السلام)!!(41).

وعلى هذا، فمن الواضح جدّاً أنّ الأدلّة التي تتضمّن بيان أحكام الشريعة لها إطلاق زمانيّ، وجارية في الفقه الحالي، إلاّ في الموارد التي قام الدليل القطعي على نسخها.

2 ـ الزمان والمكان، ومباني الاجتهاد

المراد من مباني الاجتهاد: القواعد والضوابط الاُصوليّة والرجاليّة، وسائر القواعد التي يحتاجها الفقيه في عمليّة استنباط الأحكام لتكون كبرى في دليله; منقبيل حجّية خبر الثقة، وأمثال ذلك، فهل تغيير الشرائط والظروف وحدوث خصوصيّات جديدة يؤثِّر في مباني الاجتهاد هذه، أم لا؟

الظاهر أنّ هذه المسألة لا تؤثِّر إطلاقاً في مباني الاجتهاد. ولا يمكنأن تتعرّض القواعدبسبب ذلك ـ كحجّية خبرالثقةوأمثالها ـ للتغيير،ولكن هذه المسألة ترتبط من بعض الجهات بمباني الاجتهاد، ونشير هنا إلى ثلاث جهات منها:

الاُولى: بسبب مرور الزمان وحدوث فروع جديدة، قد يكون الفقيه بحاجة إلى قواعد أُصوليّة جديدة. فالكثير من الفقهاء العظام استخرجوا القواعد الاُصوليّة المهمّة من متن الفقه وفروعه، وهذا المنهج هو المشهور والمشهود من مباحث الشيخ الأعظم (قدس سره) في الاُصول، فعلى هذا قد يستكشف الفقيه بمرور الزمان قواعد جديدة أُصوليّة، أو غير أُصوليّة.

ولتوضيح هذا المطلب نذكر هذا المثال، وهو: أنّ فقهاء العصور القريبة من عصر المعصومين(عليهم السلام) أمثال السيّد المرتضى (رحمه الله) ، التفتوا إلى أنّ جميع ما لديهم من أخبار الآحاد، محفوفة بالقرائن القطعيّة، وأساساً فإنّ خبر الواحد المجرّد من القرينة إمّا أن لا يكون لديهم منه شيء، أو إذا وجد فهو نادر جدّاً، ولكن عندما ازدادت الفاصلة تدريجيّاً مع عصر المعصومين(عليهم السلام) تلاشت هذه القرائن، فاضطرّ الاُصوليّون إلى العمل بالخبر الواحد المجرّد عن القرينة، واعتباره أحد الأدلّة الشرعيّة.

وهكذا يمكننا ذكر تقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة: الصحيح، الموثّق، الحسن، الضعيف، فلدى المتقدِّمين ينقسم الخبر إلى قسمين فقط: الصحيح والضعيف، ولكن منذ زمان أحمد بن موسى بن طاووس كما ذهب إليه صاحب المعالم في منتقى الجمان(42)، أو منذ زمان العلاّمة الحلّي كما ذهب إليه الشيخ البهائي في مشرق الشمسين(43)، تمّ تقسيم الخبر إلى أربعة أقسام، وأصبح للصحيح في مصطلح المتأخِّرين معنىً جديداً.

الجهة الثانية: لهذه المسألة دور هامّ في الشروط المذكورة لفعليّة التكليف، مثل شرطيّة القدرة في نظر المشهور(44)، والابتلاء في نظر الشيخ الأنصاري (قدس سره) (45)، وبديهيّ أنّ الشيء يمكن أن يكون مقدوراً للشخص في زمان معيّن، وغير مقدور له في زمان آخر، وهكذا في مسألة الابتلاء بشيء يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة; أي يمكن أن يقع الشيء في زمان خاصّ وظروف معيّنة مورداً للابتلاء، ولكنّه لايكون كذلك في ظروف أُخر، فعلى هذا الأساس فإنّ شروط التكليف المبحوثة في البحوث الاجتهاديّة الاُصوليّة متأثّرة بالزمان والمكان على مستوى المصداق.

الجهة الثالثة: ما يخصّ ارتباط الزمان والمكان مع بناء العقلاء، فواضح أنّ أحد الأدلّة المهمّة للأحكام الشرعيّة، والتي يستدلّ بها الفقهاء والاُصوليّون، هو بناء العقلاء وسيرتهم، فرغم أنّ الزمان والمكان ليس لهما دور في أصل حجّية السيرة العقلائيّة، ولكن لهما تأثير في تحقّق مصاديق متعدّدة وجديدة.

د) حدود تأثير الزمان والمكان

1 ـ الزمان والمكان، والحكم الأوّلي والثانوي

أحد التقسيمات المذكورة للأحكام في الفقه هو تقسيم الحكم إلى الأوّلي والثانوي، فالحكم المترتّب على موضوع معيّن بما هو موضوع، وبدون أيّ قيد آخر. يسمّى بالحكم الأوّلي، مثل الحكم بالوجوب المترتّب على موضوع الصلاة بما هي صلاة، ولهذا أُطلق عليه الحكم الأوّلي. وأمّا إذا ترتّب الحكم على موضوع بعنوان آخر، مثل عنوان الضرر أو الحرج، فيسمّى بالحكم الثانوي.

ورغم أنّ الزمان والمكان لا يرتبطان بالأحكام، والأدلّة الشرعيّة بصورة مباشرة، ولكنّه قد يطرح هذا السؤال، وهو: أنّه فيما لو حدث تغيّر في موضوعات أو متعلّقات الأحكام، وتبعه حدوث تغيّر في الحكم، فهل الحكم الجديد يكون من قبيل الحكم الأوّلي، أو الثانوي؟

ذهب البعض في تفسيره للحكم الأوّلي على خلاف الاصطلاح السائد، وقال في تعريفه: هو ذلك النوع من الأحكام الإسلاميّة الموضوعة على أساس الحاجات الثابتة(46).

وفي تعبير آخر: ذكر أنّ الحكم أو الأحكام المقرّرة على أساس المادّي والمعنوي(47).

