الخطابات القانونية
رؤية مبتکرة عند الاماما الخميني دراسة تحليلية نقديّة
تقريرا وتحقيقا لابحاث شيخنا الاستاذ سماحة آية الله محمدجواد الفاضل اللنکراني
معاونت پژوهش مرکز فقهي ائمه اطهار(عليهم السلام)


الكلمة الإفتتاحية

الحمد لله الذّي أنزل الكتاب بالحقّ والميزان، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الذي بلغ الرسالة ونادى في البشرية (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ)[1] وآله الطاهرين

الذّين بيّنوا المراد منها بمختلف وسائل التبيان.

وبعد، فإنّ طبيعة العصر التي نعيشه لَيتطلّب منّا معاشر الباحثين مزيدآ من الدراسات الفقهية والأصولية، التي تحيي المنهج العلمي في كتابة الموضوعات المختلفة وتلبّي حاجات الناس في معايشهم، وأنّ السبيل إلى المحافظة على هذا الدور هو تواصل أبناء الفقه الإسلامي مع ثوابت الفقه وأصوله تفهمآ وبحثآ وإستنتاجآ.

وإنّ من أهمّ العلوم الشرعية وأكثرها مدعاة للتفكّر هو علم أصول الفقه، المتعلّق بمعرفة مصادر الأحكام الشرعية، لغرض التعرّف على استنباط الأحكام الشرعية، التي هي الوسيلة للسعادة الدنيوية والأخروية.

يعتبر هذا الموضوع خطوةً للبحث العلمي الذي يتعلّق بفكرة أصوليّة للفقيه


1 ـ سورة آل عمران: 19.

والاُصولي الأقوم والحكيم النحرير قائد الثورة الإسلامية ومؤسس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، الإمام الراحل الخميني (قدس سرّه) وهو: قانونية الخطابات الشرعية وعدم إنحلالها؛ وهذا المبنى من مبتكراته في طريق إغناء الحركة العلمية في الساحة الاُصولية، فيعنى هاهنا بهذا المجال قائمآ على جمع الأقوال في المسألة بعد تصويرها تصويرآ علميآ واضحآ، وتبيان موقعها عند الفقهاء مع تحديد مواضع الإتفاق وتحرير مواضع الخلاف فيها.

نعم، ترصّد هذه الدراسة الأصولية ما أبدع الإمام المجاهد سماحة آية الله العظمى السيّد روح الله الموسوي الخميني (قدس سرّه) في علم الأصول من قراءة حديثة ومنهج مبنائي لتتمّ على ضوئها معالجة الكثير من القضايا الأصولية والفقهية، وركّزت إهتمامها لبيان نصّها ونقدها، إضافةً إلى ما تلقّى منه وعاش في سياقه، وما لاءم مع نظريته، وما لها من أبعاد وتطبيقات في مجالَي الفقه والأصول.

وبما أنّه لابدّ للدارس الكريم من أن يكون قادرآ على أن يتفاعل مع النصّ فقد يقارن بينه وبين ما هو المعروف عند الأصوليين من الإنحلال في القضايا الشرعية وأدلّته، فأفردنا هذا المكتوب تحقيقآ وتدقيقآ عن حقيقة الخطابات القانونية وأدرجنا فيه كلام هذا الفقيه المحقّق (قدس سرّه) من كتبه المختلفة مع ما يقال حوله من كلمات أنصاره وما يلاحظ عليه، نظرآ إلى إرتباطها بما نحن بصدده.

هذا مضافآ إلى ما قد بدأنا به من المقدّمة في البحوث التي تقتضيها طبيعة التمهيد فيعقّبها بيان أهمية الموضوع وعرض تاريخي له، وتعريف المفردات المرتبطة به وتبيين المبادئ في الحكم الشرعي.

وفي الأخير، جاءت الخاتمة في نتائج البحث، وبحثنا فيها عمّا نستطيع إستخلاصه من مجموعة هذه الأبحاث.

إذن، تحتوي مادة البحث على فصل تمهيدي، وثلاثة أبواب، وفصل في خاتمة المطاف.

أمّا الفصل التمهيدي قبل الولوج في مباحث الكتاب فعقد من جانب المقرّر، لبيان الأمور العامّة من تعريف المفردات وتبيين المراحل الأصولية في الحكم الشرعي و....

وأمّا الباب الأول فقد إشتمل على تبيين نظرية الإنحلال في القضايا الشرعية وما يلاحظ عليه.

وأمّا الباب الثاني فتبيّنت فيه نظرية السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) من عدم الإنحلال في الخطابات القانونية ومن ساق مساقه فيها، مضافآ إلى تبيان أدلّتها تحليلا ومناقشةً وتحقيقَ القول فيها.

وأمّا الباب الثالث فتضمّن تطبيقاتها الأصولية والفقهية من منظار السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) ونجله الشهيد الفقيه الأصولي السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله) والمرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(رحمه الله).

نسأل الله سبحانه أن ينفعنا والمؤمنين بما جاء في هذه المحاولة المتواضعة، فإنّها تلک كانت محاولتنا التي قمنا بها في شرح وتحقيق ما أفاده سماحة أستاذنا آية الله محمّد جواد الفاضل اللنكراني حفظه الله (وهو اليوم من الأعلام البارزة في المدرسة الفكرية للإمام الخميني (قدس سرّه)) في هذه الدراسة. وهي محاولة لا يزعم صاحبها أنّه وفاها حقّها، فإن أفلحنا فذلک ما نرجوه وإلّا فمن طبيعة الإنسان الخطأ والنسيان.

ونذكر آخرآ بأنّ هذا المشروع التحقيقي قام به قسم التقريرات والتحقيقات الفقهية في مركز الأئمة الأطهار : بقم المقدّسة، ولا ننسى أن نتقدّم تحيّاتى إلى مسؤول قسم التقريرات الأخ أحمد عرفاني نسب. ونودّ أن نتقدّم بالشكر الجزيل لصاحبَي الفضيلة: حجّتا الإسلام الشيخ حبيب الساعدي زيد عزّه والذي قام بإستخراج الكلمات الصعبة وترجمتها في بدء العمل، والشيخ محمّد جواد

المحمّديزيد عزّه والذي كان له دور مهم في تقريرات البحث عن شيخنا الأستاذ سماحة آية الله محمّد جواد الفاضل اللنكراني حفظه الله.

وفي الخاتمة نرى من الواجب علينا أن نتقدّم بالشكر والتقدير للأخ الفاضل الدكتور محمّد مهدي المقدادي دام مجده، مسؤول قسم التحقيق، والذي كان مصرّآ لإكمال هذا المشروع وللحصول على إعداد المجموعة الحاضرة، على أمل أن تحظى بإهتمام العلماء والمفكّرين في العالم الإسلامي.

«أللهمّ ألحقنا بصالح مَن مضى واجعلنا مِن صالح مَن بقي وأعنّا على صالح ما أعطيتنا»

قم، مركز الأئمة الأطهار (عليهم السلام)
للبحوث والدراسات التخصّصية الفقهية
حميد ستودة الخراساني
10 / 10 / 1434ق


الفصـل التمهـيدي

وتـقـرأ فـيهـا :

المبحث الأوّل: أهمية الموضوع وتأريخه

المبحث الثاني: التعريف بمفردات البحث

المبحث الثالث: المبادئ الأصولية في الأحكام الشرعية


المبحث الأوّل: أهمية الموضوع وتأريخه[1]

إنّ هذا الموضوع وهو عدم الإنحلال في الأحكام المجعولة من قبل المشرّع المسمّاة بالخطابات الكلّية القانونية، من الأبحاث المهمّة والتي قد كثر الكلام حولها وإنّا لوشاهدنا هذه البحوث التي طرحت في هذه المسألة إجمالا يتضّح لنا مدى إهتمام الفقهاء والمحقّقين بشأنها؛ وذلک لأنّ البحوث الأصولية قد أثّر قسم منها على بعض المباني العلمية في سير عملية الإجتهاد بصورة عامة وبشكل كلّي نحو هذه النظرية، وإنّها بحقّ لخطوة صاعدة في حركة النهوض الفقهي ومبادرة تأسيسيّة موفّقة في سبيل تفعيل الإستنباط، حيث إنّها إستهدفت معالجة أحد الألغاز العويصة في الربط المنطقي بين الصياغات الكلّية للأحكام وبين تعلّقها بعهدة المكلّف على إنفراده من خلال بيان آلية معيّنة وميزة خاصة للخطاب القانوني فيتوصّل عبرها لتحريک المكلّف ودفعه صوب الإمتثال، فإنّ مثل هذه النظرية لم‌تطرح في المعالجات البحثية بنحو متناسب مع أهميتها وخطورتها ممّادعت الحاجة إلى ضرورة بيانها وعرضها على المستوى التصوري


1 ـ الفصل التمهيدي من المقرّر المؤلّف وليس من أبحاث شيخنا الأستاذ حفظه الله.

والمستوى التصديقي وتقصّي الآثار والنتائج المترتّبة على هذه النظرية أصوليآ وفقهيآ.

نشأت نظرية الخطابات القانونية كما هو المعروف، في سياق المحاولات التي تصدّت للجواب على الشبهة المذكورة التي أوردها الشيخ البهائي(رحمه الله)[1] في بحث إقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص في باب العبادات، ولايناسب المقام البحث عنه إلى أن جاء دور السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) فأبدع هذه النظرية عندما أجاب عن تلک العويصة، ولكنّها لم‌تبق بذلک المستوى، بل صارت أحد المباني الإستراتيجية لسماحته (قدس سرّه)في علمي الأصول والفقه،بل أصبحت قضية في غاية الأهميّة، لكونها فكرة كلية متلائمة ومواكبة لعصرنا الحاضر وحياة الإنسان المعاصر،لاسيماعلى‌الصعيدين الإجتماعي والسياسي،[2] فإنّ الأخذبهاسيتعرّف جيدآ على الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية المعاصرة بصورة واضحة ومنضبطة، وسيتّضح ذلک من بيان النظرية وتطبيقاتها في المسائل المختلفة.

ومن هذا المنطلق، نلاحظ أنّ سماحة السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) قد غيّر المنهج الأصولي الذي كان سائدآ ومتفوّقآ فبدّل نظرية الموالي والعبيد إلى الرؤية القانونية، ولقد أعقبت آراؤه البديعة ثقافةً إسلاميةً وبلغ ذروته عندما هيمن على الشاه حينما أسقط الدولة البهلوية ووقعت إيران تحت سيطرته الدينية.


المبحث الثاني: تبيين المفردات

قبل الحديث عن البحث الأصولي في نظرية الخطابات الشرعية يجب أن نحدّد المفاهيم الأساسية أولا، ثمّ مضمونه وعناصره التي يتكوّن منها ثانيآ، لأنّا ما لم


1 ـ زبدة الأصول: 117.

2 ـ أنظر مقالة «تعلّق الخطابات الشرعية السياسية بالمكلّف السياسي وفقآ لنظرية الإمام الخميني (قدس سرّه) في الخطابات القانونية» ]بالفارسية[، مجلّة علمية تخصصية تعني بقرائات الثورة الإسلامية (فصلنامه علمى ـپژوهشى مطالعات إنقلاب إسلامى)، الرقم :16 43 62.

نتبيّن المادّة المدروسة بصورة جيدة لا يمكننا بحال أن نتبيّن المنهج المتّبع في بحثنا، اذ المنهج العلمي في بحث أية مادّة يجب أن يكون مشتقّآ من طبيعة المادّة المدروسة.

فعلينا في البدء أن نلقي نظرةً ولو قصيرة على تعريف الخطاب والنعوت المتّصلة به من الحكم ومايرتبط به من أقسامه ومبادئه ومراحل جعله والتكليف، وتعريف القانون والإنحلال كمقدمة وتوطئة للبحث.


المطلب الأول: تعريف الخطاب

لمّا كانت الغاية التي يستهدفها الأصولي هي معرفة كيفية إستنباط الأحكام من الأدلّة التي عمدتها ترجع إلى «الخطاب الشرعي» فيفرض المعرفة به من حيث مفهومه وأقسامه.

الخطاب: أحد مصدرَي فعل خاطب يخاطب خطابآ ومخاطبة، ويدلّ لغويآ على توجيه الكلام المفيد لمن يفهم، نقل من الدلالة على الحدث المجرّد من الزمن إلى الدلالة الإسمية، فأصبح في العرف العام يدلّ على ما خوطب به وهو: الكلام بَيْن متكلّم وسامع.[1] ومن ثمّ، لايطلق الكلام على لفظ الخطاب إلّا إذا كان متصفآ بخصوصية قصد الإفهام، لأنّ المعقول من قولنا: إنّه مخاطِب لنا، أنّه قد وجّه الخطاب نحونا ولا معنى لذلک إلّا أنّه قصد إفهامنا.

ولا يخفى أنّ الخطاب الشرعي هو كلام الله جلّ وعلا (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[2] ثمّ سنة رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأوصيائه صلوات الله عليهم بإعتبارها شارحةً ومبينةً لكلام الله عز وجلّ.


1 ـ المصباح المنير :2 173؛ مجمع البحرين :2 51.

2 ـ سورة فصّلت: 42.

هذا، وإنّ الخطاب الشرعي بإعتبارات مختلفة، له تقسيمات متعدّدة فيتنوّع إلى الخبر والإنشاء، وينقسم مضمونه أيضآ إلى قسمين: خطاب تكليف وخطاب وضع. ولا يخفى أنّ الخطاب كاشف عن الحكم، والحكم هو مدلول الخطاب. وبعبارة أخرى، إنّ الحكم ليس هو الخطاب نفسه بل المستفاد منه، فإنّ الحكم ليس قول الشارع: أوجبت عليک، بل نفس الوجوب المستفاد من ذلک الخطاب، كما سيأتي توضيحه.


المطلب الثاني: تعريف الحكم الشرعي وأقسامه

إنّ الحكم الشرعي ليس مفهومآ ذهنيآ مجرّدآ عن أحوال الخلق المختلفة، بل يكون محطّآ للنظر عند الفقيه والأصولي معآ ليتكفّلوا بتنظيم حياة الإنسان الماديّة والمعنوية ووقائعهم وفق تشريعات إلهية إسلامية، فالأوّل يدرس العناصر الخاصّة لإستنباطه بينما الثاني يدرس العناصر السيالة والمشتركة لإستنباطه.

هذا، وتوجد في علم الأصول نقاط كثيرة متعلّقة بالحكم الشرعي فلابدّ لنا أن نستعرض بعض أهمّ النقاط المرتبطة وذات الصلة به ضمن جهات عديدة، ستأتي واحدة بعد أخرى كما يلي :


الجهة الأولى: تعريف الحكم الشرعي

الحكم: مصدر حكم يحكم، وفي دلالته اللغويّة تعني: القضاء، وهو يطلق أيضآ على معنى العلم والفقه[1] ويطلق أيضآ على إتقان الفعل والإتيان به على الوجه الذي ينبغي فيه، وأصل الحكم في اللغة بمعنى المنع، وبذلک سمّيت حَكمة الدّابة بهذا الإسم، لأنّها تذلّلها لراكبها حتّى تمنعها الجماح وغيره، فيقال أحكمت السفيه


1 ـ تاج العروس من جواهر القاموس :16 160 و 165؛ لسان العرب :12 141.

وحكمته: إذا أخذت على يده ومنعته من سوء فعله.[1]

وسمّي القاضي حَكمآ، لانّه يمنع المقضي عليه من مخالفة الأمر، والحكمة ذات صلة بمعنى المنع، لأنّها تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد.[2]

وأمّا الحكم الشرعي إصطلاحآ فقد ذكروا له تعريفات وإختلفوا فيه، فعن المشهور بين قدماء الأصوليين، وخاصّةً بين العامّة: أنّه هو الخطاب الشرعي المتعلّق بأفعال المكلّفين.[3]

وفي هذا التعريف عدة مجالات للتأمل :

أولا، إنّ الخطاب الشرعي في الكتاب والسنة إنّما هو مبرز للحكم الشرعي وكاشف عنه ودالّ عليه وليس هو الحكم نفسه، فالحكم هو مدلول الخطاب.

وثانيآ، إنّ الحكم الشرعي لاينحصر بما يتعلّق بأفعال المكلّفين، بل قد يتعلّق بذواتهم أو بأشياء أخرى ترتبط بهم.[4]

وثالثآ، إنّ هذا التعريف شامل لما ورد فيه خطاب متعلّق بأفعال العباد ولكنّه ليس بحكم بل قصد به الإخبار، مثل قوله تعالى: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[5]

هذا، ولكن يرد على الملاحظة الأولى: أنّ أهل السنّة يقبلون أنّ الخطاب ليس هو عين الحكم حيث أنّهم فسّروا خطاب الله في كتبهم بأنّ المراد به كلامه تعالى، سواء دُلّ عليه بالقران الكريم مباشرةً أو بالسنّة أو بالإجماع أو بالقياس أو بغير ذلک من الأدلّة الشرعية التي هي كاشفة عن خطاب الله تعالى ومعرِّفة له.[6]

وهناک تعريف ثانٍ للحكم الشرعي منقول عن الأصوليين وهو: خطاب الله


1 ـ معجم مقائيس اللغة :2 91؛ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير :2 145.

2 ـ المصباح المنير :2 145.

3 ـ المعالم الجديدة للأصول: 99.

4 ـ نفس المصدر.

5 ـ سورة الصافات: 96.

6 ـ الحكم الشرعي عند الأصوليين: 46.

تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالإقتضاء أو التخيير أو الوضع.[1]

وهذا التعريف أيضآ يرد عليه الإيراد الأول والثاني الواردين على التعريف السابق، ولكنّه لايرد عليه الإشكال الثالث الذي سردناه آنفآ، لتقييد الخطاب فيه بخصوص الإقتضاء أو التخيير أو الوضع. هذا، ولكنّ التعريفين السابقين ليسا بجامعين، لعدم شمولهما لقسم من الأحكام الوضعيّة التي لم يتعلّق بها خطاب من الشارع، وإنما انتزعت مما ورد فيه الخطاب من الأحكام التكليفية كالجزئية، والشرطية، والسببية.[2]

وقد عرّف أيضآ بتعريف ثالث وهو: أنّ الحكم الشرعيّ هو ما كتب الله على عباده في نفس الأمر، والكاشف عنه والدّليل عليه هو: كلامه وكلام رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأمنائه، والعقل القاطع.[3] ولكنّه ينحصر التعريف في الحكم الواقعي، ولايشمل جميع أفراده.

هذا، وقد عرّف بتعريف رابع وهو أنّ الحكم هو: البعث الناشئ من الإرادة الجدّية بحيث تكون الإرادة كسائر المقدّمات من مبادئ حصول الحكم لا من مقوّماته؛ وذلک بشهادة العرف والعقلاء، فإنّ مجرّد صدور الأمر من المولى يكفي في إنتقال العبيد إلى وجوب الإتيان، من غير أن يخطر ببالهم أنّ أمره ناشٍ من الإرادة أو أنّ هنا إرادة في نفسه وهو يحكي عنها، بل إنّ البعث والإغراء بأيّ آلة كانت فهو تمام الموضوع لحكم العقلاء بوجوب الإمتثال.[4]

ولا يخفى أنّ تفسير الحكم بالبعث الناشئ من الإرادة الجدّية يخرج الأحكام الخمسة خلا الوجوب من دائرة الحكم الشرعي ولايصحّ إطلاقه على الوضعيات


1 ـ موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمين :1 602.

2 ـ الأصول العامة في الفقه المقارن: 52.

3 ـ القوانين المحكمة في الأصول :3 299.

4 ـ تهذيب الأصول :1 319.

أيضآ. هذا، ويشمل التعريف للأوامر الإمتحانية التي تكون الارادة فيها قد نشأت في نفس المولى لأجل المصلحة في نفس الأمر لا في متعلّقه؛ مع أنّه لايعدّ من الأحكام الشرعية قطعآ.

وعليه من الأفضل إستبدال هذه الصيغ في تعريف الحكم الشرعي بما يكون مطّردآ ومنعكسآ فنقول تبعآ للسيد المحقّق الصدر(رحمه الله) إنّ الحكم عبارة عن : التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه. والخطابات الشرعية في الكتاب والسنّة مبرزة للحكم الشرعي وكاشفة عنه، وليست هي الحكم الشرعي نفسه.[1]

وتوضيحه إنّ الحكم الشرعي بلحاظ القانوني عبارة عن التشريع، فيكون من سنخ الأفعال الإختيارية الصادرة عن المشرّع الذي يُعنى بشئون الإنسان ويتعلّق بذاته أو بفعله أو بغيرهما مما يرتبط بالإنسان ومختلف جوانبها المادية والعبادية ـجماعات وأفراد فعالجتها الشرعية ونظّمتها جميعآ.

هذا، والمراد من التشريع ما يشمل المنتزع منه لكي يدخل في التعريف بعض الأحكام الوضعية وهي الأحكام الإنتزاعية كالجزئية والشرطية؛ فإنّها ليست مجعولةً ومشرّعةً من قبل الشارع، بل هي منتزعة من تشريعات إلهية أخرى، ومايشمل أيضآ الحبّ والبغض المولويين والإرادة والكراهة المولويتين، فإنّها من مبادئ الحكم الشرعي والتشريع الإلهي وتعبّر عن روح الحكم وحقيقته.

وعلى ضوء هذا البيان، قد إتضح الخلل في ما عرّفه السيّد الحكيم(رحمه الله) في الأصول العامة في الفقه المقارن من أنّ الحكم الشرعي هو: الإعتبار الشرعي المتعلّق بأفعال العباد تعلّقآ مباشرآ أو غير مباشر؛[2] وذلک لأنّ الحكم الشرعي قد


1 ـ دروس في علم الأصول :1 61.

2 ـ الأصول العامة في الفقه المقارن: 55.

لا يتعلّق بأفعال المكلّفين، بل قد يتعلّق بذواتهم أو بأشياء أخرى ترتبط بهم، اذ الهدف من الحكم الشرعي تنظيم حياة الإنسان، و لغرض الوصول إلى هذه البغية كما نحتاج إلى خطاب متعلّق بأفعال المكلّفين كخطاب «صلّ» أو «لا تشرب الخمر»، كذلک نحتاج إلى خطاب متعلّق بذواتهم أو بأشياء أخرى تدخل في حياتهم من قبيل الأحكام والخطابات التي تنظّم علاقة الزوجية وتعتبر المرأة زوجة للرجل في ظلّ شروط معينة، أو تنظّم علاقة الملكية وتعتبر الشخص مالكآ للمال في ظلّ شروط معينة، فانّ الزوجية حكم شرعي متعلّق بذواتهم والملكية حكم شرعي متعلّق بالمال؛[1] فليس الفارق بين الحكم التكليفي والوضعي هو تعلّق الأول بفعل المكلّف مباشرة وعدم تعلّق الثاني به كذلک؛ فإنّ الحكم قد يكون رغم تعلّقه بفعل المكلّف مباشرة حكمآ وضعيآ لا تكليفيآ وذلک بلحاظ عدم توجيهه العملي المباشر كالجزئيّة والشرطية المتعلّقة بالعبادات.


الجهة الثانية: تقسيمات الحكم الشرعي

وبُغيةَ أن نتبيّن هذه الدراسة بشأن الخطابات القانونية ونماذجها التطبيقية ينبغي لنا التعرّف على التقسيمات والخصائص الشائعة التي ترتبط بالحكم والخطاب الشرعي ليكون الناظر على بصيرة ويتبيّن مَبلغ صحّة النظرية. وقد قسّموا الحكم أصحابنا الإمامية بتقسيمات متعددة نستعرضها كما يلي :


النقطة الأولى: تقسيم الحكم الي تكليفي ووضعي

ينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي، حيث إنّ الحكم اذا صدر بداعي البعث أو الزجر أو الترخيص الذي يتعلّق بأفعال الإنسان وما يصلح ويوجّه


1 ـ دروس في علم الأصول :1 61.

سلوكه في مختلف جوانب حياته الشخصية والإجتماعية التي نظّمتها الشريعة، يسمّى تكليفيآ. والمشهور أنّ الأحكام التكليفية مجعولة بالجعل الشرعي كما يستفاد من النصوص الشرعية الواردة في الكتاب والسنة.

وأمّا الحكم الّذي لم يكن بحكم تكليفي بل يشرّع وضعآ معينآ وينظّم التشريعات الالهية والأحكام التكليفية، من قبيل الأحكام التي تنظّم علاقات الملكية والزوجية ونحوهما، فيسمّى وضعيآ، لكونه غالبآ موضوعآ للحكم التكليفي. وبالجملة أنّ كلّ حكم وإعتبار شرعي سوي الخمسة المذكورة يعتبر حكمآ وضعيآ كالمشروعات التي تتضمّن السببية أو المانعية أو الشرطية أو الصحة والفساد.

وبناءً على ما ذكرناه أنّ العلاقة بين الأحكام الوضعيّة والأحكام التكليفيّة وثيقة جدآ؛ إذ لا يتوفّر حكم وضعي إلّا ويوجد إلى جانبه حكم تكليفي، فالزوجيّة مثلا حكم شرعي وضعي توجد إلى جانبه أحكام تكليفية وهي وجوب إنفاق الزوج على زوجته ووجوب التمكين على الزوجة. والملكيّة حكم شرعي وضعي توجد إلى جانبه أحكام تكليفية من قبيل حرمة تصرّف غير المالک في المال إلّا بإذنه.[1]

هذا ويقسّم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام، وهي الوجوب والإستحباب والحرمة والكراهة والإباحة. ومنشأ التقسيم هو أنّ الحكم إذا يبعث نحو الشيء الّذي تعلّق به على وجه الحتم، ويطلب الفعل بدرجة الإلزام لكي يكون تاركه مستحقّآ للذمّ والعقاب، يعبّر عنه بالوجوب والفرض والمكتوب.

وأمّا الحرمة فهي ضدّ الوجوب ويرادفها المحظور، والمعصية، والذنب،


1 ـ المصدر نفسه :1 62.

والمراد منها المنع، والحكم الشرعي الذي يزجر عن الشيء الّذي تعلّق به بدرجة الإلزام، فلا يحلّ إنتهاكه؛ فإنّ الشارع أوعد على فعله فيأثم المكلّف بإتيانه.[1]

وأما الندب ويرادفه المستحب والسنّة والنفل فهو ما رغّب فيه الشارع ولم يوجبه وطلبه طلبآ غير جازم، والمطلوب فعله شرعآ من غير ذمّ على تركه مطلقآ، وعليه إنّ الندب هو الحكم الذي يبعث نحو الشيء الّذي تعلّق به بدرجة دون الإلزام، ولهذا يوجد إلى جانبه دائمآ رخصة من المشرّع في مخالفته، فيثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.[2]

وأما الكراهة فهي تتعلّق بطلب الكفّ عن الفعل طلبآ غير جازم، فيكون حكمآ شرعيآ يزجر عن الشيء الّذي تعلّق به بدرجة دون الإلزام، فهي طلب الترک لا على سبيل الحتم والإلزام.

وأما الإباحة فهي خلاف المحظور، والمراد منها الإحلال، وما يأذن الشارع في الأخذ منه والتّرک، فتقتضي التخيير وتفسح المجال للمكلّف لكي يختار الموقف الّذي يريده من فعل أو ترک، فإنّها ما إستوى طرفاها بالشرع وخلت من مدح أو ذمّ.[3]

بقي هنا شيء، وهو أن الإباحة كما تنشأ من عدم المصلحة والمفسدة في الفعل أو لتساويهما فيه، كذلک قد تكون مع المصلحة الملزمة أو المفسدة الملزمة ولكن مع وجود مانع عن الإلزام بالفعل أو الترک أو وجود المقتضي للترخيص والإباحة كما في الإباحات الظاهرية، فيطلق على القسم الأول الإباحة اللاإقتضائية وعلى الثاني الإباحة الإقتضائية.[4]


1 ـ القاموس الفقهي، لغةً وإصطلاحآ: 87.

2 ـ معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية :3 276.

3 ـ نفس المصدر :1 33؛ القاموس الفقهي، لغةً وإصطلاحآ: 42.

4 ـ إصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: 121.


النقطة الثانية: تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري

إنّ الحكم الواقعي هو: الحكم الذي لم يفترض في موضوعه الشکّ في حكم شرعي مسبق أو لم يؤخذ في موضوعه عدم العلم به؛ فكلّ حكم ثبت لموضوعه دون أن يكون الشکّ في الحكم الواقعي جزءً لذلک الموضوع، بل هو متّجه نحو الشيء ذاته لتحديد حكمه مباشرةً فهو حكم واقعي، سواء افترض في مورده الشکّ كما في الأحكام المستفادة بواسطة الأمارات أو لم يفترض كما في الأحكام المستفادة بواسطة الأدلّة القطعيّة، بينما المقصود بالحكم الظاهري هو الحكم الذي أخذ في موضوعه الجهل بالواقع وإشترط فيه الشکّ في الحكم الواقعي وبهذا يتمحّض الحكم الظاهري في الأصول العمليّة؛ إذ هي التي إعتبر في جريانها الشکّ في الحكم الواقعي، فموضوع البراءة الشرعيّة مثلا هو الشکّ في التكليف المتوجّه للمكلّف واقعآ تجاه هذه الواقعة أو تلک، وهكذا سائر الأصول العمليّة، فإنّها جميعآ قد أخذ في موضوعاتها الشکّ في الحكم الواقعي.

هذا، ويستشكل على التقسيم شيخنا الأستاذ حفظه الله فيقول: إنّه بناءً على تعريف الحكم الظاهري، يلزم من أخذ الشکّ في الحكم الواقعي كموضوع في الحكم الظاهري، تبدّل الموضوع؛ لإنّ ما يستفاد من قيد «مالم ينكشف الخلاف» في تعريف الحكم الظاهري هو: أنّ الموضوع فيه بعد العلم بالحكم الواقعي يصير موضوعآ آخر، فموضوع الحكم الواقعي هو ذات الشيء، وأما موضوع الحكم الظاهري فهو الشيء بوصف أنّه مشكوک حكمه الواقعي، فإذا زال الشکّ فقهرآ يتبدّل الموضوع ولايعقل بقاء الحكم الظاهري بحاله، وليس للمقسم أي الحكم موضوع واحد.

إذآ بعد إختلاف الموضوع فلايصحّ أن يقال إنّ الموضوع الواحد له حكم واقعي وله أيضآ حكم ظاهري؛ خصوصآ، أنّ الحكم تابع للمصلحة والمفسدة في

متعلّقه، مع أنّ الحكم الظاهري يخلو عن تلک المبادىء في ذلک. وعليه إطلاق الحكم على الحكم الظاهري يبتني على التسامح والتجوّز.


النقطة الثالثة: تقسيم الحكم إلى أولي وثانوي

الحكم الأولى هو الحكم المجعول للشيء أولا وبالذات وبصرف النظر عمّا يطرأ عليه من العوارض التي تقتضي تبدّل الحكم الأولي، وذلک كأكثر الأحكام الواقعية التي جعلت على الأفعال والذوات بعناوينها الأولية الخالية عن قيد طروّ العنواين الثانوية.

والحكم الثانوي هو الحكم المترتّب على الموضوع المتّصف بوصف من العناوين الثانوية وما جعل للشيء بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصّة كالإضطرار والإكراه ونحوهما لكي يتغيّر حكمه الأولي، ولو لا طروّ هذه العوارض لكان الموضوع مقتضيآ لحكم آخر هو المعبّر عنه بالحكم الأولي، كالحرمة المتعلّقة بالصوم بلحاظ كونه مضرّآ أو حرجيّآ على العبد.

هذه هي أهمّ التقسيمات للحكم الشرعي وأوكلنا تطبيقاتها إلى القاري اللبيب، فإنّه مع التعرّف على هذه التقسيمات نتّسع بالحديث في الخطابات القانونية ويساعدنا على الخوض في آثارها ونماذجها.


المطلب الثالث: تعريف التكليف

التكليف لغةً، بمعنى ما فيه المشقّة والكلفة والتعب. جاء في المفردات: الكَلَف : الإيلاع بالشيء، وتكلّف الشيء ما يفعله الإنسان بإظهار كلَف مع مشقّة تناله في تعاطيه، وصارت الكلفة في التعارف إسمآ للمشقّة، والتكلّف إسم لما يفعل بمشقّة أو تصنّع أو تشبّع، ولذلک صار التكلّف على ضربين :

1. محمود و هو ما يتحرّاه الإنسان ليتوصّل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلا عليه، ويصير كَلِفآ به ومحبّآ له، وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلّف العبادات.

2. مذموم وهو ما يتحرّاه الإنسان مراءاةً أي رياءً، وإيّاه عني بقوله تعالى (قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[1][2] ومن الكلفة المذمومة ما جاء في الخبر الشريف: «شرُّ الاِْخْوان من ]تَكَلَّفُ[ تُكُلِّفَ له».[3]

وفي لسان العرب: «كلّفه تكليفآ إذا أمره بما يشقّ عليه. وتَكَلَّفْت الشيء : تجشَّمته على مشقّة وعلى خلاف عادتک. والكُلْفَةُ: ما تكلَّفْت من أمر في نائبة أوحق».[4]

وفي المصباح المنير: «والكُلْفَةُ: ما تُكَلَّفُه على مشقّة، والجمع: كُلَف، مثل غُرفَة وغُرَف. والتكاليف: المشاقُّ أيضآ، الواحدةُ: تَكْلِفَة، وكَلِفْتُ الأمر من باب تَعِبَ : حمَلتُه على مشقّةٍ. ويتعدَّى إلى مفعُولٍ ثانٍ بالتَّضعيف، فيقال:كَلَّفْتُه الأَمر فَتَكَلَّفَهُ : مثل حَمّلتُه فتَحمَّله وزنآ ومعنًى عَلَى مشقّةٍ أَيضآ».[5]

فنرى أنّ التكليف: هو تحميل وإلزام الغير بما فيه مشقّة وتعب، وهو لحوق ما يستصعب على النفس، قال الله تعالى: (وَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الاَْنْفُسِ).[6] ومن ثمّ، ناسب أن يطلق عنوان التكليف لغةً على الأحكام الإلزاميّة فلا يشمل المستحبّات والمكروهات، لأنّ المكلّف في سعة من جهتها فتلحقها بتأمّل وتجوّز.


1 ـ سورة ص: 86.

2 ـ المفردات في الفاظ القرآن: 722.

3 ـ نهج البلاغة (لصبحي الصالح): 559.

4 ـ لسان العرب :9 307.

5 ـ المصباح المنير في غريب الشرح الكبير :2 537.

6 ـ سورة النحل: 7.

هذا كلّه بحسب المدلول اللغوي لعنوان التكليف. وأمّا في الإصطلاح فإنّ التكليف يطلق ويراد منه: الأحكام الشرعيّة المتّصلة بفعل المكلّف إبتداءً. والمكلّف هو من تتوافر فيه الأهلية والذي وضع عليه قلم التكليف الشرعي ودخل في خطاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ...)[1] وهو العاقل البالغ القادر.[2]


المطلب الرابع: تعريف القانون ومراحل جعله

إنّ كلمة القانون في اللغة تعني مقياس كلّ شيئ وطريقه، وقد يقال إنّ القانون أمر كلّي ينطبق على جميع جزئياته التي تتعرّف أحكامها منه.[3] والقاعدة هي القضية الكلّية التي تعرف منها بالقوة القريبة من الفعل أحوال جزئيات موضوعها وذلک مثل كلّ فاعل مرفوع، فإذا أردت أن تعرف حال زيد مثلا في جاءني زيد، فعليک‌أن تضمّ الصغرى السهلة الحصول، أعني زيد فاعل مع تلک القضية، وتقول : زيد فاعل، وكلّ فاعل مرفوع فيحصل لک معرفة أنّه مرفوع.[4]

وأمّا في الإصطلاح فتطلق كلمة القانون في معناها العامّ على جميع القواعد والأنظمة التي تهدف إلى تنظيم الأنشطة الإجتماعية المختلفة وتحكّم سلوک الأفراد في المجتمع. والقانون في معناه العامّ هو جميع القواعد الملزمة والتي يلزم الأفراد إتباعها،[5] فتحملهم السلطة العامّة على إحترامها ولو بالقوّة عند الضرورة، حتّى يستقيم النظام في المجتمع؛ فإنّ الإنسان خُلِق ليعيش حياته ويتمتّع بوجوده، وهو في سبيل ذلک يقوم بالعديد من الأعمال والأنشطة، ندر منها ما


1 ـ سورة البقرة: 183.

2 ـ القول الرشيد في الإجتهاد والتقليد :1 26.

3 ـ تاج العروس من جواهر القاموس :18 466.

4 ـ معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية :3 63.

5 ـ النظرية العامة للقانون :1 13.

ينفرد بإنجازه، فطبيعة الحياة تقتضي التعاون بين الأفراد وبمرور الزمن وتطوّر العلاقات الإجتماعية وتشابكها غدا الأمر ملحّآ لنشوء علاقات مشتركة بين أفراد المجتمع متعاونين متكافئين لدفع عجلة الحياة، فأخذ الإنسان على عاتقه تدوين القواعد العامّة التي يحتويها القانون فيخاطب الأفراد ويتطلّب منهم إتّباع مسلک معين وإلّا يحقّ عليهم الجزاء.

والمستخلص من التعريف للقانون: أنّه يطلق على مجموعة القواعد التي تحكّم وتنظّم علاقات المخاطبين بها وسلوكهم في مجتمع‌ما، والتي تصف بأنّها قواعد عامّة مجرّدة، كما وأنّه لابدّ من أن يكون لهذه القواعد صفة الإلزام والجبر.

هذا ويقصد بالتجريد أنّ العنصر الذي ينصرف إليه الحكم لا يتخصّص بشخص أو بأشخاص معينين بذواتهم ولا بواقعة أو بوقائع معينة بذاتها، بل تنطبق على كلّ شخص توفّرت فيه صفات معينة وعلى كلّ علاقة إستكملت شروطآ معينة وبذلک‌يتحقّق عموم التطبيق، بمعنى أنّ الحكم ينطبق على كلّ من يتوافر فيه الوصف المذكور في الفرض، سواء كان شخصآ أو واقعةً. ولكن لا يشترط لتوافر صفة العمومية إنطباق القاعدة القانونية على جميع أفراد المجتمع؛ اذ قد يقتصر تطبيقها على طائفة أو فريق منه توافرت فيه صفات معينة.[1]

وتوضيح ذلک هو أنّ التجريد كصفة في القاعدة يراد به أن القاعدة منذ نشوئها مجرّدة من الشروط الخاصّة الذاتية للوقائع أو الأشخاص، وهذا مما يسبغ لها العمومية في التطبيق، فالقواعد عند وضعها ينظر فيها للأوضاع الكلّية الغالبة دون الإستثناء، ففي حالة التكليف الذي يصدر في خصوص شخص معين بذاته أو واقعة معينة بعينه فإنّ ذلک يعدّ مجرّد قرار فرديّ شخصيّ لا قاعدة قانونية عامة وهذا القرار الفردي سوف يستنفد أغراضه بمجرّد صدوره للشخص أو الأشخاص


1 ـ المبادىء القانونية العامة: 22.

المعيّنين بذواتهم دون إمتداده لغيرهم. وكذلک الأمر الصادر في وقائع معينة بذاتها حيث لن يمتدّ إلى غيرهم من الوقائع؛ فمثلا، القاعدة القانونية قد صنعت قاعدة مجرّدة بحيث من قتل مؤمنآ متعمّدآ يعاقب بالقود؛ فالقاعدة هنا لم تنظر إلى كون القاتل رجلا أو مرأةً، مواطنآ أم أجنبيآ، مشفقآ أم جاهلا، كبيرآ أم صغيرآ، غنيآ أم فقيرآ، فهي تسري إلى جميع الأفراد؛[1] بل هذه القاعدة هنا مجردة من جميع الصفات الشخصية أو الذاتية للأفراد، ويجعلها تتناول جميع الأشخاص المخاطبين بها. وإنّ هذا الأمر متواجد أيضآ في الحكم الشرعي المتعلّق بأفعال العباد وتصرّفاتهم؛ فإنّه يتناول بالخطاب المكلّفين على وجه العموم دون فرد وشخص معيّن بذاته بحكم، وينصرف أيضآ إلى جميع العلاقات المتماثلة بين الناس.

فيتبيّن مما سبق أنّ العموم والتجريد كخاصية للقاعدة القانونية إنّما يقوم على الأمر الغالب في المجتمع حتّى لو وجد النادر منه وهو يقصد بذلک تحقيق المساواة بين الكافّة، فيثبت الطمأنينة بينهم.

ثمّ إنّ القانون بإعتباره مجموعة قواعد إجتماعية، عادةً لا يتعرّض لتنظيم علاقة الإنسان بنفسه أو بربّه وكذلک قد لا يتعرّض لبعض واجبات الإنسان نحو الغير، بل يترک الإهتمام بهذه الأمور للشريعة المعتنقة أو لقواعد الأخلاق التي تتّفق في أصولها مع أحكام الدين فتتطبّق عرفآ في المجتمع.

نعم، من المتصوّر في الدول الإسلامية التي إلتزمت بأحكام الشارع الكلّية وإستقت منها تقنينها أن تتوافق هذه التقنينات مع خطاباته والذي ينعكس في صورة الحكم الشرعي والتشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه.


1 ـ النظرية العامة للقانون: 26.

ومن هنا نجد أنّ الأحكام الشريعة الإسلامية أعمّ من القانون بالمعنى الذي ذكرناه؛ فإنّه يختلف نطاق الدين عن نطاق القانون؛ فالدين يتناول واجبات الإنسان نحو ربّه ونحو نفسه ونحو غيره في حين أنّ القانون يقتصر على واجبات الإنسان نحو المجتمع.

نعم، يشترک الأحكام الشريعة والقانون في جهات :

منها أنّ المخاطب بالأحكام في الشريعة وفي القانون هو من تتوافر فيه الأهلية، بمعني أنّ الشريعة والقانون تتناول كلّ الأفراد الذين توافرت فيهم الأهلية وذلک بأن تبيّن فيهما صفات وشروط عامة متى توافرت في شخص عدّ الخطاب موجّهآ له في أيّ زمان أو مكان مادام هذه القاعدة الشرعية أو القانونية واجبة التطبيق.

ومنها أنّ العموم والتجريد نجدها في الحكم الشرعي والقاعدة القانونية حيث أنّ الخطاب موجّه للمكلّفين سواء في القانون أو الشريعة؛ وذلک بمعنى أنّ النظام الشرعي أو القانوني في أيّ مكان لايستطيع أن يضع قواعد شرعية أو قانونية تحكم كلّ فرد بذاته وكلّ حالة بعينها ولذا تكون القواعد الشرعية والقانونية مجردةً من ذاتية الأفراد والوقائع بحيث تخاطب جميع الأفراد بحسب الأمر الذي وضعت لأجله.

ومنها أنّ الجزاء في الشريعة وفي القانون مادام هذا القانون مستنبطآ من أحكام الشريعة يتضمّن جزائآ دنيويآ وأخرويآ.[1]

ثمّ أنه يجب أن نتسائل كيف يتكوّن القانون وما هي المراحل التي تتدخّل في بنائها؟

والجواب أنّ القانون هو عمل السلطة التشريعية وفقآ لنصوص الدستور


1 ـ النظرية العامة للقانون: 18.

فيسنّ القانون أمام البرلمان على أنّ المبادرة في إنشاء تعود للسلطة التنفيذية ولأعضاء المجلس النوّاب وتحمل المبادرة اذا جائت عن الحكومة : مشروع قانون وإقتراح قانون. وبعد دراسة المشاريع والإقتراحات المذكورة من قبل اللجان يقرّها المجلس ويحيليها إلى الرئاسة الجمهورية لأجل إصدارها في مدّة محدّدة ويكون القانون ملزمآ، حتّى ولو لم يكن واضحآ أو كاملا فلا يستطيع القاضي مثل أن يتوقّف عن تطبيق القانون والحكم بموجبه بحجّة عدم وضوحه أو كفايته.[1]


المطلب الخامس: تعريف الإنحلال، لغةً وإصطلاحآ

الحلّ والحلول لغةً بمعنى الفتح. جاء في معجم مقائيس اللغة :

حلّل: الحاء واللام له فروع كثيرة ومسائل، وأصلها كلُّها عندي فَتْح الشىءِ، لا يشذُّ عنه شيء. يقال حلَلْتُ العُقدةَ أحُلُّها حَلًّا. ويقول العرب: «يا عاقِدُ اذكُرْ حَلّآ». والحلال: ضِدُّ الحرام، وهو من الأصل الذى ذكرناه، كأنّه من حَلَلْتُ الشىء، إذا أبحْتَه وأوسعته لأمرٍ فيه. وحَلَّ: نزل، والحلول: النزول، وهو من هذا الباب، لأنّ المسافر يشُدّ ويَعقِد، فإذا نزلَ حَلّ فيقال حَلَلْتُ بالقوم.[2]

وفي الصحاح: حلل: حَلَلْتُ العُقدة أَحُلُّهَا حَلّاً: فتحتها فَانْحَلَّتْ. وحَلَّ بالمكان حَلّاً وحُلُولا. والَْمحَلُّ أيضآ: المكان الذى تَحُلُّه.[3]

وأمّا المعنى المصطلح لهذا العنوان فاستعمل في الأصول في عدة موارد :

منها : مورد وجود العلم الإجمالي بالتكليف المنجّز، وينقسم بهذا الإطلاق إلى الإنحلال الحقيقي والإنحلال الحكمي.


1 ـ القاموس القانوني الثلاثي (عربي فرنسي انكليزي): 1276.

2 ـ معجم مقائيس اللغة :2 20.

3 ـ تاج اللغة وصحاح العربية :4 1672.

بيان ذلک أنّه إذا حصل للمكلّف علم إجمالي بوجوب أحد الشيئين مثلا ثمّ حصل له الإحراز التفصيلي بالنسبة إلى بعض الأطراف بأن إنكشف له أنّ المعلوم بالإجمال هو هذا دون ذاک، وزال العلم الأول وتحقّق علم تفصيلي بالواجب أو الحرام سمّى زوال الأول وحدوث الثاني إنحلالا؛ مثلا إذا علم المكلّف إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة ثم علم على التفصيل بأن الواجب هو الظهر دون الجمعة أو علم أولا بخمرية ما في أحد الإناءين ثم علم تفصيلاً بأنّ الخمر في هذا الإناء دون ذاک يقال حينئذ إنّه قد إنحل العلم الإجمالي.

هذا هو الإنحلال الحقيقي وفي حكمه ما سمّوه بالإنحلال الحكمي، مثاله ما إذا قام دليل معتبر على تعيين المعلوم بالإجمال من دون حصول العلم على طبقه كما إذا أخبر العادل بأن الواجب هو الظهر لا الجمعة أو قامت البيّنة على أنّ الخمر هي ما في هذا الإناء دون ذاک، فيجوز حينئذ الأخذ بمفاد ذاک الدليل وترتيب حكم الواقع عليه وترک الإحتياط في الطرف الآخر، وسمّى ذلک بالإنحلال الحكمي؛ لأنّه في حكم الإنحلال الحقيقي في جواز أخذ مؤديه وطرح الآخر بلا ترتّب عقاب على المكلّف ولو كان الدليل مخطئآ عن الواقع.

ومنه وهو محطّ بحثنا في هذه الرسالة ـ: أنّ من المفروغيّة بين العلماء من القدامي والجدد خلا الإمام الخميني (قدس سرّه) ومن ساق مساقه، مورد إنحلال الحكم التكليفي المنشأ بإنشاء واحد إلى أحكام كثيرة مستقلة؛ فإذا قال المولى: أكرم كلّ عالم، فالإنشاء في هذا الكلام وإن كان واحدآ إلّا أنّه ينحلّ لدى العقل والعرف إلى إنشاءات كثيرة وأحكام مستقلة شتّى بعدد أفراد الموضوع ومصاديقه، فكأنّ المولى أنشأ لإكرام كل فرد وجوبآ مستقلا بإنشاء مستقل، فلكلّ منها إمتثال مستقل وعصيان كذلک، وكذا إذا قال: حرّمت عليک الكذب.

ومنها : مورد إنحلال الحكم التكليفي المنشأ بإنشاء واحد إلى أبعاض كثيرة،

وذلک في الحكم الوحداني المتعلّق بموضوع مركّب ذي أجزاء، فإذا ورد: تجب صلاة الصبح أو يحرم تصوير ذوات الأرواح، كان الوجوب المترتّب على الصلاة أمرآ وحدانيآ بسيطآ منبسطآ على أجزاء العمل المركّب، فللوجوب وحدة حقيقية وتعدّد إعتباريّ بإعتبار أبعاضه، ولمتعلّقه تركّب حقيقي ووحدة إعتباريّة بإعتبار إجتماعه تحت طلب المولى، فيقال حينئذ إنّ الحكم الواحد منحلّ إلى أجزاء المركّب وتعلّق بكلّ جزء منه حصّة من الأمر ويطلق على تلک الحصّة، الأمر النفسي الضمني، وبهذا الإعتبار تجري البراءة في الأقل والأكثر.

ومنه وهو أيضآ محلّ بحثنا في هذا الكتاب ـ: مورد إنحلال الحكم الوضعي المنشأ بإنشاء واحد إلى أحكام وضعية مستقلة، أو أبعاض عديدة غير مستقلة، فلو قال البائع بعد تعيين قيمة كلّ واحد من الأجناس المختلفة مريدآ لإيقاع بيع مستقلّ على كلّ واحد منها، بعت هذه الأشياء بما عيّنته لها من القيمة، إنحلّ التمليک والبيع الواحد إلى تمليكات كثيرة وبيوع مستقلة لكلّ واحد منها حكمه من اللزوم والجواز وطروّ الخيار وعروض الفسخ والإقالة، ولو قال بعت هذه الدار مثلا إنحلّ البيع الواحد إلى أبعاض كثيرة وتمليكات ضمنية فكلّ جزء من الدار مبيع ضمنآ وجزء من بيع المجموع، وبهذا الإعتبار قد ينحلّ ذلک بظهور بعض المبيع مستحقّآ للغير ويحصل تبعّض الصفقة، فهذا من إنحلال الحكم الوضعي، أعني الملكية إلى أبعاض كثيرة.[1]


المبحث الثالث: المبادئ الأصولية للحكم الشرعي

ثمّ إنّه لابدّ لنا أن نجيل النظر في خريطة تقنين الحكم والمراحل التي يمرّ بها الحكم في تدوينه وتكوينه، وذلک لتجلية وتنقيح ماقصده الإمام الخميني (قدس سرّه) بشأن


1 ـ إصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: 82 84.

الخطابات القانونية التي تبنّاها على مسلكه المختار في مراتب الحكم. وإنّ هذا البحث وهو مبحث مراتب الحكم وحقيقتها، إضافة على إشتمالها على جذور نظرية الخطابات القانونية، يعتبر بنفسه كالعمود الفقري لعلم الأصول. وبذلک إنعقد الكلام هنا في تصوير مراتب الأحكام الشرعية في الأصول حيث وقع إختلاف بين الأعلام بشأنها من حيث عدد المراحل ومن حيث تصويرها.

وتوضيح ذلک (بعد مفروغية أنّ الأحكام الشرعية لا تكون جزافآ، بل تتّبع المصالح والمفاسد النفس الأمرية في المتعلّقات) يتوقّف على بيان المراتب التي يمرّ بها الحكم في كيفية جعله حتّى يبلغ إلى المكلّف، وقد حدّدها المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأربعة هي :

1. مرتبة الإقتضاء: وربمّا يعبّر عنها بمرتبة الملاک أو بمرتبة شأنيّة الحكم، وهي ثبوت المقتضي ووجود المصلحة في الحكم بما هو هو، أو هي عبارة عن المصالح والمفاسد الكائنة في متعلّقات الأحكام، بمعنى وجود ملاک في الفعل فيوجب لحدوث الإرادة أو الكراهة ويقتضي جعل حكم على طبقها. ولا محالة يؤخذ الشيء فى تلک‌المرحلة بجميع قيوده وخصوصياته التي لها دخل فى تلک المصلحة أو المفسدة.

2. مرتبة الإنشاء: وهي عبارة عن مرتبة الجعل وصدور الحكم عن المولى لا بداعي البعث والزجر، بمعنى أنّه ليست للمولى إرادة جدّية بالنسبة إلى الفعل، بل هي عبارة عن مجرّد إظهاره لمحبوبية شيء أو مبغوضيته بمبرز، أو مجرّد خطاب من دون تحريم وإيجاب، وهي ما يُسمّى اليوم بمسودّة قانون أو مشروع قانون، فهي فعل المنشئ ويتوقّف حصوله على مبادئها التي تكمن في الملاک والإرادة التي تتجّلى في الشوق إلى ذلک الفعل المأمور به أو في الكراهة عمّا ينهى عنه.

