الطواف من الطابق الأوّل دراسة فقهية استدلالية
12 شوال 1432
18:21
۱۱,۶۸۴
الخلاصة :
وبناءً على الجواز، هل يكون الترخّص منحصراً بما إذا لم يقدر على الطواف في صحن المسجد، كما إذا كان الزحام كثيراً أو لم يكن قادراً على المشي في الصحن لعدم التمكّن والاحتياج إلى الإطافة بالآلات الموجودة أو لوجود المانع العرضي عن ذلك، أم لا يكون منحصراً بذلك، بمعنى أن الطائف يتخيّر ـ بدواً ـ بين الطواف فيه والطواف في الطابق الأول؟
تأليف: سماحة آية الله الشيخ محمّد جواد الفاضل اللنكراني «دام عزه»
نجل سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني «دام ظله»
بسم الله الرحمن الرحيم
وقع الخلاف في عصرنا هذا في صحّة الطواف من الطابق الأوّل وعدمها، كما اختلفت وجهات النظر في جواز الطواف تحت الأرض بحذاء الكعبة فيما إذا بنيت أبنية تحت أرض المسجد.
وبناءً على الجواز، هل يكون الترخّص منحصراً بما إذا لم يقدر على الطواف في صحن المسجد، كما إذا كان الزحام كثيراً أو لم يكن قادراً على المشي في الصحن لعدم التمكّن والاحتياج إلى الإطافة بالآلات الموجودة أو لوجود المانع العرضي عن ذلك، أم لا يكون منحصراً بذلك، بمعنى أن الطائف يتخيّر ـ بدواً ـ بين الطواف فيه والطواف في الطابق الأول؟
والتحقيق حول هذا البحث يقع ضمن محاور:
علاقة البحث بفكرة حدّ الطواف
الأوّل: من الواضح دخول من ذهب إلى عدم وجود حدّ للمطاف في هذا النزاع، لكن هل يدخل فيه من ذهب إلى وجود حدّ له كالمشهور أم لا؟
الظاهر دخولهم في محلّ البحث، وذلك بأن يفرض فيما إذا بنى في نفس الحدّ الطابق الأوّل والثاني حال كونهما مرتفعين عن البيت أو مساويين، إلاّ أنّ المشكلة أنّه لا واقع لهذا الفرض في زماننا هذا.
علاقة البحث بمسألة الزيادة على البناء
الثاني: وقع الخلاف في جواز الإضافة ـ من جهة الارتفاع ـ على البيت الشريف، وذلك بعد المفروغية عن أنّه لا يجوز التنقيص أو التخريب فيه، فبناءً على جواز الإضافة، إذا تحقّقت الإضافة ـ مثلاً ـ إلى حدّ يصير ضعف الموجود الآن أو أكثر فلاشكّ في جواز الطواف حوله، وإن علا، لكنّه ـ بناءً على الجواز وعدم تحقّق الإضافة ـ وقع النزاع في جواز الطواف بالنسبة إلى محلّ يكون أعلى من البيت، وأمّا إذا ذهبنا إلى عدم جواز الإضافة إلى البيت، فالظاهر عدم الخلاف في عدم الجواز بالنسبة إلى ما يكون فوق الكعبة.
والظاهر جواز الإضافة، فإنّه مضافاً إلى الأصل ـ فإنّ البيت كسائر الأمكنة والأبنية، فكما تجوز الإضافة مثلاً إلى نفس المسجد كذلك تجوز إلى نفس البيت، ولاينبغي توهّم أنّه من الاُمور التوقيفيّة كالأحكام التعبّدية ـ يدلّ عليه بعض الروايات، منها:
ما ذكره جماعة عن أحمد بن محمّد عن سعيد بن جناح عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «كانت الكعبة على عهد إبراهيم (عليه السلام) تسعة أذرع، وكان لها بابان، فبناها عبدالله بن زبير فرفعها ثمانية عشر ذراعاً، فهدمها الحجّاج وبناها سبعة وعشرين ذراع»(1).
وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ عدم ردع الإمام (عليه السلام) يدلّ على جواز الإضافة من جهة الارتفاع إلى البيت.