وعلى أساس هذين التعريفين، وخاصّة التعريف الأوّل، فالأحكام المتغيِّرة تبعاً لتغيّر الحاجات والضرورات، أو تبعاً لتبدّل الموضوعات، هي من الأحكام الثانويّة. وعليه: فبما أنّ مسألة الزمان والمكان ترتبط بالحاجات غير الثابتة للإنسان، فهي دائماً تمهِّد الأرضيّة للأحكام الثانويّة.

أمّا على أساس التعريف الاُصولي السائد والشائع للحكم الأوّلي والثانوي، فالمسألة تختلف عمّا سبق; لأنّ في مسألة تأثير الزمان والمكان، إذا حصل تغيّر في الموضوعات أو في متعلّقاتها، فالحكم الجديد الحاصل بتبع ذلك هو من نوع الحكم الأوّلي.

ولكن في موارد ما إذا أوجب مرور الزمان، وتبدّل المكان حصول عناوينثانويّة من قبيل الحرج والضرر، فحينذاك فقد تدخل الأحكام الحاصلة في باب الحكم الثانوي.

ويتّضح من هذا المطلب أنّ التفكيك بين مذهب أهل السنّة، ومبنى الإمام الراحل (قدس سره) في هذا القسم من البحث، هو أمر غير صحيح. وطبعاً فقد ادّعى البعض(48) طبقاً لمبنى العامّة أنّ التغيير الذي اُحدث في الأحكام بحسب الزمان والمكان كان عنوان ثانوي، ولكن طبقاً لمبنى الإمام الخميني (قدس سره) يكون من الحكم الأوّلي، وهذا الادّعاء غير صحيح أيضاً; لأنّه على أساس ما تقدّم أنّ الحكم يكون من الحكم الأوّلي على كلا المذهبين.

2 ـ الزمان والمكان، والأحكام الضروريّة

تنقسم الأحكام والاعتبارات الشرعيّة إلى قسمين: ضروريّ وغير ضروريّ، والسؤال هو: هل تأثير الزمان والمكان يقتصر على الأحكام غير الضروريّة، أو يمتدّ إلى دائرة أوسع؟

ويتأكّد هذا السؤال إذا علمنا بأنّ المقرّر في علم الاُصول أنّ الاجتهاد لا يرد في المسائل الضروريّة، وعنوان بحثنا هو تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.

الأشخاص الذين أنكروا تأثير الزمان والمكان في العبادات، لو ذهبوا إلى أنّ دائرة الاُمور الضروريّة منحصرة في العبادات، فمن الطبيعي أن ينكر أصحاب هذا الرأي تأثير هذاالعامل في الاُمور الضروريّة، ولكن من الواضح أنّ الاُمور الضروريّة لا تنحصر في إطار الأُمور العباديّة، بل أنّ بعض الأحكام غير العباديّة ضروريّة أيضاً.

الإمام الراحل (قدس سره) في مسألة الحجّ(49) ـ حيث إنّ وجوبه من الضروريّات ـ بيّن أنّ هذا العنصر المهمّ يتدخّل حتى في الاُمور العباديّة. وعليه: فإنّ تأثير الزمان والمكان لا يقتصر على المسائل المبحوثة في دائرة الاجتهاد، ومن هنا ندرك جيّداً التأثير العميق لهذا العنصر في الفقه.

الدليل الوحيد على تأثير هذا العامل في الاُمور الضروريّة هو: أنّه بما أنّ هذا العامل له دور في تغيير الموضوعات والمتعلّقات، فمع تغييرها يترتّب حكم آخر عليها، والحكم الضروري إنّما يكون ضروريّاً فيما لو لم يحدث أيّ تغيير، لا في الموضوع، ولا في المتعلّق.

وهنا لابدّ من الانتباه إلى أنّ عنصر الزمان والمكان لا يمكنه الخدشة في كون الحكم ضروريّاً مع حفظ الموضوع والمتعلّق، بل فيما لو كان الحكم ضروريّاً، فسوف يبقى تحت هذا العنوان دائماً، وتترتّب عليه آثار الأحكام الضروريّة.

3 ـ تأثير الزمان والمكان مع وجود النصّ الخاصّ

من الاُمور التي تشغل ذهن الفقيه هو: أنّ تأثير الزمان والمكان، وتغيّر الشرائط والظروف، هل يختصّ في الموارد التي لم يرد فيها نصّ خاصّ أو يشمل ماورد فيه نصّ خاصّ أيضاً؟

أغلب فقهاء أهل السنّة يرون أنّ تغيّر الشرائط والظروف الزمانيّة والمكانيّة والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعيّة يؤثّر في تغيير وتبدّل الأحكام، وهذا الأمر ضروريّ في تغيير التقاليد الاجتماعيّة، ونظام الحكم، ومن علمائهم أمثال الظاهريّة، وسفيان بن سعيد الثوري، والأوزاعي يرون أنّ عنصر الزمان والمكان لايتدخّل حتّى في هذا النوع من الأحكام.

وكذلك في الموارد التي ورد فيها نصّ خاصّ، ينقسم علماء أهل السنّة إلى فريقين: فمنهم كأبي حنيفة، ومحمّد بن الحسن الشيباني، ومحمّد بن إدريس الشافعي، وداود بن علي الظاهري الأصبهاني، لا يجيزون مخالفة النصّ الخاصّ والحكم على خلافه(50)، وبديهيّ أنّ هذه النظريّة تتحقّق في فرض أنّ الموضوع يبقى بعيداً عن أيّ تغيّر وتبدّل، ولذلك يبقى الحكم على حاله.

والتحقيق أنّه لا فرق في تأثير الزمان والمكان بمعناه الواقعي بين الموضوعات التي ورد فيها نصّ خاصّ، وبين غيرها، والدليل على ذلك هو دور الزمان والمكان وارتباطهما بالموضوعات والمتعلّقات، فلو حدث تغيّر بسبب مرور الزمان في دائرة الموضوع، والشرائط، والخصوصيّات، فمن الطبيعي سيكون لذلك الموضوع حكم آخر; سواء كان لذلك الموضوع نصّ خاصّ، أو لم يكن.