3. مرتبة الفعلية: وهذه المرحلة يبلغ الحكم فيها إلى درجة البعث والزجر

جدّيآ وتتوقّف على تحقّق شرائط الحكم الدخيلة في الملاک، وبهذه المرتبة تمّ الأمر من قبل المولى وحصلت الإرادة الجديّة في نفسه للتحريک وقصد الإلزام وتسجيل صيغة قانونيّة على المأمور، فيصير الحكم حكمآ حقيقيّآ ونفرض فيها أنّ المكلّف صار مصداقآ من مصاديق هذا الموضوع، أو أنّ الموضوع ينطبق على العبد. فمثلا ما لم تحصل الإستطاعة لم تنشغل عهدة المكلّف بشيء، رغم أنّ الجعل والابراز قد تحققّا، فإذا تحققّت الإستطاعة فعلا بشأن المكلّف أصبح ذلک الجعل المبرز بقوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[1] مرتبطآ بالمكلّف ومتوجّهآ إليه قبل علمه بالحكم والموضوع.

4. مرتبة التنجّز: وهي مرحلة فاعلية التكليف ومحرّكيته، وعبارة عن وصول البعث أو الزجر إلى المكلّف بالحجّة المعتبرة من علم أو علمي، ويتوقف أيضآ على أن لا يكون هناک مانع عن إطاعة العبد، من الأعذار العقلية والشرعية، فيصبح المكلّف مسؤولا تجاه الحكم الشرعي ويقتضيه عقلا من إستحقاق الثواب على طاعته تارةً وأن يصحّ العقاب على مخالفته أخرى؛ وذلک لإمكان تماميّة ما سبق من المراتب وأنّ المأمور يلتفت إلى توجّه الحكم إليه وإنطباق الحكم عليه. نعم، مع عدم وصوله إلى المكلّف فلا توجب مخالفته ذمّآ ولا عقابآ؛ فإنّ هذه المرتبة هي التي ترفعها أصالة البراءة لمكان الجهل، وأنّ صحّة العقوبة عقلا يتوقّف على حجّة معتبرة من علم أو علمي بالحكم الواقعي والقدرة العقلية على الإمتثال.

هذا بتقريب منّا، وقريب ممّا عرفت ما في كلمات المتأخرين بشأن المراحل الأربعة التي ذكرها المحقّق الخراساني(رحمه الله) مع إختلاف يسير في التعابير، ونشير إلى بعض عباراته شاهدآ على ذلک :


1 ـ سورة آل عمران: 97.

يقول(رحمه الله) في كفاية الأصول :

ثمّ لا يذهب عليک أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليآ وما لم يصر فعليآ لم يكد يبلغ مرتبة التنجز وإستحقاق العقوبة على المخالفة وإن كان ربّما يوجب موافقته إستحقاق المثوبة وذلک لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلک المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان مما سكت الله عنه، فلاحظ وتدبّر.[1]

ويقول(رحمه الله) في تعلقيته على الفرائد (عند البحث عن إمكان التعبّد بالظن) :

فاعلم أنّ الحكم بعد ما لم يكن شيئآ مذكورآ يكون له مراتب من الوجود : أوّلها، أن يكون له شأنه من دون أن يكون بالفعل بموجود أصلا. ثانيها، أن يكون له وجود إنشاء، من دون أن يكون له بعثآ وزجرآ وترخيصآ فعلا. ثالثها، أن يكون له ذلک مع كونه كذلک فعلا، من دون أن يكون منجّزآ بحيث يعاقب عليه. رابعها، أن يكون له ذلک كالسابقة مع تنجّزه فعلا.[2]

فتحصّل من ذلک أنّ مبنى المحقّق الخراساني(رحمه الله) في جعل الأحكام هو أنّ للحكم أربعة مراتب: الإقتضاء والإنشاء والفعلية والتنجّز. فالأولى، عبارة عن كون الفعل الذى يؤمر به أو ينهى عنه ذا مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلک. والثانية، عبارة عن الإنشاء الصادر لإظهار الحبّ أو البغض المولويين لا بداعي البعث والزجر. والثالثة، عبارة عن مرتبة البعث والزجر. والرابعة، عبارة عن قيام الحجّة عند المكلّف على حكم المولى ووصوله إليه بالعلم أو بما يقوم مقامه فيستحقّ العقوبة على مخالفته عقلا.

هذا، وقد إعترض عليه السيّد المحقّق الداماد(رحمه الله) بأنّ الأحكام المجعولة ليس لها إلّا مرتبة واحدة وهى مرتبة الإنشاء والجعل؛ لأنّ مرتبة الإقتضاء ليس أمرها


1 ـ كفاية الأصول: 258.

2 ـ درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: 70.

بيد الجعل بل هي أمر تكويني، وكذلک مرتبة التنجّز فإنّه ليس إلّا عدم معذورية المكلّف في مخالفة التكليف، بعد قيام الحجّة عليه وقدرة العبد على إتيانه، فلا تناله يد التشريع والجعل. وأمّا مرتبة الفعليّة فهى أيضآ ليست من مراتب الحكم على التحقيق، لأنّ الفعليّة ليست أمرآ وراء وجود الإرادة الجديّة النفس الأمريّة على طبق الإرادة الإستعماليّة والحكم الإنشائى، ولا نتعقّل لها وراء ذلک شيئآ، وواضح أنّ وجود الإرادة على وفق الحكم الإنشائى وعدم وجودها ليس بيد الشرع، بل هو أيضآ كسابقه من الأمور التكوينية، وليس أمرآ وضعُه ورفعه بيد الجاعل والمشرّع. فتلخّص أنّ مرتبة الحكم المجعول واحدة وهى مرتبة الجعل والإنشاء وهو الّذي يعبّر عنه بالحكم الإنشائى، وبقية المراتب التي توهّم كونها من مراتب الحكم كلّها أمور تكوينية خارجة عن عالم الجعل والتشريع.[1]

ولا يخفى أنّ الفرق بين مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية يظهر من الأوامر الإمتحانية والإعتذارية والأحكام التي نزلت على النبي (صلي الله عليه وآله) ولم يؤمر بإبلاغها، وكما يظهر ذلک من الأحكام المودوعة عند الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ولمّا يصل حين إنفاذها، فإنّها إنشائيّة غير فعليّة؛ إلّا أن يراد منه تصويرآ آخر من مرتبتي الإنشاء والفعلية غير ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله) من أنّ الملاک الرئيسي في الأحكام هو البعث أو الزجر فلايتصوّر الإنشاء فيها منفصلا عن هذه المرحلة. وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخوئي(رحمه الله) في المصباح وإليک نصّه :

ليس للحكم إلّا مرتبتان: الأولى، مرتبة الجعل والإنشاء بداعي البعث والتحريک بنحو القضيّة الحقيقية كقوله سبحانه وتعالى: (وَ للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).[2] الثانية، مرتبة الفعلية والخروج عن التعليق


1 المحاضرات :1 309 310.

2 سورة آل عمران: 97

والتقدير بتحقّق موضوعه خارجآ، كما إذا صار المكلّف مستطيعآ.[1] وأمّا الحكم الإقتضائي والإنشائي بمعنى الإنشاء قانونآ أو إمتحانآ وأمثال ذلک فليس من مراتب الحكم، وليس الإنشائي بهذا المعنى قابلا لأن يصير فعليآ أصلا، بل ليس حكمآ حقيقةً.[2]

ولا يخفى أنّ ما ذكره(رحمه الله) حسن، عندما نجيل النظر إبتدأً في دائرة الأوامر والنواهي العرفيّة الجارية بين الموالي والعبيد؛ فإنّهم لا يتصوّرن الإنشاء ولايكون ذلک عندهم بمعزل عن مرحلة البعث والزجر. ولكن هذا جانب نظري فقط، وفي الواقع العملي إذا دققّنا النظر نجد أنّ ذلک أمر مرتكز في الأذهان، وبالإمكان أن نلفت إليه ونجرّبه في أنفسنا عندما أردنا أن نأمر بشيء، وحينئذ وجدنا أنّا نحتاج إلى مرحلة الإنشاء لكي نصوّر ما نشاء ونعتبره ثمّ نصيغها في إطار الحتم والإلزام فنعلنها للمأمور بمختلف وسائل التبيان من كلام أو إشارة، غير أنّ هذه النكتة المرتكزة تمرّ بسرعة فلا نعثر عليها. وهذه الكيفيّة المتداولة بين العقلاء والمركوزة في أذهانهم تتبلور بشكل واضح في منهجية وضع القوانين، فنرى الإختلاف في المراتب هناک بين الإنشاء والفعلية؛ وذلک يُتصّور حينما يصيغ الجهاز الحاكم إرادته بجعل القانون قبل إعلانه، ثمّ يعتبر الفعل على عهدة المواطنين؛ فإنّه لابدّ له حينئذ من تفكيک إنشاء حكمه عن إنفاذه؛ فإنّ مرتبة الإنشاء عبارة عن تصويب القانون لنظم أمور الرعيّة والبلدان قبل الإبلاغ إليهم؛ ولكن فعلية الحكم على المواطنين بمعنى تنفيذه وجعل البعث أو الزجر في مظانّ الوجود عندهم وأنّ المطلوب منهم فعله أو تركه، و ذلک بعد تماميّة البيان عليهم مع ذكر مخصّصات القانون ومقيّداته في مقام الإجراء. وأمّا تعريف الفعلية بتحقّق


1 مصباح الأصول :1 49 50.

2 دراسات في علم الأصول :3 64.

موضوع الحكم خارجآ فهو خارج عن شاكلة تدوين الأحكام وتشريعه، إلّا أن يراد من ذلک تأثير البعث عند وجود القيد خارجآ.

هذا، والإمام الخميني (قدس سرّه) أيضآ قد ينتقد رأي الآخوند(رحمه الله) ويرفض كون المرتبة الأولى والرابعة من مراتب الحكم، لأنّهما من طرفي الحكم؛ فيرى أنّه ليس للأحكام إلّا مرتبتين: الإنشائية والفعلية؛ حيث قد يذكر أنّ مرحلة الإقتضاء قبل تحقّق الحكم؛ فإنّها تتمحّض في المصالح والمفاسد وهي أمور خارجيّة لا أحكام إعتباريّة فهي من مقدّماته وليست هي الحكم نفسه. وأمّا مرحلة التنجّز فهي أيضآ ليست من مراحل الحكم المجعول، بل هي مرحلة متأخّرة عن الحكم ومرتبطة بالعقل وتنجّيزه الحكم على المكلّف فيكون أثره إستحقاق الثواب على طاعته أو العقاب علي عصيانه. وعلى هذا الأساس، يصير الحكم ذات مرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة الإنشاء، والثانية هي مرحلة الفعلية، بمعنى ما أوقعه الشارع في مورد جريان العمل ولزوم تطبيق العمل عليه متوجّهآ إلى جميع المكلّفين فلا تختصّ بالعالم والقادر، بل تشمل الجاهل والعاجز أيضآ، غاية الأمر أنّ العاجز والجاهل القاصر معذوران عقلا في المخالفة، وليس هذا تقييدآ للدليل الشرعيّ لكي يتحقّق هنا مرتبة أخرى للحكم هي مرتبة التنجّز؛ كما هو الشأن في الأحكام المجعولة في الملل الراقية، فإنّه قد ينشأ القانون ويصوّب ولكن ليس بحيث يكون عليه العمل في الخارج، وقد يصير بحيث يكون بيد الإجراء والعمل.

يقول (قدس سرّه) في أنوار الهداية: «يظهر منه ]المحقّق الخراساني[ (رحمه الله) على ما في تضاعيف كتبه: أنّ للحكم أربع مراتب: الإقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجز. ولا يخفى أنّ المرتبة الأولى والأخيرة لم تكونا من مراتب الحكم؛ فإنّ الإقتضاء من مقدّمات الحكم لا مراتبه، والتنجّز من لوازمه لا مراتبه».[1]


1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :1 38 39.

ولقد أفاد وأجاد سيّدنا الإمام المجاهد (قدس سرّه) بشأن المسألة في المباحث الأصولية التي ألقاها في مجلس بحثه حيث يقول: فإنّ مرتبة الإقتضاء ليست من مراتب الحكم؛ لأنّه ليس في هذه المرتبة حكم أصلا، ولعلّ منشأ عدّ هذه من مراتب الحكم هو ما ذكره الفلاسفة من وجود المعلول في مرتبة العلّة، وأنّ العلّة حدّ تامّ للمعلول، والمعلول حدّ ناقص للعلّة، فالحكم المعلول للمصالح والمفاسد متحقّق في مرتبتهما، ولكنّه لا يتمّ فيما نحن فيه، فإنّ المعلول إنّما يوجد في مرتبة العلّة بنحو ما ذُكر في العلّة الفاعليّة، لا العلّة الغائيّة، والمصالح والمفاسد ليست علّة فاعليّة يصدر عنها الحكم، بل الحكم إنّما يصدر عن الحاكم، والمصالح والمفاسد غاية لذلک. وأمّا مرتبة التنجّز فهي أيضآ ليست من مراتب الحكم، فإنّ علم المكلّف وجهله لا يوجبان تغيّرآ في الحكم ومزيد حالةٍ فيه؛ لتكون مرتبةً أخرى غير المرتبة التي قبلها، بل العلم والجهل ممّا لهما دَخْل في معذوريّة المكلّف وعدمها عند المخالفة، فليس للحكم إلّا مرتبتان: مرتبة الإنشاء: وهي كما في الأحكام الصادرة من الشارع المقدّس، لكن لم يأمر بإبلاغها لمصالح فيه، أو لمكان مفسدةٍ في إبلاغها. ومرتبة الفعليّة وهي كوجوب الصلاة ونحوها.[1]

ويتفضّل(قدس سرّه) أيضآ في المناهج: أنّ الأحكام الشرعية القانونية المترتّبة على موضوعاتها على قسمين :

أحدهما: الأحكام الإنشائيّة، وهي التي أنشئت على الموضوعات ولم تبق على ما هي عليه في مقام الإجراء، كالأحكام الكلّيّة قبل ورود المقيّدات والمخصّصات ومع قطع النّظر عنهما، أو لم يأن وقت إجرائها، كالأحكام التي بقيت مخزونة لدى وليّ العصر عجّل الله فرجه ويكون وقت إجرائها زمان ظهوره، لمصالح تقتضيها العناية الإلهيّة.


1 ـ تنقيح الأصول :3 19.

ثانيهما، الأحكام الفعليّة، وهي التي آن وقت إجرائها، وبلغت موقع عملها بعد تماميّة قيودها ومخصّصاتها، فـ(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] بهذا العموم حكم إنشائيّ، والّذي بقي بعد ورود المخصّصات عليه بلسان الكتاب والسنّة هو الحكم الفعليّ، ونجاسة بعض الطوائف المنتحلة للإسلام وكفرهم حكمان إنشائيّان في زماننا، وإذا بلغا وقت إجرائهما يصيران فعليّين.

وأمّا الاقتضاء والتنجّز فليسا من مراتب الحكم: أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّه حكم عقليّ غير مربوط بمراتب الأحكام المجعولة، ومعنى تنجّزه قطع عذر المكلّف في المخالفة، وعدمه كونه معذوراً فيها، من غير تغيير وتبديل في الحكم ولا في الإرادة.[2]

وعلى ضوء ذلک، يبدو أنّ معنى الإنشاء والفعلية عند السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) يختلف عن معنى الإنشاء والفعلية عند المشهور؛ فإنّه(قدس سرّه) يعتقد أنّ هذا المعنى من الإنشائية والفعلية باطل؛ لإنّه يستلزم تغيير الإرادة الإلهية وهو محال.

يقول (قدس سرّه) في التهذيب: إنّ الأحكام المضبوطة في الكتاب والسنّة لا يعقل فيها هاتان المرتبتان بالمعنى الدائر بينهم، فقوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[3] لا يختلف بالنسبة إلى الجاهل والعالم، ولا معنى للفعلية والشأنية في هذا الحكم المجعول المنضبط، بل جعل الحكم على العنوان وإجراؤه بين المكلّفين عند ذكر مخصّصاته ومقيّداته يوجب فعلية الحكم على عامّة الناس، سواء العالم والجاهل والقادر والعاجز.[4]

هذا، ويستدلّ لذلک في المعتمد حيث يقول (قدس سرّه): والدليل على ما ذكرنا من أنّه


1 ـ سورة المائدة: 1.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 24 25.

3 ـ سورة آل عمران: 97.

4 ـ تهذيب الأصول: :1 436.

ليس الفعلية والإنشائية ]بالمعني المعروف[ مرتبتين للحكم بأن يكون العالم مثلا حكمه فعليّآ والجاهل إنشائيآ: أنّ المراد بالحكم الذي يجعلون له المرتبتين بل المراتب الأربع كما في الكفاية إن كان هو العبارة المكتوبة في القرآن أو في كتب الحديث فمن الواضح البديهي أنّه لا يعرض له التغيير بتغيّر حالات المكلّف من حيث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها، وإن كان المراد به هو حقيقة الحكم الراجعة إلى إرادة المبدأ الأعلى جلّ شأنه، فمن الواضح أيضآ أنّه لا يعرض لها التغيير باختلاف الحالات المذكورة؛ لامتناع عروض التغيّر له تعالى، كما لا يخفى.[1]

إذن، المراد من الإنشائية أمران :

1. هي تلک الأحكام التي جعلت بنعت العموم والإطلاق ولم تذكر شروطها وقيودها حتّى حيننا هذا.

2. هي تلک الأحكام التي ذكرت شروطها وقيودها إلّا أنّه لم يأت وقت إجرائها.

وأمّا المراد من الأحكام الفعلية :

فهي تلک الأحكام التي بيّنت بقيوده وبلغت موضع عملها وآن وقت إجرائها وإنفاذها وهي الأحكام المتداولة بين الناس التي أظهرها النبي (صلي الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) من بعده.

يقول السيّد الإمام (قدس سرّه) في تهذيب الأصول: أنّ الفعلية والشأنية بالمعنى المعروف، من إنشائية الحكم بالنسبة إلى شخص كالجاهل والغافل والساهي والعاجز، وفعليته بالنسبة إلى مقابلاتها ممّا لا أساس له؛ لأنّ الإشتراط الشرعي في بعضها غير معقول، مع عدم الدليل عليه في جميعها. والتصرّف العقلي أيضآ


1 ـ معتمد الأصول :1 128.

غير معقول؛ لعدم إمكان تصرّف العقل في إرادة الشارع ولا في حكمه.[1]

ثمّ إنّه (قدس سرّه) تعجّب عن الأصحاب 4 حيث إنّهم قائلون بكون حكم فعليآ في ساعة وإنشائيآ في أخرى، وهو كما لو تعلّق الخطاب بغير البالغ، فـ(أَقِيمُوا الصَّلاةَ)[2] مثلا، إنشائية بالنسبة إليه وحينما يبلغ تكون نفس (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)[3] فعليةً في حقه؛ فيقول (قدس سرّه): وأعجب منه كون حكم فعليآ في ساعة وإنشائيآ في أخرى، وفعليآ في حقّ شخص وإنشائيآ في حقّ آخر، إلى غير ذلک ممّا يدمغه البرهان وحكم العقل بإمتناع تغيّر الإرادة في حقّ الشارع، بل ولا يناسبه القوانين العقلائية، عالميةً كانت أو غيرها.[4]

ثمّ أضاف السيّد الإمام (قدس سرّه) مختاره في تعريف الإنشاء والفعلية من مراحل الحكم، قائلا: الذي نسمّيه حكمآ إنشائيآ أو شأنيآ هو ما حاز مرتبة الإنشاء والجعل؛ سواء لم يعلن بينهم أصلا حتّى يأخذه الناس ويتمّ عليهم الحجّة لمصالح في إخفائها، أو أعلن بينهم، ولكن بصورة العموم والإطلاق ليلحقه التقييد والتخصيص بعد بدليل آخر، كالأحكام الكلّية التي تنشأ على الموضوعات، ولا تبقى على ما هي عليها في مقام الإجراء. فالمطلقات والعمومات قبل ورود المقيّدات والمخصّصات أحكام إنشائية بالنسبة إلى موارد التقييد والتخصيص، وإن كانت فعليات في غير هذه الموارد.

والذي نسمّيه حكمآ فعليآ هو ما حاز مرتبة الإعلان، وتمّ بيانه من قبل المولى بإيراد مخصّصاته ومقيّداته، وآن وقت إجرائه وحان موقع عمله، فحينئذٍ قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[5] بهذا العموم حكم إنشائي، وما بقي بعد التقييد أو


1 ـ نفس المصدر :1 436.

2 ـ سورة البقرة: 43.

3 ـ نفس السورة والآية.

4 ـ تهذيب الأصول :1 434.

5 ـ سورة المائدة: 1.

التخصيص حكم فعلي؛ هذا هو المختار في معنى إنشائية الحكم وفعليته.[1]

ونفس هاتين المرحلتين تمرّ بهما القوانين الوضعية في جميع الدول، حيث يصرّح بذلک (قدس سرّه) في أنوار الهداية قائلا: وهاتان المرتبتان محقّقتان في جميع القوانين الموضوعة في السياسات المدنية، فإنّ المقنّنين ينشئون الأحكام بنعت الكليّة والقانونيّة، ثمّ تراهم باحثين في مستثنياتها ويراعون مقتضيات إجرائها، فإذا تمّ نصاب المقدمات وإرتفعت موانع الإجراء يصير الحكم فعليآ واقعآ بمقام الإجراء.[2]

وقد أوضح (قدس سرّه) ذلک في جواهر الأصول، فقال: كما هو الشأن في وضع القوانين المدنية العالمية، من غير فرق بين كون المقنّن شخصآ واحدآ أو أشخاصآ متعدّدين؛ لأنّه جرت ديدن الواضعين في جميع الأعصار والحكومات على أنّهم يلاحظون الجهات المقتضية لوضع القوانين على الكلّية، فينشئونها أوّلاً بصور كلّية، ثمّ يعقّبونها بذكر المخصِّصات والمقيِّدات، ولم يشذّ الشارع الأقدس عن طريقتهم في ذلک، فبعد إنشاء الأحكام بصورة العموم أو الإطلاق وقبل ورود المخصّصات والمقيّدات، تكون الأحكام إنشائيآ. فعند ذلک فإن كانت جميع أفراده ومصاديقه أو نفس الطبيعة بدون القيد واجدة للمصلحة أو المفسدة فتكون الأحكام المجعولة على موضوعاتها أحكامآ فعلية.[3]

وأمّا إذا كان بعض مصاديقه أو الطبيعة المقيّدة واجدةً للمصلحة فيكون تعلّق الحكم بالمقدار الذي فيه المصلحة أو الطبيعة المقيّدة فعليآ. وأمّا المقدار الذي يكون فاقدآ لها ونفس الطبيعة فباقية على مرتبتها الإنشائية.[4]


1 ـ تهذيب الأصول :1 433 435.

2 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :1 39.

3 ـ جواهر الأصول :3 313.

4 ـ نفس المصدر.

وأخيرآ يقول (قدس سرّه): وعليه إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف- وإن كان قاصرآ عن إزاحة علّته- أو عروض مانع، كالعجز والإضطرار عن القيام بمقتضى التكليف لا يوجب ذلک سقوط الحكم عن فعليته ولا يمسّ بكرامتها ولا يسترجعه إلى ورائه، فيعود إنشائيآ؛ لأنّ ذلک أشبه شيء بالقول بإنقباض إرادة المولى عند طروّ العذر وإنبساطها عند إرتفاعه. والسرّ في ذلک: أنّ غاية ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله لا يكون مستحقّآ للعقاب، بل يخرج من زمرة الطاغين وعداد المخالفين؛ لعدم المخالفة عن عمدٍ، وأمّا كونه خارجآ من موضوع التكليف؛ بحيث تختصّ فعلية الحكم بغير الجهّال وذوي الأعذار فلا وجه له.[1]

ثمّ إنّه إعتقد المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّ هناک حكمين فعليين :

الأول، ما كان فعليآ من جميع الجهات بأن يكون واجدآ لما هو العلّة التامة للبعث أو الترک الفعليّين.

والثاني، ما كان فعليّآ من بعض الجهات، ولا يكون فعليّآ مطلقآ إلّا إذا تعلّق به العلم التفصيلي، بحيث لو علم تفصيلا لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته.

فقال(رحمه الله): «إنّ التكليف المعلوم بينهما (المتباينين)... إن كان فعليّآ من جميع الجهات بأن يكون واجدآ لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته،... وإن لم يكن فعليّآ كذلک ولو كان بحيث لو علم تفصيلا، لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته...».[2]

وتوضيح ذلک كما يستفاد من نهاية الدراية هو: أنّ الحكم الفعلي على قسمين :


1 ـ المصدر نفسه :1 436.

2 ـ كفاية الأصول: 358.

الأوّل: أن يكون تامّ الفعليّة من جميع الجهات، بأن يكون واجدآ لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ، وهو فيما إذا كان إستيفاء الغرض الداعي إلى الحكم متعلّقآ لإرادة المولى على كلّ تقدير، بحيث لا يرضى بفواته أصلا، سواء علم به المكلّف تفصيلا أو إجمالا، فيستحقّ العقوبة على مخالفته، ويقتضي لزوم موافقته على كلّ تقدير.

الثاني: أن لا يكون تامّ الفعليّة من جميع الجهات، بأن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم هو إستيفاءه على كلّ حال، بحيث إذا وصل إلى المكلّف من باب الإتفاق فهو فعلي من حيث نفسه لا من حيث إيصاله إلى المكلف فيعتبر في تنجيزه العلم التفصيليّ بالحكم.[1]

هذا، وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ حفظه الله: أنّ العلم إما أن يكون مؤثرآ في فعلية الحكم أو لا يكون كذلک؛ فإن كان مؤثرآ، فإذالم‌يكن المكلّف عالمآ، فلايكون الحكم فعليآ حتّى عند المولى؛ وإن لم يكن مؤثرآ، ففي صورة عدم علم المكلّف بالحكم، يلزم أن يكون الحكم فعليآ على العبد أيضآ؛ لأنّ تفاوت الأغراض عند المولى لا يوجب القول بتأثير العلم في فعلية الحكم عند المولى أو عدمه عند العبد؛ فلا يمكن أن يقال بالإشتراط فيما إذا كان الغرض مهمّآ جدآ وبعدم الإشتراط في الغرض غير المهم. وذلک نظير الكلام في إشتراط القدرة في التنجّز، فلا نقول إنّها شرط في فعلية الحكم عند المكلّف وليس شرطآ عند المولى. هذا الإشكال ناظر إلى مقام الثبوت؛ وأما في مقام الإثبات فيبقي سؤال عن كيفية معرفة كون الحكم تامّ الفعلية أو لا، مع أنّه فرض لايمكن إحراز حاله بسهولة.

هذا تمام الكلام في ما يرتبط بالفصل التمهيدي، وبعد التعرّف على ما يساعدنا


1 ـ أنظر: نهاية الدراية :2 575 576.

علي الخوض في الخطابات القانونية من أمور تتعلّق بالمفاهيم والمبادئ الأساسية للحكم، نشرع في قراءة المشهور في الحكم من كون جعله على نهج القضايا الحقيقة ومقتضاه إنحلال الحكم وتعدّد وجوده حسب تعدّد آحاد المكلّفين ووجودات موضوعه، ثمّ ما أورد الإمام الخميني (قدس سرّه) على نظرية الإنحلال من تبعاتها الفاسدة ومحاذيرها المبنائية.

نعم، بقي هنا بعض المباحث التمهيدية من تبيين القضايا الحقيقية والخارجية، ومن أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد، وسيأتي توضيحها في مطاوي البحث لصلتها الوثيقة بالموضوع.

البــاب الأوّل

ويتضمّن مبحثين :

المبحث الأول: نظرية الإنحلال في القضايا الشرعية

المبحث الثاني: مناقشات الإمام الخميني (قدس سرّه) لرؤية الإنحلال

المبحث الأوّل: نظرية الإنحلال في القضايا الشرعية

لقد كان لعلماء الأصول إهتمام كبير وجهود مضنية تُجاه تحليل واقع الحكم الشرعي من خلال إرجاعه إلى القضية الحقيقية فنحن نتابع في تنسيق بحوثنا المقبلة مسيرتهم في بحوثهم الأصولية وننتهج المنهج التحليلي فالنقدي.

بناءً عليه، هذا المبحث يقوم بدارسة القضايا بإعتبار وجود الموضوع بمنظار منطقي وأصولي تعريفآ وتقسيمآ، ثمّ تتطبّق فيه القضايا الشرعية على القضايا الحقيقية وما طرء عليها من إنحلالها أيضآ إلى الشرطيّة: مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول، فيستلزمها إنحلال الحكم بتعدّد ما لموضوعه من الأفراد، وترتّب الحكم في كلّ مورد على حياله، فيكون لكلّ فرد من الأفراد حكم يخصّه. وفي الأخير، نستعرض رؤية الإمام الخميني (قدس سرّه) بشأن هذه القضايا والفرق بينها.


المطلب الأول: تقسيم القضايا وتعريفها

إنّ الأحكام الشرعية، تكليفيةً كانت أم وضعيةً، تنصبّ على الموضوعات. ولكن وجود الموضوع في القضايا تارةً، يكون مأخوذآ على نهج القضية الخارجية،

وأخرى، يجعل على نحو القضية الحقيقية وثالثةً، يعدّ على طبق القضية الطبيعية.

وتوضيح ذلک أنّ جميع القضايا الكلية تقسّم من حيث وجود الموضوع إلى أنواع :

منها القضية الطبيعية وهي ما يكون الموضوع فيها نفس الماهية بما هي هي والطبيعة المأخوذة التي لم تتبيّن فيها كميّة الأفراد ولم تصلح لأن تصدق عليها كلّيّة أو جزئيّة، فيكون الحكم فيها ثابتآ للموضوع في موطن الذهن ولا يتعدّى إلى الخارج أصلا، كقولنا: الإنسان نوع؛ فإنّ الحكم فيها يكون حكمآ عقليّآ خاصآ ومترتّبآ على نفس الطبيعة.[1] فلا يكون لمحمولها وجود خارجي، والمحمول فيها لايكون إلّا المعقولات الثانويّة.

ومنها القضية الحقيقية وهي الّتي يفترض فيها وجود الموضوع فيحكم على ماهيته من حيث أفرادها النفس الأمرية وما يصدق عليه الواقع عنوانآ، فيسري الحكم إليهم ويصير كلّ فرد محكومآ بذلک الحكم؛ فإنّ الموضوع فيها نفس الطبيعة وهي مرآة لجميع أفرادها، بل هي متّحدة معهم فتحكي عن الجميع حسب سريانها فيهم، سواء تواجد فرد منها في الخارج، محققّآ ومقدّرآ، أو لم يكن هناک فرد أصلا، فكلّما يفترض وجوده وإن لم يوجد أصلا، فهو داخل في الموضوع ويشمله الحكم.[2]

ومنها القضية الخارجية، وهي ما يحكم فيها على الأفراد الموجودة في الخارج بالفعل، فيكون وجود الموضوع فيها نفس الأفراد الخارجية في أحد الأزمنة الثلاثة، سواء كانت القضية كليّةً، كقوله: قتل كلّ من في المعسكر، أم جزئيةً، مثل مات زيد.[3] فيكون الحكم في هذه القضية منصبّآ على المصاديق


1 ـ الجوهر النضيد: 54؛ شرح المنظومة (قسم المنطق): 249.

2 ـ شرح المنظومة (قسم المنطق): 248 249؛ المنطق (للمظفر) :2 131.

3 ـ شرح المنظومة (قسم المنطق): 248؛ المنطق (للمظفر) :2 131.

المعيّنة المحدودة، والموضوع فيها هو الفرد بجميع خصوصياته المشخّصة، ويعتبر العنوان المأخوذ في هذه القضيّة مشيرآ إلى الأفراد وملاكآ للحكم مثل الكون في المعسكر، لا موضوعآ له، فلا يكون موضوعيّة الأفراد في هذه القضيّة بإنطباق العناوين عليها بل يكون كلّ فرد محكومآ بالحكم عند وجوده في الخارج، أو قل: إنّ الموضوع فيها هو الفرد المشار إليه بالعنوان فيكون كلّ واحد بخصوصياته موضوعآ مستقلا مباينآ للموضوع الآخر.


المطلب الثاني: القضايا الشرعية عند المحقّق النائيني

ولقد إعتمد المحقّق النائيني(رحمه الله) على القضية الحقيقية في موارد عديدة وبها رفع المشاكل الموجودة في مواضع من مسائل علم الأُصول، وفسّر القضايا الثلاثة بالنهج التالي :

أمّا القضيّة الحقيقيّة فإنّها متكفّلة لفرض وجود الموضوع، وكان الخطاب خطابآ لما فرض وجوده من أفراد الطبيعة وكانت الأفراد متساوية الأقدام في إندراجها تحت الخطاب فيستوي الأفراد الموجودة في زمن الخطاب وغيره.[1]

وبكلمة أخرى: إنّ القضيّة الحقيقيّة هي ما كان الحكم فيها واردآ على العنوان والطبيعة بلحاظ مرآتيّة العنوان لما ينطبق عليه في الخارج، بحيث يرد الحكم على الخارجيّات بتوسّط العنوان الجامع لها؛ فإنّ الحكم فيها وإن رتّب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقرّرها العقلي، بل بلحاظ تقرّرها الخارجي.[2]

ثمّ أردف(رحمه الله) في المقام قائلا: وأمّا القضية الخارجية فالحكم فيها إبتداءً مترتّب على الخارج بلا توسّط عنوان، سواء كانت القضية جزئيةً أو كلّيةً؛ فإنّ الحكم في القضية الخارجية الكلّية أيضآ إنّما يكون مترتّبآ على الأفراد الخارجية إبتداءً من


1 ـ فوائد الأصول :1 550.

2 ـ نفس المصدر :1 511 512.

دون أن يكون هناک بين الأفراد جامع إقتضى ترتّب الحكم عليها بذلک الجامع كما في القضية الحقيقية.[1]

وأضاف(رحمه الله) في الأجود: والمراد من القضية الخارجية هي كلّ قضية يكون موضوعها أمرآ خارجيآ خاصّآ كان أو عامّآ، فالأوّل في التكليفيات كقول المولى لعبده إسقني هذا الماء، وفي غيرها مات زيد، والثاني في التكليفيات كقول المولى: أكرم كلّ من في داري إذا أراد به الأشخاص الموجودة في الدار فعلا، وفي غيرها قتل من في العسكر.[2]

هذا، وقد تبيّن القضية الطبيعية في المقام أيضآ، حيث قال(رحمه الله) في تفسيرها: وأمّا القضيّة الطبيعيّة، فهي إنّ الحكم فيها وارد على نفس الطبيعة، لا بلحاظ وجودها الخارجي، بل بلحاظ تقرّرها العقلي، كما في قولک: الإنسان نوع، أو كلّي، وغير ذلک من القضايا الطبيعيّة.[3]

ثمّ قال(رحمه الله) في الأخير: والقضايا المعتبرة في العلوم إنّما هي القضايا الحقيقيّة، ولا عبرة بالقضايا الخارجيّة، لأنّ القضيّة الخارجيّة وإن كانت بصورة الكليّة، إلّا أنّها عبارة عن قضايا جزئيّة لا يجمعها عنوان كلّي.[4]

ومن هذا الإنطلاق، قد إعتقد المحقّق النائيني(رحمه الله) بأنّ القضية المتضمّنة لحكم شرعي إنّما تكون مجعولةً على نهج القضية الحقيقية، بحيث كلّما يفرض له من أفراد، تدخل فيه ويثبت لها الحكم على تقدير وجودها، ومقتضى ذلک، إنحلال الحكم وتعدّد وجوده بعدد ما له من التطبيقات، فهناک موضوعات كثيرة وأحكام عديدة، كما ينحلّ الحكم والخطاب بلحاظ المكلّفين، الموجودين منهم والأفراد


1 ـ نفس المصدر.

2 ـ أجود التقريرات :1 125.

3 ـ فوائد الأُصول :1 512.

4 ـ المصدر :1 513.

المقدّرة الوجود دون إستثناء، بل الإنحلال الثاني أوضح؛ فإنّ الوجوب الثابت في حقّ كلّ مكلّف غير الوجوب الثابت في حقّ المكلّف الآخر، بحيث لو فرض وجود كلّ فرد منهم في الخارج، يترتّب عليه حكم وتكليف غير ما يترتّب على الآخر، فيتكرّر الحكم حسب تعدّد أفراد المكلّفين ويختصّ كل واحد منهم بحكم يخصّ به، فيستتبع إطاعته أو عصيانه على إستقلاله؛ فإنّه يلحظ الموضوع في القضية الحقيقية مفروض الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، وهذا معناه رجوع القضية الحقيقية إلى شرطية، مفادها: إذا وجد الموضوع وجد الحكم، فيكون موضوع القضية مقدّمها، ومحمولها تاليها، فيتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه في الخارج كما يتعدّد بتعدّد الشرط وجودآ؛ فإنّه إستوت نسبة فعلية الجزاء إلى تمام فعليات الشرط، كما تقول: «النار حارّة» أو تقول: «إن وجدت نار فهي حارّة» أو تقول: «كلّما وجد في الخارج شيء وكان نارآ فهي حارّة.»

وقد قرّب ذلک المحقّق النائينى(رحمه الله) في الأجود، حيث قال :

إنّ موضوع الحكم في القضية الحقيقية لا بدّ وأن يكون عنوانآ عامّآ يشار به إلى الموضوعات الخارجية ومأخوذآ في القضية على نحو الفرض والتقدير حتّى يحكم بمعرفيته على ذات المفروض؛ مثلا إذا قلنا «الخمر مسكر»، فموضوع القضية وإن كان هو عنوان الخمر وما هو خمر بالحمل الأوّلي، إلّا أنّه إنّما أخذ في الموضوع للإشارة إلى كلّ ما هو مصداق له في الخارج، فمعناه أنّه إذا فرض شيء في الخارج وصدق عليه أنّه خمر فهو مسكر؛ وهذا معنى قولهم: إنّ كلّ قضية حملية تنحلّ إلى قضية شرطية: مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له. وكذلک الحال في الإنشاءات، فانّ الحاكم بوجوب الحجّ على المستطيع مثلا، لا بدّ وأن يفرض وجود المستطيع ويحكم على هذا الموضوع المفروض وجوده بأنّه يجب عليه الحجّ، فما لم يوجد في الخارج هذا الموضوع وكلّ قيد أخذ

مفروض الوجود معه يستحيل فعلية الحكم، بل هو باق بمرتبته الإنشائية وإذا وجد في الخارج فيخرج المفروض عن حدّ الفرض والتقدير إلى مرتبة الفعلية والتحقيق.[1]

وتوضيح ذلک كما يستفاد من الفوائد هو: أنّ القضايا الشرعية إنّما تكون على نهج القضايا الحقيقيّة، دون القضايا الخارجيّة، وحينئذ تكون الأحكام الشّرعيّة مشروطةً بموضوعاتها ثبوتآ وإثباتآ.

أمّا ثبوتآ، فلأنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن ترتّب حكم أو وصف على عنوان أخذ منظرة لأفراده المقدّر وجودها، فلا يمكن جعل الحكم إلّا بعد فرض الموضوع، فالحكم ثبوتآ مشروط بوجود الموضوع، نظير إشتراط المعلول بوجود علّته.

وأمّا إثبات والمراد به مرحلة الإبراز وإظهار الجعل فتارة: يكون الإبراز لا بصورة الإشتراط أي لا تكون القضيّة مصدّرة بأداة الشّرط، كما إذا قيل: المستطيع يحجّ، وأخرى: تكون القضيّة مصدّرة بأداة الشّرط، كما إذا قيل: إن إستطعت فحجّ، وعلى أيّ تقدير لايتفاوت الحال، إذ مآل كلّ إلى الآخر، فانّ مآل الشّرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشّرط، والنّتيجة واحدة، وهي: عدم تحقّق الحكم إلّا بعد وجود الموضوع والشّرط. فتحصّل: أنّه لا فرق بين إبراز القضيّة بصورة الشّرطيّة، وبين إبرازها بصورة الحمليّة.[2]

هذا، وأفاد(رحمه الله) في رسالة «الصلاة في المشكوک» على أن مقتضى جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقية أمران هما: إنحلال الحكم الكبروي الواحد إلى أحكام شخصية خاصة لآحاد وجودات موضوعه، وإشتراط كلّ من تلک


1 ـ أجود التقريرات :1 127.

2 ـ فوائد الأصول :1 178 179.

الأحكام بوجود شخص موضوعه. وإليک نصّه :

ومقتضى لحاظ الموضوع عنوانآ حاكيآ عن أفراده كما هو الشأن في القضايا الحقيقية، أمران :

الأوّل، إنحلال ذلک الحكم بالنسبة إلى كلّ واحد من تلک الوجودات إلى حكم خاصّ لموضوع كذلک، حسبما يقتضيه مرآتيّة ذلک العنوان لما ينطبق عليه في موضوعيّته لحكمه.

الثاني، ترتّب كلّ واحد من تلک الخطابات التفصيليّة التي عرفت أنّها البعث أو الزجر المتوجّه إلى المكلّف على شخص موضوعه، وإشتراطه خطابآ وملاكآ بوجوده، بحيث لا يعقل لنفس ذلک الشخص من الخطاب ولا لملاكه تحقّق إلّا بتحقّق شخص موضوعه، وينشأ هذا الإشتراط عن أخذ كلّ واحد ممّا ينطبق على ذلک العنوان مقدّر الوجود، وإيراد حكمه عليه بهذه‌المعونة، فيتضمّن أخذه موضوعآ للحكم بهذا الوجه لهذه الشرطيّة وتكون في قوّة الشرطيّة الصريحة.

وإلى هذا يرجع ما ذكره المنطقيّون من إنحلال القضايا الحقيقيّة إلى شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول.[1]

ثمّ، إنّ هناک عدة فوارق بين القضية الحقيقية والخارجية، يمكن تسجيلها كما يلي :

منها، ما أشار اليه السيّد المحقّق الصدر(رحمه الله) من أنّ الوصف الدخيل في الحكم في باب القضايا الحقيقية إذا إنتفى ينتفي الحكم؛ لأنّه مأخوذ في موضوعه، خلافآ لباب القضايا الخارجية، فإنّ الأوصاف فيها ليست شروطآ، وإنّما هي أمور يتصدّى المولى لإحرازها فتدعوه إلى جعل الحكم؛[2] وذلک لأنّ الموضوع في


1 ـ رسالة الصلاة في المشكوک (للنائيني): 231.

2 ـ دروس في علم الأصول :2 30.

القضية الخارجية بعد تحقّقه في الخارج يجرى عليه الحكم من ناحية المولى بخلاف القضية الحقيقية، فإنّ الموضوع فيها قضية كلية شأنية ولا يحتاج أن يكون موجودآ فعلا في الخارج. وبعبارة أخرى، إنّ القضية الحقيقيّة لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإذا كان موجودآ في الخارج فالحكم فيها لا يكون مقصورآ على الأفراد الخارجيّة، بل يتناولها والأفراد المقدّرة الوجود؛ بخلاف الخارجيّة فإنّها تستدعي وجود الموضوع في الخارج، فالحكم فيها مقصور على الأفراد الخارجيّة. ومن هنا، يتبيّن أنّ القضايا الخارجيّة لا تصلح لأن تكون كبرى في القياس المنطقي؛ فإنّ كبرى القياس المنطقي لا بدّ وأن تكون صالحة لأن يستنتج عنها ثبوت الحكم الثابت في الكبرى للمجهول التصديقي، ومن الواضح أنّ ذلک يتوقّف على أن يكون المناط الموجب لثبوت الحكم في الكبرى متوفرآ في المجهول التصديقي حتّى يمكن إستنتاج ثبوت الحكم للمجهول التصديقي، بينما أنّ إتّحاد الحكم في القضايا الخارجيّة لا يعبّر عن وحدة المناط. هذا، مضافآ إلى أنّ القضيّة الخارجيّة الكليّة لا تكون إلّا بعد إحراز تمام الأفراد المجعول عليها الحكم، فلا يفترض في موردها الجهل بحال فرد من أفراد القضيّة الخارجيّة الكليّة، ولو إتّفق الجهل بحال فرد فإنّه لا يصحّ جعل الحكم على تمام الأفراد، وعليه لا يكون هناک معنى لتشكيل قياس لغرض إستكشاف حال فرد؛ فإنّ تمام الأفراد لابدّ وأن تكون معلومة حين جعل الحكم على موضوع كلّي.[1]

ومنها، ما قاله السيّد الشهيد الصدر(رحمه الله) أيضآ من أنّ الموضوع في القضية الحقيقية وصف كلّيّ دائمآ يفترض وجوده فيرتّب عليه الحكم، وأمّا الموضوع في القضية الخارجية فهو الذوات الخارجية، ومن هنا إستحال التقدير والإفتراض


1 ـ المعجم الأصولى :2 384.

فيها، بل هو أمر محقَّق الوجود،[1] فلا يمكننا أن نعمّم الحكم لحالات أخرى، بخلاف ما إذا كان الموضوع مأخوذآ بنحو القضية الحقيقية فنستطيع أن نعمّم الحكم لمختلف الأزمان والأحوال.

ومنها، ما ذكره بعض المعلّقين على الدروس، من أنّ المولى في القضايا الخارجية هو الذي يتصدّى لتشخيص توفّر الوصف الدخيل في ملاک حكمه أو عدم توفّر ذلک في كلّ فردٍ من الأفراد المحقّقة الخارجيّة، وهذا بخلاف القضيّة الحقيقيّة حيث إنّ المولى لا يتصدّى فيها لتشخيص ذلک في الأفراد، بل يجعل الوصفَ الدخيل في ملاک الحكم جزءً لموضوع الحكم على نحو مقدّر الوجود، ويلقي عهدة التشخيص على عاتق المكلّف.[2] فلو أخطأ المكلّف في التشخيص وتخيّل إنتفاء الوصف عن فرد من الأفراد مثلا ولم يمتثل فيه الحكم، كان هو المسئول عن تبعات ذلک إن كانت له تبعات من تدارکٍ أو قضاءٍ أو نحو ذلک.

ومنها، ما صرّح به المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ المؤثّر في القضية الخارجية من حيث الموضوع والملاک ليس الّا علم الآمر، أصاب أو أخطأ؛ مثلا إذا علم الآمر أنّ في سقي الماء مصلحةً وأنّ العبد قادر عليه، فلا محالة يحكم ويلزم عبده بالسقي، سواء كان في علمه مصيبآ أو مخطئآ، فإنّ المؤثّر في الحكم هو العلم لا الوجود الخارجي، وأمّا المؤثّر في الحكم في القضية الحقيقة من جهة الموضوع فهو وجود الموضوع خارجآ، علم به الآمر أو لم يعلم؛ لأنّ المفروض أنّ الحكم إنّما أنشئ على تقدير وجود الموضوع فيدور مدار وجوده ولا دخل فيه لعلم الآمر أصلا.[3]


1 ـ نفس المصدر.

2 ـ دروس في علم الأصول؛ الحلقة الثالثة (طبع مجمع الفكر): 88.

3 ـ أجود التقريرات :1 128.

وبكلمة أخرى، كما يستفاد من الفوائد: أنّ جميع العناوين في القضيّة الخارجيّة، تكون من علل التشريع، وليس لها موضوع يترتّب عليه الحكم سوى الفرد المعين، وما عداه لا دخل له في الحكم بوجوده العيني، وانّما يكون له دخل بوجوده العلمي. ومن هنا، تسالم الفقهاء على أنّه لو أذن لزيد في أكل الطعام أو دخول الدّار لمكان علمه بأنّ زيدآ صديق له، جاز لزيد أكل الطعام أو دخول الدّار، وإن لم يكن في الواقع صديقآ له، بل كان عدوّآ له، لأنّ الإذن قد تعلّق بشخص زيد ولا أثر لعلمه بصداقته في جواز الدّخول، وإنّما يكون العلم له دخل في نفس إذنه. وهذا بخلاف ما إذا أذن لعنوان صديقه وقال: «من كان صديقي فليدخل»، أو قيّد الحكم بالصّداقة وقال: «يا زيد أدخل الدّار إن كنت صديقي»، فإنّه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدّار إذا لم يكن صديقآ وإن علم الآذن بأنّه صديق، فإنّه ليس المدار على علم الآذن، بل المدار على واقع الصّداقة، من غير فرق بين أخذ الصّداقة عنوانآ أو قيدآ من الجهة الّتي نحن فيها.[1]

ومنها، ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) أيضآ وهو أنّه لو أخذ الشّيء على جهة العنوانيّة أوجب تعدّي الحكم عن مورده إلى كلّ ما يكون العنوان منطبقآ عليه، فلو قال مخاطبآ لزيد: «يا صديقي أدخل الدّار» جاز لعمرو أيضآ دخول الدّار إذا كان صديقآ، إلّا إذا علم مدخليّة خصوصيّة زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع، وهذا بخلاف ما إذا كان قيدآ، فإنّه لا يجوز لغير زيد دخول الدّار وإن كان مشاركآ له في القيد.[2]

هذا، والفرق بينهما وبين القضية الطبيعية واضح جدّآ، فإنّ الثانية تحكم على الماهية بما هي هي من دون نظر إلى الخارج كما مرّ.


1 ـ فوائد الاصول :1 279.

2 ـ نفس المصدر.

المطلب الثالث: رؤية الإمام الخميني (قدس سرّه) في تقسيم القضايا

قد تقدّم آنفآ، أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله) يرى أنّ المناط في القضايا الحقيقية هو تعلّق الحكم بنفس الطبيعة، وفي الخارجية تعلّقه بالأفراد الخارجيّة، وأنّ الخطابات الشرعية صدرت على نهج القضايا الحقيقيّة، فتنحلّ إلى قضيّة شرطيّة، مقدّمها وجود الموضوع، وتاليها عنوان المحمول، ويستلزمها إنحلال الحكم بتعدّد ما لموضوعه من الأفراد، وترتّب الحكم في كلّ مورد على حياله، فيكون لكلّ واحد من أشخاص موضوعاتها حكم يخصّه.

ومن هنا يطرح سؤال، وهو: ما موقف الإمام الخميني (قدس سرّه) تجاه هذه النظرية؟

والذي يبدو لنا أنّ هذه النظرية قد تعرّضت لتعديلات وقد إعتُرض عليها حيث قد جاءالإمام(قدس سرّه) بتقريب آخر في تحليل القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة، فيمكن أن نستخلصه في ما يلي :

إنّه لو إفترضنا أنّ التكاليف الشرعيّة على نهج القضايا الحقيقيّة، فالملاک الذي أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) في الفرق بين القضيّتين غير سديد؛ بل المناط في الفرق بينهم بعد أن كان الحكم في كلّ واحدٍ منهما ثابتآ ومتعلّقآ بالعنوان الكلي إبتداءً هو أنّ العنوان في الخارجيّة مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة محقّقآ، وليس الحكم فيها متعلّقآ بذات الأفراد وأشخاصها الخارجيّة مباشرةً وبلا توسيط عنوان. وأمّا في القضايا الحقيقيّة فالموضوع فيها ذو قابلية يصلح أن ينطبق على الأفراد الموجودين حسب مرور الزمان، كقولک: «كلّ نار حارّة»فإنّ لفظة «النار» تدلّ على نفس الطبيعة القابلة للصدق على الأفراد، لا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتّحدة معها في الخارج؛ فإنّ الحكم فيها بما له بقاء في عالم الإعتبار محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج وما هو الموجود في الحال والمتصرّم

والآتي. وعليه تقييد العنوان في الحقيقية بفرض وجود الموضوع تكلّفٌ لا يحتاج إليه، فإنّه ليس من فرض وجود الموضوع في ذهن المتكلّم شيء، بل ينحصر الصدق في ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيدآ، فيكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان القابل للصدق على الأفراد عبر الزمان؛ فهما يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج ويفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة فعلا.

وتشتركان أيضآ في أنّ المقسم لهما القضية الكلّية البتّية[1] المعتبرة في العلوم، لاالشرطيّة، فليس مفاد القضيّة الحقيقيّة مثل «كلّ نار حارّة»، كلّما لو وجد كان نارآ، بل إنّما ذكروا ذلک في مقام التقريب إلى أذهان المتعلّمين، وإلّا فهو في غاية الوضوح من الفساد،[2] بل يكون الفرق بينهما إنّما هو في أنّ الموضوع في الحقيقيّة جُعِل بنحوٍ لا تنحصر أفراده في الأفراد الموجودة بالفعل فقط، بل الأعمّ من الموجود أو من سيوجد؛ وأنّ المراد: كلّما لو وجد فرد منه ولو بعد أزمنة كثيرة ينطبق عليه ذلک‌الموضوع، ويترتّب عليه الحكم من غير أن تكون القضية متضمّنة للشرط؛ مثل (للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)،[3] فمتى تحقّق عنوان المستطيع إلى يوم القيامة، ووجد فرد منه، وصدق عليه عنوانه، يترتّب عليه وجوب الحجّ، فحيث إنّ الموضوع فيها كذلک قالوا: إنّها في قوّة القضيّة الشرطيّة، لا إنّها قضيّة شرطيّة حقيقةً، وهذا بخلاف القضايا الخارجيّة، فإنّ العنوان المأخوذ في الخارجية، مقصور على وجه لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة في الحال أو في الزمان السابق، أو مجموعهما؛ وواضح أنّ مجرّد


1 ـ ينقسم القضية إلى بتّي وغير بتّي. والأول ما كان لموضوعه أفراد محققّة يصدق عليها بعنوانه، كقولنا: «الإنسانكاتب» و«الكاتب متحرّک الأصابع» والثاني ما كان لموضوعه أفراد مقدرة غير محققّة، كقولنا: «المعدوم المطلقلا يخبر عنه" وقولنا: "اجتماع النقيضين محال» (أنظر: نهاية الحكمة: 186)

2 ـ تنقيح الأصول :4 659.