إلاّ أنّ الرواية غير معتبرة من جهة اشتمالها على أحمد بن محمّد، وهو مشترك بين جماعة، وسعيد بن جناح فإنّه وإن كان مورداً لتوثيق النجاشي وموجوداً في أسناد كامل الزيارات إلاّ أنّه لم يعلم الراوي عنه، ومعه لايصحّ الاستناد إلى الرواية المذكورة.
جريان البحث في الطواف الواجب والمندوب
الثالث: الظاهر عدم اختصاص النزاع بالطواف الواجب، بل يجري في الطواف المندوب أيضاً، كما أنّه على القول بوجود حدّ للمطاف، وهو ما بين البيت والمقام، لاشكّ في لزوم مراعاته في الطواف المندوب.
ويدلّ عليه إطلاق ما دلّ على الحدّ وأنّ الطائف خارج هذا الحدّ ليس بطائف، والانصراف إلى الواجب لا وجه له أصلاً، كما أنّه لا دليل على تقييد الإطلاق في المقام.
نعم، دلَّ الدليل على عدم اعتبار الطهارة في الطواف المندوب، ويدلّ عليه الروايات المعتبرة(2)، خلافاً لأبي الصلاح فإنّه ذهب إلى وجوبها فيه أيضاً لإطلاق بعض النصوص، وأيضاً دلّ الدليل على جواز قطع الطواف المندوب عمداً على قول جمع، كما دلّ على كراهة الزيادة على السبع في الطواف المندوب.
لزوم دخول جميع أجزاءالبدن في الطواف وعدمه
الرابع: هل يجب دخول جميع أجزاء بدن الطائف في المطاف، وهل يكفي دخول معظم أجزائه بحيث يصدق عرفاً أنّه يطوف أم لا؟
الظاهر كفاية الصدق العرفي في ذلك، والعرف يحكم بأنّه إذا كان معظم أجزائه داخلاً في المطاف، يصحّ طوافه وإن كان رأسه مثلاً أعلى من البيت، ولا دليل على لزوم كون جميع الأجزاء داخلة فيه، وقد صرّح صاحب الجواهر في مسألة الاستقبال بأنّه يكفي صدق الاستقبال وإن خرج بعض أجزاء البدن عن جهة الكعبة، ولا يلزم في صدقه كون جميع أجزاء البدن داخلاً في جهة القبلة، وهذا معناه أنّ المولى إذا أمر بالاستقبال كفى في الامتثال تحقّق هذا العنوان عرفاً وصدقه في الخارج كذلك.
قال صاحب الجواهر: «وكيفيّة استقبال القبلة أمر عرفي لا مدخلية للشرع فيه، والظاهر تحقّق الصدق وإن خرج بعض أجزاء البدن التي لا مدخلية لها في صدق كون الشخص مستقبلاً وحالته استقبالاً من غير فرق في ذلك بين القريب والبعيد، لكن في القواعد: أنّه لو خرج بعض بدنه عن جهة الكعبة بطلت صلاته، بل قيل: إنّه كذلك، في نهاية الاحكام والتحرير والتذكرة والذكرى والبيان والموجز وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد القواعد، والتحقيق عدم اشتراط ما يزيد على صدق الاستقبال، ودعوى توقّف الصدق المزبور على الاستقبال بجميع أجزاء البدن يكذّبها الوجدان فيما لم يذكر فيه متعلّق الأمر بالاستقبال جميع البدن بل اقتصر على قوله استقبل»(3).
والظاهر أنّ الطواف كالاستقبال، فإنّ امتثال قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا) يكفي فيه صدق الطواف العرفي، ولا يعتبر فيه أن يكون جميع أجزاء الطائف داخلاً في المطاف بحيث لو كان رأسه أو يده مثلاً خارجاً عن حدّ المطاف لكان مخلاًّ بطوافه، ومن الواضح عدم ثبوت حقيقة شرعية لهذا المفهوم، كما أنّه ليس من الموضوعات التي تصرّف فيها الشارع المقدّس، كما أنّ الشارع ليس عنده كيفيّة خاصّة من جهة أصل العمل فيه وإن أضاف إليه بعض الشرائط كالطهارة والبدو من الحجر الأسود والختم به.
نعم، لا ثمرة لهذا البحث بعد الذهاب إلى التوسعة والقول بأنّ ما علا الكعبة محكوم بحكم البيت يجوز الطواف حوله، إذ عليه تكون أجزاء الطائف داخلةً على الدوام، لا معنى لخروج بعضها.