الفصل الثالث: دور الزمان والمكان، وبعض الشبهات، والإجابة عنه

أ) منافاتهما لبعض الروايات

1 ـ «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة».

من الروايات المشهورة والمتداولة على ألسنة الفقهاء، على أساس أنّها رواية معتبرة ينبغي العمل بها، هي رواية: حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة(51).

فقد توهّم البعض أنّ القول بتأثير الزمان والمكان في الأحكام ينافيمدلول هذه الرواية الشريفة، ولذا أنكر تأثير هذا العامل في الأحكامالشرعيّة(52).

ولابدّ في مقام الجواب على هذا التوهّم من التحقيق في الرواية من جهة الدلالة، فرغم أنّ دلالة هذه الرواية ليست مجملة، أو متشابهة، إلاّ أنّه ذكرت عدّة احتمالات في المراد منها:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ ما حكم به الرسول (صلى الله عليه وآله) في كلّ أمر وموضوع، فهو باق على الدوام، ولا يتغيّر في أيّ زمان، وفي جميع الظروف حتّىلو تغيّر الموضوع أيضاً، وعلى هذا الاحتمال فتأثير الزمان والمكان يتنافى بوضوح مع مدلول الرواية.

ولكن هذا الاحتمال يواجه إشكالاً من جهتين:

الجهة الاُولى: لا يوجد ثمّة إطلاق في الرواية على أنّ كلّ موضوع يبقى مع حكمه الأوّلي في جميع الشرائط، ومع جميع التغيّرات التي تحدث للموضوع، وبعبارة اُخرى: نحن لا نشاهد أيّ إطلاق بالنسبة إلى الموضوع على مستوى التغيّرات الزمانيّة والمكانيّة.

الجهة الثانية: أنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع سيرة المعصومين(عليهم السلام); لأنّهمقد عملوا على تغيير الأحكام الصادرة من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، مع تغيّر الشرائط والظروف، كما هو الحال في عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسألة الزكاة(53).

الاحتمال الثاني: ذكر البعض في تفسير الرواية ما يلي:

إنّ المفاهيم الكلّية والعامّة مثل البيع والتجارة في معناهما الواسع، سوف تبقى دائماً ولا تمسّها يد التغيير، فما كان حلالاً في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) سوف يبقى حلالاً إلى يوم القيامة، رغم أنّ مصاديقها قد تتغيّر بفعل تقدّم المجتمع وتطوّر الحضارة البشرية(54).

وهذا التفسير بدوره لا ينسجم مع ظاهر الرواية; لأنّه:

أوّلاً: أنّ ما أُخذ بعين الاعتبار في الرواية هي مسألة بقاء الحكم الشرعيّ، ولا دلالة مطابقيّة للرواية على المفاهيم والموضوعات.

وثانياً: أنّ تغيير المفاهيم الكلّية وعدم تغييرها لا يرتبط بالشارع والشريعة.

وثالثاً: يرى البعض أنّ كلّ مفهوم يدلّ على معنى خاصّ في زمان دون زمان آخر. فعليه: يكون تغيير المفاهيم، وتبديلها إلى معان أُخر مع مرور الزمان من الاُمور الواضحة(55).

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد من هذه الرواية أنّ كلّ حكم صدر بيانه من الشارع المقدّس كان له في زمن الورود متعلّق وموضوع خاصّ، كما أنّه يتمتّع بقيود وشرائط خاصّة، فذلك الحكم يبقى على قوّته ما دامت قيود الموضوع وشرائطه باقية لم تتغيّر. وبعبارة أُخرى: أنّ الشارع المقدّس لا يتمكّن بما هو شارعأن يتصدّى لمنع حدوث التغيّر والتبدّل في الموضوعات، أو المتعلّقات، أو قيودهما، ولكنّه في صورة عدم التغيير، فالحكم الصادر من الشارع يبقى على قوّته وفاعليّته.

وهذا الاحتمال يتطابق مع ظاهر الرواية، ولا يتنافى إطلاقاً مع مسألة تأثير الزمان والمكان; لأنّ هذه المسألة داخلة نوعاً في دائرة الموضوعات والمتعلّقات، فمع تغيّرها يتغيّر الحكم، وما تذكره الرواية هو بقاء الأحكام مع حفظ الموضوعات والمتعلّقات وقيودهما.

2 ـ «إنّ لله في كلّ واقعة حكماً»

ورد في روايات الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام): إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ في كلّ واقعة حكماً...(56)، بل تواترت عنهم(عليهم السلام)أنّ عندهم صحيفة بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ عليّ (عليه السلام) ، فيها أحكام جميع الأشياء حتّى أرش الخدش(57).

أليس لمثل هذه الروايات ظهور في لغويّة تأثير الزمان والمكان، وبطلانه؟

ونحن بصدد بيان ارتباط تأثير الزمان والمكان مع هذا النوع من الروايات.

إذا دقّقنا النظر في عنوان الموضوع، فسيتبيّن لنا أنّ وجود مثل هذه الروايات لا يستتبع لغويّة تأثير الزمان والمكان; لأنّ هذا العامل يؤدّي إلى إيجاد موضوعات جديدة، أو تغيير الموضوعات السابقة، أو اختلاف الفهم والدرك الأعمق للمفاهيم الشرعيّة، ومن وظائف الفقيه العالم بأُمور زمانه هو: أن يدرك أنّ هذا الموضوع الجديد تحت أيّ عنوان وحكم شرعيّ يدخل، ومصداق أيّ واحد من الموضوعات التي تمّ بيان حكمها من قِبل الشارع بنحو عامّ، أو بنحو خاصّ؟

وبعبارة أُخرى: إنّ الفقيه يعلم إجمالاً أنّه لا يوجد موضوع ليس له في الشريعة حكم فعليّ ولو بنحو ظاهريّ، وحتّى في الموارد التي اُدّعي عدم وجود حكم لها في الشريعة، فهو ناشئ من عدم الفحص الكامل في المتون الدينيّة، أو عدم التدبّر فيها، وإلاّ يمكن القول بأنّه مع وجود كلّ هذه الروايات، وما ورد في القرآن الكريم، والأدلّة الأُخرى قد ذكرت أحكام جميع الموضوعات ولو على مستوى الحكم الظاهري; وبيان هذا الحكم إمّا من خلال بيان العامّ، أو بطريق خاصّ، أو من خلال بيان الملاكات والعلل والمصالح والمفاسد.

