بحوث في قاعدة الفراغ والتجاوز
سلسلة دروس سماحة آية الله الشيخ محمدجواد الفاضل اللنكراني (دام ظله)

تعريب: الشيخ محمدجواد السعيدي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمد(ص) وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين سيّما بقية الله في الأرضين الحجة بن الحسن العسكري أرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.

ليس لباحث أن يشكّ في أهمّية علم الفقه ودوره البنّاء في حياة المجتمع، ولا شكّ أيضاً في أهمّية القواعد الفقهية وهي التي تشكلّ كلّيّات في الفقه ويطبّقها الفقيه والمجتهد على الجزئيات، وللأسف الشديد لم يتناولها الفقهاء المتقدمين (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

والقاعدة في إصطلاح اللغويين قد وضعت لما هو الأساس للشيء من دون فرق بين كونه مادّياً أو معنويّاً بحيث إنعدامه واضمحلاله يسبب انتفائه فيمثّل لذلك البيت فإنّه ينعدم بانعدام أساسه.

قال ابن منظور: أصل الأُسّ، والقواعد: الإساس، وقواعد البيت إساسه، وفي التنزيل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ).(1)


1 . البقرة: 127.

وفيه: (فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ)(1) ، قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضة في أسفله تركّب عيدان الهودج فيها .(2)

وأما تعريف القاعدة اصطلاحاً فهي عبارة عن قضية كلّيّة تنطبق على جميع جزئياتها.

قال التهانوي: هي تُطلَق على معان مرادف الأصل، والقانون، والمسألة، والضابطة، والمقصد، وعرّفت بأنّها أمر كلّي منطبق على جميع جزئياته عند تعرف أحكامها منه .(3)

ويشترط في كلمة (القاعدة) أن تكون بنحو القضيّة الكلّية كما سبق، ولكن لا يشترط أن تكون أساساً للعلم بحيث ينتفي بانتفائها، فمثلاً لو انتفت قاعدة واحدة من قواعد الفقه لم ينتف العلم بانتفائها(4).

وهناك أمور مهمّة كلّها ترتبط بالبحث حول القواعد الفقهية منها:

ما المراد من القاعدة الفقهية وهل يشترط في اعتبارها الكلّيّة، وكذلك الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي بمعنى أنّها لا تختصّ بباب من الأبواب الفقهية بخلاف الضابط، أو الفرق بين القاعدة الفقهية والنظرية الفقهية وغير ذلك من المباحث العلمية التي لسنا الآن بصدد بيان ذلك.

تاريخ كتابة القواعد الفقهية

من جملة المباحث المطروحة في مبحث القواعد الفقهية عبارة عن تاريخ كتابة ذلك عند العلماء والفقهاء.


1 . النحل:26.

2 . لسان العرب 5: 291.

3 . موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون 2: 1295.

4 . راجع القواعد الفقهية للفقيد الراحل آية الله الشيخ الفاضل اللنكراني: ص8.

أمّا عند أهل السنّة لعل ذلك يرجع إلى القرن الرابع الهجري، ويدّل عليه وجود بعض المؤلّفات التي كتبت عندهم.

فقد كان كتاب القواعد الفقهية عند الحنفيين من أهل السنّة أول كتاب جُمعت فيه بعض القواعد الفقهية فقد جمع مؤلّفه أبو طاهر الدبّاس ـ من أئمّة الحنفية في بلاد ما وراء النهر ـ سبعة عشر قاعدة فقهية على مذهب أبي حنيفة فكان القرن الرابع بداية تدوين القواعد الفقهية لديهم.

وأما في الوسط الشيعي فيعتبر كتاب القواعد والفوائد للشهيد الأوّل (778) أقدم كتاب دوَّن فيه القواعد الفقهية وفقاً لمذهب أهل البيت(ع) .

ويمكن إرجاع سبب سبق السنّة في تدوين القواعد إلى أمرين:

1. الأمر الأوّل: ماهية فقههم حيث قطعت الرابطة بينهم وبين كلام المعصومين(ع) بعد رحيل النبي الأعظم(ص)، ومن الطبيعي أنّ ذلك الانفصال يجعل الفقه يتبلّور ضمن ضوابط معيّنة.

2. الأمر الثاني: إستخدامهم لأدوات خاصّة بهم في عملية الاستنباط الفقهي كالقياس والاستحسان وغيرهما.

ولا ريب بأنّ الأساس في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة الإمامية هو أن الأئمة(ع) قد وضعوا إليهم أصولاً كلّية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها، كما ورد في الحديث الشريف: (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)(1).

ومما تجدر الإشارة إليه أنّ ما قام به المرحوم الشهيد الأوّل (أعلى الله مقامه الشريف) في كتابه القيّم مما يرشدنا إلى أهميّة ما ألّفه في الباب حيث قال(ره) في إجازته لابن خازن:


1 . مستطرفات السرائر575:3، الوسائل62:27، القواعد الفقهية للبجنوردي187:4، راجع أيضاً ج1، المقدّمة.

فممّا صنعته كتاب (القواعد والفوائد) مختصر يشتمل على ضوابط كلّيّة أصولية وفرعية تستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل الأصحاب مثله .(1)

ومن هذا المنطلق فقد قام فقهائنا العظام (رضوان الله عليهم أجمعين) بتدوين وتأليف الكتب التي تتعلّق بالقواعد الفقهية نشير إلى بعضها:

1. القواعد والفوائد، للشهيد الأوّل.

2. الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، تأليف محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بـ (ابن أبي جمهور) ت901.

3. عوائد الأيام من مهمّات أدلّة الأحكام، تأليف المولى أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني ت (1245)، وقد يشتمل هذا الكتاب القيم على88 عائدة، وكلّ عائدة تُعد قاعدة فقهية.

4. عناوين الأصول، تأليف السيد عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي ت (1274).

5. قواعد الفقيه، تأليف الشيخ محمد تقي الفقيه المولود سنة (1329) ضمّنه قواعد مهمّة في الفقه والأصول ومنها قاعدة على اليد وقاعدة تعدد الأيدي وقاعدة لا ضرر وقاعدة لا حرج .(2)

6. القواعد الجعفرية في قواعد الفقه والأصول، تأليف الشيخ عباس آل كاشف الغطاء ت (1323) .(3)

7. القواعد الكلّية الفقهية، تأليف السيد مهدي القزويني ت (1300) .(4)

8. القواعد الفقهية، تأليف مهدي بن حسين بن عزيز الخالصي الكاظمي


1 . راجع بحار الأنوار187:4.

2 . راجع شعراء الغري للخالقاني327:7.

3 . راجع معارف الرجال111:3.

4 . معارف الرجال111:3.

ت (1343) طبع الكتاب في مجلدين .(1)

9. القواعد الفقهية، تأليف الشيخ محمد جعفر شريعتمدار الاسترابادي ت (1263) كتبه على ترتيب أبواب الفقه يقرب من خمسة عشر ألف بيت .(2)

10. مستقصى القواعد الكلّية الفقهية، تأليف الميرزا حبيب الله الرشتي ت (1312) .(3)

11. القواعد الجعفرية في قواعد الفقه والأصول، تأليف الشيخ عباس آل كاشف الغطاء بن الشيخ حسن بن الشيخ الأكبر الشيخ جعفر صاحب (كشف الغطاء) ت (1323) .(4)

12. القواعد الفقهية، تأليف السيد محمد باقر اليزدي ت (1294) .(5)

13. القواعد الفقهية والأصولية، تأليف ملاّ فتح علي اللنكراني ت (بعد 1339) .(6)

14. القواعد الفقهية، تأليف الشيخ محمدباقر البيدكلّي من أعلام القرن الرابع عشر .(7)

15. رسالة في بعض القواعد الفقهية، تأليف المولى الآغا فاضل الدرنبدي (ت1286).

وقد بحث المؤلف في هذه الرسالة قاعدة اليد والضرر وقاعدة الإحسان وغيرها .(8)


1 . راجع الإجازة الكبيرة للمرحوم آية الله السيد المرعشي: 213، مرآة العقول 2 / 1333.

2 . راجع مشارق الأنوار393:1.

3 . راجع مشارق الأنوار685:1، مرآة‌ العقول 1 / 393.

4 . معارف الرجال400:1.

5 . معارف الرجال198:2.

6 . راجع نظرة تحليلية إلى القواعد الفقهية: 76.

7 . راجع تراجم الرجال589:2.

8 . مرآة الشرق165:1.

16. قاعدة لا ضرر وقاعدة التسامح، تأليف السيد الميرزا أبو القاسم الطهراني، مجلّد واحد .(1)

17. رسالة في قاعدة لا ضرر، ورسالة في قاعدة على اليد ما أخذت، تأليف الشيخ ضياء الدين العراقي .(2)

18. قاعدة لا ضرر، تأليف الحسن علي بن محمد باقر بن إسماعيل الواعظ الحسيني .(3)

19. الفوائد الغروية، تأليف المولى أبوالحسن الشريف بن محمد طاهر بن عبدالحميد بن موسى علي بن محمد بن معتوق الاصفهاني الغروي، فرغ منها سنة (1112) وهو كتاب حسن فيه ما يستفاد من الأحاديث من القواعد الفقهية والمسائل الأصولية .(4)

20. القواعد الفقهية للفقيد الراحل الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قده) .

21. وهناك القواعد الفقهية الاخری ترکنا ذکرها رعاية الاختصار.

نبذة عن كتابة القواعد الفقهية عند أهل السنة

قلنا سابقاً بأنّ أهل السنّة هم السابقين في كتابة وتأليف وتدوين القواعد الفقهية وأشرنا إلى سبب ذلك وطبيعة فقههم المبتني على أساس الرأي والقياس يقتضي ذلك.

ومن الغريب أنّ الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام الشافعي (660)هـ قد أرجع


1 . نقباء البشر69:1.

2 . مرآة الشرق810:1.

3 . الفوائد الرضوية: 184.

4 . راجع تكملة أمل الآمل: 443.

الفقه كلّه إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، بل وأرجع تاج الدين السبكّي الفقه كلّه على نحو الإجمال إلى اعتبار المصالح، فإنّ درء المفاسد من جملتها فعلى ما ذكر عن البعض بأنّ القرن الرابع بداية تدوين القواعد الفقهية وتأليف الكتب فيها لدى العامة، وكانت الحنفيّة من السابقين في هذا المضمار، وبعده بدأ فقهاء سائر المذاهب بتدوين القواعد الفقهية، وشاع الاهتمام بها، ويطلق على قرني السابع والثامن (القرون الذهبية لتدوين القواعد الفقهية) لكثرة الاهتمام بهذه القواعد وتدوين الكتب المتعددة فيها .(1)

الكتب المؤلّفة في القواعد الفقهية

الفقه الحنفي: يبدو أنّ المذهب الحنفي ولأسباب كمناهجهم الاستنباطية يعتبر أول مذهب بدأت بكتابة القواعد الفقهية، وقد اشتهر جمع من فقهائه بتدوين القواعد الفقهية.

1ـ أبو طاهر الدبّاس ـ من فقهاء الحنفية في القرن الثالث الهجري في بلاد ما وراء النهر ـ فقد جمع سبعة عشر قاعدة فقهية على مذهب أبي حنيفة، وردّ جميع مذهب أبي حنيفة إلى هذه القواعد.

2ـ عبيدالله بن حسن بن دلال الكرخي الحنفي، المعروف بأبي الحسن الكرخي ت (340)هـ، صاحب كتاب الأصول التي عليها مدار فروع الحنفية أو قواعد الكرخي، وجمع فيه (29) قاعدة فقهية، مطبوع.

3ـ أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي القاضي الحنفي (430)هـ له كتاب تأسيس النظر في اختلاف الأئمّة، وفيه أكثر من (80) قاعدة فقهية، مطبوع


1 . راجع نظرة تحليلية إلى القواعد الفقهية ص28/29/30.

مع قواعد الكرخي.

4ـ علي بن عثمان الغزي الدمشقي، المشهور بشرف الدين الحنفي (799)هـ له كتاب القواعد في الفروع.

5ـ زين الدين بن إبراهيم بن محمد المشهور بابن نُجَيم (970)هـ له كتاب الأشباه والنظائر في الفروع، وكتبت عليه حوالي (26) شرحاً وتعليقة أشهرها غمز عيون البصائر على محاسن الأشباه والنظائر.

6ـ أحمد بن محمد الحموي (1098) له كتاب العقود الحسان في قواعد مذهب النعمان، وهذا الكتاب مجموعة شعرية أنشدها الحموي، وشرحها بنفسه، وسمّى شرحه بـ «فرائد الدرر والمرجان في شرح العقود الحسان».

7ـ عمر بن إبراهيم بن محمد المصري، المعروف بابن نجيم الحنفي (1005ق) صنّف كتاب الأشباه النظائر، مطبوع.

8 ـ محمد بن زين الدين عمر الكفيريّ (1130) له كتاب الأشباه والنظائر.

9 ـ سبعة فقهاء الحنفيين برئاسة أحمد جودت باشا في تركيا بعهد السلطان عبد العزيز خان العثماني، ألّفوا مجلة الأحكام العدلية التي يحتوي على (1851) مادّة و (99) قاعدة، طبع في عام (1292).

10ـ عبد الستار بن عبدالله القريمّي القسطنطين (1304) له كتاب تشريح القواعد الكلّيّة.

11ـ محمود بن محمد بن نسيب بن حسين، المشهور بابن حمزة الحسيني (1305) له كتاب (الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية).

12ـ محمد بن محمد بن المصطفى الخادمي، المعروف بأبي السعيد الخادمي (1176) ألف كتاب المجموع المُذَهّب في قواعد المذهب، كخاتمة على كتاب

مجاميع الحقايق والقواعد وجوامع الروائق والفوائد في علم الأصول، وطرح فيه (154) قاعدة فقهية للمذهب الحنفي على ترتيب المعجم.

13ـ إبراهيم بن محمد القيصري الحنفي، المعروف بكوزي بيوكزاده (1252ق) صاحب كتاب مجموعة القواعد.

14 ـ أحمد الزرقاء الحنفي (1357) صاحب كتاب شرح القواعد الفقهية.

15 ـ شيخ عميم الإحسان البنغلادشي، صاحب كتاب قواعد الفقه الذي طبع للمرّة الأوّلى في بنغلادش.

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه المالكي

1 ـ شهاب الدين، أبو العباس، أحمد بن العلاء، إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجيّ، المعروف بالقرافيّ (684) له كتاب الفروق الذي سماه بـ: أنواء البروق وأنواع الفروق، ودرس فيه (548) قاعدة فقهية من حيث تفاوتها وتشابهها في أربعة مجلدات، وعرض فيه أسلوب كتابه قواعد الفقه، مطبوع.

2 ـ محمد بن أحمد المالكي، صاحب كتاب قواعد الأحكام الشرعية الذي أتى بالقواعد الفقهية فيه على ترتيب الأبواب الفقهية.

3 ـ محمد بن محمد بن أحمد المالكي المقريّ (758) صاحب كتاب: (عمل من طبّ لمن حبّ)، وقد طبع مجلده الثاني من قبل جامعة رياض.

4 ـ إبراهيم بن موسى بن محمد اللّخمي، المشهور بأبي إسحاق الشاطبي (790) ألف كتاب الموافقات في أصول الفقه.

5 ـ أحمد بن يحيى التلمساني الوِنشَريسيّ (914) له كتاب: (إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك) ويشتمل على (118) قاعدة فقهية.

6 ـ محمد بن علي بن غازي العثماني المكناسيّ (914) ألف كتاب: (الكلّيات

الفقهية على مذهب المالكية)، وطبع من قِبَل جامعة الزيتونيّة للشريعة وأصول الدين بتونسيّا.

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه الشافعي

1ـ معين الدين، أبو حامد، محمد بن إبراهيم الجاجرميّ السهلكيّ الشافعي (613) له كتاب القواعد في فروع الشافعية.

2 ـ أبو محمد، عز الدين، عبد العزيز بن عبد السلام السلميّ (660) له كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام، مطبوع.

3 ـ صدر الدين، محمد بن عمر المكي، المعروف بابن الوكيل المصريّ الشافعي، وابن المرحل (716) صاحب كتاب: (الأشباه والنظائر).

4 ـ صلاح الدين، أبو سعيد، خليل بن الكَيكلّدي الدمشقيّ، المشهور بالعلائيّ الشافعي (761) صاحب: (المجموع المُذهّب في قواعد المذهب) أو (قواعد العلائي)، و (الأشباه والنظائر في فروع فقه الشافعي).

5 ـ عبد الوهاب بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي، المشهور بتاج الدين السبكي (771) له كتاب: (الأشباه والنظائر).

6 ـ محمد بن بهادر بن عبد الله، بدر الدين، محمد الزركشي المصريّ (794) صاحب كتاب: (المنثور في ترتيب القواعد الفقهية) أو (القواعد في الفروع) وطبع على ترتيب حروف المعجم، وفي أربعة مجلدات بكويت.

7 ـ جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، المعروف بجلال الدين السيوطي (911) صاحب كتاب: (الأشباه والنظائر).

ومن بين هذه الكتب يعتبر كتاب (الأشباه والنظائر) للسيوطي من أهم ما كُتِب في هذه الباب، ورتّبه المؤلف في سبعة كتب، وشرح في الكتاب الأوّل خمسة

قواعد رئيسية، وبين فروعها وهي:

أ: الأمور بمقاصدها.

ب: اليقين لا يزول بالشك.

ج: المشقة تجلب التيسير.

د: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

ه: العادةُ مُحَكِّمةٌ.

وأتى بأربعين قاعدة فقهية في الكتاب الثاني، ويبدأ هذا القسم بقاعدةِ: (الاجتهادُ لا يُنقض بالاجتهاد) وينتهي بـ: (تقديم المباشرة على السبب)، لكن شمول هذه القواعد أقل من القواعد الخمسة الماضية، وفي الكتاب الثالث جاء بعشرين قاعدة.

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه الحنبلي

1 ـ نجم الدين، سلمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي (710) صنّف كتاب: (القواعد الكبرى في فروع الحنابلة).

2 ـ تقي الدين، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني (728) صاحبُ كتاب: (القواعد النورانية الفقهية).

3 ـ شمس الدين، محمد بن أبي بكر، المشهور بابن قيّم الجوزيّة (751) صاحب كتاب: (بدايع الفرائد).

4 ـ أبو الفرج، عبد الرحمن بن شهاب بن أحمد بن أبي أحمد، رجب، المشهور بابن رجب الحنبلي (795) له كتاب: (تقرير القواعد وتحرير الفوائد) أو (القواعد في الفقه الإسلامي) ويحتوي (160) قاعدة فقهية، مطبوع.

5ـ يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي، المعروف بابن مِبرد الصالحي

(909) صاحبُ كتاب: (القواعد الكلّيّة والضوابط الفقهية) .(1)

نحن وهذا الكتاب:

الكتاب الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ دراسة تفصيلية معمّقة حول أحد القواعد الفقهية المهمّة وهي (قاعدة الفراغ والتجاوز) لسماحة آية الله الشيخ محمدجواد الفاضل اللنكراني (دام ظله) حيث يُعد ذلك دروس ألقاها على مجموعة من الفضلاء في الحوزة العلمية بقم المقدسة وطلب منّي سماحته تعريب ذلك وطرحت فكرة التعريب على سماحة الأخ الأستاذ الفاضل الشيخ محمد جواد السعيدي (دام عزّه) الذي يُعدّ أحد أساتذة حوزتنا حوزة فقه الأئمة الأطهار(ع) التي أسسّها المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى شيخنا الاستاذ الشيخ محمد الفاضل اللنكراني (قدس الله نفسه الزكية) وقد قام المترجم المحترم من قبل بترجمة كتاب (حق التأليف) ونال في الأواسط العلمية.

وفي الختام نسأل الباري عزوجل أن يوفّقنا لخدمة مذهب أهل البيتb إنه سميع مجيب.

محمد جعفر الطبسي
13/شعبان المعظم/1431ه
سوريا ـ السيدة زينب(س)


1 . راجع كتاب: (نظرة تحليلية إلى القواعد الفقهية:69).

مقدمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أمّا بعد فإنّ قاعدة الفراغ والتجاوز إنّما تُعتبر واحدة من أهمّ القواعد الفقهية التي لطالما استند إليها فقهاؤنا العظام في تصحيح المخترعات الشرعية والمركّبات الاعتبارية عند الشك في إتيان جزءٍ أو نسيان شرط منها كما هو الحال في بابي الصلاة والحج، قاعدة بحث فيها الفقهاء وصال في ميدانها العلماء فألّفوا فيها الكثير من المؤلفات وركزوا على دراسة هذه القاعدة وتحليلها من مختلف الزوايا والجهات، ومن هؤلاء مؤلفنا القدير وأستاذنا الكبير الفقيه العلامة آية الله الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني (أدام الله عزّه) الذّي تزخر المكتبة الإمامية بكتبها القيّمة ومؤلفاته النفيسة في شتى المجالات ولاسيّما في علمي الفقه والأصول، هذه المؤلفات التي ساهمت وتساهم في نشر فقه أهل البيت(ع) وفكرهم وها هي حوزة فقه الأئمة الأطهار(ع) في منطقة السيدة زينب(عليها السلام) في

سوريا بإدارة مديرها المدبّر ومشرفها القدير العلامة الشيخ محمدجعفر الطبسي قد تصدّت في السنوات الخمس التي مرّت على تأسيسها لمهمّة القيام بطبع كثير من مؤلفات مؤلفنا القدير وترجمة عدد لا بأس به من الكتب والكتيبات للمؤلف في علمي الفقه والأصول ووضعها بين أيدي طلبة العلوم الدينية وطلاب الحوزات العلميّة للتزود والاستفادة منها ولا سيّما لمن بلغ منهم مرحلتي السطوح العليا وبحث الخارج.

وقد أُسندتْ إليّ فيما سبق مهمّة القيام بترجمة كتاب (حقّ التأليف) الذي نجح إلى حدّ كبير في أوساط الطلبة الأفاضل فكان له طلابه وقرّاؤه وهذه هي المهمّة الثانية التي لطالما أفتخر بحملها على عاتقي وأشكر سماحة العلامة الشيخ محمد جعفر الطبسي على حسن ظنّه بعملي في الترجمة.

ولقد وجدت من خلال قراءتي الدقيقة وبنظري القاصر أنّ هذا العمل الجديد للمؤلف الجليل عملٌ دقيق وقيّمٌ وجبّار، يجاري مؤلفات فقهائنا الكبار الذين كتبوا في قاعدة الفراغ والتجاوز، وقد بحث المؤلف في هذه القاعدة من زوايا مختلفة وبأسلوب سهلٍ وبيان سلس وألفاظ عذبةٍ يتذوقها القارئ الكريم بكلّ سهولة ويسار.

سوريا ـ السيدة زينب(عليها السلام)
الشيخ محمد جواد السعيدي

سم الله الرحمن الرحيم

تعتبر قاعدة الفراغ والتجاوز من القواعد الهامة الّتي استند إليها الفقهاء في كثير من الفروع وأبواب الفقه لاسيّما في العبادات، من هؤلاء الفقهاء المرحوم السيد حيث ذكر في خاتمة كتاب الصلاة (العروة الوثقى) مسائل عديدة تحت عنوان فروع العلم الإجمالي وهي من المسائل الفقهية الهامّة جدّاً وهي تبتني على أمرين أساسيين:

1ـ قاعدة الفراغ والتجاوز،

2ـ حديث لا تعاد.

أمّا بالنسبة إلى قاعدة الفراغ والتجاوز فقد جرتْ سيرة الأصوليين وطريقة العلماء المتأخرين على إدراجها والبحث عنها في طيّات مباحث الاستصحاب من علم الأصول ـ في البحث عن تعارض الاستصحاب مع قاعدة الفراغ والتجاوز على وجه التحديد ـ حيث يعتقد جلّ الأصوليين بل ربّما كلّهم بأنّ قاعدة الفراغ والتجاوز مقّدمة على الاستصحاب أمّا من باب الحكومة وإمّا من باب


1 . السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (العروة الوثقى) مع تعليقات عدّة من الفقهاء العظام322:3فصاعداً.

التخصيص .(1)

كما بُحث عن هذه القاعدة كقاعدة فقهية هامة في الكتب المؤلّفة تحت عنوان (القواعد الفقهية).

هذا ولكنّنا لا نجد في كلمات القدماء ما يسمّى بقاعدة الفراغ والتجاوز وإنْ وجدنا الروايات التي تُعدّ مستنداً لهذه القاعدة في عبارات القدماء وكتبهم .(2)

أهمّ الأمور الّتي لا بدّ من بيانها في مبحث قاعدة الفراغ والتجاوز وقد كانت محطّ أنظار الباحثين هي كالتالي:

1 ـ مستند ومدرك هذه القاعدة وشروط جريانه

2 ـ الإجابة عن التساؤل بأنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة أم قاعدتان مستقلّتان؟

3 ـ هل أن قاعدة الفراغ والتجاوز أصلٌ عملي أو أمارة؟ وعلى فرض كونها أصلاً فمن أيّ الأصول العملية هي؟

4 ـ أين تجري هذه القاعدة؟ فهل هي مختصّة ببابي الصلاة والطهارة أو تعمّ جميع أبواب الفقه؟

يبدأ البحث عادةً في الكتب الأصولية في إطار البحث عن قاعدة الفراغ والتجاوز من زاوية أنّها من الأمارات أو الأصول العملية، إلاّ أنّ الترتيب الطبيعي والمنطقي يقتضي أن نبحث أولاً عن أدلّة هذه القاعدة ومداركها ثمّ ننتقل إلى


1 . على سبيل المثال: الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول325:3، الشيخ محمد كاظم الخراساني،كفاية الأصول432-433، السيد أبوالقاسم الخوئي، مصباح الأصول (الأصول العملية315:48).

2 . على سبيل المثال: السيد مير فتّاح الحسيني المراغي، العناوين153:1وما يلي، السيد محمد حسن البجنوردي، القواعد الفقهية315:1وما يليها، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، القواعد الفقهية ص211وما يليها.

البحث عن كونها من الأمارات أو الأصول العملية.

ومن هنا لابدّ من البحث أولاً عن أدلّة هذه القاعدة ومداركها ثمّ الانتقال إلى الأبحاث الأخرى المتعلّقة بهذه القاعدة والتّي وقع الخلاف فيها.

وقبل هذا وذاك لا بد من بيان تعريف الفراغ والتجاوز للتعرف عليها ولو على نحو الإجمال.

التعريف الإجمالي للقاعدتين

قاعدة الفراغ هي الحكم ظاهراً بصحّة العمل الذي فرغ منه المكلّف، كما لو صلّى المكلّف ثمّ شكّ في صحة جزءٍ من أجزائها أو شرط من شرائطها بعد الانتهاء منها فإنّ قاعدة الفراغ أثبتت في حقّه حكماً ظاهراً بصحّة صلاته.

قاعدة التجاوز

هي الحكم ظاهراً بإتيان الجزء المشكوك بعد تجاوز محلّه، وذلك كما لو شك المصلّي في حالة السجود بأنّه هل ركع أولاً؟ فإنّ قاعدة التجاوز تجعل في حقّه حكماً ظاهرياً بأنّه أتى بالركوع.

وعليه فالفرق بين القاعدتين على القول بأنّهما قاعدتان مستقلّتان (وسيأتي الخلاف في ذلك في الأبحاث القادمة مفصّلاً) هو أنّ مورد قاعدة الفراغ هو الشكّ في صحّة الجزء المأتي به بينما مجرى قاعدة التجاوز هو الشكّ في إتيان الجزء من الأساس.

ومن الجدير بالذكر أنّنا سنذكر الفرق بين هاتين القاعدتين بعد البحث عن مدارك هذه القاعدة.

أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز

مجموع ما يمكن أن يُتوصل إليه من الأدلّة على قاعدة الفراغ والتجاوز من خلال تتبّع كلمات العلماء الأعلام ستّة أدلّة ونحن نذكر منها أولاً: تلك الأدلة القابلة للمناقشة والطعن ثمّ نرجى البحث عن الأخبار والروايات التي تعتبر الدليل الأهمّ على هذه القاعدة إلى نهاية الأدلة.

1 ـ الإجماع العملي:

من خلال التصفّح في الأبواب الفقيهة المختلفة سوف يتبيّن لنا أنّ فقهائنا العظام قد استندوا إلى هذه القاعدة وعملوا بها في شتّى أبواب الفقه كالصلاة والوضوء والحجّ وبعض الموارد الأخرى، والمراد بالإجماع العملي هو هذا الاستناد وعمل الفقهاء في هذه الموارد وإن لم يتحقّق الإجماع القولي منهم في هذه المسألة.

المناقشة في دليليت الإجماع العملي:

مضافاً إلى أنّ تحقق هذا الإجماع في غير باب الصلاة والطهارات (الثلاث) محل نظر وغير معلوم فإنّ الإشكال المهمّ الذي يواجه هذا الدليل هو أنّ هذا الإجماع مدركي قطعاً والإجماع المدركي لا حجية له وذلك أنّ مدرك الفقهاء في موارد استنادهم إلى هذه القاعدة هو تلك الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا المجال،

وعليه لم يكن مستند الفقهاء في هذه المسألة هو الإجماع التعبّدي المعتبر، ومن هنا يسقط الدليل المذكور عن الاعتبار والحجّية .(1)


1 . الجدير بالذكر أن الأستاذ المحقق قد ذهب في مباحثه الفقهية والأصولية إلى حجية الإجماع الذي يحتمل كونه مدركياً.

ـ السيرة المتشرّعة:

حيث استقرّت سيرة المتشرعة العملية على أنّهم إذا قاموا إلى عمل عبادياً كان أو غيره جاؤوا به على شكله الصحيح، على سبيل المثال فإنّ المصلّي عندما يتمّ صلاته لا يفكّر في إعادة صلاته أو قضائها نهائياً إذ يعتقد أنّه صلّى صلاة صحيحة، نعم يمكن لبعض العظماء أن يعيدوا بعض أعمالهم العبادية من باب الاحتياط إلاّ أنّه لا يحكم أيّ مكلّف متشرع على نفسه بإعادة أعماله بمجرد الشكّ في أنّها هل صدرتْ منه على الشكل الصحيح أو لا؟

مناقشة هذا الدليل:

يرد على حجية هذه السيرة ما ورد على الإجماع العملي حيث يحتمل أن تكون السيرة مدركيةً أيْ أنّ سيرة المتشرعة هذه مبتنية على فتوى الفقهاء أو الروايات أو أي دليل آخر فتصبح هذه السيرة فاقدة للاعتبار والحجية كالإجماع المدركي، لاستناد هذه السيرة إلى فتاوى الفقهاء.

فلو سئل الفقهاء عن حكم الوضوء مثلاً فيما لو شكّ في صحته بعد الانتهاء منه فهل تجب الإعادة؟ لأجابوا بالنفي وعدم وجوب الإعادة، وعلى هذا لا يمكن لسيرة المتشرعة أن تقع دليلاً لقاعدة الفراغ والتجاوز.

3 ـ سيرة العقلاء:

قام بناء العقلاء وجرتْ سيرتهم على أنّ المكلّف المختار العالم بأجزاء المأمور به وشرائطه إذا أتى بالمأمور به منه عدّوا عمله تامّاً وصحيحاً، ويمكن أن يدّعى ذلك في قاعدة الفراغ بأن يقال: إنّ المكلّف لو أتى بالعمل وشكّ بعد الفراغ في صحّة عمله فإنّ قاعدة الفراغ تقتضي صحّة هذا العمل.

فلو سلّمنا صحة هذا الدليل كان لا بدّ من الالتزام بأنّ التعليل الوارد في ذيل بعض الروايات التي سنبحث عنها تحت عنوان الدليل السادس حيث يقول الإمام(ع) حول الشكّ في صحّة الوضوء بعد الفراغ منه: (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ)(1) ليس هذا التعليل أمراً تعبّدياً بأن يكون الشارع قد بيّن ذلك وهو في مقام التشريع بل سيكون هذا التعليل أمراً ارتكازياً عقلائياً ويكون الإمام(ع) منوّهاً إلى هذا المرتكز العقلائي في الرواية حيث يمكن اعتبارها كمؤيد للسيرة العقلائية.

مناقشة الاستدلال بالسيرة العقلائية:

لتحقيق أنّ سيرة العقلاء هل يمكن أن تقع دليلاً على قاعدة الفراغ أو لا، لابدّ من بيان أنّ السيرة العقلائية لا تخلو عن صورتين:

1ـ أمّا أن تكون السيرة العقلائية تعبّدية حيث لا حاجة معها إلى بيان الملاك من قبل العقلاء.

2ـ وإمّا أن يكون لسيرة العقلاء مدركٌ لدى العقلاء.

نظير هذا البحث قد جرى في أصالة الحقيقة أيضاً من أنّ أصالة الحقيقة هل هي أصل لفظي عقلائي تعبّدي أو ليست كذلك بل تكون راجعة إلى أصالة عدم القرينة؟(2) وفيما نحن فيه لو أتى الفاعل العالم المختار بعملٍ فإنّ حكم العقلاء بصحّة عمله بعد الفراغ منه هل هو أصل تعبّدي عقلائي؟ أو ليس تعبدياً بل له ملاك؟


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام105:1رقم265، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 471:1 باب 42 من أبواب الوضوء رقم 7.

2 . الشيخ محمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول ص233-235 و286.