3 ـ سورة آل عمران: 97.

إنطباقه على خصوص الموجودين في الخارج لا يصيّرها جزئيآ وشخصيآ، نظير الكلّي المنحصر نوعه في فرد. وعليه قسّموا القضايا البتّية إلى الحقيقيّة والخارجيّة، وجعلوا الشرطيّة في مقابل البتّية، فلا تنحلّ القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة واقعآ، وليس ذلک مقصودآ ومرادآ للمحقّقين من المنطقيّين أيضآ.[1]

هذا، حصيلة كلامه، ونشير هنا إلى بعض عباراته شاهدآ على ذلک :

يقول السيّد الإمام الخميني (قدس سرّه) في أنوار الهداية :

لا ينحلّ القضيّة الحقيقيّة إلى شرطيّة؛ ضرورة أنّ القضايا الحقيقيّة لا تنحلّ إلى قضايا شرطيّة حقيقةً، وإن أصرّ عليه المحقّق النائيني(رحمه الله) في كثير من المواضع زعمآ منه أنّ ما اشتهر أنّ في القضايا الحقيقيّة يكون الحكم على الأفراد المحقّقة أو المقدّرة الوجود، في مقابل القضايا الخارجيّة التي يكون الحكم ]فيها[ مقصورآ على الأفراد الخارجيّة أنّ المقصود منه أنّ تلک القضايا تنحلّ إلى الشرطيّات حقيقةً. نعم، يوهم ذلک بعض عبائر المنطقيين؛ لكنّ الأمر ليس كذلک قطعآ؛ فإنّ القضايا الحقيقيّة قضايا بتّية كالقضايا الخارجيّة، ولا إفتراق بينهما من هذه الجهة، وإنّما أُريد من كون الحكم فيها على الأفراد المحقَّقة أو المقدَّرة دفعُ توهُّم قصر الحكم على الأفراد الخارجيّة، وتفرقة بين القضيّتين، وإلّا فالقضايا الحقيقيّة يكون الحكم فيها على عنوان الموضوع، بحيث يكون قابلا للإنطباق على الأفراد، أعمّ من الموجود أو سيوجد؛ ف «كلّ نار حارّة» إخبار جزميّ وقضيّة بتّية يحكم فيها على كلّ فرد من أفراد النار، وليس في الإخبار إشتراط أصلا، لكن لا تكون النار نارآ ولا حارّة إلّابعد الوجود الخارجي، وهذا غير الإشتراط، ولا يكون مربوطآ بمفاد القضيّة. ولو كانت القضايا الحقيقيّة مشروطة حقيقةً، لزم أن يكن إثبات لوازم الماهيات لها بنحو القضية الحقيقيّة مشروطآ بوجودها الخارجيّ، مع أنّها


1 ـ تنقيح الأصول :3 343.

لازمة لها من حيث هي، فقولنا: «كلّ مثلث فإنّ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين» و«كلّ أربعة زوج» قضيّة حقيقيّة جزمآ، ولو كانت مشروطةً لزم أن يكون إثبات التساوي والزوجيّة لهما مشروطآ بالوجود الخارجيّ، مع أنّ اللوازم ثابتة لذواتها من غير إشتراط أصلا. نعم، لا تكون الماهيّة ماهيّةً ولا اللازم لازمآ إلّا بالوجود بنحو القضيّة الحينيّة، لا المشروطة؛ لأنّ الإشتراط معناه دخالة الشرط في ثبوت الحكم، وهو خلاف الواقع في لوازم الماهيّات.[1]

ويذكر (قدس سرّه) أيضآ في التهذيب والمناهج بشأن القضيتين ما هذا لفظه :

إنّ هذا التقسيم للقضايا الكلّية، فإنّه قد يكون الحكم في القضايا الكلّية على الأفراد الموجودة للعنوان، بحيث يختصّ الحكم على ما وجد فقط، من غير أن يشمل الموجودين في الماضي والمستقبل، وذلک بأن يتقيّد مدخول أداة العموم بحيث لا ينطبق إلّا عليها، مثل «كلّ عالم موجود في الحال كذا» أو «كلّ من في هذا العسكر كذا» وأمّا القضية الحقيقية فهي ما يكون الحكم فيها على أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال وغيره، مثل «كلّ نار حارّة» فلفظة «نار» تدلّ على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كلّ فرد، بمعنى دلالتها على الطبيعة القابلة للصدق على الأفراد الموجودة، وما سيوجد في ظرف وجوده... وإضافة الكلّ إلى الطبيعة تدلّ على تعلّق الإستغراق بما يتلوه، ولمّا لم تتقيّد بما يجعلها منحصرة الإنطباق على الأفراد المحقّقة فلا محالة تكون منطبقةً عليها وعلى غيرها، كلٌّ في موطنه... فلا تكون القضية الحقيقية إخبارآ عن الأفراد المعدومة، بل إخبار عن أفراد الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلّا على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها... وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم في الفرق بين الحقيقية والخارجية من القضايا، حيث حكم في عدّة مواضع من كلامه


1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 143 145.

بأنّ الحكم في الخارجية على الأفراد والأشخاص بلا توسّط عنوان، حتّى لو فرض هنا عنوان فهو أمر اتّفاقي؛ مع أنّک قد عرفت: أنّ التقسيم وارد على القضايا المعتبرة في العلوم، وهي تحتاج إلى عنوان ذاتي أو عرضي، وكأنّه (قدس سرّه) خلط بين الجزئية والخارجية.[1]

ثمّ إنّ في القضيّة الحقيقيّة يكون الحكم على الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجماليّ، وهو عنوان «كلّ فرد»، أو «جميع الأفراد»، فعنوان «كلّ» و «جميع» متعلّق للحكم، ولمّا كان هذا العنوان موضوعآ للكثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد أفرادها بنحو الإجمال، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال، لا على نفس الطبيعة، ولا على الأفراد تفصيلا، فقولهم: إنّ الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للأفراد، ليس بشيء.[2]

ويقول (قدس سرّه) في جواهر الأصول :

إنّ تفسير قضيتي الحقيقية والخارجية بما ذكره غير صحيح؛ لأنّ القضية الحقيقية والخارجية كلتيهما من القضايا البتّية الكلّية المسوّرة، ويتعلّق الحكم في الخارجية بالعنوان لا الأفراد، كما يتعلّق الحكم في الحقيقيّة على العنوان. والفرق بينهما هو أنّ العنوان المأخوذ في الحقيقية أخذ بنحو ينطبق على ما يكون موجودآ بالفعل وما سيوجد بعد، بخلاف العنوان المأخوذ في الخارجية فإنّها بلحاظ إعتبار قيود فيها لا ينطبق إلّا على الموجودين في الخارج؛ ولهذا يقال: إنّ القضية الخارجية حكم على الموجود الخارجي، ولعلّ هذه الجملة صارت منشأً للقول بأنّ القضية الخارجية حكم على الأفراد، وهو كما ترى....

فظهر أنّ القول بأنّ الحكم في القضية الحقيقية على الأفراد المحقّقة والمقدّرة ـ


1 ـ تهذيب الأصول :2 221 224.

2 ـ مناهج الأصول إلى علم الأصول :2 285 286.

كما قد يوجد في بعض العبائر، بل في كلمات بعض أرباب الفنّ غير وجيه؛ لأنّ القضية الحقيقية من القضايا البتّية؛[1] فإنّ الحكم فيها لم يتعلّق على الأفراد المقدّرة الوجود، بل تعلّق الحكم فيها على عنوان قابل للصدق على الأفراد الموجودة وما ستوجد، قبال القضية الخارجية التي تعلّق الحكم فيها على عنوان لا يقبل الصدق إلّا على الموجودين، فلا فرق بين القضيتين إلّا من حيث سعة نطاق القضية الحقيقية وضيق الخارجية، وإلّا فكلّ منهما تقع كبرى القياس[2]. وبكلمة أخرى، إنّ الحكم في كلتا القضيّتين لم يتعلّق على الطبيعة، بل تعلّق على الأفراد بالعنوان الإجمالي، ولا فرق بين القضيتين في ذلک أصلا.

وبالجملة: القضية الحقيقية والقضية الخارجية، مشتركتان من حيث تعلّق الحكم على العنوان الإجمالي المضاف إلى الطبيعة، والفرق إنّما هو في أنّ العنوان المأخوذ في الخارجية، مقصور على نحو ينطبق على خصوص الأفراد المحقّقة فعلا، أو في الزمان السابق، أو مجموعهما، والعنوان المأخوذ في الحقيقية على نحو ينطبق عليهما وما سيوجد بعد. والمقسم للخارجية والحقيقية والذهنية إنّما هو الكلّية، فالجزئيات خارجة عن المقسم.

ثمّ إنّ ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ النتيجة في القضية الحقيقية موقوفة ثبوتآ وإثباتآ على الكبرى، ولذا تقع الحقيقية كبرى القياس، دون الخارجية غير مستقيم؛ لأنّه لا معنى لعلّية الكبرى للنتيجة ثبوتآ؛ لوضوح أنّه لا يعقل أن يكون «كلّ خمر حرام» علّةً لحرمة خمرة بخصوصها، وهي معلولها، بل كلّ الخمور مندرجة فيها، فلا يكون الحكم المتعلّق بالكلّ المضاف، علّةً لتعلّق الحكم بالفرد. ولو سلّمت العلّية لذلک، ولكن ليست العلّية الثبوتية منشأً لوقوعها كبرى القياس،


1 ـ جواهر الأصول :2 348.

2 ـ المصدر السابق :3 344.

بل التي تناط به هو علّيتها في مرحلة الإثبات، فإنّه لو علم بوجهٍ أنّ من في الدار يجب إكرامه، وعلم بوجوده فيها، فمجرّد ذلک يكفي لإستنتاج النتيجة بلا إشكال، وقد إعترف(رحمه الله) بتوقّف النتيجة في الخارجية على الكبرى إثباتآ.

وممّا ذكرنا يظهر صلاحية كلّ من الحقيقية والخارجية لوقوعهما كبرى القياس؛ بداهة أنّه كما يصحّ أن يقال: «هذه خَمْرة، وكلّ خمر حرام» فيستنتج حرمة الخمر هذه، فكذلک يصحّ أن يقال: «زيد في العسكر، وكلّ من في العسكر قتل» فيستنتج منه قتل زيد.

وأمّا عدم إعتبار القضية الخارجية في العلوم المتعارفة، فهو لأجل أنّ العلوم المتعارفة بابها باب الحقائق والواقعيات غالبآ، فلا يمكن الإستنتاج منها إلّا بإلقاء القضايا بنحو القضية الحقيقية، ولذا لا يفيد فيها القضايا الطبيعية أيضآ، وكم فرق واضح بين عدم إعتبار الخارجية في علم، وعدم صلاحية وقوعها كبرى القياس! فتدبّر.[1]


المبحث الثاني: مناقشات الإمام الخميني لرؤية الإنحلال

قد تلخّص من جميع ما سردناه عن المحقّق النائيني(رحمه الله) أنّ الأحكام الشرعية وضعت على نهج القضايا الحقيقية فتتعلّق بآحاد المكلّفين وتنحلّ إلى خطابات متعددة وشخصية لكلّ واحد منهم، فيكون كلّ فرد موردآ لحكم مخصوص به من غير إرتباط حكمه بحكم الفرد الآخر، فيكون الحكم الكلّي منحلّآ إلى الأحكام الكثيرة بنحو العموم الإستغراقي، ويتعدّد العقاب والثواب بتعدّد المكلّفين. وحيث إنّ الخطاب يتوجّه إلى العبد بشخصه فمن الضروري أن تلحظ خصوصياته وحالاته في الخطاب كالعلم به والقدرة على إمتثاله وما شابه ذلک.


1 ـ المصدر :4 328 326.

هذا، وقد أورد الإمام الخميني (قدس سرّه) على هذه الرؤية التي ظهر إنعكاسها لدي كثير من الأصوليين، بعضَ تبعاتها الفاسدة ومحاذيرها المبنائية ردّآ لرأيهم ودعمآ لرؤيته والتي نذكرها فيما يلي :


المناقشة الأولى: عدم صحّة الخطاب إلى العاصي والكافر

إنّ الالتزام بأنّ الخطاب ينحل الى خطابات شخصية جزئية بعدد المكلّفين لا ينسجم مع ما هو المسلّم من شمول التكاليف الإلهية للمطيع والعاصي والمؤمن والكافر على حدّ سواء. وذلک لأنّه بناءً على إنحلال الخطاب إلى الخطابات الشخصية الجزئية، يلزم أن لا يكون العاصي من المسلمين والكافر مكلّفين؛ فإنّا لو لاحظنا قدرة المكلّف على إمتثال الحكم لا سيّما إذا كان ملتفتآ إليه فلابدّ أن يكون التكليف للعاصي والكافر قبيحآ؛ ضرورة أنّ البعث والزجر إنّما هو لغرض إنبعاث المكلّف وإنزجاره والإنبعاث هو الغرض المقوّم للخطاب الشّخصي وحينئذٍ فمع العلم بعدم الإنبعاث والإنزجار من المكلّف أصلا كيف يجوز أن يبعثه المولى ويزجره؟ وذلک لأنّ المولى حينما يعلم أنّ المكلّف لا يلتفت إلى أمره، بل يعصيه، فلا معنى لأمره له، ولا يمكن الإلتزام به؛ لأنّه لا يصدر هذا الخطاب من العقلاء فكيف بالحكيم؛ مع أنّ أكثر الفقهاء بل كلّهم يقولون إنّ العاصي مكلّف بالفروع، والكافر بالأصول والفروع؛ فلأجل الخروج عن محذور لزوم كون العاصي والكافر غير مكلّفين لا بدّ من القول بأن التكليف كان بشكل يشملهما فيتعيّن أن يكون الخطاب بصورة قانونية كما سيأتي توضيحه حتّى لايلزم ذلک.

يقول (قدس سرّه) في أنوار الهداية ما هذا نصّه :

ولو لوحظ التكليفُ بالنسبة إلى كلّ أحد، والخطابُ متوجِّهآ إلى كلّ واحد من


المكلّفين، ويراعى الإستهجان وعدمه في التكليف الإنحلاليّ، للزم إستهجان الخطاب إلى التارک الّذي لا يصير التكليف باعثآ له، فلزم أن لا تكون العصاة مكلّفين بالفروع، والكفّار بالأُصول والفروع، ولزم أن يكون التارک للمنهيّ عنه بمقتضى دواعية غير متوجّه إليه النهي؛ ضرورة عدم الفرق في الإستهجان بين النهي عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد المغرب، وبين النهي عن كشف العورة في ملأ من الناس لمن له شرف، والنهي عن أكل القاذورات والخبائث، فلا فرق بين عدم القدرة العاديّة على المنهيّ عنه وبين كون الدواعي مصروفة عنه.[1]

وتوضيح ذلک كما يستفاد من التهذيب هو: أنّه يترتّب على القول بكون الخطابات شخصيةً أي منحلّةً إلى خطابات، عدة مفاسد :

منها، عدم صحّة خطاب العصاة من المسلمين، فإنّ خطاب من لا ينبعث به قبيح أو غير ممكن، فإنّ الإرادة الجزمية لا تحصل في لوح النّفس إلّا بعد حصول مبادئ قبلها التي منها إحتمال حصول المراد، والمفروض القطع بعدم حصوله؛

ومنها، عدم صحّة تكليف الكفّار بالأصول والفروع؛

ومنها، قبح تكليف صاحب المروّة بستر العورة؛ فإنّ الدواعي مصروفة عن كشف العورة، فلا يصحّ الخطاب؛ إذ أيّ فرق بين النهي عن شرب الخمر الموجود في أقاصي الدنيا، وبين نهي صاحب المروّة عن كشف سوأته بين ملأ من الناس، ونظيره نهي المكلّفين عن شرب البول وأكل القاذورات ممّا يكون الدواعي عن الإتيان بها مصروفة؛ إذ أيّ فرق بين عدم القدرة العادية أو العقلية على العمل، وكون الدواعي مصروفة عنها.[2]

وفي موضع آخر من نفس الكتاب: إنّ الخطاب الخصوصيّ إلى الكفار وكذا


1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 217.

2 ـ تهذيب الأصول :2 340 341.

إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات، بل غير ممكن لغرض الإنبعاث، فلو كان حكم الخطاب العام كالجزئي لوجب الإلتزام بتقييد الخطابات بغيرهم،[1] وهو كما ترى.

وجاء في جواهر الأصول: إنّ لازم القول بإنحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة عدم مخاطبة الكفّار والعصاة بالتكاليف؛ لأنّ البعث لغاية الإنبعاث، فإذا علم عدم الإنبعاث لا يكاد يعقل البعث نحوه؛ بداهة أنّه كما لا يصحّ خطاب الجماد، فكذلک لا يصحّ خطاب من يعلم بعدم إنبعاثه؛ لوحدة الملاک، فكما لا يصحّ الخطاب الشخصي بالكافر أو العاصي، فكذلک الخطاب العمومي المنحلّ إلى خطابات عديدة بعدد رءوس المكلّفين، مع أنّ الضرورة قائمة على شمول الأوامر والنواهي للعصاة، والمحقّقون على أنّها شاملة للكفّار أيضآ؛ لكونهم مكلّفين بالفروع كما يكونون مكلّفين بالأُصول.[2]


المناقشة الثانية: عدم الإحتياط عند الشک في القدرة

قد ذكر المشهور أنّ القدرة من جملة الشرائط العامّة في ثبوت التكليف وفعليته، وحيث ينحلّ الخطاب بعدد المكلّفين فليس العاجز مشمولا ولا مكلّفآ بالتكاليف التي تتضمّنه تلک الخطابات، فيلزمه جواز تعجيز العبد وسلب القدرة عن نفسه إختيارآ؛ لأنّ الحكم مشروط بالقدرة على الفرض ولايجب تحصيل شرط التكليف أو إبقائه، وهذا ممّا لا يلتزم به؛ ويلزم منه أيضآ جريان أصالة البراءة في صورة الشک في القدرة وعدمها؛ فإنّ المرجع في الشکّ فيها هو الشکّ في تحقّق شرط التكليف، مع أنّ الشکّ لا يكون عذرآ في مقام الإمتثال، وهم لا يلتزمون به أيضآ، بل يحتاطون مع الشکّ في القدرة.


1 ـ المصدر :1 244.

2 ـ جواهر الأصول :3 321.

ففي الفوائد عن المحقّق النائيني(رحمه الله) :

إنّ القدرة من شرائط حسن التكليف والخطاب، ولا بدّ من أخذها قيدآ في التكليف لقبح التكليف مع عدم القدرة العقليّة وإستهجانه مع عدم القدرة العاديّة... وأمّا مع الشکّ في القدرة فالعقل يلزم برعاية الإحتمال تخلّصآ عن الوقوع في مخالفة الواقع، كما هو الشأن في جميع المستقلّات العقليّة، حيث إنّ للعقل حكم طريقي في موارد الشکّ على طبق ما إستقلّ به، وليس في شيء من الأحكام العقليّة ما يحكم العقل بالبراءة عند الشکّ في موضوع حكمه، فعند الشکّ في القدرة، العقل لا يحكم بالبراءة وترتّب آثار عدم القدرة، بل يستقلّ بلزوم رعاية احتمال القدرة.[1]

فينتقده الإمام الخميني (قدس سرّه) في المناهج قائلا :

ولو فرض أنّ الأحكام الشرعيّة مقيّدة بالقدرة شرعآ، للزم الإلتزام بجواز إيجاد المكلّف العذر لنفسه، ]وأن يعمل عملا يخرجه عن عنوان القادر فلا يشمله التكليف[ ولا أظنّ إلتزامهم به، وللزم جريان البراءة عند الشکّ في القدرة، ولا يلتزمون به.[2]

ويبين (قدس سرّه) ذلک في المعتمد حيث يقول :

إنّها لو كانت الخطابات الواردة في الشريعة مقيّدةً بالقدرة بحيث لم يكن العاجز مشمولا لها ومكلّفآ بالتكاليف التي تتضمّنه تلک الخطابات، يلزم فيما لو شکّ في القدرة وعدمها إجراء البراءة؛ لأنّ مرجع الشکّ فيها إلى الشکّ في التكليف؛ لأنّ المفروض الشکّ في تحقّق قيده. وإجراء البراءة في موارد الشکّ في التكليف ممّا لا خلاف فيه بينهم، مع أنّه يظهر منهم القول بالإحتياط في مورد


1 ـ فوائد الأصول :4 53 و55.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 28.

الشکّ في القدرة كما يظهر بمراجعة فتاويهم.

وأيضآ، لو كانت الخطابات مقيّدةً بالقدرة، يلزم جواز إخراج المكلّف نفسه عن عنوان القادر، فلا يشمله التكليف، كما يجوز للحاضر أن يسافر، فلا يشمله تكليف الحاضر، وكما يجوز للمكلّف أن يعمل عملًا يمنعه عن صدق عنوان المستطيع عليه، و غيرهما من الموارد، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز في المقام[1].


المناقشة الثالثة: لزوم النسبية في الأحكام الوضعية

قد ذهب المشهور إلى أنّ الأمر بما هو خارج عن مورد الإبتلاء مستهجن، وكذلک الزجر عنه، و حكموا أيضآ بعدم منجّزية العلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجآ عن محلّ الإبتلاء؛ لأنّه يستهجن الخطاب أو التكليف بالنسبة إليه. ويلاحظ عليه الإمام الخميني (قدس سرّه) بلزوم ذلک نسبيّة الأحكام الوضعيّة وصيرورتها أمورآ غير ثابتة في بعض الحالات، بمعنى إختلاف النجاسة والطهارة بالنسبة إلى المكلّفين؛ فعلي سبيل المثال، نجد أن لا يكون الخمر الواقع في أقصى البلاد نجسآ؛ وذلک لعدم إبتلائه بالنجاسة البعيدة عنه في حين أنّ جعل الأحكام الوضعية إنّما هو لغرض ترتيب الأثر، فمع عدم الإبتلاء به عادةً لا يعقل جعل النجاسة له، مع أنّه باطل بضرورة الفقه؛ فإنّ الخمر نجس على كلّ حال، تمكّن العبد من إتيانه أو لم يتمكن.

قال المحقّق النائيني(رحمه الله) في فوائد الأصول :

يعتبر في تأثير العلم الإجمالي إمكان الإبتلاء بكلّ واحد من الأطراف، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجآ عن مورد الإبتلاء إلى أن قال ولا إشكال في إعتبار القدرة العقليّة على كلّ من طرفي الفعل والترک في صحّة كلّ من


1 ـ معتمد الأصول :1 130.

الأمر والنهي وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق أو بتحصيل الحاصل؛ ففي إعتبار القدرة العقليّة يشترک الأمر والنهي، ولكن يختصّ النهي بقيد زائد، وهو أنّه يعتبر في صحّته مضافآ إلى القدرة العقليّة على الفعل المنهيّ عنه، القدرة العاديّة عليه، بحيث يتمكّن المكلّف عادةً من نقض العدم وفعل المنهيّ عنه، ولا يكفي في صحّة النهي مجرّد القدرة العقليّة على الفعل، لإستهجان التكليف بترک ما لا يقدر على فعله، فانّ الترک حاصل بنفسه. والتكليف المطلق بترک ما يكون منتركآ عادةً يكون كالتكليف المطلق بترک ما يكون منتركآ عقلا من حيث اللَغويّة والإستهجان، فلا يصحّ النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم إمكان الإبتلاء به عادةً.[1]

فأورد عليه السيّد الإمام (قدس سرّه) على أنّ الإستهجان المدّعى لو صحّ في التكليفية لصحّ في الوضعية من الأحكام أيضآ، خصوصآ على القول بمجعوليتها؛ فيلزم أن لا يكون الخمر الواقع في أقاصي البلاد نجسآ، وأن يكون الأحكام الوضعية نسبيةً، وهو باطل بضرورة الفقه.[1]

وتوضيح ذلک كما أشار إليه في أنوار الهداية هو: أنّ القائلون بإستهجان الخطاب ولو بنحو العموم لا محيص لهم إلّا الإلتزام بأنّ الخطابات والأحكام الوضعيّة أيضآ مختصّة بما هو محلّ الإبتلاء؛ لأنّ جعل الحكم الوضعيّ إن كان تبعآ للتكليف فواضح، ومع عدم التبعيّة فالجعل إنّما هو بلحاظ الأثر، ولهذا لا يمكن جعل ما ليس له أثر مطلقآ، فجعل النجاسة للخمر والبول للاثار المترتّبة عليهما كالشرب والصلاة فيه وأمثال ذلک؛ والفرض أنّ الآثار مع عدم كون الموضوع محلّ الإبتلاء، لا يجوز أن يترتّب عليها، فلا بدّ من القول بأنّ النجاسة والحلّيّة


1 ـ فوائد الأصول :4 50 51.

2 ـ تهذيب الأصول :1 438.

وغيرهما من الوضعيّات من الأُمور النسبيّة بلحاظ المكلّفين، فالخمر والبول نجسان بالنسبة إلى من كان مبتلى بهما دون غيرهما، ولا أظنّ إلتزامهم بذلک، للزوم الإختلال في الفقه.[1]


المناقشة الرابعة: إجتماع عدة أكاذيب في خبر واحد

إنّ ملاک الإنحلال في الخطاب الإخباري والإنشائي واحد، فلو صحّ الإنحلال في الإنشاء لصحّ في الإخبار، وعليه لو قلنا بإنحلال الخطاب الواحد إلى الخطابات المتعدّدة حسب عدد المكلّفين لزم أن يحكم على من يقول قضيّة معيّنة كاذبة بأنّه كذب بعدد أفراد تلک القضيّة، فيكون الخبر الكاذب الواحد منطويآ على عدّة أخبار كاذبة. ومن ثمّ، إذا أخبر رجل كذبآ عن شيء له أفراد كثيرة، بأن يقول النار باردة، فقد كذب بعدد أفراد النار؛ مع أنّه واضح البطلان، ولايلتزم به؛ فإنّ التعدّد يعتبر من صفات الكلام وإن كان موضوع الكلام وسيعآ، ولذا، إنّه لم يكذب إلّا كذبآ واحدآ، إذ لم يصدر منه إلّا كلام واحد.

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في التهذيب :

وما إشتهر من إنحلال الخطاب الواحد إلى الخطابات حسب عدد المكلّفين غير تامّ؛ لأنّ ملاک الإنحلال في الإخبار والإنشاء واحد، فلو قلنا بالإنحلال في الثاني لزم القول به في الأوّل أيضآ، مع أنّهم لا يلتزمون به، وإلّا يلزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أكاذيب في متن الواقع. وعليه لو قال قائل بأنّ النار باردة فقد كذب بعدّة أفراد النار، وهو رأي عازب أو قول كاذب، لا يلتزم به ذو مسكة.[2]


1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 217.

2 ـ تهذيب الأصول :1 437.

المناقشة الخامسة: عدم وجوب القضاء على النائم في جميع الوقت

إنّه يلزم من القول بكون الخطابات شخصيةً، عدم وجوب القضاء على النائم في جميع الوقت؛ لإستحالة بعثه لغرض الإنبعاث، فلا تشمله الخطابات الشرعية ولا يكون مكلّفآ بالأداء حتّى يجب عليه القضاء،[1] مع أنّ ضرورة الشرع تقضي بخلافه.[2]

إلى هنا ينتهي الباب الأول في نظرية الإنحلال وما يلاحظ عليها، ويليه الباب الثاني في نظرية الإمام الخميني (قدس سرّه) من عدم الإنحلال في الخطابات القانونية ومن وافقه وما يرد عليها.


1 ـ معتمد الأصول :1 204.

2 ـ العروة الوثقى :1 732.

البـــاب الثــاني

ويتضمّن خمسة مباحث :

المبحث الأوّل: نظرية الخطابات القانونية وعدم الإنحلال فيها

المبحث الثاني: الخطابات القانونية عند تلامذة الإمام (قدس سرّه) وإنعكاسها في كتبهم

المبحث الثالث: إشكاليات الخطابات القانونية

المبحث الرابع: الخطابات القانونية عند المحقّق السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله)

المبحث الخامس: كلام بعض المحقّقين في الخطابات القانونية ونقده

تمهيد

يمثِّل هذا الباب قراءة حديثة عن نظرية الإمام الخميني (قدس سرّه) في الساحة الأصولية وهي عدم الإنحلال في الخطابات القانونية والتي تشكّل الحجر الأساس الذي تبتني عليه مباحث الكتاب، فنحاول إزالة الغموض عنها بالنسبة للقارئ العزيز، معتمدين في ذلک على ما ألقاه شيخنا الأستاذ حفظه الله في مجلس بحثه مع ما يوجد في هذا المجال من كتب السيّد الإمام (قدس سرّه) وتقريرات بحثه، ثمّ التعرّض لها بالتحليل والنقد، ولانبتغي من وراء ذلک سوى الوصول إلى الحقيقة، وذلک بالميزان البرهاني الصريح الذي يمكن الركون إليه.

هذا، وبالرغم من أهمية النظرية ودورها في تحديد المسائل الفقهية والأصولية، ومرجعيتها في ذلک بناءً على الإيمان بها،لم نجد بحثها بشكل مستقل في الكتب الأصولية، ولذا، يحتمّ بحثها لإستكشاف دورها في عملية الإستنباط. وفي سياق هذا البحث، تطرح عدة مسائل أخرى تتصّل بهذه النظرية من قبيل تبيين الخطاب الشخصي، ومسألة أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد، وما وجد من الإتجاهات المختلفة بشأن النظرية، فهناک من يؤكّد على

ثبوتها، وهناک من يعدّل ويصحّح النظرية في إطار الإنحلال الحكمي، وهناک من ينكر وجود أدلة صحيحة على ذلک، وكلّ إتجاه تنبثق منه تكييفات مختلفة لحقيقة الخطابات الشرعية.

إذآ، يتشكل هذا الباب الذي يتناول هذه النظرية من خمسة مباحث رئيسية :

المبحث الأوّل: الذي يبيّن نفس النظرية وتحديد أركانها.

المبحث الثاني: ويتمّ فيه تناول النظرية على ضوء مباني تلامذة الإمام المحقّقين وإنعكاسها في كتبهم الأصولية.

المبحث الثالث: ويتناول فيه تقييم النظرية وأدلتها التي ذكرها الإمام الخميني(قدس سرّه) ومن تبعه في هذا المجال.

المبحث الرابع: الذي يبيّن فيه تقريب ولده المحقّق الشهيد مصطفى الخميني(رحمه الله) بشأن هذه النظرية، الذي سمّى نظرية الإنحلال الحكمي في الخطابات الشرعية مع ما أورد عليه شيخنا الأستاذ حفظه الله.

المبحث الخامس: كلام بعض المحقّقين في الخطابات القانونية ونقده.


المبحث الأول: نظرية الخطابات القانونية من منظار الإمام الخميني (قدس سرّه)

أول خطوة يبدأ بها هي فهمنا عن نظرية الخطابات القانونية بحسب مقصود السيّد الإمام (قدس سرّه) ثمّ التفاسير المختلفة والمتعلّقة بها.


المطلب الأول: بيان النظرية

وقبل الورود في أصل البحث يجدر بنا الإشارة إلى نقطة، هي أنّ هذه النظرية ممّا وصل إليها الإمام الخميني (قدس سرّه) من أوّل تحقيقاته الأصولية؛ لوجودها في أوّل ما صنّفه بقلمه الشريف في الأصول، كما وجدت في تعليقته على الكفاية المسمّى

بـ«أنوار الهداية» حيث فرغ منها في شهر رمضان المبارک سنة 1368 القمرية؛ ثمّ تعرّض لها في دروسه ودراساته الفقهية والأصولية مرّات وكرّات، لكن ما يمكن أن يكون له مصبّ في هذه النظرية موضعين، نوردهما فيما يلي :

الموضع الأول: في بحث الترتّب وفعلية الحكمين المتزاحمين، حينما ضاقت قدرة المكلّف عن إمتثالهما معآ، فترک الأهمّ وإنشغل بالمهم وهو الصلاة مثلا، بناءً على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فقد وقع هذا البحث موضع إهتمام لدى المحقّقين من الموافقين والمخالفين في صحّة العمل العبادي، فما هو حكمها من حيث الصحّة والبطلان؟

ذهب المحقّق النائيني(رحمه الله) في مقام حلّ الإشكال بناءً على نظريته من إنحلال الخطاب بعدد المكلّفين ولحاظ الحالات الفرديّة للمكلّف إلى فكرة الترتّب في تصوير الأمر بالمهم وطولية الأمرين لكي لا يتطرّق محذور عدم قدرة المكلّف، بمعنى أنّ فعليّة المهم مترتّبة على عصيان الأهم، فيكون المهمّ حينئذ مأمورآ بها فتقع العبادة صحيحةً، ثمّ ذكر خمس مقدّمات لتشييد القول به.[1] وفي قبال ذلک، قد طرح الإمام الخميني (قدس سرّه) نظرة جديدةً، وعالج الإشكال بناءً على مسلكه المختار من الخطابات القانونية وعليه يمكن تصوير الأمرين في مستوى واحد للمكلّف، بمعني أنّ الأمر بالمهم يكون فعليآ بعرض فعليّة الأمر بالأهمّ، فيصحّ العمل العبادي المهم لوجود الأمر به؛ فإنّه لم يوجّه خطاب خاصّ إلى المكلّف، بل يبقى الخطاب كلّيآ.[2]

الموضع الثاني: في بحث العلم الإجمالي، حيث ذهب المشهور إلى عدم المنجّزية لهذا العلم بخروج أحد أطرافه عن محلّ الإبتلاء؛ وذلک لقبح التكليف


1 ـ فوائد الأصول :1 336 360.

2 ـ مناهج الأصول إلى علم الأصول :2 23.

عقلا في الطرف الخارج عن محلّ الإبتلاء، بناءً على نظرية الإنحلال ولحاظ حالات المكلّف؛ فإنّ الخطاب حينئذ إنّما يتوجّه إلى المخاطب إذا توفّر الداعي للإنبعاث فعلا أو تركآ، وكان المكلّف قادرآ على إتيانه فتصير الشبهة في الطرف الآخر المبتلي به بدويةً بلا معارض، فتجري فيه البراءة.[1] وأمّا بناءً على نظريّة الخطابات القانونيّة فلا ينحلّ العلم الإجمالي في الطرف الخارج عن محلّ الإبتلاء ولا تسقط منجّزيته، بل يستلزم الخروج عن العهدة بترک الطرف الآخر الذي يمكن الإبتلاء به.[2]

ومن هنا، ينفتح المجال لبيان نظريته (قدس سرّه) في أنوار الهداية حيث يقول :

وعندي فيه إشكال وهو أنّه قد وقع الخلط بين الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين وبين الخطاب الشخصيّ إلى آحادهم، فإنّ الخطاب الشخصي إلى خصوص العاجز أو غير المتمكّن عادةً أو عقلا ممّا لا يصحّ كما أُفيد، ولكن الخطاب الكلّي إلى المكلّفين المختلفين بحسب الحالات والعوارض ممّا لاإستهجان فيه. وبالجملة، إستهجان الخطاب الخاصّ غير إستهجان الخطاب الكلّي، فإنّ الأول فيما إذا كان لشخص غير متمكّن، والثاني فيما إذا كان العموم أوالغالب الّذي يكون غيره كالمعدوم غير متمكّن عادةً، أو مصروفة دواعيهم عنه.[3]

وبتوضيح وتفصيل لازم: أنّ الخطاب الشرعي قد يقسّم إلى نوعين: شخصي وقانوني.

أما الخطاب الشخصي أو الخطاب الخاص فهو: الخطاب المتوجّه إلى شخص أو صنف خاص من الناس، كالأوامر الصادرة من الموالي إلى العبيد، ومن قبيل


1 ـ فرائد الأصول :4 54.

2 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 214 218.

3 ـ نفس المصدر :2 215.

الخطاب المتوجّه إلى شخص الرسول (صلي الله عليه وآله) أو نسائه،[1] فيلقي التكليف إلى الفرد بشكل مختصّ به مستجمعآ لشرائط صدور الخطاب من العلم والقدرة على إتيان المأمور به وإحتمال إنبعاثه بمعنى كونه موردآ لإبتلائه ورغبته. ومن ثمّ، إنّ العقل حاكم بمعذوريّة العاجز والجاهل والساهي وغيرهم في مخالفة الحكم الشرعيّ فتوجيه الخطاب الشخصي إليهم لغو، بل ممتنع صدوره من الملتفت وحينئذ لا تصحّ العقوبة على المخالفة.

وأما الخطاب القانوني أو الخطاب العمومي فهو: الخطاب إلى العناوين العامة والموضوعات الكلّية المتعلّقة بعنوان كالمؤمنين أو الناس فيكفي في تشريع الحكم الكلّي وجود عدّة من المكلّفين الواجدين للشرط وإن لم يكن الجميع واجدآ له.[2]

وبكلمة أخرى، إنّ الخطاب القانوني كلّي عامّ متوجّه إلى عموم المكلّفين فلا يشترط فيه كون جميع الأفراد واجدآ للشرائط، ولا يعتبر فيه إلّا إحتمال إنبعاث طائفة من المكلّفين وإنزجارهم بالبعث والزجر في الأعصار والأمصار، فهو يكفي لتحقّق الإرادة التشريعية المتعلّقة بالعنوان العام الكلّي، ويكون عندئذ جميع المخاطبين موردآ للتكليف بمعنى أنّ التكاليف فعليّة بالنسبة إليهم جميعآ، وإن علم بعدم إنبعاث طائفة أخرى عصيانآ أو عذرآ؛ فإنّ الخطاب يصلح للصدق على الكثيرين، ولكن لا تستلزم هذه الكثرة، الإنحلال إلى إنشاء تكاليف مستقلة أو خطابات عديدة، بل هو خطاب واحد قانوني متعلّق بعنوان كلي وعامّ ينطبق قهرآ على جميع الأفراد ويكون حجّةً عليهم،[3] فليست هناک كثرة في ناحية الخطاب، وإن كانت هناک كثرة في ناحية الموضوع، فيكون الحكم بالنسبة إلى العنوان


1 ـ معجم مفردات أصول الفقه المقارن: 140.

2 ـ إرشاد العقول الى مباحث الأصول :1 473.

3 ـ تهذيب الأصول :3 228.

الجامع فعليآ، ولا دخالة للعلم، ولا للقدرة في هذا الخطاب، فمن كان بحسب الواقع عالمآ فهو غير معذور، ويكون التكليف منجّزآ ومن كان جاهلا فيكون معذورآ، وهكذا بالنسبة إلى القادر والعاجز؛ فإنّ العبرة في توجيه الخطابات القانونيّة بالقدرة النوعيّة، فلو كان في الأمّة جمع قادرون على الإطاعة والعصيان، يمكن التوجيه إلى الكلّ، ويصير الأمر مورد التكليف الفعليّ على نحو العموم الأصوليّ ولو كان بعضهم عاجزين.

وبالجملة، لم تكن قدرة المكلّف على إستقلالها، معتبرةً في الخطابات القانونية، بل ولا تشخيص قدرته أيضآ، بل المعتبر في عدم لَغوية الخطاب القانوني تشخيص المقنّن وعلمه بتأثير القانون لأكثر الناس؛[1] فلا تجري البراءة عند الشکّ في القدرة، بل لا مناص عن الإحتياط إلّا مع إحراز العذر وإقامة الحجّة بعد العلم بالتكليف، لأنّ المكلّف بما هو إنسان مورد التكليف، لا بما هو قادر حتّى يتمسّک بالبراءة، فإذآ، لابدّ من إقامة العذر عند التخلّف.[2]

إذآ، ليس للعقل التصرّف في أوامر المولى بتقييدها ببعض القيود، بل له أحكام توجب معذورية المكلّف بالنسبة إلى مخالفة تكاليف المولى، فحكمه بقبح العقاب في صورة الجهل أو العجز لا يرجع إلى تقييد الأحكام بصورة العلم والقدرة، حتّى لا يكون الجاهل أو العاجز مكلّفآ، بل الظاهر ثبوت التكليف بالنسبة إلى جميع الناس أعمّ من العالم والجاهل، والقادر والعاجز، غاية الأمر كون الجاهل والعاجز معذورآ في المخالفة بحكم العقل.[3]

وقد يوضّح (قدس سرّه) ذلک في كتاب الطهارة حيث يقول :

إنّ الخطابات على قسمين :


1 ـ جواهر الأصول :3 47.

2 ـ تهذيب الأصول :3 235؛ تحريرات في الأصول :3 450.

3 ـ معتمد الأصول :1 131.

القسم الأوّل، هي الخطابات الجزئيّة المتوجّهة إلى آحاد المكلّفين؛ كلّ واحد منهم مستقل عن الآخر، كالخطاب إلى زيد بالنهي عن شرب الخمر مثلاً. وفي هذا القسم لا إشكال في أنّ نهيه مشروط بعدم كونه تاركآ له لداعٍ نفساني؛ لأنّ النهي إنّما هو لإيجاد الداعي بالنسبة إلى المكلّف، ومع تحقّقه له بالإضافة إلى الترک يستهجن تكليفه بالنهي عنه، فإنّه من القبيح تكليف صاحب المروّة الذي لا يكشف العورة بمنظر من الناس بحرمة الكشف ووجوب الستر وكذلک باب الأوامر، فإنّ الغرض من البعث ليس إلّا مجرّد إيجاد الداعي للعبد نحو الفعل، ومع كونه فاعلاً له ولو مع قطع النظر عن الأمر لداعٍ شهواني يستهجن ذلک التكليف، كما لو أمر المولى عبده بالتنفّس مع تحقّقه منه عادةً.

القسم الثاني، هي الخطابات الكلّيّة المتوجّهة إلى عموم المخاطبين؛ بحيث كان الخطاب واحدآ والمخاطب كثيرآ؛ كجميع الخطابات الشرعيّة المتوجّهة إلى عموم الناس، فإنّ الخطاب فيها واحد متوجّه إلى العناوين المنطبقة على جميع الناس، كقوله: «يا أيّها الناس إفعلوا كذا وكذا» مثلاً، أو على بعضهم كالمستطيع في الحكم بوجوب الحجّ. وبالجملة: لا إشكال في وحدة الخطابات الواقعة في الشريعة؛ بمعنى عدم إنحلالها إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين. وحينئذٍ فالإستهجان المستلزم لإمتناع التكليف، بل الخطاب من الشارع الحكيم وعدمه لا بدّ وأن يلاحظ بالإضافة إلى ذلک الخطاب العامّ المتوجّه إلى المخاطبين، فإذا فرض أنّهم لا يقدرون بالقدرة العاديّة على الإتيان بالمنهي عنه بوجه، يكون الخطاب قبيحآ منه، كما أنّه إذا فرض ثبوت الداعي لجميع المخاطبين للإتيان بالمأمور به؛ بحيث لا يتحقّق منهم الترک أصلاً، يقبح توجّه الأمر إليهم ولو بالخطاب العامّ.

وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلک؛ بأن كان بعض المخاطبين لا يتحقّق له الداعي إلى

الإتيان بالمنهي عنه، وبعضهم على خلافه، ولا تتميّز الطائفة الأُولى عن الثانية ببعض الجهات المميّزة المشخّصة، أو كان كلّهم له داعٍ نفساني إلى الإتيان به، ما كان التكليف قبيحآ ولم يكن توجيه الخطاب العامّ بالإضافة إليهم مستهجنآ. وجميع الخطابات الشرعيّة الواردة في مقام الأمر والنهي من هذا القبيل. فيكون الملاک في إستهجان توجّه الخطاب بنحو العموم وعدمه، هو ثبوت الداعي للجميع أو للبعض وعدمه.[1]

والخلاصة: أنّ مصبّ الإرادة الشرعية في الخطابات الشخصية هو إنبعاث العبد نحو الفعل أو الترک بيدَ أنّ المراد من الإرادة الشرعية في الخطابات القانونية هو ضرب القانون لجميع الناس.

ثمّ، أورد السيّد الإمام (قدس سرّه) في الأنوار على نفسه إشكالا، وهو أنّ الخطاب القانوني وإن كان إنشاءً واحدآ ولكنّه عقلا ينحلّ إلى الخطابات المستقلّة بعدد نفوس المكلّفين وأنّ الخطاب المنحلّ المتوجّه إلى غير المتمكّن مستهجن، فلا فرق بين الخطاب الشخصي والعمومي في ذلک.

فأجاب عن ذلک بأنّه إن قصد من الإنحلال كون كلّ خطاب خطابات بعدد المكلّفين حتّى يكون كلّ مكلّف مخصوصآ بخطاب خاصّ به وتكليف مستقلّ متوجّه إليه، فهو ضروريّ البطلان، وإن أريد من الإنحلال أنّ المنشأ تكليف واحد لمجموع المكلّفين فإنه أيضآ ضروريّ الفساد، بل المراد: إنّ الخطاب واحد، والإنشاء واحد، والمنشَأ على كلّ مكلّف من غير توجّه خطاب خاصّ أو تكليف مستقلّ إلى كلّ أحد، ولا إستهجان في هذا الخطاب العموميّ إذا كان المكلّفُ في بعض الأحوال أو بالنسبة إلى بعض الأمكنة غيرَ متمكّن عقلا أو عادةً؛ فالخمر حرام على كلّ أحد، تمكّن من إتيانه أو لم يتمكّن، وليس جعل الحرمة لغير


1 ـ كتاب الطهارة (تقريرات لسماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكرانى): 149 151.

المتمكّن بالخصوص حتّى قيل يستهجن الخطاب أو التكليف المنجّز، فليس للمولى إلّا خطاب واحد لعنوان واحد يرى الناس كلّهم أنّه حجّةً عليهم، ولاإشكال في عدم إستهجان هذا الخطاب العموميّ، كما لا إشكال في أنّ التكاليف الشرعيّة ليست متقيّدةً بقيودها من عدم الجهل، والعجز، والخروج عن محلّ الإبتلاء، وأمثالها.[1]

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في كتاب «الخلل في الصلاة»: إنّ الخطابات القانونية لاتقاس مع الخطابات الشخصية، وهذا لفظه :

إنّ قياس الخطابات العامة بالخطاب الخاص مع الفارق؛ فإنّه في الخطاب العام لابدّ من حصول مبادئه لا مبادىء الخطاب الخاص. فاذا علم الآمر بأنّ الجماعة المتوجّه إليهم الخطاب فيهم جمع كثير ينبعثون عن أمره وينزجرون عن نهيه وأنّ فيهم من يخضع لأحكامه ولو إلى حين صحّ منه الخطاب العام ولا يلاحظ فيه حال الأشخاص بخصوصهم. ألا ترى الخطيب يوجّه خطابه إلى الناس الحاضرين من غير تقييد ولا توجيه إلى بعض دون بعض وإحتمال كون بعضهم أصم لا يعتنى به بل العلم به لايوجب تقييد الخطاب بل إنحلال الخطاب أو الحكم حال صدوره بالنسبة إلى قاطبة المكلفين من الموجودين فعلا ومن سيوجدفي الأعصار اللاحقة مما يدفعه العقل ضرورة عدم إمكان خطاب المعدوم أو تعلّق حكم به والإلتزام بإنحلاله تدريجآ وفي كلّ عصر حال وجود المكلّفين لا يرجع إلى محصّل.[2]

ويقول (قدس سرّه) في المناهج :

إنّ الخطابات العامّة لا ينحلّ كلّ منها إلى خطابات بعدد نفوس المكلّفين، بحيث يكون لكلّ منهم خطاب متوجّه إليه بالخصوص، بل يكون الخطاب


1 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 216.

2 ـ كتاب الخلل في الصلاة: 13 14.

العموميّ خطابآ واحدآ يخاطب به العموم، و به يفترق عن الخطاب الخصوصيّ في كثير من الموارد. هذا، مضافآ إلى أنّ الإرادة التشريعيّة ليست إرادة إتيان المكلّف وإنبعاثه نحو العمل، وإلّا يلزم في الإرادة الإلهيّة عدم إنفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة بملاحظة الجعل العموميّ القانونيّ، ومعلوم أنّه لا تتوقّف صحّته على صحّة الإنبعاث بالنسبة إلى كلّ الأفراد، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفيّة.[1]

المطلب الثاني: أدلة النظرية

ثمّ إنّه بعد التتبّع والتدقيق في كلمات السيّد الإمام (قدس سرّه) المنتشرة في كتبه وتقريراته يمكن أن يستفاد منها عدة أدلّة على أنّ الخطابات الواردة في الشريعة موضوعة على نهج الخطابات القانونية، وهي كالتالي :

منها، ما نراه بالوجدان أنّ الخطاب الواحد محقَّق لغرض المتكلّم من مخاطبة الجميع دون حاجة إلى مخاطبة الأشخاص فردآ فردآ. يقول السيّد الإمام بشأن هذا الدليل :

ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته؛ فإنّ الشخص إذا دعا قومه لإنجاز عمل أو رفع بليّة فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه، لا أنّه يدعو كلّ واحد بخطاب مستقلّ؛ ولو إنحلالاً؛ للَغوية ذلک بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبّث بالانحلال.[2]

ومنها، أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، لا بلحاظ وجودها الخارجي، بل بلحاظ تقرّرها الذهني؛ وإن كانت الخصوصيّات الفرديّة متّحدةً معها خارجآ؛ إذ الأمر لا


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 28.

2 ـ تهذيب الأصول :1 437.

يتعلّق إلّا بما يقوم به الغرض ولا دخل لغير الطبيعة بوجودها الساري في حصوله.

يقول (قدس سرّه) في التهذيب: إنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع، لأنّ الغرض قائم بنفس الطبيعة بأيّ خصوصية تشخصّت، وفي ضمن أيّ فرد تحقّقت، فلا معنى لإدخال أيّة خصوصية تحت الأمر بعد عدم دخالتها في الغرض، على أنّ الهيئة تدلّ على البعث والمادة على الماهية اللابشرط، فلا دالّ على الخصوصيات.[1]

ومنها، أنّ الإطلاق بعد تمامية مقدّماته يباين العموم في أنّ الحكم فيه لم يتعلّق إلّابنفس الماهية أو الموضوع بلا مدخلية شيء آخر سواها، وليس الحكم متعلّقآ بالأفراد والحالات والطوارئ، فإنّ الإطلاق هو رفض القيود وجعل الطبيعة تمام الموضوع فلا يتّخذ اللفظ الموضوع للطبيعة كمرآة للأفراد بخصوصيّاتها، أو لحالات أفرادها، وهذا بخلاف العموم، فإنّ أداته وضعت لإستغراق أفراد المدخول، فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكيّة بعنوان الكلّ والجميع.

يقول (قدس سرّه) في التهذيب :

إنّ الإطلاق بعد فرض تمامية مقدماته ليس معناه إلّا كون الطبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخالة شيء آخر أو ليس إلّا أنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع له... وأمّا جعل الطبيعة مرآة لمصاديقها أو جعل الموضوع مرآة لحالاته فخارج من معنى الإطلاق وداخل تحت العموم أفراديآ أو أحواليآ؛... وبه يظهر أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي وغيرهما فاسد جدّاً؛ إذ ليس للإطلاق تعرّض لحيثية سوى كون ما أخذ موضوعآ تمام الموضوع، وأما كون الحكم متعلّقآ بالفرد على البدل أو لكلّ فرد أو للمجموع فلا بدّ في إستفادة كلّ من ذلک من التمسّک بدوالّ لفظية، من لفظ كل أو اللام أو بعض أو غيرها. والسرّ في


1 ـ المصدر :1 238.

ذلک أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون حاكية عن الأفراد وإن كانت متحدةً معها خارجآ، بخلاف العموم فانّ أداته وضعت لإستغراق أفراد المدخول فيتعلّق الحكم فيه بالأفراد المحكية بعنواني الكل والجميع.[1]

ومنها، وحدة المنهجية في وضع القوانين العرفية وجعل الأحكام الشرعية، فإنّ الطريقة التي تتّبع في القوانين من تشريعها عامةً من دون لحاظ العوارض وخصوصيات الأفراد هي نفس الطريقة التي جرى عليها الشرع، فلو كانت للشارع طريقة أخرى لذكرها ونبّه عليها.