ومع هذا فالمهمّ هو: أن يقوم الفقيه بتشخيص الموضوع الحادث والجديد ليرى أنّه يدخل تحت أيّ عنوان من العناوين التي لها حكم شرعي، وعلى فرض صلاحيّة دخوله تحت عدّة عناوين، عليه أن يتحرّك على مستوى البحث في تعارض الأدلّة، وترجيح أحدها على الآخر، ومن هنا تتّضح ضرورة هذه الملاحظة، وهي: أنّ الفقهاء العظام ينبغي عليهم التدبّر، والتدقيق أكثر في عناوين موضوعات الأحكام، وفي سعتها، وضيقها، وشرائطها، وقيودها.

وفي مقابل هذا النوع من الروايات، تدلّ بعض الروايات على أنّ الشارع المقدّس لم يبيِّن الحكم الشرعيّ لبعض الموضوعات عمداً، من قبيل ما ورد أنّه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ الله ـ تعالى ـ سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً(58).

والجدير بالذكر أنّ المراد من سكوت الشارع، هو السكوت من الحكم الواقعي الفعلي، وإلاّ فالحكم الظاهري موجود في كلّ مورد.

ومن هنا يمكن القول بأنّ من خصائص الفقه الشيعي وجود نوعين من الحكم: واقعيّ، وظاهريّ، ويتمّ حلّ الكثير من المشاكل الفقهيّة على ضوء القواعد التي تنتج حكماً ظاهريّاً.

والكثير من القواعد الاُصوليّة يمكن استفادة الحكم الظاهري منها، وقد ثبت في محلّه أنّه ليس من اللازم للفقيه إدراك الحكم الواقعي لكلّ مورد، بل لو أنّه توصّل إلى أيّ حكم شرعيّ بهذه الأدوات والأدلّة، فذلك الحكم يكون هو الحجّة.

ومن أجل تكميل هذا المطلب ينبغي التنبيه على أمر، وهو: أنّه يستفاد من روايات الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) ـ التي تمّت الإشارة إلى بعضها آنفاً ـ أنّ جامعيّة الدِّين الإسلامي وكونه ديناً كاملاً أمرٌ مسلّم ولا يقبل الإنكار. مضافاً إلى أنّنا بإمكاننا القول بتلازم هذه المسألة مع الخاتميّة.

وبعبارة أُخرى: هناك ملازمة بديهيّة وواضحة بين خاتميّة الدِّين وجامعيّته، ومن الواضح: أنّ المراد من الجامعيّة ليس ما كان محدوداً في إطار أُصول الدِّين والشريعة، بل يستفاد من الروايات شموليّة الدِّين لجميع الأبعاد; سواء في الاُصول أو في الفروع، في الأحكام، أو في الأخلاق.

أورد الشيخ الكليني (قدس سره) في أُصول الكافي، باب الردّ إلى كتاب الله وسنّته قوله (عليه السلام) : كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) (59); أي أنّ الله ـ تعالى ـ ونبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) ذكرا أحكاماً لجميع الاُمور. وفي رواية أُخرى ينقل حمّاد، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ما من شيء إلاّ وفيه كتابٌ أو سنّة(60).

ب) شبهات حول الفقه

1 ـ الزمان والمكان، واستلزام فقه جديد

يتّضح ممّا تقدّم أنّ مسألة تأثير الزمان والمكان لا تستلزم فقهاً جديداً إطلاقاً، فما توهّم البعض من أنّ مسألة الزمان والمكان تستلزم تأسيس فقه جديد، بعيد عن الدقّة والتأمّل. وعليه: لابدّ أن نرى ما المقصود بالفقه الجديد؟

فإذا كان المراد من الفقه الجديد، الإتيان بأدلّة جديدة إلى جانب الأدلّة الأربعة، واستنباط الأحكام الشرعيّة وفقاً لها، فرغم أنّ هذا المطلب باطل في نفسه، ولكن تأثير الزمان والمكان ـ من حيث كونه مؤثِّراً في تغيّر الموضوعات، وإيجاد موضوعات جديدة، أو كونه مؤثِّراً في اختلاف الفهم والاستنباط من الأدلّة ـ ليس بمعنى أنّه بنفسه دليل جديد.

وإن كان المراد من الفقه الجديد هو: أنّ هناك موضوعات وفروعات جديدة لابدّ من بيان الحكم الشرعيّ لها، فهو مطلب صحيح جدّاً ولا غبار عليه، وأساساً فإنّ تكامل الفقه الشيعي يكمن في قدرته على الإجابة على هذه المسائل والفروعات الجديدة.

2 ـ الزمان والمكان هما السبيل الوحيد لحلّ مشكلات الفقه

تصوّر البعض بأنّ تأثير الزمان والمكان هو السبيل الوحيد لعلاج المشاكل الفقهيّة وملأ الفراغات في الشريعة، فقالوا في هذا الصدد: في هذا الزمان تغيّرت وتطوّرت الظواهر في جميع الأبعاد والصُعد، يمكن القول بأنّها الوسيلة الوحيدة لحلّ المشكلات، وملأ الفراغات، وإزالة العوائق(61).

 

هذا المطلب وإن كان في الوهلة الأُولى صحيحاً ظاهراً، ولكن عدم الإحاطة العلميّة، وعدم القدرة على حلّ المشكلات الفقهيّة هو الذي دعى لبيان ذلك الكلام. وفي نظرنا أنّ هناك الكثير من المطالب الفقهيّة في بطون كتب القدماء، وفي المنابع الفقهيّة لم تتّضح أبعادها لحدّ الآن، فلو تمّ استخراجها والإحاطة الكاملة بجميع حقائق ومعارف الفقه أمكن حلّ بعض المشكلات التي لا ترتبط بتغيّر الزمان والمكان من قريب أو بعيد.