القول بأنّ سيرة العقلاء في مبحث قاعدة الفراغ والتجاوز أصل تعبّدي مشكل جدّاً بل يمكن القول بأنْ لا أصل تعبدي لدى العقلاء، والأصول أو السير العقلائية كلّها قائمة على أساس الملاك، وعلى هذا الأساس لابدّ من معرفة ملاك سيرة العقلاء فيما نحن فيه، فما هو ملاك السيرة العقلائية هنا؟

يمكن الإجابة بأنّ ملاك هذه السيرة ومآلها إلى أصالة عدم الغفلة وذلك أنّ العقلاء يجرون أصالة عدم الغفلة في حقّ مَن قصد إتيان عمله والقيام بتكليفه على النحو الصحيح لكنّه شك في أنه هل عرضت عليه الغفلة أثناء العمل أو لا؟ ومن هنا لابدّ من البحث والتحقيق في موارد إجراء العقلاء أصالة عدم الغفلة هل جريانها مختص بموارد خاصّة أو لا؟

وبتعبير آخر: هناك سؤالان رئيسيان في مورد هذا الأصل ومجراه:

السؤال الأوّل: هل يختصّ جريان أصالة عدم الغفلة في خصوص الأقوال کالخبر والشهادة بحيث لا يشمل الأفعال الخارجية؟

الجواب: يعتقد البعض أنّ مورد أصالة عدم الغفلة هو باب الإخبار والشهادة، وذلك بسبب أنّ العاقل ملتفت إلى الخصوصيات الموجودة في الحادثة والقرائن المكتنفة بالكلام، ومن هنا تجري أصالة عدم الغفلة في شهادة الشاهد أو نقل الخبر عن حادثة أو نقل الرواية فتكون أصالة عدم الغفلة أصلاً عقلائياً لفظياً وعليه لا تجري في دائرة الأفعال الخارجية.

هذا ولكنّ التحقيق جريان هذا الأصل في الأفعال أيضاً لأنّا نجد من أنفسنا أنّنا لو أمرنا شخصاً بإعداد طعام مركّب من عدّة مواد خاصة لكنّا شككنا في أنّه هل أنجز عمله على نحو صحيح أو أنّه كان غافلاً أثناء عمله أجرينا في حقّه أصالة


1 . السيد محمود الهاشمي: قاعدة الفراغ والتجاوز ص30-31.

عدم الغفلة وحملنا عمله على الصحّة، ومن هنا لم تكن أصالة عدم الغفلة أصلاً لفظياً عقلائياً صرفاً بل تجري في الأفعال أيضاً.

السؤال الثاني: بعد أن عرفنا جريان أصالة عدم الغفلة في الأفعال أيضاً فلابدّ لنا ـ حتى يتم الاستدلال بسيرة العقلاء على قاعدة الفراغ والتجاوز ـ من أن نحرز بأنّ أصالة عدم الغفلة هل تشمل أقوال المكلّف نفسه وأفعاله بأن يطبّقها المكلّف على أفعال نفسه أو أنّها تختص بأقوال الآخرين وأفعالهم؟

الجواب: الظاهر باعتقادنا أن لا عمومية ولا توسعة لأصالة عدم الغفلة من هذه الجهة فتختص بأقوال الآخرين وأفعالهم ولا أقل من الشكّ في شمول هذا الأصل العقلائي لأفعال المكلّف نفسه ولمّا كانت أصالة عدم الغفلة دليلاً لبيّاً وجب الأخذ بالقدر المتيقّن منه وهو قول الغير وفعله.

وعليه فلا يمكن الركون إلى فعل نفسه بهذا الأصل، وفي النتيجة لا تكون السيرة العقلائية دليلاً على قاعدة الفراغ والتجاوز.

أمّا التعليل الوارد في ذيل الروايات الدالة على السيرة العقلائية التي سندرسها في الدليل السادس فإنّنا سنجيب هناك بأن قوله(ع): (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ) ليس تعليلاً ولا يعد علّة، وقد ذكر بعض الأعاظم كالمحقق النائيني(ره) أنّ هذه العبارة منه(ع) حكمةٌ وليست علّة.

4 ـ إثبات حجية القاعدة بأصالة الصحة:

الدليل الرابع على قاعدة الفراغ أدلّة أصالة الصحة كما هو المستفاد من كلمات الفقيه العظيم الحاج رضا الهمداني من أنّ الأدلّة الدالّة على حجية أصالة الصحة تدلّ بنفسها أيضاً على حجية قاعدة الفراغ التي هي من مصاديق قاعدة أصالة الصحة الكلّية حيث يقول: (إنّ عدم الاعتداد بالشك بعد الفراغ من

الوضوء إنّما هو لكونه من جزيئات هذه القاعدة، وهذه القاعدة بنفسها من القواعد الكلّية المسلّمة المعمول بها في جميع أبواب الفقه وهذه هي القاعدة التي يُعبّر عنها بأصالة الصحّة)(1).

فالمرحوم المحقق الهمداني لا يرى قاعدة الفراغ قاعدة مستقلة بل يعتقد أنّها من مصاديق وجزئيات أصالة الصحة التي هي من القواعد الفقهية المسلّمة الجارية في جميع أبواب الفقه كما أنّها أصل عقلائي حيث لو شك في صحة عمل (كالوضوء) بعد الفراغ منه قام بناء العقلاء على أنّ ذلك العمل قد أنجز على النحو الصحيح.

هذا ولكنّه يذكر في صفحات أخرى من كتابه عند الحديث عن قاعدة التجاوز وأنّها تجري فيما لو شك في أصل وجود الجزء بعد تجاوز محله كالركوع مثلاً.

ويذكر أنّ قاعدة التجاوز على خلاف قاعدة الفراغ وليست من مصاديق أصالة الصحة بل هي قاعدة مستقلّة مختصّة بباب الصلاة ولا تجري في سائر أبواب الفقه.

يقول: (إنّ مفاد الروايتين (يعني خبر إسماعيل بن جابر وصحيحة زرارة الذين سنتكلّم عنهما في الدليل السادس) على ما يقتضيه ظاهرهما عدم الاعتناء بالشك في وجود شيء بعد تجاوز محلّه، لا في صحته، فهي قاعدة أخرى غير قاعدة الصحّة... وكيف كان فالظاهر أنّ هذه القاعدة مخصوصة بالصلاة لا أنّها كقاعدة الصحّة سارية جارية في جميع أبواب الفقه)(2).


1 . آقا رضا الهمداني: مصباح الفقيه178:3.

2 . المصدر نفسه: ص181.

وعلى هذا فإنّه جعل أدلّة أصالة الصحة دليلاً على قاعدة الفراغ وفرّق بين أصالة الصحة وقاعدة التجاوز من حيث المضمون والمدلول.

مناقشة الدليل المذكور: للتعرف علی أنّ أدلّة أصالة الصحّة يمكنها أن تقع دليلاً على قاعدة الفراغ لابد لنا من أن نعرف هل هناك فرق بينهما أولا؟

تشترك قاعدة الفراغ مع أصالة الصحة في عدّة وجوه ممّا جعلت هذه الوجوه قاعدة الفراغ من مصاديق أصالة الصحة، والوجوه المشتركة بين أصالة الصحّة وقاعدة الفراغ هي كالتالي:

1 ـ كما اختُلف في قاعدة الفراغ من جهة أنّها أمارة أو أصل فكذلك وقع الخلاف في أصالة الصحّة.

2 ـ إنّ بعض الشروط المعتبرة عند الفقهاء لإجراء قاعدة الفراغ هي نفسها معتبرة في جريان أصالة الصحة، فعلى سبيل المثال: يُشترط في جريان قاعدة الفراغ إحراز عنوان العمل وذلك أنّ مَنْ فرغ من الوضوء فشك في صحة وضوئه لا بد أن يحرز أنّه قد توضأ، أمّا لو تردّد في أصل العمل ولم يعلم بأنّه توضأ أو غسل وجهه بهدف تبريده فلا تجري قاعدة الفراغ، وهذا الشرط بعينه معتبر في إجراء أصالة الصحة حيث إنّ بناء العقلاء قائم على جريان أصالة الصحة مع إحراز العمل فيكون العمل محكوماً بالصحة.

3 ـ وجه الاشتراك الثالث بين أصالة الصحة وقاعدة الفراغ أنّ أصالة الصحة تجري في جميع أبواب الفقه فكذلك قاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب الفقه على ما هو التحقيق، وقد صرّح المرحوم صاحب الجواهر بجريان هذه القاعدة في كلّ عمل مركّب كالصلاة .(1)


1 . محمدحسن النجفي: جواهر الكلام648:2.

وسنبين بالتفصيل مدى حدود جريان قاعدة الفراغ.

أمّا وجوه الافتراق بين أصالة الصحة وقاعدة الفراغ المستفادة من كلمات المرحوم المحقق النائيني والمرحوم الشيخ الأعظم الأنصاري فهي الأمور التالية:

1 ـ أصالة الصحة إنّما تتعلّق بفعل غير المكلّف(1) بينما تتعلّق قاعدة الفراغ بفعل المكلّف نفسه فتفترقان من جهة مجراهما.

2 ـ ترتبط قاعدة الفراغ بما بعد العمل كما هو مستفادٌ من عنوان الفراغ نفسه، أمّا أصالة الصحة فلا تختص بما بعد العمل بل تجري في أثناء العمل(2) أيضاً، فعلى سبيل المثال لو شُكّ في صحة صلاة الميّت والمصلي مشتغلٌ بها على الجنازة جرتْ أصالة الصحة وحكمنها بصحّة صلاته.

والذي يقتضيه النظر عدم تمامية كلا الفرقين فلا يمكن الردّ بهما على كلام المرحوم الهمداني.

أمّا بالنسبة إلى الفرق الأوّل فكما نعتقده ويعتقده بعض المحققين ومنهم المرحوم الهمداني(3) أنّ أصالة الصحة لا اختصاص لها بفعل غير المكلّف بل تجري في فعل المكلّف نفسه أيضاً، وعلى هذا فإنّ قاعدة الفراغ من مصاديق أصالة الصحة ولا تختلف عنها.

والفرق الثاني أيضاً لا يوجب الافتراق بين قاعدة الفراغ وأصالة الصحة، وذلك لأنّ أصالة الصحة عامّة تشتمل ما بعد الفراغ من العمل وأثناء العمل وتجري فيهما، فتشمل قاعدة الفراغ أيضاً التي تتعلّق بما بعد الانتهاء من العمل


1 . مرتضى الأنصاري: فرائد الأًصول345:3 فصاعداً. محمدعلي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول: تقريرات آية الله النائيني653:4 فصاعداً.

2 . مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول360:3.

3 . آقا رضا الهمداني: مصباح الفقيه194:3.

وعليه فإنّ هذا الكلام يُثبت أصل المدّعى وهو: أنّ قاعدة الفراغ هي ذاتها أصالة الصحة الجارية بعد الانتهاء من العمل.

تحقيق الكلام في الفرق بين قاعدة الفراغ وأصالة الصحة:

إنّ قاعدة الفراغ وأصالة الصحة مختلفتان من حيث الملاك وذلك لأنّ ملاك قاعدة الفراغ هو التوجّه والالتفات كما ورد التعبير في الروايات بالأذكرية يعني أن يكون التفات المكلّف أثناء العمل أكثر من زمن فراغه من العمل حيث يشك في صحته، وهذا الملاك غير متوفر في أصالة الصحة حيث يمكن فيها للعمل الذي قد أُنجز، أن يتّصف بأحد عنواني الصحة والفساد إلا أنّ الشارع أو العقل قد غلب جانب الصحّة على الفساد حيث قال الشارع في هذا المجال: (ضعْ أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه...)(1) ولا علاقة للأذكرية في أصالة الصحة أبداً.

وعليه فإنّ قاعدة الفراغ وأصالة الصحة وإن اشتركتا في بعض الأمور إلا أنّهما مختلفتين من ناحية الملاك ولم يمكنْ عدّ أصالة الصحة بمنزلة الدليل على قاعدة الفراغ.

5 ـ أدلة المحقق الهمداني:

سبق في الدليل السابق أن بيّننا بأن المرحوم المحقق الهمداني جعل قاعدة الفراغ من مصاديق أصالة الصحّة ولم يلتزم بذلك في قاعدة التجاوز، وعلى مبناه كلّما جاز جعله دليلاً على أصالة الصحة كان دليلاً على قاعدة الفراغ أيضاً، وقد ذكر في كتابه ثلاثة أدلة على أصالة الصحة وبالتالي سكتون هذه الأدلّة أدلّة


1 . ثقة الإسلام الكليني: أصول الكافي362:2باب القهقهة وسوء الظنّ حديث3. محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة302:12باب161من أبواب أحكام العشرة حديث3.

على قاعدة الفراغ أيضاً، ومن هنا كان لابدّ من البحث في هذه الأدلّة.

يقول المرحوم المحقق الهمداني: (...العمدة في حمل الأفعال الماضية الصادرة من المكلّف أو من غيره على الصحيح إنّما هي السيرة القطعية ولولاه لاختلّ نظام المعاش والمعاد، ولم يقم للمسلمين سوقٌ، فضلاً عن لزوم العسر والحرج المنفيين في الشريعة، إذ ما من أحد إلا إذا التفت إلى أعماله الماضية من عباداته ومعاملاته، إلاّ ويشكّ في أكثرها لأجل الجهل بأحكامها أو اقترانها بأمور لو كان ملتفتاً إليها لكان شاكاً، كما أنّه لو التفت إلى أعمال غيره، يشكّ في صحّتها غالباً فلو بنى على الاعتناء بشكّه لضاق عليه العيش، كما لا يخفى)(1).

الدليل الأوّل قاعدة لا حرج:

فالدليل الأوّل الذي أقيم على أصالة الصحة قاعدة لا حرج التي تعتبر من القواعد الفقهية المسلّمة، توضيح ذلك في المقام هو: أنّ الإنسان إذا التفت إلى أعماله السابقة أو أعمال الآخرين (الصلاة، الوضوء، المعاملات و...) واستقرأها مفصّلاً سيحصل له الشكّ في كثير منها، فلو وجب الاعتناء بشكّه هذا لزم العسر والحرج، فلو شك مثلاً في صحة صلاة قد أتى بها سابقاً وجب عليه أن يعيدها، ولو التفت إلى هذه الصلاة المعادة حصل له الشكّ في صحتها أيضاً ولزمته الإعادة، وهكذا يستمر الشكّ وتستمر معه إعادة الصلاة وليس هذا إلا عسراً وحرجاً، وهذا الإشكال بعينه يجري في الصوم والمعاملات وساير أمور الحياة.

وعليه فإنّ قاعدة لا حرج كإحدى القواعد الفقهية تدلّ على أنّ الله تعالى لم يشرع حكماً حرجياً في الشريعة ولمّا كان الاعتناء بالشك وعدم إجراء أصالة


1 . آقا رضا الهمداني: مصباح الفقيه ج3 ص194-195.

الصحة موجباً للعسر والحرج يحكم بنفيها من خلال قاعدة لا حرج فيحكم بجريان أصالة الصحة.

الدليل الثاني:

التعليل الوارد في قاعدة اليد: توضيح ذلك أنّه لو لم تكن اليد حجة ولم يمكن للناس أن يحكموا بملكية الأشخاص للأموال التي تحت أيديهم لما قام للمسلمين سوق، فالمرحوم المحقق الهمداني(ره) استفاد من عموم هذا التعليل ليعمّمه على موارد جريان قاعدة الفراغ وأصالة الصحة حيث إنّه لو التزم بلزوم الإعادة في موارد الشكّ في صحّة الأعمال السابقة لم يبق سوق للمسلمين قط.

الدليل الثالث اختلال النظام:

حيث يقال في بيان هذا الدليل بأنّه لو بنينا على وجوب إعادة الأعمال السابقة بمجرّد الشكّ في صحتها لزم اختلال نظام حياة الناس ومعيشتهم وإصابتهم بهلع وضياع، وهذا الدليل مآله إلى الدليل السابق لأنّ الناتج منهما زوال نظام المجتمع واختلال حياة الأفراد.

الرد على أدلّة المرحوم الهمداني:

حيث يمكن الردّ على نحوين:

1 ـ الرد الكلّي الشامل للأدلة الثلاثة.

2 ـ الردود الجزئية الخاصة المتعلّقة بكلّ واحد من تلك الأدلة الثلاثة.

أ ـ الرد الكلّي المتعلّق بجميع الأدلّة الثلاثة:

إنّ الروايات التي تُعد مستنداً لقاعدة الفراغ والتجاوز تتجاوز العشرين رواية

وهي إمّا أن لم يذكر فيها تعليل وإما أن ذُكر فيها التعليل بمثل قول الإمام(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ).

وبتعبير آخر فإنّ الإمام(ع) مع كونه في مقام بيان الدليل إلا أنّه لم يستدلّ في رواية من روايات قاعدة الفراغ والتجاوز باختلال النظام أو (لما قام للمسلمين سوق) أو قاعدة لا حرج، مع أنه(ع) استدلّ في كثير من المسائل الفقهية الحرجية على نفي الحرج ورفع التكليف بالآية الشريفة: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1) ممّا يدلّ على أنّ هذه الأمور الثلاثة ليست أدلّة على قاعدة الفراغ.

ب ـ الرد الخاص بدليلية (لاحرج):

أولاً: إنّا ننكر وقوع ما نحن فيه (قاعدة الفراغ) صغرى لقاعدة نفي الحرج لأنّ قاعدة نفي الحرج إنّما تتصوّر في موارد يشك فيها غالب الناس في صحة أعمالهم بعد الفراغ من العمل، أمّا أثناء العمل فقلّما يُبتلى المكلّف بهذا النوع من الشكّ، وعليه فليس ما ادّعاه المرحوم الهمداني(ره) من أنه: (ما من أحدٍ إذا التفت إلى أعماله الماضية... إلا ويشك في أكثرها) لا يطابق الواقع، لأنّ الشكّ من هذا القبيل إنّما يقع للقليل من الناس وبالتالي فلا يكون مستلزماً للعسر والحرج.

ثانياً: إنّ قاعدة لا حرج ليست قاعدة ثابتة فلا يمكن إثبات الحكم بالاستناد إليها، وذلك أنّ هذه القاعدة تفيد أنّ الحكم الحرجي لم يُجعل في الشريعة بينما تثبت قاعدة الفراغ صحّة الجزء المشكوك وتثبت قاعدة التجاوز حصول الجزء المشكوك (وهذا على رأي بعض الفقهاء في قاعدة التجاوز لا جميعهم) وعلى


1 . سورة الحج: الآية78.

هذا فإنّ لسان قاعدة الفراغ والتجاوز مثبت وإيجابي بينما لسان قاعدة لا حرج منفي وسلبي(1).

ج ـ الرد الخاص بالتعليل بقاعدة اليد واختلال النظام:

أولاً: كما أسلفنا في الجواب السابق أنّ الإشكال إنّما يرد على صغرى كلام المرحوم المحقق الهمداني حيث لا يحصل الشكّ من هذا القبيل لجميع الناس وإنّما يحصل لعددٍ قليل منهم ومن هنا فإنّ إعادة الأعمال السابقة لا تؤدّي إلى تعطيل سوق المسلمين فضلاً عن اختلال نظام الحياة.

ثانياً: أنّ التعليل في قوله: (لولاه لما قام للمسلمين سوق) له انصراف ظاهر إلى المعاملات بالمعنى الأعم وبالتالي لا يشمل بابي العبادات والطهارات الذَين هما المجريان الأساسيان لقاعدة الفراغ، فلو أوجب الشارع إعادة العمل فيما لو شُك في صحته بعد الفراغ منه في بابي العبادات والطهارات لم يكن لذلك علاقة بسوق المسلمين أو باختلال نظام معيشة الناس ولم يلزم أي خلل في هذين الأمرين.

وعليه فلا يمكن الاستناد إلى الدليل الخامس القائم على قاعدة الفراغ فهو مردود.

6 ـ الأخبار والروايات:

كما سبق في ابتداء البحث عن أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز أنّ عمدة هذه الأدلّة وأساسها هي الروايات المستفيضة المعتبرة أكثرها، حتى أنّ بعض الأعاظم


1 . الجدير بالذكر أنّ الأستاذ المعظّم ذكر في كتابه قاعدة لا حرج أنّ هذه القاعدة مثبتة للحكم الشرعي، السيد جواد حسيني خواه: قاعدة لا حرج: تقريرات الأستاذ المحقّق الحاج الشيخ محمد جواد الفاضل اللنكراني 175.

كالمرحوم الإمام الخميني(قده) لم ينوّه إلى الأدلّة الخمسة السابقة بل دخل مباشرة في البحث عن الروايات وذلك لعدم تمامية تلك الأدلّة ـ كما بيّنا ـ فلا يمكن الاستناد إليها.

وهذه الروايات ورد أغلبها في أبواب الطهارة والصلاة والحج وهي فوق حد الآحاد وقد وصلت إلى حدّ الاستفاضة، ولا يبعد بل يمكن ادّعاء تواترها معنى بعد دراستها والتأمل فيها وإن لم يتحقق التواتر اللفظي في هذه الروايات.

وما يُبحث عنه في الدليل السادس هو أنّ هذه الروايات هل تدلّ على أصل قاعدة الفراغ والتجاوز أو لا؟ ولا ندخل في تفاصيل البحث في هذا المجال بل ينصب اهتمامنا ببيان أنّ من فرغ من عمل ما ثم شك في صحته فهل تجاوز محله فهل يعتني بشكّه طبقاً لمضمون هذه الروايات؟ فما مدلولها؟

أمّا الروايات فهي:

1ـ محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله(ع)، في الرجل يشكّ بعدما ينصرف من صلاته، قال: فقال: (لا يعيد، ولا شيء عليه)(1).

دراسة سند الرواية:

الرواية صحيحة، والمراد بمحمد بن الحسن هو الشيخ الطوسي(ره) الذي هو من أجلّاء فقهاء الامامية العظام ولا يخفى وثاقته وجلالة قدره وعظمة شأنه على أحد.

وطريق المرحوم الشيخ الطوسي بحسين بن سعيد طريق صحيح وقد ذكر في


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام ج2 ص374-375 حديث1443، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة246:8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث1.

المشيخة(1): (الحسين بن سعيد يراد به الحسين بن سعيد بن حمّاد بن سعيد بن مهران الأهوازي) الذي صرّح بوثاقته كبار علماء الرجال(2).

(ابن أبي عمير يراد به محمد بن أبي عمير وهو من الثقات والأعاظم عند الإمامية)(3). (أبي أيوب الخراز يعبر عنه في كتب الرجال بأسماء مختلفة مثل: إبراهيم بن عيسى أبو أيوب إبراهيم الخراز أبو أيوب، إبراهيم بن زياد أبو أيوب، إبراهيم بن زياد و...) والمقصود شخص واحد وهو ثقة وله كتاب النوادر(4).

(محمد بن مسلم) من كبار فقهائنا الأصحاب وكان الأوثق في الكوفة وقد تتلمّذ عند الإمام الباقر والإمام الصادق8(5).

وعلى هذا فلا إشكال في سند هذه الرواية.

دراسة دلالة الرواية:

في هذه الرواية يسأل محمد بن مسلم من الإمام الصادق(ع) حكم من شك بعد الإنصراف من صلاته ويجيب الإمام(ع) بأنّ هذا الشكّ لا يعتنى به فلا تجب إعادة الصلاة.

ومن الواضح أنّ هذه الرواية مختصّة بباب الصلاة).

وتشمل كلمة (يشك) الواردة في الرواية للقسمين من الشكّ (الشكّ في صحة الصلاة والشك في إتيان جزءٍ من أجزاء الصلاة). ولابدّ من البحث في كلمة


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام386:10رقم15.

1 . أحمد بن علي النجاشي ص58رقم137، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص113رقم230، السيد أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث ج5 ص245-246.

3 . أحمد بن علي النجاشي ص326رقم887، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص318رقم617.

4 . أحمد بن علي النجاشي ص20رقم25، محمد بن حسن الطوسي: المصدر السابق ص41رقم13، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: المصدر نفسه ج1 ص223-224، 256-258، 265-267 وج21ص37.

5 . أحمد بن علي النجاشي: المصدر السابق ص323-324رقم882.

(ينصرف) فهل يراد بالانصراف الانصراف الفقهي الحاصل بالتسليم بعمل آخر؟ يرى الإمام الخميني(ره) إنّ المراد هو الانصراف الفقهي وقد عُبِّر في الروايات عن التسليم في الصلاة بعنوان الانصراف(1).

2 ـ وبإسناده عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع) قال: (كلّما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تُعدْ)(2).

دراسة سند الرواية:

هذه الرواية كسابقتها رواية صحيحة إذ طريق الشيخ الطوسي(ره) بأحمد بن محمد طريق صحيح كما ورد ذلك في مشيخة التهذيب فإنّ أحمد بن محمد أو أحمد بن محمد بن خالد البرقي(3) وهو من الثقات الأجلاء وطريق الشيخ(ره) إليه هو (ما رويته بهذه الأسانيد عن محمد بن يعقوب (الشيخ الكلّيني(ره)) عن عدة من أصحابنا (وهم أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، ومحمد بن عبد الله بن أذينة، وأحمد بن عبد الله بن أمية، وعلي بن الحسين السعد آبادي) عن أحمد بن محمد بن خالد(4) وهو طريق صحيح أو (أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري وهو فقيه وشيخ القميين ومن الثقات(5) وطريق الشيخ(ره) هو (ما رويته بهده الأسانيد عن محمد بن يعقوب (الشيخ الكليني) عن عدّة من أصحابنا (وهم أبو جعفر محمد بن يحيى العطار القمي، وعلي بن موسى بن جعفر الكمنداني،


1 . الإمام الخميني: الاستصحاب ص310.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام ج3 ص378 حديث1460، محمد بن الحسن الحر العاملي: وسائل الشيعة346:8باب27من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث2.

3 . أحمد بن علي النجاشي ص76رقم182، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص62رقم65.

4 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام411:10رقم27.

5 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص81رقم198، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص68رقم75.

وأبو سليمان داوود بن كورة القمي، وأبو علي أحمد بن إدريس بن أحمد الأشعري القمي، وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم القمي)(1) وهذا الطريق أيضاً طريق صحيح.

(الحسن بن محبوب) من أصحاب الإمام الرضا(ع)(2) وقد وثّقه الشيخ الطوسي(ره) إلا أنّ النجاشي لم يذكر اسمه في كتابه ولم يتعرّض لترجمته، بينما ذكره الكشي من أصحاب الإجماع(3).

(علي بن رئاب) كوفي من ثقات الإمامية العظماء.

أمّا ترجمة محمد بن مسلم فقد سبقت في الرواية السابقة.

دلالة الرواية:

يقول الإمام الباقر(ع): «إذا شككت في صحة الصلاة أو في إتيان جزء منها، بعد الفراغ منها فامض ولا تعتنِ بشکك ولا حاجة إلى إعادتها».

وهذه الرواية أيضاً تدلّ بوضوح على قاعدة الفراغ والتجاوز في خصوص الصلاة، والجدير بالذكر أنّ المرحوم صاحب الوسائل نقل الرواية بكلمة (كلّما) الدالة على العموم الزماني أي في كلّ زمنٍ شككت بعد إتمام الصلاة لا تعتنِ بشكك، أمّا في تهذيب الأحكام فقد جاءت الرواية بكلمة (كلّ ما) الدالة على العموم الإفرادي أي أنّك إذا شككت بعد الفراغ من الصلاة في أي شيءٍ (سواء في الصحة أم في إتيان جزءٍ من أجزاء الصلاة) فلا تعتنِ.


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام409:10رقم25.

2 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص96رقم162، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج5 ص89-106رقم307ورقم3071.

3 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص599 رقم 1050 ص623 رقم 1094 ورقم 1095.

والصحيح باعتقادي تعبير رواية تهذيب الأحكام لا عبارة وسائل الشيعة.

3 ـ محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: (إنّ شكّ الرجل بعدما صلّى فلم يدر ثلاثاً صلّى أم أربعاً وكان يقينه حين انصرف أنّه قد كان قد أتمّ، لم يُعِد الصلاة، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك)(1).

ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب محمد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مسلم(2).

سند الرواية:

(محمد بن علي بن الحسين) هو الشيخ الصدوق من كبار فقهائنا الإمامية، أمّا إسناد المرحوم الشيخ الصدوق إلى محمد بن مسلم كما ورد ذلك في مشيخة كتاب الفقيه فهو كالتالي:

الشيخ الصدوق(ره) عن علي بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله(3)، عن أبيه(4) عن جده أحمد بن أبي عبد الله البرقي(5)، عن أبيه محمد بن خالد(6)، عن العلاء بن رزين(7) عن محمد بن مسلم).


1 . محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي (الشيخ الصدوق): من لا يحضره الفقيه322:1حديث1027.

2 . محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي: كتاب السرائر614:3.

3 . من مشايخ الصدوق-السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث252:11رقم7891.

4 . من مشايخ الصدوق-السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج3ص134-138 رقم 623 و 625 و628 و631 و633.

5 . ثقة في نفسه ويروي عن الضعفاء وصنّف كتباً-السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث261:2 رقم 858، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص76رقم182، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص62رقم65.

6 . محمد بن خالد البرقي-له كتب-أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص325رقم898، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص226رقم639.

7 . العلاء بن رزين القلّاء جليل القدر-أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص298رقم811، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص183رقم499.

يقع في هذا الطريق أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله وأبوه وهما لم يُوثّقَا في الكتب الرجالية إلاّ أنّنا نعتقد بوثاقتهما نظراً إلى قرائن تدلّ على وثاقتهما وعليه فإنّ هذا الطريق طريق صحيح.

دلالة الرواية:

يقول الإمام(ع) في هذه الرواية: من شكّ بعد الانتهاء من صلاته بأنّه صلّى ثلاث ركعات أم أربعاً وقد كان متيقّناً من تمامية صلاته عند الفراغ منها لم تجب عليه الإعادة لأنّ زمان انصرافه من الصلاة أقرب إلى الواقع من زمان شكّه.

وهذا هو معنى قاعدة الفراغ أي عدم وجوب الاعتناء بالشك بعد الانتهاء من العمل، هذا ولكن في هذه الرواية عبارةً قد تدلّ على عدم ارتباط الرواية بقاعدة الفراغ فلابدّ من التأمل في هذه العبارة التي يقول فيها الإمام(ع)، (وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ...) أي أنّ المصلّي عند انصرافه من الصلاة كان متيقّناً من أنّه قد أتمّ صلاته ثمّ شك بعد مرّة، وبهذا البيان تكون الرواية مرتبطة بقاعدة اليقين والشك الساري حيث أنّ المصلي عند إتمام الصلاة متيقّن من تمامية صلاته ثمّ يحصل له الشكّ في ذلك المتيقّن السابق (تمامية الصلاة) بعد فترة فهنا يُحكم بصحة صلاته طبقاً لقاعدة اليقين فلا تجب الإعادة وعلى هذا فلا دلالة لهذه الرواية على قاعدة الفراغ.

ولکن يمكن حمل الرواية على قاعدة الفراغ بتوجيه بسيط وهو بأن نحمل كلمة (اليقين) على خلاف ظاهر معناها بحيث يقال: إنّ المراد من قوله(ع): (وكان يقينه حين انصرف) أنّ هذا المصلي كان كمن تيقّن بتمامية صلاته وصحّتها لا أنّ هذا المصلي نفسه كان متيقّناً بتمامية صلاته بعد الفراغ منها، وعليه يمكن جعل هذه الرواية دليلاً على قاعدة الفراغ.

والنقطة الأخرى في هذه الرواية أنّه كما نقلنا من كتاب وسائل الشيعة أنّ ابن إدريس أيضاً قد روى هذه الرواية في مستطرفات السرائر من كتاب (محمد بن علي بن محبوب) إلاّ أنّ هناك إشكالاً في سند هذا النقل حيث يقع في سنده (أحمد بن محمد بن يحيى العطار) الذي لم يُوَثَّقْ(1).

4 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله عن زرارة، قال: قلت لأبي عبدالله(ع): (رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال: (يمضي) قلتُ: رجل شك في التكبير وقد قرأ؟ قال: (يمضي) قلت: شك في القراءة وقد ركع؟ قال: (يمضي) قلت: شك في الركوع وقد سجد؟ قال: (يمضي على صلاته) ثمّ قال: (يا زرارة إذا خرجتَ من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشككَ ليس بشيءٍ)(2).


1 . يقول ابن إدريس في مستهلّ أحاديثه التي ينقلها من كتاب محمد بن عليّ بن محبوب: (ومن ذلك ما استطرقناه من كتاب نوادر المصنّف تصنيف محمد بن عليّ بن محبوب الأشعري الجوهري القمي وهذا الكتاب كان بخطّ شيخنا أبي جعفر الطوسي(ره) مصنّف كتاب النهاية فنقلتُ هذه الأحاديث من خطّه من الكتاب المشار إليه (محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي: كتاب السرائر601:3).
وعلى هذا فإن ابن إدريس ينقل هذه الروايات عن المرحوم الشيخ الطوسي الذي طريقه إلى محمد بن علي بن محبوب هو كالتالي: (فقد أخبرني به الحسين بن عبيد الله عن أحمد بن محمد بن يحيى العطّار عن أبيه محمد بن يحيى عن محمد بن علي بن محبوب (محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام ج10 شرح مشيخة تهذيب الأحكام ص72) وفي هذا الطريق يوجد أحمد بن محمد بن يحيى العطار الذي لم يُذكر في حقه توثيق في كتب الرجال للمتقدمين، هذا ولكنّ بعض الأعلام من أمثال الشهيد الثاني والشيخ البهائي قد وثّقوه، والسيد الخوئي يرفض هذا التوثيق لكون هذا التوثيق أمراً اجتهادياً واستنباطياً (السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج2 ص328-329).
أما المرحوم آية الله العظمى البروجردي فقد أثبت وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطّار من خلال رواية الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق عنه ولاسيّما مع كثرة رواياته (محمد فاضل اللنكراني: نهاية التقرير في مباحث الصلاة تقريراً لأبحاث السيد حسين الطباطبائي البروجردي ج3 ص230-233).