يقول السيّد الإمام (قدس سرّه) بشأن هذا الدليل :

إنّ الإرادة التشريعيّة عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة بملاحظة الجعل العموميّ القانونيّ، ومعلوم أنّه لا تتوقّف صحّته على صحّة الإنبعاث بالنسبة إلى كلّ الأفراد، كما يظهر بالتأمُّل في القوانين العرفيّة.[2]

وفي التنقيح :

وأمّا الخطابات الكلّية العامّة مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ)[3] و(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)[4] ونحوهما من الخطابات الشرعيّة، بل نوع القوانين الصادرة من جميع الموالي كذلک فهي كلّية عامّة متوجّهة إلى عموم المكلّفين.[5]

ويقول السيّد الإمام (قدس سرّه) في كتاب الخلل :

والحقّ أنّ التشريع في الشرع الأطهر وفي غيره من المجالس العرفية ليس إلّاجعل الحكم على العناوين والموضوعات ليعمل به كلّ من إطّلع عليه في


1 ـ المصدر :1 430.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 28.

3 ـ سورة البقرة: 153.

4 ـ سورة آل عمران: 102.

5 ـ تنقيح الأصول :3 414.

الحاضر والغابر. فالقرآن الكريم نزل على رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأبلغه الى معدود من أهل زمانه وهو حجة قاطعة علينا وعلى كلّ مكلّف إطّلع عليه من غير أن يكون الخطاب منحلا إلى خطابات كثيرة حتّى يلزم مراعاة أحوال كلّ مكلّف وهو واضح.[1]

ومنها، ظهور الألفاظ الواردة في موضوعات الأحكام، في إختصاص تلک الأحكام بموضوعاتها بلا مدخلية شيء آخر في ذلک. يقول (قدس سرّه) في كتاب الخلل :

إنّ العناوين المأخوذة في موضوع الخطابات والأحكام سواء كانت من قبيل العمومات كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)[2] والطبائع والمطلقات كقوله (مَن آمَنَ)[3] ونحوه، لا يعقل أن تكون حاكية عن الطوارىء العارضة على المكلّفين من العلم والنسيان والقدرة والعجز وغيرها؛ ضرورة أنّ اللفظ الموضوع لمعنى لا يعقل أن يحكي عن غيره في مقام الدلالة إلّا مع صارف وقرينة؛ فقوله مثلا «المؤمن يفي بنذره» لا يحكي الّا عن الطبيعة دون لواحقها الخارجية أو العقلية؛ وكذا الحال في قوله (أَيُّهَا المُؤمِنُون)[4] فإنّ دلالته على الأفراد ليست الّا بمعنى الدلالة على المصاديق الذاتية لطبيعة المؤمن أى الأفراد بماهم مؤمنون لا على الأوصاف والطواري الأخرى؛ إذ لا تحكي الطبيعة إلّا عمّن هو مصداق ذاتي لعنوانها ولا تكون آلات التكثير كالجمع المحلّى والكل إلّا دالّة على تكثير نفس العنوان ولا يعقل دلالتها على الخصوصيات الفردية، فعموم الخطاب ليس في المثال إلّا للمؤمنين؛ فإذا ورد مثله في الكتاب العزيز يشمل كلّ مؤمن في كلّ عصر حال وجودهم ولكن ليس حجةً عليهم إلّا بعد علمهم بالحكم، فقبل تبليغ رسول


1 ـ كتاب الخلل في الصلاة: 14.

2 ـ سورة آل عمران: 102.

3 ـ سورة التوبة: 18.

4 ـ سورة النور: 31.

الله (صلي الله عليه وآله) لم يكن حجةً على أحد إلّا على نفسه الكريمة وبعد التبليغ صار حجةً على السامعين دون الغائبين وعندما وصل إليهم صار حجةً عليهم وبعد وجود المكلّفين في الأعصار المتأخّرة لم يكن حجّةً عليهم الّا بعد علمهم به. فالجاهل والعالم والناسي والمتذكر والعاجز والقادر كلّهم سواء في ثبوت الحكم عليهم وشمول العنوان لهم وإشتراک الأحكام بينهم وإن إفترقوا في تمامية الحجّة عليهم فذووا الأعذار مشتركون مع غيرهم في الحكم وشمول العنوان لهم وإن إختلفوا عن غيرهم في ثبوت الحجّة عليهم.[1]

وفي جواهر الأصول :

يتصوّر المقنّن القانون الكلّي ويصدّق بفائدته لهم فيريد التقنين والجعل، فيوجّه الخطاب إليهم بالعنوان، فمتعلّق الحكم، الكلّي وموضوعه، العنوان؛ ففي قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[2] لم يلحظ حال كلّ واحدٍ واحدٍ منهم بنحو العموم لينحلّ إلى خطابات عديدة، بل خطاب واحد متعلّق بالعموم. وكذا جعلت النجاسة على عنوان البول لا على أفراد البول، فكلّما تحقّق العنوان يتعلّق به الحكم.

وإن كان في خواطرک ريب فلاحظ القوانين المجعولة في مجلس النوّاب والشيوخ؛ فإنّها بمرأى منک ومسمع، فتراهم يضعون القوانين ولا يلاحظون حالات أفراد ملّتهم وتحت حكومتهم، بل ربّما لا يتوجّهون إلى إنبعاث كلّ واحدٍ واحدٍ منهم، بل إذا رأوا إنبعاث عدّة منهم لكان ذلک مصحّحآ لجعل القانون على نحو الكلّية. فعلى هذا، كلّ واحد من الأحكام المجعولة في الشريعة إذا حان وقت إجرائها، أحكام فعلية لجميع آحاد المكلّفين بخطاب واحد، من دون إنحلال؛


1 ـ كتاب الخلل في الصلاة: 14 15.

2 ـ سورة المائدة: 1.

سواء في ذلک العالم والجاهل والغافل والمتذكّر والعاصي والمطيع والمؤمن والكافر.[1]

ومنها، المحاذير المبنائية التي سردناها عن الإمام الخميني (قدس سرّه) في الباب السابق؛فإنّه بناءً على الأخذ بنظرية الخطابات القانونية تندفع جميع هذه الشبهات وتنحلّ بالمرّة.


المطلب الثالث: ما تتضمّنه النظرية

للتعرّف على هذه النظرية بنحو صحيح ولتوضيح المطلب بشكل أكثر تفصيلا ينبغي إلفات نظر إلى ما يمكن إستخلاصه من مضامينها ومبادئها :

1. المراد من الإرادة القانونية هو التقنين بالخطاب الكلّي وعدم إنحلاله.

2. متعلّق الحكم في الخطاب القانوني كلّي، وموضوعه نفس الطبيعة فتنحدر الخطابات الكلّية إلى العناوين كالمؤمنين، أو الناس، أو القوم، ونحو ذلک.

3. إنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع بينما لايتّخذ اللفظ الموضوع للطبيعة كمرآة للأفراد بخصوصيّاتها أو لحالات أفرادها.

4. لا يشترط العلم والقدرة في فعلية الخطاب القانوني. فالجاهل والعالم والناسي والمتذكر والعاجز والقادر والعاصي والكافر كلّهم سواء في ثبوت الحكم عليهم وشمول العنوان لهم وإشتراک الأحكام بينهم.

5. المعتبر في عدم لَغوية الخطاب القانوني تشخيص المقنّن وعلمه بتأثير القانون علي الناس إذا كانت فيهم عدّة يُعتنى بها يمكن إنبعاثهم بهذا البعث.

6. إنّ الحكم بالنسبة إلى العنوان الجامع فعلي، وإنّ التكاليف فعليّة بالنسبة إلى جميع المخاطبين فينطبق قهرآ على جميع الأفراد ويكون حجّةً عليهم، وإن كان


1 ـ جواهر الأصول :3 318 319.

العاجزون معذورين في مخالفتها.

7. يكون للخطاب عموم بالنسبة إلى جميع المكلفين كما يكون له عموم بالنسبة إلى جميع الأعصار والأمصار.


المطلب الرابع: الفرق بين الخطابات القانونية والقضايا الحقيقية

تتحّد الخطابات القانونية مع القضايا الحقيقية في أنّ الحكم فيهما يتعلّق بالعناوين الكلّية لا الأفراد المعينة الخارجية، بينما تختلف القضية الحقيقية بالمصطلح الميرزائي عن الخطابات القانونية في أنّه يجعل العنوان الكلّي في القضية الحقيقية مشيرآ إلى الأفراد ومرآةً لما ينطبق عليه في الخارج، بحيث يصدق الحكم على الخارجيّات بتوسّط العنوان الجامع لها،[1] فتكون تلک الأفراد ملحوظةً بالعرض، بيد أنّ العنوان الكلّي في الخطاب القانوني ليس مرآةً للأفراد إطلاقآ، لا بالواسطة ولا مع الواسطة. والثمرة تظهر في لزوم توفّر شرائط الخطاب في المخاطبين في القضية الحقيقية فيقيّد الخطاب بما هو مرتبط بشرائطه من القدرة والعلم وغيرهما، دون الخطابات القانونية فيصحّ الخطاب القانوني إلى المخاطبين ولو كان بعضهم عاجزين أو غير قابلين للإنبعاث.

هذا بناءً على التقريب الميرزائي للقضايا الحقيقية، وأما بناءً على ما إختاره السيّد الإمام (قدس سرّه) في تفسير تلک القضايا فتشترک القضايا الحقيقيّة مع الخارجية في إرجاعهما إلى القضايا البتّية وما كان لموضوعه أفراد محققّة يصدق عليها بعنوانه، فتتوافق القضيتان مع الخطابات القانونية في أنّ الحكم في كلّ واحدٍ منها ثابت ومتعلّق بالعنوان الكلي إبتداءً؛ فإنّه بناء على هذا المسلک، ليس الحكم في القضية الخارجية متعلّقآ بذات الأفراد وأشخاصها الخارجيّة مباشرةً وبلا توسيط عنوان،


1 ـ فوائد الأصول :1 511 512.

خلافآ لرأي النائيني(رحمه الله)؛ وتختلفان عن الخطابات القانونية في أنّ موضوعهما قابل للصدق على الأفراد؛ فإنّ العنوان في الخارجيّة مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة محقّقةً، وليس الحكم فيها متعلّقآ بذات الأفراد وأشخاصها الخارجيّة مباشرةً، وأمّا القضايا الحقيقيّة فالموضوع فيها ذو قابلية يصلح أن ينطبق على الأفراد الموجودين حسب مرور الزمان، لا بمعنى كون الطبيعة حاكيةً عنها، بل لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتحدة معها في الخارج؛ فإنّ الحكم فيها بما له بقاء في عالم الإعتبار محمول على العنوان الذي ينطبق على مصاديقه بالتدريج وما هو الموجود فيلحظ المتكلّمُ تلک المصاديقَ بالعرض.

هذا، والخطاب القانوني وإن كان كلّيآ عامّآ متوجّهآ إلى عموم المكلّفين إلّا أنّه لاينحلّ إلى كلّ مكلّف ولا يتوجّه خطاب خاصّ أو تكليف مستقلّ إلى كلّ أحد، فلا يشترط فيه كون جميع الأفراد واجدآ للشرائط، ولا يعتبر فيه إلّا إحتمال إنبعاث طائفة من المكلّفين وإنزجارهم بالبعث والزجر في الأعصار والأمصار.


المطلب الخامس: علاقة بحث تعلّق الأمر بالطبيعة والخطابات القانونية

من المسائل التي تساعد على فهم نظرية الخطابات القانونية هي مسألة أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟ ومحلّ البحث حول علاقة هذا البحث بالخطابات القانونية فهل أنّ القول بالخطابات القانونية ينسجم مع القول بأنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالأفراد، أو أنّه يوافق مع القول بأنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع؟

وقبل الجواب على هذا السؤال، لا بدّ أولا أن نوضّح محلّ النزاع في هذه المسألة :

قال المحقّق النائيني(رحمه الله) في الفوائد :

والذي يمكن أن يكون محلّ النزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول: هو أن يكون النزاع في سراية الأمر بالطبيعة إلى الأمر بالخصوصيات ولو على النّحو الكلي، أي خصوصية ما بحيث تكون الخصوصية داخلةً تحت الطلب تبعآ، فالقائل بتعلّق الأحكام بالأفراد يدّعى السّراية والتبعيّة، والقائل بتعلّق الأحكام بالطبائع يدّعي عدم السراية وأنّ المأمور به هو الطبيعة المعرّاة عن كلّ خصوصيّة، أي الساذجة الغير الملحوظ معها خصوصيّة أصلا ولا يسري الأمر إلى الخصوصيّات بوجه من الوجوه.

هذا، وقد يعتقد السيّد الإمام (قدس سرّه): أنّ محطّ البحث هنا ليس في تعلّق الأحكام بالكلّي الطبيعي أو أفراده ممّا هو المصطلح في المنطق؛ فإنّ الماهيّات الإعتباريّة المخترعة كالصلاة والحجّ ليست من الكلّيّات الطبيعيّة، ولا مصاديقها مصاديق الكلّي الطبيعي، وليست موجودة في الخارج؛ لأنّ المركّب الإختراعي لا تقع تحت أيّ مقولة من المقولات العشر؛ بل المراد من الطبيعي هاهنا هو العنوان الكلّي، سواء كان من الطبائع الأصيلة أم لا.[1]

وعلى أيّ حال، بقطع النظر عن هذا الإختلاف، يطرح سؤال هو: هل أنّ الشارع حينما يأمر بشيء يأمر بطبيعة ذلک الشيء أو أنّه يأمر الأفراد مباشرةً؟

قد إختلف الأصوليون في ذلک: فمنهم من بنى الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في المسألة الفلسفية، أي أصالة الوجود أو الماهية، فقال إن بنينا على القول بأصالة الماهية فحينئذ يكون متعلّق الأوامر والنواهي هو الطبيعة، وأما إن قلنا إنّ الأصالةَ للوجود فحينئذ تكون الأوامر والنواهي متعلّقةً بالأفراد.[2] ومنهم


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 64.

2 ـ كفاية الأصول (طبع آل البيت) : 139.

من بنى المسألة على مسألة هل أنّ الكلّي موجود بوجود أفراده أو لا؟ بمعنى هل تسري الإرادة للخصوصيّات اللاحقة للطبيعة في الخارج أو تقف على نفس الطبيعة؟[1] ومنهم بنى المسألة على البحث اللغوي حيث تشبّث بالتبادر في إثبات تعلّقها بالطبائع، فهل يستفاد من نفس الدليل تعلّق الأمر بالطبيعة أو بالأفراد؟[1] إلى غير ذلک.

وقد ذهب المشهور إلى أنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة بما هي حاكية عن الأفراد في الخارج. قال المحقّق الخوئي(رحمه الله) في المحاضرات :

إنّ متعلّق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّية التي يمكن إنطباقها على الأفراد والمصاديق الخارجية بشتّى ألوانها وأشكالها.[3]

هذا، ويذهب الإمام الخميني (قدس سرّه) إلى أنّ الأوامر والنواهي متعلّقةً بالطبائع، بمعنى أنّ الآمر قبل تعلّق أمره بشيء يتصوّره بكلّ ما هو دخيل في غرضه، ويبعث المكلّف نحوه ليوجده في الخارج، فإذا لم تكن للخصوصيّات الفرديّة دخالة في غرض الآمر لا يمكن أن يبعث نحوها، لأنّ البعث تابع للإرادة التشريعيّة التابعة للمصالح، وتعلّقها بما هو غير دخيل في تحصيلها ممتنع، كتعلّقها إبتداء بأمر بلاغاية.[4]

ثمّ إنه يصرّح (قدس سرّه) بأنّ الأمر يتعلّق بالطبيعة من دون ملاحظة الحكاية عن الخارج. يقول (قدس سرّه) في المناهج :

إنّ الطبيعة لا يعقل أن تكون مرآةً لشيء من الخصوصيّات الفرديّة اللاحقة لها في الخارج، ومجرّد اتّحادها معها خارجآ لا يوجب الكشف والدلالة، فالآمر إذا


1 ـ نهاية الأفكار :1 384 386.

2 ـ الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 107.

3 ـ محاضرات في أصول الفقه (طبع دار الهادى) :4 169.

4 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 65.

أراد توجيه الأمر إلى الطبيعة لا بدّ من لحاظها في نفسها، وإذا أراد الأمر بالأفراد لا بدّ من لحاظها: إمّا بعنوان إجماليّ، وهو مباين لعنوان الطبيعة في العقل، وإمّا تفصيلا مع الإمكان، وهو أيضآ غير لحاظ الطبيعة؛ فإنّ تصوّر الأفراد غير تصوّر الطبيعة، ضرورة أنّ تصوّر الخاصّ الجزئيّ من شئون القوى النازلة للنفس، وتعقّل الطبيعة من شئون العاقلة بعد تجريد الخصوصيّات، فربّما يتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبيعة و بالعكس.[1]

وفي الأخير يقول: إنّ متعلّق الأحكام ليس الوجود الخارجيّ، لأنّ تعلّق الحكم بالوجود الخارجيّ أو الإيجاد بالحمل الشائع لا يمكن إلّا في ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد المتحقّق تحصيل للحاصل، كما أنّ الزجر عمّا وجد خارجآ ممتنع، ولا الوجود الذهنيّ بما هو كذلک، لأنّه غير ممكن الإنطباق على الخارج، فلا محالة يكون المتعلّق نفس الطبيعة، لكن لما كانت الطبيعة لا يمكن أن تصير متعلّقةً لحكم إلّا أن تصير متصوّرةً، والتصوّر هو الوجود الذهنيّ، فلامحالة يكون ظرف تعلّق الحكم بها هو الذهن، فالطبيعة متعلّقة للحكم في الذهن، لا بما هي موجودة فيه، ولا بما هي موجودة في الخارج، ولا بما هي مرآة للوجود.[2]

إذآ، وبعد أن تبيّن لک الأمر، نقول إنّ هذين البحثين يختلفان موضوعآ؛ فإنّ ما تتعلّق به الأوامر والنواهي غير الموضوع الذي تتعلّق به الخطابات القانونية؛ فإنّ الموضوع الذي يتعلّق به الأمر والنهي هو نفس الطبيعة المأمور بها وهي الصلاة مثلا، وأما الخطابات القانونية فالخطاب فيها ليس في متعلّق التكليف، بل المدار في ما يرتبط بالموضوع والمخاطب، فيبحث فيه عن كيفية إلقاء الشارع لخطاباته وكيفية جعله وتقنينه.

أضف إلى ذلک أنّ القول بكون الخطابات قانونيةً تتوقّف على القول بأنّ الأمر


1 ـ نفس المصدر.

2 ـ المصدر :2 130.

يتعلّق بالطبيعة فيدعى أنّ الخطاب واحد والإنشاء واحد، ولا تنحلّ الخطابات العامّة إلى خطابات متعدّدة بعدد نفوس المكلّفين إذا يتعلّق ذلک الخطاب بالطبيعة. وأما لو قلنا إنّ الأمر لا يتعلّق بالطبيعة فلا يمكن أن يقال بكون الخطابات قانونيةً. وبكلمة أخرى، إنّه لو قلنا إنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد فحينئذ لا يمكن أن نقول بأنّ الخطابات قانونية.


المبحث الثاني: الخطابات القانونية عند تلامذة السيّد الإمام (قدس سرّه)

ثمّ إنّه لا بأس بأن نشير إختصارآ إلى إنعكاس هذه النظرية في كتب المحقّقين الأفاضل من تلامذة الإمام الخميني (قدس سرّه) وإن إختلفوا تجاه هذه النظرية، فمنهم الفقيه الاُصولي الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(رحمه الله) الذي يؤكّد على ثبوتها ومنهم من إستشكل على هذه النظرية كآية الله جعفر السبحاني التبريزيحفظه الله وآية الله محمّد المؤمن القمي حفظه الله.


المطلب الأوّل: الخطابات القانونية عند الفقيه الأصولي الشيخ الفاضل اللنكراني(رحمه الله)

يقول سماحته(رحمه الله) في كتاب الدراسات :

إنّ الخطابات الشرعيّة خطابات كلّيّة متوجّهة إلى عامّة المكلّفين، بحيث يكون الخطاب في كلّ واحد منها واحدآ والمخاطب متعدّدآ حسب تعدّد المكلّفين، والمصحّح لهذا النوع من الخطاب العامّ إنّما هو ملاحظة حال نوع المخاطبين دون كلّ واحد منهم، فإن كانوا بحسب النوع قادرين بالقدرة العقليّة والعاديّة صحّ خطاب الجميع بخطاب واحد، ولا يكون عجز البعض عقلا أو عادةً موجبآ لإستهجان الخطاب العامّ بعد عدم خصوصيّة مميّزة للعاجز، وهكذا بالنسبة إلى العاصي والكافر، فإنّ المصحّح لتوجيه الخطاب العامّ الشامل للعاصي

وللكافر أيضآ إنّما هو إحتمال التأثير بالنسبة إلى النوع وإن علم بعدم تأثيره بالنسبة إلى بعض المخاطبين.[1]

ثمّ إنّه(رحمه الله) يؤكّد على تلک النظرية في موضع آخر ويقول :

وهناک قرينة مهمّة على عدم إنحلال الخطابات العامّة مثل: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)[2] وهي أنّ من خالفها في مقام العمل نعبّر عنه بالعاصي، وهو عبارة عمّن توجّه إليه الخطاب ولكنّه خالف التكليف، ومن لا يتوجّه إليه التكليف لا ينطبق عليه عنوان العاصي، فنستكشف من ذلک العنوان أنّ العصاة مكلّفون بها كالمطيعين، وبعد كون الآمر هو الباري تعالى الذي يكون عالمآ بمخالفة العصاة، فإن قلنا بإنحلالها يكون تكليف العصاة وبعثهم لغوآ، فتوجّه التكليف إليهم قرينة على عدم إنحلال الخطابات العامّة. وهكذا في الكفّار؛ إذ تتحقّق قاعدة فقهيّة بأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وتخصيص بعض الخطابات العامّة بالمؤمنين مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[3] يكون بعنوان التجليل لهم أو لعلل أخرى؛ إذ الحقّ أنّ الكفّار مكلّفون بجميع الفروع، فإن قلنا بإنحلال الخطابات العامّة يكون الخطاب الشخصي بالنسبة إليهم لغوآ، فلا بدّ من الإلتزام بعموميّتها وعدم إنحلالها، سيّما بعد عدم إنحصار الكفّار والعصاة بمنطقة خاصّة أو لسان خاصّ أو قبيلة خاصّة.[4]

والمتلخّص: أنّ الأوامر الكلّية القانونية لا تنحلّ إلى خطابات شخصية وأوامر متعدّدة فردية، بحيث كان لكلّ مأمور خطاب مستقلّ مشروط بشرائطه، والوجه فيه لزوم مفاسد كثيرة مذكورة في محلّه، بل هي أمر واحد وقانون فارد ثابت على


1 ـ دراسات في الأصول :3 380 381.

2 ـ سورة البقرة: 42.

3 ـ نفس السورة: 183.

4 ـ دراسات في الأصول :2 211.

الجميع، ولا يكون مشروطآ بثبوت القدرة لكلّ فرد فرد. وعليه فالعجز في بعض الأفراد لا يوجب سقوط الأمر الكلّي وإرتفاع القانون العامّ.[1]


المطلب الثاني: الخطابات القانونية عند الفقيه المحقّق الشيخ السبحاني حفظه الله

يقول سماحته حفظه الله: إنّ الخطاب على قسمين :

تارة، يكون من الشخص إلى الشخص وحده، ففي مثله يشترط وراء القدرة العقلية، كون مورد النهي، ممّا يبتلى المكلّف أو وجود الداعي إلى ارتكابه.

وأُخرى، يكون من مقام إلى أُمّة بعنوان: «الناس» و«المؤمنين» و«المواطنين» إلى غير ذلک فليس هناک خطابات وإنبعاث، بل هناک خطاب واحد متعلّق بالعنوان حجّة في حقّ الكلّ ممّا رآه أو سمعه ووقف على شموله له.

والخطابات القانونية سواء كانت من مصدر الوحي، أو من مقام بشري كلّها من هذا القبيل، فليست هناک خطابات ولا إرادات في لوح المكلّف لا حقيقةً ولا إنحلالا، وإنّما الموجود وجود خطاب وبعث واحد متعلّق بالعنوان العام بحيث يعدّ حجّة لكلّ من ينطبق عليه العنوان. هذا، والعرف ومجلس الشورى الإسلامي ببابک، وقبلهما وجدانک إذا دعوت أهل المسجد إلى إنجاز عمل، فهل ترى من نفسک تعدّد الإرادة وإنحلال الخطاب بالنسبة إلى كلّ واحد؟

ومن هنا يتغيّر ملاک صحّة الخطاب؛ فإنّ ملاكها إذا كان الخطاب شخصيآ هو وجود القدرة العقلية والعادية في كلّ فرد، وأمّا ملاكها إذا كان قانونيآ فيكفي وجودهما في مجموعة كبيرة منهم. فعندئذ يصحّ الخطاب الكلّي العام ويكون الخطاب شاملا لكلّ الأفراد قادرها وعاجزها، متمكّنها عادةً وغير متمكّنها، واجدها للداعي وفاقدها، إذا كان الغالب قادرآ ومتمكّنآ وذات داع إلى الفعل أو


1 ـ تفصيل الشريعة، (الطهارة) :3 384.

إنصراف عنه. غاية الأمر يكون العجز الشخصي عذرآ لدى العقل. وهذا لا بمعنى سقوط الخطاب أو التكليف عنه، بل الخطاب والتكليف بالصورة القانونية باقية، غاية الأمر جهل المكلّف وعجزه عذر قانوني في مقابل الحجّة القائمة فيقدّم عليها.[1]


المطلب الثالث: الخطابات القانونية عند الفقيه الخبير الشيخ محمّد المؤمن حفظه الله

إنّ سماحته حفظه الله قد أوضح مسلک المشهور في بادء الأمر ثمّ بين ما تلقّاه من أستاذه الإمام الخميني (قدس سرّه) وإليک لفظه :

لا ريب في أنّ قوام التكليف الشّخصي الموجّه إلى شخص خاصّ بلحاظ أنّ الغرض منه إنبعاثه، بإحتمال إنبعاثه، إذ الإنبعاث غاية له، والغاية علّة فاعليّة الفاعل، فلا بدّ من إحتمال ترتّبه في صدور ذيها، وعليه فلو علم المولى بعدم إنبعاث العبد من بعثه لما أمكن صدور البعث الجدّي منه. وأمّا التكليف القانوني الموجّه الى أشخاص كثيرين داخلين تحت عنوان واحد فظاهر كلماتهم أنّه أيضآ مشروط بشرائط الخطاب الشّخصيّ، وكان قوله (صلي الله عليه وآله): «يجب على كلّ مسلم صلاة الظهر» مثل بمنزلة أن يخاطب كلّآ منهم بالخصوص بهذا الخطاب، فيعتبر في توجّه هذا الخطاب العامّ إلى كلّ منهم ما يعتبر فيه لو إنفرد بالخطاب، ولذلک قالوا : بعدم فعليّة الخطاب بالنسبة إلى الخارج عن محلّ الإبتلاء، وإستتبع ذلک عدم منجّزيّة العلم الإجمالي بما يكون بعض أطرافه خارجآ عن الابتلاء.

هذا ظاهر كلمات الأصحاب، إلّا أنّ الحقّ إختلاف مبادىء الخطابات القانونيّة والشّخصية، فلا يعتبر في القانون إلّا إحتمال إنبعاث طائفة من المكلّفين، وإن علم بعدم إنبعاث طائفة أخرى عصيانآ أو عذرآ، فالخطاب القانونيّ متوجّه حتّى إلى


1 ـ المحصول في علم الأصول :3 492.

العاصي والمعذور أيضآ، والشّاهد عليه ملاحظة سيرة العقلاء في ذلک، ومعلوم أنّ الشّارع لم يكن له في جعل الأحكام سنّة حديثة، مضافآ إلى أنّهما لو إتحدا في الشرائط لزم منه عدم تكليف العصاة والكفّار، إذ المولى عالم بعدم إنبعاثهم ـوالإنبعاث هو الغرض المقوّم للخطاب الشّخصي ولزم منه أيضآ عدم صحّة جعل الأحكام الوضعيّة في الخارج عن محلّ الإبتلاء، أمّا على القول بإنتزاعها عن التكليفية فواضح، وأمّا على غيره فلأنّ الوضع جعله مقدّمة لجعل التكليف، فجعله حيث لا تكليف لغو، فمنه يتبيّن أنّه لا بأس بشمول التكليف القانوني للعاجز عن الإطاعة أيضآ.[1]


المبحث الثالث: إشكاليات الخطابات القانونية

كان الكلام إلى هنا في مقام التعريف والتحليل، فعرفنا معنى النظرية ومواصفاتها وما لها من خصوصيات، ولكن هذا كلّه لا يوصلنا إلى مقام التحقيق والتدقيق، وبغية أن نتبين تلک الفكرة بشكل كامل ينبغي لنا أن نستعرض الإشكاليات التي طرحت بشأن الموضوع وساعدت في رفع كثير من التساؤلات والإبهامات حول النظرية، ليكون الناظر على بصيرة ويتبيّن مبلغ صحّة هذا الإتجاه. ثمّ نذكر ما أورد شيخنا الأستاذ حفظه الله على هذا المقال.


المطلب الأول: إيرادات المحقّقين على هذه النظرية والإجابة عنها

الإشكالية الأولى: إنّ الإهمال وإن كان في مقام الإثبات أمر ممكن، ولكنّه لا يتصوّر ذلک في مقام الثبوت بمعنى عدم علم المولى بما يطلبه من المكلّف؛ فانّ اللفظ وإن كان غير ناظر إلى حالات المكلّفين إلّا أنّ المولى غير غافل عن


1 ـ تسديد الأصول :1 337.

حالات نوعهم من واجدي القدرة وغير واجديها، وواجدي العلم وغير واجديه، والمبتلين بالمزاحم وغير المبتلين. فيرى موقف المكلّف من إبتلائه بالحجّتين مع عدم سعة الوقت إلّا لواحدة منهما، وحينئذ لو سئل المولى عن إنبساط طلبه وشموله لصورة التزاحم، فإن أجاب بالإيجاب، لزم منه الأمر بغير المقدور بالنتيجة، وهذا ما لا يرضى به أحد؛ وإن أجاب بالسلب، فقد رفع يده عن إحدى الحجّتين تعيينآ أو تخييرآ، وهذا ينتج عدم التحفظ على كلا الأمرين، وهو خلاف مختاره (قدس سرّه).

وإن شئت قلت: إنّ اللفظ و إن كان لا يدلّ على شرطية قدرة المكلّف أو علمه بالمكلّف به باعتبار أنّ الحاكم بذلک هو العقل ولكن طلب المولى مقصور على ما إذا وجد فيه هذان الشرطان.[1]

هذا وأجاب عنه السيّد الامام (قدس سرّه) في التهذيب: بأنّه ليس معنى عدم الإهمال الثبوتي أنّ الحاكم حين الحكم يلاحظ جميع الحالات الطارئة على التكليف والمكلّف، ويقايس التكليف مع سائر تكاليفه جمعآ ومزاحمةً؛ ضرورة بطلان ذلک؛ بل المراد من عدم الإهمال هو أنّ الآمر بحسب اللبّ إمّا أن تتعلّق إرادته وحكمه بنفس الطبيعة بلا قيد فتكون الطبيعة بنفسها تمام الموضوع، وإمّا أن تتعلّق بها مع قيد أو قيود فيكون موضوعها المقيّد. وأمّا الحالات الطارئة للمكلّف أو للتكليف بعد جعله، فهي ليست دخيلة في الموضوع حتّى يتقيّد بها أو يكون الحاكم ناظرآ إليها، فالحاكم في مقام الحكم لا ينظر إلّا إلى موضوع حكمه وكلّ ما هو دخيل فيه لا غير.[2]

ولكن ينتقده شيخنا الأستاذ حفظه الله بأنّ هذه الإجابة مصادرة بالمطلوب وأنّ


1 ـ المحصول في علم الاصول :2 86.

2 ـ تهذيب الاصول :1 446.

المستشكل لايرضى عن هذا الجواب؛ فإنّ الايراد لا يتوجّه إلى ما هو دخيل في الموضوع، بل هو راجع إلى الشرائط التي تحفّ بالمكلّف من الإبتلاء والقدرة وما شابه ذلک، فأهملها المولى ثبوتآ؛ إلّا أن يراد ما يمكن أن يستفاد من المناهج، وهو: أنّ ما هو المعتبر دخله في أصل الغرض ينبغي أن يؤخذ في متعلّق الأمر، وما لم يكن دخيلا في غرض المولى حين الجعل، فلا يلزم عليه أن يلحظه في متعلّق أمره.[1] ومن ثمّ، ليست الحالات الفردية الطارئة على المكلّف أو التكليف بعد جعله دخيلةً في الموضوع حتّى يتقيد الحكم بها أو يكون الحاكم ناظرآ إليها.

هذا والإرادة التشريعة ليست إرادةً شخصيةً تتعلّق بالأفراد فضلا عن العوارض والحالات بل الإرادة قانونية وغايتها ليست إنبعاث كلّ واحد واحد، بل الغاية فيه بحيث تصير مبدأ له هي أنّ هذا التشريع بما أنّه تشريع قانونيّ لا يكون بلا أثر، فإذا إحتمل أو علم تأثيره في أشخاص غير معيّنين من المجتمع في كافّة الأعصار والأمصار، تتحقّق الإرادة التشريعيّة على نعت التقنين، ولا يلزم فيها إحتمال التأثير في كلّ واحد، لأنّ التشريع القانونيّ ليس تشريعات مستقلّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف، حتّى يكون بالنسبة إلى كلّ واحد بعثآ لغرض الإنبعاث، بل تشريع واحد متوجّه إلى عنوان منطبق على المكلّفين، وغرض هذا التشريع القانونيّ لا بدّ وأن يلحظ بالنسبة إليه، لا إلى كلّ واحد مستقلا.[2]

الإشكالية الثانية: لا إشكال في أنّ الحكم لا يتعلّق بالعنوان بما أنّه موجود في الذهن، بل يتعلّق به بما أنّه عبرة إلى الخارج، فوجوب الحجّ في قوله تعالى: (للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[3] تعلّق بعنوان المستطيع لا بما أنّه عنوان كلّي موجود في الذهن، بل تعلّق به بما أنّه مشير إلى ما في الخارج، وحينئذٍ


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 61.

2 ـ نفس المصدر :2 61.

3 ـ سورة آل عمران: 97.

يكون المتعلّق حقيقةً هو الأفراد، ولا معنى للإنحلال إلّا هذا، وبه يندفع ما إستدلّ به من «لغويّة دعوة كلّ واحد بخطاب مستقلّ بعد كفاية خطاب واحد»، وذلک لأنّه لا لغويّة في البين إذا كان مراد الشارع هو الأفراد؛ لأنّه لا طريق حينئذٍ لتوجيه الخطاب إليهم إلّا بتوجيهه إلى عنوان كلّي مشيرآ إليهم على نحو الإنحلال.

وأمّا قضيّة إستهجان الخطاب إلى من لا ينبعث منه ففيها: أنّ إتمام الحجّة على جميع العباد يقتضي شمول الحكم وتعميمه لجميع المكلّفين في مرحلة الإنشاء، كما أنّه في مرحلة الإبلاغ والفعليّة أيضآ يعمّ جميع المكلّفين لإتمام الحجّة ولأن يهلک من هلک عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.[1] فيصحّ الخطاب إلى من لا ينبعث منه بإتمام الحجّة عليه وإن لم ينبعث منه.

هذا، ولا يخفى أنّه لم يتصوّر توجّه الحكم إلى الأفراد مع التحفّظ على عدم الإنحلال، بيد أنّ المدّعى هو وحدة الخطاب والإنشاء فقط، لا وحدة المنشأ، ويعتقد السيّد الإمام (قدس سرّه) بإنّ المنشأ هو الحكم على كلّ مكلّف، حيث يصرّح في أنوار الهداية بأنّ الخطاب واحد، والإنشاء واحد، والمنشَأ على كلّ مكلّف من غير توجّهه خطاب خاصّ أو تكليف مستقلّ إلى كلّ أحد.[2] وذلک لأنّ العنوان الكلّي وإن كان موضوعآ للاحكام إلّا أنّ الأفراد وطوارئهم غير مقصودة عند جعل الحكم إلّا أنّ المنشأ ينطبق قهريآ على المكلّفين.

هذا، والمراد من العناوين هي نفس الطبيعة، لكن لمّا كانت الطبيعة لا يمكن أن يتعلّق بها الحكم إلّا بتصورها في الذهن فيكون ظرف تعلّق الحكم هو الذهن، لكن لا بما هي موجودة فيه حتّى يصير كلّيآ عقليآ ولا بما هي موجودة في الخارج ولا بما هي مرآة للوجود الخارجي، بل بما هي هي بمعنى أنّ التعلّق


1 ـ أنوار الأصول :1 451.

2 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 216.

بالطبيعة وسيلة لبعث العبد إلى إيجادها في الخارج.

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في المناهج: إنّ متعلّق الأحكام ليس الوجود الخارجيّ، لأنّ تعلّق الحكم بالوجود الخارجيّ أو الإيجاد بالحمل الشائع لا يمكن إلّا في ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد المتحقّق تحصيل للحاصل، كما أنّ الزجر عمّا وجد خارجآ ممتنع، ولا الوجود الذهنيّ بما هو كذلک، لأنّه غير ممكن الإنطباق على الخارج، فلا محالة يكون المتعلّق نفس الطبيعة، لكن لمّا كانت الطبيعة لا يمكن أن تصير متعلّقةً لحكم إلّا أن تصير متصوّرةً، والتصوّر هو الوجود الذهنيّ، فلا محالة يكون ظرف تعلّق الحكم بها هو الذهن، فالطبيعة متعلّقة للحكم في الذهن، لا بما هي موجودة فيه، ولا بما هي موجودة في الخارج، ولا بما هي مرآة للوجود.[1]

وأمّا الجواب عن إستهجان الخطاب إلى من لا ينبعث منه بإتمام الحجّة‌العباد، ففيه: أنّ لازم ذلک هو التفكيک في التكليف بين ما أذا أطاع العبد فيكون الحكم حجّةً واقعآ في حقّه، وبين ما إذا عصى فيكون الحكم لغرض إتمام الحجّة عليه وهو غير وجيه؛ فإنّ بيان المولى إمّا أن يكون بعنوان الحجة أو لإتمام الحجّة على العباد ولا معنى للتفصيل بينهما. هذا مضافآ إلى أنّ إتمام الحجّة يصبّ فيما إذا كان هناک إنبعاث من العبد وأما إذا لا يريد المولى إنبعاث العبد بشخصه فلا يوجد موضوع لإتمام الحجّة عليه؛ فإنّه أشار إليه السيّد الإمام (قدس سرّه) في التهذيب قائلا: إنّ ما هو موضوع الإحتجاج من الموالي على العبيد هو صدور البعث منهم بداعي إنبعاثهم، وأمّا البعث لا بهذا الداعي فليس العقل حاكمآ بلزوم إمتثاله، كما لو فرضنا أنّ العبد إطّلع على أنّ داعيه هو الإمتحان وكشف الحال.[2]

الإشكالية الثالثة: إنّه يلزم على القول بالخطابات القانونية عدم إمكان قصد


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 130.

2 ـ تهذيب الأصول :1 441.

الأمر في التعبديات للمكلّف؛ لأنّه حينئذٍ لم يتعلّق الأمر بشخص المكلّف فكيف يقصده، بيد أنّه لا إشكال ولا كلام في إمكان قصد الأمر لكلّ مكلّف ولازمه أن يكون المتعلّق أشخاص المكلّفين في الواقع، ولكن بإندراجهم في عنوان واحد بإنشاء واحد وبخطاب واحد؛ وهذا نظير ما إذا قال البائع: «بعت هذه المائة» الذي لا إشكال في إنحلاله إلى مائة تمليک، ولذلک لو كان بعضها ملكآ لغير البائع صار البيع باطلا أو فضوليآ بالنسبة إليه مع بقائه على صحّته بالإضافة إلى غيره، وليس هذا إلّا من باب تعدّد المنشأ وإن كان الخطاب والإنشاء واحدآ.[1]

وأمّا الجواب فإنّه بناءً على مختاره (قدس سرّه) لا يعتبر فيها قصد الأمر المتعلّق بالمكلّف نفسه، بل يمكن حسب فهم العرف، قصدُ إمتثال الأمر الكلّي الشامل لجميع المكلّفين قانونآ، من غير حاجة إلى أزيد من ذلک في تحقّق قصد الأمر وإنتساب العمل إلى ألله تعالى. وعليه يكون إندراج المكلّفين تحت عنوان واحد وبإنشاء واحد هو نفس ما إدّعاه السيّد الامام (قدس سرّه) في رأيه فلا يكون هذا إشكالا على مسلكه، بل بالإمكان أن يعدّ هذا الكلام شاهدآ لنظرية الخطابات القانونية.

وتوضيح ذلک هو أنّ الخطاب القانوني لا يلاحظ فيه الأفراد لا إجمالا ولا تفصيلا، إلّا أنّه ينطبق قهريآ على الأفراد فيرتبط الخطاب بكلّ واحد منهم، وأما إن لم يلتفت العبد إلى هذا الإنطباق فلا يرتبط العنوان الكلّي بالمكلّف نفسه؛ إذ الخطاب توجّه إلى العنوان الكلّي لا إلى المكلّف الخاص فكيف يمكن للمكلّف قصد الأمر.

الإشكالية الرابعة: إنّ ما أفاده (قدس سرّه) خلط بين قيود الموضوع والمتعلَّق، ففي المتعلّق، الأمر كما ذكره، فإنَّ حُرمة شرب طبيعة الخمر ثابتة وإن لم يكن جميع أفراده تحت القدرة أو موردآ للإبتلاء، بل لو لم يكن الموجود إلّا خمرآ واحدآ، مع


1 ـ أنوار الأصول :1 451.

ذلک تكون الحرمة فعليّةً، وهذا بخلاف موضوع التكليف في الواجبات العينيّة؛ فإنّ الإلتزام بأنّ الموضوع هو طبيعة المكلّف من دون لحاظ الأفراد منافٍ للإلتزام بعينيّة التكليف، بل يلزم منه كون الواجبات كفائيّةً بأجمعها؛ إذ التكليف فيها على طبيعي المكلّف ولا خصوصية لأي فرد خاص، مع إنّه لا معنى للواجب العيني إلّا أنّ كلّ واحدٍ واحدٍ مكلّف بالفعل بمعنى توجّه التكليف إلى كلّ شخص في الواجبات العينيّة؛ ولو من جهة إنطباق عنوان كالمستطيع عليه. ونتيجة ذلک : الإنحلال بحسب تعدّد الموضوع، والمدَّعى إشتراط الموضوع بالقدرة، فإنّ العاجز غير قابل للبعث والزجر.

وبعبارة أخرى: إنّ البعث والزجر في الواجبات العينيّة متعلّقان بكلّ شخص شخص، لا بالطبيعة المهملة، فلا بدّ من إمكان الإنبعاث لكلّ واحد واحد لا للطبيعة المهملة، فمع عجز المكلّف عن الإمتثال يخرج عن موضوع التكليف؛ لعدم إمكان الإنبعاث بالنسبة إليه، ولذا بني في بحث الترتّب على إشتراط التكاليف بالقدرة بلا كلام.[1]

ويظهر جوابه ممّا تقدّم من بيان كيفية فعلية الأحكام بالنسبة إلى جميع المكلّفين بنحو لا يلزم منه الإنحلال وتعدّد الخطاب، فيتوجّه التكليف إلى فرد فرد من المكلّفين؛ فإنّ الشارع لَمّا جعل خطابات الشريعة بصياغة القانون لم ينظر إلى الأفراد مطلقآ، فلا يمكن الإيراد عليه بإنقلاب العينيات بالكفائيات. نعم، إنّ العقل يطبّق التكليف قهرآ على المكلّفين فما لم يسقط عن المكلّف بإتيان الغير فهو العيني وإلّا يكون كفائيآ. وبكلمة أخرى، قد تُعرف الميزة بينهما من كيفية التقنين وما هو دخيل في ملاک الحكم وأنّه هل يحصّل بفعل الجميع أو بفعل البعض؟ فإنّ المولى تارةً يقنّن الحكم بصياغة لايسقط خطابه عن ذمّة أحد إلّا


1 ـ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 129.

بإمتثاله نفسه ولا يكفيه عمل الغير في إسقاطه؛ وتارةً يجعل الحكم بحيث يسقط الحكم الكلّي عن ذمة الآخرين المنطبق عليهم قهرآ، في ما إذا أتى به واحد أو طائفة منهم، فالأول سمّي بالعيني والثاني هو الكفائي. وبعبارة ثالثة، إنّ كيفية تعلّق الخطاب بالطبيعة في الواجب العيني تختلف عن الواجب الكفائي، بحيث إنّ الخطاب يتعلّق بالطبيعة فتطبّق قهرآ في الأول على كلّ فرد فرد من مصاديقها، مع أنّ الثاني يتعلّق بها من جهة إمكان تحقّقها بوجود واحد من الأفراد الخارجي لا على التعيين.

الإشكالية الخامسة: إنّ مفاد هذه النظرية من أنّ الأحكام الشرعية غير مقيّدة بالقدرة، لا شرعآ ولا عقلا، وأن يكون العاجز معذورآ بحكم العقل لايمكن الإلتزام به؛ فإنّه كيف يمكن للحكيم أن يوجّه حكمه إلى العاجز على نحو الإطلاق مع إلتفاته بعجزه؟ ليس هذا تكليفآ بما لا يطاق ومخالفآ لما ورد من الآيات والرّوايات في هذا المقام، كقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَها)[1] وكقول الصادق (عليه السلام): «الله أكرم من أن يكلّف ما لا يطيقون، والله أعزّ أن يكون في سلطانه ما لا يريد»[2] وبالجملة، إنّ القدرة من الشرائط العامّة للتكليف ويدلّ عليه :

أولا، إنّ الإطلاق وعدم التقييد بالقدرة من جانب الحكيم قبيح عقلا؛ فإنّ الحكيم إذا إلتفت إلى العاجز كيف يمكن أن يكلّفه مطلقآ؛ فإنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عليه، وترک ذكرها في الخطاب من باب الوضوح وعدم الحاجة إلى البيان عقلا.

وثانيآ، الآيات والروايات الواردة في هذا المجال، فمن الآيات قوله تعالى :


1 ـ سورة البقرة: 286.

2 ـ أصول الكافي :1 160.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[1] وقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)[2] وقوله: (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِينآ)،[3] ومن الرّوايات أيضآ ما روي عن النبي (صلي الله عليه وآله): «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما إستطعتم».[4] هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الإنشائي فيمكن أن يقال بعدم كونه مقيّدآ بالقدرة، وكذا الكلام بالنسبة إلى العلم فإنّه من شرائط الوجوب بالنسبة إلى مقام الفعليّة وإن كان الحكم الإنشائي مطلقآ من هذه الجهة شاملا للعالم والجاهل.[5]

ولا يخفى أولا، أنّ مورد الخطاب في الخطابات القانونية عنوان جامع كلّي ينطبق على جميع الأفراد لبّآ، فلا يختصّ بالعاجز ولا الناسي ولا الجاهل مباشرآ حتّى يلزم المحال، بل شمولية الحكم لهم إنّما يكون لأجل الإنطباق القهري الحاصل من صدق العنوان العام المأخوذ في الدليل عليهم. وعليه يمكن التفكيک بين توجه الخطاب وشموله قهريآ. فما هو القبيح إنّما هو الخطاب المتوجّه إلى العاجز بينما أنّ المدعى هو ضرب القانون بشكل عام فيشمل العاجز والجاهل كما يشمل القادر والعالم قهرآ ولا يلزمه قبح الخطاب إليهم قطعآ.

ثانيآ، ما أشار (قدس سرّه) إليه في التهذيب، وهو: أنّ تصرّف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادته مع كون المشرّع غيره باطل؛ إذ لا معنى لأن يتصرّف شخص في حكم غيره؛ إذ التقييد والتصرّف لا يمكن إلّا للجاعل لا لغيره. نعم، يخصّ للعقل حكم مقام الإطاعة والعصيان، وتشخيص أنّ مخالفة الحكم في أيّ مورد توجب إستحقاق العقوبة وفي أيّ مورد لا توجبه، وليس للعقل إلّا الحكم بأنّ الجاهل


1 ـ سورة الأنفال: 60.

2 ـ سورة البقرة: 184.

3 ـ سورة المجادلة: 4.

4 ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة :3 457.

5 ـ أنوار الأصول :1 452 453.

والعاجز ونظيرهما معذورون في ترک الواجب أو إتيان الحرام من غير تصرّف في الدليل. فظهر أنّ ما يطلب من العقل لإنقاذ الجهّال والعجزة عن لهيب النار يحصل بحكمه بأنّ هؤلاء معذورون في ترک الامتثال، ولا حاجة معه إلى التقييد، لو لم نقل إنّه محال. والذي أوقعهم فيه هو توهّم قبح الخطاب إليهم؛ غافلاً عن أنّ الملاک في الأحكام الكلّية غير الجزئية والشخصية، كما نبّهنا عليه.[1]

نعم، بقيت هنا الآيات التي تدلّ بظاهرها على إشتراط التكليف بالقدرة فما إدعاه (قدس سرّه) خلاف ظهورها كآية (وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَهَا)[2] حيث إنّه يفترض فيها الأفراد بعينه وكآية (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[3] وعليها تصيرالعسر أو الحرج شخصيآ كما زعمه المشهور. ويمكن أن يقال إنّها ترتبط مقام الإمتثال لا بحيث الجعل، فيكون الخطاب بحسب الجعل عامآ يشمل الجميع. نعم، لا يتوقّع في مقام الإمتثال ما لا يسعه الإنسان. وسيأتي الكلام بشأنه في البحوث المقبلة.

الإشكالية السادسة: إنّ النسبة بين الحكم والملاک تكون بمنزلة المعلول إلى العلّة، كما أنّ النسبة بين الحكم والطاعة أو العصيان كذلک، ومن الواضح أنّه لا يعقل قيام الملاک بما لم يتعلّق به الحكم، فعليه لا شکّ في أنّ الملاكات قائمة بأفعال المكلّفين لا بالعناوين، وبما أنّ التكليف والحكم لا ينفکّ عن الملاک، فيثبت أنّ لكلّ فرد تكليفآ مستقلّآ؛ إذ كيف يكون الملاک في ما لا يتعلّق به الحكم لعدم كون المكلّف ملحوظآ في الخطاب القانوني، مع أنّ الملاک يتوفّر في أفعالهم، فالإلتزام بعدم الإنحلال يستلزم تفكيک الملاک عن الحكم وهو محال؛ فإنّ القائل


1 ـ تهذيب الأصول :1 441.

2 ـ سورة المؤمنون: 62.

3 ـ سورة البقرة: 185.

بالخطاب القانوني ذهب إلى عدم صلة الخطاب بالمكلّف وحالاته فيكون الحكم (المعلول) قائمآ بشيء والملاک (العلة) قائمآ بشيء آخر وهذا تفكيک بين العلة والمعلول.

والجواب: انّ الخطابات الشرعيّة جعلت بنحو العموم، والملاک في حسنها، يغاير ما هو الملاک في حسن الخطاب إلى آحاد المكلّفين، فيمكن للمولى إعتبار الحكم بحسب نوع المكلّفين والمصالح و المفاسد النوعيّة لهم لا بحسب الأفراد فيجعل الحكم بنحو الكلّي القانوني الشامل لجميع المكلّفين‌العاجزين منهم. وهذه المصلحة غير قائمة بأفعال المكلّفين، فلا تنحصر علّة الحكم في المصلحة الموجودة في أفعالهم حتّى يلزم منه الإنفكاک بين العلّة والمعلول.

الإشكالية السابعة: إنّ الموضوع في هذه النظريه ما هو؟ إن كان المدّعى هو أنّ الموضوع يكون كلّيآ طبيعيآ فيرد عليه أنّ الطبيعة لا يتعلّق بها الخطاب، وإنّما يتعلّق الخطاب بالأفراد؛ وذلک لأنّ الآثار إنّما تترتّب على الأفراد في الخارج فحسب؛ وإن كان المدّعى هو أنّ العنوان يكون مخاطبآ كعنوان «المؤمن» أو «المستطيع» مثلا فهو أيضآ غير تامّ؛ لأنّ العنوان يكون مشيرآ إلى الخارج، أي به ينظر إلى المعنون الموجود في الخارج، فلا يكون منظورآ فيه؛ لأنّ الحكم لا يتعلّق بالعنوان الموجود في الذهن، بل تتعلّق بما هو موجود في الخارج.