وهنا يجدر بنا ذكر هذه النقطة; وهي: أنّ الكثير من القواعد الفقهيّة كامنة في طيّات المسائل الفقهيّة، بحيث لم تنقّح من حيث دلالتها وحدودها لحدّ الآن، ومن الممكن حلّ مشكلات عدّة من خلال تنقيحها وتبيينها.

3 ـ الزمان والمكان، واستلزام قبول فقه أهل السنّة

بعد أن تبيّن أنّ تأثير الزمان والمكان هو أمرٌ مسلّم في الفقه الشيعي، لابدّ من الانتباه إلى هذه النقطة; وهي: أنّ هناك تفاوت كبير وبونٌ شاسع بين هذا المنهج، وما عليه أهل السنّة في مسألة تأثير الزمان والمكان في تغيير الأحكام والفتاوى.

إنّ فقهاء أهل السنّة، وطبقاً لاجتهادهم القياسي والاستصلاحي(62) ـ إمّا من طريق القياس، أو الرأي الشخصي ـ يبيّنون حكماً شرعيّاً مطابقاً لمقتضيات الزمان والمكان، وبالطبع فإنّ هذا الحكم، وهذا الاجتهاد سيتغيّر وفق تغيّر الظروف الزمانيّة والمكانيّة، وأمّا في نظر علماء الشيعة، فالاجتهاد أساساً هو استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، وليس هناك قياس ورأي شخصي في البين.

وعليه: فيمكن القول بأنّ فقهاء أهل السنّة يرون أنّ عامل الزمان والمكان مؤثِّر في الاجتهاد نفسه، وفي الأحكام الشرعيّة نفسها.

أمّا فقهاء الشيعة، فيرونه مؤثِّراً في موضوعات ومتعلِّقات الأحكام، ولم يرون له تأثيراً في أدلّة الأحكام، أو الأحكام نفسها.

وعلى هذا الأساس يخطىء كثيراً من يرى ويتحرّك في عمليّة التقريب بين هذين المذهبين، وبناءً على هذا فإنّ الزمان والمكان وإن كانا من الاُمور المهمّة جدّاً في الفقه الشيعي، ولكن لا توجد أيّة نقطة اشتراك بينه، وبين فقه أهل السنّة.

وهنا ينبغي تحذير الفقهاء الحقيقيّين، الحارقين الأكباد، والخائفين من مغبّة الإفراط في فهم تأثير الزمان والمكان، وإلاّ سينزل ذلك البلاء ـ الذي حلّ بالفقه السنّي وأدّى إلى تلاشيه ـ بالفقه الشيعي أيضاً; بحيث يصل الأمر بهم إلى ترجيح المصلحة حتّى على النصّ; من قبيل ما ذكره نجم الدِّين أبي الربيع الطوفي في شرحه لحديث: لا ضرر ولا ضرار(63) في رسالة المصالح المرسلة عند تعارض المصلحة مع النصّ، قال:

يجب تقديم المصلحة على ما فيه نصّ من باب التخصيص، أو تبيين الواجب; يعني أنّ الحكم المنصوص واجب الاتباع، إلاّ في وقت تقوم المصلحة على خلافه(64).

وقد فهم البعض(65) هذا المعنى من عبارة الشهيد (قدس سره) ـ في القواعد والفوائد ـ في قاعدة العرف والعادة، حيث قال:

يجوز تغيير الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة، والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب، والاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمرويّ تقديم قول الزوج(66)، عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول(67).

فقد فهموا من ذلك أنّ الشهيد (قدس سره) يرى تقدّم العرف على الرواية المنقولة أحياناً، ففي الأزمنة السالفة كان المتداول في عرف الناس أنّ الصداق يدفع للزوجة قبل الدخول، ومقام الاختلاف في دفع الصداق، وعدمه إنّما يتمّ وفق ذلك العرف، فيكون قول الزوج هو المقدَّم. وأمّا في هذا الزمان حيث لا توجد مثل هذه العادة في العرف، فيكون قول المرأة هو المقدَّم.

ولكن في نظرنا أنّ هذا الفهم غير صحيح; لأنّه أوّلاً: أنّ مسألة تغيّر العرف، والعمل على وفقه ليس بمعنى تقديم العرف على الرواية المنقولة; لأنّ التقديم إنّما يكون على فرض أنّ الرواية المنقولة ذكرت الحكم بالنسبة إلى جميع الأعصار والأزمنة، ولكن إذا استفاد أحد الفقهاء من خلال القرائن أنّ الرواية حكمت وفق العرف الموجود في ذلك الزمان، ولكن يجب العمل في عرف آخر بما يطابق ذلك العرف، فلا يدخل هذا المعنى في باب تقديم العرف على الرواية.

وثانياً: بالرغم من أنّ هذا الرسم العرفي قد زال في هذا العصر; وهو أن يقوم الزوج بدفع الصداق قبل الدخول، ولكن لماذا صار هذا الأمر العدمي سبباً لتقديم قول المرأة؟

وبعبارة أدقّ: كان العرف الموجود في زمن المعصوم (عليه السلام) قائماً على أساس أمر إثباتيّ ; وهو تقديم قول الزوج، ولكنّ الأمر العدمي كيف يمكنه أن يكون شاهداً على قول المرأة؟

وممّا تقدّم يتّضح أنّ هذه المسألة لا تختصّ بالوليّ الفقيه المتصدّي للحكومة، بل مؤثّرة في اجتهاد كلّ مجتهد وإن كان ابتلاء الوليّ المتصدّي بهذه المسألة أكثر بكثير من ابتلاء المجتهد غير المتصدّي.