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام378:3حديث1459، محمد بن حسن بن الحر العاملي: وسائل الشيعة237:8باب23من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث1.

سند الرواية:

لا إشكال في سند هذه الرواية التي تعد من الروايات المعروفة في هذا الباب وتدعى بصحيحة زرارة.

(محمد بن الحسن) هو الشيخ الطوسي وإسناده إلى أحمد بن محمد إسناد صحيح كما سبق تفصيل ذلك.

(أحمد بن محمد بن أبي نصر) يراد به أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي وهو من أهالي الكوفة ومن ثقات الإمامية وقد التقى بالإمام الرضا(ع) وكانت له مكانة رفيعة عند الإمام(ع)(1).

(حماد بن عيسى) هو حماد بن عيسى الجُهنّي الذي غرق في جحفة وكان من ثقات الإمامية، وقد صرّح بوثاقته الشيخ الطوسي والنجاشي(2).

(حريز بن عبد الله) هو حريز بن عبد الله السجستاني أبو محمد الأزدي ثقة من أهالي الكوفة(3).

(زرارة بن أعين) غنيّ عن التوصيف وكان من الفقهاء والمتكلّمين في عصره وله شأنه عند الإمام الباقر والإمام الصادق8(4).

ينقل الإمام الخميني(ره) في كتاب الاستصحاب نقلاً عن كتابي تهذيب الأحكام ووسائل الشيعة ذيل الرواية بعبارة (فشككت فليس بشيءٍ) ثمّ يتابع


1 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص61رقم63، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص75رقم80.

2 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص115رقم241، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص142رقم370.

3 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص118رقم249، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص144رقم375.

4 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص133رقم312، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص175رقم463.

كلامه بأنّ في نسخة (الوافي)(1) ورد التعبير بقوله: (فشككَ ليس بشيء)(2) ولا يضرّ ذلك بالرواية على كلا التعبيرين.

دلالة الرواية:

في هذه الرواية نجد زرارة يسأل من الإمام الصادق(ع) أسئلة عديدة ويجيب عنها الإمام(ع) حيث يذكر فيها خمسة من موارد قاعدة الفراغ ثمّ يبيّن قاعدة كلّية فيها، فقد سأل زرارة من الإمام(ع) حكم المصلي إذا شك في الأذان وهو في الاقامة أو شك في الأذان والاقامة وهو في حالة التكبير أو شك في التكبير وهو منشغل في القراءة في الصلاة أو شك في القراءة وهو في الركوع أو شك في الركوع وهو منشغل بالسجود، والإمام(ع) في كلّ مورد يجيب وجوب المضيّ وعدم الاعتناء بالشك ثمّ يذكر الإمام(ع) قاعدة كلّية بقوله: (يا زرارة إذا خرجت من أي جزء من أجزاء العمل ودخلت في الجزء التالي وشككت في الجزء السابق فلا تعتنِ بشكك ولا ترتبْ عليه أثراً).

ولكلمة (شيء) الواردة في هذه الضابطة الكلّية عمومٌ يشمل جزء العمل فتدلّ الرواية على قاعدة التجاوز كما يشمل كلّ العمل فتدلّ على قاعدة الفراغ.

وممّا يستفاد أيضاً من هذه الرواية هو وجوب الدخول في التالي بعد الفراغ من الأوّل.

توضيح ذلك: أنّ الفقهاء اختلفوا في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في أنّه هل يعتبر الدخول في العمل التالي مضافاً إلى الخروج من العمل الأوّل أو يكفي مجرد الانصراف والفراغ من العمل الأوّل؟ فإن الروايات الثلاث السابقة كانت


1 . محمد محسن الفيض الكاشاني: كتاب الوافي ج8 ص948-949رقم707462.

2 . الإمام الخميني: الاستصحاب ص 307.

تدلّ على كفاية مجرد الانصراف والفراغ من العمل، أمّا هذه الرواية فتدلّ على وجوب الدخول في التالي لجريان قاعدة الفراغ والتجاوز فلا يُجزي مجرّد الفراغ والانصراف من العمل.

5 ـ وعنه (الحسين بن سعيد) عن صفوان، عن أبن بكير، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: (كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو)(1).

سند الرواية:

(عنه) يراد من الضمير (الحسين بن سعيد)(2) إذا راجعنا إلى تهذيب الأحكام علمنا حيث روى عنه الشيخ الطوسي، وطريق الشيخ(ره) إليه:

(فقد أخبرني به الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ المفيد) والحسين بن عبيد الله، وأحمد بن عبدون، كلّهم عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه، وأخبرني به أيضاً أبو الحسين بن أبي جيّد القمي، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، ورواه أيضاً محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد)(3) وهذا الطريق طريق صحيح خالٍ عن إشكال.


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام370:2حديث1426، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة337:8باب23من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث3.

2 . الحسين بن سعيد بن حمّاد بن مهران الأهوازي من موالي عليّ بن الحسين(ع) ثقة روى عن الرضا(ع) وأبي جعفر الثاني(ع) وأبي الحسن الثالث(ع) أصله كوفي وانتقل مع أخيه الحسن إلى الأهواز وله ثلاثون كتاباً (محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص113رقم230-أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص58رقم137).

3 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام ج10ص386رقم15.

(عن صفوان) والمراد صفوان بن يحيى البجلّي وهو من أصحاب الإجماع(1).

(عن ابن بكير) هو عبد الله بن بكير بن أعين أبو علي الشيباني، وهو فطحي المذهب ومع ذلك فإنّه ثقة ومن أصحاب الإجماع(2).

(محمد بن مسلم) وقد سبق ذكره فالرواية موثقة لا إشكال فيها من حيث السند.

دلالة الرواية: هذه الرواية كسابقتها عامة تشمل جميع أبواب الفقه كما أنّها لا اختصاص لها بحين العمل بل تشمل ما بعد العمل، أمّا بالنسبة إلى عبارة هذه الرواية فقد كتبت (كلّما) متّصلة في كتابي تهذيب الأحكام ووسائل الشيعة فتكون ظرفاً زمانياً مع أنّ الصحيح أن تكتب منفصلة على شكل (كلّ ما) ويكون الضمير في (فيه) راجعاً إلى (ما) الموصولة.

6 ـ عبد الله بن جعفر (في قرب الإسناد)(3) عن عبد الله بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(ع) قال: سألته عن رجل ركع وسجد ولم يدْرِ هل كبّر أو قال شيئاً في ركوعه وسجوده، هل يعتدّ بتلك الركعة والسجدة؟ قال(ع): (إذا شك فليمض في صلاته)(4).

يقع في سند هذه الرواية عبد الله بن الحسن الذي لم يوثّق في كتب الرجال، ومن هنا لا تخلو الرواية من إشكال في سندها.


1 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص599رقم1050، وقد كتب الشيخ الطوسي في الفهرست: (أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وأعبدهم وكان يصلّي كل يوم وليلة خمسين ومئة ركعة ويصوم في السنة ثلاثة أشهر) الفهرست ص145رقم356. ويصفه النجاشي بأنّه: (صفوان بن يحيى أبو محمد النخلي بيّاع السابري كوفي ثقة ثقة روى أبوه عن أبي عبد الله(ع) وروى هو عن الرضا(ع) وكانت عنده منزلة شريفة) رجال النجاشي ص197رقم524.

2 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص173رقم463، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص222رقم581، محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص441رقم705.

3 . عبدالله بن جعفر الحميري: قرب الإسناد ص198حديث755.

4 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة239:8باب23من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث9.

أمّا معنى الرواية فهو إنّ علي بن جعفر(ع) يروي عن أخيه الإمام الكاظم(ع) في رجل قد ركع وهو لا يعلم هل كبّر أولا؟ أو كان في السجود وشك في ذكر الركوع فهل يعتني بتلك الركعة من الصلاة وسجودها؟ فيجيب الإمام(ع) بأنّه كلّما شك في صلاته لا يعتني بشكه ويبني على أنّه قد أتى بها ولو لاحظنا سؤال الراوي وجواب الإمام(ع) في الرواية تبيّن لنا بوضوح أنّ الرواية ناظرة إلى الشكّ بعد تجاوز محل العمل المشكوك.

ومن هنا يمكن جعل هذه الرواية كدليل من أدلّة قاعدة التجاوز، وعلى هذا فأنّها مختصة بباب الصلاة ولا تعم سائر أبواب الفقه.

7 ـ وعن المفيد عن أحمد بن محمد، عن أبيه عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبد الكريم بن عمرو، عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع) قال: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيءٍ، إنّما الشكّ في شيءٍ لم تجزْه)(1).

سند الرواية: (وعن المفيد) يعني أن الشيخ الطوسي يروي عن الشيخ المفيد.

(أحمد بن محمد) يراد به أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد وهو من مشايخ الشيخ المفيد(ره) ثقة جليل القدر(2).


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام105:1حديث262، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة469:1باب42من أبواب الوضوء حديث2.

2 . الجدير بالذكر أنّه لم يذكر له اسمٌ في الكتب الرجالية القديمة لكن العلامة الحلي(ره) صحّح حديثه (مختلف الشيعة91:1مسألة49) كما وثّقه الشهيد الثاني والشيخ البهائي (الرعاية في علم الدراية371:4والحبل المتين56:1هامش رقم1) أمّا السيد الخوئي فيرى أن إثبات توثيق أحمد بن محمّد أمر غير ممكن نهائياً (معجم رجال الحديث2571:2رقم844) ومع ذلك كلّه فإنّ الحكم بتوثيق أحمد بن محمد وجلالة قدره أمر ممكن بالنظر إلى القرائن الدالة على وثاقته، ومنها كثرة رواياته وفتوى الفقهاء الأعاظم على طبقها أمثال الشيخ المفيد، وقد ذهب إلى ذلك أستاذنا المعظم. (عبد الله مامقاني: تنقيح المقال في علم الرجال246:7رقم502).

(أبيه) هو محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد فقيه وشيخ القميين، ومن ثقات الشيعة الأجلاء(1).

(سعد بن عبد الله) هو سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي من فقهاء قم وهو ثقة جليل الشأن كثير التصانيف(2).

(أحمد بن محمد بن عيسى) هو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي من أصحاب الإمام الرضا(ع) ومن ثقات الإمامية وقد قالوا فيه: (أبو جعفر(ره) شيخ القميين ووجههم وفقيههم)(3).

أمّا ترجمة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي فقد ذكرت في الروايات السابقة.

(عبدالكريم بن عمرو) يراد به عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي الكوفي يقول فيه النجاشي(ره): (روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن8 ثمّ وقف على أبي الحسن(ع)، كان ثقة عيناً يُلَقّب كرّاماً)(4).

ذكره الشيخ الطوسي أيضاً في عداد أصحاب الإمام الكاظم(ع) وقال فيه: (كوفي واقفي خبيث، له كتاب، يروي عن أبي عبد الله(ع)) وعليه فقد كان من أجلاء الإمامية وصار واقفي المذهب.


1 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص383رقم1042، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص237رقم709.

2 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص177رقم467، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص135رقم316، السيد أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث74:8رقم5048.

3 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص81رقم198، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص68رقم75، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج2ص296رقم898.

4 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص245رقم645.

5 . محمد بن حسن الطوسي: رجال الطوسي ص339رقم5051، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث65:10رقم6618.

أمّا الروايات التي يرويها مشايخه عنه فأنّها تعود إلى ما قبل صيرورته واقفياً.

(عبد الله بن أبي يعفور) هو عبد الله بن أبي يعفور العبدي قال النجاشي: (ثقة، ثقة، جليل في أصحابنا كريم على أبي عبد الله(ع) ومات في أيّامه، وكان قارئاً يُقرئ في مسجد الكوفة)(1) وقد ذكره الشيخ الطوسي في عداد أصحاب الإمام الصادق(ع) (2).(3)

وعليه فإنّ هذه الرواية موثّقة وذلك لوقوع عبد الكريم بن عمرو الخثعمي في سلسلة سنده.

معنى الرواية: يقول الإمام الصادق(ع) في هذه الرواية: إذا شككت في أي فعل من أفعال الوضوء وقد انتقلت إلى غيره فلا اعتبار بشكك والشك المعتبر هو الشكّ في شيء لم تتجاوز عنه.

وفي هذه الرواية عدة نقاط وقع الخلاف فيها، الاولی: ضمير الغائب في قوله(ع): (دخلت في غيره) هل يرجع إلى كلمة (شيءٍ) أو كلمة (الوضوء)؟ الظاهر لأول وهلة أنه يعود إلى (شيءٍ) فيكون المعنى: كلّما شُك في جزءٍ من أفعال الوضوء كغسل الوجه مثلاً وقد انشغل بغيره كغسل اليدين لا يُعتنى بشكه.

النقطة الثانية أنّه ما المراد من قوله(ع): (إذا شككت؟) هل يراد به الشكّ في


1 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص213رقم556.

2 . محمد بن حسن الطوسي: رجال الطوسي ص230رقم3106وص264رقم3776.

3 . عدّه الشيخ المفيد في الرسالة العددية من زمرة الفقهاء حيث يقول: (من الفقهاء الأعلام والرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم ولا طريق لذمّ واحدٍ منهم) (سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ج9 جوابات أهل الموصل في العدد والرؤية ص25)، ولمزيد من المعلومات عن أحوال عبد الله بن أبي يعفور راجع:
أ ـ اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص320رقم453وما يلي.
بـ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: ص195رقم610.
ج ـ معجم رجال الحديث96:10رقم6680.

ؤحكإتيان الشيء؟ أو الشكّ في صحة الشيء المأتي به؟ أو أن العبارة لها إطلاق يشمل كليهما؟ وسنوضح الجواب عن هذه الأسئلة في الأبحاث القادمة إن شاء الله.

ولابدّ من القول فيما يتعلّق بذيل الرواية بأنّ الإمام(ع) إنّما هو في مقام بيان ضابط كلّي بقوله: (إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه).

8 ـ وعنه (عن محمد بن علي بن محبوب) عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله(ع): رجل شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة؟ قال(ع): (يمضي في صلاته ولا يعيد)(1).

سند الرواية: (وعنه) ينقل الشيخ الطوسي هذه الرواية عن محمد بن علي بن محبوب، وطريق الشيخ(ره) إليه هو كالتالي:

(فقد أخبرني به الحسين بن عبيد الله، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن أبيه محمد بن يحيى، عن محمد بن علي بن محبوب)(2).

(يعقوب بن يزيد) هو يعقوب بن يزيد بن حمّاد الأنباري السلمي، من ثقات الإمامية الأجلاء وهو كثير الرواية (3).

والحديث عن ابن أبي عمير ومحمد بن مسلم فقد سبق في الروايات السابقة.

دلالة الرواية: يقول محمد بن مسلم، سألت الإمام الصادق(ع) عن رجل شك


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام105:1حديث364، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة47:1باب42من أبواب الوضوء حديث5.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام387:1رقم17 وفي طريق الشيخ إلى محمد بن عليّ بن محبوب يقع أحمد بن محمد بن يحيى العطّار الذي رآه أستاذنا الجليل في ذيل الرواية الثالثة من الروايات المذكورة بأنّه غير موثق، وعليه يقع الإشكال في سند هذه الرواية لكنّنا كما بيّنا في هامش ذلك المطلب يمكن أن نلتزم بوثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطار نظراً إلى بعض القرائن.

3 . محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص264رقم807، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص450رقم1215، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث147:20رقم13749.

في وضوئه بعد الفراغ من صلاته فأجاب الإمام(ع) فليمض على صلاته وليبنِ على أنّه قد أتى بالوضوء ولا لزوم لإعادة الصلاة.

في هذه الرواية أيضاً كسابقتها وقع الخلاف في أنّ المراد من الشكّ هل هو الشكّ في صحّة وضوئه أو الشكّ في أصل فعل الوضوء أوله إطلاق يشمل كليهما؟ الظاهر أنّ المراد هو الشكّ في أصل إتيان الوضوء بأنّ يشك الإنسان بأنّه هل صلّى مع الوضوء أو بدونه؟

9 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن موسى بن جعفر، عن أبي جعفر عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن الحسن بن علي بن فضّال، عن عبد الله بن بكير، عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: (كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فذکرته تذكّراً فامضه ولا إعادة عليك فيه)(1).

سند الرواية: (محمد بن الحسن بإسناده عن سعد بن عبد الله) طريق الشيخ الطوسي وفقاً لما ذُكر في (المشيخة) هو: (فقد أخبرني به الشيخ أبو عبدالله(2)، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه(3)، عن أبيه(4)، عن سعد بن عبد الله. وأخبرني


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام387:1حديث1104، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة471:1باب42من أبواب الوضوء حديث6.

2 . يراد به الشيخ المفيد الذي هو من كبار فقهاء الإمامية.

3 . يقول فيه النجاشي: (كان أبو القاسم من ثقات أصحابنا وأجلائهم في الحديث والفقه... وكلّ ما يوصف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه) رجال النجاشي ص123رقم318.

4 . يقول فيه النجاشي: (من خيار أصحاب سعد) المصدر نفسه. ويقول فيه العلامة التقرشي: (وأصحاب سعد على ما يفهم أكثرهم ثقات... فكأن قول النجاشي: إنّه من خيار أصحاب سعد يدلّ على توثيقه)نقد الرجال305:4رقم5017/661، وينقل السيد ابن طاووس خلال ترجمته للحسن بن علي بن فضّال حديثاً عن محمد بن قولويه ثم يقول فيه: (أقول: إني لم أتثبت حال محمد بن عبد الله بن زرارة وباقي الرجال موثقون) كما يقول صاحب المعالم في الحاشية (فهنا نصّ على توثيق محمد بن قولويه وعلي بن ريّان)التحرير الطاووسي ص75-76رقم95.

به أيضاً الشيخ(ره) عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين(1)، عن أبيه(2) عن سعد بن عبد الله)(3) وهذا الطريق طريق صحيح.

(سعد بن عبد الله) هو سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي، جليل من كبار الفقهاء ومن ثقات الإمامية، له مؤلفات كثيرة(4).

(موسى بن جعفر) هو موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، ذكره الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي في كتبهما إلا أنّهما لم يذكرا عن وثاقتهما شيئاً(5).

(أبي جعفر) هو إمّا أحمد بن محمد بن خالد البرقي أو هو أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري وكلاهما من الثقات.

(الحسن بن الحسين اللؤلؤي) ضعّفه بعض علماء الرجال(6) بينما وثّقه النجاشي(7) وما نعتقده هو أنّه كلّما دار الأمر بين توثيق النجاشي(ره) وتضعيف الآخرين ووقع التعارض بينهما، قدّم قول النجاشي على أقوال الآخرين.

(الحسن بن علي بن فضال) كان فطحي المذهب معتقداً إمامة عبدالله بن جعفر(ع)


1 . يراد به الشيخ الصدوق ويقول عنه النجاشي: (نزيل الرّي شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان)رجال النجاشي ص389رقم1049، ويصفه الشيخ الطوسي بقوله: (جليل القدر يكنّى أبا جعفر كان جليلاً حافظاً للأحاديث بصيراً بالرجال ناقداً للأخبار لم يُر في القميّين مثله في حفظه وكثره عمله)الفهرست ص237رقم710.

2 . عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي أبو الحسن وهو والد الشيخ الصدوق يقول النجاشي في ترجمته: (شيخ القميّين في عصره ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم...)رجال النجاشي ص261رقم684، وقال عنه الشيخ الطوسي: (كان فقيهاً جليلاً ثقة)الفهرست ص157رقم392.

3 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام388:10 رقم19.

4 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص177رقم467، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص135رقم316، أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث74:8رقم5048.

5 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص406رقم1076، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص243رقم719.

6 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج4ص308-311رقم2784.

7 . يقول فيه: (كوفي ثقة كثير الرواية له كتاب مجموع نوادر)رجال النجاشي ص40رقم83.

أولاً لكنّه رجع عن ذلك حين وفاته وصار يؤمن بإمامة موسى بن جعفر(ع).

قال عنه الشيخ الطوسي: (روى عن الرضا(ع) وكان خصّيصاً به، كان جليل القدر، عظيم المنزلة زاهداً ورعاً ثقة في الحديث وفي رواياته...)(1) وهو من أصحاب الإجماع على رأيٍ(2).

(عبد الله بن بكير) أيضاً من أصحاب الإجماع، وقد سبق ذكره وذكر محمد بن مسلم الذي هو من الرواة الأجلاء عند ذكرنا للرواية الخامسة.

مدلول الرواية: أنّه كلّما مضى من صلاتك وطهورك ثمّ تذكّرته ابْن ِ على أنّك أتيت به ولا تجب عليك إعادته.

ولابدّ من حمل قوله(ع): (فذكرته تذكّراً) على معنى (فشككت فيه شكّاً) لتدلّ الرواية على قاعدة الفراغ والتجاوز بمعنى أنّك لو شككت بعد إتمام الصلاة أو الوضوء أو الغسل في إتيان جزءٍ من الأجزاء فابن على أنّك أتيت بذلك الجزء ولا تجب الإعادة وعلى هذا فإنّ كلمة (تذكّراً) معناها الالتفات ثانية إلى صحة ذلك الشيء أو إتيانه وهذا هو معنى الشكّ.

وهنا يمكن أن يقال بأنّ المراد بقوله: (فذكرته تذكّراً) هو أن يتذكّر الإنسان بأنّه ترك جزءاً غير ركني من الصلاة كذكر الركوع على سبيل المثال فإنّ الفقهاء يفتون بعدم وجوب الإعادة هنا(3) لكن لمّا كانت الرواية ذكرت كلمة (طهورك) إلى جانب (صلاتك) يتّضح لنا عدم تمامية هذا المعنى وعدم صحة هذا القول


1 . الفهرست ص98رقم164، أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي34رقم73، السيد أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث44:5رقم2983.

2 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص441رقم705.

3 . على سبيل المثال راجع: المبسوط لمحمد بن حسن الطوسي302:1، وذكرى الشيعة للشهيد الأول57:4، وجامع المقاصد للمحقّق الكركي490:2، ومفتاح الكرامة للسيد محمد جواد الحسيني العاملي397:9وما بعدها، وجواهر الكلام لمحمد حسن النجفي274:12، والعروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي219:3مسألة18.

لأنّ المصلي إذا قام إلى الصلاة فتذكّر في الأثناء أنّه لم يتوضّأ، أو أنّه حتى لو أتمّ صلاته ثمّ علم أنه لم يتوضّأ قبل الصلاة وجب عليه أن يتوضّأ ويعيد صلاته(1)، ومن هنا فلابدّ من الالتزام بأنّ المراد بقوله (تذكّرته تذكّراً) هو الشكّ في العمل وذلك بقرينة كلمة (طهورك).

10 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن بكير بن أعين قال: قلت له: الرجل يشك بعدما يتوضأ؟ قال(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك)(2).

سند الرواية: الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن سعيد، وقد ذكرنا طريق الشيخ الطوسي(ره) إلى حسين بن سعيد وبيّنا أحواله في الرواية الخامسة وقلنا بأنّ هذا الطريق طريق صحيح قابل للركون إليه.

(عن فضالة) هو فضالة بن أيوب الأزدي من أصحاب الإمام موسى بن جعفر(ع) وهو من ثقات الإمامية(3)، وقد قيل بأنّه من أصحاب الإجماع(4).

(عن أبان بن عثمان) هو أبان بن عثمان الأحمر البجلي من أصحاب الإمام الصادق(ع) وله أصل(5).


1 . على سبيل المثال راجع المبسوط119:1لمحمد بن حسن الطوسي، وقواعد الأحكام للعلامة الحلّي304:1، وذكرى الشيعة للشهيد الأول32:4، وجامع المقاصد للمحقق الكركي488:3، ومفتاح الكرامة للسيد محمد جواد الحسيني العاملي268:9، وجواهر الكلام لمحمد حسن النجفي238:12، والعروة الوثقى للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي311:3مسألة5.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام105:1حديث265، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة471:1باب42من أبواب الوضوء حديث7.

3 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص310رقم850، محمد بن حسن الطوسي: رجال الطوسي ص342رقم5092، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث271:13رقم9328.

4 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص599رقم1050.

5 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص13رقم8، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص59رقم62، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج1رقم17ورقم18ورقم37.

(بكير بن أعين) هو بكير بن أعين بن سنسن الشيباني الكوفي من أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق8 حيث توفي أيام حياة الإمام الصادق(ع)(1).

يروي المرحوم الكشي روايتين في مدحه وكلتاهما صحيحة وقد جاء في إحداهما: (إنّ أبا عبدالله(ع) لمّا بلغه وفاة بكير بن أعين قال: أمّا والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما) ، وعليه فإنّه من ثقات الإمامية.

هذا ولكن الإشكال في هذه الرواية أنّها مضمرة حيث لم يُذكر فيها اسم الإمام المروي عنه لكن لمّا كان المُضْمِر هو بكير بن أعين لا يخلّ الإضمار بالرواية لأنّه لا يروي عن غير الإمام(ع) شيئاً.

دلالة الرواية: يسأل بكير بن أعين في هذه الرواية من الإمام(ع) حكم من شك في الوضوء بعد الفراغ فأجابه الإمام(ع) بأنّ هذا الشخص في حالة الوضوء أكثر التفاتاً من زمان شكه.

بالنظر إلى جواب الإمام(ع) فإنّ هذه الرواية تفيد بأنّ المعيار في عدم الاعتناء بالشك هو الالتفات والذكر حالة الوضوء وأنّ الإنسان حين قيامه بأيّ عمل يكون التفاته إلى أجزاء عمله وشرائطه أكثر منه بعد الانتهاء من العمل.

والأمر الآخر: هو أنّ هذه الرواية بحسب الظاهر مختصّة بباب الوضوء فلا تشمل سائر أبواب الفقه إلا أنّ يقال بأن عبارة (هو حين يتوضأ) في مقام التعليل فتكون العبارة من باب ذكر العلة في مقام بيان المعلول فهي تقوم مقام (ولا يعيد الوضوء) ولمّا كان التعليل بالأمر العقلي شاملاً لغير مورد السؤال جاز أن تجعل الرواية دليلاً


1 . محمد بن حسن الطوسي: رجال الطوسي ص127رقم1293وص170رقم (1992)43، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث359:3رقم1875.

2 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص255 رقم315 ورقم316 وص238 رقم270 ورقم271.

على القاعدة وتعميم هذه القاعدة على جميع أبواب الفقه، مضافاً إلى أنّه يمكن القول بأنه لا خصوصية لعبارة (حين يتوضّأ) ولا علاقة لها في الحكم، ومن هنا يمكن إلغاء الخصوصية وإجراء قاعدة الرواية في سائر أبواب الفقه أيضاً.

11 ـ عبدالله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن عبد الله بن الحسن عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(ع) قال: سألته عن رجل يكون على وضوء وشكّ على وضوء هو أم لا؟ قال(ع): (إذا ذكر وهو في صلاته انصرف وتوضّأ وأعادها وإذ ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك)(1).

سند الرواية: (عبد الله بن جعفر) هو أبو العباس عبد الله بن جعفر بن الحسن بن مالك بن جامع الحميري شيخ القميين وكبيرهم وله مؤلّفات كثيرة وهو من ثقات الإمامية ومن أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري(عليهما السلام)(2).

(عبد الله بن الحسن) لم يُذكر هذا الراوي ولم يُوثّق في الكتب الرجالية وهو مجهول كما ذكرنا ذلك في الرواية السادسة وعلى هذا يكون الخلل في سند الرواية.

معنى الرواية: يسأل علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(ع) عن حكم رجل كان متوضّئاً ثمّ شك في أنه متوضّئ أو لا، ويجيبه الإمام(ع) بأنّه إذا شك في ذلك أثناء الصلاة وجب عليه أن يقطع صلاته ويتوضّأ ثمّ يستأنف الصلاة، أمّا إذا شك بعد الفراغ من الصلاة فلا داعي إلى التوضؤ ويكفيه ذلك.

حول دلالة هذه الرواية على قاعدة الفراغ يقول صاحب الوسائل(ره):

(أقول: هذا محمول على الاستحباب لما مرّ وآخره قرينة ظاهرة على ذلك،


1 . عبد الله بن جعفر الحميري: قرب الإسناد ص177حديث651، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة473:1باب44من أبواب الوضوء حديث2.

2 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص219رقم573، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص167 رقم439، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث139:10 رقم6755وص147رقم6760.

ويمكن حمله على أنّ المراد بالوضوء الاستنجاء)(1).

لابدّ من القول بعدم دلالة هذه الرواية على قاعدة الفراغ والتجاوز، وعليه يجب حمل هذه الرواية أمّا على استصحاب الوضوء السابق أو على الاستحباب أو يقال كما عليه صاحب الوسائل من أنّ المراد بالوضوء هو الاستنجاء، هذا لكن لمّا كان الإشكال في سند الرواية فلا حاجة إلى التدقيق في دلالة متنها.

12 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبدالله(ع): أشكّ وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا، قال(ع): (امض)(2).

سند الرواية: ذكر في البحث عن سند الرواية الخامسة أنّ إسناد الشيخ الطوسي(ره) وطريقه إلى الحسين بن سعيد الأهوازي طريق صحيح يُعتمد عليه.

(فضالة) هو فضالة بن أيوب الأزدي حيث ذكرناه في البحث عن سند الرواية العاشرة وهو من أصحاب الإمام موسى بن جعفر(ع)، وقيل هو من أصحاب الإجماع.

(حمّاد بن عثمان) هو حمّاد بن عثمان بن عمرو بن خالد الفزاري، من ثقات الإمامية في الكوفة يروي عن الأئمّة الصادق والكاظم والرضا(ع) ، وعليه فلا


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة473:1.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:2حديث593، الاستبصار532:1حديث5/1355، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة317:6باب13من أبواب الركوع حديث1.

3 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص143رقم371، ويقول عنه الشيخ الطوسي: (حمّاد بن عثمان الناب ثقة جليل القدر له كتاب)الفهرست ص115رقم240. والظاهر من كلمات العلامة الحلّي في خلاصة الأقوال ص125 وابن داوود في رجال ابن داوود ص131-132 أنّهما جعلا لكلّ من حماد بن عثمان الناب وحمّاد بن عثمان الفزاري عنواناً مستقلاً فيستفاد أنّهما شخصان إلاّ أنّ السيد الخوئي في معجم رجال الحديث ج6ص213-215 يذكر أنّهما شخص واحد بالاعتماد على بعض القرائن، ولمّا كان كلاهما ثقة وجليل القدر لا يفرق في صحة الرواية سواء كانا شخصاً واحداً أو شخصين مختلفين، وذكره الكشّي أيضاً ضمن أصحاب الإجماع (اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص441رقم705).

إشكال في سند الرواية وتكون الرواية صحيحة.

دلالة الرواية: في هذه الرواية يسأل حماد بن عثمان عن الإمام الصادق(ع): بقوله: أشك في أثناء الصلاة وأنا ساجد في أنّي هل ركعت أو لا؟ ماذا أصنع؟ ويجيب الإمام(ع) بقوله: (لا تعتن بشكك وابنِ على أنك أتيت بالركوع).

كما تلاحظون فإنّ الرواية تدلّ على قاعدة الفراغ والتجاوز ولا إشكال في دلالتها.

13 ـ وعنه عن صفوان، عن حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله(ع): أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال(ع): (قد ركعت، امضه)(1).

سند الرواية: (وعنه) يراد به الحسين بن سعيد الأهوازي الذي يُسند إليه المرحوم الشيخ الطوسي وطريقه إليه طريق صحيح كما ذكرنا.

(صفوان) هو صفوان بن يحيى أبو محمد البَجلي بيّاع السابريّ من ثقات الإمامية الأجلاء، يروي أبوه عن الإمام الصادق(ع) وهو يروي عن الإمام الرضا(ع) وكان له مكانته المميّزة عند الإمام(ع) وهو من أصحاب الإجماع(2).

(حماد بن عثمان) ذكرنا حاله في الرواية السابقة.

النقطة الأخرى هي أنّ الروايتين رواية واحدة ولا تحتسبان روايتين مستقلتين لأنّ الراوي الأوّل الذي يروي مباشرة عن الإمام(ع) شخص واحد هو حماد بن عثمان والمروي عنه هو الإمام الصادق(ع)، وعليه لا بد من الالتزام بأنّ الروايتين رواية واحدة نُقلت عن طريقين.


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:2حديث594، والاستبصار533:1حديث6/1356، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة317:6باب13من أبواب الركوع حديث2.

2 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص197رقم524، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص145رقم356، واختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص599رقم1050.

دلالة الرواية: عبارات هذه الرواية تُشبه عبارات الرواية السابقة وتختلفان في جواب الإمام الصادق(ع) فقط حيث إنّ الإمام(ع) يقول في الرواية السابقة (امض) لكنه(ع) يقول في هذه الرواية: (قد ركعت امض) أي أنّ الإمام(ع) حسب نقل الرواية الثانية يقول لحمّاد بن عثمان: ابن ِ على أنّك ركعت وأنّك في حكم من ركع تعبّداً.

أمّا قوله(ع) في الرواية الأولى (امض) فهو أعم من أنّك ركعت أو لم تركع.

ولهذا المطلب ثمرتان فقهيتان أيضاً حيث أنه لو صار الإنسان مثلاً أجيراً لإتيان حج وبجميع أجزائه وشرائطه ولا يكون الغرض إتيان الحج المبرئ للذمّة فقط فإذا شكّ هذا الأجير بعد الخروج من الإحرام في أنّه هل جاء بالطواف أولا؟ فإن قلنا بأنّ الشارع من خلال قاعدة الفراغ قد عبّده على أنه قد أتى بالمشكوك فيه كان عمله تام الأجزاء قد فعل ما استؤجر له.