ولكن الجواب كما تقدّم مرارآ أنّه بناءً على هذه النظرية يمكن التحفّظ على وحدة الخطاب والإلتزام بأنّ تلک الإرادة الواحدة المتعلّقة بالخطاب القانوني حيث تعلّق بعنوان عام على نحو اللا بشرط تشمل جميع المكلّفين بالإنطباق. فالموضوع ليس كما ذكره المستشكل بل هو الكلّي الذي ينطبق قهرآ على المصاديق إلّا أنّ المولى لا يلاحظها عند التشريع لا إجمالا ولا تفصيلا.

الإشكالية الثامنة: لا تنتطبق هذه النظرية على طائفة من الخطابات الشرعية

كقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] من دون فرق في ذلک بين القول بأنّ مدلوله هو الحكم الوضعي والإرشاد إلى اللزوم أو أنّ مدلوله هو الحكم التكليفي؛ فبناءً على الأوّل تشير الآية إلى لزوم العقد الذي يتحقّق في الخارج لا في الذهن؛ فإنّ كلّي العقد لا يتّصف باللزوم، بل ما يتّصف به هو كلّ فرد من العقود، وعلي الثاني تدلّ الآية على وجوب الوفاء بالعقد، وحيث إنّ الحكم يتعلّق بالوفاء والمراد من العقد وهو متعلّق الوفاء ليس إلّا شخص العقد وفرده الخارجي، فليس كلّي العقد متعلّقآ لوجوب الوفاء، وحينئذ لا بدّ أن يكون المتعلّق وهو الوفاء هو الفرد لا الكلّي، وإذا كان الوفاء متعدّدآ بتعدّد العقود فيتعدّد الحكم المتعلّق به، وينحلّ لا محالة.

فتحصّل أنّ هذه النظرية لا تكون عامةً ولا تنسجم مع عدة من الخطابات كهذه الآية المباركة؛ فإنّ الخطاب فيها سواء كان المراد منه الحكم الوضعي أو التكليفي، تعلّق بالمصاديق الخارجية لا بالعناوين الكلية فتعدّد بتعدّد العقود الخارجية وإنحلّ لا محالة.

والجواب: أنّ الإشكال نشأ من الخلط بين الموضوع (أي المخاطب) والمتعلّق؛ فإنّ الأول هو المحور الذي ترتكز عليه النظرية بينما أنّ الإستشكال يرتكز على الثاني وهو أجنبي عن مصبّها؛ فإنّ المقصود من آية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[2] بناءً على الخطابات القانونية هو العنوان الكلّي (أي كلّي المكلّف) الذي تعلّق الخطاب به ولكنّه يتكثّر بلحاظ إنطباقه القهري فيشمل الحكم جميع المكلّفين. وبهذا الإنطباق يصحّ توجّه التكليف إليهم، ويختصّ كلّ واحد منهم بالحكم المخصوص به، فيمكن لهم الوفاء بالعقود، ويتمشّى منهم قصد


1 ـ سورة المائدة: 1.

2 ـ نفس السورة: 1.

القربة في العبادات، ويتمّ بذلک حجيّة الحكم بالنسبة إلى الجميع. هذا، وطبيعة المتعلّق أيضآ تلحظ على نحو لا بشرط، لا على نحو بشرط لا أو بشرط شيء، فلم يلحظ فيه كلّ فردٍ فردمن العقود إلّا أنّه تصدق عليها بالتطبيق لا بالمفهوم.

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في جواهر الأصول :

إنّ الخطابات العامّة لا تنحلّ كلّ منها إلى خطابات بعدد نفوس المكلّفين، بحيث يكون لكلّ منهم خطاب يخصّه، بل يكون الخطاب العمومي خطابآ واحدآ يخاطب به العموم، وبهذا يفترق عن الخطاب الخصوصي في كثير من الموارد. وعليه يتصوّر المقنّن القانون الكلّي، ويصدّق بفائدته لهم، فيريد التقنين والجعل، فيوجّه الخطاب إليهم بالعنوان، فمتعلّق الحكم، الكلّي وموضوعه العنوان؛ ففي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] لم يلحظ حال كلّ واحدٍ واحدٍ منهم بنحو العموم لينحلّ إلى خطابات عديدة، بل خطاب واحد متعلّق بالعموم. وكذا جعلت النجاسة على عنوان البول لا على أفراد البول، فكلّما تحقّق العنوان يتعلّق به الحكم.[2]

الإشكالية التاسعة: إنّ هذه النظرية يلزم منها أنّ الخطاب الكلّي ينطبق على المكلّفين مطلقآ، ولوكان عاجزآ عن الإتيان بالمكلّف‌به فالتكليف يكون ثابتآ وفعليآ في حقّه وإن كان معذورآ لعجزه، بينما أنّ البعث والتحريک لايمكن بالنسبة إليه فهو قبيح قطعآ؛ فإنّ حقيقة التكليف هو البعث والزجر، المتحقّقان من داعٍ، والداعي من البعث ليس إلّا الإنبعاث والإنزجار، مع أنّهما يستحيلان من المكلّف العاجز فكيف تتعلّق الإرادة الفعلية به؟ وعليه فلا بدّ من تقييد التكليف بالقدرة حتّى يخرج منه العاجز لعجزه.


1 ـ نفس السورة: 1.

2 ـ جواهر الأصول :3 318.

والجواب: هو أنّ البعث والزجر ليس إلّا في الخطاب الشخصي، وهذا بخلاف الخطاب القانوني فلم يترتّب عليه الإشكال المذكور؛ فإنّه (قدس سرّه) يصرّح بذلک في الجواهر ويقول: إنّ الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلّف وإنبعاثه نحو العمل، وإلّا يلزم في الإرادة الأزلية عدم إنفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى المصلحة العقلائية، ومعلوم: أنّه لا تتوقّف صحّته عندهم على صحّة الإنبعاث من كلّ أحد، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفية،[1] وغاية ذلک هو الإنبعاث والإنزجار بحسب النوع في مقام الإمتثال.

الإشكالية العاشرة: إنّ لازم عدم الإنحلال هو التفصيل في الأحكام الكلّية القانونية بين العمومات والمطلقات؛ لأنّه لا إشكال في إنحلال الخطابات التي صدرت بنحو العموم الأفرادي إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد كما إعترف نفسه به ولا وجه لهذا التفصيل؛ لوضوح أنّ الأحكام لا تختلف بسبب كون الدالّ عليها مطلقآ أو عامآ، فلا فرق بين المطلق والعام الأفرادي من حيث الإنحلال. نعم الفرق بينهما إنّه في العام الأفرادي يكون ذلک بالدلالة المطابقية، وفي المطلق بالدلالة الالتزامية.[2]

والجواب: أنّه لا يخفى الفرق بين الموضوع (الذي وضع عليه الحكم ويتوجّه إليه الخطاب) والمتعلّق (ما تعلّق به الحكم) فما أفاده المستشكل صحيح بالنسبة إلى متعلّقات الأحكام؛ فإنّ الإنحلال في المطلق إنّما صدر بالنسبة إليها. ومن ثمّ يختلف قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)[3] عن قول القائل: «أحل الله كلّ البيع» فتدلّ ألفاظ العموم على تكثير البيوع؛ ومن الواضح، أنّ البيع من متعلّقات الأحكام، لا


1 ـ المصدر :3 322.

2 ـ أنوار الأصول :1 475.

3 ـ سورة البقرة: 275.

من موضوعات الخطاب التي هي مورد البحث في الخطاب القانوني، أي المكلّف الذي تنطبق عليه (أحلّ الله البيع)، فلا دلالة في المتعلّق على التكثير بلحاظ كلّ من يجب عليه الوفاء بالعقد.

فتحصّل أنّ المدّعى هو عمومية الموضوع في الخطاب القانوني، سواء كان الدالّ عليه العموم أو الإطلاق فلا ترتكز النظرية على المتعلّق وإن كان المتعلّق في الخطاب أيضآ، أمرآ كليآ غير مشير إلى الأفراد كما تقدّم توضيحه.

الإشكالية الحادية عشر: قد أفاد (قدس سرّه) في بحث الترتّب أنّ المحال هو طلب الجمع بين الضدّين لا الأمر بالضدّين، وفيه: إذا كان الأمران المتعلّقان بالضدّين مطلقين ولم يكن أحدهما مشروطآ بترک الآخر كان لازمه طلب الجمع، كما إذا قال المولى لعبده: (أنقذ هذا و أنقذ هذا) لأنّ المفروض أنّ لكلّ واحد منهما بعثآ يخصّه، والجمع بين البعثين في آن واحد محال.[1]

والجواب أنّه لايستلزم الجمع بين الطلبين بمحال؛ فإنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بنفس الطبائع المختلفة، من غير نظر إلى الخصوصيات والحالات الطارئة. وعليه إنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف القانونية.

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في التهذيب :

إنّ البحث في الأحكام القانونية والتكليف فيها لم يتعلّق بالفرد المردّد ولا بالجمع حتّى يستلزم التكليف بالمحال، والمفروض أنّ كلّ واحد من الأمرين تامّ في الباعثية، وليس ناظرآ إلى حال إجتماعه مع الآخر؛ فإنّ التزاحم وعلاجه متأخّران عن رتبة الجعل والفعلية. فحينئذٍ، كلّ واحد يقتضي تحقّق متعلّقه وإيجاده في الخارج، إلّا أن يظهر من العبد عذر في ترک إمتثاله، فإذا صرف قدرته في واحد منهما فقد حقّق دعوته بالإمتثال وترک دعوة الآخر عن عذر، وأمّا إذا لم


1 ـ أنوار الأصول :1 478.

يصرف قدرته في شيء منهما فقد ترک دعوة كلّ واحد بلا عذر، فيستحقّ عقابين. وترتّب على ذلک: أنّه لو ترک و إشتغل بفعل محرّم لاستحقّ ثلاث عقوبات؛ لملاک العصيان في كلّ واحد. وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ، فإن إشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترک المهمّ؛ لعدم القدرة عليه مع إشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن إشتغل بالمهم فقد أتى بالمأمور به الفعلي، لكن لا يكون معذورآ في ترک الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترک الأهمّ.

وبالجملة: أنّ العقل يحكم بصرف القدرة في إمتثال الأهمّ؛ كي يكون معذورآ في ترک المهم، ولو عكس لإستحقّ عقوبة على الأهمّ؛ لأنّه تركه بلا عذر، ولكنّه يثاب على المهم لإتيانه، ولو تركهما لإستحقّ عقوبتين، ولو إشتغل بمحرّم لإستحقّ ثلاثة عقوبات.[1]


المطلب الثاني: إيرادات الأستاذ حفظه الله على هذه النظرية

قد ظهر مما تقدّم عدم ورود الإشكاليات المذكورة بشأن هذه النظرية ولكن ناقشها أستاذنا المعظّم حفظه الله بوجوه نتعرّض لها وفق ما يبدو لنا :

الإشكالية الأولى: إنّ تصوير هذا المقال وإن كان ممكنآ ثبوتآ إلّا أنّه (قدس سرّه) لم يبرهن على صدور الخطابات الشرعية بنحو القانون بإقامة دليل سديد له في مقام الإثبات؛ فإنّ العرف يحكم بالإنحلال ويفهم من الخطابات العامة تعدّدها بعدد أفراد الموضوع، بل تُلحظ اليوم في مجلس التقنين الحالات والعوارض الطارئة على الأفراد في مقام الإنشاء ولو إجمالا؛ ولكن لم يعتمد السيّد الإمام (قدس سرّه) في إستحالة ذلک الأمر العرفي والعقلائيدليل وبرهان تطمئنّ به النفس، مع أنّ صرف توفّر الفرق بين الخطاب القانوني والشخصي لايدلّ على أنّ الأحكام الشرعية


1 ـ تهذيب الأصول :1 444.

تكون بشكل القضايا القانونية؛ أللهمّ إلّا أنّها تصلح لأن تجعل في إطار القضايا القانونية ولكنّه لا توجد هاهنا قرينة قوية على ذلک المدّعي.

نعم، يمكن أن يقال إنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ عدم تعدّد الإنشاء يكون بحسب الأفراد، وهذا إعتراف ضمني منهم بعدم الإنحلال في الخطابات الشرعية. إلّا أنّ هذا القول يدفعه التسليم بأنّ هناک إنشاء واحد إلّا أنّ هذا الخطاب الواحد يكون حجّةً علي جميع المكلّفين. وتوضيح ذلک هو أنّه قد وقع الخلط هاهنا بين الإنحلال في الحجية من جهةٍ، والإنحلال في الإنشاء والخطاب من جهة أخرى، والمشهور يعتقدون بالإنحلال في مقام حجية الخطاب ومدلوله لا في مقام الإنشاء فيكون الخطاب حجةً على الجميع، وعليه إنّ الحكم القانوني لا يتباين الإنحلال كما لا يتباين عدمه؛ وعليه إذا كان في فعل كلّ مكلّف ملاک مستقلّ تعلّق به غرض المولى يكون الثابت في حقّه حكمآ على إستقلاله وإن كان إنشاء هذه الأحكام كلّها بخطاب واحد؛ فلا يتوجّه الخطاب إلى العاجز لكي يكشف الخطاب عن جعل الحكم له أيضآ؛ إذ القدرة تعتبر من قيود موضوع التكليف فيقبح تكليف غير القادر على متعلّقه.

هذا، ولا يقاس الإنشاء المتقوّم بالإيقاع، بالإخبار المتقوّم بالحكاية؛ فإنّه لا تنحلّ الجمل الخبرية بنظر العرف إلى أخبارات متعدّدة حتّى يلزم أن يُحكم على المخبر بأنّ النار باردة أنّه قد كذب بعدد ما في الخارج من أفراد النار؛ فإنّ الكذب يعتبر من صفات القول فيقام باللسان، وعليه لا يقصد من هذه القضية الطبيعية الّا الإخبار عن قضية كلية واحدة، ولا يقال إنّه كلام متعدّد لإنحلال مدلوله؛ ولو فرض فيه الإنحلال قهرآ فلا ملازمة بينه وبين تعدّد الكذب أيضآ؛ فانّ الموصوف بالكذب هو الدالّ ولو بحسب مدلوله، وهذا بخلاف الإرادة التشريعية؛ فإنّ المقنّن عندما يخاطب عموم الناس يريد بتلک الإرادة فعل شيء أو تركه من جميع

الآحاد بحيث لا يغني فعل الآخرين عن فعله، وهو قرينة على أنّ خطابه وإن كان واحدآ ولكنّه ينحلّ مدلوله عرفآ فيتعدّد الإمتثال والعصيان.

الإشكالية الثانية: إنّ طائفة من الآيات تدلّ بظاهرها على إشتراط التكليف بالقدرة، وعلى نفي تكليفه تعالى بما فوق وسع المكلّف، وهو يعمّ الحرج وغير المقدور، فتؤكّد على نظرية المشهور من إنحلال الأحكام؛ كآية (وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَهَا)[1] وآية (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَها)[2] حيث إنّه يفترض فيها الأفراد بعينه؛ فإنّ الله تعالى أشار فيهما إلى أصل التكليف وإستنده إلى نفسه فلا يرتبط بمرحلة الثواب أو العقاب، وعليه تدلّ الآيتين على أنّ هناک قانونآ كلّيآ وهو: أنّه لايجعل التكليف العاجز إطلاقآ، فيشترط الحكم بالقدرة، وبالتالي ينحلّ ذلک الحكم إلى فرد فرد من العباد؛ فإنّ الظاهر منها كون المولى في مقام المولوية لا الإرشادية، وأنّ المولى في مقام جعل الأحكام لا يكلّف نفسآ إلّا قدر وسعها فتقيّد الأحكام الشرعية بالقدرة. وكآية (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[3] وعليها يصير العسر أو الحرج شخصيآ كما إعترف به المشهور فينسجم مع نظرية الإنحلال وإشتراط الحكم بالقدرة. ويقرب منها ما ورد في بعض الأحاديث كمعتبرة حمزة بن الطيّار عن أبي عبد الله (عليه السلام) ففيها: «وكلّ شيء أمر الناس به فهم يسعون له، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم».[4}

الإشكالية الثالثة: إنّ الظاهر من لفظة «نَفْسآ» في آية (وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَهَا)[5] وآية (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسآ إِلاَّ وُسْعَهَا)[6] هو أنّ المولى يلحظ النفوس


1 ـ سورة المؤمنون: 62.

2 ـ سورة البقرة: 286.

3 ـ نفس السورة: 185.

4 ـ الكافي : 165.

5 ـ سورة المؤمنون: 62.

6 ـ سورة البقرة: 185.

وأحوالهم حين الجعل، فيستلزم منه إنحلال الخطاب والتكليف؛ بل يستفاد من ظهور قوله تعالى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ...)[1] أيضآ أنّه تعالى يلحظ مقام الإمتثال عند جعل الأحكام؛ إذ إنّ معنى الآية هو: أنّهم كانوا لما حرم عليهم الجماع في شهر رمضان بعد النوم خالفوا في ذلک، فذكرهم الله بالنعمة في الرخصة التي نسخت تلک الفريضة. والسبب لإحلال ما ذكر، هو قلّة الصبر عنهنّ وصعوبة الإجتناب عنهنّ لبعض، كما لا يخفى.

وكذلک يظهر من قوله تعالى في وجوب الثبات في القتال: (الاْنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفآ...)[2] تقدّمُ العلم بحالهم وحال ما كلّفهم؛ لأنّه إنّما يحسن من المكلّف أن يأمر بما يعلم حسنه وأنّ المكلّف يتمكّن من فعله على الوجه الذي كلّفه وإلّا لقبُح التكليف أصلا. وعليه تدلّ الآية على أنّ كل فرد من المسلمين في مقابل إثنين من المحاربين، لا أكثر منهما؛ ويؤيده موثّقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «إنّ الله عزّ وجلّ فرض على المؤمن إلى أن قال ثمّ حوّلهم عن حالهم رحمةً منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفآ من الله عزّ وجلّ فنسخ الرجلان العشرة».[3]

وعليه ما أفاده الإمام (قدس سرّه) من نظرية الخطابات القانونية لا يوافق ما ورد في هذه الطائفة من الآيات القرآنية؛ فإنّ الملحوظ في الخطابات الشرعية هو لحاظ نفوس المكلّفين وأحوالهم في الإمتثال بنحو إنحلالي، ويستلزم منه عدم تكليف للعاجز لا أنّه يعذّر عقلا.

الإشكالية الرابعة: إنّ الإمام الخميني (قدس سرّه) قد فصّل بين الموضوع والمتعلّق، حيث يعتقد في الثاني بالفرق بين العموم والإطلاق فتدلّ ألفاظ العموم على


1 ـ نفس السورة: 187.

2 ـ سورة الأنفال: 66.

3 ـ وسائل الشيعة :15 84.

التكثير وتتعلّق على كلّ فرد فرد من الحكم بينما لا يستفاد الإنحلال من الإطلاق؛ فإنّه يدلّ على نفس الطبيعة من دون ملاحظة شيء آخر في الحكم.[1] ولكنّه (قدس سرّه) لم يعتقد بهذا الفرق في موضوع الخطاب ولم يفصّل بينهما كذلک؛ بل ذهب إلى عدم الإنحلال فيهما، مع أنّه لا وجه لهذا الفرق بينهما إذا كان المولى في مقام جعل الحكم، حتّى يقال بالتفصيل في ما فهم من إستعمال أداة العموم بين الموضوع والمتعلّق؛ فإنّه ليس هنا شاهد في الموضوعات لكي ترفع اليد عن ظهور أدوات العموم في إستغراق الأفراد والقول بعدم لحاظ الأفراد فيها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إنّه (قدس سرّه) يعترف بإنحلال المتعلّق في النواهي، فيصير الخطاب في «لا تشرب الخمر» منحلّاً بعدد الأفراد بخلاف (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ)[2]

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في التهذيب :

فالأولى أن يتشبّث في جانب النهي بذيل فهم العرف المتّبع في تلک المقامات في كلتا المرحلتين؛ أي مرحلة أنّ الطبيعي ينعدم بعدم جميع الأفراد، ومرحلة أنّ النهي إذا تعلّق بالطبيعة ينحلّ إلى النواهي، من غير أن تستعمل الطبيعة في الأفراد، ومن غير فرق بين كون النهي زجرآ أو طلب ترک.[3]

وعليه لا تكون هذه النظرية جامعةً؛ فإنّها تنسجم مع الخطابات الإيجابية دون السلبية؛ فإنّ القول بكون الخطابات قانونيةً تتوقّف على القول بأنّ الأحكام تتعلّق بالطبيعة، وأما لو قلنا إنّ الحكم لا يتعلّق بالطبيعة فلا يمكن أن يقال بكون الخطابات قانونيةً. وبكلمة أخرى، إنّه لو قلنا إنّ الأحكام متعلّقة بالأفراد فحينئذ لا يمكن أن نقول بأنّ الخطابات قانونية.


1 ـ جواهر الأصول :3 308.

2 ـ نفس السورة: 43.

3 ـ تهذيب الأصول :2 15.

الإشكالية الخامسة: إنّه لا ملازمة بين إرادة البعث أو الزجر في التشريع وبين عدم وضع الأحكام بصياغة القانون، بل يجوز التفكيک بينهما بأن نعتقد أنّ الإرادة التشريعية ليست إلّا بنحو القانون ومع ذلک نذهب إلى إنحلال الخطاب ولحاظ الأفراد وحالاتهم في إنشاء الحكم وتظهر ثمرته في عدم ورود الإيرادات التي أوردها السيّد الإمام (قدس سرّه) على نظرية المشهور حيث لم نفسّر التكليف بالبعث كما ذهب إليه الإمام مع عدم الإلتزام بنظرية الخطابات القانونية على ما فسّرها.

وأما ما ذهب إليه المشهور من جريان الإحتياط وعدم إجراء البراءة عند الشکّ في القدرة ففيه: أنّه قد يتّفق عدم التطابق بين آراء الفقهاء في أبواب الفقه ومبانيهم الأصولية فليس ذلک أمرآ جديدآ، ولايكشف ذلک عن عدم إشتراط التكليف بالقدرة؛ بل يمكن أن يقال إنّ الشرائط التي ترجع إلى مقام الإمتثال بحيث إنّ جعلها قد صدر من المولى، لا تجري فيها البراءة، بل المرجع هو الإحتياط؛ مع أنّه قد يفهم عرفآ ثبوت الملاک للقادر والعاجز عبر تناسب الحكم والموضوع، فلايحتاج إلى نفس الخطاب؛ أضف إليه أنّ القدرة المشروطة في الخطاب هو حصولها من حين وصوله إلى حين الإمتثال، وأنّ جريان البراءة فيها مشروط بالفحص عن القدرة؛ فإنّ كلّ شرط لا يعلم وجوده وعدمه إلّا بالفحص يجب الفحص عنه. وعليه لايصحّ أن يعمل العبد عملا يعجزه عن إتيان التكاليف كما إذا أغمي عليه فلايمكنه الصلاة والصوم؛ فإنّ الإشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، والقطع بالفراغ يحصل بإجراء الإحتياط في المقام. فالبحث في التعجيز يشبه البحث في المقدّمات المفوّته وعليه كما لا يجوز إتلاف الماء قبل وقت الصلاة للتوضؤ في الوقت فكذلک لا يجوز تعجيز الإنسان نفسه لتفويت غرض المولى الذي يحكم العقل بعدم جوازه.

وبكلمة أخرى، إنّ الشکّ في التكليف إذا ينتهي إلى مقام الشارع وحدوث

جعله فلا شبهة في جريان البراءة فيه. وأما إذا كان للشک طرفان: من جهة يرتبط بالشارع ومن جهة يتّصل بالعبد كما نحن فيه فلا يصحّ جريان البراءة فيه؛ وذلک كما إذا قال المولى إن كنت قادرآ فيكون جعل التكليف عليک فعليآ وإن كنت عاجزآ يكون هذا العجز مانعآ من فعلية الجعل فيجري فيه أصل عدم المانع وهو العجز؛ فإنّ المفروض عدم سبق الشک في القدرة لوجودها في الحالة السابقة ومع الشکّ فيها يجري إستصحاب القدرة أو إستصحاب عدم العجز وتكون نتيجته مطابقآ لما ذهب إليه المشهور من ثبوت التكليف على ذمة المكلّف في هذه الحالة.

هذا، ولا يتمّ القياس بين الأحكام التكليفية والوضعية؛ فإنّه لا تقبح عرفآ نجاسة الخمر الذي لايوجد في محلّ الإبتلاء، بينما لا يحسن الخطاب المنجّز بالنسبة إلى ما لا إبتلاء به ولو بأيّ عنوان من العناوين، فيكون النهي عن إجتنابه أمرآ لغوآ قبيحآ بحسب العرف؛ فإنّ الفعل والترک الإختياريين لزم أن يكونا مورد الإبتلاء حتّى يمكن إستنادهما إلى الفاعل أو التارک.

فتحصّل أنّ شرط حسن الخطاب أو تنجيزه هو كون متعلّقه مورد الإبتلاء، فلو كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجآ عن محلّ الإبتلاء ولا يبتلي بتركه المكلّف عادةً، لا علم بالخطاب المنجّز فكان التكليف بالنسبة إليه منتفيآ، ولَتجري البراءة في الطرف الآخر الذي يشکّ في حدوثه، بلا معارض.

كما أنّ قياس القدرة على متعلّق التكليف، بالعالم بالتكليف مع الفارق؛ إذ لا يمكن أخذ العلم بحكم في موضوع ذلک الحكم فيكون للموضوع إطلاق بالإضافة إلى العالم والجاهل، بمعنى الإطلاق الذاتي لا محالة، وشمول خطاب الحكم للجاهل به لا بعنوان الجاهل، بل بعنوان البالغ العاقل لا بأس به، فيكون وصول هذا الخطاب بنفسه أو بوجه آخر موجبآ للعلم به فيتنجّز، بخلاف شموله للعاجز الذي لايمكنه تحقيق المتعلّق في الخارج إطلاقآ؛ فإنّ إعتبار التكليف في

حقّه لغو فضلا عن توجّه الخطاب إليه.[1]

وأما العصيان، فلا يكون قيدآ في الخطاب لكي يؤدّي ذلک إلى عدم صحّة الخطاب بالنسبة إلى العاصي لقبح خطاب من لا ينبعث منه؛ لأنّه لا يتعلّق الحكم إلى ما ثبت أو ترک للشيء بالضرورة، فلامحالة يلحظ ذلک العصيان كظرف للخطاب؛ فإنّ الوجدان شاهد على إمكان توجيه الخطاب إلى من يعلم بعصيانه، والعاصي في هذا الظرف قادر على إتيان التكليف، بل يكفي إمكان الإنبعاث والإنزجار في جعل الحكم ولايحتاج إلى فعليتهما؛ بمعني أنّ الداعي في الخطابات هو جعل ما يمكن أن يكون داعيآ ويصلح أن يكون باعثآ أو زاجرآ، وهو أمر يجتمع مع العصيان فيصحّ الخطاب إليه ويترتّب عليه الأثر، وهو أنّه يصحّ للمولى أن يعاقب العبد على عصيانه. ومنه أيضآ يظهر أنّه يجب قضاء الصلاة على النائمِ في جميع الوقت، بل يمكن أن نتمسّک لذلک بدليل وجوب القضاء كما لا يخفى.

وبهذه المناقشات تردّ نظرية «عدم الإنحلال في الخطابات القانونية» ولولاها لكانت هذه النظرية نِعمَ القول، التي لها مساس مباشر بموضوعات الحقل الأصولي وبواسطته بموضوعات الحقل الفقهي فيدفع بها كثير من الغوامض التي تكون في الأصول والفقه. وسيجيء مزيد بيان في تطبيقاتها في المسار الفقهي والمسائل الأصولية.


المبحث الرابع: الخطابات القانونية عند السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله)

إنّ السيّد الأصولي المحقّق الخميني(رحمه الله) قد أشار في بيان كفاية تعلّق الإرادة بالقانون العام مع إعتبار الحكم لكلّ أحد بما يخصّه، إلى أن تلک الإرادة الواحدة


1 ـ دروس في مسائل علم الأصول :2 217.

المتعلّقة بالخطاب العام القانوني، تنحلّ حكمآ.

وتوضيح ذلک هو أنّه(رحمه الله) قد أشكل في بادء الأمر على عدم إنحلال الخطاب : بأنّ الخطاب إمّا أن يتعلّق بفرد فرد من المكلّفين أو لا يتعلّق، فإن قيل بالأول فهذا يوجب القول بأنّ الخطاب ينحلّ إلى الأفراد ولا يقول به السيّد الإمام (قدس سرّه) وإن قيل بالثاني، فمعناه أنّ الخطاب لا يتعلّق بالأفراد فلا يجب عليهم شيء، وعليه كيف يقال إن زيدآ عصى أو أطاع مع أنّ الخطاب لا ينحلّ إلى الخطاب الخاص المتوّجه إليه حسب الفرض.

ثمّ قد أجاب السيّد المصطفى(رحمه الله) على هذا الإشكال: بأنّ الامام(قدس سرّه) حينما أنكر إنحلال الخطاب يقصد من ذلک الإنحلال الحقيقي لا الحكمي؛ فالخطاب القانوني وإن كان متعلّق بالجميع ولا ينحلّ إلى الأفراد حقيقةً إلّا أنّه ينحلّ حكمآ بمعنى أنّ العقل والعرف يحكمان بالإنحلال وإن لم ينحلّ حقيقةً.

وتوضيح ذلک: إنّ الإرادة التشريعية عند المشهور معناها: إرادة المولى تحريک العبد، إلّا أنّ السيّد الإمام(قدس سرّه) يقول إنّ هذا التفسير للارادة غير تام، بل المقصود من الإرادة التشريعية هو إرادة جعل الحكم على نحو القانون. فالمولى حينما يقول : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] فهذا الخطاب واحد والإنشاء واحد، إلّا أنّ الكثرة إعتبارية

بلحاظ أنّ المراد معنى كلّي إنحلالي، فالإنحلال في المراد لا الإرادة إلّا أنّ الإنحلال يسري من المراد إلى الارادة ومعنى السراية: هو أنّ الارادة في الواقع ليست متعددةً بل لأنّ المراد متعدّد فيسري هذا التعدّد إلى الإرادة وهذا ما يسمّى بالانحلال الحكمي.

قال السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله) في تحريرات الأصول قبل أن يبيّن نظريته :

إنّه قد ذهب القوم إلى إنحلال الخطاب إلى الخطابات: وهي أنّ كلّ واحد من


1 ـ سورة المائدة: 1.

أفراد المخاطبين، لا بدّ أن يكون مورد التكليف ومورد الحكم، من غير إرتباط حكمه بحكم الفرد الآخر، لأنّ العموم أصولي إستغراقي، فيكون الحكم الكلي منحلّاً إلى الأحكام الكثيرة، ولذلک تجري البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، و يتعدّد العقاب والثواب بتعدّد المكلّفين، فيتعدّد الحكم، فيكون كلّ فرد مورد الحكم المخصوص به. ولكنّه كيف يعقل توجيه تلک الإرادة إلى الفرد الذي هو جاهل، والمولى ملتفت إلى جهله، وإلى الفرد الذي هو عاجز وغافل، والمولى ملتفت إلى حاله؟! فإن كان الخطاب القانوني، معناه عدم الإنحلال بحسب الأفراد، فيكون الأفراد بلا تكليف، فهو خلف. وإن أريد منه: أنّهم مع كونه قانونيآ مورد التكليف والحكم، فهو مناقضة ومستحيل. وبعبارة أخرى: لسنا قائلين بإنحلال الخطاب الذي هو معنى جزئي حرفي قائم بالمخاطب، وبما نصوّره بصورة المخاطب، بل مقصودنا من «إنحلال الخطاب» هو إنحلال الحكم العام الإستغراقي حسب الأفراد، وأنّ كلّ فرد مخصوص بحكم يخصّ به، ويستتبع إطاعته وعصيانه وثوابه وعقابه. فيتوجّه السؤال هنا إلى كيفية إمكان الإنحلال الحكمي الراجع إلى التكاليف الكثيرة، وكلّ تكليف متوجّه إلى شخص وباعث إياه نحو المادة، ولو كان هذا الشخص عاجزآ غافلا جاهلا، فكيف يتوجّه إليه هذا التكليف، فهل يكون هذا إلّا القول: بأنّ هؤلاء الأفراد بعناوين خارجة، ليسوا مورد التكليف الفعلي؟![1]

ثمّ عالج الإشكال بناءً على مسلكه المختار من الإنحلال الحكمي قائلا :

إذا أحطت خبرآ في طيّ هذه المقدمة، تقتدر على حلّ المعضلة الأخيرة: وهي أنّ كلّ واحد من الأفراد وإن كان محكومآ بحكم مخصوص به، والحكم وإن تقوم بالإرادة، بمعنى أنّه هو عينها، أو هو أمر متأخّر عنها لا حقّ بها، ولكن تكفي تلک


1 ـ تحريرات في الأصول :3 451.

الإرادة المتعلّقة بالكلّي والقانون العام لإعتبار الحكم المزبور لكلّ أحد؛ أو يقال بأنّ تلک الإرادة الواحدة المتعلّقة بالخطاب العام القانوني، تنحلّ حكم حسب الأفراد، وحسب حكم العقل وفهم العرف إلى الأفراد، فيكون الإنحلال إلى الكثير بنحو العموم الإستغراقي، ويكون الإنحلال حكميآ؛ ضرورة أنّ الوجدان قاض بوحدة الإرادة، فالكثرة إعتبارية بلحاظ أنّ المراد معنى كلّي إنحلالي. وهذا المعنى الإنحلالي يوجب سريان الإنحلال حكمآ إلى الإرادة، لا واقعآ وموضوعآ، فإنّه خلاف الوجدان، ومنافٍ للبرهان. فعلى هذا، كلّ فرد من الأفراد بما أنه إنسان، وبما أنّه مؤمن مسلم، محكوم بالحكم الإنحلالي الّذي يتوجّه إلى الآحاد، حسب توجيه الخطاب الكلّي، لا حسب توجيه الخطاب الشخصي. فقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] وإن كان في قوة الإنحلال إلى أفراد المؤمن ومصاديقه الذاتيّة، ولكن لا يلزم من كونه في قوة الكثير، كون كلّ واحد من هذا الخطاب بالقوّة، جامعآ لجميع الشرائط المعتبرة في صحّة توجيه الخطاب الشخصي الفعلي. فما هي الشرائط في الخطاب الشخصي، شرائط لأجل أنّه خطاب فعلي، وإذا كان الخطاب بالقوّة فلا تعتبر تلک الشرائط، مع إنحلال هذا العام والقانون الكلّي إلى الكثير إنحلالا حكميآ موجبآ لصحّة إنتساب كلّ واحد إليه، وإختصاصه بالحكم المخصوص به.[2]

هذا وقد أورد سماحة الأستاذ حفظه الله على ما أفاده السيّد مصطفى الخميني (رحمه الله) :

أولاً، إنّ ما ذكر وإن كان كلامآ دقيقآ، إلّا أنّ ما يستفاد من كلام السيّد الامام (قدس سرّه) هو أنّ الخطاب لا يمكن فيه الإنحلال مطلقآ فهو(قدس سرّه) يرفض الإنحلال بكلا قسميه الحقيقي والحكمي، ولو كان مراده (قدس سرّه) الإنحلال الحقيقي فحسب، لكان اللازم عليه


1 ـ نفس السورة: 1.

2 ـ تحريرات في الأصول :3 454 455.

أن ينبّه على ذلک. فما أفاده(رحمه الله) معارض لما صرّح به والده من عدم الإنحلال في الخطاب بوجه من الوجوه، بل الخطاب متوجّه إلى عنوان عام واحد، من دون أن ينحلّ إلى تكليف مستقلّ لكلّ أحد من مكلّفين، فهذا أجنبي عن القول بالإنحلال.

وثانياً، إنّه لو سلّمنا أنّ السيّد الإمام (قدس سرّه) يقصد من عدم الإنحلال: عدمَ الإنحلال الحقيقي، فحينئذ ينحلّ الخطاب إنحلالا حكميآ، ولكنّه لو قلنا بهذا التقريب الذي أفاده ولده الشهيد(رحمه الله) تعود المحاذير ويترتّب عليه ما يترتّب على القول بالإنحلال من تعدّد الإراده والحكم؛ وذلک لأنّ الفرد حينئذ يكون مخاطبآ وبالتالي، كيف يتوجّه الخطاب إلى العاجز والجاهل؟

نعم، بناءً على ما فهمناه من نظرية الإمام، يمكن أن نجيب على ذلک: بأنّ الإرادة لا يمكن أن تنحلّ لابالإنحلال الحقيقي ولا بالإنحلال الحكمي، إلّا أنّ السيّد الامام(قدس سرّه) يريد أن يفكّک بين الخطاب والحجية، فالخطاب واحد إلّا أنّ الحجية على الجميع؛ لأنّ الخطاب قانوني متعلّق بالكل. فالخطاب واحد شامل للمجتمع وليس فيه إنحلال بعدد المكلّفين إلّا أنّ ذلک الخطاب الواحد حجّة عل الجميع.


المبحث الخامس: كلام بعض المحقّقين في الخطابات القانونية ونقده

قد ظهر ممّا تقدّم توضيح ما ذهب إليه الإمام الخميني (قدس سرّه) بما لا مزيد عليه، وقد أفادبعض المحقّقين حفظه الله في تبيين هذه النظرية ما لا يقول به السيّد الإمام وإليک ملخّص كلامه :

إنّ الخطابات القانونية متأثرة عن وضع القانون في المجتمع الحالي الذي يعتبر ذلک كموجود مستقل في نفسه، فنشأت من وضع القانون يوميآ، بينما كانت تلک الخطابات في الأزمنة السابقة لم تعدّ عرفآ كأمر مستقل بل كانت شعاعآ لشخصية

الحاكم فلم يكن لها وجود منحاز عن شخصية الأمراء. وبكلمة أخرى، لم يوجد القانون في الأزمنة السابقة إلّا ما أمر به المولى جورآ أو عدلا.

هذا، ولا نقول بعدم وجود توفّر لفظة «القانون» الذي يعدّ كلمة يونانية، في الأزمنة السابقة بل هذه موجودة حتّى قبل ظهور الإسلام؛ فالمراد أنّه لم يوجد بهذا النحو المتعارف والمكتوب في زماننا هذا.

وعليه إنّ النظام السائد في بداءة ظهور الإسلام وزمن نزول الآيات هو نظام العبيد والموالي: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلا عَبْدآ مَمْلُوكآ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ).[1] فكان المنشأ لوجوب إطاعة العبد من المولى هو أنّ العبد كان جزءً من شخصية المولى وكان القانون شعاع لشخصيته، فتنحلّ أحكام الموالي إلى العبيد وحالاتهم، فلو لم يمتثل أوامر المولى ليصدق عليه أنّه قد ضيّع أمر المولى وأهان به.

والأحكام الشرعية تشعر إلى الجوّ الحاكم حين النزول من سيطرة الموالي على العبيد. فليس الخطاب الشرعي بنحو الخطاب القانوني الدارج يوميآ في وضع القوانين.[2]

والخلاصة إنّ ما يعتقده السيّد الإمام الخميني(رحمه الله) من كون الخطابات الشرعية خطابات قانونية، ليس إلّا ما ينعكس اليوم من وضع القوانين وعدِّها بوجود منحاز إعتباري دون أن يكون قوامه بوجود الأفراد.

هذا، وناقشه الأستاذ حفظه الله بما يلي :

أولا، إنّه لا ملازمة بين كون الخطاب قانونيآ وبين أن يكون للقانون وجود منحاز سوى شخصية الحاكم؛ فلا يصحّ تفريعه على إستقلال القانون، بل بالإمكان أن يتصوّر القانون وكان ذلک مرتبطآ بشخص الحاكم، فهو يجعل القانون الكلّي لعموم الناس من دون ملاحظة الأفراد. وبكلمة أخرى، لا يبتني مسلک الخطابات


1 ـ سورة النحل: 75.

2 ـ خطابات قانونيه ]بالفارسية[: 118 127.

القانونية على وجود المنحاز للقانون أصلا، لأنّ المقنّن يلحظ النسبة بينه و بين المخاطب ويفرض المخاطب عامآ فيصدر الحكم بنحو قانوني ولا يحلظ الأفراد فيه.

ثانيآ، لا معنى للتشقيق في القانون بلحاظ تحقّق وجوده في الخارج مستقلا وعدم تحقّقه كذلک؛ إذ الأمر الإعتباري لا يعقل تصويره بقطع النظر عن لحاظ الجاعل والمعتبر عليه؛ ولذلک نرى أنّه إذا تخلّف شخص عن القانون يقال له إنّک ضيعت حقّ الحاكم وحقوق الآخرين.

ثالثآ، إنّ العبد آنذک لم يحسب من شخصية الموالي حتّى يعدّ عصيانه إهانة للمولى، بل إنّه كان جزءً من أموال المولى بحسب فهم العرف والعقلاء. أضف إلى ذلک، أنّه لا شبهة في لزوم إطاعته للمولى؛ فإنّ ذلک يحكم به العقل إقتضاءً لحقّ المولوية.

رابعآ، إنّ ما يستفاد من كلامه من أنّه تحمل ألفاظ القران على الجوّ السائد في المجتمع زمن النزول وفي إطار نظام الموالي والعبيد خطأ جدّآ؛ إذ يلزم منه عدم حجّية القران وآياته لزماننا هذا، وهو مما تدفعه نفس الآيات القرآنية التي تكون هدى للناس وتتحدّى بالكتاب. إذآ، نحن نعتقد أنّ دلالة الآيات والروايات تختلف عن بقية الألفاظ والمكتوبات فلا يتدخّل في دلالتها فهم العرف وثقافته زمن النزول.

نعم، هناک أمور توجب الظهور في معنى خاصّ أو تكون قرينةً على الفهم أو يكون هناک مختصّات بالنبي (صلي الله عليه وآله).

البــاب الثــالث

ويتضمّن مبحثين :

المبحث الأوّل: التطبيقات الأصولية للخطابات القانونية

المبحث الثاني: التطبيقات الفقهية للخطابات القانونية

تمهيـد

قد تقدّم البحث عن نظرية الخطابات القانونية، مفهومها وأركانها وأدلّتها والمناقشة فيها، ولكن تركت هذه النظرية تأثيرآ كبيرآ في قسم من البحوث الأصولية وفي مسار البحث الفقهي، فلها تفريعات ومعطيات، ويعتقد السيّد الشهيد مصطفى الخميني(رحمه الله) أنّ هذا الرأي هو بارقة ملكوتية يمكن أن ينحلّ بها كثير من المعضلات وأساس طائفة من المشكلات، فللّه تعالى درّه، وعليه أجره، جزاه الله خيرآ.[1]

وسيظهر أنّ تطبيقاتها كثيرة وواسعة جدّآ سيّما عند الإمام الخميني(قدس سرّه) وقد سار أيضآ على هذا النهج ولده المحقّق السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله) وتلميذه الألمعي سماحة آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(رحمه الله) في كثير من مواضع الفقه والأصول. ونحن نسرد عدد من تطبيقاتها المختلفة في الحقل الأصولي ثمّ الفقهي.

هذا، وسيلاحظ القارئ الكريم أنّ هناک عديدآ من الأدلّة لم نوردها في


1 ـ تحريرات في الأصول :3 455.

البحث، وذلک لأنّ التركيز في هذا الباب ليس على النتيجة أو تحديد الرأي النهائي في المسائل المطروحة، بل إنّما إطلالة سريعة على كيفية الإستدلال بالنظرية المذكورة.

إذآ، قد وقع البحث حول معطيات هذه النظريّة في مبحثين :


المبحث الأول: التطبيقات الأصولية للخطابات القانونية

تظهر لوازم هذه النظرية (عدم إنحلال الخطابات القانونية) في مختلف المسائل الأصولية ونحن نشير هنا إلى نماذجها الأساسية في الجهات التالية :


الجهة الأولى: شمولية الخطابات القرانية لغير الحاضرين

هل تختصّ الخطابات الشفاهية نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)[1] و (يَا أَيُّهَا النَّاس)[2] بالموجودين في زمن الخطاب بل الحاضرين مجلس التخاطب، أو يعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين عنه؟ وأنّه هل يستلزم شمول الخطاب للمعدومين المحال أو لا؟

ولا يخفى عدم إختصاص النزاع بما يتضمّن خطابآ، بل يجري في جميع الأحكام الموضوعة على العناوين الكلّية ولو لم يكن بلسان الخطاب، مثل قوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[3] وقوله تعالى: (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَکَ الْوالِدانِ...)،[4] وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ...)[5] فإنّه وإن لم يشملها عنوان البحث، لكن يشملها ملاكه؛ فإنّ الملاک في عدم الجواز، هو أنّ


1 ـ سورة النساء: 59.

2 ـ سورة البقرة: 21.

3 ـ سورة آل عمران: 97.

4 ـ سورة النساء: 7.

5 ـ سورة الحجرات: 10.

المعدوم لا يكون شيئآ، فكما لا يصلح مخاطبة المعدوم والحديث معه، فكذلک لا يصلح توجيه حكم تكليفي أو وضعي إليه؛ بداهة أنّه لا يصلح إيجاب الحجّ أو الدين مثلا على من كان معدومآ.[1]

وعليه إنّ النزاع إنّما هو في أنّ شمول الخطابات القرآنيّة والأحكام المتعلّقة بالعناوين الكلّية الواردة فيها للمعدومين هل يستلزم تعلّق التكليف بهم والمخاطبة معهم الممتنع عقلا بداهةً، أو لا يستلزم ذلک الأمر المستحيل؟ فالنزاع إنّما هو في الملازمة بين الأمرين التي هي أمر عقلي.

قد ذهب السيّد الإمام (قدس سرّه) إلى عدم الإستلزام قائلا: إنّ تلک الأحكام الموضوعة على المكلّفين إنّما هو بنحو القضيّة الحقيقيّة والجعل القانونيّ على مصاديق العناوين بنحو الإجمال فيما إذا كانت القضيّة محصورةً، أو على نفس العناوين في غيرها.[2]

وتوضيح ذلک كما تقدّم هو: أنّ القضيّة الحقيقيّة هي التي يكون الحكم فيها على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على كلّ فرد، ومتّحدة معها في الخارج؛ لا بمعنى وضعها للأفراد ولا بمعنى كون الطبيعة حاكيةً عنها ولهذا يصحّ أن يقال: إنّ كلّ فرد من الطبيعة إمّا موجود أو معدوم بلا تأوّل. فلا تكون القضايا الحقيقيّة أخبارآ عن الأفراد المعدومة، بل أخبار عن أفراد الطبيعة بلا قيد، وهي لا تصدق إلّا على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها، فيكون الاخبار كذلک بحكم العقل من غير تقييد وإشتراط.[3]

ثمّ إنّ في القضيّة الحقيقيّة يكون الحكم على الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجماليّ، وهو عنوان «كلّ فرد»، أو «جميع الأفراد»، فعنوان «كلّ» و«جميع»


1 ـ جواهر الأصول :4 448.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 287.

3 ـ المصدر :2 286.

متعلّق للحكم، ولمّا كان هذا العنوان موضوعآ للكثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلى الطبيعة يفيد أفرادها بنحو الإجمال، فالحكم في المحصورة على أفراد الطبيعة بنحو الإجمال، لا على نفس الطبيعة، ولا على الأفراد تفصيلا، فقولهم: إنّ الحكم على الطبيعة التي هي مرآة للأفراد، ليس بشيء.[1]

إذآ، تبيّن أنّ عنوان المستطيع إنّما يصدق على خصوص المكلّف الموجود الحاصل له الإستطاعة، فكما أنّه لا يصدق على المكلّف الغير المستطيع كذلک لا يصدق على المعدوم بطريق أولى؛ لأنّه ليس بشيء. نعم، بعد الوجود وصيرورته متّصفآ بذلک الوصف ويتحقّق مصداق لذلک العنوان، يشمله الحكم،[2] فغاية ما هناک جعل الحكم على العنوان الذي لا ينطبق إلّا على الموجود خارجآ؛ فإنّ الشيء ما لم يوجد ولم يتشخّص ليس له ماهية كما ليس لها وجود. فالإنسان إنسان بالوجود، ولولاه لا إنسان ولا ماهية ولا غير ذلک. فالقصور من ناحية نفس العناوين لا من جانب الوضع.[3] فـ«كلّ نار حارّة» إخبار عن مصاديق النار، دلالة تصديقية؛ والمعدوم ليس مصداقآ للنار ولا لشيء آخر، كما أنّ الموجود الذهني ليس نارآ بالحمل الشائع، فينحصر الصدق على الأفراد الموجودة في ظرف وجودها، من غير أن يكون الوجود قيدآ، أو أن يفرض للمعدوم وجود أو ينزّل منزلة الوجود، ومن غير أن يكون القضية متضمّنة للشرط، كما تمور بها الألسن مورآ.[4]

بناءً على ما إخترناه، لا يكون المعدوم مصداقآ لها حال العدم، ولا يتوجّه إليه التكليف؛ وأمّا إذا صار المصداق موجودآ فيشمله الحكم. فإذا رأى المكلّف أنّ


1 ـ معتمد الأصول :1 315.

2 ـ المصدر :1 316.

3 ـ تهذيب الأصول :2 221.

4 ـ المصدر :2 222.

في كتاب الله تعالى: حجّ البيت على الناس إذا إستطاعوا، من غير تقييد بما يخصّصه بالموجودين في زمن الرسول، ويكون نفسه مصداقآ للمستطيع، يرى أنّه مأمور بالحجّ من غير توهّم أنّ ذلک الحكم على هذا العنوان مستلزم لتوجّه التكليف إلى المعدوم، ضرورة أنّه قبل وجوده وإستطاعته ليس من الناس ولا من أفراد المستطيع بالضرورة، وبعد وجوده وإستطاعته يصدق عليه هذان العنوانان، ولازم جعله كذلک شمول الحكم له.[1]

وبالجملة: هذا القسم لا يستلزم جعل الحكم على المعدوم، بل على العنوان الذي لا ينطبق إلّا على الموجود. فاتّضح وجه شمول قوله تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)[2] وأشباهه الواردة في الذكر الحكيم وغيره ويسقط الإشكال من إستلزام تعلّق التكليف بالمعدوم.

وأما الخطابات الشفاهية نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)،[3] و (يَا أَيُّهَا النَّاس)[4] فقد يثار حولها إشكال آخر من جهة لزوم مخاطبة المعدوم، حيث إنّ معنى الخطاب توجيه الكلام إلى المخاطب، سواء اشتمل الكلام على «كاف» الخطاب أو أداة النداء، أو كان التوجيه إليه بالحمل الشائع من غير ما يدلّ وضعآ على التخاطب.

فالجواب عنه أنّ خطابات الله تعالى في القرآن لم تقع بينه تعالى وبين المؤمنين، ولم يكن المؤمنون حتّى الحاضرين مجلس الوحي أو في مسجد النبي مخاطبين بها؛ ضرورة أنّ الوحي إنّما نزل على شخص رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وكلام الله وخطاباته لم تكن مسموعةً لأحد من الأمّة.


1 ـ نفس المصدر :2 225.

2 ـ سورة النساء: 34.

3 ـ نفس السورة: 59.

4 ـ سورة البقرة: 21.

بل الظاهر من الآيات والروايات كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ عَلى قَلْبِکَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)،[1] أنّ الوحي إنّما كان بتوسّط أمين وحيه جبرائيل (عليه السلام) فجبرائيل غالبآ كان حاكيآ لتلک الخطابات منه تعالى إلى رسوله، وهو (صلي الله عليه وآله) حاک بالواسطة؛ فالقرآن هو حكاية الخطاب بلا واسطة، أو بواسطة أمين الوحي، وعلى أيّ حال، خطابات الله النازلة إلى رسول الله (صلي الله عليه وآله) لم تكن متوجّهةً إلى العباد مباشرةً، سواء كانوا حاضرين في مجلس الوحي أو في مسجد النبيّ، أم لا؛ فإنّها ليست خطابات شفاهية لفظية؛ بحيث يقابل فيها الشخص الشخص، فيخاطب بها الناس، لإستحالة أن يكلّمهم الله تعالى بلا واسطة، مع عدم لياقتهم لذلک، إلّا أنبياء الله (عليهم السلام) الذين بلغوا في الكمالات ما بلغوا، حتّى صاروا لائقين بأن يخاطبهم الله ويكلّمهم؛ بل لم يثبت وجود مجلس خطاب عند صدور الحكم ونزول الوحي. فالتعبير بالخطابات الشفاهية أيضآ مسامحة؛ لعدم كون واحد من المكلّفين مخاطبآ بها أصلا، بل إنّما هي قوانين كلّية بصورة المخاطبة أوحى الله تعالى بها نبيّه (صلي الله عليه وآله) وهو بلّغها إلى الناس كما أنزلت على قلبه.[2]

هذا، وإنّ أحرف النداء موضوعة لإيجاده، لا للنداء الحقيقي، وهو جزئيّ حقيقيّ يوجد في آنٍ، ثمّ ينعدم وينقطع في الآن الثاني، ولا بقاء له، فلا يمكن نداء المعدوم وخطابه، بل الخطابات القرآنيّة الإلهيّة خطابات قانونيّة كتبيّة، كما هو منهج جميع العقلاء وديدنهم من الموالي العرفيّة؛ حيث إنّهم في مقام جعل القوانين يكتبون ذلک‌ولو بنحو النداء والخطاب، ثمّ يأمرون المبلِّغين بنشرها وتبليغها بين الناس، فمن إطّلع عليها يعلم بأنّه مكلّف ومخاطب بها لا بالخطاب الشخصي، فكذلک الخطابات القرآنيّة خطابات كتبيّة، نزل بها جبرئيل على قلب سيِّد


1 ـ سورة الشعراء: 193 194.