حكم البناء في مكّة مرتفعاً عن البيت
الخامس: ورد النهي في الروايات عن البناء في مكّة مرتفعاً عن الكعبة.
منها: ما ذكره محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى العطّار عن محمّد بن الحسين عن علي بن الحكم عن صفوان، عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: «نهى (عليه السلام) أن يرفع الإنسان بمكّة بناءً فوق الكعبة»(4).
والرواية معتبرة من جهة السند، فإنّ المراد من محمّد بن الحسين هو محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب على ما استظهره السيّد الخوئي(5)، وهو ثقة جليل، وعلي بن حكم أيضاً ثقة، وصفوان وإن كان مشتركاً بين صفوان بن مهران وصفوان بن يحيى إلاّ أنّ كليهما ثقة، والمراد من العلاء هو علاء بن رزين وهو ثقة جليل القدر.
ومنها: ما ذكره المفيد في المقنعة قال: «نهى (عليه السلام) أن يرفع الإنسان بمكّة بناءً فوق الكعبة».
وبعد الاختلاف في أنّه هل هو محمول على الحرمة أو دالّ على الكراهة كما يستفاد من عنوان الباب الموجود في الوسائل، يوجد سؤال آخر وهو: هل النهي في هذا النصّ شامل لجميع الأبنية الواقعة في مكّة حتّى المسجد الحرام بمعنى أنّ الشارع نهى أن يرفع بناء فوق الكعبة لشرافتها، فلايجوز البناء حتّى داخل المسجد بحيث يصير مرتفعاً عنها أو أنّ النهي مختصّ بالأبنية التي يصطنعها الناس لأنفسهم، ومن ثمّ فتكون الروايات منصرفة عن نفس المسجد؟
الظاهر عدم الانصراف; لعدم وجه له، والإنصاف ظهور الكلام في الإطلاق سيما بالنسبة إلى كون لفظ البناء نكرة في سياق النفي أو النهي، ويؤيّده قرينة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّ شرافة الكعبة وعظمتها يجب أن تحفظ بالنسبة إلى كلّ شيء حتّى بلحاظ البناء الموجود داخل المسجد.
فبناءً على الإطلاق يمكن أن يقال بعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل الموجود فعلاً، فإنّه ـ بعد التحقيق والسؤال ـ ظهر في زماننا هذا كونه مرتفعاً عن البيت بمقدار سبعة وعشرين سانتيمتراً.
والدليل على ذلك أنّ الشارع إذا نهى عن البناء نفهم بالملازمة العرفية عدم صحّة الطواف منه أو نفهم عدم جواز كون الإنسان أيضاً مرتفعاً عن الكعبة.
هذا، والإنصاف أنّ هذه الروايات لا تشمل صورة ما إذا كان نفس الإنسان مرتفعاً عن البيت حال الطواف، فإنّ موردها الأبنية الثابتة لا المتحركة، فلا تشمل الإنسان نفسه في دورانه حوله مرتفعاً عنه.
كما أنّ شرافة البيت ـ والتي هي الحكمة الأصلية لهذا الحكم ـ لا تشمل ما يتعلّق بهذا البيت من الأبنية الموجودة في المسجد ممّا هو من شؤونه.
الطواف من الطابق الأعلى
السادس ـ وهو المهمّ في المقام وحاصله: أنّه قد اشتهر في ألسنة الفقهاء، بل صار أمراً مجمعاً عليه بينهم، بل بين المسلمين كما صرّح به كاشف اللثام; أنّ القبلة تمتدّ محاذية للكعبة علواً وسفلاً من عنان السماء إلى تخوم الأرض، وأنّه لا عبرة بالبناء الموجود المحسوس، والظاهر أنّ أوّل من صرّح به هو الشهيد الثاني في المسالك ثمّ تبعه صاحب المدارك، وتبعهما جميع من تأخّر عنهما إلى زماننا هذا، إلى أن صار أمراً مسلَّماً عند الجميع(6).