أمّا لو لم نقل بهذا التعبّد الشرعي من خلال قاعدة الفراغ فإنّ عمله هذا وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لم يكن تام الأجزاء والشرائط وعليه فلم يأت الأجير بما استؤجر له.

14 ـ وعنه عن فضالة، عن أبان عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال(ع): (بلى قد ركعت، فامض في صلاتك، فإنّما ذلك من الشيطان)(1).

سند الرواية: (وعنه) المراد منه حسين بن سعيد الأهوازي، وقد ذكرنا أن طريق الشيخ الطوسي إليه طريق صحيح.


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:3حديث592، والاستبصار532:1حديث4/1354، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة317:6باب13من أبواب الركوع حديث3.

(فضالة) هو فضالة بن أيوب الأزدي وقد ذكرنا في البحث السندي للرواية العاشرة أنّه من ثقات الإمامية ومن أصحاب الإمام موسى بن جعفر(ع) وهو على قول من أصحاب الإجماع أيضاً.

(أبان) هو أبان بن عثمان الأحمر البجلي، وقد سبق الكلّام حوله في الرواية العاشرة.

(الفضيل بن يسار) هو الفضيل بن يسار النهدي من أصحاب الإمام الباقر(ع) والإمام الصادق(ع) ويقول فيه الإمام الصادق(ع): (إنّ فضيلاً من أصحاب أبي وإنّي لأحبّ الرجل أن يُحبّ أصحاب أبيه)(1) وهو من ثقات الإمامية الأجلاّء ومن أصحاب الإجماع(2).

دلالة الرواية: سأل فضيل بن يسار من الإمام الصادق(ع): أشك وأنا قائم حال الصلاة في أني ركعت أم لا؟ ماذا أصنع؟ يجيب الإمام الصادق(ع): (بأنّك أتيت بالركوع فامض في صلاتك فإنّما ذلك الشكّ من الشيطان).

أمّا فيما يتعلّق بالقيام الكامل (أستتم قائماً) المذكور في الرواية ففيه احتمالان:

الأوّل: أنّ المراد هو القيام بعد السجود، وعليه يكون مفاد الرواية عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل، وقد ذكر هذا الاحتمال الشيخ الطوسي أيضاً،(3) وعلى هذا تدلّ الرواية على قاعدة الفراغ والتجاوز.

الثاني: أنّ المراد هو القيام قبل السجود، وعليه لما لم يمض محل الركوع فإنّ الروايات الكثيرة دالة على وجوب الإتيان بالركوع، وقد أفتى بمقتضاها الفقهاء(4)،


1 . محمد بن حسن الطوسي: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص285رقم380.

2 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص309رقم846، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص312 رقم431، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث325:13 رقم9436.

3 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:2ذيل حديث593.

4 . السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي: العروة الوثقى234:3مسألة10.

فهذه الرواية إنّما تدلّ على قاعدة الفراغ والتجاوز فيما لو أريد بالقيام بعد السجود ولكن لا بد من الالتزام بعدم ارتباطها بقاعدة الفراغ لقوله(ع) في ذيل الرواية: (إنّما ذلك من الشيطان) وهو قرينة على أنّ مراد الإمام(ع) هو الشكّ الخاص إذ ليس الشيطان منشأً لكلّ شكٍ وإنما شك کثير الشكّ والوسواس فقط من قبل الشيطان.

وبعبارة أوضح أنّ السؤال في الرواية إنّما يتعلّق بمن تحصل له هذه الحالة دائماً أي أنّه كلّما أكمل القيام شك في أنه ركع أم لم يركع، ومن هنا تختص الرواية بكثير الشكّ(1) وتفيد قاعدة (لا شك لكثير الشكّ) وبالتالي لا يمكن عدّها في عداد الروايات الدالة على قاعدة الفراغ والتجاوز.

15ـ وبإسناده عن سعد عن أحمد بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن جابر، قال: قال أبو جعفر(ع): (إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض، كلّ شيءٍ شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه)(2).

سند الرواية: (سعد) هو سعد بن عبد الله الأشعري القمي، من ثقات الإمامية وفقهائهم الأجلاء(3)، وقد بيّنا طريق الشيخ الطوسي(ره) إليه في البحث عن سند


1 . يقول صاحب الوسائل أيضاً في ذيل هذه الرواية: (أقول ويمكن الحمل على كثير السهو بقرينة آخره) وسائل الشيعة 317:6.

2 . محمد بن حسن الطوسي: الاستبصار532:1حديث9/1359، وتهذيب الأحكام162:2حديث602، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة317:6باب13من أبواب الركوع حديث4.
ومما يلزم ذكره أن الشيخ الطوسي قد نقل هذه الرواية في الاستبصار عن الإمام الباقر(ع) بينما يرويها في تهذيب الأحكام عن الإمام الصادق(ع) وينقلها صاحب الوسائل كما جاء في الاستبصار.

3 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص177رقم467، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص135رقم316، السيد أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث74:8رقم5048.

الرواية التاسعة فلا حاجة إلى الإعادة.

(أحمد بن محمد) هو أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي شيخ القميين وفقيههم ومن ثقات الإمامية(1).

(أبيه) هو محمد بن عيسى بن عبد الله الأشعري القمي الذي يصفه النجاشي بشيخ القميين ووجه الأشاعرة لكنّه لا يوثقّه(2).

(عبد الله بن المغيرة) هو عبد الله بن المغيرة أبو محمد البجلي من ثقات الإمامية(3).

(إسماعيل بن جابر) هو إسماعيل بن جابر الجعفي الخثعمي الكوفي الذي روى حديث الأذان وهو من ثقات أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)(4).

دلالة الرواية: يقول الإمام(ع) في هذه الرواية لو شك المكلّف بعد السجود في الركوع لا يعتني بشكه ويبني على أنه فعله وكذا لو شك في السجود بعد القيام ثمّ يبيّن الإمام(ع) قاعدة كلّية في ذيل الرواية بقوله: (كلّ شيءٍ شك فيه


1 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص81رقم198، محمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص135 رقم75، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج2رقم780و897 و898و901و902.

2 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص338رقم905، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج17رقم11506و11507 لكن الشهيد الثاني صرّح بوثاقته في شرح الشرائع (مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائح الإسلام31:12)، ويذكر الشيخ عبد النبي الجزائري بأنّ توثيق محمد بن عيسى أمر مستبعد نظراً إلى وجود القرائن (حاوي الأقوال242:2رقم602).

3 . يقول النجاشي في ترجمته: (كوفي ثقة ثقة لا يعدل به أحدٌ من جلالته ودينه وورعه روى عن أبي الحسن موسى(ع)...) رجال النجاشي ص215رقم561. ويعدّه الكشّي من أصحاب الإجماع (اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي ص599 رقم1050).

4 . أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص32رقم71، محمد بن حسن الطوسي: رجال الطوسي ص124 رقم (1246)18، أبو علي الحائري: منتهى المقال في أحوال الرجال49:2 رقم337، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث115:3رقم1302.

مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه).

ويمكن أن يقال في هذه الرواية: بأنّ صدر الرواية لمّا كان مرتبطاً بركوع الصلاة وسجودها وقيامها فإن الصدر يخصص ذيل الرواية ويكون قرينة على أنّ المراد من (كلّ شيءٍ شك فيه) هو كلّ شيء من أجزاء الصلاة شك فيه، وعليه فلا تعم القاعدة سائر أبواب الفقه، هذا ولكن لمّا كان المورد لا يخصص الوارد كما بيّنا ذلك مراراً في الأصول فإن صدر الرواية فيما نحن فيه وإن كان متعلقاً بموردين من باب الصلاة إلا أنّه لا يقيد ذيل الرواية بل تبقى القاعدة المبينة في الذيل على كليتها، وبالتالي تصلح هذه الرواية لأن تكون من أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز.

وفي هذا المجال يرى الإمام الخميني(ره) بأن المستفاد من هذه الرواية هو الضابط الكلّي ولا تكون هذه الرواية أقل من الصحيحة في باب الاستصحاب في إفادة القاعدة(1).

هناك ثلاث روايات أخرى في هذا الباب من كتاب (وسائل الشيعة) وهي شبيهة بالرواية السابقة ولا شيء زائد فيها ومن هنا فإنّنا نكتفي بذكرها من غير تعليق عليها:

16 ـ وعنه (أي سعد)(2) عن أبي جعفر يعني أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد،(3) عن فضالة، عن العلاء بن رزين(4) عن محمد بن مسلم عن أحدهما(ع)


1 . الإمام الخميني: الاستصحاب ص307-308.

2 . سعد بن عبد الله الأشعري القمي ثقة (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص177رقم467، ومحمد بن حسن الطوسي: الفهرست ص135رقم316).

3 . الحسين بن سعيد بن مهران الأهوازي ثقة (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص58رقم137، والسيد أبو القاسم الخوئي: معجم رجال الحديث ج5رقم3414و3415).

4 . العلاء بن رزين القلاء ثقفي ثقة وجهاً جليل القدر (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص298رقم811، والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج11رقم7763).

قال: سألته عن رجل شك بعدما سجد أنه لم يركع؟ قال(ع): (يمضي في صلاته)(1).

17 ـ وعنه (أي سعد) عن أبي جعفر، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله [الميمون البصري](2) قال: قلت لأبي عبدالله(ع): رجل أهوى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال(ع): (قد ركع)(3).

18 ـ محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن العلاء،(4) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) في رجلٍ شك بعد ما سجد أنّه لم يركع فقال(ع): (يمضي في صلاته حتى يستيقن أنه لم يركع...) الحديث(5).

ونذكر هنا أيضاً روايتين أخريين كأدلة على قاعدة الفراغ والتجاوز.

19 ـ محمد بن إدريس في آخر (السرائر) نقلاً من كتاب حريز بن عبد الله(6)


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:2حديث595، والاستبصار533:1حديث7/1357، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة318:6باب13من أبواب الركوع حديث5.

2 . ثقة من أصحاب الصادق(ع) (السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج9رقم6/6326).

3 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام160:2، والاستبصار533:1، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة318:6باب13من أبواب الركوع حديث6.

4 . يقول الشيخ الصدوق في طريقه إلى العلاء بن رزين: (فقد رويته عن أبي ومحمد بن الحسن (رضي الله عنهما) عن سعد بن عبد الله والحميري جميعاً عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن خالد عن العلاء بن رزين، وقد رويته عن أبي ومحمد بن الحسن (رضي الله عنهما) عن سعد بن عبد الله والحميري جميعاً عن محمد بن أبي الصهبان عن صفوان بن يحيى عن العلاء ورويته عن أبي (رض) عن علي بن سليمان الزراري الكوفي عن محمد بن خالد عن العلاء بن رزين القلاء، ورويته عن محمد بن الحسن (رض) عن محمد بن الحسن الصفّار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال والحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين (من لا يحضره الفقيه405:4) وهو طريق صحيح.

5 . الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه329:1حديث23/1006، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة318:6باب13من أبواب الركوع.

6 . قيل بضعف سند هذه الرواية لأن طريق ابن إدريس إلى كتاب حريز غير معلوم (السيد محمود الهاشمي: قاعدة الفراغ والتجاوز ص39).

عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: (إذا جاء يقين بعد حائلٍ قضاه ومضى على اليقين ويقضي الحائل والشك جميعاً فإن شكّ في الظهر فيما بينه وبين أن يصلّي العصر قضاها وإن دخله الشكّ بعد أن يصلّي العصر فقد مضت إلاّ أن يستيقن، لأنّ العصر حائل فيما بينه وبين الظهر فلا يدع الحائل لما كان من الشكّ إلاّ بيقين)(1).

20 ـ محمد بن الحسن بإسناده(2) عن موسى بن القاسم(3)، عن عبد الرحمن بن سيابة(4)، عن حماد(5)، عن حريز(6) عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل طاف بالبيت فلم يدر ستة طاف أو سبعة، طواف فريضة، قال(ع): (فليعد طوافه) قيل: إنّه قد خرج وفاته ذلك، قال(ع): (ليس عليه شيء)(7).


1 . أحمد بن إدريس الحلّي: كتاب السرائر588:3، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة283:4 باب60 من أبواب المواقيت حديث2.

2 . طريق الشيخ الطوسي إلى موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب هو كالتالي: (فقد أخبرني به الشيخ أبو عبد الله عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه عن محمد الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار وسعد بن عبد الله عن الفضل بن عامر وأحمد بن محمد عن موسى القاسم)تهذيب الأحكام390:10وهذا الطريق طريق صحيح.

3 . موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب البَجلي ثقة ثقة جليل واضح الحديث (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص405رقم1073، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث77:2رقم12863).

4 . المذكور في الرواية عبد الرحمن بن سيابة الذي هو من أصحاب الإمام الصادق(ع) وهو لا يقع في هذه الطبقة المذكورة في الرواية بل يجب أن يكون الراوي هنا عبد الرحمن بن أبي نجران وهو من ثقات أصحاب الإمام الرضا(ع) والإمام الجواد(ع) وهو الذي يروي عن حماد بن عيسى وليس عبد الرحمن بن سيابة وعليه فالظاهر أنّ هنا حصل خلطٌ وسهوٌ ما.

5 . حمّاد بن عيسى (أبو محمد الجهني) من أصحاب الصادق والكاظم والرضا(عم) ثقة رجع عن الوقف (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص142رقم370، والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج6 رقم3962).

6 . حريز بن عبد الله السجستاني أبو محمد الأزدي من أهل الكوفة، ثقة من أصحاب الصادق(ع) (أحمد بن علي النجاشي: رجال النجاشي ص144رقم375، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: معجم رجال الحديث ج4 رقم2637).

7 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام128:5حديث356، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة359:13باب33من أبواب الطواف حديث1.

هذه أهم الروايات التي استدلّ بها على قاعدة الفراغ وإلاّ فإن هناك روايات أخرى في هذا المجال، ويستفاد من جميعها هذه القاعدة الكلّية.

كما لا شكّ في دلالة هذه الروايات على الأمور التالية:

1 ـ عدم الاعتناء بالشك، والبناء على صحة العمل المأتي به فيما لو شك المكلّف في صحة العمل بعد الفراغ والانتهاء منه بشكل كامل، سواء كان العمل بسيطاً أو مركباً وسواء كان منشأ الشكّ في صحة عمله هو الشكّ في الإخلال بالجزء أو بالشرط أو الشكّ في وجود المانع (قاعدة الفراغ).

2 ـ عدم الاعتناء بالشك، والبناء على إتيان الجزء المشكوك فيما لو شك المكلّف في إتيان جزءٍ من المأمور به المركب فيما لو تجاوز محل ذلك الجزء المشكوك ودخل في الجزء التالي (قاعدة التجاوز).

وعلى هذا فإنّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز كلتيهما تستفادان من الروايات السابقة، هذا ولكن المهم الذي وقع النزاع فيه هو أن القاعدتين هل هما مجعولتان بجعل واحد أو أنّهما قاعدتان منفصلتان مستقلتان؟ وهل قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة عامة تجري في جميع أبواب الفقه أو هي مختصة بباب الصلاة والوضوء التي سنبحث عنها في المباحث القادمة إن شاء الله.

ولا بد قبل الخوض في البحث عن اتحاد القاعدتين أو تعدّدهما من معرفة المراد من (الشكّ) الوارد في الروايات السابقة.

ما المراد من الشكّ في الشيء؟

هناك أربعة احتمالات في خصوص المراد من الشكّ في الشيء المذكور في الروايات:

1 ـ الشكّ في أصل وجود العمل وتحققه.

2 ـ الشكّ في صحة العمل (بعد إحراز أصل وجوده).

3 ـ إنّ الروايات مطلقة تشمل كلا الشكلّين الشكّ في الصحة والشك في الوجود.

4 ـ إنّ الروايات مجملة لا دلالة لها على الشكّ في الوجود أو الشكّ في الصحة.

ولمعرفة إنّ المتعيّن هو أي واحد من هذه الاحتمالات الأربعة لابدّ من البحث أولاً عن إمكان الجمع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز في مقام الثبوت ووجود قدر جامع بينهما أو عدمه ثمّ البحث في مقام الإثبات في تعيين الاحتمال الصحيح في الروايات السابقة.

هذا وإن كان الإمام الخميني(قده) ذهب في هذا البحث إلى أنّ المراد بالشك في الشيء هو الشكّ في أصل وجود العمل وتحققه الشامل للشك في تحقق الجزء أو الشرط في العمل، ويرى أنّ الشكّ في صحة العمل ليس موضوع قاعدة التجاوز وهذا يوافق المتفاهم العرفي مضافاً إلى تأييد هذا الاحتمال من قبل الروايات الأخرى، لأنّ المتفاهم عرفاً من الشكّ هو الشكّ في الوجود لا الشكّ في الصحة(1).

وعلى هذا فإنّنا نبحث أولاً عن مسألة الجمع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز:

إتحاد قاعدتي الفراغ والتجاوز أو تغايرهما:

هناك نزاع هام في هذه القاعدة حول وجود قاعدتين إحداهما قاعدة الفراغ والأخرى قاعدة التجاوز أو أنّهما مجعولتان بجعل واحد في الشريعة؟ وقد


1 . الإمام الخميني: الاستصحاب ص312-314.

ذُكرت في هذا المجال ثلاثة فروق بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز مما يمكن جعلها سبباً في ظهور الاختلاف والتغاير بين القاعدتين وهذه الفروق الثلاثة هي كالتالي:

1 ـ مورد قاعدة الفراغ الشكّ في الصحة بينما مورد قاعدة التجاوز هو الشكّ في وجود العمل وتحققه.

2 ـ تجري قاعدة الفراغ في الأعمال البسيطة والمركبة بينما تجري قاعدة الفراغ في خصوص الأعمال المركّبة ولا تجري في الأعمال البسيطة.

هذا مضافاً إلى الفرق بينهما في الأعمال المركبة التي تجري فيهما كلتا القاعدتين حيث لا فرق في مورد قاعدة الفراغ بين أن يكون الشكّ في الصحة ناشئاً من احتمال الإخلال بالجزء أو الشرط أو من جهة وجود المانع، أمّا قاعدة التجاوز فأنّها تجري في الجزء المشكوك دون موارد احتمال وجود المانع، مع وجود الخلاف في موارد احتمال الإخلال بالشرط.

3 ـ في قاعدة التجاوز يكون الدخول في الجزء التالي قيداً واقعياً مقوّماً لحقيقة التجاوز، لأنّ التجاوز عن الجزء إنّما يتحقّق فيما لو دخل الإنسان في الجزء التالي من المركّب، أمّا في قاعدة الفراغ فإننا لو اعتبرنا الدخول في الجزء التالي (على الخلاف فيه) فإنّه يكون قيداً اعتبارياً تعبدياً لا واقعياً بمعنى أنّ الشارع يقول: لو تمّ عملك ودخلت في العمل الآخر فلا تعتن بالشك في عملك السابق، فإنّ الشارع هنا يعتبر الدخول في العمل التالي قيداً تعبّدياً وقد كان يمكنه أن لا يذكر هذا الشرط بل يقتصر على ملاحظة انتهاء العمل السابق فقط.

مضافاً إلى ما سبق هو أنّ الفقهاء استفادوا من الروايات الواردة في قاعدة الفراغ عمومية هذه القاعدة والتزموا بجريانها في جميع أبواب الفقه حتى

المعاملات من العقود والإيقاعات، بينما التزموا باختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة وعدم جريانها في سائر أبواب الفقه كالوضوء والغسل و... نعم ذهب بعض الفقهاء على خلاف المشهور إلاّ أنّ قاعدة التجاوز أيضاً تجري في جميع أبواب العبادات عدا الوضوء، وعليه فلو قلنا بأنّ القاعدتين قاعدتان مستقلّتان صحّ بالتفكيك المذكور آنفاً، أمّا لو قلنا بأنّهما قاعدة واحدة مجعولة بجعل شرعي واحد لم يتمّ ذلك التفكيك حيث يجب الالتزام إمّا بعمومية هذه القاعدة وجريأنها في جميع أبواب الفقه وإما بعدم شموليتها.

ومن هنا كان البحث في أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز شاملة لجميع أبواب الفقه أم أنّها مختصّة ببعض هذه الأبواب كالصلاة ـ سبباً آخر للنزاع في أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز هل انّهما قاعدتان أو قاعدة واحدة؟

هناك خمسة أقوال هي مجموع الآراء في مسألة اتحاد القاعدتين أو تغايرهما وهي:

1ـ إنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة وليس للشارع في باب الفراغ والتجاوز إلاّ مجعول شرعي واحد، غاية الأمر أنّه قد يعبر عن هذا المجعول الواحد بقاعدة الفراغ وتارة بقاعدة التجاوز.

2ـ ويفهم من كلمات المرحوم الآخوند وجمع كثير من الفقهاء أنّهما قاعدتان مستقلتان والمجعول في قاعدة الفراغ مختلف تماماً عن المجعول في قاعدة التجاوز(1).

3 ـ ذهب المحقق النائيني(ره) إلى أنّ القاعدتين وإن كانتا اثنتين بحسب الظاهر إلاّ أنّ قاعدة التجاوز ترجع إلى قاعدة الفراغ وعليه يكون المجعول الشرعي واحداً(2).


1 . محمد كاظم الخراساني: كفاية الأصول ص432.

2 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات (تقريرات الميرزا النائيني)315:4، محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول (تقريرات الميرزا النائيني)ج4ص623-624.

4ـ يرى الشيخ الأنصاري(ره) والإمام الخميني(ره) أنّ هناك قاعدة واحدة لا أكثر وهي قاعدة التجاوز أمّا قاعدة الفراغ فمآلها إلى قاعدة التجاوز.

5ـ إنّ المستفاد من الأدلّة قاعدة الفراغ فقط ولا وجود لقاعدة تسمّى بقاعدة التجاوز.

قبل البحث عن صحة هذه الآراء أو بطلانها لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذا البحث قد وقع في كلمات الفقهاء في مقامين منفصلين:

أ ـ مقام الثبوت ب ـ مقام الإثبات.

ففي مقام الثبوت فقد وقع البحث في أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز مع قطع النظر عن الروايات السابقة هل هما قاعدتان أم أنهما قاعدة واحدة لوجود الجامع بينهما؟ والآراء المذكورة آنفاً إنّما تذكّر في هذا المقام حيث لا بد من البحث عن صحتها أو عدم صحتها.

ثمّ نأتي إلى مقام الإثبات فيما لو توصّلنا إلى عدم وجود جامع بينهما وإنّ قاعدة الفراغ مختلفة عن قاعدة التجاوز ولا بد حينئذٍ بملاحظة الروايات المذكورة من التماس دليل خاص على كلّ من قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، أمّا لو التزمنا باتّحاد القاعدتين كان لابدّ من دراسة الروايات السابقة لمعرفة الروايات المتكفّلة بإثبات القدر الجامع التي تفيد كلتا القاعدتين.

وبعد بيان هذه المقدمة نبدأ بدراسة الآراء والنظريات الواردة في وحدة قاعدة الفراغ والتجاوز أو تعددهما ونعقد البحث في مقامي الثبوت والإثبات.

مقام الثبوت:

أدلّة القائلين بتغاير القاعدتين:

استدلّ القائلون بتعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز على مدّعاهم بأربعة أدلّة، ذكر الميرزا النائيني الأدلّة القائمة على التعدد في مقام الثبوت وهي الأمور التالية:

الدليل الأوّل عدم وجود القدر الجامع بين القاعدتين:

الدليل الأوّل الذي أقيم على تعدد القاعدتين هو أن الموضوع في قاعدة الفراغ هو الشكّ في الصحة وفي قاعدة التجاوز هو الشكّ في الوجود ولا جامع بين الموضوعين.

وقد ذكروا هذا الدليل بثلاثة وجوه وبيانات مختلفة:

البيان الأوّل للمحقق النائيني:

عرض الميرزا النائيني الدليل الأوّل بهذا التقرير: وهو أنّ موضوع الشكّ ومتعلقه في قاعدة الفراغ هو صحة العمل لمفاد کان الناقصة أي أن المقصود إثبات وصف الصحة لعمل خارجي، أمّا موضوع الشكّ ومتعلقه في قاعدة التجاوز هو وجود الجزء أو عدمه بمفاد كان التامة أي أنّ قاعدة التجاوز تُعبّدنا بالبناء على وجود الجزء المشكوك فلا جامع بين الأمرين لتغاير متعلّق التعبد في كلّ من القاعدتين ففي قاعدة الفراغ يُبحث عن أنّ هذا الموجود صحيح أو لا؟ بينما في قاعدة التجاوز نتساءل: هذا الجزء موجود أولا؟ وكلّ منهما يحتاج إلى جعل مستقل.

كلام الشيخ الأنصاري:

ذهب المرحوم الشيخ الأنصاري(قده) ـ كما ذكرنا ـ إلى اتّحاد القاعدتين ويشكلّ كلامه جواباً عن الدليل الأوّل حيث فسّر قاعدة الفراغ بحيث يكون مآلها إلى قاعدة التجاوز كما أنّه جعل مفاد قاعدة الفراغ مفاد كان التامة حيث قال: (إنّ الشكّ في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشكّ في الإتيان، بل هو هو، لأنّ مرجعه إلى الشكّ في وجود الشيء الصحيح)(1).


1 . مرتضى الأنصاري: فرائد الأصول342:3.

وعلى هذا البيان فعندما نشك في صحة الشيء الموجود نكون في الواقع قد شككنا في وجود الشيء الصحيح فلا مانع أبداً من تصوير الجامع بينهما لأنّ مفاد القاعدتين هو مفاد كان التامة.

الإشكالات الواردة على كلام الشيخ الأنصاري(ره):

هناك ثلاثة إشكالات هامّة ترد على کلام الشيخ الأنصاري:

1 ـ إشكالات الميرزا النائيني(ره):

أورد المرحوم المحقق النائيني(ره) بعد ذكره للدليل الأوّل ونقله لكلام الشيخ الأعظم(ره) إشكالين على هذا الكلام وهما:

أ ـ إنّ إرجاع مفاد قاعدة الفراغ إلى مفاد كان التامة إنّما يخالف مدلول روايات قاعدة الفراغ كرواية (كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو)(1) لأنّ ظاهر هذه الروايات هو التعبّد بصحة العمل الموجود لا التعبّد بوجود العمل الصحيح(2) وإن أمكن القول بوجود الملازمة بين هذين الأمرين إلاّ أنّ إثبات وجود العمل الصحيح بقاعدة الفراغ يؤدّي إلى كونها أصلاً مثبتاً ولا حجية للأصل المثبت، ومن هنا يقول الميرزا النائيني في خاتمة مقاله: (فإرجاع التعبّد فيها إلى التعبّد بوجود العمل الصحيح ربما يُشبه الأكل من القفا)(3).

ب ـ لو سلّمنا رجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز وإلى مفاد كان التامة


1 . أجاب بعض الفضلاء عن هذا الإشكال بأنّ هذا الجواب خروجٌ عن محل النزاع إذْ النزاع إنّما هو في مقام الثبوت بينما يرتبط الجواب بمقام الإثبات ولعلّ هذا كان سبباً لعدم التعرض لإشكال المحقق النائيني هذا في فوائد الأصول.

2 . أجاب بعض الفضلاء عن هذا الإشكال بأنّ هذا الجواب خروجٌ عن محل النزاع إذْ النزاع إنّما هو في مقام الثبوت بينما يرتبط الجواب بمقام الإثبات ولعلّ هذا كان سبباً لعدم التعرض لإشكال المحقق النائيني هذا في فوائد الأصول.

3 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات312:4، محمد علي الكاظمي: فوائد الأصول621:4.

فإنّ القاعدة تفقد كلّيتها وشموليتها وتختص بباب أحكام العبادات فلا تجري في موارد الأحكام الوضعية وباب المعاملات لأنّ العقل في باب الأحكام التكليفية (العبادات) يأمر المكلّف بوجوب إبراء ذمته وتحصيل الفراغ للذمة وهو يتحقّق بإحراز وجود الصحيح في الخارج من غير حاجة إلى أن يشتمل العمل العبادي على جميع شرائط الصحة.

أمّا في باب المعاملات فلا يجب تفريغ الذمة بل اللازم في هذا الباب ترتّب أثر المعاملة وهو يترتب على صحة الموجود أيضاً فعلى سبيل المثال أنّ الملكية تترتّب على صحة البيع الموجود ولا يترتب أثر الملكية إلاّ مع إحراز صحة البيع الخارجي المعيّن، ومن هنا يقول المرحوم النائيني: (مجرد التعبّد بوجود عقد صحيح من دون العقد الموجود لا يترتب عليه أثرٌ خارجاً)(1).

إشكال المحقق الخوئي(ره) على رأي المحقق النائيني(ره):

يقول المرحوم آية الله السيّد الخوئي(ره) ردّاً على الإشكال الثاني للمحقق النائيني: لا فرق بين العبادات والمعاملات حيث يترتب الأثر في كلا البابين على وجود العمل الصحيح وعليه فلا يجب في المعاملات إحراز صحة المعاملة الخارجية المعيّنة.

ولتوضيح مدعاه يقول بأنّ هنا ثلاثة عناوين:

1 ـ صحة المعاملة الخارجية المعيّنة.

2 ـ وجود المعاملة الخارجية الصحيح.

3 ـ العنوان الكلّي للوجود الصحيح.


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات312:4، محمد علي الكاظمي: فوائد الأصول621:4.

يرى المحقق النائيني(ره) بأنّ الأثر في باب المعاملات إنّما يترتّب فيما لو أحرزنا بأنّ المعاملة الخارجية مشتملة على جميع شروط الصحة أي أنّه بالعنوان الأوّل (صحة المعاملة الخارجية المعيّنة).

أمّا على رأي المحقق الخوئي(ره) فيمكن القول بأنّ الأثر إنّما يترتب على وجود البيع الكلّي الذي تكون هذه المعاملة الخارجية مصداقاً له، وذلك أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في البيع الكلّي بما هو كلّي بل تجري في ذلك البيع الكلّي المتحقّق في الخارج بهذه المشخصات الخارجية.

وعلى هذا فإنّ قاعدة الفراغ تضمّن لنا بوجود الصحيح وإن لم يُحرَز فيه جميع شروط الصحة، فلا فرق من هذه الجهة بين العبادات والمعاملات.

وهذا نص کلام المرحوم السيد الخوئي(ره):

(وأما اعتراضه الثاني فلا يرجع إلى محصل لأنّ مفاد قاعدة الفراغ ـ على تقدير الإرجاع المذكور ـ هو الحكم بوجود الصحيح ممّا تعلّق به الشكّ وهو كاف في ترتّب الأثر، فإذا باع زيد داره من عمرو بثمن معيّن وشك في صحة هذه المعاملة وفسادها، كان مقتضى قاعدة الفراغ بعد الإرجاع المذكور هو الحكم بوجود بيع صحيح يكون المبيع فيه (الدار) بالثمن المعيّن والتعبّد بوجود هذا البيع كافٍ في ترتب الأثر وإن لم تثبت صحة هذه المعاملة الشخصية الخارجية كما هو الحال في العبادات... فلا فرق بين العبادات والمعاملات من هذه الجهة)(1).

إشكال المحقق العراقي(ره) على رأي المحقق النائيني(ره):

يذكر المرحوم المحقق العراقي في إشكاله على الميرزا النائيني(ره) أنّ الأثر لا يترتب في العبادات على وجود الصحيح بل يترتّب على صحة الموجود المعلوم


1 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول تقريراً لأبحاث السيد الخوئي ج3ص370-371.

في الخارج، فعلى سبيل المثال لو التفت المصلّي بعد الفراغ من صلاته أنّه ترك سجدة واحدة وجب عليه قضاؤها والإتيان بسجدتي السهو، ويرى المحقق العراقي أنّ هذا الحكم (وجوب قضاء السجدة والإتيان بسجدتي السهو) إنّما يترتّب على صحة الموجود بمعنى أنّ هذه الصلاة الخارجية تامّة صحيحة من جميع الجهات عدا هذه السجدة.

والمورد الآخر الذي لا يترتّب فيه الأثر على وجود الصحيح إنّما هو في الأمور التي ليس لها ما بإزاء مستقلاً كالترتيب والموالاة وكذا في الأحكام الوضعية كالعقود والإيقاعات حيث يترتب الأثر على صحّة الموجود لا على وجود الصحيح.

وهذا نصّ عبارة المحقق العراقي: (وأمّا توهّم كفاية مجرّد إثبات وجود الصلاة الصحيح في فراغ الذمّة وخروج المكلّف عن العهدة بلا احتياج إلى إثبات صحّة المأتي به فمدفوع، بأنّ كثيراً ما تمسّ الحاجة إلى إثبات صحة الموجود بمفاد كان الناقصة، كما في قضاء السجدة وسجدتي السهو ونحوهما ممّا أخذ في موضوعها صحّة الموجود لا مجرّد وجود الصحيح إذ في نحو هذه الآثار لا يكفي مجرّد إثبات وجود الصحيح في ترتّبها، مع أنّ قاعدة الصحّة تعمّ الوضعيات أيضاً من العقود والإيقاعات التي لا بد فيها من إثبات صحّة العقد أو الإيقاع في ترتيب آثارهما ولا يكفي في ترتبها مجرد إثبات وجود الصحيح بمفاد كان التامة مع أنّه لا يتمّ فيما لو كان الشك في الصحة من جهة الشك في فقد الترتيب أو الموالاة مثلاً لا من جهة الشك في فقد الجزء، فإنّه من جهة انصراف الشيء عرفاً عن مثل هذه الإضافات إلى ما كان له وجود مستقلّ، لا يصدق على الكلّ أنّه شيء مشكوك...)(1).