2 ـ تنقيح الأصول :2 386؛ معتمد الأصول :1 315.

المرسلين(صلي الله عليه وآله) فإنّه مخاطب بتبليغ مثل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)[1] ونحوه إلى الناس، ولم يكن(صلي الله عليه وآله) أيضآ واسطة فيه؛ بأن يخاطب (صلي الله عليه وآله) الناس عن الله تعالى حتّى كأنّه تعالى خاطبهم؛ لما عرفت من عدم لياقتهم لذلک، فيستحيل وقوع غير الأنبياء مخاطَبين ـبالفتح له تعالى، ولا كشجرة موسى؛ بأن يكون خطابه وتبليغه تعالى بنحو إيجاد الصوت من الشجرة، وحينئذٍ فكلّ من هو مصداق لموضوع ذلک الخطاب الكتبي فهو محكوم بحكمه؛ بلا فرق في ذلک بين الموجودين في زمن القانون الكتبي وبين المعدومين، بدون أن يستلزم ذلک مخاطبة المعدوم، وحينئذٍ فليس للإشكال مجال.[2]

ثمّ إنّ ما ذكرنا: من أنّ المقنّن لم يكن طرف المخاطبة في القوانين الإسلاميّة، بل يكون المقنّن غير المبلّغ؛ لأنّ الأوّل هو الله تعالى، والثاني هو الرسول (صلي الله عليه وآله) أوّلا، وذو الوسائط ثانيآ، بتوسّط الكتب وغيرها من وسائل التبليغ، سنّة جارية في جميع العالم؛ لأنّ المقنّن في القوانين العرفيّة والسياسيّة إمّا شخص، أو هيئة وجماعة، ولم يتعارف أن يكون الواضع مبلِّغآ، وكذلک لم يكن المبلّغ مخاطِبآ ومناديآ لأفراد الحكومة، بل كان ناقلا وحاكيآ للخطاب والنداء. فترى أنّ المقنّن يضع القوانين، وبعد وضعها يتشبّث في إبلاغها وإعلامها بالكتب والصحف والمذياع والتلفزيون ونحوها. وحينئذٍ: فالفرد الحائز للشرائط من الشعب المأمور بالعمل بها إذا عطف نظره إلى كتاب القانون لأهل وطنه لا يشکّ أنّه مأمور بالعمل به؛ وإن تأخّر عن زمان الجعل بكثير، بل لم يكن موجودآ في ظرف الوضع، ولكن جعل الحكم بصورة الخطاب على الناس في قول القائل «يا أيّها الناس» كافٍ في شموله له؛ وإن وجد بعد زمن الخطاب بمدّة متراخية. وما ذلک إلّا لأجل كون


1 ـ سورة النساء: 59.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 289.

الخطاب كتبيآ أو شبيهآ بذلک، وهو ليس بخطاب لفظي حقيقةً، ولا يحتاج إلى مخاطب حاضر.

والقانون الإسلامي المجعول في شريعتنا إنّما هو على هذا النحو مع خصوصيّة زائدة، وهو عدم إمكان المخاطبة فيه بالنسبة إلى الناس وإظهار الوحي الجاري بلسان الرسول (صلي الله عليه وآله) إنّما هو عن طريق التبليغ لا بنحو المخاطبة، فالخطاب بنحو (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[1] مثلا لا يكون المخاطب فيها أحد من المؤمنين أصلا، بل إنّما هو خطاب كتبي حُفِظ بالكتب ليعمل به كلّ مَنْ نظر إليه، نظير الخطابات الواقعة في قوانين المكتوبة المنتشرة بين الناس ليطّلعوا عليها فيعملوا بها. فقوانينه عامّة لكلّ من بلغت إليه بأيّ نحو كان من غير لزوم محذور.[2]

ووضّح ذلک تلميذه المحقّق سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) قائلا :

إنّ دليل كون القرآن معجزةً بارزةً وكاملةً لرسول الله (صلي الله عليه وآله) هو أنّ بعد كون الإسلام بعنوان الدين الكامل والباقي والمستمرّ إلى يوم القيامة لا بدّ له من معجزة كذلک، ولا يمكن أن تكون معجزة دائميّة سوى الكتاب، ولذا لا يمكن لأحد من أبناء البشر الإتيان بمثل سورة صغيرة من القرآن إلى يوم القيامة. ويستفاد من ذلک أنّ ترتيب السور والآيات القرآنيّة وتدوين كلّ آية وسورة في محلّها بواسطة الكتاب كان في عصر رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وأمره الناشئ من الوحي الإلهي؛ إذ لا يصحّ إطلاق الكتاب على الأوراق المنتشرة والمتفرّقة بين الناس، وتعريفه بالكتاب يهدينا إلى الإلتزام بذلک. فلا يكون مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)[3] خطابآ شفاهيّآ، بل يكون خطابآ كتبيّآ، ولا يلزم فيه حضور المخاطبين


1 ـ سورة المائدة: 1.

2 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 289؛ تنقيح الأصول :2 386.

3 ـ سورة المائدة: 1.

ومجلس التخاطب وأمثال ذلک، ويؤيّده تكليف الكفّار بفروع الدين، مثل تكليفهم بالأصول وشمول الأحكام لجميع أبناء البشر، وذكر عنوان المؤمنين في بعض الآيات يكون من باب المثال والإشارة إلى خصوصيّة بعض المكلّفين. ويؤيّده أيضا أنّ إستفادة الحكم من الآية المشتملة على أداة الخطاب والآية الغير المشتملة لها تكون على نحو واحد وجدانآ، ولا تختصّ الأولى بالحاضرين في مجلس التخاطب حتّى تشمل الغائبين والمعدومين بمعونة قاعدة الإشتراک، بل لا فرق بينهما من حيث شمول جميع المكلّفين بصورة القضيّة الحقيقيّة.[1]

فظهر: أنّ القرآن كلّه حكاية لما أنزله الله تعالى على قلب رسوله الأعظم، فقوله (صلي الله عليه وآله): قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ...)[2] حكاية لخطابه تعالى إيّاه بقوله: «قل كذا...» فكان رسول الله (صلي الله عليه وآله) مبلّغآ لما أوحى الله تعالى لقلبه. وهذا نظير قولک لصاحبک: «قل لفلان كذا»فتكون الخطابات القرآنية شبيهة بالخطابات المصدّرة في أوائل الكتب والرسائل، فكما أنّ الخطابات الكتابية باقية إلى زماننا ونسبة الأوّلين والآخرين إليها على حدّ سواء، فكذلک الخطابات القرآنية. فلا محالة يكون إختصاصها إليهم بلا وجه، بل إختصاصها إليهم ثمّ تعميمها إلى غيرهم لغو باطل؛ إذلا وجه لهذا الجعل الثانوي من قوله مثلا «إنّ حكمي على الآخرين حكمي على الأوّلين» بعد إمكان الشمول للجميع على نسق واحد. بل عدم الدليل على الإختصاص كافٍ في بطلانه بعد كون العنوان عامّآ أو مطلقآ، وبعد كون الخطاب الكتبي إلى كلّ من يراه أمرآ متعارفآ، كما هو المعمول من أصحاب التأليف من الخطابات الكثيرة.[3]


1 ـ دراسات في الأصول :2 521.

2 ـ سورة الجمعة: 9.

3 ـ جواهر الأصول :4 455؛ تهذيب الأصول: :2 227.

الجهة الثانية: تصحيح الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه وما شابه ذلک

واجه الأصوليون في الواجب المشروط مشكلة، وحاصلها: أنّ إنشاء التكليف من المقدّمات التي يتوصّل بها المولى إلى تحصيل المكلّف‌به في الخارج، فإذا لم يكن الواجب المشروط قبل تحقّقه في الخارج مرادآ للمولى كما هو مذهب المشهور فلا يعقل أن يتوصّل العاقل إلى تحصيل ما لا يريده فعلاً بإنشاء التكليف المشروط.[1] وإذا لم يرده فعلا قبل تحقّق شرطه، فلا فائدة في الإنشاء والبعث الكذائي، وهل هو إلّا بعث عبث؟! فللمولى الحكيم أن يصبر إلى أن يتحقّق الشرط، فيأمره عند ذلک بإتيانه، دفعآ للغوية توجيه الخطاب إلى المكلّف وتكليفه بذلک قبل تحقّق شرطه.

هذا، وإنّ حلّ هذه العويصة على نحو يطابق المبنى المشهور من إنحلال الأحكام ولحاظ الحالات الفردية للمكلّف في صحّة الخطاب، جعل القوم في موقف عظيم: فمنهم من صار بصدد تصحيح الشرط المتأخّر، ومنهم من تمسّک بأجوبة فرارآ عن الشرط المتأخّر.

وقد تصدّى الإمام الخميني (قدس سرّه) لحلّ المشكلة عبر التمسّک بنظريته في الخطابات القانونية قائلا :

إنّه إنّما يتطرّق هذا الإشكال في الخطابات الشخصية القائمة بمخاطب واحد مثلا؛ وأمّا في الخطابات والأحكام القانونية الكلّية المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين بخطاب واحد، فلا مخلص للمشرّع المقنّن إلّا بجعله مشروطآ بعد ما يرى إختلاف آحاد المكلّفين في واجديتهم الشرط وعدمه. فإذن: لا مناص له إلّا من جعل الحكم على العنوان مشروطآ بالشرط لينبعث كلّ مَن كان واجدآ للشرط، وينتظر الفاقد إلى أن يتحقّق له الشرط. والشارع الأقدس حيث رأى مصلحة


1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) :1 346.

الحجّ مثلا على فرض الإستطاعة، ورأى إختلاف المكلّفين في واجديتهم للإستطاعة وعدمها، فأمر بالحجّ على فرض الإستطاعة، فقال عزّ من قائل: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[1]، فمن كان مستطيعآ يَحُجّ، وينتظر الفاقد لها إلى أن يرزقه الله الإستطاعة.[2] ثمّ إنّ إنشاء البعث في الواجب المشروط ليس للتوصّل به إلى المبعوث إليه فعلا حتّى يتوهّم عدم معقوليته، بل للتوصّل إليه على تقدير تحقّق الشرط، وكم فرق بينهما؟! مثلا إنشاء إيجاب الحجّ على تقدير الإستطاعة إنّما هو للتوصّل به إلى إيجاب الحجّ في ظرف الإستطاعة لا قبله، وكم له نظير في الأوامر العرفية! كما هو أوضح من أن يخفى.[3]

هذا، وبما سردناه يتّضح الحال أيضآ في مسألة أمر الآمر مع علمه بإنتفاء شرطه حيث يقول (قدس سرّه) في المناهج :

إنّ هذا البحث ]أيضآ[ قد يقع في الأوامر الشخصيّة، كأمره تعالى للخليل (عليه السلام) وقد يقع في الأوامر الكلّية القانونيّة :

فعلى الأوّل: فلا إشكال في إمتناع توجّه البعث لغرض الإنبعاث إلى من علم الآمر فقدان شرط التكليف فيه، بل لا يمكن ذلک بالنسبة إلى من يعلم أنّه لا ينبعث ولو عصيانآ، بل إلى من يعلم أنّه آت بنفسه بمتعلّق الطلب ولا يكون الطلب مؤثّرآ فيه بوجه، ضرورة أنّ البعث لغرض الإنبعاث إنّما يمكن فيما يحتمل أو يعلم تأثيره فيه، ومع العلم بعدم التأثير لا يمكن البعث لغرض الإنبعاث، وكذا الحال في الزجر والنهي. ولا يخفى أنّ مناط إمتناع إرادة البعث لغاية الإنبعاث في هذه الموارد واحد، وهو عدم تحقّق مبادئ الإرادة، من غير فرق بين إمتناع الإنبعاث ذاتآ أو وقوعآ أو إمكانه مع العلم بعدم وقوعه. هذا كلّه في الإرادة الشخصيّة


1 ـ سورة آل عمران: 97.

2 ـ جواهر الأصول :3 84.

3 ـ المصدر :3 83.

المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين.

وأمّا الإرادة التشريعيّة القانونية فغايتها ليست إنبعاث كلّ واحد واحد، بل الغاية فيه بحيث تصير مبدأ له هي أنّ هذا التشريع بما أنّه تشريع قانونيّ لا يكون بلا أثر، فإذا إحتمل أو علم تأثيره في أشخاص غير معيّنين من المجتمع في كافّة الأعصار والأمصار، تتحقّق الإرادة التشريعيّة على نعت التقنين، ولا يلزم فيها إحتمال التأثير في كلّ واحد؛ لأنّ التشريع القانونيّ ليس تشريعات مستقلّة بالنسبة إلى كلّ مكلّف، حتّى يكون بالنسبة إلى كلّ واحد بعثآ لغرض الإنبعاث، بل تشريع واحد متوجّه إلى عنوان منطبق على المكلّفين، وغرض هذا التشريع القانونيّ لا بدّ وأن يلحظ بالنسبة إليه، لا إلى كلّ واحد مستقلا، وإلّا لزم عدم تكليف العصاة والكفّار، بل والّذي يأتي بمتعلّق الأمر ويترک متعلّق النهي بإرادته بلا تأثير لتكليف المولى فيه، وهذا ممّا لا يمكن الإلتزام به. وقد عرفت أنّ مناط الإمتناع في البعث الشخصي في العاجز والقادر العاصي واحد، فإذن ما لا يجوز أمر الآمر مع العلم بإنتفاء الشرط فيه هو الأوامر الشخصيّة المتوجّهة إلى أشخاص معيّنين، وأمّا الأوامر الكليّة القانونيّة المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين، فلا تجوز مع فقد عامّتهم للشرط، وأمّا مع كون الفاقد والواجد غير معيّنين مع وجودهما في كلّ عصر و مصر كما هو الحال خارج فلا يلزم تقييد التكليف بعنوان الواجد مثلا، وإلّا يلزم تقييده بعنوان غير العاصي وغير الجاهل وغير النائم، وهكذا، وهو كما ترى. فلا يكون الخطاب العامّ خطابات مستقلّةً لكلّ منها غاية مستقلّة، فتدبّر.[1]

وقس على ما ذكر آنفآ مشكلة قبح التكليف التحريمي بحقّ من لا يوجد لديه الداعي إلى إرتكابه؛ كقبح تكليف صاحب المروّة بستر العورة؛ فإنّ الدواعي مصروفة عن كشف العورة، فلا يصحّ الخطاب؛ ونظيره نهي المكلّفين عن شرب


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 60.

البول وأكل القاذورات ممّا يكون الدواعي عن الإتيان بها مصروفة؛ إذ أيّ فرق بين عدم القدرة العادية أو العقلية على العمل، وبين كون الدواعي مصروفة عنها؟!

والجواب إنّ هكذا التكليف يوجب نقصانآ في التكليف الشخصي، ولكنّه بناءً على ما إختاره‌الإمام(قدس سرّه) مندفع جدّآ؛ فإنّ الخطابات الإلهية فعلية في حقّ الجميع؛ كان المكلّف عاجزآ أو جاهلا، أو مصروفآ عنه دواعيه أو لم يكن؛ وإن كان العجز والجهل عذرين عقليين.[2]


الجهة الثالثة: إتحاد الطلب والإرادة ودفع الإشكال عن تكليف الكفّار

قد اختلفت كلمات الأصوليين في إتحاد الطلب مع الإرادة مصداقآ، أو تغايرهما مفهومآ ومصداقآ. فعن المشهور من الإمامية والمعتزلة هو الإتحاد مصداقآ؛[2] وعن الأشاعرة إختلافهما مصداقآ ومفهومآ.[3]

وعليه ربّما استدلّ للأشعري على إختلاف الطلب والإرادة كما أشار إليه في التحريرات بأنّه لاشبهة في إستحقاق الكفّار بل مطلق العصاة للعقاب، ولا شبهة في أنّ صحّة العقوبة منوطة بترشّح الإرادة الجدّية من المولى متوجّهة إلى أفعالهم وأعمالهم، ولا كلام في أنّ إرادته تعالى علة الإيجاد، فلا يعقل التفكيک بينها وبين متعلّقها، فلا بدّ من الإلتزام بأمر آخر وراء الإرادة، وهو المسمّى بـ«الطلب والكلام النفسيّ» وإلّا يلزم عدم صحّة العقوبة، بل وعدم إستحقاقهم.

ويمكن تقريب هذا البرهان بوجه آخر: وهو أنّه تعالى وكلّ مولى إذا كان عالمآ بالكفر والعصيان، لا يتمكّن من ترشيح الإرادة الجدية بالنسبة إلى العبد المزبور، كما لا يعقل ترشيح الإرادة بالنسبة إلى بعث الحجر والعاجز والجاهل والناسي مع


1 ـ تهذيب الأصول :3 233.

2 ـ بدائع الأفكار(تقريرات المحقّق العراقي): 198.

3 ـ فوائد الاصول :1 130.

حفظ العناوين، فإذن يلزم عدم إستحقاق هؤلاء الكفرة الفجرة للعقوبة، لعدم إمكان تعلّق الإرادة بالبعث أيضآ، فلا بدّ من الإلتزام بالطلب الّذي هو محقّق إستحقاق العقوبة، ولا إرادة بعد ذلک رأسآ.

وعند ذلک تحصل المغايرة بين الطلب والإرادة بالضرورة، فإنّه إذا سئل عنه : «هل يريد ذلک» أو «أراده» فلا جواب إلّا: «أنّه لم يرده» لعدم الأمر به، وعدم إظهاره، بعد كون الإرادة هي الفعل النفسانيّ ومن مقولة الفعل تسامحآ، وإذا سئل عنه: «هل يطلبه ويشتهيه ويميل إليه» فالجواب: «نعم.»فتحصّل: أنّ تصحيح العقوبة لا ينحصر بالإرادة المظهرة أو الإرادة نفسها، أو الطلب الإنشائيّ، بل ربّما يكون تصحيح العقوبة بأمر آخر وهو الطلب، بل والإشتهاء النفسانيّ غير البالغ إلى حدّ الإرادة، لأجل الموانع الراجعة إلى إمتناع العبيد عن الإطاعة والامتثال.[1]

ثمّ يقول السيّد الشهيد(رحمه الله) :

ولعمري، إنّه بعد هذا التقريب، لا يتمكّن الأعلام من حلّ هذا الإعضال، وهذا من غير فرق بين ما ذكرناه في مصبّ الإرادة التشريعية، وبين كون مصبّها صدور الفعل عن الغير إختيارآ، وبين كون مصبّها إيصال الغير إلى الفائدة.

فأجاب عن الإشكال وقال :

إنّ الخلط بين الخطابات الشخصية والكلية القانونية يورث هذا الإشكال، وأوقع الأصحاب في إنحرافات. وإجمال الجواب هو أنّ من شرائط الخطاب الشخصي، إحتمال تأثير الأمر في المخاطب والمأمور، وإلّا فلا تصدر الإرادة الجدية مع فقد الإحتمال، ولعلّ لذلک قال الله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنآ)[2] لعدم إمكان أمره تعالى جدّآ، لعلمه بعدم إنبعاثه مثلا.


1 ـ تحريرات في الأصول :2 31.

2 ـ سورة طه: 44.

ومن شرائط الخطاب القانوني، إحتمال تأثير القانون في المجتمع البشري، من غير ملاحظة الأفراد والأشخاص، ومن غير إنحلال الخطاب إلى الخطابات، فإذا كان جميع المجتمع والأمة، كافرين ومتمرّدين وعاصين، فلا يعقل الخطاب القانوني الجدي أيضآ، إلّا من الغافل غير الملتفت. ولذلک صحّ الخطاب لجميع الطوائف المشار إليها، بما فيهم العالم والقادر والذاكر وغير المتمرّد والمؤمن، وغير ذلک، بمقدار يصحّ جعل القانون، ويمكن ترشّح الإرادة الجدية متعلّقة بمثل هذا القانون الكلي العام، فإفهم وإغتنم، فإنّه مزال الأقدام. وهذا ما أفاده السيّد الوالد المحقّق في المسائل المختلفة، وإن تغافل عنه هنا، والأمر سهل.[1]


الجهة الرابعة: فعلية الحكمين المتزاحمين في عرض واحد

إنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه الخاص في باب العبادات أو لا؟ قد أنكر الشيخ البهائي(رحمه الله) ثمرة البحث في هذه المسألة وذهب إلى أنّ الأمر بالشيء إذا لم يقتض النهي عن ضدّه، فلا أقلّ من عدم الأمر به؛ لإمتناع تعلّق الأمر بالضدّين معآ. فالضدّ إذا كان عبادةً يقع باطلا؛ لإعتبار قصد الأمر في صحّة العبادة.[2]

وتوضيح ذلک هو أنّه قد يحكم ببطلان العبادة في مسألة الضدّ مطلقآ؛ نظرآ إلى أنّ صحّتها متوقّفة على تعلّق الأمر الفعلي بها، وحينئذٍ فلو لم نقل بالإقتضاء وأنّ الضدّ يصير منهيّآ عنه فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر الفعلي به؛ لإمتناع تعلّق الأمر بالمتضادّين، فبطلانه لو كان عبادةً يستند على هذا إلى عدم تعلّق الأمر به، كما أنّ بطلانه بناءً على الإقتضاء مسبّب عن تعلّق النهي به، فالضدّ العبادي باطل على أيّ


1 ـ تحريرات في الأصول :2 30 32.

2 ـ زبدة الأصول: 117.

تقدير.[1] فلا يحتاج في اثبات بطلان الضد العبادي إلى إثبات أنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده مطلقآ.

هذا، وأجاب المحقّق النائيني(رحمه الله) عن الإشكال بتصحيح وجود الأمر المتعلّق بالعبادة بنحو الترتّب؛[2] بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقآ غير مشروط والأمر بالمهمّ مشروطآ بعصيان الأمر الأوّل بنحو الشرط المتأخّر أو بالبناء على معصيته. ولكنّ السيّد الإمام (قدس سرّه) إعترض على هذا الرأي وهدم أساس الترتب مع تفاصيله،[3] وعالج الإشكال بناءً على نظريته وصوّر الأمر بالمهمّ والأهمّ في عرض واحد، من دون أن تكون فعلية أحدهما متوقّفآ على عصيان الآخر كما هو مقتضى القول بالترتّب؛ فيقول في المعتمد :

إنّ الخطابات الواردة في الشريعة إنّما تكون على نحو العموم، ولا يشترط فيها أن يكون كلّ واحد من المخاطبين قادرآ على إتيان متعلّقها، بل يعمّ القادر والعاجز، ومعذوريّة العاجز إنّما هو لحكم العقل بقبح عقابه على تقدير المخالفة، لا لعدم ثبوت التكليف في حقّه، وحينئذٍ فالعجز إمّا أن يكون متعلّقآ بالإتيان بمتعلّق التكليف الواحد، وحينئذٍ فلا إشكال في معذورية المكلّف في مخالفته، وإمّا أن يكون متعلّقآ بالجمع بين الإتيان بمتعلّق التكليفين أو أزيد بأن لا يكون عاجزآ عن الإتيان بمتعلّق هذا التكليف بخصوصه ولا يكون عاجزآ عن موافقة ذلک التكليف بخصوصه أيضآ، بل يكون عاجزآ عن الجمع بين موافقة التكليفين ومتابعة الأمرين.[4]

ثمّ يقول (قدس سرّه) في المناهج :


1 ـ معتمد الأصول :1 123.

2 ـ فوائد الاصول :1 374 373.

3 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 30 58؛ تنقيح الأصول :2 121 125.

4 ـ معتمد الأصول :1 131 132.

وعندئذ إنّ متعلّقَي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة، وقد يكون أحدهما أهمّ. فعلى الأوّل، لا إشكال في حكم العقل بالتخيير، بمعنى أنّ العقل يرى أنّ المكلّف مخيّر في إتيان أيّهما شاء، فإذا إشتغل بأحدهما يكون في مخالفة الأمر الآخر معذورآ عقلا من غير أن يكون تقييد وإشتراط في التكليف والمكلّف‌به، ومع عدم إشتغاله بذلک لا يكون معذورآ في ترک واحد منهما، فإنّه قادر على إتيان كلّ واحد منهما، فتركه يكون بلا عذر، فإنّ العذر عدم القدرة، والفرض أنّه قادر على كلّ منهما، وإنّما يصير عاجزآ عن عذر إذا إشتغل بإتيان أحدهما، ومعه معذور في ترک الآخر، وأما مع عدم إشتغاله به فلا يكون معذورآ في ترک شيء منهما، والجمع لا يكون مكلّفآبه حتّى يقال إنّه غير قادر عليه، وهذا واضح بعد التأمّل.

وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ، فإن إشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترک المهمّ،لعدم القدرة عليه مع إشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن إشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعليّ، لكن لا يكون معذورآ في ترک الأهمّ فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترک الأهمّ.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا أنّ الأهمّ والمهمّ كالمتساويين في الأهمّيّة، كلّ منهما مأمور به في عرض الآخر، والأمران العرضيّان فعليّان متعلّقان بعنوانين كلّيّين من غير تعرُّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، والمطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لاتوجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو إشتراطهما أو إشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعآ ولا عقلا، بل تلک المطاردة لا توجب عقلا إلّا المعذورية العقليّة عن ترک أحد التكليفين حال الإشتغال بالآخر، وعن ترک المهمّ حال إشتغاله بالأهمّ.

فظهر أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف الكلّية القانونيّة

كما فيما نحن فيه. فما ادّعى شيخنا البهائيّ ليس على ما ينبغي، كما أنّ ما أجابوا عنه بنحو الترتُّب وتصوير الأمر بالمهمّ مشروطا بعصيان الأهمّ ممّا لا أساس له.[1]

ويقول (قدس سرّه) في الجواهر :

إنّهم قاسوا الخطابات العمومية القانونية أي الخطابات المتوجّهة إلى عامّة الناس أو جماعة منهم بالخطابات والأحكام الجزئية، فإعتبروا فيها ملاحظة حالات جميع أفراد مَن خوطب بها، بحيث لا يتوجّه الخطاب إلى العاجز أو الجاهل أو الساهي منهم، أو غيرهم، كما لا يتوجّه الخطاب الشخصي إليهم، مع أنّ لها شأنآ يغايره.

وعليه إنّ الأحكام المتعلّقة بالطبائع لا تعرّض لها لحال الأفراد بالنظر إلى ذاتها فضلاً عن لحاظها بالنسبة إلى أفراد طبيعة أخرى فلم يكن مفاد المطلق إئت بالمتعلّق سواء أتيت بمتعلّق الآخر أم لا، بل غاية ما هناک هي أنّ الطبيعة تمام الموضوع للحكم.

ومن ثمّ، إنّ الأمر بالشيئين اللذين لا يمكن إتيانهما وجمعهما في الوجود، لا يكون أمرآ بغير المقدور؛ وذلک لأنّه إذا فرض في زمان، تكليف بإنقاذ الغريق، وفي نفس ذلک الزمان تكليف آخر بإتيان الصلاة، فكلّ واحد من التكليفين لو لوحظ مستقلا يكون مقدورآ له، ولا يكون قيام التكليفين على الضدّين إلّا كقيام التكليف على الأمرين المتوافقين غير المتزاحمين في أنّ كلّ واحد حجّة في مفاده، لا في الجمع بينهما، فالأمر المتعلّق بكلّ من المتزاحمين لم يكن أمرآ بغير المقدور؛ لعدم المضادّة بينهما في مقام تعلّق التكليف، والمضادّة التي وقعت بينهما إنّما هي لجمعهما في الوجود، وهو غير متعلّق للتكليف. وتوارد الأمرين على موضوعين لا يمكن جمعهما في الوجود وفي زمان واحد إنّما يقبح في الخطابات


1 ـ مناهج الوصول إلى علم الأصول :2 29 30.

الشخصية، وأمّا في الخطابات القانونية التي تختلف حالات المكلّفين فغير مضرّ بعد إختلاف حالاتهم؛ فربّما كثيرآ لا يصادف المكلّف إلّا بواحد منهما، وربّما يتّفق تصادف المكلّف بهما.

وبالجملة: يصحّ توارد الأمرين على عامّة المكلّفين في الخطابات القانونية؛ ومنهم المكلّف الواقف أمام المتزاحمين، ولا يستهجن، والذي يحكم به العقل هو أنّ المكلّف لا بدّ وأن يقوم بالوظيفة لإجابة الأمرين بنحوٍ لو خالف واحدآ منهما لعدم سعة الوقت لهما، لَعُدّ معذورآ.

إذا عرفت هذه المقدّمات فعند تزاحم التكليفين: فتارة: يكونان متساويين في الملاک والمصلحة، وأخرى: يكون لأحدهما مزية على الآخر :

ففي صورة تساوي ملاک متعلّق التكليفين وتزاحم المهمّين، أو مصداقين من طبيعة واحدة، تكون الأحكام القانونية باقية على قوّتها الفعلي، ولكن مع ذلک لم ينسدّ باب الأعذار العقلية؛ بداهة أنّه مع كون الحكم فعليآ يرى العقل معذورية المكلّف، كما إذا كان جاهلا بالجهل القصوري، ففيما نحن فيه حيث يكون المكلّف أمام الأمرين المتزاحمين، ويكون له قدرة على الإتيان بكلّ واحد منهما، فإن صرف قدرته في أحدهما يكون معذورآ في ترک الآخر، وبالعكس من غير أن يكون ذلک‌تقييدآ وإشتراطآ في التكليف أو المكلَّف به، فيكون مخيّرآ في الإتيان بأيّهما شاء، ولو تركهما معآ لا لعذر يستحقّ عقابين.

وأمّا إذا لم يصرف العبد قدرته في إنقاذ واحد منهما، بل تركهما، لا يكون له عذر له أصلا، بل يعاقب على تركهما، فترک الإنقاذ في إحدى الصورتين يكون عذرآ دون الأخرى، مع أنّه للمولى غرض وإشتياق تامّ في إنقاذ الغريقين في الصورتين.

نعم، إذا إشتغل بأحدهما وصرف قدرته فيه وترک الآخر يُعدُّ معذورآ، فعند

تركه كليهما لا لعذر يكون مسئولا بالنسبة إلى ترک كلّ منهما؛ لكونه مقدورآ له، فيعاقب عقابين. نعم الجمع بينهما غير مقدور له، لكنّه غير مكلّف به؛ لعدم تعلّق التكليف به، فتدبّر.

فظهر: أنّ ما أفاده شيخنا البهائي(رحمه الله): من أنّ الأمر بالشيء وإن لم يقتض النهي عن ضدّه، إلّا أنّه يقتضي عدم الأمر به، لا وجه له؛ لصحّة الأمر بالضدّين في عرض واحد.[1]


الجهة الخامسة: عدم إعتبار المندوحة في إجتماع الأمر والنهي

إذا إجتمع متعلّق الأمر والنّهي من حيث الإيجاد والوجود فهل يوجب أن يتعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النّهي ولو لمكان إطلاق كلّ منهما لمتعلّق الآخر؟ فيمتنع صدور مثل هذا الأمر والنّهي وتشريعهما معآ بلحاظ حال الإجتماع، ويكون بين الدّليلين المتكفّلين لذلک تعارض العموم من وجه؛ أو أنّه لا يلزم من الإجتماع المذكور تعلّق كلّ منهما بعين ما تعلّق به الآخر؟ فلا يمتنع تشريع مثل هذا الأمر والنّهي، ولا يكون بينهما تعارض.

وعلى الثاني، فهل وجود المندوحة للمكلّف وتمكّنه من إيجاد الصّلاة خارج الدّار الغصبيّة مثل يجدى في رفع غائلة التّزاحم بين الأمر والنّهي ويكفى في إنطباق المأمور به والمنهي عنه على الجامع وهو الصّلاة في الدّار الغصبيّة فتصحّ الصّلاة؟ أو أنّ وجود المندوحة (أخذ قدرة المكلّف في التكليف) لا يجدى في ذلک‌ولا ينطبق المأمور به على المجمع؟[2]

قد صرّح الأصوليون بلزوم وجود المندوحة لقبح التكليف بما لا يطاق في صورة عدم المندوحة، حيث إنّه مأمور بها فإذا نهي عنها ولا مندوحة له عن


1 ـ جواهر الأصول :3 328 331.

2 ـ فوائد الاصول :2 397.

الخروج كان تكليفآ بالمحال. وبكلمة أخرى، لو لم يكن يتمكّن العبد من الإمتثال فلا يكون أمر في البين حتّى يتنازع في إجتماعه مع النهي؛ لأنّ الصلاة في المغصوب ليست مورد الأمر، والصلاة المطلقة غير مقدورة، فلا بدّ من وجود المندوحة حتّى لا يلزم التكليف بالمحال المستتبع للتكليف المحال مع الإلتفات والتوجه، كما هو الظاهر.[1]

هذا، وقد يعترض عليهم السيّد الإمام (قدس سرّه) ويقول :

الظاهر إنّ ما ذكروا من توهّمُ إعتبار المندوحة إنّما نشأ من خلط الأحكام والخطابات الكلّية القانونية بالأحكام والخطابات الجزئية والشخصية، مع أنّه قد أشرنا غير مرّة إلى أنّ لكلّ منهما ملاكآ وضابطةً تخصّه؛ بداهة إعتبار إحتمال الإنبعاث في الخطاب الشخصي بالنسبة إلى المخاطب، وعدم إعتبار ذلک في الخطاب القانوني؛ فإنّ المعتبر في جعل الأحكام القانونية، هو إنبعاث أو إنزجار طائفة منهم في الأعصار والأمصار، ولا يعتبر فيها ملاحظة حالات كلّ واحد من الأفراد مع ما هم عليه من الإختلاف؛ فبعضهم عاجز، وبعضهم جاهل... إلى غير ذلک من الأعذار، وغاية ما يقتضيه العقل عند طروّ الجهل أو العجز أو غيرهما، هي معذورية المتلبّس بها، لا تقييد الحكم بعدمها، فإذا تعلّق الحكم بعنوان وإبتلى الشخص بأعذار منها إبتلاؤه بعدم القدرة عليه بلحاظ إنطباق عنوان حكم آخر عليه لا يصير الحكم إنشائيآ، بل فعليآ، وغاية ما يقتضيه حكم العقل هي معذورية الشخص عن القيام بإمتثال الحكم الفعلي. والسرّ في ذلک هو عدم إنحلال التكليف الواحد بعدد رؤوس آحاد المكلّفين حتّى يكون كلّ فرد مخصوصآ بخطاب يخصّه، حتّى يستهجن خطابه بالبعث نحو الصلاة مثلاً، وبالزجر عن الغصب، حتّى يصير المقام من التكليف بالمحال، أو التكليف المحال


1 ـ تحريرات في الأصول :4 177.

من المولى الحكيم، بل تكليف واحد بإرادة واحدة؛ وهي إرادة التشريع وجعل الحكم على العنوان ليصير حجّة على كلّ من أحرز دخوله تحت العنوان.[1]

فعلى هذا نقول: العنوانان اللّذان تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي، إمّا غير مرتبطين ويفترق كلّ منهما عن الآخر بحسب نوع حالات المكلّفين في الأعصار والأمصار، كعنواني الصلاة والغصب، حيث إنّ عامّة الناس في الأعصار والأمصار، يتمكّنون غالبآ من إتيان الصلاة في غير الدار المغصوبة، نعم ربّما يتّفق لبعضهم ويتضيّق عليه الأمر نادرآ، بحيث لا يتمكّن إلّا من الصلاة في الدار المغصوبة؛ وإمّا أن يكونا متلازمين وغير منفكّين بحسب التحقّق الخارجي.

إذا فرضنا أنّ العنوانين من قبيل القسم الثاني أي متلازمين وجودآ بحيث لا ينفکّ أحدهما عن الآخر في جميع الأمكنة والأزمنة وعند جميع المكلّفين ممّن غبر أو حضر، فالبعث إلى أحدهما والزجر عن الآخر مع كون حالهما ذلک مما لا يصدر عن الحكيم المشرّع بل من غيره؛ لأنّ الإرادة الجدّية إنّما تنقدح في مورد يقدر الغير على إمتثاله، وعند التلازم في الوجود كان التكليف محالا لأجل التكليف المحال، فضلا عن كونه تكليفآ بالمحال ومعه لا يلزم التقييد بالمندوحة.

وأما إذا فرضنا أنّهما من قبيل القسم الأوّل، أي غير مرتبط أحدهما بالآخر في الوجود الخارجي غالبآ، وإنّما يتصادقان أحيانآ، وإنّ عامة الناس يتمكّنون من إتيان الصلاة في غير الدار المغصوبة غالبآ، وإنّه لو ضاق الأمر على بعضهم بحيث لم يتمكّن إلّا من الصلاة في الدار المغصوبة، لكان من القضايا الإتفاقية التي يترقّب زوالها، فلا حاجة إلى إعتبار المندوحة لما قد حقّقنا أنّ الأحكام الشرعية لا تنحلّ إلى خطابات بعدد الأفراد حتّى يكون كلّ فرد مخصوصآ بخطاب خاص فيستهجن الخطاب إليه بالبعث نحو الصلاة والزجر عن الغصب، ويصير المقام من التكليف بالمحال أو التكليف المحال، بل معنى عموم الحكم وشموله قانونآ هو


1 ـ جواهر الأصول :4 40.

جعل الحكم على عنوان عام مثل المستطيع يجب عليه الحجّ، ولكن بإرادة واحدة وهي إرادة التشريع وجعل الحكم على العنوان، حتّى يصير حجةً على كلّ من أحرز دخوله تحت عنوان المستطيع، من دون أن يكون هناک إرادات وخطابات وحينئذ فالملاک لصحّة الحكم الفعلي القانوني هو تمكّن طائفة منهم من إتيان المأمور به، وإمتثال المنهي عنه لا كلّ فرد فرد. وعجز بعض الأفراد لا يوجب سقوط الحكم الفعلي العام بل يوجب كونه معذورآ في عدم الإمتثال.

والحاصل، أنّه إن أريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم؛ لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ولا يتوقّف ذلک على المندوحة لكلّ واحد منهم؛ لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص.[1]


الجهة السادسة: تصحيح الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

قد تقدّم أنّ المراد من الحكم الواقعي هو الحكم الذي لم يؤخذ في موضوعه الشکّ في حكم شرعي مسبق، بينما المقصود بالحكم الظاهري هو الحكم الذي أخذ في موضوعه واشترط فيه الشکّ في حكم شرعي مسبق.

ثمّ إنّ ترشّح الإرادة الواقعية الجدية بالنسبة إلى الحكم الواقعي، وترشّح الإرادة الجدّية الأخرى بالقياس إلى إمضاء أو تأسيس ما يؤدي إلى خلاف الإرادة الأولى، مع الإلتفات إلى التخلّف المزبور غير معقول، ففي جميع موارد الأمارات والأصول لا يعقل ذلک، ويلزم بإعتبار آخر ونظر ثان إجتماع النقيضين، فإنّ من إيجاب العمل بالطرق والإرتضاء بإمضاء الأمارات وجعل الحجية يلزم


1 ـ تهذيب الأصول :1 301.

ـتبعآ لهذه الإرادة إنتفاء الإرادة الإيجابية والتحريمية النفسيّة الأولية، فلازم الجمع بينهما وجودها وعدمها؛ كما أنّ ارتفاع النقيضين ظاهر حديث الرفع، فإنّ مقتضى الإشتراک وجود الإرادة التحريمية بالنسبة إلى ملاک الجاهل، ومقتضى حديث الرفع عدمها، فلا بدّ من حلّ ذلک، ولأجله إتخذ كلّ منهم مهربآ وطريقآ.[1]

ولكن يمكن التفصّي عن الإشكال عبر التمسّک بالخطابات القانونية، كما أجاب عنه ولده الشهيد مصطفى الخميني(رحمه الله) في التحريرات وقال :

إنّ من الممكن حلّ هذه الغائلة من ناحية الخطابات القانونيّة، وإن خفي الأمر على مؤسّسها وذلک أنّ الخلط بينها وبين الشخصيّة أوقعهم في هذه المخمصة والمشكلة، وأنّ الخطاب القانونيّ يحمّل التكاليف الفعليّة على كافّة الأنام، ولو كان الأفراد والآحاد عاجزين ما داموا، وجاهلين ما عاشوا. وعليه إتضحت مادّة المغالطة والغائلة، وأنّ الإشتراک ممكن وتواتر الأخبار والإجماع على الإشتراک ليس على ما لا يعقل ثبوتآ، بل هو على ما يعقل وواقع إثباتآ بمراجعة القوانين العرفيّة في مختلف الميادين.

إذا تبيّنت هذه المقدّمة الوجيزة، يظهر حلّ الغائلة فيما نحن فيه؛ فإنّ الشرع والمقنّن إن كان يترشّح منه الرضا والإمضاء في باب الأمارات والطرق، وما يشبهها ـكالأصول المحرزة والأمارة التأسيسيّة أحيانآ بالنسبة إلى خصوص صورة الخطأ، وكان ينحلّ قانون إمضاء الطرق والأمارات وتلک الأصول إلى الأحكام الطريقيّة الشخصيّة، ينقدح الإشكال: بأنّه كيف يمكن أن يرتضي المولى بتطرّق خبر الواحد الخاطئ بالنسبة إلى زيد، مع علمه بأنّ زيدآ محكوم بوجوب صلاة الجمعة، فهل يعقل وجود تلک الإرادة الإلزاميّة الوجوبيّة، مع الإرتضاء وإمضاء سلوكه ذلک الطريق المخطئ؟! فإنّ إنحلال هذا القانون إلى الإمضاءات و الارتضاءات الجزئيّة الشخصيّة، يوجب هذه المعركة.


1 ـ تحريرات في الأصول :6 242.

وأمّا بناءً على المحافظة على تلک القوانين الكلّية على نهج كلّي قانونيّ، وأنّ الإرادة تعلّقت بضرب القانون النفسيّ والطريقيّ، فالنفسيّ عامّ يشمل الكلّ من غير إنحلال إلى الأشخاص، وهكذا الطريقيّ ففي مواقع الإصابة يكون الإمضاء والارتضاء القانونيّ موجودآ، ويكون الطريق حجّة منجّزة. وهكذا في موارد الخطأ يكون الطريق حجّةً معذّرةً، ولا تختصّ الحجّية بصورة الخطأ، أو بصورة الإصابة، بل الحجّية مشتركة، وإلّا فلا يكون حجّةً ومنجّزآ ومعذّرآ، لأنّ التنجيز والتعذير فرع إرتضاء الشريعة به.

وبالجملة تحصّل: أنّ تمام المشكلة ناشئة من ملاحظة الإرادة الشخصيّة في ناحية القانون النفسيّ، وملاحظة الإمضاء الجزئيّ في ناحية القانون الطريقيّ، وحيث إنّ في موارد الخطابات النفسيّة، يكون الناس مختلفين بحسب القدرة والعجز، والعلم والجهل، ويكون الحكم فعليّآ بالنسبة إلى الكلّ، لعدم إختصاص الخطاب بعنوان «العاجز والجاهل» كذلک في مورد إمضاء الطرق العقلائيّة، تكون جميع الطرق بالنسبة إلى كافّة الناس، ممضاة بإمضاء واحد، أو يكون كلّ واحد من الطرق مرضىَّ العمل، و ممضيّآ بإمضاء يخصّه. ولكن في موارد الإصابة والخطأ، لا يكون إمضاء وإرتضاء مخصوصآ بهما، بل الطرق أو خبر الثقة بعنوانه ممضى ومورد الإرتضاء، وعندئذ لا يلزم إمتناع، لعدم الإنحلال في ناحية الخطاب.[1]


الجهة السابعة: تصحيح المعني الحقيقي للرفع وعموميته

قد وقع البحث في مفاد «الرفع» الوارد في رواية حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهي: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَ مَا أُكْرِهُوا عَلَيْهِ


1 ـ تحريرات في الأصول :6 251 253.

وَمَا لاَ يَعْلَمُونَ وَمَا لاَ يُطِيقُونَ وَمَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَالْحَسَدُ وَالطِّيَرَةُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْق مَا لَمْ يَنْطِقُوا بِشَفَةٍ».[1]

هل الرفع في هذا الحديث بمعناه الحقيقي وهو إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه، أو هو بمعنى الدفع أي المنع عن تقرر الشيء وتحقّقه عند وجود مقتضيه، فاستعمل في المقام مجازآ؟

قد أفاد المحقّق النائيني(رحمه الله): أنّ الرفع في الأشياء التسعة بمعنى الدفع، مضافآ إلى أنّ إستعمال الرفع مكان الدفع ليس مجازآ، ولا يحتاج إلى عناية أصلا؛ فإنّ الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق؛ لأنّ بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علّة البقاء، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنّما يكون دفعآ حقيقةً بإعتبار علّة البقاء، وإن كان رفعآ بإعتبار الوجود السابق، فإستعمال الرفع في مقام الدفع لا يحتاج إلى علاقة المجاز، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ؛ لأنّ غلبة إستعمال الرفع فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلک.[2]

هذا وقد ذهب الإمام الخميني (قدس سرّه) إلى أنّ مفادها هو الرفع وإزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه قائلا :

والتحقيق: أنّه فيه إنّما هو بمعناه الحقيقي، وهو إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه، وذلک لأنّ الرفع إنّما نسب إلى نفس تلک العناوين؛ أي الخطأ والنسيان... إلى آخر التسعة، وهي عناوين متحقّقة قد نسب الرفع إليها إدّعاءً،... ولذلک يجوز نسبة الرفع إلى الموضوع إدّعاءً بواسطة رفع آثاره أو دفعها أو دفع المقتَضي عن التأثير، وذلک لا يوجب أن يكون الرفع المنسوب إلى الموضوع بمعنى الدفع، ولذا


1 ـ وسائل الشيعة :15 369.

2 ـ فوائد الأُصول :3 337.

ترى أنّ تبديل الرفع الدفع يخرج الكلام عن البلاغة، فإذا قيل: دفع النسيان والخطأ إلى غير ذلک، يصير الكلام باردآ مبتَذَلاً.

هذا كلّه إذا نسب الرفع إلى نفس تلک العناوين ادّعاء من غير تقدير في الكلام، كما هو التّحقيق.

ولو سلّمنا بأنّ التقدير رفع الأحكام والآثار أمكن أن يقال أيضآ: أنّه بمعناه الحقيقي لا بمعنى الدفع: أمّا في الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطُرّوا إليه فالأمر واضح؛ لشمول أدلّة الأحكام إطلاقآ أو عموم مواردها، فقولُه تعالى: (السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)[1] و (الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)[2] يشمل جميع المكلّفين ولو كانوا مُنطبقين للعناوين المذكورة؛ فإنّه بحسب جعل القانون والإرادة الاستعماليّة يشمل الناسي والمخطِئ و المكرَه وغيرهم، وكذلک سائر الأحكام المجعولة في الشريعة، ومفاد الحديث حينئذٍ رفع جميع الآثار، فهو تخصيص لأدلّة الأحكام الأوّليّة المجعولة قانونآ، فإنّ التخصيص والنسخ عبارة عن إنتهاء أمد الحكم.

فدليل الرفع إنّما يرفع الأحكام عنهم، فالرفع إنّما تعلّق بالأحكام الثابتة المتحقّقة في الموضوعات بحسب الإرادة الإستعماليّة... فالرفع إنّما استعمل بإعتبار رفع الحكم القانوني العامّ عن مُنطبَق هذه العناوين، ولا معنى للدفع في هذا المقام.

هذا، وأمّا في الطَّيَرة والحسد والوسوسة في الخلق، فالظاهر أنّ إطلاق الرفع فيها أيضآ بمعناه الحقيقي؛ وذلک لأنّ الظاهر من الحديث الشريف من إختصاص رفع التسعة بالأُمّة المرحومة أنّ لتلک العناوين كانت أحكام في الأُمم السالفة،


1 ـ سورة المائدة: 38.

2 ـ سورة النور: 2.

ومعلوم أنّ الأحكام الصادرة عن الأنبياء المشرّعين لم تكن بحسب الوضع القانوني والإرادة الإستعماليّة مقيّدةً بزمان ومحدودة بحدّ، بل هي أيضآ كانت مجعولةً على العناوين الكلّيّة، مثل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)[1] ونحوه، فكان لها الإطلاق أو العموم بالنسبة إلى جميع الأزمنة، وبهذا الإعتبار يقال: إنّها منسوخة، وإن لم يكن بحسب اللُّبّ نسخ ورفع، بل كان أمدُها وأجلها إلى حدّ محدود، فإذا كان للأحكام المترتّبة على تلک الموضوعات إطلاق أو عموم بالنسبة إلى جميع الأزمنة يكون إستعمال الرفع فيها بمعناه الحقيقي، ولا يكون للدفع معنىً بالنسبة إليها إلّا بحسب اللُّبّ والواقع، وهو ليس مناط صحّة الإستعمالات.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه يأتي بالنسبة إلى جميع العناوين؛ فإنّ الظاهر أنّ لجميعها أحكاماً رُفعت عن هذه الأُمّة إمتناناً، ولو لا ذلک كانت ثابتة لها كالتي قبلها.

فتلخّص كون الرفع بمعناها؛ سواء كان الرفع بلحاظ رفع التسعة بما هي هي، أو كان رفع تلک الأمور حسب الآثار الشرعية.[2]


الجهة الثامنة: كلّية الأدلة الإمتنانية

قد إشتهر بين الأصحاب أنّ أدلة الرفع والحرج ونحوهما ممّا تكون إمتنانية فلايشمل ما لو كان الأمر على خلاف الإمتنان؛ ولهذا قالوا بصحّة الصوم الضرري أو الحرجي إذا أقدم المكلّف عليه.[3]

يقول الشيخ الأعظم(رحمه الله) في الفرائد: واعلم أنّه لو حكمنا بعموم الرفع لجميع الآثار فلا يبعد إختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الإمتنان على الأمة كما


1 ـ سورة البقرة: 21.

2 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 40 41؛ تنقيح الأصول :3 226.

3 ـ كتاب البيع للإمام :1 526.

إذا إستلزم إضرار المسلم؛ فإتلاف المال المحترم نسيانآ أو خطأ لا يرتفع معه الضمان وكذلک‌الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما إضطروا إليه؛ إذ لا إمتنان في رفع الأثر عن الفاعل بإضرار الغير فليس الإضرار بالغير نظير سائر المحرّمات الإلهية المسوغة لدفع الضرر.[1]

ومن هنا يعتبر المحقّق النائيني(رحمه الله) في التمسک بحديث الرفع أن يكون في رفعه منّة وتوسعة على العباد، فالأثر الّذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يندرج في عموم الحديث.[2]

هذا، وقد ذهب الإمام الخميني (قدس سرّه) إلى أنّ الإمتنان في الأدلّة الإمتنانيّة إنّما هو الإمتنان على الأُمّة، لا على الشخص، فلا بدّ من لحاظ الإمتنان في القانون، لا الأشخاص والأفراد. والخلط بين الأمرين أوجب إشتباهات كثيرة في كلماتهم، ولذا بنينا على أنّ تحمّل الحرج والإتيان بالمأمور به لا يسقط الأمر. فمعنى حكومة دليل الحرج رفع الحكم الناشئ من جعله الحرج، وفي هذا الرفع إمتنان على الأُمّة، والإمتنان عليهم إقتضى هذا الجعل والقانون، لا الإمتنان الشخصيّ في مورد خاصّ حتّى يقال: الدليل الامتنانيّ لا يشمل مورد خلاف الإمتنان على الغير، أو الإمتنان يقتضي المعذوريّة، لا عدم المشروعيّة.[3]

يقول الإمام الخميني (قدس سرّه) في كتاب البيع :

إنّ الأحكام الإمتنانيّة إنّما هي إمتنانيّة بحسب القانون الكلّي، ولا يلاحظ فيه آحاد المكلّفين، فإذا كان في جعل قانون إمتنان على الأُمّة، كان الحكم إمتنانيّآ، وإن فرض مصادمته في موردٍ لشخص أو أشخاص، وكونه موجبآ لحرمانهم عن


1 ـ فرائد الأصول :2 35.

2 ـ نفس المصدر :3 348.

3 ـ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 275.