لكنّ السؤال يكمن في أنّ الطواف هل هو ملحق بالاستقبال، بحيث يكون الفضاء الموجود فوق البيت أو تحت الأرض ملحقاً به، فيجوز الطواف حوله أم لا؟ وبعبارة اُخرى هل أنّ الطواف حول الفضاء طواف حول البيت أم لا؟ ومن ثمّ لا يكون ملحقاً، بل ذاك الحكم مختصّ بالاستقبال؟
الظاهر أنّ المستفاد من الروايات عدم اختصاصه بالاستقبال، فإنّ بعضها يدلّ بالإطلاق على جواز الطواف حول الفضاء أيضاً، فقد روى الصدوق ـ إرسالاً ـ قال الصادق (عليه السلام): «أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العلي».
وهذه الرواية وإن كانت مرسلة إلاّ أنّ هذا النوع من الإرسال غير مضرّ كما حقّق في محلّه.
كما أنّ الدلالة واضحة، فإنّ قوله: «أساس البيت» لا يختصّ بالاستقبال، بل يشمل الطواف أيضاً، ولا قرينة في الرواية على اختصاصه بالاستقبال. نعم، لا يدلّ على كون الفوق ملحقاً بالبيت، وإنّما يدلّ على أنّ ما تحت البيت من الأرض السفلى إلى الأرض العليا من البيت، إلاّ أن يقال: إنّ كلمة الأرض لا يراد بها الأرض في قبال السماء، بل يراد من الأرض السفلى والعليا الامتداد من جهة الفوق والتحت، ومعه فيكون التعبير كناية عن هذا الأمر.
وقد ورد في بعض الروايات الواردة في ذيل الآية الشريفة: (أَللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ)، أنّ المراد من الأرض العليا هي الأرض السابعة فوق السماء السادسة، فقد روى العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «بسط كفّه ثمّ وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدُّنيا والسماء الدُّنيا عليها قبّة، والأرض الثانية فوق السماء الدُّنيا، والسماء الثانية فوقها قبّة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّة، حتّى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة، فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة، والسماء السابعة فوقها قبّة، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله: (سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنْ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ).
فهذه الرواية صريحة في الامتداد والتوسعة من جهة الفوق والتحت معاً.
وكيف كان، فلاشكّ في أنّ هذا التعبير إنّما هو كناية عن الامتداد.
وفي بعض الروايات الواردة في القبلة إشارة إلى الفوق أيضاً كما في خبر عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «سأله رجل قال: صلّيت فوق جبل أبي قبيس العصر فهل يجزي ذلك والقبلة تحتي؟ قال: نعم، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(7).
وبعد انضمام هذه الرواية إلى المرسلة ـ مع قطع النظر عن الرواية المذكورة عن العياشي ـ نفهم أنّ البيت ممتدّ من الجانبين ولا يختصّ بالبناء الموجود هذا.
بل يمكن أن نضيف بأنّ التوسعة من جانب التحت فقط دون الفوق، ووجود الفرق بينهما من هذه الجهة بعيد جدّاً وغريب حقّاً، ولا يكون الخبر قرينة على كون المراد من المرسلة القبلة والاستقبال فقط; لعدم جريان التقييد في المثبتين.
مناقشات وإجابات
إن قلت: إنّ أدلّة الطواف ظاهرة في وجوب كون الطواف محاذياً لنفس البيت، فإنّ قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(8) ظاهر في لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائها، والعودة إلى اللغة سيما بالنسبة إلى التعبير بكلمة الحول في بعض الروايات تؤيّد ذلك، فقوله «طاف بالمكان» يعني أنّه جعل المكان في وسطه لا فوقه ولا تحته.
قلت: نعم، وإن كان الظاهر كذلك، إلاّ أنّ الرواية حاكمة ومفسِّرة الأمر الذي يوجب التوسعة، كما أنّ الأدلّة الواردة في الاستقبال ظاهرة في لزوم كون الصلاة محاذية لنفس البيت، ولا أقل لمن كان في المسجد، والرواية توجب التوسعة في ذلك، ومن البعيد جدّاً وجود الفرق بين الاستقبال والطواف مع كون التكليف فيهما إلى البيت.
إن قلت: يستفاد من بعض الآيات الشريفة أنّ الواجب على المصلّي أن يجعل وجهه شطر المسجد الحرام، كقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)(9) ، ومعنى ذلك أنّه لا مدخلية لنفس البيت، مع أنّ التكليف في الطواف لا يكون إلى المسجد بل بالبيت، لقوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(10) ، وقوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ)(11) ، ومن الواضح أنّ المراد من البيت في الآية الكعبة لا المسجد.