1 . محمد تقي بروجردي: نهاية الأفكار تقريراً لأبحاث آقا ضياء الدين العراقي ج3/4 ص39.

وعلى هذا فإنّ المحقق العراقي يرى أنّ الأثر كما يترتّب في المعاملات على صحّة الموجود لا على الوجود الصحيح فكذلك من العبادات ما يترتب فيه الأثر على صحة الموجود إلاّ أنّه من الواضح أنّ المورد الثاني الذي ذكره العراقي من باب النقض إنّما يرتبط بمقام الإثبات دون مقام الثبوت.

نتيجة البحث والاحتمالات الموجودة:

ممّا ذكرنا يمكن الاستنتاج بأنّ في بحث العبادات والمعاملات أربعة احتمالات هي كالتالي:

1 ـ أن يترتب الأثر في البابين على الوجود الصحيح.

2 ـ أن يترتب الأثر في البابين على صحة الموجود.

3 ـ أن يترتب الأثر في العبادات على الوجود الصحيح وفي المعاملات على صحّة الموجود.

4 ـ عدم إمكان الوصول إلى قاعدة كلّيّة في البابين ولابدّ من البحث في كلّ مورد عن أثره الخاص فقد يترتب الأثر على الوجود الصحيح في بعض الموارد كما قد يتعلّق الأثر بصحة الموجود في موارد أخرى.

تحقيق المسألة:

يبدو أنّ الاحتمال الرابع من بين الاحتمالات الأربعة السابقة هو الصحيح فلا يمكن استنتاج حكم كلّي في كلا بابي العبادات والمعاملات بل لابدّ من إتّباع الدليل والبحث في كلّ مورد عن الأثر الخاص المتعلق به.

فإن كان الأثر الخاص في باب العبادات عدم الإعادة أو عدم القضاء فإنّه يترتب على الوجود الصحيح (كما ذكره المحقق النائيني) حيث أنّ وجود العبادة

الصحيحة يعتبر مصداقاً يُمتثل به أمر المولى ويحصل فراغ الذمة. وبالتالي يكفي في ترتب عدم الإعادة وعدم القضاء مجرّد أن صار العمل الخارجي مصداقاً للوجود الصحيح ولا داعي إلى صحة الموجود الخارجي بمعنى لابدّية الإتيان بالعبادة في الخارج مع إحراز جميع شرائطها وخصوصياتها.

هذا ولكن بعض الآثار الأخرى كالنهي عن الفحشاء والمنكر وكالمعراجية للصلاة فلا يكفي في ترتّبها الوجود الصحيح بل تترتّب هذه الآثار على الصحّة التامة للعمل الخارجي، وعليه لابد من احراز صحة الصلاة التي جاء بها المكلّف حتى ترتب عليها أثر (النهي عن الفحشاء والمنكر أو المعراجية).

ومن هنا فقد شاع بين الفقهاء أنّه ربّما يكون العمل مسقطاً للتكليف ومصداقاً للامتثال ومع ذلك لا يحمل عليه بعض الآثار الأخرى كالنهي عن الفحشاء أو المعراجية.

ويظهر لي أنّ ذلك جار في باب المعاملات أيضاً إلاّ أنّ الآثار في باب المعاملات غالباً ما تترتب على صحة العقد الموجود في الخارج.

فعلى سبيل المثال: إذا أردنا للبيع الواقع بين شخصين أن يكون مؤثراً في النقل والانتقال للملكية كان لابدّ لنا من إحراز صحّة ذلك البيع في الخارج. أو في البيع الفضولي حيث تكون إجازة المالك شرطاً لصحته فإنّ هذه الإجازة إنّما تكون مكمّلة للبيع فيما لو أحرزنا صحّة البيع الفضولي الواقع في الخارج من جميع الجهات عدا إجازة المالك.

ومع ذلك فإنّنا نجد موارد أخرى في باب المعاملات حيث يتعلّق الأثر على الوجود الصحيح لا على صحة الموجود مثلاً في مورد بيع المعاطاة يترتّب أثر الملكية على المعاطاة التي هي مصداق للوجود الصحيح للبيع.

وعلى هذا فإنّ المسألة تختلف باختلاف الآثار في باب العبادات والمعاملات ولا يمكن القول بأنّ الأثر دائماً للوجود الصحيح أو أنّ الأثر مطلقاً لصحّة الموجود. وبالتالي لا يكون الإشكال الثاني للمحقق النائيني على كلام الشيخ الأنصاري في إرجاع قاعدة الفراغ إلى مفاد كان التامة ليس وارداً.

ولا فرق بين العبادات والمعاملات من جهة ترتّب الأثر.

هذا كلّه في الإشكال الأوّل للمحقق النائيني على رأي الشيخ الأعظم وقد ناقشناه مفصلاً.

2 ـ إشكال المحقق العراقي على رأي الشيخ الأنصاري:

يقول المحقق العراقي في إشكاله على كلام الشيخ الأنصاري بأنّ الأثر المترتب من قبل الشارع على الشك في الصحة يغاير الأثر الذي رتّبه على الشك في الوجود وأنّ ما نراه أحياناً من الملازمة بينهما في الخارج في بعض الموارد لا يستلزم اتحادهما فلا يمكن إرجاع الشك في أصل الوجود إلى الشك في صحة الموجود الذي هو مفاد كان الناقصة.

ومن ناحية أخرى فإن الالتزام برأي الشيخ الأنصاري (القائل بحصول التعبّد بالوجود مضافاً إلى التعبّد بالصحة عند الشك في الصحة) مستلزم للأصل المثبت الذي لا اعتبار له وليس بحجة.

وما نراه هو صحّة هذا الإشكال على الشيخ الأنصاري، وقد ذكرنا الفرق بين هذين العنوانين في الأبحاث السابقة عند التحقيق في الروايات. وهذا نصّ كلام المحقق العراقي:

(نقول: إنّ الشك في قاعدة التجاوز بعدما كان متعلّقاً بأصل وجود الشيء، وفي قاعدة الفراغ بصحة الموجود، نظير الشك في وجود الكرّ والشك في كريّة

الموجود، فلا يتصوّر بينهما جامع قريب ثبوتاً حتى يمكن إرادتهما من لفظ واحد، ولا مجال لإرجاع الشكّ في صحّة الموجود إلى الشك في وجود الصحيح أو التام، إذ فرقٌ واضح بين الشك في وجود الصحيح وبين الشك في صحّة الموجود، ومجرد كون منشأ الشك في وجود الصحيح هو الشك في بعض ما اعتبر فيه لا يخرجه عن الشك في الشيء بمفاد كان التامة إلى الشك في صحّة الموجود الذي هو مفاد كان الناقصة وإن كان يلازمه خارجاً نظير ملازمة الشك في وجود الكرّ مع كرّية الموجود وحينئذٍ فإذا كان المهمّ في قاعدة التجاوز إثبات أصل وجود الشيء وفي قاعدة الفراغ إثبات صحة الموجود المفروغ الوجود بمفاد كان الناقصة لا إثبات وجود الصحيح بمفاد كان التامة فلا مجال لإرجاع أحد المفادين إلى الآخر ولا لترتيب الأثر المترتب على صحة الموجود بإثبات الوجود الصحيح بمحض ملازمة أحد المفادين مع الآخر واتحادهما بحسب المنشأ لأنه من المثبت المفروض عندهم ولذا لا يحكمون بترتيب آثار كريّة الموجود باستصحاب وجود الكرّ وبالعكس)(1).

3 ـ إشكال المحقق الأصفهاني على رأي الشيخ الأنصاري:

دخل المحقق الأصفهاني في مقام الإشكال على الشيخ الأعظم الأنصاري عن طريق التغاير في اعتبارات الماهية ويقول: بأنّ قيد الصحة في العمل يمكن أن يُفرض على نحوين: فتارةً يلاحظ قيد الصحة على نحو اللابشرط، وتارةً أخرى على نحو بشرط الشيء، ويعتبر العمل مقيّداً بالصحة.

ففي موارد الشك في الصحة يلاحظ هذا القيد بشرط الشيء، وفي موارد الشك


1 . محمد تقي البروجردي: نهاية الأفكار تقريراً لأبحاث الشيخ ضياء الدين العراقي ج3/4 ص38-39.

في الوجود يؤخذ قيد الصحة على نحو اللابشرط، وهذان الاعتباران لحاظان متغايران تماماً حيث لا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر، فلا يمكن تصوّر جامع واحد بين قاعدتي الفراغ والتجاوز ولا إرجاع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز.

(...وإصلاح الجامع بإرجاع الشك في الصحّة في وجود العمل الصحيح كما عن الشيخ الأعظم في بعض فروع المسألة غير معقول، لأنّ ملاحظة العمل مهملاً واقعاً غير معقول وملاحظته بنحو اللابشرط القسمي يوجب اختصاصه بقاعدة التجاوز وملاحظته بنحو الماهية بشرط شيء أي العمل بوصف الصحة يوجب اختصاصه بقاعدة الفراغ والاعتبارات متقابلة فلا يعقل الجمع بينها...)(1).

هذا وقد أجاب المحقق الأصفهاني نفسه بعد هذا الإشكال بأنّ المراد من الصحة ليس ترتيب الأثر لئلا يوجد جامع بين الوجود وترتب الأثر على الموجود. وبالتالي يقول:

إنّ مجرد الاختلاف بين قاعدتي الفراغ والتجاوز من جهة أنّ إحداهما بمفاد كان التامة والأخرى بمفاد كان الناقصة، مجرّد هذا التفاوت غير مانع من تصور القدر الجامع، والصحّة المشكوكة هي القدر الجامع وقد تكون بمفاد كان الناقصة تارة وبمفاد كان التامة تارة أخرى.

(ويندفع أصل الإشكال بأنّ الصحة لا يراد منها ترتب الأثر حتى لا يكون جامعٌ للوجود ولترتب الأثر على الموجود...)(2).

تحقيق البحث في الوجه الأوّل:

الوجه الأوّل لعدم إمكان تصوير الجامع بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز


1 . محمد حسين الأصفهاني: نهاية الدراية في شرح الكفاية296:3.

2 . المصدر السابق.

على مبنى الميرزا النائيني هو أنّ مفاد قاعدة التجاوز هو مفاد كان التامة، أمّا مفاد قاعدة الفراغ فهو مفاد كان الناقصة ولا جامع بينهما.

أمّا الشيخ الأنصاري فقد أرجع في مقام الردّ قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز حيث أورد بعض الإعلام إشكالات عديدة على كلامه، منها إشكال المحقق العراقي الذي هو الأقوى من بينها حيث رأى أنّ الشك في عالم الواقع نوعان أحدهما: الشك في الوجود والآخر هو الشك في الصحة.

أمّا إرجاع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الصحيح إنّما هو مجرد تأويل لفظي لا يغيّر من الواقع شيئاً، والشاهد على تغايرهما هو أنّ لكلّ من هذين النوعين من الشك أثر خاص به. كما أنّ إرجاع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الصحيح كان أصلاً مثبتاً وهذا بحدّ ذاته أكثر من الدليل على المدعى.

مضافاً إلى أنّ هذا الإرجاع ـ على رأي الميرزا النائيني ـ على خلاف الأدلّة في مقام الإثبات وسنبحث عن مقام الإثبات مفصّلاً.

بعد أن علمنا عدم تمامية ردّ الشيخ الأنصاري على الوجه الأوّل وإرجاعه قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز لابدّ لنا من البحث في إمكانية تصوّر القدر الجامع بين مفادي كان التامة وكان الناقصة.

يقول المحقق الاصفهاني في مقام بيان الجامع، بعد الإشكال على كلام الشيخ الأنصاري.

والجواب عنه: (إنّ الصحّة المشكوكة تارةً تلحظ بمفاد كان التامّة وأخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة، فإن لوحظ في مورد الشك وجود الصحّة بلا لحاظ اتّصاف عمل خاص بها، كان ذلك، بمفاد كان التامة وإن لوحظ وجود اتّصاف عملٍ بها بأن لوحظت وصفاً لعمل خاصّ كانت بمفاد كان الناقصة، وعليه فلا

ملزم للالتزام بأن الملحوظ في هذا القسم هو اتّصاف العمل بالصحة بل ليس هو إلاّ صحة العمل فإنّه مورد الأثر فيمكن لحاظه بمفاد كان التامة، وعليه فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما لاتحادهما ذاتاً)(1).

نلاحظ أنّ المحقق الاصفهاني قد غيّر صورة المسألة حيث جعلنا صورة المسألة أنّ الشك لو كان بلحاظ اتصاف العمل الموجود بالصحة كان بمفاد كان الناقصة وإن كان بلحاظ أصل وجود العمل كان بمفاد كان التامّة إلاّ أنّ الأصفهاني ذكر أنّ الصحة المشكوكة قدر جامع بين كان التامة وكان الناقصة حيث إن كان الشك في مورد ما قد لوحظ في وجود الصحة من غير اتّصاف عملٍ خاص كان ذلك مفاد كان التامة (قاعدة التجاوز) وإنْ فرض اتّصاف عملٍ خاصّ بحيث كانت الصحة المشكوكة وصفاً لذلك العمل كان مفاد كان الناقصة (قاعدة الفراغ).

وعلى هذا فإنّه لم يجعل الملحوظ اتّصاف العمل بالصحّة بل يجعل الملحوظ صحّة العمل وهي المورد لترتب الأثر، ويمكن لحاظها على نحو مفاد كان التامة.

والذي أعتقده هو أنّ كلام المحقق الأصفهاني كإرجاع الشيخ الأنصاري إنّما هو مجرد توجيه لفظي يخالف الواقع إذ من الواضح أنْ ليس البحث في قاعدة التجاوز عن مسألة الصحّة بل الشك في أصل وجود الجزء لا في صحّته، وذلك كما لو شكّ المصلي في هذه المسألة هل ركع في صلاته أولا؟ وعلى هذا فإنّ الصحة المشكوكة لا يمكن لها أن تكون كقدر جامع بين مفاد كان التامة (قاعدة التجاوز) ومفاد كان الناقصة (قاعدة الفراغ).


1 . محمدحسين الأصفهاني: نهاية الدراية ج3 نقلاً عن السيد عبد الصاحب الحكيم: منتقى الأصول تقريراً لأبحاث السيد محمد الحسيني الروحاني132:7.

ثمّ إنّه بعد رفضنا للجامع الذي ذكره المحقق الأصفهاني يمكن أن يدّعي متوهمّ بأنّ عنوان (الشك) هو قدر جامع بين الشك في الصحة والشكّ في الوجود. إلاّ أنّ هذا التوهم في غير محلّه بدليلين، ولا يمكن أن يقع عنوان الشك جامعاً بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز:

أولاً: إنّا في صدد إيجاد قدر جامع قريب بحيث يكون مذكوراً في رواية وتدّعي وجوده في مقام الإثبات لتدلّ الرواية على قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز. مع أنّ عنوان (الشك) قدر جامع بعيد شأنه شأن القول بأن الجامع بين الصحة ووجود العمل هو عنوان (اللفظ) الصادق على كليهما.

ثانياً: إنّا في صدد القدر الجامع في متعلق الشك مع قطع النظر عن الشك نفسه بمعنى أنّنا عندما نقول بأنّ مجرى قاعدة التجاوز هو الشك في الوجود ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة لابدّ لنا في مقام بيان القدر الجامع من أن نلتمس القدر الجامع بين الصحة والوجود، كما لو التمسنا قدراً جامعاً بين الشك في الصلاة والشك في البيع فإنّه لابد لنا حينئذٍ من إيجاد عنوانٍ يستفاد من داخله عنوان الصلاة وعنوان البيع، وعنوان الشك ليس كذلك حيث لا يمكن انتزاع الصحة والوجود من عنوان (الشك).

وعليه فالحاصل من مباحث الوجه الأوّل لتعدّد القاعدتين أن لا قدر جامع بين مفاد كان التامّة (قاعدة التجاوز) ومفاد كان الناقصة (قاعدة الفراغ) فالوجه الأوّل للدليل الأوّل تام لا إشكال فيه.

البيان الثاني في الدليل الأوّل:

البيان الثاني في عدم وجود القدر الجامع بين قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز هو أنّ الشيء في قاعدة الفراغ متيقّن الوجود أي أنّ قاعدة الفراغ إنّما تعبدّنا بصحة ما هو

مفروض الوجود بينما يكون الشيء في قاعدة التجاوز مشكوك الوجود أي تعبّدنا بوجود المشكوك، ولا يمكن تصوّر القدر الجامع بين متيقّن الوجود ومشكوكه.

يقول المحقّق الأصفهاني في هذا المجال: (...إنّ مرجع الشكّ في الصحّة إلى فرض الوجود وهو لا يجامع الشك في الوجود حيث لا جامع بين فرض الوجود وعدم فرض الوجود وهو من الجمع بين المتقابلين...)(1).

ويقول السيد الخوئي أيضاً:

(المجعول في قاعدة الفراغ هو البناء على الصحة والتعبّد بها بعد فرض الوجود والمجعول في قاعدة التجاوز هو البناء على الوجود والتعبّد به مع فرض الشك فيه... فلا يمكن الجمع بينهما في دليلٍ واحد إذ لا يمكن اجتماع فرض الوجود مع فرض الشك في الوجود في دليل واحدٍ).(2)

وهذا الوجه كالوجه الأوّل تامٌ وصحيح و[لا غبار عليه] أمّا على مبنى الشيخ الأنصاري الذي يرجع مفاد كان الناقصة إلى كان التامة، كذا وعلى مبنى المحقق الأصفهاني القائل بوجود القدر الجامع بين مفاد كان التامة وكان الناقصة فلا صحّة لهذا الوجه إذ لم يكن الشيء في قاعدة الفراغ متيقّن الوجود بل كان مشكوك الوجود كما في قاعدة التجاوز، هذا على مبنى الشيخ الأنصاري، أمّا المحقق الأصفهاني فقد جعل الشكّ في الصحة قدراً جامعاً بين القاعدتين، وعلى هذين المبنيين لا يتمّ الوجه الثاني.

البيان الثالث في الدليل الأوّل:

قد بيّناه أثناء عرضنا للوجه الأوّل إلاّ أنّ هناك نقاطاً أخرى لابدّ من البحث


1 . محمد حسين الأصفهاني: نهاية الدراية297:3.

2 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول269:3.

فيها ودراستها بشكلّ مستقل.

فإنّ السبب في عدم وجود القدر الجامع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز ـ بناءً على هذا الوجه ـ هو أنّ متعلّق الشك في قاعدة الفراغ هو الصحّة بينما في قاعدة التجاوز هو الوجود ولا يعقل تصوّر قدر جامع بين الصحة والوجود.

يقول المحقق النائيني بهذا الشأن (إنّ متعلّق الشكّ في قاعدة التجاوز إنّما هو وجود الشيء... وفي قاعدة الفراغ إنّما هو صحّة الموجود ولا جامع بينهما).(1)

وللمحقق العراقي في هذا السياق كلامٌ ذُكر بعده في كلمات المرحوم السيد الخوئي وهو أنّ العلماء والمحققين يصرّحون في مبحث الإطلاق بأنّ الإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود(2).

فلو كان الإطلاق بمعنى جمع القيود لزم أن يلاحظ الشارع عند الحكم على موضوع مختلف أنواع القيود ويثبت الحكم على جميع هذه الأنواع فعلى سبيل المثال عند جعل حكم الحرمة للخمر التي لها أنواع مختلفة كالمتّخذ من العنب من التمر الأحمر والأصفر فعليه أن يلاحظ جميع أنواع العصير ثمّ يجعل الحكم عليها فالإطلاق هو رفض القيود لا جمع القيود بمعنى أنّ الشارع المقدّس عند الحكم بالحرمة على الخمر لا يلاحظ قيداً من قيود الخمر.

فإن المحقق العراقي قد استخدم هذه القاعدة فيما نحن فيه وقال: بأنّ عنوان الشك في الشيء بعد تجاوز المحلّ ـ المذكور في الروايات ـ له إطلاق والشارع


1 . محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول620:4.

2 . على سبيل المثال: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات165:1، السيد محمد سرور واعظ الحسيني: مصباح الأصول155:3، حسن الصافي الأصفهاني: الهداية في الأصول233:1وج2ص140-211-399، السيد عبد الصاحب الحكيم: منتقى الأصول ج2ص430وج3ص159-360وج6ص307، السيد مصطفى الخميني: تحريرات في الأصول ج2ص152ج3ص361-394-427.

لم يلاحظ شيئاً من خصوصياته من حيث كون الشك في الصحة أو الشك في الوجود بل حكم على نحو الإطلاق بعدم الاعتناء بالشك بعد الانتهاء من العمل.

ومن هنا نستنتج أنّ عنوان الشك أوّلاً وبالذات يشمل الشك في الصحة والشك في الوجود ولمّا لم يلاحظ الشارع المقدّس خصوصيات الشك لم يبق مجال للبحث في وجود القدر الجامع بين الشك في الصحة والشك في الوجود، وذلك أنّ القدر الجامع إنّما يتصور فيما لو لاحظ الشارع كلا الأمرين (الشك في الصحة والشك في الوجود) لكنّه لاحظ هنا مطلق الشك فقط حيث ينطبق على قاعدة الفراغ كما ينطبق على قاعدة التجاوز.

وقد ذكر هذا المطلب في كلمات السيد الخوئي أيضاً كما أسلفنا فهو يقول:

(والتحقيق أنّ الاستدلال المذكور ساقط من أصله لما ذكرناه مراراً من أنّ معنى الإطلاق هو إلغاء جميع الخصوصيّات، لا الأخذ بجميعها فإذا جُعل حكمٌ لموضوع مطلق، معناه ثبوت الحكم به بالفاء جميع الخصوصيات كما إذا جعلت الحرمة للخمر المطلق مثلاً فإنه عبارة عن الحكم بحرمة الخمر بإلغاء جميع الخصوصيّات من كونه أحمر أو أصفر أو مأخوذاً من العنب أو من التمر وغيرها من الخصوصيات لا الحكم بحرمة الخمر مع لحاظ الخصوصيات والاحتفاظ بها، بمعنى أنّ الخمر بما هو أحمر حرام وبما هو أصفر حرام وهكذا، وحينئذٍ لا مانع من جعل قاعدة كلّية شاملة لموارد قاعدة الفراغ وموارد قاعدة التجاوز بلا لحاظ خصوصيّات الموارد بأن يكون موضوع القاعدة مطلق الشكّ في شيءٍ بعد التجاوز عنه بلا لحاظ خصوصية كون الشك متعلّقاً بالصحّة أو بالوجود فيكون المجعول عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه بلا لحاظ كون الشكّ متعلّقاً بالوجود أو بالصحة أو غيرهما من خصوصيات المورد...)(1).


1 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول271:3.

والظاهر أنّ الكلام المذكور تامٌ لا إشكال فيه إذ أنّ إطلاق عنوان (الشك في الشيء بعد التجاوز عنه) يشمل الشك في الصحّة والشك في الوجود، ومن هنا لا داعي للانفكاك بينهما ثمّ التماس القدر الجامع بينهما بل يكفي هذا العنوان الكلّي القابل للانطباق على كلتا القاعدتين.

وقد أقرّ بهذا العنوان الكلّي المحقق النائيني كقدر جامع حيث يقول: (...الشارع في مقام ضرب قاعدة كلّيّة للشك في الشيء بعد التجاوز عنه)(1).

وكذا أقرّ بهذا الكلّام من جاء بعده من العلماء.

يتابع السيد الخوئي كلامه بذكر مطلب آخر تعود جذوره إلى كلمات المحقق الاصفهاني(2) فهو يقول:

(بل يمكن أن يقال: إنّ وصف الصحّة من الأوصاف الانتزاعية التي ليس في الخارج بإزائها شيء إذ هو منتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به فالشك في الصحّة دائماً يرجع إلى الشك في وجود جزء أو شرط فلا مانع من جعل قاعدة شاملة لموارد الشكّ في الوجود وموارد الشك في الصحة لكون الشكّ في الصحة راجعاً إلى الشك في الوجود فتكون قاعدة الفراغ راجعة إلى قاعدة التجاوز)(3).

يقول السيد الخوئي في هذه العبارات مستدركاً ما ذكره أولاً: لو أغمضنا النظر عن مبنى الإطلاق والتزمنا أنّ هنا شكّين مختلفين بحيث لابدّ من تصوّر قدر جامع بينهما إلاّ أنّ إرجاع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الجزء أو الشرط هو قانون كلّي.

وبعبارة أخرى أنّ الشك في صحّة عملٍ مركب ينشأ دائماً من الشك في


1 . محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول624:4.

2 . وقد ورد هذا المطلب في كلمات المحقّق العراقي (فوائد الأصول625:4هامش1).

3 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول271:3.

وجود جزئه أو شرطه، وبالتالي فإنّ القدر الجامع بين الصحة والوجود هو الوجود كما أنّ القدر الجامع بين الشك في الصحّة والشك في الوجود هو الشك في الوجود وعليه تعود قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز.

وهذا الكلام منه يشبه إلى حدّ كبير بكلام الشيخ الأنصاري في أنّ التعبّد بالصحة إنّما هو بمعنى التعبّد في الوجود في قاعدة الفراغ، وقد عبّدنا الشارع في موارد الشك في الصحة بوجود الصحيح.

إشكالات هذه النظرية:

الإشكال الأوّل: ذكرنا في المباحث السابقة أنّ الشك في الصحة أحياناً يكون ناشئاً من الشك في وجود المانع، ومن جهة أخرى فإنّ الشكّ في وجود المانع يختلف عن الشك في وجود الجزء أو الشرط حيث إنّ القاعدة في الشكّ في وجود الجزء أو الشرط تعبّد الإنسان بالوجود ولا تعبّد من هذا القبيل في الشك في وجود المانع، وعليه لا يمكن القول بأنّه كلّما كان الشك في الصحة كان هذا الشك ناشئاً من الشك في الوجود وإنّ القاعدة تعبّدنا بالوجود.

الإشكال الثاني: هو إنّ كلام السيد الخوئي في الشك في شرط المركّب أيضاً غير تام، فلا يمكن القول بأنّ الشك في صحة المركّب ينشأ دائماً من الشك في وجود الشرط. وأنّ الشك في الصحة راجع إلى الشك في الوجود، والقاعدة تعبّدنا بالوجود، مثلاً لو شك المكلّف بعد الفراغ من صلاة الظهر بأنّه هل كان متطهّراً أو لا؟ فإنّ الطهارة من شروط صحّة الصلاة، فلو أنّ الشك في صحة الصلاة رجع إلى الشك في وجود الطهارة وتعبّد المكلّف بوجود الطهارة بمقتضى القاعدة كان لابد من الحكم عليه بالتمكّن من قيامه بصلاة العصر مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يُفتِ بذلك.

وعلى هذا فنظراً إلى الإشكالين السابقين فإنّ إرجاع الشك في الصحّة إلى الشك في الوجود غير قابل للقبول.

نتيجة الدليل الأوّل:

بالنظر إلى الوجوه الثلاثة للدليل الأوّل والإشكالات الواردة عليها يتبيّن لنا أنّ الطريق الوحيد لإثبات وحدة القاعدتين هو التمسّك بالإطلاق.

أمّا في مقام الإثبات فإن وجدنا رواية مطلقة أمكن انطباقها على كلتا القاعدتين.

الدليل الثاني: اجتماع لحاظي الآلية والاستقلالية في الشيء الواحد:

الدليل الثاني الذي ذكره الميرزا النائيني على تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز هو اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد وذلك أنّ قاعدة الفراغ إنّما تتعلق بكلّ العمل بمعنى أن يشك في صحّة العمل بعد الفراغ منه فتدلّ قاعدة الفراغ على صحته، أمّا قاعدة التجاوز فتتعلّق بجزء العمل بمعنى أن يُشك عند الإتيان بجزء في الجزء السابق عليه فتدلّ قاعدة التجاوز على إتيانه ـ ففي قاعدة الفراغ يجب على المولى أن يتصوّر كلّ العمل أمّا حين تصوّر المركّب لابد من تصور أجزائه في الرتبة السابقة على تصوّر المركب.

وبتعبير آخر فإنّ الاجزاء عند لحاظ المركبّ تلاحظ لحاظاً تبعياً اندكاكياً بتبع تصوّر الكلّ. وعليه يكون لحاظ الأجزاء في قاعدة الفراغ لحاظاً تبعياً غير استقلالي بينما يتصوّر الجزء في قاعدة التجاوز على نحو الاستقلال حيث يقول المولى:

(إذا خرجت عن جزء ودخلت في جزء آخر فشكّك ليس بشيءٍ) وعلى هذا فلو أراد الشارع المقدّس أن يجعل هاتين القاعدتين ضمن خطاب واحد وجب

عليه أن يلاحظ الأجزاء على نحو الاستقلال وعلى نحو التبعية فيتعلّق اللحاظ الاستقلالي واللحاظ التبعي بالجزء الواحد في زمان واحدٍ مع أنّ اجتماع لحاظين مختلفين في الملحوظ الواحد غير ممكن.

يقول المحقق النائيني في هذا السياق:

(إنّ المركّب حيث إنّه مؤلف من الأجزاء بالأسر فلا محالة تكون ملاحظة كلّ جزءٍ بنفسه سابقة في الرتبة على لحاظ المركّب بما هو، إذ في مرتبة لحاظ المركّب يكون الجزء مندكّاً فيه في اللحاظ ويكون الملحوظ الاستقلالي هو المركب لا غير فلحاظ كلّ حرفٍ بنفسه سابق على لحاظ الكلمة بما هي كما أنّ لحاظ الكلمة في نفسها سابق في الرتبة على لحاظ الآية فإذا كان لحاظ كلّ من الأجزاء سابقاً على لحاظ المركب في الرتبة وكان لحاظه في ضمن المركب اندكاكياً فكيف يمكن أن يريد من لفظ (الشيء) الواقع في القاعدة الجزء والكلّ معاً حيث يكون الكلّ بنفسه ملحوظاً حتى يتحقّق به مورد قاعدة الفراغ ويكون الجزء بنفسه ملحوظاً في عرضه حتى يتحقّق به مورد قاعدة التجاوز)(1).

الإشكالات الواردة على الدليل الثاني:

1 ـ نظرية المحقق النائيني:

يقول المحقق النائيني بعد ذكر هذا الدليل على تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز في مقام الإجابة: (إنّما يتمّ هذا الدليل فيما إذا لوحظت الأجزاء في عرض لحاظ المركّب ولكنّها ليست كذلك إذ لو راجعنا الروايات لتبيّن لنا أنّها طائفتان:

أ ـ الروايات المطلقة التي تبيّن وظيفة المكلّف عند الشك في كلّ المركب.


1 . السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات212:4، محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول ج4 ص621-622.

ب ـ الروايات الخاصّة التي تبيّن وظيفة المكلّف عند الشك في الأجزاء فتقول مثلاً لو شك في الركوع بعد إكمال السجود لا يُعتنى به.

والروايات الخاصّة هنا حاكمة على الروايات المطلقة فلا يتحقّق اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد في عرض واحدٍ، لأنّ الشارع المقدّس قد لاحظ كلّ المركب أولاً ثمّ ذكر الأجزاء في الأدلة الأخرى على نحو الاستقلال، ومن هنا فلا يكون لحاظ المركّب والأجزاء في عرض بعضهما وفي زمان واحدٍ إذ الشارع قد لاحظ الكلّ أولاً ثمّ لاحظ الأجزاء، وعليه فلا يلزم اجتماع اللحاظين المتغايرين.

وهذا نصّ عبارة الميرزا النائيني:

(أنّ الشك في الأجزاء لو كان ملحوظاً في جعل القاعدة مثل ما لوحظ نفس العمل فيه، لكان لهما مجال واسع، لكنّ الأمر ليس كذلك بل المجعول ابتداءً هو عدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن العمل، فلو كنّا نحن وهذه الإطلاقات، لقلنا باختصاصها بموارد الشك بعد الفراغ ولم نقل بجريأنها في شيءٍ من موارد الشك في موارد قاعدة التجاوز، لكنّ الأدلّة الخاصّة دلّت على اعتبارها في موارد الشك في الأجزاء أيضاً فهي دالّة بالحكومة على لحاظ الجزء سابقاً على لحاظ التركيب أمراً مستقلاً بنفسه...(1) والحاصل أنّ المراد من لفظ (الشيء) الوارد في الروايات ليس هو العمل وأجزاؤه حتّى يرد ما ذكر... فلا يلزم الجمع بين


1 . (يعني أن الشارع نزّل في الشكّ في الجزء في باب الصلاة منزلة الشك في الكلّ في الحكم بعدم الالتفات إليه فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب وصار من مصاديق الشيء تعبداً وتنزيلاً فالكبرى المجعولة الشرعية ليست هي إلا عدم الاعتناء بالشيء المشكوك فيه بعد التجاوز عنه ولهذه الكبرى صغريان وجدانية تكوينية وهي الشك في الكلّ بعد الفراغ عنه من غير فرق بين الصلاة وغيرها وصغرى تعبدية تنزيلية وهي الشكّ في الجزء في خصوص باب الصلاة)محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول ج4ص624-625.

اللحاظين)(1).

الإشكال على نظرية المحقق النائيني:

ظهر مما سبق أنّ رد الميرزا النائيني لا يشكلّ جواباً عن الإشكال بل هو إقرار وقبول الإشكال، وذلك أنّه أقرّ بأنّ التعبير الواحد لا يمكنه أن يبيّن الشك في المركّب والشك في الجزء معاً بل لابد من إثبات قاعدة الفراغ أولاً ثمّ يستفاد قاعدة التجاوز من الأدلّة الحاكمة، وعليه فإنّه يركز في جوابه عن الإشكال، على عدم كون القاعدتين في عرض واحدٍ وهذا قبول الإشكال.