ج) الزمان والمكان، والبدعة

ارتباط تأثير الزمان والمكان، ومسألة البدعة والتشريع

في مسألة البدعة والتشريع ـ رغم وجود اختلاف في أنّه هل هناك فرق بين هاتين الكلمتين، كما ذهب إليه المحقّق النائيني (قدس سره) (68)، أو لا يوجد فرق بينهما، كما هوالمشهور(69) ـ مبنيّان مهمّان بين فقهاء العظام، لا دخل لمسألة تأثير الزمان والمكان في كلّ منهما:

المبنى الأوّل: أنّ البدعة والتشريع بمعنى إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين، كما ذكرنا سابقاً(70)، ومسألة الزمان والمكان لا ترتبط بهذا المبنى إطلاقاً; سواء من جهة تغيّر الموضوعات والمتعلّقات وقيودهما، أو من جهة اختلاف الاستنباط وفهم الأدلّة الواردة لبيان الأحكام، أو من جهة تحصيل ملاكات وعلل الأحكام; لأنّه:

في الفرض الأوّل: وهو تأثير الزمان والمكان في تغيير الموضوع، أو المتعلّق أو أحد قيودهما، فمن الواضح: أنّ هذه التغيّرات لا ترتبط بالشارع المقدّس، بل إنّ الشارع بما هو شارع لا يتمكّن من التصرّف في عناوين الموضوعات.

وفي الفرض الثاني: وهو: أنّ الفقيه سيكون لديه فهماً أدقّ للأدلّة الشرعيّة بفعل تطوّر العلوم البشريّة، والتأمّل والتدقيق في الأدلّة الشرعيّة، ومعلوم أنّ الفقيه لايطرح فتواه بعنوان أنّها رأيه الشخصي، بل بعنوان ما فهمه من الدليل، وكونه مراداً للشارع من خلال ما يستنبطه من المباني والمبادئ الفقهيّة والاُصوليّة الدقيقة.

وعليه: لا يصحّ القول في هذه الصورة بأنّه أدخل في الدِّين ما ليس من الدِّين، بل ما كان في الدِّين بصورة مبهمة، قام الفقيه بالكشف عنه وبيانه.

وفي الفرض الثالث: فقد ذكرنا سابقاً(71) أنّ في بعض الأدلّة لم تذكر علّة وملاك الحكم بصورة صريحة، ولكنّ الفقيه بإمكانه العثور على العلّة والملاك من خلال بحثه، وتحقيقه، وتدبّره في الأدلّة، والفروعات الفقهيّة، وبهذا يستطيع بيان حكم المسائل الجديدة.

ومن الواضح: أنّ الفقيه في هذه الصورة يفتي على أساس ذلك الملاك الموجود في الشريعة، لا أنّه يدخل في الدِّين ما ليس فيه.

المبنى الثاني: أن تكون البدعة والتشريع بمعنى أن يعلم الإنسان بأنّ المفهوم الفلاني ليس من الدِّين، ومع ذلك يجعله في الدِّين، وعلى هذا أيضاً يتّضح مبنى الفروض الثلاثة المذكورة آنفاً، فلا يكون أيٌّ منها مصداقاً لهذا المبنى.

د) الزمان والمكان، والمعارضة مع دعوى الإطلاق، أو إجماع فقهاء السلف

من الاُمور المانعة من حركة الاجتهاد، وعدم فاعليّته في حلّ مشكلات المجتمع، هو: أنّ الفقهاء يتحرّكون في دراساتهم الفقهيّة من موقع التسليم المحض، والانقياد الكامل لما كان عليه فقهاء السلف من المباني الاجتهاديّة، مثلاً إذا ادّعى الفقهاء الأقدمون الإطلاق بالنسبة إلى أحد الأدلّة، أو أجمعوا على مسألة معيّنة، فالفقهاء المتأخِّرون لا يجدون في أنفسهم الميل إلى مخالفتهم، وهذه الحالة تمنعهم من استنباط فتوى جديدة، وفهم جديد من الأدلّة الشرعيّة.

إذا قبلنا أنّ الشارع المقدّس قد بيّن أحكامه وتعاليمه إلى الناس في إطار عبارات وألفاظ تقوم على أساس المرتكزات العقلائيّة، وذكرها طبقاً لتلك المرتكزات; فإنّ الكثير من الفروعات الفقهيّة سوف ترتدي ثوباً جديداً على مستوى الحكم.

مثلاً في الآية الشريفة: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (72) نرى أنّ ارتكاز العقلاء يقوم على أساس أنّ بيع المكره لغو، وأساساً لا يرونه بيعاً، فيمكننا أن ندّعي حينئذ أنّ الآية الشريفة غير شاملة لهذا النوع من البيع، ومن الخطأ أن نتصوّر أنّ الآية الشريفة شاملة بإطلاقها بيع المكره، ونتصوّر بأنّ هذا البيع يقع صحيحاً، وبذلك تتعارض هذه الآية مع الروايات الدالّة على عدم صحّة بيع المكره.

وهكذا ما ورد في الرواية الشريفة عن عبدالله بن مسكان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في رجل قطع رأس الميّت، قال: عليه الدية; لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ(73).

فقد استفاد البعض(74) من التعليل الوارد في الرواية الإطلاق والعموم، بحيث يستوعب في شموله القبور المندرسة والعظام الرميمة، فلا يمكن الاستفادة منها فيالطبّ والعلوم البشريّة، وإذا كان تشريح جسد الميّت لغرض أهمّ من الاحترام والحرمة، من قبيل توقّف حفظ الإنسان الحيّ عليه، أجروا قواعد باب التزاحم في هذه المسألة; لأنّ الرواية مطلقة في مورد احترام الميّت، في حين أنّ هذا النوع من الإطلاقات على خلاف المرتكزات العقلائيّة، ففي موارد يكون فيها حفظ بدن الحيّ متوقّفاً على تشريح جسد الميّت، لا يقبل العقلاء بإطلاق دليل الاحترام،فلا تصل المسألة إلى باب التزاحم حينئذ.

النتيجة

في قليل من التأمّل في أحكام الشريعة يمكن القول بأنّ الأحكام الشرعيّة تنقسم في اللحاظ الأوّل إلى قسمين: ثابتة، ومتغيِّرة.
و بعض علماء أهل السنّة ذكروا في هذا المجال أنّ الدِّين الإسلامي يقوم على نوعين من الأحكام:

1 ـ أحكام ثابتة لا يرد فيها الاختلاف، ولا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ولاتخضع لبحث الباحثين واجتهاد المجتهدين; لأنّها ثابتة من قبل الله ـ تعالى ـ يقيناً، فلا إبهام ولا غموض في معانيها.