حقّ أو ملک؛ كما أنّ المصالح والمفاسد في الأحكام على رأي العدليّة ليست بمعنى كون الحكم بالنسبة إلى كلّ أحد ذا مصلحة وكما في الأحكام السياسيّة والجزائيّة، فإنّها أحكام إمتنانيّة على الأُمّة، وإن كان فيها ضرر وحرج على الجاني. فحديث الرفع إمتناني، مع أنّ جواز أكل مال الغير عند الإضطرار بلا إذن‌صاحبه أو مع نهيه، خلاف المنّة بالنسبة إليه، وهذا لا ينافي الإمتنان بحسب القانون.[1]

وقد أضاف إليه ولده الشهيد مصطفى(رحمه الله) :

بأنّه بناءً على القول بعدم إنحفاظ الخطابات الكلية القانونية بالنسبة إلى حال الجهل والسهو والنسيان، لا يمكن تصوير الأحكام الفعلية بالنسبة إليهم، فيلزم منه لغوية حديث الرفع، وعدم الحاجة إليه؛ ضرورة أنّ مع عدم وجود التكليف ثبوتآ لا معنى لذلک قطعآ؛ وإن قلنا بأنّ الخطابات العامة القانونية تستتبع الأحكام الفعلية بالنسبة إلى الكلّ على حد سواء، فيكون المنّة في نفس الرفع المستند إلى «ما لا يعلمون...»[2] وأما على مذهبهم من صرف تلک القوانين العامة عن ظواهرها، فلا بدّ من أن يكون الرفع بلحاظ الشمول الإنشائيّ، ويكون دفعآ حقيقةً، وهذا واضح المنع، للزوم التفكيک في الإسناد الواحد عرفا.

ولعمري، إنّ الأصحاب لعدم تمكّنهم من تصوير الحكم الفعلي في هذه الموارد، إرتكبوا ما إرتكبوا فقالوا: «إنّ الإمتنان بلحاظ إمكان التضييق من ناحية جعل التكليف الآخر، أو الإحتياط والتحفظ» وأنت خبير بما فيه من ظهور الغرابة، فإنّ الحديث ناظر إلى أنّ رفع ما لا يعلمون منّةً، لا الأمر الآخر الأجنبي. وبالجملة: لا يلزم من الجمع بين حديث الرفع والقوانين الكلية، إختصاص


1 ـ كتاب البيع للإمام الخميني :1 526 527.

2 ـ وسائل الشيعة :15 369.

التكليف بالعالمين والذاكرين، حتّى نحتاج إلى ضمّ الإجماع من الخارج لإثبات الإشتراک، كما لا يخفى على الفطن العارف.[1]


الجهة التاسعة: تصحيح التمسّک بالإحتياط

قد إستقرّت آراء المحقّقين من المتأخّرين على أنّ من شرائط تنجيز العلم الإجماليّ أن يكون تمام الأطراف ممّا يمكن عادةً إبتلاء المكلّف بها، فلو كان بعضها خارجآ عن محلّ الإبتلاء لا ينجِّز العلم، ويكون الطرف الآخر موردآ للبراءة العقليّة والشرعيّة. وعلّلوا ذلک بإستهجان الخطاب أو الخطاب المنجّز أو التكليف الفعليّ بالنسبة إلى الخارج عنه؛ ضرورة أنّ النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد المغرب يكون مستهجنآ؛ لأنّ التكاليف إنّما تتوجّه إلى المكلّفين لأجل إيجاد الداعي إلى الفعل أو الترک، فما لا يمكن عادةً تركه أو إتيانه لا مجال لتعلّق التكليف به. والمقصود من الخروج عن محلّ الإبتلاء أعمّ ممّا يكون غير مقدور عادةً، أو يرغب عنه الناس عادةً وتكون الدواعي مصروفةً عنه نوعآ، والميزان: إستهجان الخطاب عند العقلاء.[2]

قال المحقّق النائيني(رحمه الله) في الفوائد :

يعتبر في تأثير العلم الإجمالي إمكان الإبتلاء بكلّ واحد من الأطراف، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجآ عن مورد الإبتلاء؛ فإنّ المطلوب في باب النواهي مجرّد الترک وإستمرار العدم وعدم نقضه بالوجود، كما أنّ المطلوب في باب الأوامر هو مجرّد الفعل ونقض العدم الأزلي، ولا إشكال في إعتبار القدرة العقليّة على كلّ من طرفي الفعل والترک في صحّة كلّ من الأمر والنهي وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق أو بتحصيل الحاصل. ولكن يختصّ النهي بقيد زائد، وهو أنّه


1 ـ تحريرات في الأصول: :3 446 449.

2 ـ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 214.

يعتبر في صحّته مضافآ إلى القدرة العقليّة على الفعل المنهيّ عنه القدرة العاديّة عليه بحيث يتمكّن المكلّف عادةً من نقض العدم وفعل المنهيّ عنه، ولا يكفي في صحّة النهي مجرّد القدرة العقليّة على الفعل، لإستهجان التكليف بترک ما لا يقدر على فعله، فانّ الترک حاصل بنفسه. والتكليف المطلق بترک ما يكون منتركاً عادةً يكون كالتكليف المطلق بترک ما يكون منتركا عقلا من حيث اللغويّة والإستهجان، فلا يصحّ النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم إمكان الإبتلاء به عادةً.

ثمّ إنّ مناط إستهجان الخطاب إنّما هو بعدم صلاحيته للدعوة إلى المتعلّق لبعد تمكّنه منه عادةً، بحيث يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيّآ عن هذا الفعل فعلا، من دون فرق بين كون خطابه أمرآ أو نهيآ. وكون الغرض من الأمر إيجاده ومن النهي تركه لا يجدي فرقآ في رفع إستهجان الخطاب إلى من هو أجنبيّ عن العمل، ويرونه العرف بحسب العادة غير قادر عليه، كما لو قيل لشخص قبل تزويجه : إرفق مع زوجتک، في ظرف لا يكون له أسباب الزواج مهيّئآ عادةً.[1]

وحاصل الكلام أنّ العلم الإجمالي إنّما يكون مؤثّرآ إذا كان المعلوم بالإجمال ممّا يصحّ النهي عنه في أيّ طرف كان حتّى يعلم بالتكليف على كلّ تقدير، ومع خروج بعض الأطراف عن مورد الإبتلاء لا علم بالتكليف على كلّ تقدير، لإحتمال أن يكون متعلّق التكليف هو الخارج عن مورد الإبتلاء، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف، لأنّه لا يترتّب عليه أثر عملي ويبقى الطرف الآخر الّذي يمكن الإبتلاء به جاريآ فيه الأصل بلا معارض.

هذا، ولكنّ الإمام الخميني (قدس سرّه) يعتقد أنّ الخروج عن محلّ الإبتلاء لايوجب نقصانآ في التكليف، ولا بدّ من الخروج عن عهدته بترک ما يكون في محلّ الإبتلاء.


1 ـ فوائد الاصول :4 51 54.

وتوضيح ذلک كما يقوله السيّد الإمام (قدس سرّه) ردّآ على المسلک المشهور هو :

أنّه يظهر من كلام الأصحاب 4 أنّهم تلقّوا ذلک على نحو إرسال المسلّمات والأصول المسلّمة. والوجه فيما ذكروه هو أنّهم يرون أنّ الخطاب العمومي الواحد ينحلّ إلى خطابات عديدة بعدد رءوس المكلّفين، بحيث يكون لكلّ من الخطابات المنحلّة إليها مبادئ تخصّه، حتّى يكون وزانها وزان الخطابات الشخصية، بحيث كلّ ما يصحّ فيه الخطاب الشخصي يصحّ فيه الخطاب العمومي، وكلّ ما لا يصحّ فيه ذلک لا يصحّ فيه هذه، مع أنّه ليس كذلک، بل خطاب واحد متعلّق بكثيرين، فلا تعدّد في ناحية الخطاب، بل التعدّد إنّما هو في ناحية المتعلّق.

أضف إلى ذلک: أنّ الإرادة التشريعية ليست إرادة إتيان المكلّف وإنبعاثه نحو العمل، وإلّا يلزم في الإرادة الأزلية عدم إنفكاكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى المصلحة العقلائية، ومعلوم: أنّه لا تتوقّف صحّته عندهم على صحّة الإنبعاث من كلّ أحد، كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفية.

ومن هنا تبيّن أنّ إستهجان الخطاب الخاصّ غير إستهجان الخطاب الكلّيّ، فإنّ الأوّل فيما إذا كان الشخص غير متمكّن، والثاني فيا إذا كان العموم الّذي يكون غيره كالمعدوم غير متمكّن عادةً، أو مصروفة دواعيهم عنه.

وبعبارة أخرى، إنّ الأحكام الكلّيّة القانونيّة مثل الأحكام الشرعيّة والخطابات الإلهيّة والنبويّة(صلي الله عليه وآله) وكذا أوامر الموالي العرفيّة الكلّيّة القانونيّة، فهي إنّما تُستهجن إذا كان المأمور به والمنهيّ عنه خارجآ عن إبتلاء جميع المكلّفين، وأمّا إذا لم يكن كذلک لإبتلاء بعض المكلّفين به، وإن خرج عن مورد إبتلاء بعضٍ آخر فهو غير مُستهجن. غاية الأمر أنّ العقل يحكم بمعذورية العاجز والجاهل القاصر في المخالفة، وليس ذلک تقييدآ لحكم الشارع.

إذا عرفت ذلک: فالعلم الإجماليّ المتعلِّق بالتكليف الفعلي المنجّز لا بدّ من الخروج عن عهدته، وهو يقتضي الموافقة القطعية والإحتماليّة، وترک المخالفة القطعيّة والإحتمالية، ومجرّد كون أحد الأطراف خارجآ عن محلّ الإبتلاء ومصروفة عنه الدواعي لا يوجب عدم تنجيز التكليف المعلوم.[1]

وتبعه في ذلک المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) وقال :

إنّه لو كان بعض الأطراف في الشبهة المحصورة خارجآ عن محلّ الإبتلاء غير مقدور بالقدرة العاديّة لا يكون ذلک موجبآ لعدم تنجّز التكليف المعلوم إجمالا؛ لأنّ التكليف يكون ثابتآ ولو كان متعلّقه خارجآ عن محلّ الإبتلاء؛ لأنّ الخروج عن محلّ إبتلاء بعض المكلّفين لا يوجب إستهجان الخطاب العامّ والتكليف بنحو العموم، بل الملاک في الإستهجان هو خروجه عن محلّ إبتلاء عامّة المكلّفين أو أكثرهم، وحينئذ فلا بدّ من الإحتياط بترک ما هو محلّ للإبتلاء أيضآ، هذا مع العلم بالخروج.[2]


الجهة العاشرة: إجراء الأصل العقلي في نسيان الأجزاء

لو ثبت جزئيّة شيء للمأمور به في الجملة، وشُکّ في أنّه جزء على الإطلاق فتفسد الصلاة بالإخلال به مطلقآ ولو سهوآ، أو يختصّ جزئيّته بصورة الإلتفات، فلا تفسد الصلاة لو أخلّ به سهوآ و غفلةً. فهل الأصل العقلي عند ترک الجزء نسيانآ هو البراءة والإكتفاء بالناقص، أو الإشتغال ولزوم الإعادة؟

قد إعتقد الشيخ الأنصاري(رحمه الله) بعدم جريان الأصل العقليّ؛ لأنّ ما هو جزء حال


1 ـ أنظر: جواهر الأصول :3 320 322؛ أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية :2 215 217؛ تنقيح الأصول :2124 125.

2 ـ دراسات في الأصول :3 381.

التوجّه والإلتفات جزء حال السهو والغفلة أيضآ، فبإنتفائه ينتفي المركّب، والمأتيّ به ليس موافقآ للمأمور به؛ لأنّ الغفلة لا توجب تغيّر المأمور به ولا تغيّر الأمر المتوجّه إليه قبل الغفلة، ولم يحدث بالنسبة إليه من الشارع أمر آخر متوجّه إلى الغافل؛ لعدم إمكان توجيه الخطاب نحو الغافل والساهي - بعنوانهما- بالصلاة الفاقدة للجزء؛ لأنّه لو خاطبه كذلک فإمّا أن لا يتذكّر أصلا، فلا يوجب هذا الأمر إنبعاثه وتحريک عضلاته نحو الفعل المأمور به، وإن تذكّر وزال سهوه وغفلته بسبب توجيه الخطاب نحوه كذلک خرج عن عنوان الساهي الذي هو الموضوع للحكم في ذلک الخطاب، ويصير محكومآ بحكم الملتفت، وعلى أيّ تقدير فالخطاب الخاصّ به لغوٌ لا يمكن صدوره من الحكيم، وإذا إمتنع ذلک في حقّه وجب عليه الإعادة بمقتضى الأمر الأوّل ـإلى أن قال:ـ وهذا معنى ما إخترناه من فساد العبادة الفاقدة للجزء نسيانآ، بمعنى عدم كونها مأمورآ بها ولا مسقطآ عنه.[1]

هذا، ولكن تُفصّي عن الإشكال بوجوهٍ :

منها، ما أجاب به المحقّق النائيني قائلا: إنّ الأقوى جريان البراءة من الخصوصيّة الزائدة المشكوكة، وهي فيما نحن فيه جزئيّة المنسيّ في حال النسيان، فالأصل يقتضي عدم جزئيّة المنسيّ، ويلزمه أن يكون الجزء من الأجزاء الغير الركنيّة، لإختصاص جزئيّته بحال الذكر، فلا يلزم من الإخلال به نسيانآ بطلان العمل، وذلک من خواصّ الجزء الغير الركني. نعم، إنّ أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسيّ هو رفع الجزئيّة في حال النسيان فقط ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلّا مع إستيعاب النسيان لتمام الوقت.[2]


1 ـ فرائد الأصول: :2 363 364.

2 ـ نفس المصدر :4 220.

ومنها : ما أجاب به الإمام الخميني (قدس سرّه) بناءً على مسلكه المختار: إنّ ما هو الموضوع في دائرة التشريع هو عنوان المؤمنين أو الناس الأعمّ من العاجز والقادر، والجاهل والعالم، ولأجل ذلک يكون الحكم فعليآ في حقّ الجميع، غير أنّ العجز والجهل عذر عقلي عن تنجّز التكليف، والملاک لصحّة هذا الخطاب وعدم إستهجانه هو صلوحه لبعث عدد معتدّ به من المكلّفين.

هذا، وحيث إنّ العجز والجهل مانع عن التنجيز لا عن الفعلية، فإنّ جريان البراءة لا يتوقّف على إختصاص الناسي والساهي بالخطاب، بل يكفي في ذلک الخطابات العامّة القانونية من قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ)[1] والخطابات الواردة على العناوين العامّة، من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)[2]، أو (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)[3] ضرورة أنّ الغرض من الخطاب هو بعث المكلّف نحو العمل، وهذه الخطابات كافية في البعث نحو العمل، غير أنّ العالم والعامد يبعث منه إلى المركّب التامّ، والساهي والغافل عن الجزء إلى المركّب الناقص؛ لأنّ المفروض هو سقوط التكليف بالجزء عن الناسي، وأنّه فرق بينه وبين غيره في تعلّق التكليف، فيكون إختصاصه بالخطاب مع حصول الغرض بتلک الخطابات لغوآ.

وعليه إذا فرض أنّ الصلاة التامّة ذات مصلحة في حقّ الذاكر، والصلاة الناقصة ذات مصلحة وذات ملاک بالنسبة إلى غيره، والمفروض كما عرفت وجود خطاب واحد باعث لهما نحو المطلوب القائم به الملاک، يكون المقام حينئذٍ من صغريات الأقلّ والأكثر، إذا أتى الناسي بالمركّب ثمّ تنبّه؛ لأنّ الناسي بعد ما أتى بالمركّب الناقص ووقف على الجزء المنسي يشکّ في أنّ الجزء


1 ـ سورة الإسراء: 78.

2 ـ سورة النساء: 59.

3 ـ سورة البقرة: 21.

المنسي هل كان له إقتضاء بالنسبة إليه في حال النسيان حتّى يحتاج إلى الإعادة أو لا إقتضاء له؛ فتجري في حقّه البراءة من غير فرق بين النسيان المستوعب وغيره؛ لأنّ الأمر الداعي إلى المركّب داعٍ بعين تلک الدعوة إلى الأجزاء، والمفروض أنّ الأجزاء التي كان الأمر بالمركّب داعيآ إليها قد أتى بها الناسي، وبعد الإتيان بها يشکّ في أنّ الأمر هل له دعوة أخرى إلى إتيانها ثانيآ حتّى يكون داعيآ إلى إتيان الجزء المنسي أيضآ أولا؟ ومع الشکّ فالأصل البراءة.[1]

هذا، ومن النتائج الأصولية للخطابات القانونية أيضآ عدم صلوح تقييد المطلقات بخطاب خاص بالنسبة إلى شخص أو طائفة معينة، بل الجمع العرفي بينهما إنّما يجري إذا كان كلّ منهما من الأحكام الكلّية القانونية.[2]


المبحث الثاني: التطبيقات الفقهية للخطابات القانونية

ثمّ انّ لهذه النظرية وما تتضمّنه من فعليّة التكاليف بالنسبة إلى جميع المخاطبين فروعآ وتطبيقات فقهية كثيرة في الأبواب الفقهية المختلفة، سنشير إليها في المطلبين وهما: الآثار العبادية والنماذج المعاملية.


المطلب الأول: الآثار العبادية

هناک تطبيقات فقهية عبادية لهذه النظرية نستعرض أهمّها فيما يلي :


الجهة الأولى: حكم الصلاة في النجس مع الجهل بالحكم

إنّ مقتضى إطلاق أدلّة شرطية الطهارة أو مانعية النجاسة كقوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «لا صلاة إلّا بطهور»،[3] بناءً على أنّ الطهور في المستثنى أعمّ من الخبث،


1 ـ تهذيب الأصول :3 229 و 348.

2 ـ كتاب البيع (للإمام الخميني) :2 602.

3 ـ وسائل الشيعة :1 372.

هو بطلان الصلاة الواقعة في النجس مطلقآ؛ سواء كان عن عمد، أو جهل بالحكم أو الموضوع، أو النسيان أو غيرها من الأعذار؛ فلا بدّ من إلتماس دليل على صحّة الصلاة المأتي بها في النجس.

قد يقال إنّ الأدلة قاصرة عن إثبات الحكم للجاهل؛ لقبح تعلّق التكليف بالغافل،[1] وعليه يكون المأتي به مع النجاسة مجزيآ؛ لأنّه صلاة تامّة فيحقّه بعد عدم الدليل على إثبات المانعية أو الشرطية في حقّه.

هذا، ويعتقد السيّد الإمام (قدس سرّه) بعدم قصور الأدلّة عن إثبات التكليف لمطلق المكلّفين، ولا مانع من تعلّقه بالعناوين الكلّية الشاملة لعامّة المكلّفين، وإن كان التارک عن عذر معذورآ في أدائه، فتشمل أدلّة الشرطية الجاهل أيضآ؛ والسرّ فيه : عدم إنحلال الخطاب المتعلّق بالعناوين كـ «الناس» و«المؤمنين» إلى خطابات جزئية بعدد النفوس أو العناوين الطارئة، ولهذا يكون العصاة مكلّفين، مع أنّ العاصي الذي يعلم المولى طغيانه، لا يمكن تكليفه جدّآ لغرض الإنبعاث؛ لإمتناع إنقداح إرادة التكليف جدّآ ممّن لا يطيع.[2]


الجهة الثانية: حكم الورود في الصلاة قبل الوقت خطأً

لو دخل في الصلاة قبل الوقت خطأً وإنكشف الخطاء قبل تمام الصلاة أو بعده فيمكن الإستدلال لصحّتها وإدراک الوقت، تبعآ للمشهور بما رواه إسماعيل بن رياح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «إذا صلّيت وأنت ترى أنّک في وقت ولم يدخل الوقت فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنک»[3] بناءً على أن يكون لفظ «ترى» الواقع في الرواية موضوعآ للكشف عن الواقع؛ فإنّ توجّه التكليف


1 ـ مدارک الأحكام :2 344.

2 ـ كتاب الطهارة (للإمام الخميني) :4 279 280.

3 ـ وسائل الشيعة :4 206.

إليه ]بناءً على القول بالإنحلال[ مشكوک فيه، لأنّ حال وجود الأمارة لا يكون التكليف الواقعي متوجّهآ إليه، لأنّه غير ملتفت، وبعد الإلتفات الحاصل بعد الصلاة يحتمل عدم توجّه التكليف إليه إذا أتى بالصلاة مع قيام ما يحتمل أماريته، ففي الحقيقة كان المورد من موارد الشکّ في التكليف.

هذا وقد أورد عليه الإمام (قدس سرّه) إشكالا مبنائيآ من أنّ التكاليف القانونية الشرعية ثابتة وفعلية بالنسبة إلى جميع المكلّفين من غير فرق بين العالم والجاهل والناسي والساهي والعاجز وغيرهم، وإنّما المكلّف مع أحد تلک العناوين معذور عن العمل بالواقع وعن إطاعة المولى، فبعد الإلتفات يكون شكّه في إمتثال الأمر المعلوم وسقوط التكليف الفعلي، فتبطل الصلاة وتجب إعادتها.[1]


الجهة الثالثة: سقوط الأداء في فاقد الطهورين

إنّه يقتضي إطلاق آية الوضوء[2] أن تشترط الصلاة بالطهور مطلقآ ولو مع العجز عنه، ولكنّه توهّم بناءً على القول بالإنحلال، أنّ الأمر قاصر عن إثبات الشرطية حال العجز، لعدم إمكان توجّه الخطاب إلى العاجز؛ فإنّ العقل يستقلّ بقبح تكليفه.

وقد أورد عليه المحقّق النائيني(رحمه الله): إنّ مثل تلک الأوامر إرشادية لا يعتبر فيها القدرة على متعلّقاتها؛ لأنّ مفادها ليس إلا الإرشاد إلى دخل متعلّقاتها في متعلّق الخطاب النفسي، ففي الحقيقة أنّ تلک الخطابات بمنزلة الإخبار؛ لا بعث فيها ولاتحريک إلى المتعلَّقات حتّى تقتضي القدرة عليها فتشمل صلاة العاجز أيضآ؛ فإنّه لا فرق بين الشرطية المستفادة من‌مثل «لا صلاة إلّا بطهور»[3] أو المستفادة


1 ـ كتاب الخلل في الصلاة: 101.

2 ـ سورة المائدة: 6.

3 ـ وسائل الشيعة :1 372.

من الأمر الإرشادي.[1]

هذا، ويعترض عليه السيّد الإمام (قدس سرّه) بأنّ مطلق الأوامر نفسية كانت أو غيرية أو إرشادية، إنّما تستعمل في معناها وهو نفس البعث والإغراء، فإنّ الهيئة موضوعة لذلک من غير أن يكون الوجوب أو غيره مفادَها، لكن البعث إذا توجّه إلى طبيعة من غير دلالة على أنّه لأجل مطلوب آخر، ينتزع منه النفسية، وإذا تعلّق بشيء مع الدلالة على أنّه لآخر ينتزع منه الغيرية، أو الإرشاد إلى الشرطية أو الجزئية حسب اختلاف المقامات.

فقوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...)[2] لا ينسلخ عن البعث إلى غسل الوجوه والأيدي، بحيث تكون الهيئة مستعملةً في الإخبار بإشتراط الصلاة بالوضوء؛ ضرورة أنّ هذا الإستعمال مع كونه غلطآ لا مجازآ مخالف لفهم العرف والعقلاء، بل الهيئة مستعملة في معناها وهو البعث والإغراء؛ لكن لما كانت مسبوقةً بقوله (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ...)[3] تكون دالّةً على أنّ البعث إليه لأجل إشتراط الصلاة به، ففَهم الشرطية أو إنتزاعها إنّما هو من البعث والإغراء مع خصوصية المورد.

ثمّ يقول: إنّ الأوامر الكلّية القانونية غير مشروطة عقلا بصحّة توجّهها إلى كلّ فرد فرد من المكلّفين، وليست الخطابات الكلّية منحلّةً كلٌّ إلى خطابات متوجّهة إلى آحادهم؛ فيكون كلّ خطابٍ منحلٍّ منظورآ فيه شرائط توجّه الخطاب، وإلّا لزم منه مفاسد كعدم تكليف العصاة والكفّار، والجاهل بالحكم أو الموضوع، بل وإختصاص الوضعيات بمن يختصّ به التكاليف... إلى غير ذلک ممّا يطول ذكره، والخلط بين شرائط الخطاب الجزئي الشخصي والخطاب العامّ القانوني، منشأ


1 ـ فوائد الاصول :4 251 253.

2 ـ سورة المائدة: 6.

3 ـ نفس السورة: 6.

لكثير من الإشتباهات والإختلاطات. ومن هنا تبين أنّ إطلاق الآية يقتضي إشتراطها بالطهور مطلقآ ولو مع العجز عنه، ومقتضاه سقوط الصلاة مع تعذّر حصول الشرط.[1]


الجهة الرابعة: تصحيح الطهارة المائية مع تعين التيمّم

إذا عارض إستعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهم كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجسآ ولم يكن عنده من الماء إلّا بقدر أحد الأمرين من رفع الحدث أو الخبث، فذهب السيّد اليزدي(رحمه الله) إلى أنّه يجب إستعمال الماء في رفع الخبث ثمّ يتيمّم؛ لأنّ الوضوء له بدل وهو التيمّم بخلاف رفع الخبث.[2]

هذا، ولكنّ السيّد الإمام (قدس سرّه) قد ذهب إلى أنّه يصحّ الوضوء أو الغسل حينئذ لالأجل الترتّب بل لأجل عدم إمتناع تعلّق الأمرين بعنوانين متزاحمين في الوجود؛ سواء كانا من قبيل الأهمّ والمهمّ أو لا؛ لأنّ الأوامر متعلّقة بنفس الطبائع من غير سراية إلى الخصوصيات الفردية؛ وأنّ الإطلاق بعد تمامية مقدّماته ليس كالعموم في تعلّق حكمه بالأفراد، بل مقتضاه بعدها كون نفس الطبيعة تمام الموضوع؛ بلا دخالة شيء آخر من الخصوصيات الفردية والحالات الطارئة؛ وأنّ الأدلّة غير ناظرة إلى حال المتزاحمات ولا حال علاجها، فإطلاق دليل المتزاحمين شامل لحال التزاحم من غير أن يكون ناظرآ إلى التزاحم و علاجه؛ وأنّ الأحكام القانونية تعمّ العاجز والقادر والعالم والجاهل من غير تقييد بحال دون حال؛ وأنّ الأمر بكلٍّ من المتزاحمين أمر بالمقدور، والجمع غير مقدور، وهو ليس بمأمور به، ففي المتزاحمين أمران كلٌّ تعلّق بمقدور، لا أمر واحد بالجمع


1 ـ كتاب الطهارة :2 359.

2 ـ العروة الوثقى :2 178.

الذي هو غير مقدور.[1] فيمكن تصوير الأمرين في عرض واحد، وعليه لا إشكال في صحّة الوضوء مع الإبتلاء بالمزاحم.


الجهة الخامسة: حكم الصلاة في ضيق الوقت

إنّ الصلاة مركّبة من أجزاء واجبة وأجزاء مستحبّة فيجب الإقتصار على أقلّ الواجب فيما إذا دار الأمر بين إتيان الصلاة مع الثانية مع وقوع بعض الأجزاء خارج الوقت، وبين إتيان خصوص الأجزاء الواجبة، فلو أتى بالمستحبّات مع العلم بذلک، فقد ذهب السيّد اليزدي(رحمه الله) إلى أنّه يشكل صحّة صلاته، بل تبطل على الأقوى؛[2] فإنّ إدراک الوقت أهمّ من إتيان ما زاد على أقلّ الواجب، ومقتضى القاعدة حينئذ ترک المهمّ لدرک الأهمّ؛[3] إلّا أن يقال إنّ غاية ذلک هو عدم الأمر بها، فيمكن التصحيح حينئذ على سبيل الترتّب.[4]

هذا ولكن الأقوى عند الإمام الخميني (قدس سرّه) وسماحة المرجع الديني آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) صحّتها مع إدراک ركعة من الوقت، بل لا يبعد صحّتها مطلقآ وإن عصى بتفويت الوقت؛[5] وذلک لبقاء الواجبين المتزاحمين على فعليتهما؛ فإنّ الأدلة بناءً على ما إختاره الإمام (قدس سرّه) ومن تبعه متضمّنة للتكاليف القانونية التي لا بأس بفعليتها لدى التزاحم.


الجهة الخامسة: حكم الصلاة مع الإخلال عن جهل

إذا حصل الإخلال بزيادة أو نقصان جهلا بالحكم فإن كان بترک شرط ركني أو


1 ـ كتاب الطهارة :2 124.

2 ـ العروة الوثقى (المحشى) :2 292.

3 ـ مهذّب الأحكام :5 173.

4 ـ موسوعة الإمام الخوئي :11 411.

1 ـ نفس المصدر؛ العروة الوثقى (مع تعليقات آية الله العظمى الفاضل اللنكراني) :1 382.

بزيادة ركن فقد ذهب السيّد اليزدي(رحمه الله) إلى بطلان الصلاة؛[1] ولكنّ السيّد الإمام (قدس سرّه) يعتقد أنّه لم تبطل الصلاة مطلقآ، سواء كان الإخلال ناشئآ عن الجهل بالحكم أو بالموضوع، عن تقصير أو قصور، زيادةً كان أو نقيصةً، ركنآ أو غيره؛ فإنّه يدلّ على الصحّة في الجميع مع الغضّ عن المعارض، حديث الرفع؛[2] فإنّ ضمّ دليل الرفع إلى دليل وجوب الصلاة ينتج كون المأمور به ما عدا المرفوع، وعليه فالإتيان به موجب للصحّة عقلا.

ثمّ قد يستشكل في شموله للشبهة الحكمية بلزوم المحال؛ ضرورة أنّ إختصاص الحكم بالعالم به دور صريح. فهدم السيّد الإمام (قدس سرّه) أساس الإشكال وأجاب عنه بأنّه مبتنٍ على إنحلال الخطابات العامة، كلّ إلى خطابات عديدة عدد المكلّفين متوجّهة إليهم بأشخاصهم ولازمه تحقّق مبادئ الخطاب في كلّ على حدة؛ فكما لا يمكن توجّه خطاب خاص إلى الناسي لعدم حصول مبادئه كذلک، لا يمكن خطابه في ضمن الخطاب العام المنحلّ إلى الخطابات لعدم حصول مبادئه؛ إذ فيه مضافآ إلى أنّ لازمه عدم تكليف العاجز والنائم والجاهل وغيرهم من ذوي الأعذار، بل والعاصي المعلوم عدم رجوعه عنه، فإنّ مبادىء توجيه الخطاب إليه بخصوصه مفقودة، لعدم إمكان الجدّ في بعث من لا ينبعث قطعآ، أنّ قياس الخطابات العامة بالخطاب الخاص مع الفارق؛ فإنّه في الخطاب العام لا بدّ من حصول مباديه لا مبادي الخطاب الخاص.

فاذا علم الآمر بأنّ الجماعة المتوجّه إليهم الخطاب، فيهم جمع كثير ينبعثون عن أمره وينزجرون عن نهيه وأنّ فيهم من يخضع لأحكامه ولو إلى حين، صحّ منه الخطاب العام ولا يلاحظ فيه حال الأشخاص بخصوصهم. ألا ترى الخطيب


1 ـ العروة الوثقى (المحشى) :3 208.

2 ـ وسائل الشيعة :15 369.

يوجّه خطابه إلى الناس الحاضرين من غير تقييد ولا توجيه إلى بعض دون بعض وإحتمال كون بعضهم أصم لا يعتنى به، بل العلم به لا يوجب تقييد الخطاب، بل إنحلال الخطاب أو الحكم حال صدوره بالنسبة إلى قاطبة المكلّفين من الموجودين فعلا ومن سيوجد في الأعصار اللاحقة مما يدفعه العقل؛ ضرورة عدم إمكان خطاب المعدوم أو تعلّق حكم به والإلتزام بإنحلاله تدريجآ وفي كل عصر حال وجود المكلّفين لا يرجع الى محصّل.

والحقّ انّ التشريع في الشرع الأطهر وفي غيره من المجالس العرفية ليس إلّا جعل الحكم على العناوين والموضوعات ليعمل به كلّ من إطّلع عليه في الحاضر والغابر. فالقرآن الكريم نزل على رسول الله (صلي الله عليه وآله) وأبلغه الى معدود من أهل زمانه وهو حجة قاطعة علينا وعلى كلّ مكلّف إطّلع عليه من غير أن يكون الخطاب منحلّاً إلى خطابات كثيرة حتّى يلزم مراعاة أحوال كلّ مكلّف وهو واضح. فلا فرق بين العالم والجاهل والساهي وغيرهم بالنسبة إلى التكاليف الإلهية الأولية بعد تقييد المطلقات وتخصيص العمومات بما ورد في الكتاب والسنّة كحديث الرفع ولا تعاد وغيرهما، فالقول بسقوط الخطاب عن الساهي والناسي خلاف التحقيق، فيسقط ما يترتّب عليه مما ورد في كلام المحقّقين من المتأخرين.[1]


الجهة السادسة: حكم الصوم الآخر في النذر المعين

إنّ اليوم الواحد لا يتحمّل إلّا الصوم الواحد، فذهب المشهور إلى أنّه يبطل الصوم الآخر في اليوم المعيّن للنذر؛ فإنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، بل يكفي إقتضاؤه عدم الأمر بالضدّ لبطلان الصوم العباديّ المتقوّمة صحّته بالأمر. وهذا الوجه أقوى الوجوه لإبطال الإطلاقات بالنسبة إلى سائر أقسام الصيام في اليوم


1 ـ كتاب الخلل في الصلاة: 9 15.

المعيّن للنذر؛ قضاءً لحقّ إمتناع الحكمين الفعليّين العَرْضيّين، مع كون المكلّف غير قادر إلّا على إمتثال واحد منهما.

هذا وقد انتقده السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله) وإعتقد بصحّة صومه بناءً على الخطابات القانونيّة، فقال: يمكن أن يقال بأنّ الأحكام الكثيرة فعليّة وإن كان المكلّف عاجزآ على الإطلاق، أو قادرآ ولو بالنسبة إلى واحد منها، كما نحن فيه؛ لأنّ الخطابات قانونيّة لا شخصيّة. فتصوير الأحكام الفعليّة العَرْضيّة بمكان من الإمكان.[1]


الجهة السابعة: وجوب الحجّ على الكافر

إنّه يجب الحجّ على الكافر فيما إذا تمّت شرائط الوجوب كالمسلم، وهو مبني على القاعدة المعروفة الفقهية التي إلتزم بها المشهور وهي إشتراک الكفّار مع المؤمنين في التكليف بالفروع كإشتراكهم معهم في التكليف بالأصول. وقد خالف المشهور جماعة كالمحدّث الكاشاني والأمين الأسترآبادي وصاحب الحدائق وبعض المتأخرين؛ فإنّ هناک إشكالا مشهورآ وهو أنّه لا يعقل الوجوب اى وجوب القضاء على الكافر إذ لا يصحّ منه إذا أتى به وهو كافر، ويسقط عنه إذا أسلم. وبعبارة أخرى، أنّه إذا لم يصحّ الإتيان به حال الكفر ولا يجب عليه إذا أسلم فكيف يكون الكافر مكلّفآ بالقضاء ويعاقب على تركه؟

وقد تفصّى الأعلام عن الإشكال بوجوه لا تخلو عن مناقشة، فتصدّى سماحة آية الله العظمى الفاضل االلنكراني(رحمه الله) لحلّ المشكلة من خلال التمسک بنظرية الخطابات القانونية، وقال :

والحقّ في الجواب ما ذكرناه في كتابنا في القواعد الفقهية مما إستفدناه من


1 ـ كتاب الصوم (للسيد مصطفى الخميني): 146.

سيدنا الأستاذ الإمام الخميني (قدس سرّه) في بعض مباحثه الأصولية، وهو أنّ الإستحالة إنّما تتحقّق إذا كان الخطاب متوجّهآ إلى خصوص الكافر كالخطاب المتوجّه إلى العاجز، وأما لو كان الخطاب متوجّهآ إلى العموم من دون فرق بين المسلم والكافر، فلا تكون صحّة هذا الخطاب متوقّفة على صحّته إلى كلّ واحد من المخاطبين. ألاترى أنّه يصحّ الخطاب إلى جماعة بخطاب واحد أن يعملوا عملا ولو مع العلم بعدم قدرة بعضهم على إيجاد العمل. نعم، لو كان الجميع أو الأكثر غير قادرين، لما صحّ العقاب. وأما مع عجز البعض فلا مانع منه، مع أنّه لو إنحلّ الخطاب الواحد إلى الخطابات المتعدّدة لما صحّ، لإستحالة بعث العاجز مع العلم بعجزه، وفي المقام أيضآ كذلک؛ فإنّ التكليف بوجوب القضاء عام شامل للمسلم والكافر وعدم قابليته للإمتثال بالإضافة إلى الكافر لا يقدح في ثبوت الخطاب والتكليف بنحو العموم؛ غاية الأمر أنّه لا بدّ له من التمسّک بالعذر في صورة المخالفة، ومن الظاهر أنّ الكفر لأجل أنّه أمر إختياري لا يكاد يتحقّق به العذر كما لا يخفى.[1]


الجهة الثامنة: وجوب الحجّ مطلقآ عند الإستطاعة

لو وصل ماله بقدر الإستطاعة وكان جاهلا به أو غافلا عن وجوب الحجّ عليه، ثم تذكّر بعد تلفه بتقصير منه ولو قبل أوان خروج الرفقة، أو تلف ولو بلا تقصير منه بعد مضيّ الموسم، فالأقوال هنا ثلاثة، وقد ذهب السيّد الإمام (قدس سرّه) إلى إستقرار الحجّ عليه مع حصول سائر الشرائط حال وجوده[2]، فتبعه المرجع الديني سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) وقال :

قد حقّقنا في الأصول تبعآ لسيّدنا العلّامة الأستاذ العالي، أنّ الخطابات العامة


1 ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحج) :1 302 و308.

2 ـ نفس المصدر :1 154.

المتضمّنة للتكاليف والأحكام بنحو العموم لا تكاد تنحلّ إلى خطابات متكثّرة حسب تكثّر أفراد المكلّفين وتعدّد آحادهم، بل إنّما هي خطاب واحد متضمّن لحكم عام وتكليف كلّى، ومقتضاه ثبوت مقتضاه بالإضافة إلى الجميع؛ غاية الأمر كون بعض الأمور عذرآ بالنسبة إلى المخالفة وموجبآ لعدم ترتّب إستحقاق العقوبة عليها كالعجز والجهل والغفلة في الجملة ولا ملازمة بين كونها عذرآ و بين عدم ثبوت التكليف الذي يتضمّنه الخطاب العام فقوله (وَللهِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)[1] يدلّ على ثبوت هذا التكليف وتحقّق هذا الدين في جميع موارد تحقّق الإستطاعة الواقعية، وعليه فالتكليف ثابت بنحو العموم، فإذا إنكشف للجاهل أنّه مستطيع وللغافل أنّه كان يجب عليه الحجّ ولم يؤت به بعد، فاللازم الحكم بالإستقرار ولزوم الإتيان به ولو بنحو التسكّع، ولا فرق من هذه الجهة بين فرض الغفلة وكذا فرض الجهل، وان كان بينهما فرق أحيانآ من جهة المعذورية وعدمها، وعليه لا مجال لدعوى خروج الجاهل بالجهل المركّب عن الأحكام المشتركة بين العالم والجاهل، والتفصيل المذكور مبتن على القول بالإنحلال وإختصاص كلّ مكلّف بخطاب خاص وقد إنقدح مما ذكرنا أنّ الأقوى ما عليه المتن.[2]

وبشكل عام، إذا كان ترک الحج مسببآ عن إعتقاد عدم وجوبه لأجل فقد بعض شرائط الوجوب، إستقرّ الحجّ في الذمة إذا إستكملت الشرائط إلّا أنّه يرد على هذا القول بأنّ الأحكام وإن كانت تشمل الجاهل، ولكن لا تشمل المعتقد بالخلاف لانّه غير قابل لتوجه الخطاب اليه فهو غير مأمور بالحكم واقعآ فلا يكون وجوب في البين حتّى يستقرّ عليه، ففي زمان الإعتقاد بالخلاف لا يكون مكلّفآ وبعد


1 ـ سورة آل عمران: 97.

2 ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحج) :1 156.

الإنكشاف لا يكون مستطيعآ على الفرض.

ولكن قدإستشكل عليه آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) وقال: إنّا قد حقّقنا في الأصول تبعآ لسيدنا الأستاذ (قدس سرّه) أنّ الخطابات العامة لا تكاد تنحلّ إلى خطابات متعددة حسب تعدّد المكلّفين وتكثّر أفرادهم حتّى يلاحظ حال المكلّف وأنّه يمكن أن يتوجّه إليه خطاب أم لا، بل الملحوظ فيها حال الغالب وأنّه صالح لتوجّه التكليف والخطاب إليه أم لا، وعليه فكما يكون الجاهل مشمولا للخطابات كذلک يكون المعتقد بالخلاف أيضآ مكلّفآ واقعآ والتكليف ثابت عليه؛ غاية الأمر أنّه يكون معذورآ في المخالفة غير مستحقّ للعقوبة عليها،وعليه فلا مجال لدعوى عدم ثبوت التكليف بالإضافة الى من إعتقد عدم كونه بالغآ.[1]


الجهة التاسعة: حكم الإستغفار في الحجّ على ما يوجب الكفّاره جهلا

كلّ ما يوجب الكفارة لو وقع عن جهل بالحكم أو غفلة أو نسيان لا يبطل به حجّه وعمرته ولا شيء عليه. ولا إشكال في صحّة الحجّ وعدم لزومه من قابل وعلى عدم ثبوت الكفارة. إنّما الإشكال في أنّ ظاهر صحيحة زرارة المشتملة على قوله (عليه السلام) «إن كان يعني الزوج المحرّم الذي غشي إمرأته وهي محرّمة جاهلين على حجّهما وليس عليهما شيء»[2] وجوب الإستغفار، وهو يكشف عن ثبوت الحرمة الفعلية مع الجهل المستتبعة للعصيان عند مخالفته. وبعبارة أخرى، إنّ لزوم الإستغفار على الجاهل بعد رفع جهله يكشف عن تحقّق المعصية الملازمة لثبوت الحرمة الفعلية، مع أنّ المشهور كون العلم من شرائط فعلية التكليف وأنّ الجاهل


1 ـ نفس المصدر :1 263 264.

2 ـ وسائل الشيعة :13 108.

لا يكون التكليف بالإضافة إليه فعليّآ فلا تتحقّق منه المعصية، فلا مجال لوجوب الإستغفار.

هذا وقال سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) :

والّذي يدفع الإشكال ما حقّقناه تبعآ لسيدنا الأستاذ الإمام(قدس سرّه) من عدم إنحلال الخطابات العامة إلى الخطابات المتعدّدة المتكثّرة حسب تعدّد المكلّفين المخاطبين، بل الخطاب واحد والمخاطب متعدّد، ولا تكون القدرة والعلم ومثلهما شرطآ لثبوت التكليف وفعليته؛ غاية الأمر، كون‌مثل الجهل والعجز عذرآ للمكلّف بالنسبة إلى المخالفة والعصيان، وإلّا فأصل العصيان متحقّق. وعليه فمقتضى الصحيحة كون الجهل عذرآ بالإضافة إلى أصل التكليف التحريمي المتعلّق بالجماع حال الإحرام، ومرجعه إلى عدم إستحقاق العقوبة على المخالفة في هذه الصورة، وهذا لا ينافي وجوب الإستغفار بعد إرتفاع الجهل لتحقّق العصيان بالنسبة إلى التكليف الفعلي؛ فالجاهل وان كان معذورآ في المخالفة، لكن يجب عليه الإستغفار بعد زوال عذره.[1]


الجهة العاشرة: صحّة النيابة لمن وجب عليه الحجّ

من إستقرّ عليه الحجّ وآجر نفسه مع تمكّن حجّ نفسه بطلت الإجارة وان كان جاهلا بوجوبه عليه. وأما إذا قلنا بالصحّة فإنّه يستدلّ أيضآ لبطلان الإجارة بدليل حاصله: إنّ أدلة نفوذ المعاملات حيث إنّها أحكام إمضائية تابعة لما ينشؤه المنشىء: إن مطلقآ فمطلق وإن مشروطآ فمشروط ولا يخالفه إلّا في بعض الموارد كبيع الصرف والسلم، فإنّ المنشئ فيهما أنشأ على الإطلاق، والشارع قد قيّده بلزوم القبض وكذلک في الهبة فإنّ التمليک فيها يحصل بعد القبض وفي غير


1 ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحجّ) :3 434 437.

هذه الموارد النادرة أدلة النفوذ تابعة للمنشإ من حيث الإطلاق والتقييد.

وعلى ما ذكر، الإجارة في المقام إما تتعلّق بالحجّ مطلقآ أو تتعلّق به على فرض العصيان للحجّ الواجب بنفسه. أما الأول فغير قابل للإمضاء؛ لأنّ المفروض عدم سقوط الأمر بالحجّ عن نفسه وهو لا يجتمع مع الأمر بإتيان الحجّ المستأجر عليه وكيف تنفذ الإجارة في عرض ذلک الواجب؛ فإنّه يستلزم الأمر بالضدين في عرض واحد واما الثاني فهو موجب للبطلان من جهة التعليق فلا يمكن الحكم بصحة الإجارة ولو كان الحج النيابي في المقام صحيحآ على ما هو المفروض.

هذا وقد أورد آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله) على هذا الدليل أنّه يبتنى على القول بإنحلال الخطابات الواقعة في الأحكام التكليفية أو الوضعية إلى خطابات شخصية حسب تعدّد المخاطبين وتعدّد العقود والمكلّف بها فإنّه على هذا المبنى يكون الجمع بين الخطاب الشخصي المتضمّن للأمر بالحجّ عن نفسه والخطاب الشخصي المتضمّن للأمر بإتيان الحجّ للمنوب عنه مستلزمآ للأمر بالضدين في عرض واحد.

وأما على القول بعدم الإنحلال وعدم كون الخطابات العامة مشروطةً بالشرائط المعتبرة في الخطابات الشخصية من القدرة والعلم وغيرهما بالإضافة إلى آحاد المكلّفين، كما إخترناه تبعآ لسيدنا الأستاذ الأعظم (قدس سرّه) فلا مجال للإشكال في صحّة الإجارة في المقام؛ لأنّ الأمر بالوفاء بالعقود أو بخصوص عقد الإجارة إنّما يكون بنحو العموم، ولا يلاحظ فيه حالات الأشخاص من جهة أنّه يكون مستقرآ عليه الحجّ أم لا، بل الملحوظ مجرّد عنوان الإجارة وعقدها؛ غاية الأمر مع الشرائط المعتبرة في صحّتها التي منها عدم بطلان العمل المستأجر عليه إذا كان عبادة كما أنّ الأمر بإتيان الحجّ لمن إستقرّ عليه لا يكون ملحوظآ فيه حالة المكلّف من جهة النيابة وغيرها، وعليه فلا مانع من الجمع بين الخطابين ولا

يكون من الأمر بالضدين.

وقد إنقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض دليل على بطلان الإجارة على فرض صحّة الحجّ النيابي واللازم الإلتزام بالصحة.[1]


المطلب الثاني: النماذج المعاملية

هناک فروع تطبيقية أُخرى تتعلّق بالمعاملات وتبتني على مذهب السيّد الإمام (قدس سرّه) وتختلف أحكامها، فينبغي أن نستعرض أهمّها في الجهات التالية. وبقيت هناک شقوق وفروض أخرى، تكون من موارد هذه النظرية لايسعنا التعرّض لها إلّاأنّه يظهر حكمها ممّا بيّناه.


الجهة الأولى: تصحيح معاملة الصبي

قد يستدلّ على عدم صحّة عقد الصبي فيما إذا أنس منه الرشد، بأنّه مسلوب العبارة، طبقآ لطوائف من الأخبار كالمآثير التي تدلّ على أنّه مرفوع عنه القلم.[1] والظاهر أنّ القلم مرفوع عنهم لعدم الشعور، ومن عليه القلم هو الكبير العاقل المنتبّه لما فيه الشعور والإدراک، فكلّ تكليف ثابت للكبير بما هو مدرک عاقل مرفوع عن الصغير؛ ولكن ما يثبت له بما هو إنسان، فهو لا يرفع عنهم، فالأحكام الوضعيّة والضمانات وصحّة العقود والإيقاعات وأمثالها، ليست مورد الرفع.

هذا ويرد عليه: بأنّ أكثر الصبيان خارجون عن الأدلة الإلزاميّة، لقبح الخطاب بالنسبة إليهم، بل وإمتناعه، فما هو الثابت ويساعد عليه الإعتبار هي الوضعيّات فقط، وفي رفعها إمتنان عليهم لبراءتهم من تدارک الخسارات بعد الكبر وهذه منّة قطعآ وإرفاق في حقّهم.


1 ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحج) :1 409 420.

2 ـ وسائل الشيعة :29 90، و ج :1 45.

فأجاب عنه السيّد الشهيد الخميني(رحمه الله): بأنّ توهّم أنّ الخطاب غير معقول، في غير محلّه؛ لأنّ ما هو الممنوع عقلا هو الخطاب الشخصيّ الخاصّ بهم دون الخطابات الكلّية القانونيّة.[1]


الجهة الثانية: الأجير الخاص

إذا آجر نفسه للغير بالإجارة الخاصّة المنافية للإجارة الأولى مع قيد المباشرة وضيق الوقت، فقد استدلّ على بطلان الإجارة الثانية بوجوه: منها، أنّه يجب الوفاء بعقد الإجارة الأُولى فورآ، ومعه لا يعقل إمضاء عقد الإجارة الثانية بالأمر بالوفاء به فورآ؛ لعدم القدرة على الوفاء به كذلک.

وبكلمة أخرى، إنّ إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الأُولى بعد فرض ضيق الوقت الموجب لصيرورة الوجوب فوريآ لا يجتمع مع إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الثانية، الذي هو فوري أيضآ؛ لفرض كونه أجيرآ خاصّآ يكون جميع منافعه في المدّة المعيّنة أو بعضها للمستأجر الثاني، فمع ثبوت الأوّل لا يعقل إمضاء الثانية بالأمر بالوفاء نظرآ إلى عدم القدرة على إمتثالهما معآ فتتحقّق المنافاة بين الوجوبين كما هو ظاهر.

فأجاب عنه سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني(رحمه الله): بأنّه لا منافاة بين الوجوبين وإن لم يكن سوى قدرة واحدة في البين، وذلک لما حقّقناه في الأُصول في مبحث الترتّب تبعآ لسيّدنا العلّامة الأُستاذ (قدس سرّه) من الفرق بين الخطابات الكليّة العامّة وبين الخطابات الشخصية المتوجّهة إلى آحاد المكلّفين، وأنّه لا يعتبر في إمكان توجّه الأولى إلى الآحاد ملاحظة أحوال كلّ من المخاطبين من حيث

القدرة والعجز ونحوهما من الحالات المختلفة؛ غاية الأمر أنّ غير القادر معذور


1 ـ كتاب البيع (للسيد مصطفى الخميني) :1 289 294.

في مخالفة التكليف لا أنّه غير مكلّف أصلا، والدليل على عدم كون التكليف مشروطآ بالقدرة، بل كون عدمها عذرآ حكمهم بوجوب الإحتياط في صورة الشکّ في القدرة، مع أنّها لو كانت شرطآ لكان مقتضى القاعدة جريان أصالة البراءة للشکّ في شرط التكليف. وبالجملة: الخطابات العامّة متوجّهة إلى جميع المكلّفين من دون فرق بين القادرين والعاجزين؛ غاية الأمر كون الطائفة الثانية معذورين في المخالفة لأجل حكم العقل بذلک، وحينئذٍ نقول: إنّ الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الأُولى وكذا الأمر بالوفاء بالثانية كلاهما ثابتان فعليان، وإن لم يكن المكلّف قادرآ على إمتثالهما؛ لأنّ العجز لا ينافي الفعلية كما مرّ، فما يقال من أنّ عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعيينآ، لا يتم بناءً على ما ذكرنا من أنّ القدرة الواحدة لا تنافي فعلية الخطابين إذا كانا بنحو الكليّة والعموم. هذا ما يقتضيه التحقيق بالنسبة إلى الحكم التكليفي وهو وجوب الوفاء بالعقدين.[1]


الجهة الثالثة: إعتبار القدرة في شروط العقد

يعتبر في الإلزام على العمل بالشرط ولو كان بنحو شرط الفعل أن يكون داخلا تحت قدرة المشروط عليه؛ فإنّ الدليل على وجوب العمل بالشرط نحو قوله (صلي الله عليه وآله) «المؤمنون عند شروطهم».[2] فحينئذٍ :

إن قلنا بأنّ التكليف الكلّي ينحلّ إلى تكاليف، ولا يعقل تعلّقه بالعاجز، فلا يوجب ذلک إيجاب العمل بمثل هذا الشرط؛ لقصور الأدلّة عمّن فقد القدرة عليه، وفي ترتّب الخيار عليه وجهان.