وبعبارة أخرى إنّ المحقق النائيني لو كان يردّ على إشكال (اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحدٍ) بالاعتماد على فرض القاعدتين في عرضٍ واحد لم يردْ على ردّه إشكال لكنّه غيّر صورة فرض المسألة في مقام الإجابة، وهذا اعتراف وتسليم للإشكال لا جواب عنه.

2 ـ نظرية المحقق الخوئي:

ذكر السيد الخوئي في مقام الإجابة عن الدليل الثاني للمحقق النائيني ثلاثة أجوبة، وها نحن نذكرها بغرض مناقشتها:

أ ـ الأوّل أنّه لا اختصاص لقاعدة الفراغ بالشك في صحّة الكلّ بل تجري عند الشك في صحّة الجزء أيضاً ولعله المشهور، فعلى تقدير تعدد القاعدتين أيضاً يلزم تعلّق اللحاظ الاستقلالي والتبعي بالجزء في جعل نفس قاعدة الفراغ فما به الجواب على تقدير التعدّد يجاب به على تقدير الاتحاد أيضاً(2).


1 . السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات ج4ص216-217.

2 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول273:3.

إنّ الجواب الأوّل للسيد الخوئي في الواقع جواب نقضي على الدليل الثاني حيث إنّ إشكال اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظٍ واحد يرد في قاعدة الفراغ أيضاً على مبنى قاعدة تعدّد القاعدتين، لأنّ قاعدة الفراغ كما تجري في موارد الشك بعد إتمام العمل، كذلك تجري في موارد الشك في صحة الجزء فإنّ من شكّ حالة السجود في صحّة ركوعه المأتي به جرت في حقّه قاعدة الفراغ في هذا الجزء المفروغ منه وعليه يُستشكل في مجرى قاعدة الفراغ أنّ الشارع المقدّس يجب أنْ يلاحظ الجزء استقلالاً وتبعاً في مقام جعل القاعدة.

الإشكال على جواب السيد الخوئي الأوّل:

الظاهر أنّ جواب السيد الخوئي غير تامّ إذ ـ كما بيّنا سابقاً وسيأتي في فروع المسألة لاحقاً ـ أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في الشك في الأجزاء بل هي مختصّة بالفراغ من مجموع العمل أمّا في الشك في الأجزاء فتجري قاعدة التجاوز فقط، فلو شك في أصل وجود الجزء دلّ منطوق قاعدة التجاوز على عدم الاعتناء بالشك، أمّا لو شك في صحّة الجزء المأتي به فإنّ قاعدة التجاوز تدلّ بمفهوم الأوّلوية على عدم الاعتناء بالشك إذ لو لم يجب الاعتناء بالشك في أصل وجود الشيء لم يجب الاعتناء بالشك في صحّته بطريق أولى.

ب: الثاني: إنّ الجمع بين القاعدتين ممكن بإلغاء الخصوصيّات على ما ذكرناه فإنّ لحاظ الكلّ والجزء بما هما كلّ يستلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي والتبعي في الجزء بخلاف لحاظهما مع إلغاء خصوصيّة الجزئية والكلّية بأنْ يلاحظ لفظ عام شامل لهما كلفظ الشيء ويحكم بعدم الاعتناء بالشك فيه بعد الخروج عن محله فإنّه لا محذور فيه أصلاً(1).


1 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول273:3.

يذكر المحقق الخوئي في هذا الجواب أنّه كما بيّنا في الجواب عن الدليل الأوّل أنّ متعلّق الشك هو عنوان الشيء بعد المضيّ الشامل للصحة والوجود فإنّ هنا أيضاً لا يلزم إشكال اجتماع لحاظين متغايرين على ملحوظ واحد فيما لو ألغينا خصوصية الكلّية والجزئية بجعل لفظ عام كلفظ (الشيء) بعنوان الكبرى.

الظاهر أنّ هذا الجواب تامّ وصحيح(1) لأنّ اجتماع اللحاظين المتغايرين إنّما يلزم فيما لو لاحظ الشارع المقدّس في الكبرى الكلّية الجزء والكلّ بخصوصياتها أمّا لو اُلغيت الخصوصية عنهما واستعمل في الكبرى عنوان عام كلّي بحيث يشمل الجزء والكلّ معاً فلا يلزم المحذور.

ج ـ (الثالث ما ذكرناه أخيراً من أنّ الشك في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ منها يكون ناشئاً من الشك في وجود الجزء أو الشرط فيكون مورداً لقاعدة التجاوز ويحكم بوجود المشكوك فيه فلا حاجة إلى جعل قاعدة الفراغ مستقلاً)(2).

الجواب الثالث للسيد الخوئي يعاكس جواب المحقق النائيني وذلك أنّ الميرزا النائيني كان يرى أنّ هناك مجعولاً شرعياً واحداً يسمّى بقاعدة الفراغ، أمّا


1 . أورد بعض الفضلاء بأنّ عنوان عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء بعد المضي عنه لا يمكن أن يكون جامعاً بين قاعدتي الفراغ والتجاوز إذ كما ذكر الأستاذ المعظّم في الأبحاث السابقة أنّ القدر الجامع يجب أن يكون قريباً بين عنواني الصحة والوجود وليس كذلك عنوان الشيء بعد المضيّ لشموله لعناوين أخرى كالموالاة والترتيب أو الركعة مع أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز لا تجري فيها ولم يحكم أحدٌ بأنّ من شك في الركعة الثالثة من الثلاثية هل جاء بالركعة الثانية أولا؟ بوجوب البناء على الإتيان بل تبطل الصلاة بهذا الشك، إلا أن نقول بأنّ عنوان الشيء الوارد في الروايات لا يشمل العناوين التي ليس لها ما بإزاء مستقل وكانت من العناوين الانتزاعية كما التزم بذلك المحقق العراقي في الموالاة والترتيب (نهاية الأفكار ج3/4ص39) لكن يجب عليه حينئذٍ أن يلتزم بأن قاعدة الفراغ الجارية في الشك في الشيء بعد الفراغ لا تجري في كلّ من العبادات والمعاملات لأن عناوين العبادات كالصلاة والصوم والمعاملات كالبيع والنكاح برمّتها عناوين انتزاعية.

2 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول273:3.

المحقق الخوئي فيرى أنّ الشك في الصحّة راجع إلى الشك في الوجود وبالتالي يكون من مصاديق قاعدة التجاوز ويُحكم فيه بوجود الجزء المشكوك فيه، ومن هنا فلا حاجة إلى جعل مستقل لقاعدة الفراغ حتى يُستشكل بأنّ في جعل قاعدة الفراغ لابد من لحاظ الأجزاء على نحو التبعية والاندكاك، وفي قاعدة التجاوز على نحو الاستقلالية، وعليه فلا يمكن جعلهما بخطاب وتعبير واحد.

والظاهر أنّ هذا الجواب غير تام لأنّه قبولٌ وإقرار بالإشكال وليس ردّاً عليه كما سبق ذلك في جواب المحقق النائيني.

الدليل الثالث: محذور الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي:

المحذور الثالث هو أنّه لو تضمّنت الكبرى الكلّية الواحدة على بيان قاعدتي الفراغ والتجاوز أدّى ذلك إلى لزوم استعمال لفظ واحد في كلا معنييه الحقيقي والمجازي واستعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي معاً مشكل ومحال.

توضيح ذلك: هو أنّ مجرى قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محل الجزء المشكوك بينما مجرى قاعدة الفراغ هو التجاوز عن نفس العمل المركّب والتجاوز عن الشيء نفسه، والجمع بينهما في التعبير والخطاب الواحد غير ممكن.

يقول المحقق النائيني في هذا المجال:

الرابع أنّ الميزان في جريان قاعدة التجاوز هو التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك كما إذا دخل في التشهّد وشكّ في وجود الجزء السابق عليه كالسجدة والميزان في جريان قاعدة الفراغ هو التجاوز عن نفس المركب فكيف يمكن إرادة التجاوز عن المحل والتجاوز عن نفس الشيء من لفظ التجاوز الوارد في

الرواية معاً(1).

يقول المحقق السيد الخوئي في توضيح هذا الدليل:

الوجه الثالث أنّ الجمع بين القاعدتين يستلزم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى العنائي وهو لا يجوز. وذلك لأنّ التجاوز عن الشيء في مورد قاعدة الفراغ هو التجاوز الحقيقي إذ الشك متعلق بصحّته مع العلم بوجوده فيصدق التجاوز عنه حقيقة بخلاف التجاوز في مورد قاعدة التجاوز فإنّه لا يصدق التجاوز الحقيقي عن الشيء مع الشك في وجوده، فلابدّ من إعمال عناية بأنْ يكون المراد من التجاوز عن الشيء هو التجاوز عن محلّه على طريقة المجاز في الكلّمة أو في الإسناد أو في الحذف، بأن يراد من الشيءِ محلّه أو يُسند التجاوز إليه بالإسناد المجازي أو يقدّر المضاف وهو لفظ المحلّ فالجمع بين القاعدتين في جعل واحد يستلزم الجمع بين المعنى الحقيقي والعنائي وهو لا يجوز)(2).

الإشكالات على الدليل الثالث:

أجيب عن الدليل الثالث (محذور الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي بجوابين أحدهما للمحقق النائيني والآخر للسيد الخوئي.

أمّا جواب المحقق النائيني عن الدليل الثالث:

1 ـ نظرية المحقق النائيني:

أنّ هناك عنواناً عاماً هو (التجاوز عن الشيء) وله مصاديق مختلفة أي أنّ


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات215:4، محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول 3: 622.

2 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول274:3.

هناك أمرين يوجبان تحقق ذلك العنوان أحدهما الفراغ من العمل، والمصداق الآخر هو التجاوز عن المحلّ المعيّن وعليه فلا يلزم إشكال الجمع بين المعنيين الحقيقي والمجازي.

(إنّ المراد من التجاوز الوارد فيها هو التجاوز عن نفس الشيءِ مطلقاً غاية الأمر أنّ التجاوز عن محلّ المشكوك بعد تعيّن وقوعه فيه يوجب صدق التجاوز عن المشكوك، فمحقق التجاوز عن الشيء أمران أحدهما التجاوز عنه بالفراغ عنه والثاني التجاوز عنه بتجاوز محلّه المتعيّن وقوعه فيه كما في موارد التجاوز)(1).

2 ـ نظرية المحقق الخوئي:

أجاب المرحوم السيد الخوئي عن هذا الإشكال بما يُشبه جوابه عن الإشكال الثاني وهو أنّ الشك في الصحة ناشئ عن الشك في الوجود ومتى أمكن إجراء قاعدة التجاوز لم يبق مجال لقاعدة الفراغ.

يظهر الجواب عن هذا الاستدلال مما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً ناشئٌ من الشك في وجود الجزء أو الشرط فالتجاوز في مورد قاعدة الفراغ أيضاً هو التجاوز عن محلّ الشيء المشكوك فيه سواء كان جزءاً أو شرطاً فلا فرق بين قاعدة الفراغ والتجاوز عن هذه الجهة ولا يلزم بين المعنى الحقيقي والعنائي(2).

الدليل الرابع محذور التدافع:

الإشكال الأخير على اتحاد قاعدة الفراغ والتجاوز هو محذور التدافع الذي


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات216:4، والجدير بالذكر أنّ جواب المحقّق إنّما قرّره المحقق الكاظمي بوجه وبيان آخر حيث قال: (إنّ المراد من التجاوز إنّما هو التجاوز عن محلّ المشكوك فيه مطلقاً فإنّ الشك في قاعدة الفراغ أيضاً يكون بعد التجاوز عن محلّ الجزء المشكوك فيه الذي كان سبباً للشك في وجود الكلّ) فوائد الأصول262:3.

2 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول274:3.

ذكر أصله الشيخ الأعظم الأنصاري في الرسائل إلاّ أنّ المحقق النائيني ذكره ببيان أوضح ودقّة أكثر.

توضيح الإشكال: أنّه لو دلّت الكبرى الواحدة (عدم الاعتناء بالشك بعد المضيّ، على القاعدتين لزم التناقض والتدافع، مثلاً لو شك المصلّي حالة السجود في أنّه هل ركع أو لا؟ دلّ منطوق (عدم الاعتناء بالشك بعد المضي) على عدم اعتنائه بشكه لأنه قد تجاوز عن محل الجزء المشكوك، وبهذا يكون المنطوق مفيداً لقاعدة التجاوز، أمّا بالنسبة إلى جميع الصلاة فلم يحصل المضيّ فيها لأنّ العمل لم تكتمل بعدُ، ومن هنا دلّ مفهوم القاعدة على وجوب الاعتناء بهذا الشك، وبالتالي يكون المفهوم مفيداً لقاعدة الفراغ، وعلى هذا كلّه لا يمكن للكبرى الكلّية الواحدة أن تبيّن الشك في الكلّ والجزء معاً.

وبعبارة أخرى فإنّ التعبير الواحد (الكبرى الكلّيّة) لو دلّت على القاعدتين فإنّ في الشك في الجزء قبل انتهاء العمل تحكم قاعدة الفراغ بعدم الاعتناء بالشك، أمّا قاعدة الفراغ فتحكم بوجوب الاعتناء بالشك وهذا ليس بصحيح، لأنّ ذلك يعني تدافع القاعدتين(1).

الإشكالات على الدليل الرابع:

أجيب عن هذا الدليل بعدّة أجوبة وقد أوردت عليها إيرادات متعدّدة ونحن بدورنا نناقشها ونبحث حولها:


1 . يقول المحقق النائيني في هذا المجال وتوضيحاً للإشكال: (إنه يلزم التدافع بناءً على اتحاد الكبرى فيما إذا شكّ بعد التجاوز عن محلّ المشكوك فإنّه باعتبار لحاظ الجزء نفسه كما هو مورد قاعدة التجاوز يصدق أنّه تجاوز عن محلّه فلا يعتنى بالشك وباعتبار لحاظ المركّب بما هو يصدق إنّه لم يتجاوز فيجب عليه التدارك فيلزم التدافع من جهة الاعتبارين)السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات213:4، محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول623:3، السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول274:3.

نظرية المحقق النائيني:

إنّ المحقق النائيني بعد أن بيّن أصل الدليل ذكر الإشكالين عليه ثمّ أجاب عنهما:

الإشكال الأوّل: هو أن محذور التدافع ليس مختصّاً بما إذا أفادت الكبرى الكلّية الواحدة كلتا القاعدتين بل التدافع يبقى حاضراً حتّى لو كانت القاعدتان قاعدتين مستقلّتين لأنّ قاعدة التجاوز تحكم بوجوب عدم الاعتناء بالشك في الجزء قبل الفراغ من العمل كلّه بينما يحكم مفهوم قاعدة الفراغ بلزوم الاعتناء بذلك الشك وذلك لأنّ العمل لم ينته بعدُ.

الجواب: أجاب المحقق النائيني عن هذا الإشكال انطلاقاً من رؤيته في حكومة قاعدة التجاوز على قاعدة الفراغ بأنّا لو جعلنا القاعدتين مستقلّتين فإنّ قاعدة التجاوز بما أنّها حاكمة على قاعدة الفراغ فلا يلزم محذور التدافع بخلاف ما لو جعلناهما قاعدة واحدة معنونة بعنوان واحد.

فإن قلت: إذا كان كلّ من قاعدتي التجاوز والفراغ مغايرة للأخرى يلزم التدافع أيضاً إذ بمقتضى قاعدة التجاوز قد تجاوز عن محل الجزء المشكوك وبمقتضى قاعدة الفراغ لم يتجاوز عن المركب فلزوم التدافع من آثار جعل القاعدتين سواء كان بجعل واحد أو بجعلين.

قلت: إذا كان جعل قاعدة التجاوز مغايراً لجعل قاعدة الفراغ فلا محالة تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ فإنّ الشك في صحة العمل وفساده في مفروض الكلام مسبّب عن الشك في وجود الجزء المشكوك وعدمه فإذا حكم بمقتضى قاعدة التجاوز بوجود الجزء فلا يبقى شك في صحة العمل وفساده فالتدافع بوحدة الجعل ليس إلاّ(1).


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات213:4.

الإشكال الثاني: لا فرق في حكومة أحد الدليلين على الدليل الآخرين أن يكون الدليلان مجعولين بجعل واحد أو بجعلين مختلفين، ومّما يشهد على ذلك ما قلنا في مبحث الاستصحاب من أنّ الاستصحاب السببي حاكمٌ على الاستصحاب المسبّبي مع أنّ دليل حجيّتها أمر واحد وهو (لا تنقض اليقين بالشك أبداً).

ومن هنا فإنّ الحكومة آتية حتّى فيما لو كانت القاعدتان مجعولتين بجعل واحدٍ وبالتالي لا يلزم التدافع هنا.

الجواب: أجاب المحقّق النائيني بأنّ قياس قاعدتي الفراغ والتجاوز على الأصل السببي والمسببي قياس مع الفارق، وذلك إذ لابدّ في باب الحكومة من وجود المقتضي لجريان كلا الدليلين، ومع جريان أحدهما لم يبق مجال لجريان الآخر، لوجود المانع أمامه كما هو الحال في الأصل السببي والأصل المسبّبي، وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه إذ مع جريان قاعدة التجاوز لا يبقى مورد لقاعدة الفراغ.

وبعبارة أخرى أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في الشك في الجزء قبل الفراغ من العمل بوجهٍ من الوجوه سواء كانت قاعدة التجاوز حاكمة عليها أم لم تكن. وعليه ففي قاعدة الفراغ والتجاوز لو تكفلّت الكبرى الواحدة لبيان كلتا القاعدتين لم يكن ذلك من باب حكومة أحد الدليلين على الآخر بل يكون اعتباران في مورد واحد.

فإن قلت: لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخرين ما إذا كانا مجعولين بجعل كحكومة الاستصحاب على البراءة وبين ما إذا كانا مجعولين بجعل واحد كما في حكومة أحد الاستصحابين على الآخر فإذا كان شمول

القاعدة لمورد التجاوز عن الجزء موجباً لعدم التدافع من جهة حكومتها على قاعدة الفراغ فلا يفرق بين الجعل الواحد والجعلين.

قلت: حكومة أحد الأصلين المجعولين بجعل واحد على الآخر تتوقّف على كون المورد في حدّ ذاته قابلاً لجريان كلّ منهما وكون فعليّة الجريان في أحدهما مانعةً عن الجريان في الآخر لارتفاع موضوعه به كما في موارد الأصل السببي والمسبّبي ولو كانا من سنخٍ واحدٍ، ومحلّ الكلام ليس من هذا القبيل إذ جريان قاعدة الفراغ فرع الفراغ عن العمل وهو غير متحقّق في مفروض المثال فقبل الفراغ لا موضوع لجريان القاعدة حتّى يتكلّم في حكومة قاعدة التجاوز عليها بل المتحقّق فيه هو عكس القاعدة.

ولا ريب أنّه مع اتّحاد الكبرى المجعولة ولحاظ الجزء أمراً مستقلاً عند لحاظ المركّب بما هو، يندرج مفروض المثال في القاعدة وعكسها باعتبارين وأين هذا من حكومة أحد الأصلين على الآخر؟ وبالجملة حكومة بعض أفراد الأصل على البعض الآخر وإن كان مّما لا ينكر إلاّ أنّه ليس في المقام فردان من الأصل بل اعتباران في مورد واحد يكون المورد داخلاً في نفس القاعدة باعتبار وفي عكسه باعتبار آخر، ولا معنى لدعوى حكومة أحد الاعتبارين على الآخر، وهذا بخلاف ما إذا كان هناك قاعدتان مجعولتان على نحو الاستقلال فإنّ الشك في مفروض المثال داخل في كلّ من القاعدتين في حد ذاته لكن شمول قاعدة التجاوز له يمنع عن شمول القاعدة الأخرى له باعتبار عكسه بالحكومة فدعوى الحكومة تنحصر بصورة تعدد القاعدتين ليس إلاّ)(1).


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات ج4ص213-214.

جواب المحقق النائيني عن محذور التدافع:

أجاب الميرزا النائيني بنفسه عن محذور التدافع بعد ذكره للإشكالين والجواب عنهما، وجوابه هذا هو نفس الجواب الذي أجاب به عن محذور اجتماع اللحاظين المتغايرين فيما سبق، وذلك أنّ المستفاد ابتداءاً ولأوّل وهلة من الروايات الواردة في هذا الباب هي قاعدة الفراغ، أمّا بعض الروايات الدالة على قاعدة التجاوز فأنّها ليست في عرض الروايات بل هي حاكمة عليها، ومن هنا فلا تجري القاعدتان في زمان واحد في عرض بعضهما ليلزم محذور التدافع.

وعندي أنّ كلامه هذا إنّما هو إقرار وقبول للإشكال وليس جواباً عنه كما أسلفنا ذلك في بحث محذور اجتماع اللحاظين المتغايرين.

نظرية المحقق الخوئي:

ذكر المرحوم المحقق السيد الخوئي في مقام الإجابة عن هذا الدليل ما أجاب به عن الدليل الثاني والثالث حيث قال: لمّا كان الشك في الصحة راجعاً إلى الشك في الوجود فمع جريان قاعدة التجاوز لم يبق هناك شكّ لنحتاج إلى جريان قاعدة الفراغ.

وبعبارة أخرى: لمّا أثبتنا وجود الصحيح بإجراء قاعدة التجاوز لم يبق مجال للشك في الصحّة لنحتاج إلى إجراء قاعدة الفراغ حتى يلزم التدافع بينهما ـ وبهذا البيان يُرفع محذور التدافع:

والجواب عنه أنّ الشك في صحّة الصلاة في مفروض المثال (وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود) مسبّب عن الشك في وجود الركوع لما ذكرناه من أنّ الشك في الصحة دائماً ناشئ من الشك في وجود أو الشرط فبعد الحكم بوجود الركوع لقاعدة التجاوز لا يبقى شك في صحة الصلاة حتى يكون مورداً

لمفهوم قاعدة الفراغ ويقع التدافع بينه وبين منطوق قاعدة التجاوز)(1).

مناقشة نظرية المحقق الخوئي:

ذكرنا في الأبحاث السابقة إشكالين على القول بأنّ الشك في الصحة إنّما ينشأ دائماً من الشك في وجود الجزء أو الشرط وسنبحث في ذلك مفصّلاً في نهاية البحث عن مقام الثبوت، ونتجنّب عن الخوض في ذلك هنا:

الرأی المختار في الدليل الرابع:

الظاهر أنّ الجواب الصحيح هو الجواب الرابع الذي ذُكر في الدليل الثاني المتعلّق بمحذور اجتماع اللحاظين المتغايرين.

توضيح ذلك أنّه: لو تصوّرنا من البداية نوعين من التصوّر أحدهما التجاوز عن الشيء (أي التجاوز عن مجموع الشيء) والآخر هو التجاوز من الجزء إلى الجزء الآخر حصل التدافع بين قاعدتي الفراغ والتجاوز حيث إنّ في مورد الشك في الركوع حين السجدة يدلّ منطوق قاعدة التجاوز (الجارية في التجاوز من الجزء إلى الجزء الآخر) على عدم الاعتناء بهذا الشك، لكن مفهوم قاعدة الفراغ (الجارية في التجاوز من مجموع الشيء وكلّ المركب) يدلّ على وجوب الاعتناء بهذا الشكّ فيحصل التدافع بين منطوق قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ فيتدافعان.

أمّا لو جعلنا كبرى كلّية واحدة بحيث لا تعيّن متعلّق التجاوز كأن يكون ذلك التعبير الكلّي (عدم الاعتناء بالشك بعد المضيّ أو التجاوز عن الشيء) فتكون الكبرى الكلّية مطلق التجاوز سواء عن مجموع العمل أو من جزءٍ إلى جزءٍ آخر


1 . السيد محمد سرور الواعظ الحسيني: مصباح الأصول275:3.

فلا يتحقق التدافع بين منطوق قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ.

نتيجة البحث في مقام الثبوت:

نتيجة ما بحثنا عنه في مقام الثبوت إلى الآن هي أنّ جعل قاعدتي الفراغ والتجاوز بالجعل الواحد أمر ممكن حيث يمكن للشارع أن يبيّن كلتا القاعدتين ضمن كبرى كليّة واحدة، هذا وقد أجبنا فيما سبق(1) عن جميع المحاذير الواردة على اتّحاد القاعدتين، هذا وإن كان جعلهما على نحو الاستقلال أمراً ممكناً خالياً من الإشكال أيضاً.

بعد البحث عن مقام الثبوت تصل النوبة للبحث عن مقام الإثبات وهو أنّ الشارع هل قام بتشريع القاعدتين في كلامه بجعل واحدٍ أو بجعلين مستقلين أو أنّ تعابير الروايات مختلفة في ذلك؟

ولابد قبل الخوض في البحث عن مقام الإثبات، من بيان أنّ الشك في الصحة راجع إلى الشك في الوجود أم لا؟ ذلك أنّ هذا المطلب قد ذكر في كلمات كثير من الأعاظم فإنْ سلّمنا بهذه الكبرى كان لابدّ لنا عند الحديث عن الروايات في المباحث الآتية من الالتزام بأنّ المراد من الروايات الدالة على الشك في الصحة هو الشكّ في الوجود، وبالتالي تكون الروايات كلّها دالة على قاعدة التجاوز.

تحليل نظرية رجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود:

أوردنا في البحث السابق إشكالين على هذه الكبرى القائلة برجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود.


1 . نعم ذكر في كتاب فوائد الأصول محذور خامس وقد أجاب عنه الميرزا النائيني (فوائد الأصول ج3 ص263-624).

الإشكال الأوّل:

في كيفيّة جريان هذه الكبرى في الموانع فإنّ الشك في صحّة المانع لو رجع إلى الشك في وجود المانع كان العمل باطلاً مع أنّ القاعدة تفيد صحّة العمل المأتي به.

الإشكال الثاني:

هو أنّنا لو سلّمنا بصحّة هذه الكبرى كان لابدّ لنا من التعبّد بوجود الطهارة فيما لو شككنا في الطهارة بعد الفراغ من صلاة الظهر فندخل في صلاة العصر بهذه الطهارة التعبّدية وهذا ما لم يُفتِ به أحدٌ من الأعاظم والعلماء.

وهنا نضيف إلى هذين الإشكالين ثلاثة إشكالات أخرى نتم ونتم البحث.

الإشكال الثالث:

يستفاد هذا الإشكال من كلمات المحقق العراقي(1) فهو وإن لم يكن في مقام الإيراد على هذه الكبرى بل كان غرضه بيان مطلب آخر إلاّ أنّه يمكن عدّه إشكالاً على هذه الكبرى.

والإشكال وهو أنّه لو شك بعد الصلاة في وجود شروط ليس لها ما بإزاء خارجي مستقلّ كالترتيب والموالاة لم تجر فيها قاعدة التجاوز لأنّها منصرفة إلى الشك في أشياء لها وجود استقلالي.

فإنّ قاعدة الفراغ وإن جرتْ هنا وحكمتْ بصحّة صلاة هذا الشخص إلاّ أنّها


1 . فهول يقول: (مع أنّه لا يتمّ فيما لو كان الشك في الصحّة من جهة الشكّ في فقد الترتيب أو الموالاة مثلاً لا من جهة الشك في فقد الجزءِ فإنّه من جهة انصراف الشيء عرفاً عن مثل هذه الإضافات إلى ما كان له وجود مستقلٌ لا يصدق على الكلّ أنّه شيء مشكوك لأنه بما هو شيء بلحاظ أجزائه مقطوع الوجود والتحقّق وبلحاظ الترتيب والموالاة لا يصدق عليه الشيء عرفاً فما يكون الكلّ شيئاً عرفاً لا يكون مشكوكاً وما عنه يكون مشكوكاً لا يكون شيئاً فلا يمكن تصحيح الصلاة إلا بإثبات صحّة الموجود)محمد تقي البروجردي النجفي: نهاية الأفكار تقريراً لما أفاده المحقق العراقي ج4قسم2ص39.

لا يمكنها إثبات وجود الترتيب والموالاة لعدم استقلالية هذه الأشياء، وعدم احتسابها أجزاء مستقلّة كي يتعبّد المكلّف بوجودها.

ومن هنا فلا معنى لجريان قاعدة التجاوز في الأجزاء والشرائط من هذا القبيل لأنّها تجري في تلك الأجزاء والشرائط التي تتصوّر فيهما الدخول والخروج.

الإشكال الرابع:

هناك موارد تكون مجرى قاعدة الفراغ فقط دون قاعدة التجاوز وهي موارد الشك في الجزء الأخير من المركّب، وذلك لأنّ جميع الفقهاء إنّما يعتبرون في جريان قاعدة التجاوز الدخول في الآخر والتالي، وعليه فلا تجري قاعدة التجاوز في موارد الشك في الجزء الأخير، أمّا في قاعدة الفراغ فلم يعتبر فيها بعض المحققين الدخول والانتقال إلى التالي.

وعليه فلو انتهى المكلّف من صلاته وشك في أنّه هل أتى بالتسليم أولا مع أنه يدخل في أي عمل آخر بعد الفراغ من صلاته فإنّه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز هنا لأنّ التعبّد بوجود الشيء بقاعدة التجاوز إنّما يتمّ فيما لو انتقل المكلّف إلى الجزء التالي، وفي فرضنا لم ينشغل المكلّف بأي عمل آخر.

الإشكال الخامس:

إنّ الشك في الصحة والشك في الوجود ـ كما ذكر المحقق العراقي(1) ـ أمران مستقلان ولكلّ منهما آثار خاصّة به فإنّ قاعدة التجاوز تعبّد المكلّف بالوجود عند الشك في الوجود ولا يمكن إثبات الصحة من خلال التعبّد بالوجود إذ لا تكون الصحة على هذا مجعولة للشارع بمعنى أنّ الشارع لم يحكم بصحة العمل بل أمر بها العقل فيكون عنوان الصحّة أمراً انتزاعياً عقليّاً، فلو تعبّدنا بوجود


1 . محمد تقي البروجردي النجفي: نهاية الأفكار ج4قسم2 ص38-39.

الشيء بواسطة جريان قاعدة التجاوز لم يمكن لنا إثبات الصحة إلاّ عن طريق الأصل المثبت، والعكس صحيح إذ لو تعبّدنا بالصحة لم يجزْ لنا إثبات الوجود إلاّ بالأصل المثبت.

وعلى هذا فإنّ الصحة والوجود أثران مستقلان لا يمكن إثبات الآخر بوجود أحدهما إلاّ على القول بالأصل المثبّت، ومن هنا فلابدّ لكلّ من يقول بإرجاع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود أن يلتزم بأصله المثبت.

بعد أن بيّنا انجزام الكبرى الكلّية القائلة بإرجاع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود وأنّ من الممكن في مقام الثبوت جعل قاعدتي الفراغ والتجاوز بالجعل الواحد وصل بنا البحث عن مقام الإثبات وعمّا هو المستفاد من كلام الشارع في الروايات الواردة في جعل قاعدة الفراغ والتجاوز.

مقام الإثبات

البحث في مقام الإثبات في تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز

قبل البحث عن الروايات الواردة حول هذا الموضوع رأينا من الأنسب أن نذكر أولاً رأي المحقق النائيني في باب جعل قاعدة الفراغ والتجاوز.

نظرية المحقق النائيني في جعل قاعدة الفراغ والتجاوز:

ذكرنا كلامه فيما سبق من الأبحاث وفي الردّ على بعض المحاذير ويبتني كلامه على أنّ المستفاد من أكثر الروايات هو قاعدة الفراغ أي عدم الاعتناء بالشك بعد الانتهاء من جميع العمل بمعنى أنّه لو شك بعد الفراغ من كلّ المركّب لم يجب الاعتناء بذلك الشك.

ثمّ يتابع كلامه بأنّ من بين الروايات روايتين تدلاّن على قاعدة التجاوز وهما

حاكمتان على قاعدة الفراغ بحيث توسّعان موضوع قاعدة الفراغ.

توضيح ذلك: أنّ روايات قاعدة الفراغ تدلّ على عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ من العمل المركّب أمّا صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر فتدلاّن على عدم الاعتناء بالشك في أجزاء الصلاة في أثناء الصلاة فأنّها تلحقان الشك في أجزاء الصلاة بالشك في صحّة المركّب فتكون لهما الحكومة على تلك الروايات وتوسّعان موضوعها الذي هو خصوص الشك في كلّ المركب بعد إنّها العمل وتبيّنان بأنّ عدم الاعتناء بالشك من قبل المكلّف له موردان أحدهما في صحة العمل المركّب والآخر في أجزاء الصلاة فيُلحَق الشك في الجزء بالشك في الكلّ في حكم عدم الاعتناء.

حاصل كلام المحقق النائيني هو أنّه لدينا قاعدة واحدة تسمّى قاعدة الفراغ وهي تجري في الشك في الكلّ وتجري في الشك في الأجزاء أيضاً إلاّ أنّ الشك في الأجزاء مختص بأجزاء الصلاة لأنّا نتبّع الدليل الحاكم وهو مختص بمورد أجزاء الصلاة فقط.

الإشكالات على نظرية المحقق النائيني:

الظاهر أنّ كلام المحقق النائيني مخدوش من عدة جهات:

1 ـ بغضّ النظر عن صحيحة زرارة وموثّقة إسماعيل بن جابر يمكن دعوى التعميم لروايات قاعدة الفراغ أنفسها بحيث تجري في الشك في الكلّ والشك في الأجزاء، وعليه فتشمل قاعدة الفراغ بنفسها الشك في الأجزاء.

2 ـ ما ذكره من اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة غير قطعي بل هو مدار نقاش ومحلّ نزاع فإنّ بعض الأعاظم كالشيخ الأنصاري يرى أنّ قاعدة التجاوز غير مختصّة بالصّلاة وإن كان من المسلّم عدم جريأنها في الوضوء.