قلت: مضافاً إلى أنّ هذا التعبير إنّما جاء في قبال بيت المقدس ولزوم الانصراف عنه والتوجّه إلى المسجد الحرام، لاشكّ في أنّه من كان داخلاً في المسجد يجب عليه أن يتوجّه إلى البيت، ولايجوز أن يصلّي إلى المسجد، وعنوان المسجد الحرام في الآيات الشريفة إشارة إلى البيت، ولا مدخلية لنفس المسجد.
نعم، ذهب الكثير أو الأكثر بل حكي عن مجمع البيان نسبته إلى أصحابنا وادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع عليه، وهو أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لمن خرج عنه، ولكن لا ترديد في أنّ البيت قبلة لمن كان في المسجد.
وكيف كان، فالظاهر عدم الفرق بين الاستقبال والطواف من هذه الجهة، والشاهد على ذلك أنّه لو أزيل البناء تصحّ الصلاة إلى الفضاء، ولا تصحّ إلى البناء الزايل، وأيضاً يجوز الطواف حول الفضاء الموجود ولايسقط وجوبه في هذا الفرض.
نعم، هذه التوسعة إنّما هي في الطواف، ولا تجري في السعي، فلا يتوهّم أنّه كما يجوز الطواف فوق الكعبة يجوز السعي أيضاً من الفوق، فإنّ السعي لابدّ وأن يكون بين الجبلين لا فوقهما، ولا دليل على أنّ الفوق فيه ملحق بالبين، إلاّ أن يقال: إنّ البين ليس مقابلاً للفوق، بل المراد كون السعي في هذا الحدّ بدواً وختماً، وهو كما ترى.
إن قلت: ورد في بعض الروايات أنّ الملائكة ينزلون إلى الأرض ويطوفون حول البيت، أليس هذا شاهداً على أنّ الملاك في الطواف نفس البيت وإلاّ لما احتاجوا إلى النزول؟
قلت: كلاّ، لا يثبت بهذا ذاك، بل يمكن أن يكون نزولهم لاشتراكهم مع المؤمنين وجعل أنفسهم في صفّهم هذا أوّلاً، وثانياً لا ينكر رجحان الطواف بنفس البيت من باب أنّ الأقرب إليه يكون أكثر ثواباً، وأيضاً من جهة أنّ الموجود والمحسوس هو الطواف حول هذا البيت، وربما يكون هذا موجباً لكون القرب إليه أكثر ثواباً.
إن قلت: إذا كان البيت ممتدّاً حتّى من جهة الطواف، فما معنى استلام الحجر أو الركن اليماني؟!
قلت: يمكن استلام الحجر بالإشارة من محاذيه، وكذا الحال في الركن اليماني، وكيف كان، فنحن نلتزم بصحّة الطواف من الفوق، وهذه الاُمور لا توجب رفع اليد عنه.
إن قلت: إنّ العرف يساعدنا في ذلك بالنسبة إلى الاستقبال، لكنّه لا يوافقنا في الطواف، بمعنى أنّ الاستقبال إلى الفضاء لا نقص فيه عند العرف بل هو مقبول عندهم، بخلاف الطواف فيه، إذ لا يعدّ عنده طوافاً.
قلت أوّلاً: نحن لا نوافق في ذلك، بل ندّعي أنّ العرف لا يفرق بينهما من هذه الجهة فيصدق الطواف على الطائف من الفوق عرفاً، والظاهر عدم وجود مسامحة عرفية في هذا الصدق، وإن كان الصدق ـ ولو بالمسامحة العرفية ـ كافياً في حكم العقل بامتثال الأمر، ألاترى أنّه إذا أمر المولى بإتيان الماء فأتاه العبد بالمائع المسمّى عند العرف ماءً مسامحةً وإن لم يكن بالدقّة العقلية ماءً; تحقّق الامتثال وكفى.
ثانياً: بعد التسليم نقول: إنّ الشارع قد خالف العرف في هذه الجهة فجعل البيت فوقاً وتحتاً بيتاً يجوز الصلاة والطواف نحوه مطلقاً دون أن يكون للبناء مدخلية فيه عند الشارع.