2 ـ أحكام اجتهاديّة نظريّة تتعلّق بالمصالح المتغيّرة بتغيّر الظروف والأحوال، وترتبط بفهم الفقيه واستنباطه، فهي متغيِّرة بتغيّر الأفهام والعقول، ولا تصل إلى مرتبة اليقين، بل لا تتعدّى الظنّ والاحتمال(75).

العلاّمة الطباطبائي(قدس سره) يقول في هذا المجال:

هناك سلسلة من القوانين تتغيّر بمرور الزمان، وتطوّر الحضارة، وهي القوانين المتعلِّقة بالأوضاع والأحوال الخاصّة، ولكن هناك سلسلة أُخرى من القوانين تتعلّق بأصل الإنسانيّة، وتعتبر من المشتركات بين جميع أفراد البشر، فهي ثابتة لاتتغيّر في جميع الأدوار والظروف، والمحيط الاجتماعي(76).

ويقول (قدس سره) في مكان آخر:

إنّ المقرّرات المتغيّرة من اختيارات الحاكم هي في ظلّ المقرّرات الثابتة، والأحكام الإلهيّة الواردة في متن الشريعة هي ثابتة وخالدة، ولا يحقّ حتّى لوليّ الأمر تغييرها حسب المصلحة(77).

ومن هنا يمكننا أن نصل إلى القول بأنّ في الشريعة الإسلاميّة أحكام ثابتة وغير قابلة للتغيير إطلاقاً; من قبيل كون نجاسة الدم بعنوانه حكماً كلّياً لايقبل التغيير، فلا يمكننا تحت أيّ ظروف، وفي أيّ زمان إخراجه من دائرة النجاسة، ولكن نفس هذا الحكم الثابت، له فروعات تتغيّر بتغيّر الزمان، واختلاف الظروف والأحوال; من قبيل بيعه وشرائه، أو في مسألة الزكاة، حيث إنّ وجوب الزكاة هو حكم كلّي وأصل ثابت في الشريعة، ولكن خصوصيّاته وشرائطه قابلة للتغيير. و كذلك مسألة البيع.

وهذا المطلب في باب العبادات غير قابل للتفكيك غالباً، أي أنّ هناك أحكام كلّية في باب العبادات، مثل وجوب الصلاة، وكذلك جزئيّاتها وخصوصيّاتها غير قابلة للتغيير، فهي ثابتة في جميع الأزمنة والأمكنة.

وبالطبع هناك بعض العبادات قابلة للتغيير بمرور الزمان، مثلاً الواردمن الشارع المقدّس في باب السعي بين الصفا والمروة أصل لزوم السعي بين الصفا والمروة، ووجوب الشروع من الصفا، ولكن من أيّ موضع الصفا تكون البداية؟ وإلى أيّ موضع من المروة يكون الاختتام؟ هل أنّ جبل الصفا في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت له درجات؟ وعندما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يسعى ماشياً هل كان يرتقي الدرجة الرابعة؟

واليوم حيث زالت تلك الدرجات فكيف يكون العمل؟ هل يكون كما تصوّر بعض الفقهاء من وجوب الابتداء من الصفا، على أن يكون عقب قدمه متّصلاً بالصفا. وعند وصوله إلى المروة أن تلمس أصابع قدمه ذلك المكان، أو أنّ ذلك الأصل الكلّي ـ يعني لزوم السعي من الصفا إلى المروة ـ غير قابل للتغيير في مختلف الظروف والأزمنة، ولكن من أيّ أقسام الصفا تكون البداية، وكيف تكون؟ فذلك يعود إلى العرف، وليس للشريعة دخل في ذلك.

===============
پی نوشت:

1)  مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى إمام خمينى(رحمه الله) «اجتهاد و زمان و مكان» 1: 225ـ 231.
2) فوائد الاُصول 1: 29، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 41 ـ 42.

3) مقدّمة القواعد الفقهيّة ـ لسماحة آية الله العظمى الشيخ فاضل اللنكراني(قدس سره) 1: 13.

4) تقدّم في ص256.

5) المعالم الجديدة: 168.

6) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2 : 233 ـ 238.

7) وهي سنة 1407 من الهجرة النبويّة (صلى الله عليه وآله) ، التي قُتل فيها جمعٌ كثير من الحجّاج الإيرانيّين حين إعلان البراءة من المشركين إلى ثلاث سنوات بعدها، صحيفة الإمام الخميني (قدس سره) 20: 349.

8) في ص 258.

9) سورة البقرة 2: 229.

10) بحوث في علم الأصول 4: 234 ـ 236.

11) اُنظر تهذيب الاُصول 2: 472 ـ 475، ومعتمد الاُصول 1 : 485 ـ 486.

12) المدخل إلى اُصول الفقه، للدكتور محمّد معروف الله الواليبي.

13) في ص302 ـ 303.

14) العناوين: 2: 704.

15) منهاج الصالحين للسيّد الخوئي (قدس سره) 1 : 186.

16) مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى امام خمينى (رحمه الله) ، نقش زمان و مكان در اجتهاد 14: 141.

17) تقدّم في ص260.

18) وسائل الشيعة 21: 207 ـ 211 ، كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس ب1.

19) لاحظ فوائد الاُصول 3 : 37 ـ 43.

20) لم نعثر عليه عاجلاً .

21) المعتمد في شرح المناسك (موسوعة الإمام الخوئي) 29: 227 ـ 228.

22) لم نعثر عليه عاجلاً.

23) وسائل الشيعة 17: 318 ـ 323، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب102 و103.

24) وسائل الشيعة 17: 318 ـ 323، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب102 و103.

25) وسائل الشيعة 28: 61 ـ 65، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا ب1 ح2، 9 ، 12.

26) مختلف الشيعة 9: 150 نقلاً من ابن أبي عقيل، مسالك الأفهام 14: 369ـ 370.

27) المبسوط 8: 2، الخلاف 5 : 368 مسألة 3 ، غنية النزوع: 423، شرائع الإسلام 4: 937، كشف اللثام 2: 399، جواهر الكلام 41: 328، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 180 ـ 181.