3 ـ ولو أغمضنا النظر عن الإشكالين السابقين فإنّ أصل كلام المحقق النائيني القائل بحكومة صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر على روايات قاعدة الفراغ غير تام إذ يُعتبر في باب الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً عرفاً إلى الدليل المحكوم وينزّل شيئاً منزلة موضوع الدليل المحكوم مع أنّ العرف لو لاحظ روايات قاعدة الفراغ التي تقول: (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه) إلى جانب صحيحة زرارة وموثقة إسماعيل بن جابر التي تقولان: (إذا شككت في قراءة الصلاة أو تكبيرها فلا تعتن بالشك) لم يجد أيّ ارتباط بينهما فليس في هاتين الروايتين ما يفهم منه العرف أنهما ناظرتان إلى الروايات الواردة في باب قاعدة الفراغ.

فلا ناظرية عرفاً ليُحكم بحكومة هاتين الروايتين على روايات قاعدة الفراغ، وهذا الإشكال إنّما يتمّ فيما لو اعتبرنا في تعريف الحكومة ناظرية الدليل الحاكم على الدليل المحكوم.

مقدمات بحث مقام الإثبات:

قبل الخوض في البحث مفصّلاً عمّا يستفاد من الروايات من القاعدتين أو القاعدة الواحدة لابدّ من تقديم أمور كمقدّماتٍ للبحث في مقام الإثبات:

المقدمة الأولى: ورد في الروايات تعبيران أحدهما (المضيّ) والآخر (الخروج عن الشيء).

والسؤال هنا: هل للخروج عن الشيء له إطلاق بحيث يشمل الخروج من الجزء كما يشمل الخروج من الكلّ أو أنّه يدلّ على الخروج من كلّ المركّب فقط؟

ذهب بعض الأعاظم كالمحقق البجنوردي(ره)(1) إلى أنّ التعبير المذكور له


1 . السيد محمد حسن البجبوردي: القواعد الفقهية327:1.

إطلاق وأنّ المستفاد من جميع الروايات عنوان واحد هو عدم الاعتناء بالشك بعد الخروج من الشيء ولمّا كان الشيء يصدق على الجزء أيضاً، فلا فرق بين أن يكون الشك شكّاً في كلّ الشيء أوشكّا في جزئه.

لكنّ الذي يظهر في الرأي عدم صحّة هذا الرأي لأنّ الخروج من الشيء تعبير له ظهور واضح في أنّ الإنسان قد أتمّ العمل، فالمتبادر إلى الأذهان من تعبير (الخروج من الشيء) هو الخروج من تمام الشيء أمّا إرادة الخروج من الجزء فهي بحاجة إلى القرينة، لأنّ العرف يعتبر المركّب شيئاً واحداً سواء في ذلك المركّب الخارجي كالمعجون أم المركّب الاعتباري كالصلاة، فلو تقرّر إطلاق الشيء على الجزء أيضاً للزم أن يمكن إطلاق عنوان الأشياء على ذلك المركّب مع أنّ العرف يأبى ذلك الإطلاق، وهكذا عند الشارع حيث اعتبر الوحدة في المركّبات الاعتبارية فُيطلق الشيء على كلّ الصلاة، وعليه فإنّ الخروج من الشيء وإنْ جاز إطلاقه لأول وهلة على الانتقال من أحد أجزاء المركّب إلى الجزء الآخر إلاّ أنّ إرادة الجزء من الشيء تحتاج إلى القرينة.

المقدمة الثانية: إنّ في روايات هذا البحث تعبيراً آخر وهو قوله(ع): (كلّما شككت فيه) وقد بيّنا سابقاً أن الشك هنا قسمان: شك في الوجود وشك في الصحة، ويرى الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب الرسائل أنّ عبارة (شككت فيه) ظاهرة في الشك في الوجود فعندما يقال بأنّ المكلّف قد شكّ في الشيء يراد به الشك في أصل وجوده أمّا استفادة الشك في الصحة من هذه العبارة فمحتاجة إلى القرينة.

هذا لكنّ الذي يبدو في النظر أنّ لهذه العبارة (كلّما شككت فيه) إطلاقاً بحيث تشمل الشك في الوجود والشك في الصحة معاً.

نعم لو أريد منها خصوص الشك في الصحة لكان ذلك مفتقراً إلى القرينة. ولهذا فكلّما أريد في هذه الروايات الشك في الصحة جيء فيها بالقرينة على فهم هذا المعنى.

فعلى سبيل المثال قال(ع): (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى) فإنّ قوله (مضى) يعني الإتيان وهو تعبير يستخدم فيما لو كان أصل وجود الشيء مفروغاً عنه وإنّما كان الشك في صحّته وإلاّ فإن التعبير بقوله (مضى) لا يتأتى فيما لو كان الشك في أصل وجود الشيء.

المقدمة الثالثة: النقطة الأخرى التي لابدّ من الالتفات إليها هي أنّه عند دراستنا لهذه الروايات علينا أن لا نتوهّم بمجرد وقوع نظرنا على عبارة (فرغت) أنّ الرواية مرتبطة بقاعدة الفراغ كما أن كلمة (التجاوز) يجب أن لا توهمنا بأن الرواية ناظرة إلى قاعدة التجاوز.

والذي أعتقده أنّ الروايات علی ثلاث طوائف: الطائفة الأولى روايات ظاهرة بل هي صريحة ونصّ في قاعدة التجاوز:

والطائفة الثانية روايات لها ظهور في قاعدة الفراغ.

والطائفة الثالثة روايات يحتمل فيها كلا الاحتمالين، ومن هنا فلو أمكن لنا استخراج القدر الجامع كانت دالة على كلتا قاعدتي الفراغ والتجاوز وإلاّ فإنّ هذه الروايات كانت مجملة.

دراسة الروايات: ولابدّ في مقام الإثبات من دراسة جميع الروايات بدقّة وإمعان ونحن نقسّم هذه الروايات إلى ثلاث طوائف.

أ ـ روايات قاعدة التجاوز:

الطائفة الأولى الروايات الدالة على قاعدة التجاوز فقط من دون أن تستفاد

منها قاعدة الفراغ ولمّا سبق البحث السندي لهذه الروايات في المباحث السابقة فإنّنا نركّز في هذا المجال على البحث الدلالي للروايات:

1 ـ سألته عن رجل يشكّ بعدما سجد أنّه لم يركع، قال(ع): (يمضي في صلاته)(1).

في هذه الرواية يُسأل الإمام(ع) عن حكم من شكّ بعدما سجد في أنّه هل ركع أولا؟ وقد أجاب الإمام(ع) بأنّ صلاته صحيحة ولا يعتني بشكّه. وعلى هذا فإنّ هذه الرواية نصٌّ في الشك في وجود الركوع (الشك في وجود الجزء) وهو مجرى قاعدة التجاوز ولا يمكن أن تستفاد منها قاعدة الفراغ بوجه من الوجوه.

2 ـ الرواية الثانية شبيهة بالرواية السابقة: (في رجلٍ شكّ بعدما سجد أنّه يركع، فقال(ع): (يمضي في صلاته حتى يستقين)(2) وهي أيضاً صريحة في الشك في وجود الركوع حيث يقول الإمام(ع): لا يجب الاعتناء بهذا الشك حتّى يتيقّن بعدم إتيانه.

3 ـ (في الذي يذكر أنّه لم يكبّر في أول صلاته، قال(ع): (إذا استيقن أنّه لم يكبّر فَليُعِدْ ولكن كيف يستيقن)(3).

النقطة الأولى في هذه الرواية هي أنّ مراد السائل من قوله: (يذكر أنّه لم يكبّر) الشك في الإتيان بتكبيرة الإحرام بمعنى أن يخطر في ذهن المكلّف سؤال بأنّه هل كبّر أولا؟ وليس المراد أنّ المكلّف متيقّن من أنّه لم يكبّر لتجب عليه إعادة الصلاة حينئذٍ. وذلك كما يصرّح به الإمام(ع).

والنقطة الثانية في الرواية أنّ معنى قوله(ع): (ولكن كيف يستيقن)؟ هو أنّ


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج4باب13من أبواب الركوع ص317حديث5.

2 . المصدر نفسه، ج7.

3 . المصدر نفسه ج6باب2من أبواب تكبيرة الإحرام، ص 13، ح 2.

المكلّف الشاكّ كيف يمكنه الوصول إلى حالة اليقين بهذه السرعة أي لا يمكن الاستيقان بهذه السرعة بالنسبة لمن شكّ في إتيان عملٍ ما.

4 ـ الرواية الرابعة صحيحة زرارة: (رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال(ع): (يمضي) قلت: رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟ قال(ع): (يمضي) قلت: رجلٌ شكّ في التكبير وقد قرأ؟ قال(ع): (يمضي) قلت: شك في القراءة وقد ركع: قال(ع): (يمضي) قلت: شك في الركوع وقد سجد؟ قال(ع): (يمضي على صلاته) ثمّ قال(ع): (يا زرارة إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيءٍ)(1).

صدر هذه الرواية نصٌّ في قاعدة التجاوز وقد بيّنت خمسة من موارد قاعدة التجاوز إلاّ أنّ ذيلها في مقام بيان كبرى كلّية مبتنية على أنّه (إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيء).

وقد سبق في المقدمة الأولى من مباحث مقام الإثبات أنّ الخروج عن الشيء ظاهر في الخروج عن كلّ الشيء وجميع المركّب بمعنى أنّ هذه العبارة من الرواية إذا خرجت من الشيء ثمّ شك فيه ـ لو كان لها الانصراف في الشك في الصحة حيث لو أكمل عملاً ثمّ دخل في غيره لم يجب الاعتناء بذلك الشك حصل التعارض حينئذٍ بين صدر الرواية وذيلها فكيف يمكن حلّ هذا التعارض؟

يقول الإمام الخميني(2) في حلّ هذا التعارض: بأنّ ذيل الرواية منفصل عن صدرها تماماً فإنّ صدر الرواية يدلّ على الشك في الوجود بينما يدلّ ذيلها على الشك في الصحة.


1 . المصدر نفسه 237:8.

2 . الاستصحاب ص312.

هذا وإن كان(ره) قد ذكر أولاً بأنّه من غير المستبعد أن نجعل صدر الرواية قرينة على التصرف في ذيلها ونحكم بأنّ المراد من عبارة (الخروج من الشيء) الواردة في الرواية هو الخروج من جزء الشيء والتجاوز عن محلّه. لكنّه ذكر في الأدلّة بأنّ هذه التوجيه لا يخلو من مناقشة وإشكال يتمثّل في أنّ صدر الرواية وذيلها لكلّ منها ظهور غير ظهور الآخر والظهوران يتعارضان ثمّ يتساقطان فلا يمكن الاستدلال بأيّ واحدٍ من الظهورين.

والذّي أعتقده هو أنّ ظهور الصدر والذيل إذا تساويا وتكافا صارت الرواية مجملةً، هذا ويمكن جعل كلّ من صدر الرواية وذيلها قرينة على الآخر حيث إنّ صدر الرواية نصٌ في الشك في الصحّة بينما ذيل الرواية ظاهرٌ في الشك في الوجود فيُقدّم الصدر على الذيل لكونه نصّاً أو أظهر.

ومن ناحية أخرى يمكن القول بأنّ الإمام الخميني(ره) إنّما كان كلامه حول ذيل الرواية في مقام إفادة قاعدة كلّية، ومن هنا ذكر عدّة موارد على سبيل المثال مما يكون ذلك قرينة على التصرف في صدر الرواية إذ كلّما ذُكر في الكلام أمران أحدهما على نحو التمثيل والآخر على نحو القاعدة الكلّيّة فإنّ العرف يحكم بأنّ القاعدة قرينة على الأمثلة قطعاً ولا يحكم ـ فيما لو ذكر المتكلّم مثالاً ثمّ بيّن القاعدة الكلّية ـ بأن القاعدة منحصرة في هذا المثال بل يرى أنّ القاعدة تجاوزت عن حدود هذا المثال بحيث سرتْ إلى سائر الموارد.

وبهذين التقريرين يمكن إخراج الرواية من إجمالها ولكنّ الإنصاف أن التقرير الأوّل هو الأولى والأرجح إذ أنّ في صدر هذه الرواية ذكرت ثلاثة موارد على سبيل المثال ثمّ ذكرت القاعدة الكلّيّة مما يدل ذلك على أنّ هذه الموارد قرينة على انحصار القاعدة في هذه الأمثلة.

والذي ندّعيه هو أنّه لو ورد في الكلام مثال واحد لم تكن القاعدة منحصرة به بل تتعدّى إلى سائر الموارد.

أمّا لو وردت في صدر الرواية موارد عديدة على سبيل المثال ثمّ ذكرت في ذيل الرواية قاعدة كلّيّة فإنّ الكلام يكون ظاهراً في أنّ القاعدة مطابقة للأمثلة ومنحصرة فيها وتكون كثرة الموارد المذكورة في صدر الرواية قرينة عند العرف على هذا الانحصار والاختصاص. وفيما نحن فيه لمّا كانت الأمثلة المذكورة في صدر الرواية متعلّقة بالشك في الوجود وقاعدة التجاوز فإنّ القاعدة الكلّية المذكورة في ذيلها يجب حملها على قاعدة التجاوز أيضاً.

والحاصل أنّ ثلاثاً من هذه الروايات الخمس تدلّ على جريان قاعدة التجاوز في خصوص الصلاة والرواية الرابعة ظاهرة في جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، والرواية الخامسة لها سعة وشمولية وليست مختصّة بالصلاة وذلك بملاحظة القاعدة المذكورة في ذيل هذه الرواية.

ب ـ روايات قاعدة الفراغ:

الطائفة الثانية هي الروايات الظاهرة في قاعدة الفراغ ولا يستفاد منها قاعدة التجاوز:

1 ـ الرواية الأولى الدالة على قاعدة الفراغ: (في الرجل يشك بعدما ينصرف من صلاته قال: فقال(ع): (لا يعيد ولا شيء عليه)(1) والسؤال فيها عمّن فرغ من صلاته ثمّ شكّ في صحّتها وعليه يكون مورداً لقاعدة الفراغ والإمام(ع) يحكم بصحّة صلاته وعدم الاعتناء بشكّه.

2 ـ (كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد)(2) قد سبق


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة346:8.

2 . المصدر نفسه346:8.

الكلام في هذه الرواية في المباحث السابقة وقلنا بأنّ قوله(ع): (كلّ ما شككت فيه) له إطلاق يشمل الشك في إتيان الجزء كما يشمل الشك في كلّ المركّب، ولما ذكر في تتمة الرواية قوله(ع): (بعد ما تفرغ من صلاتك) يتّضح لنا أنّ المراد من الشك هو الشك في مجموع المركّب بعد الفراغ من العمل ومن هنا: حكم الإمام(ع) بأنّه لو شك في صحة الصلاة بعد الفراغ منها لا يعتنى بالشك وتكون صلاته صحيحة.

يرى الإمام الخميني(ره) أنّ هذه الرواية من مصاديق قاعدة التجاوز وتدلّ على أنّ المكلّف إذا شك في العمل المأتي به بعد الفراغ منه سواء كان الشك في الأجزاء أو الشرائط أم كان الشك في الوجود والصحة لابد من عدم الاعتناء بذلك الشك ـ وهو يصرّح: بأنّ التجاوز عن مجموع العمل هو الملاك طبقاً لهذه الرواية. هذا ولكنّ الظاهر أنّ هذا الاستنتاج خلاف الظاهر لظهور قوله(ع): (بعدما تفرغ من صلاتك) في قاعدة الفراغ.

3 ـ (كلّ ما شككت فيه مّما قد مضى فامضه كما هو)(1).

وفي هذه الرواية تكون عبارة (مّما قد مضى) قرينة على أنّ المراد بالشك هو الشك في صحة الكلّ والمجموع، وعليه يكون ذيل الرواية قرينة على اختصاص الرواية بقاعدة الفراغ.

4 ـ (رجلٌ شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة، قال(ع): (يمضي على صلاته ولا يعيد)(2).

لو شكّ المكلّف بعد أن فرغ من صلاته في أنّه هل توضّأ أولا، أجاب


1 . المصدر نفسه358:13.

2 . المصدر نفسه468:1.

الإمام(ع) لا يعتني بشكّه وصلاته صحيحة ولا حاجة إلى الإعادة. وهذه الرواية أيضاً صريحة في قاعدة الفراغ لحصول الشك بعد الفراغ من العمل.

5 ـ صحيحة زرارة: (قال(ع): إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلتَ ذراعيك أم لا فأعدْ عليهما، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى من الصلاة أو غيرها فشككت فلا شيء عليك)(1).

في هذه الراوية يبدو لأوّل وهلة أنّها من روايات باب قاعدة الفراغ بقرينة قوله(ع): (فرغت) كما يظهر ذلك من أكثر الأعاظم لكنّ الذي يقتضيه دقيق النظر ـ كما بيّنا ذلك في مقدّمات البحث في مقام الإثبات ـ إن مجرّد استعمال كلّمتي الفراغ والتجاوز في الرواية لا يكون دليلاً على حمل الرواية على تلك القاعدة بل لابّد من ملاحظة الملاك الموجود في الرواية فإن كان متعلّقاً بالشك في صحة كلّ المركّب كانت الرواية مختصّة بقاعدة الفراغ وإن كان الملاك شاملاً للشك في إتيان الجزء كانت الرواية مبنيّة لقاعدة التجاوز.

المشهور في قاعدة الفراغ أنّها تجري عند الشك في الصحة بعد إكمال العمل إلاّ أنّ في صحيحة زرارة يقع البحث في أنّ المكلّف قد شكّ في وجود غسل اليدين ليكون المراد بالشك الوارد في صدر الرواية هو الشك في وجود الجزء ويكون ذلك قرينة على ذيل الرواية القائل: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه) لكون الذيل تفريعاً على الصدر.

نقد مبنی الإمام الخميني في تعدد القاعدتين

والسؤال المطروح هنا هو أن هذه الصحيحة مختصّة بقاعدة الفراغ أو التجاوز؟ وكيف يمكن توجيه ذلك؟


1 . المصدر نفسه ج1باب42من أبواب الوضوء ص469حديث1.

يمكن القول بأنّ مجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الوجود سواء كان هذا الشك بعد تمامية العمل أم في أثناء العمل كما ذهب إلى ذلك المرحوم الإمام الخميني(ره)(1) من أنّ القاعدتين في أصل المسألة قاعدة واحدة وهي قاعدة التجاوز الجارية في الشك في الوجود والشك في الصحّة، أثناء العمل وبعد الانتهاء منه. فلو التزمنا بهذا المبنى أمكن لنا استفادة قاعدة التجاوز من التعبير بالفراغ في هذه الرواية.

هذا ولكنّ الذي أراه هو أنّ هذا المبنى ورأي المرحوم الإمام الخميني(ره) لا يتلاءم مع مجموع الرواية، لأنّ قاعدة الفراغ التي تتعلّق بالشك في صحّة مجموع العمل تشمل ما لو كان الشك في مجموع العمل ناشئاً من الشك في الجزء أو الشرط المعيّن وما لم يكن ناشئاً من الشك في الجزء المعيّن بل شكّ بعد الفراغ من العمل في أنّ العمل المأتي به هل كان صحيحاً أولا؟ ويستفاد هذا المطلب من صحيحة زرارة بشكل واضح.

هذا مضافاً إلى وجود رواية أخرى يستفاد منها أيضاً هذا المطلب وهي: (رجل شك في الوضوء بعدما فرغ من الصلاة، قال(ع): (يمضي في صلاته ولا يعيد)(2) فعلى ما يستفاد من هاتين الروايتين يكون مورد قاعدة الفراغ أعمّ من الشك في الصحة والشك في إتيان جزءٍ معين وعدمه وبالتالي تكون صحيحة زرارة مختصّة بقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز خلافاً لما ذهب إليه المرحوم الإمام(ره) من أنّها مختصّة بقاعدة التجاوز.

الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز:

فالأنسب هنا بيان الفارق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز. فإنّ القائلين بتغاير


1 . الاستصحاب، ص315.

2 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص468 حديث5.

القاعدتين كالمرحوم المحقق الهمداني والمرحوم المحقق العراقي والمرحوم الأخوند الخراساني يرون الفارق من جهة متعلّق الشك ويوجّهون التغاير بين القاعدتين عن طريق التغاير بين الشك في الوجود والشك في الصحة بمعنى أنّ قاعدة التجاوز تختص بمورد الشك في الوجود والإتيان، بينما تختص قاعدة الفراغ بالشك في الصحّة.

وعلى مبنى هؤلاء الأعاظم تكون النسبة بين قاعدتي الفراغ والتجاوز عموماً من وجه، مادّة الافتراق من جهة قاعدة التجاوز ما إذا شك المكلّف حالة الصلاة في أنّه هل أتى بالجزء السابق أولا؟ ففي هذا المورد تجري قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ.

وأمّا مادّة الافتراق من جهة قاعدة الفراغ ففيما لو شك المكلّف بعد الانتهاء من الصلاة في صحّتها من جهة فوات الموالاة أو الإخلال بالترتيب حيث تجري هنا قاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.

وأمّا مادّة الاجتماع فهي فيما لو شك المكلّف بعد الفراغ من العمل في إتيان جزءٍ معيّن حيث تجري هنا قاعدة التجاوز من جهة الشك في الوجود كما تجري قاعدة الفراغ من جهة الشك في وجود ذلك الجزء يؤدّي إلى الشك في صحّة مجموع المركّب وعدم صحّته.

لكنّ الظاهر أنّ هذا المبنى لا يستفاد من الروايات، والّذي يستفاد منها بعد المزيد من التأمّل.

أولاً بأنّ الفرق بين هاتين القاعدتين إنّما يتجسّد في حصول الشك بعد الانتهاء من العمل أو في أثنائه بمعنى أنّ الشك بعد انتهاء العمل موردٌ لجريان قاعدة الفراغ سواء كان الشك في صحّة العمل أم في وجود الجزء المعيّن، أمّا لو حصل

الشكّ أثناء العمل جرت قاعدة التجاوز، ومن هنا فلو لم تكن روايات قاعدة التجاوز لكان الواجب بمفاد روايات قاعدة الفراغ أن يُرتّب الأثر على الشك حين العمل ويجب الاعتناء به.

وعلى هذا يكون بين القاعدتين نسبة التباين ولا تجمعهما مادّة الاجتماع أبداً، لأنّ القاعدتين حينئذٍ متغايرتان تماماً، مضافاً إلى أنّ الفراغ من العمل في قاعدة الفراغ يُعتبر ملاكاً عرفياً وعقلائياً حيث لو شكّ في العمل بعد الانتهاء منه لا يعتنى بالشك، أمّا في قاعدة التجاوز فهي مجرّد تعبّد من الشارع حيث حكم بعدم الاعتناء تعبداً بالشك فيما لو تجاوز محلّ الجزء المشكوك.

ثانياً: بناءاً على مفاد الروايات فإنّ قاعدة الفراغ تجري في الشك في الصحة كما تجري في الشك في الوجود، أمّا قاعدة التجاوز فالظاهر اختصاص مدلول روايات التجاوز المطابقي بالشك في الوجود ولا تجري قاعدة الفراغ في هذه الموارد لاختصاص الشك بما بعد العمل.

لكنّنا في مثل هذه الموارد نتمسّك بمفهوم الأولوية لقاعدة التجاوز ونقول: لو جرت قاعدة التجاوز عند الشك في أصل وجود جزءٍ في أثناء العمل فأنّها تجري بطريق أولى عند الشك في صحّة ذلك الجزء فالمدلول المطابقي لقاعدة التجاوز يختص بالشك حين العمل في وجود الجزء لا في صحّة الجزء الموجود. أمّا موارد الشك في الصحة فيستفاد حكمها من مفهوم الأولوية لهذه القاعدة.

ثالثاً: إنّ قاعدة التجاوز لا تجري في جميع أنواع الأجزاء فإنّ هناك نوعين من الأجزاء لا تشملها هذه القاعدة:

1 ـ الأجزاء غير المستقلّة: والمراد بها ما كان كالترتيب والموالاة في الصلاة، فلو شككنا أثناء الصلاة في أنّه هل روعي الترتيب أو الموالاة في الصلاة أولا، لم

يمكن لنا إثبات صحة الصلاة بقاعدة التجاوز، نعم لو وقع هذا الشك بعد الانتهاء من الصلاة جرت قاعدة الفراغ وصحّت الصلاة بها.

والدليل على عدم جريان قاعدة التجاوز في الأجزاء غير المستقلّة هو قوله(ع): (خرج منه ودخل في غيره) الذي له ظهور واضح في الأجزاء المستقلّة.

2 ـ الجزء الأخير للمركب: هو من الأجزاء التي لا تجري فيها قاعدة التجاوز كالتسليم في الصلاة، فلو شكّ المكلّف في أصل تسليم صلاته لم يصدق عليه(ع): (خرج منه ودخل في غيره) لأنّه لم يدخل في عمل آخر.

دراسة وتحليل رأي الإمام الخميني(ره) في استفادة قاعدة التجاوز من الروايات

المسألة الاخری تحليل رأي المرحوم الإمام حول استفادة قاعدة التجاوز من خلال الروايات وأنّ التجاوز أعمّ مطلق من الفراغ:

ذكرنا أنّ الإمام الخميني(ره) حمل صحيحة زرارة(1) على قاعدة التجاوز وصرّح بأنّ التجاوز عن المحل والفراغ من العمل لا مدخلية لهما كملاك للقاعدتين(2).

والذي أراه أن نظرية الإمام الخميني(ره) غير قابلة للاستفادة من الروايات. أُولى هذه الروايات وعمدتها التي يمكن التمسّك بها موثقة إسماعيل بن جابر:

(إسماعيل بن جابر، قال: قال أبو جعفر(ع): إنْ شكّ في الركوع بعدما سجد فليمض وإن شك في السجود بعدما قام فليمض، كلّ شيءٍ شك فيه مّما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه)(3).

فهو يرى بمقتضى هذه الرواية أنّ قاعدة التجاوز أعمّ مطلق باعتبار شمولها


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص469حديث1.

2 . الاستصحاب، ص315.

3 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج6باب13من أبواب الركوع ص318حديث4.

للشك في الصحة والشك في الوجود، كما تشمل الشك في أثناء العمل والشك بعد العمل، وهذا المعنى العام يستوعب مدلول قاعدة الفراغ ومن هنا فلا حاجة إلى جعل قاعدة مستقلّة بعنوان قاعدة الفراغ.

مناقشة نظرية الإمام الخميني(ره):

والظاهر أنّ استفادة هذا المطلب من موثقة إسماعيل بن جابر غير تام لأنّ صدر الرواية إنّما بيّن موردين من الشك (الشك في الركوع بعد إكمال السجود والشك في السجود بعد القيام) وكلاهما يعودان إلى الشك في أثناء العمل وهاذان الموردان قرينة على أنّ المراد من ذيل الرواية حيث يقول الإمام(ع): (كلّ شيءٍ شك فيه مما قد جاوزه) فيراد به أيضاً الشك في أثناء العمل وإن كان إطلاق (كلّ شيءٍ شك فيه) من غير ملاحظة تتمة الرواية شاملاً للشك بعد العمل والشك في الصحة الذي هو مجرى قاعدة الفراغ.

إنّ عبارة (مما قد جاوزه ودخل في غيره) ظاهرة في الشك حين العمل ومن أنكر هذا الظهور فإنّ أقصى ما يمكن أن يدّعيه هو أنّ الرواية مجملة من هذه الجهة.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ المتكلّم إذا ذكر مثالاً واحداً قبل بيان الكبرى الكلّيّة فإنّ ذكر الكبرى يكون قرينةً على تعدّي الحكم عن ذلك المثال الواحد أمّا لو ذکر أمثلة متعددة ولها محور واحد كانت الأمثلة قرينة على الكبرى وانحصرت القاعدة الكلّيّة في تلك الأمثلة، وفي هذه الرواية ذكر الإمام(ع) قبل بيان القاعدة الكلّيّة مثالين لهما محور واحد وهو الشك حين العمل فلابدّ من أن تختص الكبرى المذكورة في الرواية بالشك حين العمل.

الرواية الثانية التي تمسّك بها الإمام الخميني هي موثقة محمد بن مسلم (كلّما

شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو)(1) قائلاً: (ليس معناه كلّما شككت في صحّته بعد الفراغ منه بل معناه أنّه كلّما شككت في وجوده جزءاً كان أو شرطاً أو نفس العمل ممّا قد مضى محلّه المقرّر الشرعي فأمضه كما هو فيكون مفاده إعطاء قاعدة التجاوز)(2).

فالإمام الخميني(ره) يرى أنّ الضمير في (فيه) الوارد في الرواية يعود إلى وجود العمل سواء كان نفس العمل أو جزئه أو شرطه ولا يعود الضمير إلى صحة العمل.

مناقشة رأي الإمام الخميني(ره):

الظاهر أنّ رأي المرحوم في هذه الرواية يمكن الإشكال عليه من جهات عديدة:

1 ـ إنّ هذا الكلام منه يحتاج إلى تقدير كثير من الألفاظ لكونه خلاف الظاهر.

2 ـ إنّ لفظة ـ من ـ المذكورة في الرواية بيانيّة لا تبعيضية فتكون الرواية ظاهرة في كلّ العمل فيكون المراد بالشك الشك بعد العمل، وعليه تختصّ الرواية بقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز.

3 ـ إنّ ما تفضّل به الإمام الخميني(ره) في تفسير الرواية من أنّ معنى (قد مضى) أي قد مضى محلّه المقرّر الشرعي فهل يصدق تجاوز محل العمل على تجاوز العمل نفسه أولا؟ ذلك أنّ المحلّ أمر تعبّدي ولا يمكننا أن نعرف متى يتحقق التجاوز عن المحل ولابد للشارع من أن يوضّح لنا ذلك، فمثلاً يستفاد من


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج8باب23من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص238حديث3.

2 . الاستصحاب ص320.

كلمات الشارع أنّ محلّ الركوع قد تجاوز عند تحقق السجود، أمّا العرف فلا يفهم ذلك كما لا يدرك العرف الفرق بين الجزء الركني وغير الركني.

4 ـ مضافاً إلى كون مضيّ المحل أمراً تعبّدياً فإنّ العرف لا يرى صدق تجاوز المحلّ على ما لو فرغ المكلّف من العمل فلا يقال فيه: مضى محلّه بل يقال: مضى أصله وكلّه.

ولهذا كلّه (أي للإشكالات المذكورة) ذهب المشهور إلى أن معنى (كلّما شككت فيه) هو أنّه كلّما شككت في نفس العمل لا في جزئه أو شرطه، ولعلّ هذا هو السر في أن يحتمل الإمام الخميني(ره) بعد أسطر من كلامه السابق أنّ الرواية مختصّة بالشك في العمل فلا تشمل الشك في الجزء أو الشرط فهو يقول:

(يقرب احتمال آخر في قوله (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو) وهو أنّه بصدد بيان موردٍ من موارد قاعدة التجاوز أي الشك الحادث بعد مضي العمل المتعلّق بكلّ ما اعتبر فيه... فالشك الحادث بعد العمل كالحادث بينه بعد مضيّ المحلّ لا اعتبار به...)(1).

فهو في كلماته هذا يرى أنّ الموثّقة مختصّة بالشك بعد مضي العمل، وعليه تكون الرواية في صدد بيان أحد موارد التجاوز وهو الشك بعد الانتهاء من العمل، وحينئذٍ فلا دلالة لها على الشك في أثناء العمل.

5 ـ الإشكال الخامس هو أنّه(ره) استند إلى كلمة (مضى) في هذه الرواية بأنّ لها معنى عاماً يشمل مضيّ الجزء كما يشمل مضيّ كلّ العمل ونحن نقول بأنّ التعبيرات المختلفة قد وردت في الروايات من أمثال (بعدما ينصرف) (بعدما يصلّي) (بعدما يفرغ) وهي غير قابلة للحمل على معنى التجاوز بل لها ظهور في


1 . الاستصحاب، ص321.

قاعدة الفراغ، ومن البعيد جدّاً أن يستفاد عنوان التجاوز عن المحلّ من هذه التعبيرات.

الرواية الثالثة التي استند إليها الإمام الخميني(ره) موثقة ابن أبي يعفور: (وعن المفيد، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن عبدالكريم بن عمرو، عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع) قال: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيءٍ إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه)(1).

حيث يقول الإمام الصادق(ع) في هذه الرواية بأنّك كلّما شككت في جزءٍ من الوضوء ولم تدخل في غيره فشكّك لا يعتنى به ثمّ يبيّن الإمام(ع) قاعدة كلّيّة بقوله: (إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) يعني أن الشك إنّما يعتنى به فيما لو لم يتجاوز محل المشكوك ولم يدخل في غيره.

وفي هذه الرواية بحثان لابدّ من التدقيق فيهما: أحدهما في الضمير الغائب في (غيره)، والآخر في القاعدة الكلّيّة التي بيّنها الإمام(ع) في ذيل الرواية.

أمّا البحث الأوّل فيتمثّل في السؤال عن مرجع الضمير الغائب في قوله(ع) (دخلت في غيره) فإن كان مرجعه لفظ (شيء) بمعنى أنّ الإمام(ع) يقول: (إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غير الشيء) كان مفاد الرواية قاعدة التجاوز وحينئذٍ يرد الإشكال على هذا الاحتمال بأنّه مخالف للفتاوى والنصوص لقيام الإجماع القطعي على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء.

والاحتمال الثاني أن يكون مرجع الضمير الغائب كلمة الوضوء بمعنى أنّ


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص470حديث2.

الإمام(ع) يقول: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غير الوضوء) وعليه يكون مفاد الرواية قاعدة الفراغ.