نعم، الظاهر انعقاد الإجماع بين الفريقين على عدم جواز الطواف خارج المسجد بخلاف الاستقبال، فالفرق بينهما من هذه الجهة ممّا لاينكر، بمعنى أنّه يجب أن يكون الطواف داخلاً في المسجد، إمّا في ما بين البيت والمقام كما ذهب إليه المشهور، أو في المسجد مطلقاً، وقد صرّح العامّة بأنّه كلّما اتّسع المسجد اتّسع المطاف، ولكن رعاية الحدّ وعدمها أمر آخر غير ما نحن فيه.
والنتيجة التي يمكن الخروج بها أنّه مع قطع النظر عن الراوية المرسلة الدالّة بالإطلاق على صحّة الطواف والصلاة حول الفضاء وتحت الأرض، يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من أدلّة القبلة والطواف ووحدة التعبير في كليهما ـ حيث جعل الملاك في كلّ واحد منهما البيت ـ أنّه كما يكون الفوق صالحاً للاستقبال يكون صالحاً للطواف أيضاً، ولولا هذه الرواية لأمكن أن يقال بأنّ هذا أمر عرفي لا ريب فيه، ومراجعة الأسئلة الواردة في الروايات تشعر بذلك، فإنّ الناس كانوا يصلّون ـ ارتكازاً ـ فوق جبل أبي قبيس، فهم وإن سألوا بعد العمل إلاّ أنّ عملهم هذا كان مطابقاً لارتكازهم.
هذا كلّه، مضافاً إلى عموم التنزيل المستفاد من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «الطواف بالبيت صلاة»، فإنّه دالّ على أنّه كما يمتدّ البيت في الصلاة علوّاً وسفلاً فكذلك في الطواف.
والدليل على عموم التنزيل أنّه قد استثنى في الرواية مورداً واحداً قال: «الطواف بالبيت صلاة إلاّ أنّ الله تعالى أحلَّ فيه النطق»، وهذه الرواية وإن كانت غير مسندة من طرقنا سوى ما عن عوالي اللئالي(12)، إلاّ أنّ جمعاً من كبار الفقهاء قد استند إليها واستدلّ بها:
فقد استدلّ الشيخ(13) بها، كما استدلّ العلاّمة على وجوب القيام في الطواف وقال: «قد ثبت وجوب القيام في الصلاة فكذا فيه»(14)، وكذا على شرطية الستر فقال: «ستر العورة شرط في الطواف»(15).
واستدلّ بها الشهيد الثاني، مصرّحاً بالإطلاق حيث قال: «مستند ذلك إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله) الطواف بالبيت صلاة خرج منه ما أجمع على عدم مشاركته لها فيه فيبقى الباقي»(16).
وقال المحقّق الأردبيلي: «الطواف بالبيت صلاة فيشترط فيه ما يشترط فيها إلاّ ما أخرجه الدليل»(17).
وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ التشبيه يقتضي الشركة في جميع الأحكام، ومنها الطهارة عن النجاسة(18).
نعم خالفهم سيّد المدارك، حيث ذهب إلى أنّ سند الرواية قاصر ومتنها مجمل(19).
وكيف كان لا ريب في استناد المشهور إلى الرواية، وعليه ينجبر ضعفها، فما ورد من السيّد الخوئي من أنّه لم يعلم استناد المشهور إليه(20) غير تامّ، وقد صرّح السيّد الحكيم بالانجبار(21).
هذا، وقد ورد من طرق الإمامية عن معاوية بن عمّار عن الصادق (عليه السلام): «ولا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلاّ الطواف بالبيت فإنّ فيه صلاة»(22).
وقد استشعر صاحب الجواهر من هذا الخبر أنّ أصل المرسل المشهور عن النبي هكذا: في الطواف بالبيت صلاة، وقد أسقط من أوّله لفظ (في) فظنّ أنّه من التشبيه.
وفي الاستشعار إشكال بل منع، لأنّه في بعض الروايات قد استثنى منه النطق، وقال: «إلاّ أنّه أحلّ فيه النطق»، ولعلّه من هذه الجهة استدلّ هو نفسه بهذه الرواية في مواضع عديدة من كتابه(23) من دون كلمة «في» فتدبّر.
هذا كلّه مضافاً إلى أنّه لو كان الطواف مرتفعاً عن الكعبة غير جائز لصار هذا أيضاً حدّاً من جهة الارتفاع، ولكان اللاّزم على الشارع ذكره كما ذكر الحدّ في جهة المساحة ومحيط الدائرة الأرضية، فمن عدم البيان بالنسبة إلى هذه الجهة نستكشف صحّة العمل.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ عدم البيان إنّما كان من جهة عدم الموضوع الخارجي في ذلك الزمان، وهو كما ترى.
وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما حكي عن الشافعي فإنّه قال: «فإن جعل سقف المسجد أعلى لم يجز الطواف على سطحه»، ويستفاد من صاحب الجواهر مخالفته له في ذلك، وقال: «مقتضاه كما عن التذكرة أنّه لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصحّ الطواف حول عرصتها، وهو بعيد بل باطل(24).
والظاهر ذهاب صاحب الجواهر أيضاً إلى صحّة الطواف من السطح وإن كان أعلى من البيت.
والذي يبدو أنّ أكثر العامّة قائلون بصحّة الطواف فيما إذا كان مرتفعاً عن البيت، فقد قال النووي: «قالوا: ويجوز (أي الطواف) على سطوح المسجد إذا كان البيت أرفع بناءً من المسجد كما هو اليوم، قال الرافعي: فإن جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة فقد ذكر صاحب العدّة: أنّه لايجوز الطواف على سطح المسجد، وأنكره عليه الرافعي وقال: لو صحّ قوله لزم منه أن يقال: لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصح الطواف حول عرصتها وهو بعيد، وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب، وقد جزم القاضي حسين في تعليقه: بأنّه لو طاف على سطح المسجد صحّ وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة، ثمّ أضاف قاعدةً كليّةً وهي: أنّه لو وسع المسجد اتّسع المطاف، وقال: اتّفق أصحابنا على ذلك»(25).
وقال الزحيلي: «ويصحّ على سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت»(26).
فروع ملحقة:
الفرع الأوّل: حكم الارتفاع القليل
ثمّ إنّه مع قطع النظر عن التوسعة وبنائنا على عدمها ولزوم الاقتصار على البيت يمكن أن يقال: الظاهر عند العرف أنّ الارتفاع القليل بمقدار متر أو مترين لا يخرجه عن الطواف حول البيت، فيصحّ الطواف انطلاقاً من الصدق العرفي.
الفرع الثاني: شمول الحكم لحال الاضطرار وعدمه
ثمّ إنّه يظهر أيضاً أنّ صحّة الطواف فيما إذا كان أعلى من الكعبة ليست مختصّةً بحال الاضطرار، بل من يقول بعدم وجود حدّ للطائف يصحّ له القول بذلك مطلقاً والله العالم.
الفرع الثالث: الاستنابة ومشروعيّتها
الظاهر أنّه لا تصل النوبة إلى الاستنابة إلاّ على قول من يذهب إلى وجود حدّ للمطاف، إذ يلزمه طبعاً الافتاء بلزوم الاستنابة وعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل، لا من جهة كونه أعلى من البيت بل من جهة كونه خارجاً عن حدّ المطاف.
ويأتي هنا بحث وهو أنّه على القول بوجود الحدّ إذا أمكنت الاستنابة وجبت عليه، وأمّا إذا لم تمكن وعلم الحاج ـ ابتداءً قبل الشروع في الإحرام ـ أنّه غير قادر على الطواف لا بنفسه ولا بالاستنابة، فهل يكون إحرامه صحيحاً أم لا؟
يمكن أن يقال بعدم وجوب الحجّ في هذا الفرض; إمّا من جهة أنّ عدم القدرة على الجزء أو الشرط موجب لعدم القدرة على المركب والمشروط، فيسقط وجوب الحجّ لأجل عدم توجّه التكليف والخطاب نحو المخاطب، بناءً على ما أسّسه المحقّق النائيني من أنّ شرطية القدرة تستفاد من اقتضاء الخطاب لا من حكم العقل، أو أنّ عدم القدرة موجب لكون توجّه التكليف إليه قبيحاً على مبنى المشهور القاضي بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، كلّ ذلك بناءً على شرطية القدرة في التكليف; إمّا من اقتضاء نفس الخطاب أو من حكم العقل.
وأمّا بناءً على عدم شرطية القدرة فيه والقول بأنّ الخطاب يشمل العاجز كما أنّه يشمل القادر، غايته أنّ العاجز معذور في ترك الامتثال، وهو ما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني والسيّد الخوئي (قدس سرهما)... فيكون العجز عن الجزء مساوقاً للعجز عن المركب، فيكون معذوراً في ترك الامتثال.