28) سورة النور 24: 31.

29) لسان العرب 6: 209، نهج البلاغة: 471 ح17، وعنه وسائل الشيعة 2: 87 ، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب44 ح2.

30) الفقيه 1: 76 ح332 و 334، معاني الأخبار: 291 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 2: 116، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب67 ح1 ـ 3.

31) مقدّمة رياض المسائل، تاريخ فقه أهل البيت (عليهم السلام) 1: 24 ـ 25.

32) المحاسن 2: 7 ح1076، تفسير العيّاشي 1: 12 ح8 ، وعنهما بحار الأنوار 92: 91 ح37 وص95 ح48.

33) الكافي 1: 91 ح3، التوحيد: 283 ح2، وعنه بحار الأنوار 3: 264 ح21.

34) تهذيب الأحكام 1: 34 ح90، الاستبصار 1: 13 ح25، وعنهما وسائل الشيعة 1: 341، كتاب الطهارة أبواب أحكام الخلوة ب24 ح3.

35) سورة البقرة 2: 275.

36) سورة المائدة 5 : 1.

37) سورة البقرة 2: 188.

38) سورة المائدة 5 : 1.

39) قراءات فقهيّة معاصرة في الاقتصاد الإسلامي 5: 14.

40) تفسير القمّي 1: 160.

41) لم نجده عاجلاً.

42) منتقى الجمان 1: 14.

43) مشرق الشمسين: 30 ـ 32.

44) كفاية الاُصول: 130، فوائد الاُصول 4: 51 ـ 55، بحوث في علم الاُصول 2: 75، 335، 374، وج5:284ـ 285، دروس في علم الاُصول، الحلقة الثالثة، القسم الأوّل: 303، منتقى الاُصول 1: 416ـ 417.

45) فرائد الاُصول 2: 233ـ 234.

46) ثابتها ومتغيّرها، كيهان انديشه، العدد 10، السنة التاسعة، الاُستاذ محمّد تقي الجعفري.

47) المصدر السابق.

48) كيهان انديشه، العدد 50، الفرق الرابع من المطلب التاسع، آية الله إبراهيم الجنّاتي.

49) تقدّم في ص260.

50) راجع تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 370ـ 373، 413ـ 418، 447 ـ 457، 513 ـ 516، 530 و567ـ 578، تاريخ التشريع الإسلامي: 186ـ 202 و281 ـ 287، النظريّات العامّة في الفقه الإسلامي وتاريخه: 372ـ 422، المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة والتعصّب المذهبي: 161ـ 163، تاريخ الفقه الإسلامي، أفكار ورجال: 161ـ167، المدخل للتشريع الإسلامي: 236ـ 249، 254ـ 258، 267ـ 271 و286 ـ 291، ويژگيهاى اجتهاد و فقه پويا: 337 ـ 338.

51) الكافي 1: 58 ح19، بصائر الدرجات 1: 148 ح ب13 ح7.

52) راجع مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى امام خمينى (رحمه الله) ، نقش زمان و مكان در اجتهاد 14:

53) الكافي 3: 530 ح1، تهذيب الأحكام 4: 67 ح183، الاستبصار 2: 12 ح34، عيون أخبار الرضا (قدس سره) 2: 61 ح246 وعنها وسائل الشيعة 9: 77، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ب16 ح1 وص80 ب17 ح6،الغدير 6: 219 وج8: 225.

54) مجلّة كانون وكلاء، الدكتور علي رضا الفيض.

55) هر منوتيك ، كتاب وسنّت: 168 ـ 173.

56) عوالي اللئالي 4: 137.

57) بحار الأنوار 26: 18 ـ 27.

58) الفقيه 4: 53 ح193، وعنه وسائل الشيعة 27: 175، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب12 ح68.

59) الكافي 1: 62 ح10، بصائر الدرجات: 301 ب15 ح1.

60) الكافي 1: 59 ح4.

61) كيهان انديشه، العدد 50، آية الله إبراهيم الجناتي.

62) المدخل في اُصول الفقه، ج4، ص69، الدكتور الدواليبي.

63) الكافي 5 : 292 ح2 وص293 ح6 وص294 ح8 ، الفقيه 3 : 147 ح648 ، تهذيب الأحكام 7 : 146 ح651، وعنها وسائل الشيعة 25: 428 ـ 429، كتاب إحياء الموات ب12 ح3 ـ 5.

64) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه : 129 ـ 144.

65) مجلّة كانون وكلاء، الدكتور علي رضا الفيض.

66) الكافي 5 : 383 ح2 وص385 ح2، تهذيب الأحكام 7 : 359 ح1460 وص360 ح1462، الاستبصار 3: 222 ح806 وص223 ح808 ، وعنها وسائل الشيعة 21: 257 و 258، كتاب النكاح، أبواب المهور ب8 ح6 و 8.

67) القواعد والفوائد 1: 151 ـ 152.

68) كتاب الصلاة للآملي 2: 318.

69) جواهر الكلام 13: 144، مصباح الفقيه، الصلاة: 626 سطر 4، المستند في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 17: 34.

70) في ص 264.

71) في ص274 ـ 275.

72) سورة البقرة 2: 275.

73) تهذيب الأحكام 10 : 273 ح1072، الاستبصار 4: 297 ح1120، الفقيه 4: 117 ح406، وعنها وسائل الشيعة 29: 327، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء ب24 ح6.

74) المكاسب المحرّمة، لآذري القمّي 1: 161ـ 162 و 167، الفقه ومسائل طبّية، لمحمّد آصف المحسني: 1 : 155ـ 158، دراست موسّعة حول المسائل المستحدثة، للشيخ علي آزاد القزويني: 17 ـ 18 و 51.

۳۰۵

75) بيان للمسلمين، عبد المجيد سليم.

76) مجلّة مكتب إسلام، العدد 6، السنة الثانية.

77) مجلّة مكتب إسلام، العدد 9، السنة الثانية.

 





برچسب ها :

زمان و مکان تأثیر زمان و مکان در احکام شرعیه تأثير الزمان والمكان في الفقه الزمان والمكان في الفقه