1 ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الإجارة): 467 472.

2 ـ وسائل الشيعة :21 276.

ولكن إن قلنا بأنّ الأحكام الكلّية القانونيّة لا تتقيّد بالقدرة كما لا تتقيّد بالعلم، ويكون الحكم الفعلي ثابتآ لموضوعه، سواء كان المكلّف عالمآ أم لا، وقادرآ أم لا. والجهل أحيانآ والعجز عذر للمكلّف في ترک المأمور به أو الإتيان بالمنهيّ عنه لا أنّه قيد للتكليف، يكون وجوب العمل بالشرط ثابتآ، والعذر عن الإتيان به لا يوجب بطلانه رأسآ، فيترتّب عليه الخيار قطعآ؛[1] فإنّ الخيار لم يترتّب على تخلّف الشرط إختيارآ، بل هو كقانون شرعي رتّب على مطلق التخلّف، فيشمل العاجز كالقادر؛ فإنّ التكاليف عامّة ولا تنحلّ إلى خطابات حسب أفراد المكلّفين.[2]


الجهة الرابعة: جعل الخيار في المعاطات

لو قلنا بأنّ المعاطاة عقد جائز فهل يدخل فيه الخيار أم لا؟

قد يقال: إنّ جعل الخيار فيها لغو، فإنّها جائزة بالطبع وقابلة للفسخ بنفسها، ولا يقاس ذلک بإجتماع الخيارات في مورد واحد؛ فإنّ كلّآ منها قابل للإسقاط والفسخ بالآخر الباقي، بخلاف المقام؛ فإنّ الجواز حكميّ على الفرض غير قابل للإسقاط، فيصبح الخيار لغوآ وبلا أثر.

ولكن أورد عليه السيّد الإمام (قدس سرّه) بأنّ هذا وأشباهه ممّا صدر عن عدّة من الأعاظم، خلط بين الأحكام القانونيّة والشخصيّة وقياس الأُولى بالثانية، وكم فرقٍ بين المقامين! فإنّ في الأحكام الشخصيّة البعث لا يمكن إلّا مع إمكان إنبعاث المكلّف بشخص التكليف، بخلاف الأحكام القانونيّة؛ فإنّ إمكان البعث غير موقوف على ذلک، بل غايته أنّه موقوف على إمكان البعث نحو الطبيعة؛ ولو


1 ـ كتاب البيع :5 221 226، و333.

2 ـ المصدر :5 334.

كان بعض أشخاصه غير قابل للإمتثال، وهذا يظهر من ملاحظة تكليف الكفّار والعصاة الّذين يُعلم بعدم إنبعاثهم بالبعث وإنزجارهم بالزجر، ولا يصحّ البعث الشخصيّ نحوهم، بخلاف البعث القانونيّ الشامل لهم ولغيرهم.

وبهذا البيان يظهر أنّ جعل الخيار قانونآ للبيع موقوف على عدم لغويّة هذا الجعل وإن كان في بعض أشخاصه كالمعاطاة بلا أثر. فلا يبعد ثبوته للإطلاق، ولا تلزم منه اللغوية، ولا سيّما مع صيرورتها لازمة بتلف أحد العوضين.[1]


الجهة الخامسة: ضمان المقبوض بالعقد الفاسد

لو قبض ما إبتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه، وصار مضمونآ عليه، فيجب عليه ردّه. وقد استدلّ للضمان مع التلف بدليل «على اليد».[2] وقد ذكر الشيخ(رحمه الله): أنّ الحديث ظاهر في إثبات الوضع والإستقرار في العهدة عينآ كان أو دينآ، بقرينة كلمة «على» وتعلّقها بالعين والمال لا الفعل، ولذا يمكن التمسّک به لإثبات الضمان في الصبيّ والمجنون إذا لم يكن يدهما ضعيفة لعدم التمييز والشعور.[3]

ولكن يمكن النقض بالصبيّ الذي مات قبل بلوغه والمجنون الذي لم تحصل له الإفاقة أبدآ حتّى مات؛ إلّا أنّه يمكن دفع هذا الإشكال على مذاق السيّد الإمام(قدس سرّه) بأنّه لا يعتبر في الأحكام الفعلية القانونيّة أن يكون جميع موارد إنطباقها واجدةً للشرائط، ولذا إنّ القدرة والعلم ليسا بشرطين للتكليف والخطاب، بل إنّهما قيدان في مرحلة التنجّز. والعجز والجهل معذّران للمكلّف لا موجبان لإنتفاء توهّم الخطاب إليه، ولذا بنى المشهور على الإحتياط عند الشکّ في القدرة. وفي ما نحن فيه يمكن أن يقال: بأنّ المجنون كالنائم مكلّف قانونآ وإن كان معذورآ في


1 ـ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 128 129؛ كتاب البيع (للإمام الخميني) :1 234.

2 ـ عوالي اللئالي :1 224.

3 ـ كتاب المكاسب :3 181.

ترک الإمتثال، وهكذا في الصبيّ؛ فإنّ الجنون والصغر من قبيل الأعذار العقليّة التي يلتزم ببقاء فعليّة التكليف معها، فلا مانع من تعلّق الوضع حتّى مع العذر عن التكليف.[1]


الجهة السادسة: حكم تعذّر المثل في المثلي

لو تعذّر المثل في المثلي، فهل يجوز للمالک المطالبة بالقيمة، أو لا؟ فإنّ العين قد تلفت والمِثْل قد تعذّر، فمع جواز المطالبة بالقيمة يجب دفعها، وإلّا فينتظر المالک زمان رفع التعذّر.

ذكر الشيخ (رحمه الله): «لو تعذّر المثل في المثليّ فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالک».[2] وقد ذُكر في وجه جواز المطالبة وجوه :

منها، أنّ جعل الضمان في مورد تعذُّر المِثْل مع عدم وجوب دفع القيمة لغو، فيجب ذلک دفعآ لمحذور لَغويّة جعل الضمان.

فأجاب عنه السيّد الإمام (قدس سرّه) بأنّ هذا خلط بين الأحكام القانونيّة والشخصيّة؛ فإنّ مبادئ جعل القانون مغاير لمبادئ جعل الحكم الشخصيّ، وهنا لا لغويّة في جعل الضمان قانونآ وإن لم يكن له في هذا المورد الشخصيّ أثر؛ فإنّ اللغوية في المجعولات القانونيّة تلاحظ بالنسبة إلى الحكم الكلّي القانوني، لا إلى آحاد المكلّفين وخصوصيّات التكليف.

ومنها، بناء العقلاء على وجوب دفع القيمة في مورد تعذّر المثل.

فالجواب عنه أيضآ هو: أنّ الأحكام القانونيّة لا تقاس بالأحكام الشخصيّة؛ لتغاير مبادئهما، ويمكن تحقّق مبادئ جعل القانون ولو كان في بعض مصاديقه


1 ـ كتاب البيع :1 384؛ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 237.

2 ـ كتاب المكاسب :3 226.

غير قابل للإمتثال، فتعذّر المثل في المورد الشخصيّ لا يوجب عدم تحقّق المبادئ في جعل حكم قانونيّ وهو: ضمان المثليّ بالمثل.[1]

ومنها، الإلتزام بالإنقلاب إلى القيمة عند تعذّر المثل، بأن يقال: إنّ الوضع منتزع من التكليف، ولا يعقل التكليف بأداء المتعذّر، فلا بدّ من التكليف بأداء القيمة؛ لأنّ احتمال سقوط الضمان مطلقآ مخالف للضرورة، فمع التكليف بها ينتزع إشتغال الذمّة بالقيمة، وهو المطلوب، فللمالک مطالبتها، وليس للضامن التأخير.

ولكن يمكن أن يجاب عنه بوجه ينتج عدم الإنقلاب ولو مع التعذّر إلى الأبد، وهو: أنّ التكاليف القانونيّة فعليّة على موضوعاتها غير مقيّدة ولا معلّقة، والأعذار العقليّة ليست قيودآ لها، فيكون التكليف الفعلي القانوني المتعلّق بعنوانه منشأً لإنتزاع الوضع مطلقآ.[2]


الجهة السابعة: بدل الحيلولة عند تعذّر العين

لو تعذّر الوصول إلى العين مع عدم التلف كما لو غرق أو سرق أو ضاع فالظاهر تسالمهم على بدل الحيلولة، وقد إستدلّ عليه المحقّق الإصفهاني(رحمه الله) بقاعدة اليد؛ فإنّ مفاد دليل اليد هو إعتبار العين في العهدة، وإنّ هذا الإعتبار فعلا في كلّ زمان تحتاج إلى أثر مصحّح، وإلّا كان إعتبارها لغوآ. وعليه الظاهر منها بمناسبة غايتها هو أنّ المأخوذ بنفسه في عهدة ذي اليد، والعهدة مع وجود العين تكليفيّة، ومع تلفها ماليّة يجب تداركها بحصّة مماثلة لها، وعند تعذّر ردّها وعدم تلفها لا تكون عهدة التكليف ولا عهدة تدارک نفسها، حيث إنّها غير تالفة، فلو لم يجب تداركها


1 ـ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 288 290.

2 ـ كتاب البيع :1 546 547.

من حيث فوات السلطنة على الإنتفاعات بها كان إعتبار عهدتها فعلا لغوآ، فالإلتزام بكونها في العهدة فعلا يقتضي الإلتزام بأثر لها فعلا.[1]

فيجيب (قدس سرّه) عن ذلک: أوّلا، أنّ دفع محذور اللغويّة غير منحصر بالإلتزام ببدل الحيلولة، بل المحذور يندفع بترتّب أثر آخر على هذا الإعتبار، كجواز المصالحة عليه وبيعه وغير ذلک من الآثار.

وثانيآ، قد مرّ مرارآ أنّ قياس الأحكام القانونيّة بالشخصيّة أوجب مثل هذه الإشكالات، والحال أنّ مبادىء كلّ منهما وغاياته مغايرة لمبادئ الآخر وغاياته، وصحّة جعل القانون لا يدور مدار وجود المبادئ والغايات في الأشخاص، بل المصحّح له وجود أثر في محيط هذا القانون ولو في بعض الأفراد. وبكلمة أخرى، إنّ إعتبار العهدة في باب الضمانات، لا يكون إعتبارات كثيرة، في كلّ حال وآنٍ لها بحسبها غايات وآثار، بل لا بدّ وأن لا يكون إعتبار الأمر الوضعي بحسب الجعل القانوني لغوآ، وإلّا يلزم سقوط الدين عن ذمّة المديون لو فرض‌عدم قدرته على الأداء في برهة من الزمان وهو كما ترى.[2]


الجهة الثامنة: وجوب الفحص عن المالک

إنّه لو كان المالک مجهولا فهل يجب الفحص عنه أو لا؟

قد إختار الشيخ الأعظم(رحمه الله) الثاني، تمسّكآ بإطلاق جملة من الروايات.[3] ولكنّه ليس في الروايات ما يمكن الإستناد إليها لترک الفحص والأقوى وجوبه عقلا.

وقال المحقّق الميرزا الشيرازي(رحمه الله) في حاشيته: إنّ من بيده المال المجهول


1 ـ كتاب المكاسب (للإصفهاني) :1 428.

2 ـ كتاب البيع (تقريرات لآية الله القديري): 340؛ كتاب البيع (للإمام الخميني) :1 630.

3 ـ كتاب المكاسب :2 185.

مالكه إن علم بعثوره على مالكه بالفحص يجب عليه. وأما مع الشکّ فإمّا أن يكون التردّد بين من يقدر على إيصال المال اليه ومن لا يقدر أو بين من يقدر على الإيصال إلى كلّ منهم. وعلى الأوّل فامّا ان يكون ترديده بعد العلم بكونه محصورآ بين المقدورين أو بدونه فعلى الأول يجب الفحص لتنجيز التّكليف بعلمه بالقدرة عليه ولا يعلم سقوطه بخروج بعض أطرافه عن القدرة فيجب الفحص حتّى يتحقّق الإجمال أو يتحقّق عجزه عنه، وعلى الثّاني فلا يجب الفحص لما تقرّر في باب العلم الإجماليّ بالتّكليف من أنّ خروج بعض أطرافه المعيّن عن مورد التّكليف يوجب عدم وجوب الإحتياط بالنسبة إلى البعض الأخر، بل يرجع فيها إلى أصالة البراءة ونحوه مما يفيد فائدته ومع سقوط التكليف فلا مقتضى للفحص لعدم إشتراط إجراء الأصول في الشّبهات الموضوعيّة بالفحص.[1]

فأورد عليه السيّد الإمام (قدس سرّه) بأنّ لازم ما ذكره هو إجراء البراءة في الشکّ في القدرة على الإيصال إبتداءً، ومبناه على ما يظهر من كلامه هو أنّ القدرة من القيود الشرعيّة المستكشفة بالعقل؛ فيرد عليه أنّ القدرة ونحوها من الأعذار العقليّة لإمتثال التكاليف، لا قيودها شرعآ أو عقلا، وأنّ التكاليف الكلّية القانونيّة فعليات على موضوعاتها من غير تقييد بالعلم والقدرة والإلتفات وغيرها، فحينئذ يجب الإحتياط عقلا مع الشکّ في القدرة، ويجب الفحص. فالإنصاف أنّه لا يمكن مساعدة القائل المدقّق التقيّ في المبنى ولا البناء.[2]


الجهة التاسعة: رجوع المالک إلى جميع الأيادي مع بقاء العين

لو تعاقبت الأيادي على عين مغصوبة مع بقائها، فهل للمالک الرجوع إلى كلّ من جرت يده عليها، ويجب عليه تحصيلها والتأدية إليه، أو وجوب الردّ مختصّ بمن


1 ـ حاشية المكاسب (للميرزا الشيرازي) :1 187.

2 ـ المكاسب المحرمة (للإمام الخميني) :2 398 402.

هي في يده فعلا؟

وقد استدلّ على الأوّل بقاعدة اليد، وهو مبنيّ على أن يكون المراد منها عهد العين بجريان اليد عليها، فيجب عليه الردّ حال وجودها، أو يكون المراد منها الحكم التكليفيّ فقط، وهو وجوب ردّها.

هذا، وقد أضاف إليه الإمام (قدس سرّه): أنّه يمكن الإستدلال عليه أيضآ بالإستصحاب بأن يقال: إنّ العين إذا وقعت في يد كلّ غاصب أو من بحكمه يجب عليه ردّها إلى صاحبها، وبعد خروجها عن تحت يده، يشکّ في بقاء الوجوب فيستصحب كما يستصحب حكم الغاصب بالنسبة إلى كلّ منهم؛ لكنّه مبنيّ على ثبوت وجوب الردّ حتّى بالنسبة إلى الغاصب الذي يتعذّر عليه الردّ، إمّا لأجل عجزه عنه لضيق الوقت ونحوه، أو لجهله وغفلته؛ فإنّه بناءً على ثبوت الأحكام الكلّية القانونيّة الفعليّة لايفرق في ما نحن فيه بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز.[1]


الجهة العاشرة: ردّ العين إلى المالک قبل الوقوع تحت يد الغارم

إنّ العين التالفة عرفآ تبقى على ملک مالكها لعدم دليل على خروجها منه، ولا تقتضي ماهيّة الغرامة ذلک، ولهذا لا يقولون به في بدل الحيلولة، كما أنّ العين المتعذّرة باقية عليه، فلو إرتفع العذر ورجعت التالفة، فهل يجب ردّها إلى صاحبها قبل وقوعها تحت يده، أو لا؟

يقول السيّد الإمام (قدس سرّه): الظاهر قصور الأدلّة اللفظية مثل «لا يحلّ مال إمرئٍ مسلم»[2] عن إثبات وجوب ردّ العين.

ثمّ يتمسّک (قدس سرّه) بناءً على نظريته، بإستصحاب وجود الأداء الثابت قبل التعذّر ويقول: إنّ التعذّر لا يوجب سقوط الوجوب، بل الوجوب على فعليّته في الأعذار


1 ـ كتاب البيع :2 510 511.

2 ـ وسائل الشيعة :14 572.

العقليّة؛ غاية الأمر أنّ المكلّف معذور في مخالفته، وقد قرّرنا في محلّه أنّ التكاليف القانونيّة لا تخرج عن الفعليّة بواسطة الجهل والعذر، وأنّ مبادئ جعل القوانين الكلّية وغاياتها غيرهما في توجّه التكليف إلى الأشخاص. فحينئذٍ لو علمنا بأن لا مزاحم للتكليف إلّا العذر العقلي، وهو علّة منحصرة، فلا يبقى شکّ في ثبوت التكليف؛ ولو إحتملنا أنّ المساوق للعذر تحقّق علّة لسقوطه فيستصحب بقاؤه.[1]


1 ـ كتاب البيع :1 649 650.

فصل في خاتمة المطاف

ويشتمل على :

نتائج البحث وما يمكن إستخلاصه من مجموعة الأبحاث

نتائج البحث

إنّ من جملة المسائل المساعدة لفهم الإتجاهات العلمية هي تناول النظرية لوحدها وقياس مدى أهميتها في مسائل الأصول وأبواب الفقه من خلال ملاحظة تطبيقاتها المختلفة.

وقد تبيّنا من خلال هذه الوقفة في رحاب الإمام الخميني (قدس سرّه) أنّ نظرية الخطابات القانونية كانت تتّسع لمفردات علمية وعملية تصلح لأن تكون نماذج تطبيقية لها فتعبّر عن العمق العلمي، وتساعد على تركيز الدعائم الأصولية والفقهية للمحافظة على تراثية القيّم والإحتفاظ بقيمة التراث الأصولي. فرأينا أن نتعرّض في هذه الخاتمة إلى جملة من المباحث والنتائج التي خرج بها الكتاب من بحث هذا الموضوع وبقدر أهمية هذه النتائج على الصعيد العلمي.

1. الخطاب يدلّ لغويآ على توجيه الكلام المفيد لمن يفهم. والخطاب الشرعي هو كلام الله جلّ وعلا ثمّ سنّة رسوله (صلي الله عليه وآله) وأوصيائه صلوات الله عليهم بإعتبارها شارحةً ومبينةً لكلام الله عزّ وجلّ. ولا يخفى أنّ الخطاب الشرعي كاشف عن الحكم والحكم هو مدلول الخطاب.

2. الحكم في دلالته اللغوية تعني: المنع، ويطلق أيضآ على إتقان الفعل والإتيان به علي الوجه الذي ينبغي فيه. وأمّا الحكم الشرعي إصطلاحآ فهو : التشريع الصادر من الله تعالى لتنظيم حياة الإنسان وتوجيهه. وينقسم إلى حكم تكليفي وهو: ما صدر بداعى البعث أو الزجر أو الترخيص ويتعلّق بأفعال الإنسان وما يوجّه سلوكه في مختلف جوانب حياته؛ وحكم وضعي وهو: الّذي يشرّع وضعآ معينآ وينظّم التشريعات الالهية والأحكام التكليفية، كالملكية والزوجية.

3. كلمة القانون في اللغة تعني مقياس كلّ شيئ، وهو أمر كلّي ينطبق على جميع جزئياته التي تتعرّف أحكامها منه. وأمّا في الإصطلاح فتطلق على مجموعة القواعد التي تحكّم وتنظّم علاقات المخاطبين بها وسلوكهم في مجتمع‌ما، والتي تصف بأنّها قواعد عامّة فتكون مجرّدة من ذاتية الأفراد وصفاتها الشخصية والوقائع بحيث تخاطب جميع الأفراد بحسب الأمر الذي وضعت لأجله، كما وأنّه لابدّ من أن يكون لهذه القواعد صفة الإلزام والجبر.

4. الحلّ والحلول لغةً بمعنى الفتح. واستعمل في الأصول لإنحلال الحكم الشرعي المنشأ بإنشاء واحد إلى أحكام مستقلة شتّى بعدد أفراد الموضوع ومصاديقه، فلكلّ منها إمتثال مستقل وعصيان كذلک.

5. ذهب المشهور إلى أنّ المراحل التي يمرّ بها الحكم في تدوينه حتّى يبلغ إلى المكلّف أربعة، هي: مرتبة الملاک وهي: ثبوت المقتضيي ووجود المصلحة في الحكم بما هو هو؛ ومرتبة الإنشاء وهي: مرتبة الجعل وصدور الحكم عن المولى لا بداعى البعث والزجر؛ ومرتبة الفعلية وهذه: مرحلة يبلغ الحكم فيها إلى درجة البعث والزجر جدّيآ وتمّ الأمر من قبل المولى فيصير الحكم حكمآ حقيقيّآ؛ ومرتبة التنجّز وهي: مرحلة وصول البعث أو الزجر إلى المكلّف بالحجّة المعتبرة من علم أو علمي.

6. يعتقد الإمام الخميني (قدس سرّه) بأنّه ليس للأحكام إلّا مرتبتين: الإنشائية والفعلية؛ فإنّ مرحلة الإقتضاء تتمحّض في المصالح والمفاسد وهي أمور خارجيّة فتكون من مقدّماته. وأمّا مرحلة التنجّز فهي متأخّرة عن الحكم ومرتبطة بالعقل وتنجّزه الحكم على المكلّف. والمراد من مرحلة الفعلية هو: ما أوقعه الشارع في مورد جريان العمل ولزوم تطبيق العمل عليه متوجّهآ إلى جميع المكلّفين فلا تختصّ بالعالم والقادر، بل تشمل الجاهل والعاجز أيضآ، غاية الأمر أنّ العاجز والجاهل القاصر معذوران عقلا في المخالفة، ومرتبة الإنشاء هي: مرحلة جعل القانون ولكن ليس بحيث يكون بيد الإجراء والعمل.

(عليه السلام). إنّ الأحكام الشرعية، تكليفيةً كانت أم وضعيةً، تنصبّ على الموضوعات. وقد إعتقد الأصحاب 4 بأنّ القضية المتضمّنة لحكم شرعي إنّما تكون مجعولة علي نهج القضية الحقيقية.

8. زعم المشهور أنّ القضيّة الحقيقيّة هي ما كان الحكم فيها واردآ على العنوان والطبيعة بلحاظ مرآتيّة العنوان لما ينطبق عليه في الخارج، بحيث يرد الحكم على الخارجيّات بتوسّط العنوان الجامع لها؛ فإنّ الحكم فيها وإن رتّب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقرّرها العقلي، بل بلحاظ تقرّرها الخارجي، بحيث كلّما يفرض له من أفراد، تدخل فيه ويثبت لها الحكم على تقدير وجودها؛ بيد أنّ الحكم في القضية الخارجية الكلّية إنّما يكون مترتّبآ على الأفراد الخارجية إبتداءً من دون أن يكون هناک بين الأفراد جامع إقتضى ترتّب الحكم عليها بذلک الجامع. ومقتضى لحاظ الموضوع عنوانآ حاكيآ عن أفراده هو: إنحلال الحكم وتعدّد وجوده بعدد ما له من التطبيقات، فهناک موضوعات كثيرة وأحكام عديدة، كما ينحلّ الحكم والخطاب بلحاظ المكلّفين، الموجودين منهم والأفراد المقدّرة الوجود دون إستثناء. وعليه إنّ الوجوب الثابت في حقّ كلّ مكلّف غير الوجوب

الثابت في حقّ المكلّف الآخر، فيستتبع إطاعته أو عصيانه على إستقلاله.

9. يلحظ الموضوع في القضية الحقيقية مفروض الوجود في الرتبة السابقة على الحكم، وهذا معناه رجوع القضية الحقيقية إلى شرطية، مفادها: إذا وجد الموضوع وجد الحكم، فيكون موضوع القضية مقدّمها، ومحمولها تاليها، فيتعدّد الحكم بتعدّد موضوعه في الخارج كما يتعدّد بتعدّد الشرط وجودآ؛ فإنّه إستوت نسبة فعلية الجزاء إلى تمام فعليات الشرط، كما تقول: «النار حارّة» أو تقول: «إن وجدت نار فهي حارّة» أو تقول: «كلّما وجد في الخارج شيء وكان نارآ فهي حارّة.»

10. قد جاء السيّد الإمام (قدس سرّه) بتقريب آخر في تحليل القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة وذهب إلى أنّ المناط في الفرق بينهم بعد أنّ الحكم في كلّ واحدٍ منهما ثابت ومتعلّق بالعنوان الكلي إبتداءً هو أنّ العنوان في الخارجيّة مقيّد بقيد لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة محقّقآ، وليس الحكم فيها متعلّقآ بذات الأفراد وأشخاصها الخارجيّة مباشرةً وبلا توسيط عنوان. وأمّا في القضايا الحقيقيّة فالموضوع فيها ذو قابلية يصلح أن ينطبق على الأفراد الموجودين حسب مرور الزمان، لا بمعنى كون الطبيعة حاكية عنها، بل لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة، وهي قابلة للصدق على الأفراد، ومتّحدة معها في الخارج. مع أنّه لايقيّد العنوان في الحقيقية بفرض وجود الموضوع، بل ينحصر الصدق في ظرف الوجود الخارجي من غير أن يكون الوجود قيدآ، فيكفي تعلّق الحكم بنفس العنوان القابل للصدق على الأفراد عبر الزمان؛ فهما يشتركان في أنّ الحكم على العنوان لا على الخارج ويفترقان في أنّ العنوان في القضية الخارجية له ضيق ذاتي لا ينطبق إلّا على الأفراد الموجودة فعلا.

ويشتركان أيضآ في أنّ المقسم لهما القضية الكلّية البتّية المعتبرة في العلوم،

لاالشرطيّة، فلا تنحلّ القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة واقعآ، وليس ذلک مقصودآ ومرادآ للمحقّقين من المنطقيّين أيضآ؛ فإنّه ليس في الإخبار إشتراط أصلا، لكن لا تكون النار نارآ ولا حارّة إلّا بعد الوجود الخارجي، وهذا غير الإشتراط، ولا يكون مربوطآ بمفاد القضيّة. ولو كانت القضايا الحقيقيّة مشروطة حقيقةً، لزم أن يكن إثبات لوازم الماهيات لها بنحو القضية الحقيقيّة مشروطآ بوجودها الخارجيّ، مع أنّها لازمة لها من حيث هي، فقولنا: «كلّ أربعة زوج» قضيّة حقيقيّة جزمآ، ولو كانت مشروطةً لزم أن يكون إثبات الزوجيّة لها مشروطآ بالوجود الخارجيّ، مع أنّ اللوازم ثابتة لذواتها من غير إشتراط أصلا؛ لأنّ الإشتراط معناه دخالة الشرط في ثبوت الحكم، وهو خلاف الواقع في لوازم الماهيّات

11. قد أورد الإمام الخميني (قدس سرّه) ومن تبعه على نظرية الإنحلال، بعضَ تبعاتها الفاسدة ومحاذيرها المبنائية، وهي: عدم صحّة الخطاب إلى العاصي والكافر،وعدم الإحتياط عند الشک في القدرة، ولزوم النسبية في الأحكام الوضعية، وإجتماع عدة أكاذيب في خبر واحد، وعدم وجوب القضاء على النائم في جميع الوقت.

12. إنّ الخطاب الشرعي عند الإمام الخميني (قدس سرّه) قد يقسّم إلى نوعين: شخصي وقانوني. والخطاب الشخصي هو: الخطاب المتوجّه إلى شخص أو صنف خاص من الناس، كالخطاب المتوجّه إلى شخص الرسول (صلي الله عليه وآله) أو نسائه، فيلقي التكليف إلى الفرد بشكل مختصّ به مستجمعآ لشرائط صدور الخطاب من العلم والقدرة على إتيان المأمور به وإحتمال إنبعاثه بمعنى كونه موردآ لإبتلائه ورغبته. ومن ثمّ، إنّ العقل حاكم بمعذوريّة العاجز والجاهل والساهي وغيرهم في مخالفة الحكم الشرعيّ فتوجيه الخطاب الشخصي إليهم لغو، بل ممتنع صدوره من الملتفت وحينئذ لا تصحّ العقوبة على المخالفة.

13. إنّ خطاب الحكم المجعول بنحو القانون لا ينحلّ إلى الخطابات

الشخصيّة بحسب أفراد المكلّفين أو بحسب أفراد الموضوع؛ والميزان في فعلية الحكم المجعول بنحو القانون أن يترتّب عليه إنبعاث عدة من المكلّفين خروجآ عن الإستهجان، ولا يعتبر ترتّب إنبعاث الجميع لبطلان الإنحلال.

14. إنّ الحكم الكلي القانوني بخطابه لا ينظر إلى الحالات الطارئة على المكلّف الناشئة من جعل الحكم أو من الإبتلاء بالواقعة، ككونه عالمآ بجعل القانون أو جاهلا به، قادرآ أو عاجزآ عنه؛ فإنّ تلک الحالات متأخرة عن موضوع الحكم الكلّي و إنّ الخطاب الناظر إلى الموضوع في مقام الجعل مطلق لا يدخل في مدلوله تلک الحالات.

15. إنّه لا شأن للعقل أن يتصرّف في مقام جعل التكليف ويقيّده بالقدرة لا بنحو الكشف عن التقييد شرعآ ولا بنحو الحكومة، بل إنّما شأنه الحكومة في مقام الإمتثال بأن يعذّر المكلّف إذا كان جاهلا قاصرآ بالإضافة إلى الحكم الكلّي القانوني أو عاجزآ عن إمتثاله، وإن كان طاغيآ أو عاصيآ يحكم عليه بإستحقاقه العقوبة. أمّا عدم تقييده شرعآ فباعتبار أنّ القدرة على الفعل من الحالات الطارئة في مقام الإمتثال فلا يرجع إلى مقام الجعل وفعلية الحكم، وأمّا عقلا فلأنّه ليس شأن العقل التصرّف في مقام الجعل بتقييد التكليف بالقدرة.

16. قد أشكل السيّد الشهيد مصطفى الخميني(رحمه الله) على عدم إنحلال الخطاب : بأنّ الخطاب إمّا أن يتعلّق بفرد فرد من المكلّفين أو لا يتعلّق، فإن قيل بالأول فهذا يوجب القول بأنّ الخطاب ينحلّ إلى الأفراد ولا يقول به السيّد الإمام (قدس سرّه) وإن قيل بالثاني، فمعناه أنّ الخطاب لا يتعلّق بالأفراد فلا يجب عليهم شيء، وعليه كيف يقال إن زيدآ عصى أو أطاع مع أنّ الخطاب لا ينحلّ إلى الخطاب الخاص المتوّجه إليه حسب الفرض. فذهب إلى الإنحلال الحكمي لا الحقيقي؛ فالخطاب القانوني وإن كان متعلّقاً بالجميع ولا ينحلّ إلى الأفراد حقيقةً إلّا أنّه ينحلّ حكمآ،

بمعنى أنّ العقل والعرف يحكمان بالإنحلال وإن لم ينحلّ حقيقةً.

17. قد أورد أستاذنا المعظّم حفظه الله على نظرية الخطابات القانونية وجوهآ من المناقشات وهي: أولا، إنّ العرف يحكم بالإنحلال ويفهم من الخطابات العامة تعدّدها بعدد أفراد المكلّفين، ولا توجد هاهنا قرينة قوية على خلاف ما إرتكز قطعآ عند العرف؛ مع أنّ صرف توفّر الفرق بين الخطاب القانوني والشخصي لايدلّ على أنّ الأحكام الشرعية تكون بشكل القضايا القانونية. وثانيآ، إنّ طائفة من الآيات تدلّ بظاهرها على إشتراط التكليف بالقدرة، وعلى نفي تكليفه تعالى بما فوق وسع المكلّف، وهو يعمّ الحرج وغير المقدور، فتؤكّد على نظرية المشهور من إنحلال الأحكام فما إدعاه (قدس سرّه) خلاف العرفِ وما يظهر من الأدلة الشرعية؛ مع أنّه(قدس سرّه) يعترف بإنحلال المتعلّق في النواهي، فيصير الخطاب في «لا تشرب الخمر» منحلّآ بعدد الأفراد فلا تكون هذه النظرية جامعةً. وثالثآ، يجوز التفكيک بين إرادة البعث أو الزجر في التشريع وبين عدم وضع الأحكام بصياغة القانون بأن نعتقد أنّ الإرادة التشريعية ليست إلّا بنحو القانون ومع ذلک نذهب إلى إنحلال الخطاب ولحاظ الأفراد وحالاتهم في إنشاء الحكم وتظهر ثمرته في عدم ورود الإيرادات التي أوردها السيّد الإمام (قدس سرّه) على نظرية المشهور حيث لم نفسّر التكليف بالبعث كما ذهب إليه الإمام (قدس سرّه) مع عدم الإلتزام بنظرية الخطابات القانونية على ما فسّرها؛ مع أنّ المحاذير المبنائية التي أوردها (قدس سرّه) على نظرية الإنحلال قابلة الدفع كما ترى. ولو قلنا بالتقريب الذي أفاده المحقّق الشهيد(رحمه الله) تعود المحاذير ويترتّب عليه ما يترتّب على القول بالإنحلال من تعدّد الإراده والحكم؛ وذلک لأنّ الفرد حينئذ يكون مخاطبآ وبالتالي كيف يتوجّه الخطاب إلى العاجز والجاهل؟

18. هذه النظرية لها مساس مباشر بموضوعات الحقل الأصولي وبواسطته بموضوعات الحقل الفقهي، فيدفع بها كثير من الغوامض التي تكون في الأصول

والفقه؛ فمن ثمراتها الأصولية القول بأنّ القرآن هو حكاية الخطاب بلا واسطة، أو بواسطة أمين الوحي، وعلى أيّ حال، إنّها ليست خطابات شفاهية لفظية؛ بحيث يقابل فيها الشخص الشخص، فيخاطب بها الناس، لإستحالة أن يكلّمهم الله تعالى بلا واسطة، مع عدم لياقتهم لذلک، وعدم كون واحد من المكلّفين مخاطبآ بها أصلا، بل إنّما هي قوانين كلّية بصورة المخاطبة أوحى الله تعالى بها نبيّه (صلي الله عليه وآله) وهو بلّغها إلى الناس كما أنزلت على قلبه فيشمل الغائبين والمعدومين كما يشمل الحاضرين في مجلس الوحي أو في مسجد النبيّ. وبعبارة أخرى، إنّ القران هو خطاب كتبي حُفِظ بالكتابة ليعمل به كلّ مَنْ نظر إليه، نظير الخطابات الواقعة في قوانين المكتوبة المنتشرة بين الناس ليطّلعوا عليها فيعملوا بها، فقوانينه عامّة لكلّ من بلغت إليه بأيّ نحو كان من غير لزوم محذور.

19. هناک تطبيقات فقهية عبادية لهذه النظرية؛ فمنها أنّه بناء على هذه النظرية إذا عارض إستعمال الماء في الوضوء أو الغسل واجب أهم من رفع الخبث ولم يكن عنده من الماء إلّا بقدر أحد الأمرين، يصحّ الوضوء أو الغسل حينئذ لعدم إمتناع تعلّق الأمرين بعنوانين متزاحمين في الوجود؛ فإنّ الأدلّة غير ناظرة إلى حال المتزاحمات ولا حال علاجها، وأنّ الأمر بكلٍّ من المتزاحمين أمر بالمقدور، والجمع غير مقدور، وهو ليس بمأمور به، ففي المتزاحمين أمران كلٌّ تعلّق بمقدور، لا أمر واحد بالجمع الذي هو غير مقدور؛ فيمكن تصوير الأمرين في عرض واحد، وعليه لا إشكال في صحّة الوضوء مع الإبتلاء بالمزاحم.

20. هناک فروع فقهية أُخرى لهذه النظرية تتعلّق بالمعاملات؛ فمنها أنّه خلافآ للمشهور لا يعتبر في الإلزام على العمل بالشرط ولو كان بنحو شرط الفعل أن يكون داخلا تحت قدرة المشروط عليه؛ فإنّ الأحكام الكلّية القانونيّة لا تتقيّد بالقدرة كما لا تتقيّد بالعلم، فيكون الحكم الفعلي كوجوب العمل بالشرط

ثابتآ لموضوعه، سواء كان المكلّف عالمآ أم لا، وقادرآ أم لا. وعليه إنّ العذر عن الإتيان به لا يوجب بطلانه رأسآ، بل يترتّب عليه الخيار قطعآ؛ فإنّ الخيار لم يترتّب على تخلّف الشرط إختيارآ، بل هو كقانون شرعي رتّب على مطلق التخلّف، فيشمل العاجز كالقادر.

إلى هنا تمّ إعداد الكتاب وإنتهى الغرض من إخراجه، فنحمد الله تعالى على تسهيله وتوفيقه، ونصلّي على سيّد رسله محمّد وعلى آله المصطفين الأخيار، ونبتهل إلى الله تعالى بهم عليهم أفضل السلام وأزكى التحيات في قبوله وإجرائه في صحائف الحسنات، وأن يغفر لنا ما أخطأنا فيه سبيل الصواب، إنّه غفور رحيم.

فهرس مصادر التحقيق

1. القرآن الكريم.

2. نهج البلاغة (للصبحي صالح).

3. أجود التقريرات: النائيني، محمّد حسين، مطبعة عرفان، قم، ط1، 1352ق.

4. إرشاد العقول إلى مباحث الأصول: السبحاني التبريزي، جعفر، موسسة الإمام الصادق، قم، ط1، 1424ق.

5. إصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: المشكيني، الميرزا علي، الهادي، قم، ط6، 1416ق.

6. الأصول العامة في الفقه المقارن: الحكيم، محمّد تقى بن محمّد سعيد، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) چاپ، قم، ط 2، 1979م.

7. أنوار الأصول: المكارم الشيرازي، ناصر، تقرير: أحمد القدسي، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، قم، ط2، 1428ق.

8. أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية: الإمام الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1413ق.

9. بدائع الافكار في الأصول: العراقي، ضياءالدين، تقرير: الميرزا هاشم الآملي، المطبعة العلمية، النجف الأشرف، ط 1، 1370ق.

10. تاج العروس من جواهر القاموس: الواسطي، محبّ الدين، تحقيق: السيّد محمّد مرتضى الحسينى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1414ق.

11. تاج اللغة وصحاح العربية: الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، دار العلم للملايين، بيروت، ط1، 1410ق.

12. تحريرات في الأصول: الخميني، مصطفى، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط 1، 1418ق.

13. تسديد الأصول: المؤمن القمي، محمّد، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1419ق.

14. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (غسل الجنابة، التيمم، المطهرات): الفاضل اللنكراني، محمّد، مؤسسة العروج، طهران، ط1، 1419ق.

15. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الإجارة): الفاضل اللنكراني، محمّد، مركز فقه الأئمه الأطهار، قم، ط1، 1424ق.

16. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة (كتاب الحج): الفاضل اللنكراني، محمّد، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط2، 1418ق.

17. تنقيح الأصول: الإمام الموسوي الخميني، السيّد روح الله، تقرير: حسين التقوي الإشتهاردي، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1418ق.

18. تهذيب الأصول: الإمام الموسوي الخميني، السيّد روح الله، تقرير: جعفر السبحاني، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1423ق.

19. جواهر الأصول: الإمام الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1423ق.

20. حاشية المكاسب: الشيرازي، الميرزا محمّد تقي، منشورات الشريف الرضي، قم، ط1، 1412ق.

21. حاشية كتاب المكاسب: الإصفهاني، محمّد حسين، أنوار الهدى، قم، ط1، 1418ق.

22. الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة: البحراني، يوسف بن أحمد، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1405ق.

23. الحكم الشرعي عند الأصوليين: محمد، علي جمعة، دار الإسلام، مصر، ط 2، 1427ق.

24. خطابات قانونية ]بالفارسية[: العروج، قم، ط2، 1428ق.

25. دراسات في الأصول: الفاضل اللنكراني، محمّد، تقرير: السيّد صمد الموسوي، مركز فقه الأئمه الأطهار، قم، ط 1، 4301ق.

26. دراسات في علم الأصول: الموسوي الخوئي، السيّد ابوالقاسم، تقرير: السيّد علي الهاشمي الشاهرودي، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، ط1، 1422ق.

27. درر الفوائد في الحاشية على الفرائد: الخراساني، محمّد كاظم، تحقيق: السيّد مهدي شمس الدين، مؤسسه الطبع والنشر التابعة لوزاره الثقافه والإرشاد الإسلامي، طهران، ط1، 1410ق.

28. درر الفوائد: الحائري اليزدي، عبدالكريم، موسسة النشر الاسلامي، قم، ط6، 1418ق.

29. دروس في علم الأصول (الحلقة الثالثة): الصدر، محمّد باقر، مجمع الفكر، قم، ط1، 1423ق.

30. دروس في علم الأصول: الصدر، السيّد محمّد باقر، منشورات الإسلامي، قم، ط5، 1418ق.

31. رسالة الصلاة في المشكوک: النائينى الغروي، الميرزا محمّد حسين، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، قم، ط 81، 141ق.

32. زبدة الأصول: الشيخ البهائي العاملي، محمّد بن حسين بن عبد الصمد، تحقيق: فارس حسون كريم، مدرسة ولي عصر العملية، قم، ط1، 1423ق.

33. شرح المنظومة (قسم المنطق:) السبزواري، الملّا هادي، تعليق: حسن زاده الآملي، منشورات ناب، طهران، ط 4، 1422ق.

34. العروة الوثقى (المحشّى): الطباطبايي اليزدي، السيّد محمّد كاظم، موسسة النشر الاسلامي، قم، ط1، 1419ق.

35. العروة الوثقى مع تعليقات الفاضل: الطباطبايي اليزدي، السيّد محمّد كاظم، مركز فقه الأئمه الأطهار، قم، ط1.

36. العروة الوثقى: اليزدي الطباطبايى، السيّد محمّد كاظم، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 1409ق.

37. عوالي اللئالي العزيزية: الأحسايى، إبن أبى جمهور، محمّد بن على، دار سيد الشهداء للنشر، قم، ط1، 1405ق.

38. فرائد الأصول: الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين، مجمع الفكر الاسلامي، قم، ط9، 1428ق.

39. الفصول الغروية في الأصول الفقهية: الإصفهاني، محمّد حسين، دار إحياء العلوم الإسلامية، قم، 1404ق.

40. فوائد الاُصول: النائيني، محمّد حسين، النشر الإسلامي، قم، ط 6، 1417ق.

41. القاموس الفقهي لغة وإصطلاحآ: سعدي، أبوجيب، دار الفكر، دمشق، ط1، 1419ق.

42. القاموس القانوني الثلاثي (عربي فرنسي إنكليزي:) البعلبكي، روحي، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، ط 1، 2002م.

43. القوانين المحكمة في الأصول المتقنة: الميرزا القمي، أبوالقاسم بن محمدحسن، إحياء الكتب الإسلامية، قم، ط1، 1430ق.

44. القول الرشيد في الاجتهاد و التقليد: المرعشي النجفي، شهاب الدين، تقرير: السيّد عادل العلوي، مكتبة آية الله المرعشي، قم، ط1، 1422ق.

45. الكافي: الكليني، محمّد بن يعقوب، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1407ق.

46. كتاب البيع: الإمام الخميني، السيّد روح الله، تقرير: محمّد حسن القديري، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، ط1.

47. كتاب البيع: الإمام الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، ط1، 1418ق.

48. كتاب الخلل في الصلاة: الإمام الخمينى، السيّد روح الله، مطبعة مهر، قم، ط1.

49. كتاب الصوم: الموسوي الخميني، السيّد مصطفى، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، ط1.

50. كتاب الطهارة: الإمام الموسوي الخميني، السيّد روح الله، تقرير: محمّد الفاضل اللنكراني، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، قم، 1422ق.

51. كتاب الطهارة: الإمام الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1.

52. كتاب المكاسب: الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين، مجمع الفكر الإسلامي، قم، ط1، 1415ق.

53. كفاية الأصول: الخراساني، محمّد كاظم، موسسة آل البيت لإحياء التراث، قم، ط2، 1417ق.

54. لسان العرب: إبن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دار صادر، بيروت، ط3، 1414ق.

55. المبادئ القانونية العامة: سلطان، أنور، دار النهضة العربية، بيروت، ط4، 1983م.

56. مجمع البحرين: الطريحي، فخر الدين، منشورات المرتضوي، طهران، ط3، 1416ق.

57. المحاضرات (مباحث في علم الأصول): المحقّق الداماد، السيّد محمّد، تقرير: السيّد جلال الدين الطاهري الإصفهاني، مبارک، إصفهان، ط1.

58. محاضرات في أصول الفقه: الموسوي الخويى، أبوالقاسم، دار الهادي للمطبوعات، قم، ط4، 1417ق.

59. المحصول في علم الأصول: السبحاني التبريزي، جعفر، موسسة الإمام الصادق، قم، ط1، 1414ق.

60. مصباح الأصول: الموسوي الخوئي، السيّد ابوالقاسم، تقرير: السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، قم، ط1، 1419ق.

61. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: الفيومي، أحمد بن محمّد المقري، منشورات دار الرضي، قم، ط1.

62. المعالم الجديدة للأصول: الصدر، السيّد محمّد باقر، مكتبة النجاح، طهران، ط2، 1395ق.

63. معتمد الأصول: الإمام الموسوي الخميني،السيد روح الله، تقرير: محمّد الفاضل اللنكراني، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1420ق.

64. المعجم الأصولي: صنقور، محمّد، قم، ط2، 1428ق.

65. معجم المصطلحات و الألفاظ الفقهية: عبدالمنعم، محمود عبدالرحمن، دار الفضيلة، القاهرة، ط1، 1999م.

66. معجم مفردات أصول الفقه المقارن: المشرق للثقافه والنشر، طهران، ط1، 1428ق.

67. معجم مقائيس اللغة: أبو الحسين، أحمد بن فارس بن زكريا، منشورات مكتبة الإعلام الإسلامية، قم، ط1، 1404ق.

68. مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الإصفهاني، حسين إبن محمد، الدار الشامية، لبنان، ط1، 1412ق.

68. المكاسب المحرمة: الإمام الموسوي الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط 1، 681415ق.

70. مناهج الوصول إلى علم الأصول: الإمام الموسوي الخميني، السيّد روح الله، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1414ق.

71. المنطق: المظفر، محمّد رضا، منشورات إسماعيليان، قم، ط10، 1424ق.

72. مهذّب الأحكام: السبزواري، السيّد عبد الأعلى، مؤسسه المنار، قم، ط4، 1413ق.

73. موسوعة الإمام الخوئي: الموسوي الخوئي، السيّد أبو القاسم، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، ط1، 1418ق.

74. موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمين: العجم، رفيق، ناشرون، لبنان، ط1، 1998م.

75. النظرية العامة للقانون: الشامسي، جاسم علي، مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2000م.

76. نهاية الحكمة: الطباطبايي، السيّد محمّد حسين، النشر الإسلامي، قم، ط17، 1424ق.

77. نهاية الدراية: الغروي الإصفهاني، محمّد حسين، سيد الشهداء 7، قم، ط1، 1415ق.

78. وسائل الشيعة: الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، مؤسسة آل البيت :، قم، ط1، 1409ق.

الكلمة الإفتتاحية

المبحث الأوّل: أهمية الموضوع وتأريخه[1]

المبحث الثاني: تبيين المفردات

المطلب الأول: تعريف الخطاب

المطلب الثاني: تعريف الحكم الشرعي وأقسامه

الجهة الأولى: تعريف الحكم الشرعي

الجهة الثانية: تقسيمات الحكم الشرعي

النقطة الأولى: تقسيم الحكم الي تكليفي ووضعي

النقطة الثانية: تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري

النقطة الثالثة: تقسيم الحكم إلى أولي وثانوي

المطلب الثالث: تعريف التكليف

المطلب الرابع: تعريف القانون ومراحل جعله

المطلب الخامس: تعريف الإنحلال، لغةً وإصطلاحآ

المبحث الثالث: المبادئ الأصولية للحكم الشرعي

البــاب الأوّل

المبحث الأوّل: نظرية الإنحلال في القضايا الشرعية

المطلب الأول: تقسيم القضايا وتعريفها

المطلب الثاني: القضايا الشرعية عند المحقّق النائيني

المطلب الثالث: رؤية الإمام الخميني (قدس سرّه) في تقسيم القضايا

المبحث الثاني: مناقشات الإمام الخميني لرؤية الإنحلال

المناقشة الأولى: عدم صحّة الخطاب إلى العاصي والكافر

المناقشة الثانية: عدم الإحتياط عند الشک في القدرة

المناقشة الثالثة: لزوم النسبية في الأحكام الوضعية

المناقشة الرابعة: إجتماع عدة أكاذيب في خبر واحد

المناقشة الخامسة: عدم وجوب القضاء على النائم في جميع الوقت

البـــاب الثــاني

تمهيد

المبحث الأول: نظرية الخطابات القانونية من منظار الإمام الخميني (قدس سرّه)

المطلب الأول: بيان النظرية

المطلب الثاني: أدلة النظرية

المطلب الثالث: ما تتضمّنه النظرية

المطلب الرابع: الفرق بين الخطابات القانونية والقضايا الحقيقية

المطلب الخامس: علاقة بحث تعلّق الأمر بالطبيعة والخطابات القانونية

المبحث الثاني: الخطابات القانونية عند تلامذة السيّد الإمام (قدس سرّه)

المطلب الأوّل: الخطابات القانونية عند الفقيه الأصولي الشيخ الفاضل اللنكراني(رحمه الله)

المطلب الثاني: الخطابات القانونية عند الفقيه المحقّق الشيخ السبحاني حفظه الله

المطلب الثالث: الخطابات القانونية عند الفقيه الخبير الشيخ محمّد المؤمن حفظه الله

المبحث الثالث: إشكاليات الخطابات القانونية

المطلب الأول: إيرادات المحقّقين على هذه النظرية والإجابة عنها

المطلب الثاني: إيرادات الأستاذ حفظه الله على هذه النظرية

المبحث الرابع: الخطابات القانونية عند السيّد مصطفى الخميني(رحمه الله)

المبحث الخامس: كلام بعض المحقّقين في الخطابات القانونية ونقده

البــاب الثــالث

تمهيـد

المبحث الأول: التطبيقات الأصولية للخطابات القانونية

الجهة الأولى: شمولية الخطابات القرانية لغير الحاضرين

الجهة الثانية: تصحيح الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه وما شابه ذلک

الجهة الثالثة: إتحاد الطلب والإرادة ودفع الإشكال عن تكليف الكفّار

الجهة الرابعة: فعلية الحكمين المتزاحمين في عرض واحد

الجهة الخامسة: عدم إعتبار المندوحة في إجتماع الأمر والنهي

الجهة السادسة: تصحيح الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

الجهة السابعة: تصحيح المعني الحقيقي للرفع وعموميته

الجهة الثامنة: كلّية الأدلة الإمتنانية

الجهة التاسعة: تصحيح التمسّک بالإحتياط

الجهة العاشرة: إجراء الأصل العقلي في نسيان الأجزاء

المبحث الثاني: التطبيقات الفقهية للخطابات القانونية

المطلب الأول: الآثار العبادية

الجهة الأولى: حكم الصلاة في النجس مع الجهل بالحكم

الجهة الثانية: حكم الورود في الصلاة قبل الوقت خطأً

الجهة الثالثة: سقوط الأداء في فاقد الطهورين

الجهة الرابعة: تصحيح الطهارة المائية مع تعين التيمّم

الجهة الخامسة: حكم الصلاة في ضيق الوقت

الجهة الخامسة: حكم الصلاة مع الإخلال عن جهل

الجهة السادسة: حكم الصوم الآخر في النذر المعين

الجهة السابعة: وجوب الحجّ على الكافر

الجهة الثامنة: وجوب الحجّ مطلقآ عند الإستطاعة

الجهة التاسعة: حكم الإستغفار في الحجّ على ما يوجب الكفّاره جهلا

الجهة العاشرة: صحّة النيابة لمن وجب عليه الحجّ

المطلب الثاني: النماذج المعاملية

الجهة الأولى: تصحيح معاملة الصبي

الجهة الثانية: الأجير الخاص

الجهة الثالثة: إعتبار القدرة في شروط العقد

الجهة الرابعة: جعل الخيار في المعاطات

الجهة الخامسة: ضمان المقبوض بالعقد الفاسد

الجهة السادسة: حكم تعذّر المثل في المثلي

الجهة السابعة: بدل الحيلولة عند تعذّر العين

الجهة الثامنة: وجوب الفحص عن المالک

الجهة التاسعة: رجوع المالک إلى جميع الأيادي مع بقاء العين

الجهة العاشرة: ردّ العين إلى المالک قبل الوقوع تحت يد الغارم

فصل في خاتمة المطاف

نتائج البحث

فهرس مصادر التحقيق