وبعبارة اُخرى، الوجوب الواحد في المركب يسقط بتعذّر جزء من الأجزاء، فإذا تعذّر أحد الأجزاء يسقط الوجوب عن الباقي بمقتضى القاعدة الأوّلية، نعم قد يدلّ الدليل الخاص على بقاء الوجوب في الباقي كما في باب الصلاة.
إن قلت: قد حقّق في محلّه أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، فإذا كان بعض أفراد الطبيعة المأمور بها مقدوراً ولكن بعضها الآخر غير مقدور يصحّ التكليف بالطبيعة من هذه الجهة.
قلت: نعم، ولكن هذا الكلام إنّما يجري في الكلّي والفرد لا في الكلّ والجزء، والكلام هنا إنّما هو في الثاني، فإنّ العاجز عن الجزء يكون ـ قهراً ـ عاجزاً عن الكلّ، فتدبّر.
إن قلت: لا ملازمة بين عدم وجوب الحجّ وعدم صحّة الإحرام، فيمكن أن يقال بصحّة إحرامه دون وجوب الحجّ عليه، والخروج من الإحرام له أسباب يمكن الإتيان بها، ولم يشترط أحد في صحّة الإحرام إمكان الإتيان ببقيّة الأجزاء في الحجّ.
قلت: إنّ الإحرام أيضاً من أجزاء الحجّ، فبعد عدم القدرة على جزء من أجزائه تكون بقيّة الأجزاء في حكم غير المقدور، ولا أقلّ لا تكون مشمولةً للطلب المتوجّه إلى المركب، والمفروض عدم المطلوبية الاستقلالية لكلّ من الأجزاء فلايصحّ الإحرام أيضاً.
وبهذا ظهر ممّا أسلفناه أنّ العاجز عن الطواف الصحيح المشروع مع عدم إمكان الاستنابة أيضاً يسقط عنه الوجوب، فلا يجب عليه الحجّ كما لا يصحّ منه الإحرام.
نعم، لا يخفى أنّ القدرة على العمل كافية ولو من طريق الاستنابة، فإنّ القادر على الاستنابة في العمل الذي يقبل النيابة قادر على العمل أيضاً، وعلى هذا يتّضح أنّه لو لم يكن الحاج قادراً على الطواف والسعي مثلاً لكنّه كان قادراً على الاستنابة فيهما وعلى المباشرة في الصلاة والتقصير لكان إحرامه وعمرته صحيحين.
خلاصة البحث ونتيجة الدراسة
1 ـ أنّه بناءً على جواز الإضافة في جهة الارتفاع إلى البيت.
2 ـ وبناءً على عدم شمول النهي الوارد في الروايات عن البناء فوق الكعبة للأبنية المتعلِّقة بالمسجد.
3 ـ وبناءً على عدم اختصاص التوسعة ـ علواً وسفلاً ـ بالاستقبال، بل تجري في الطواف أيضاً بمقتضى إطلاق الرواية المرسلة الواردة في المقام أوّلاً، وانضمام الروايات الدالّة على أنّ البيت قبلة من جهة الفوق ثانياً، فإنّ الانضمام يدلّ على التوسعة من جهة الفوق أيضاً، ومن جهة الصدق العرفي كالاستقبال ثالثاً، ووحدة السياق والتعبير في أدلّة الطواف وأدلّة القبلة من جهة أنّ الملاك فيهما هو البيت رابعاً.
4 ـ وبناءً على عدم وجود حدّ للمطاف.
نستنتج صحّة الطواف من الطابق الأوّل وإن كان أعلى من البيت، وهو المستفاد أيضاً من كلمات صاحب الجواهر.
كما نستنتج ـ مع قطع النظر عن التوسعة ـ صحّة الطواف وإن كان أعلى من البيت بمقدار متر أو مترين، فإنّ هذا المقدار لا يضرّ في صدق الطواف عرفاً حول البيت، والله العالم.
وبما أنّ هذا البحث جديد، ولم أرَ من تعرّض له سابقاً حتّى بنحو الإشارة، احتاج ـ طبعاً ـ إلى دقّة كثيرة، وعلى المحقّقين والفقهاء أن يبحثوا حوله وينظروا إلى ما قلناه نظراً جامعاً وافياً.