هذا ولكنّ الذي ينبغي أن يذكر هو أنّ الرواية الظاهرة في معنى لا يمكن رفع اليد عن ظهورها بسبب مخالفة هذا الظهور للفتاوى، ولا يمكن التصرّف في ظاهر الرواية بواسطة الإجماع فالإجماع أو الفتاوى لا يكون قرينة على التصرف في المراد الاستعمالي والمراد الجدّي بل يمكن الالتزام بطرح الرواية المخالفة للإجماع. وهذا ينطبق على هذه الرواية مورد البحث.

البحث الثاني هو أنّ ذيل الرواية (إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) يمكن أن يؤيّد رأي الإمام الخميني(ره) في أنّ الروايات ناظرة إلى قاعدة التجاوز والملاك الوحيد هو التجاوز عن المحلّ، لأن ذيل الرواية بقرينة كلمة إنّما الظاهرة في الحصر عند مشهور الأدباء يحصر الشك المعتنى به في الشك فيما لم يتجاوز عن الشيء، ولاسيما إذا التزمنا في البحث الأوّل بأنّ مرجع الضمير الغائب هو الوضوء ليكون مفاد الرواية قاعدة الفراغ. ذلك أنّ ملاك قاعدة الفراغ هو التجاوز عن المحل بحسب الرواية في هذه الصورة دون الفراغ منه.

ولابد من الالتفات إلى ما ذكرناه في البحث الأوّل من أنّ مخالفة رواية للفتاوى والإجماع لا توجب رفع اليد عن ظهورها فلا يمكن التصرّف في مدلول الرواية بسبب الإجماع والفتاوى والطريق الوحيد الذي يمكن التصرف به في مدلول الاستعمالي هو وجود رواية أخرى ناظرة إلى هذه الرواية وطالما أنّ هكذا رواية مفقودة في المقام فإنّ موثقة ابن أبي يعفور تكون مؤيدة لرأي الإمام الخميني(ره) وإنْ لم يؤكّد عليه هو. فبما لم نجد جواباً عن ذلك كانت نظرية الإمام الخميني(ره) راسخة صحيحة إلاّ أنّ التحقيق يقتضي عدم قدرة الرواية على

إثبات رأي الإمام الخميني(ره) وذلك:

أ ـ إذ لو كان صدر الرواية ناظراً إلى قاعدة التجاوز لوجب بحسب ظاهرها جريان هذه القاعدة في الوضوء أيضاً مع أن صحيحة زرارة نفت جريان قاعدة التجاوز في الوضوء، كما أنّ إجماع الفقهاء على خلاف هذا الجريان.

نعم لا يمكن أن يكون هذا الإجماع سبباً للتصرّف في المدلول الاستعمالي للرواية إلاّ أنّه يُسقطها عن الحجية فإذا صار صدر الرواية مختصّاً بقاعدة التجاوز وجب اختصاص ذيلها الوارد لبيان القاعدة الكلّية بقاعدة التجاوز بقرينة السياق.

وبعبارة أخرى أنّ لفظة (شيء) الواردة في ذيل الرواية هي نفس لفظة (شيء) الواردة في صدرها فإذا كانت هذه اللفظة في صدر الرواية بمعنى الجزء (شيء من الوضوء أي جزء من الوضوء) كان كذلك في ذيل الرواية.

ب ـ حتى لو قيل في الاحتمال الثاني بأن صدر الرواية ذو احتمالين حيث يحتمل أن يكون ناظراً إلى قاعدة التجاوز وكذلك إلى قاعدة الفراغ فإنّ الرواية على هذا تصبح مجملة لقابلية حملها على كلا الاحتمالين على حدّ سواء فلابد من طرحها.

فعلى مبنى صحة التفکيك في حجية الروايات كما نذهب إليه فإنّنا نوضّح المراد من ذيل الرواية ولا علاقة لنا بصدرها فإنّ المدّعى هو أن قوله(ع): (إنما الشك في شيءٍ لم تجزه) ظاهر في نفسه في أجزاء المركب ويشمل مجموع المركب فيختص ذيل الرواية بقاعدة التجاوز ولا علاقة له بقاعدة الفراغ، إذ لو عمّت الرواية لقاعدة الفراغ التي تتعلّق بصحة العمل بعد الانتهاء منه كان مفاد


1 . يقال في هذا المبنى: إنّه لو انتفت حجيّة جزء من الرواية ولم يمكن الاستناد إليه لم يخلّ بحجّية باقي الرواية ويبقى سائر أجزاء الرواية على حجيتها.

الرواية حينئذٍ أنّه لو تجاوزتْ العمل فلا تعتن بشكّك وإلاّ فاعتن به ـ ولمّا كان ملاك التجاوز هو الدخول في الجزء الآخر أي أنّ (لم تجزه) بمعنى لم تدخل في غيره، فلو أنّ المكلّف شكّ في صحّة صلاته بعد الانتهاء من صلاته وقبل الدخول في أي عمل مناف آخر وهو جالس على مصلاه فلابدّ من الحكم بعدم الاعتناء بشكّه بمفاد هذا الرواية مع أنّ أحداً من الفقهاء لم يلتزم بذلك ولم يُفت به.

ج ـ لو سلّمنا بموافقة موثقة ابن أبي يعفور لما ذهب إليه الإمام الخميني(ره) من أنّ كلمة الشيء الواردة في الرواية تشمل كلّ العمل وجزأه وإن جملة (لم تجزه) أعمّ من التجاوز عن المحل والتجاوز من نفس الشيء كانت موثقة ابن أبي بكير دالة حينئذٍ على القدر الجامع بين القاعدتين لا أنّها دالة على قاعدة واحدة.

ومن هنا فإنّ الروايات الواردة في باب قاعدتي الفراغ والتجاوز ثلاث طوائف:

إحداها: تختص بقاعدة الفراغ والشك بعد العمل.

والثانية: تتعلّق بقاعدة التجاوز والشك حين العمل.

والثالثة: روايات تعمّ كلّتا القاعدتين بمعنى أنّ مفادها يشمل الشك بعد العمل وكذلك الشك حين العمل، ومن هذا القسم الثالث موثقة ابن أبي يعفور.

دراسة رواية موثقة بكير بن أعين:

بقيت رواية أخرى وهي موثقة بكير بن أعين التي لابدّ من دراستها بدقّة وإمعان لعل المستفاد منها الملاك الواحد على كلتا القاعدتين.

وهذا نص الرواية: (عن بكير بن أعين، قال: قلت له: الرجل يشكّ بعدما يتوضّأ قال(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك)(1).


1 . الشيخ الطوسي: تهذيب الأحكام101:1باب صفة الوضوء ج114.

ولابد من البحث في عدة نقاط من هذه الرواية:

1 ـ ما هو متعلّق الشك في قوله: (الرجل يشك بعدما يتوضّأ)؟ هل شك المكلّف في صحة مجموع العمل بمعنى أنّه يعلم بإتيانه جميع أجزاء الوضوء إلاّ أنّه يشك في صحّتها أو أنّه قد شك في وجود جزءٍ من أجزاء الوضوء أو أنّه يشمل الأعم منهما ـ الشك في وجود الجزء والشك في صحّة مجموع العمل؟ الظاهر أنّ الاحتمال الثالث هو الصحيح من بين هذه الاحتمالات الثلاثة، وعليه يمكن أن يكون متعلّق الشك صحة مجموع المركّب، وكذا الجزء المعيّن من أجزاء العمل، وعليه فإنّ مورد الرواية هو الشك بعد العمل ـ في الوجود أو في صحّة العمل ـ الذي هو مجرى قاعدة الفراغ لأنّ ملاك قاعدة الفراغ كما ذكرنا سابقاً هو الشك بعد الانتهاء من العمل.

2 ـ النقطة الثانية هي: أنّ ملاك الأذكرية هل يوجد في قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز؟

للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من القول بأنّ التعبير بقوله(ع): (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك) ليس تعبّداً شرعياً وليس الإمام(ع) فيه بصدد بيان الملاك الشرعي، بل في هذا التعبير إشارة إلى أمر واقعي عقلائي، وعليه فلابد من الرجوع إلى العقلاء لمعرفة أنّ الأذكرية عندهم هل هي معتبرة بعد العمل فقط بمعنى أنّهم يقولون: إذا شككت في صحة العمل أو في وجود جزء من أجزاء العمل بعد الانتهاء من العمل فلا تعتن بشكّك لأنّك حين العمل كنت أذكر، أو أنّ العقلاء يلتزمون بهذا المقال في الشك في أثناء العمل أيضاً فيقولون مثلا: لو سجد المكلّف ثمّ شك في أنّه ركع لم يعتن بشكّه لأنّه حين الركوع كان أذكر؟

والذي نعتقده هو أنّ الأذكرية تامّة قطعاً في الشك بعد العمل إذ كلّ عامل

حين اشتغاله بالعمل أذكر من زمن الفراغ من العمل، ذلك أنّ المكلّف حين العمل يركز كلّ اهتمامه على إتيان العمل على ما هو عليه.

أمّا في أثناء العمل فإنّ الأذكرية بالنسبة إلى الجزء السابق فمحل تأمّل، إذ لو وجب القبول بالأذكرية هنا لوجب القبول بها قبل الدخول في المحل والجزء الآخر أيضاً، فمن هوى إلى السجود مثلاً وشك في الركوع قبل أن يضع جبهته على ما يصحّ السجود عليه فلابد من الالتزام بأنّه في حالة الركوع كان أذكر وعليه فلو جرت الأذكرية في قاعدة التجاوز وجب الالتزام بجريأنها قبل الدخول في الجزء الآخر أيضاً، وهو محلّ تأمل وغير قابل للقبول.

لو سلّمنا جريان ملاك الأذكرية في قاعدة التجاوز أيضاً فهل يمكن أن تكون وحدة الملاك في القاعدتين سبباً لاتّحاد القاعدتين؟ وهل يتوقّف تغاير القاعدتين على تغاير الملاك فيهما؟

الجواب بالنفي وليست وحدة الملاك دليلاً على وحدة القاعدتين لوجود موارد كثيرة في الفقه يجمعها ملاك واحد مع بقاء التعدّد والتغاير على حاله، فمثلاً في باب الخيارات فإنّ الملاك في خيار الغبن وخيار العيب وخيار تخلّف الشرط واحد وهو (لا ضرر) فهذه الخيارات المتعدّدة ملاكها واحد وهي متغايرة ومتعدّدة.

وعليه فالحاصل أنّ الأذكرية إنّما تجري في قاعدة الفراغ فقط ولو جرت في قاعدة التجاوز أيضاً لزم التالي الفاسد مضافاً إلى أنّ ذلك لا يوجب وحدة قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ، ومن هنا فإنّ موثقة بكير بن أعين لا يمكن إثبات وحدة القاعدتين بها أيضاً.

وبالجملة فإنّ المستفاد من الروايات أيضاً هو وجود قاعدتين مستقلتين لهما

ملاكان مختلفان وهما الشك بعد العمل والشك حين العمل.

ثمّ أنّه لابد هنا من التعرض لإشكالين تكملة للبحث وإثباتاً للمدّعى.

الإشكال الأوّل: ما يستفاد من كلمات الشيخ الأنصاري(ره) وبعض الأعلام(1) تبعاً له وهو أنّ في خمس عشرة رواية من روايات هذا الباب تکون وحدة السياق والتعبير، ومن المعلوم أنّ السياق قرينة عرفية على جعل الشارع المقدس حكماً واحداً.

جواب الإشكال الأوّل:

الظاهر أنّ هذا الإشكال غير وارد:

أولاً: لأنّ قرينية السياق محلّ تأمل وإشكال فمثلاً في القرآن الكريم وردت قبل آية التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2) آيات عديدة تتحدّث عن أمور تتعلق بنساء النبي(ص) فلو سلّمنا قرينية السياق لزم القول بشمول الضمير (عنكم) في آية التطهير لجميع نساء النبي(ص) والحق يقتضي خلاف ذلك وأنّ آية التطهير لا تشمل نساء النبي(ص).

ثانياً: لو سلّمنا قرينية السياق فأنّها في كلام المتكلّم الواحد بحيث تكون الجمل متّصلة لا في الجمل المنفصلة كما هو الشأن فيما نحن فيه حيث إنّ الرواية من الإمام الباقر(ع) والأخرى من الإمام الصادق(ع) حتى الروايات الواصلة من الإمام الواحد كالإمام الصادق(ع) فإنّ رواتها مختلفون فلا يمكن


1 . السيد أبو القاسم الخوئي: أجود التقريرات467:2وهذا نصّ كلامه: (إن روايات الباب آبية عن حملها على جعل قاعدتين مستقلّتين فإنّ الرجوع إليها يشرف الفقيه على القطع بكون المجعول فيها أمراً واحداً ينطبق على موارد الشك في الأجزاء والشك بعد العمل فإنّ اتّحاد التعبير في موارد الأخبار الواردة في موارد التجاوز عن الأجزاء والفراغ من العمل يكاد يوجب القطع بوحدة القاعدة المجعولة).

2 . سورة الأحزاب: الآية33.

للسياق أن يكون قرينة مع وجود هذا الاختلاف.

ثالثاً: الأهمّ من الجوابين السابقين هو أنّه لا وجود لوحدة التعبير في روايات الباب فإنّ البحث في روايات قاعدة التجاوز إنّما هو عن التجاوز عن المحل المقرّر الشرعي حيث يقول مثلاً: (يشك في السجدة حينما قام ـ أو ـ شكّ في الركوع حينما سجد).

وأمّا البحث في روايات قاعدة الفراغ فهو إتمام العمل والانتهاء منه فمثلاً يقول: بعدما ينصرف من صلاته ـ بعدما يفرغ من صلاته) فهل هذه التعبيرات واحدة؟ كلّا ليس كذلك بل الموجود في صحيحة زرارة کلمتان مختلفتان حيث يقول: (إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليها... فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو... لا شيء عليك فيه)(1) حيث ذُكر فيها تعبيران مختلفان كلّ منهما موضوع لحكم مختلف عن الآخر، وعليه فلا مصداقية لوحدة السياق والتعبير.

الإشكال الثاني: ما يستفاد من كلمات بعض أهل النظر وهو أنّ الملاك في قاعدة التجاوز هو الشك في الوجود، والتحقيق أنّ الشك في الوجود راجع إلى الشك في الصحة عكس ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري.

توضيح الإشكال هو أنّه عندما يُشك في وجود جزءٍ معيّن والمفروض وجود سائر الأجزاء، وعليه فإنّ الشك في إتيان ذلك الجزء يوجب الشك في صحّة سائر الأجزاء فيرجع الشك في الوجود إلى الشك في الصحّة، وبعبارة أخرى أنّ التعبّد بوجود الجزء عند الشك في وجوده إنّما هو في الواقع تعبّد بصحّة سائر الأجزاء.


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج1باب43من أبواب الوضوء ص469حديث1.

جواب الإشكال الثاني:

أولاً: ذكرنا سابقاً بأنّ الشك في الصحة لا يرجع إلى الشكّ في الوجود ولا العكس بل هما عنوانان مستقلاّن لكلّ منهما آثاره المختلفة.

ثانياً: ما قيل في الإشكال لا يتوافق مع ظاهر روايات قاعدة التجاوز ففي روايةٍ من باب المثال حيث يسأل السائل: أشكّ أثناء السجود في أنّي هل ركعت أولا؟ ويجيب الإمام(ع): (إنّك قد ركعت).

فإنّ الإمام(ع) هنا لم يلاحظ سائر الأجزاء بل تعبّدنا بأنّ نبني على إتيان الركوع.

إلى هنا أثبتنا أنّ قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز قاعدتان مستقلّتان متغايرتان ونحن نعتقد بتعدد القاعدتين.

ثمرة بحث تعدّد القاعدتين أو وحدتهما:

ثمّ أنّه بعد أن اتّضح لنا بأنّ قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدتان مستقلتان بحسب مقام الإثبات بقي أن نتساءل عن ثمرة هذا التعدد.

وسنذكر في المباحث الآتية ثمراتٍ لهذا البحث من قبيل أن يقال بأنّ الدخول في الغير شرط في قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ أو يقال بأنّ قاعدة الفراغ تجري في جميع أبواب الفقه أمّا قاعدة التجاوز فهي مختصّة بالعبادات وتجري في باب الصلاة بالخصوص وغير ذلك من الثمرات التي سنذكرها.

وبغض النظر عن هذه الثمرات فإنّ المحقق العراقي ذكر في كتابه نهاية الأفكار ثمرة جيّدة لهذا البحث نذكرها هنا فهو يقول: فيما لو تيقّن المكلّف بأنّه ترك سجدة واحدة أو التشهّد من صلاته مّما جعله يشكّ في الإخلال بالترتيب أو الموالاة في صلاته فإن جعلنا الفراغ والتجاوز قاعدتين مستقلّتين أجرينا قاعدة

الفراغ هنا وحكمنا بصحّة الصلاة، ثمّ حكمنا بوجوب قضاء السجدة الفائتة أو التشهد الفائت بواسطة تلك القاعدة.

وبعبارة أخرى فإنّ المكلّف بعد علمه بعدم إتيان السجدة الواحدة يشك في صحة باقي الأجزاء من جهة الإخلال بالترتيب فنحكم حينئذٍ بصحّة باقي الأجزاء بمقتضى قاعدة الفراغ ومن آثار الصحة وجوب قضاء السجدة المنسيّة.

أمّا لو التزمنا بوحدة القاعدتين فإنّ إثبات وجوب قضاء السجدة أو التشهّد فمحل إشكال إذ على القول بوحدة القاعدتين فإنّ هناك عنواناً واحداً مشتركاً وهو عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد التجاوز عنه كما أشار إلى ذلك الإمام الخميني(ره) وآخرون إلاّ أنّ المذكور في كلام المحقق البروجردي أنّ العنوان الواحد هو عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد المضيّ.

ولا يصدق هذا العنوان (الشيء) على الترتيب والموالاة لتجري فيها القاعدة.

ثمّ يتنازل المحقق العراقي في استمرار كلامه ويقول: لو سلّمنا بجريان القاعدة على القول بوحدة القاعدتين واجهنا إشكالاً آخر وهو أنّ المكلّف إذا أراد أن لا يعتني بشكّه وجب أن يبني على وجود الصحيح أي يجب أن يتعبّد أنّ ما أتى به من الصلاة مصداق لوجود الصلاة الصحيحة، وعليه فلا حاجة إلى قضاء السجدة المنسية أو التشهد الفائت لعدم وجود الخلل هنا، لأنّ قضاء السجدة والتشهّد إنّما يجب فيما لو ترتبت الصحة على العمل على نحو كان الناقصة لا على نحو كان التامة(1).


1 . وهذا نص كلام المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج4قسم2ص46: (ثمّ إنّه ممّا يترتّب على اتّحاد القاعدتين وتعدّدهما أنّه لو علم بفوت سجدة واحدة أو التشهد وقد شكّ في صحّة صلاته من جهة احتمال احتمال الإخلال بالترتيب أو الموالاة المعتبرة فيها فإنّه على ما ذكرنا من تعدد القاعدة وتعدّد الكبرى المجعولة فيهما تجري في الصلاة قاعدة الفراغ الحاكمة بصحّتها ويترتب على صحتها وجوب قضاء السجدة أو التشهد وسجدتي السهو وأمّا على القول بوحدة القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة فيهما كما هو مختار الشيخ ومَن تبعه فيشكل إثبات وجوب قضاء السجدة أو التشهد في الفرض المزبور فإنّه بالنسبة إلى المشكوك فيه وهو الموالاة أو الترتيب لا يصدق عليه الشيء حتّى يجري فيه قاعدة الشك في الشيء بعد تجاوز محلّه وأمّا بالنسبة إلى المركّب الذي شكّ في وجوده التام فكذلك لأنه بلحاظ ما يكون منه مشكوكاً أعني الترتيب والموالاة لا يكون شيئاً حتى تجري فيه القاعدة وبلحاظ ما يكون منه شيئاً وهو الأجزاء لا يكون مشكوكاً وعلى فرض جريان القاعدة فيه واقتضائها لإثبات وجود العمل الصحيح لا يترتب عليه وجوب قضاء السجدة أو التشهد لأنها من آثار صحة الصلاة بمفاد كان الناقصة فلا يمكن ترتيب مثل هذا الأثر عليه إلا على القول المثبت).

إشكال: قد يقال هنا بأنّ قضاء السجدة أو التشهّد إنّما ثبت هنا بدليل خاص ولا علاقة لا بمسألة وحدة قاعدتي الفراغ والتجاوز أو تعددّهما.

وبعبارة أخرى فإنّ المكلّف مثلاً لو تيقّن بعد الفراغ من الصلاة بأنّه ترك القراءة لم يُفتِ أحد بوجوب قضاء القراءة بعد الصلاة ولا دليل على وجوب قضائها هنا بخلاف السجدة والتشهّد حيث يوجد دليل خاص على وجوب قضائهما، وعليه فلا علاقة لتعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز ووحدتهما بهذا الأمر.

لكنّه يقال في مقام الردّ عن هذا الإشكال بأنّ الدليل الخاص موجود هنا لكنّ الكلام إنّما هو فيما لو لم نقبل بهذا الدليل وأشكلنا على صحة سنده أو دلالته فنحن نتكلّم عما هو مقتضى القاعدة بغض النظر عن وجود دليل خاص، ولهذا قال المحقق العراقي: بأنّنا لو التزمنا بتعدد قاعدتي الفراغ والتجاوز فإنّ قاعدة الفراغ تثبت الصحّة بمفاد كان الناقصة وأثر هذه الصحة وجوب قضاء السجدة والتشهد المنسييّن.

وأمّا لو التزمنا بوحدة القاعدتين تثبت بها الصحة بمفاد كان التامّة ولا حاجة حينئذٍ إلى قضاء السجدة أو التشهد. والظاهر أنّ هذه الثمرة التي ذكرها المحقق العراقي ثمرة دقيقة ولا غبار عليها.

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في جميع أبواب الفقه:

لا شك في أن مجرى قاعدة التجاوز هو الشك في وجود أجزاء العمل المركب الواحد كالصلاة ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في صحة العمل بعد الفراغ من مجموع ذلك العمل إنّما الكلام هنا في أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز هل هي مختصّة بباب الطهارة والصلاة.

وبعبارة أخرى هل هي مختصّة بالعبادات حيث تكون ذمّة المكلّف مشغولة بها والشارع إنّما يحكم بعدم الاعتناء بالشك من باب الامتنان ليرى المكلّف ذمتّه بريئةً، أو أنّها تجري في جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ومن العقود والايقاعات؟

مَن ذهب إلى وحدة قاعدة الفراغ والتجاوز يستفاد من كلماتهم أنّها عامّة لجميع أبواب الفقه حيث يقولون بأنّ مورد قاعدة الفراغ والتجاوز وإن كان الغالب في الروايات هو باب الطهارة والصلاة إلا أنّ إطلاق تلك الروايات والحكم الكلي المستفاد منها إنّما يشمل الطهارة والصلاة وسائر أبواب الفقه من العبادات والمعاملات.

ومن هنا فلو شك في صحة عقدٍ أو إيقاع بعد الفراغ منه حُكم بصحّته، وكذا لو شُك في صحّة غسل الميت وتكفينه ودفنه حكمنا بصحتها بسبب تلك الإطلاقات والعمومات.

ولا وجه لاختصاص هذه القاعدة ببابي الطهارة والصلاة ولهذا يقول صاحب الجواهر في هذا المجال: (إنّ هذه القاعدة محكّمة في الصلاة وغيرها من الحجّ والعمرة وغيرهما)(1).


1 . محمد حسن النجفي: جواهر الكلام355:2.

أمّا على مبنی المشهور ـ وهو مختارنا أيضاً ـ من أنّ قاعدة التجاوز مختلفة تماماً عن قاعدة الفراغ وأدلّتهما متغايرة فلابدّ من دراسة كلّ من القاعدتين على نحو الاستقلال ليتضّح لنا هل يستفاد منها العمومية لجميع أبواب الفقه أولا؟

فبالنظر إلى قاعدة الفراغ قامت الشهرة بل نفي الخلاف بل الإجماع على عدم اختصاصها بباب خاصّ وأنّها تجري في جميع أبواب الفقه. ولإثبات هذا التعميم نقول: إنّ روايات قاعدة الفراغ وردت فيها ثلاثة تعابير يستفاد منها التعميم بوضوح:

التعبير الأوّل: (كلّما شككت فيه مّما قد مضى فأمضه كما هو)(1).

حيث ذكرنا سابقاً بأنّ (من) في (مّما) بيانيّة فتكون العبارة عامّة تشمل أيّ عمل من الأعمال مضافاً إلى عدم وجود السؤال في الرواية عن الصلاة أو عبادة أخرى.

ويمكن أن يورد على دلالة هذه العبارة على التعميم إشكالان:

الإشكال الأوّل: هو أنّ السؤال عن الصلاة وإن لم يرد في هذه الرواية إلاّ أنّ هناك ثلاث روايات أخرى متعلقّة بقاعدة الفراغ وقد ذكر فيها بحث الصلاة بقوله: (فامضه ولا تُعد) ويكون (لا تعد) قرينة على عدم شمولية (كلّما شككت فيه مّما قد مضى فأمضه كما هو) لكلّ مركّب، بل يراد به المركبّات الاعتبارية الشرعية المأمور بها المشتغل بها ذمّة المكلّف وهذه لا تتأتي إلاّ في باب العبادات(1).

والجواب عن هذا الإشكال: إنّ روايات باب الصلاة (امض ولا تعد) لا


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج8باب33من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص238حديث3.

2 . السيد محمود الهاشمي: قاعدة الفراغ والتجاوز ص96.

يمكنها أن تقيّد موثقة ابن بكير (فامضه كما هو) لأنّهما مثبتتان وتشملان على حكمين مستقلين فالتعبير بـ (لا تعد) الوارد في الروايات الأخرى لن يكون صالحاً للقرينيّة، هذا كلّه مضافاً إلى أنّ قوله (لا تعد) في روايات باب الصلاة ليس من القيود الدخيلة في الموضوع بل له عنوان الحكم، والقيد إنّما يكون مقيّداً فيما لو كان دخيلاً في الموضوع فلا يمكن لهذا القيد (لا تعد) أن يقيّد الروايات العامة، فالإشكال غير وارد.

الإشكال الثاني: الوارد على الاستدلال بهذه الرواية هو إنّ في صدر الرواية (كلّما شككت فيه) كلمة (ما) اسم موصول مبهم وكلّما استعمل في الكلام لفظ مبهم لزم تقدير كلمة کي يُرفع بها الإبهام فقوله: (كلّما شككت فيه) مبهم فيحتاج إلى تقدير شيء، وهذا المقدّر مردّ بين الأقل والأكثر إذ لا نعلم أن ما يجب تقديره هو خصوص المركبّات العبادية أو هو الأعمّ من المركبات العبادية وغير العبادية؟ وقد ذُكر في علم الأصول أنّ في موارد إبهام اللفظ لمردّد بين الأقل والأكثر لا يمكن التمسّك بإطلاق اللفظ واستفادة المعنى الأعم منه لأنّ عدم التقييد من مقدمات الحكمة في إثبات الإطلاق، والإطلاق المستفاد من مقدّمات الحكمة لا يمكنه أن ينفي القيد الذي يدلّ عليه دال آخر.

أمّا مفهوم الإطلاق والعموم فلا يستفاد من حاقّ اللفظ المطلق.

وفيما نحن فيه لا يمكن استفادة المعنى العام والمطلق من لفظ ما الموصول المبهم فلابدّ من تقدير المقدار اللازم تقديره وهو المركبات العبادية، وبالتالي يجب حمل الرواية على المركّبات العبادية من غير التعميم والشمولية لغيرها(1).

الجواب الأوّل عن هذا الإشكال:

إنّا لا ننكر القاعدة الأصولية المذكورة في علم الأصول إلاّ أنّنا في مورد


1 . المصدر نفسه.

الرواية لو كنّا نحن وعبارة (كلّما شككت فيه) من غير وجود عبارة (مما قد مضى) لكان الإشكال الثاني وارداً لكن قوله(ع): (مما قد مضى) مع كون (من) في (ممّا) بيانية يفيد للمكلّف الملاك ويفهمه بأنّ المراد من هذا المبهم هو الشيء الذي قد مضى. فيكون هذا التعبير (مما قد مضى) رافعاً للإبهام عن ما الموصولة والأصوليون يتّفقون على أن تعليق الحكم مشعرٌ بالعليّة فيكون (مما قد مضى) بمعنى (لأنه مضى) فلا يبقى إبهام مع وجود قوله(ع): (مما قد مضى) ولا يكون المورد من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ليُستفاد من تلك القاعدة الأصولية.

الجواب الثاني عن هذا الإشكال:

إنّ هذا الشك من أصله ليس منحصراً في المركبّات بل قد يشمل الأمور البسيطة أيضاً مثلاً في باب الإحرام على القول بأنّ الإحرام أمرٌ بسيط فإنّ المكلّف لو خرج من الميقات وشكّ في أنّه هل أحرم على النحو الصحيح أولا تمسّكنا بقاعدة الفراغ في الحكم بصحّة إحرامه.

وعليه فإنّ المستفاد من عموم قوله (مما قد مضى) هو أنّ كلّما مضى محلّه لا ينبغي أن يُشكَّ في صحّته فلا اختصاص لقاعدة الفراغ بالمركبات بل تجري في البسائط أيضاً، فالحاصل أنّ التعبير بـ (كلّما شككت فيه مّما قد مضى) تعبير عامّ يشمل جميع أبواب الفقه.

التعبير الثاني في روايات قاعدة الفراغ الذي يستفاد منه التعميم هو التعليل الوارد في ذيل موثقة بكير بن أعين وهو قوله(ع): (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك)(1) بتقريب أن يقال: بإلغاء الخصوصية من كلمة (يتوضأ) فيكون ملاك


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص471حديث7.

الأذكرية المذكورة في الرواية سارياً إلى جميع موارد الشكّ ولا اختصاص له بمركّب دون مركّب آخر، فلو شك المكلّف بعد الصلاة قلنا في حقّه (هو حين يصلّي أذكر منه حين يشكّ) وكذا لو شك في المعاملة بعد الانتهاء منها أو شك في النكاح بعد الفراغ منه فيقال (هو حين وقوع البيع أو حين النكاح أذكر) فبعد إلغاء الخصوصية يمكن أن يقال: (هو حين العمل أذكر منه حين يشك) وعليه تكون قاعدة الفراغ عامّة تجري في جميع أبواب الفقه.

والإشكال الوارد هنا هو: أنّ استفاد التعميم من هذا التعبير مشروطة بأن يكون هذا التعبير وارداً على نحو العلّة لا بعنوان الحكمة، والفرق بين العلّة والحكمة هو أنّ الحكم في العلّة يدور مدار الموضوع المعنون وجوداً وعدماً وليس كذلك في الحكمة فإنّ الحكم متوقّف عليها وجوداً وليس عدم الحكم متوقفاً على عدم الحكمة ولو ذُكرتْ بلسان التعليل فلو قيل: (لا تشرب الخمر لأنّه مسكر) فإنّ الإسكار هنا وإن ذكر بلسان التعليل لكنّه ليس بعلّة بدليل إنّ الخمر حرام وإن لم يتحقّق فيه الإسكار فهو من باب الحكمة. مثال آخر هو مما ذكره الفقهاء في لزوم عدة الطلاق من أنّ الحكمة في اتّخاذ العدّة هي عدم اختلاط المياه، ومن المعلوم أنّنا لو تيقّنا بعدم اختلاط المياه كما لو كان الزوجان منفصلين كلّ منهما بعيد عن الآخر سنوات عديدة فإنّ العدّة بعد الطلاق واجبة على المرأة ومّما يدلّ ذلك على أنّ عنوان عدم اختلاط المياه حكمة لا علّة.

أمّا في باب الخيارات حيث يقال: بأنّ ملاك الخيار هو وجود العيب والحكم الوضعي أي الخيار وجواز الفسخ دائر مدار العيب وعدمه فإنّ العيب علّة.

ومن جهة أخرى فإنّ مجرّد ورود التعبير لا يمكن أن يكون دليلاً على كونه علّة أو حكمة ففي هذه الرواية لا يُحرز من تعبير (أذكر) إنّ الأذكرية علّة أو

حكمة. فليس هناك قاعدة عامة نميّز من خلالها الحكمة عن العلّة بل لابدّ من معرفة ذلك من خلال القرائن الموجودة في المقام.

نعم يمكن إراءة طريقين لتمييز العلّة عن الحكمة:

1 ـ عند دوران الأمر بين العلّة والحكمة لابدّ من حمل العنوان على الحكمة لغلبتها على العلّة حيث إنّ الغالب في الأحكام أنّ العنوان فيها حكمة.

إلاّ أنّ هذا الطريق غير تام إذ مضافاً إلى عدم صحّة الصغرى فيه فإنّ الكبرى أي قاعدة (الظنّ يلحق الشيء بالأعم الأغلب) محلّ إشكال.

2 ـ الطريق الثاني هو أنّه قد يقال: بأنّ العلّة منحصرة والحكمة غير منحصرة ففي الصلاة مثلاً هي ذكر الله وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي المعراج وهي عمود الدين فإنّ هذه العناوين من باب الحكمة لا من باب العلّة، فلو أتى المكلّف بصلاة ليست مصداقاً لأحد هذه العناوين فإنّ الواجب يؤدّى بهذا المصداق. وهكذا في باب الصوم لو صام المكلّف من غير حصول التقوى له لم يمكن القول بأنّ صومه لم يكن مصداقاً للصوم الواجب.

والظاهر عدم تمامية هذا الطريق أيضاً إذ قد يكون العنوان حكمة ومع ذلك يكون منحصراً كالخمر الذي لم يرد في حرمته سوى لأنّه مسکر ومع ذلك فإنّ الإسكار حكمة لا علة، وكذلك العكس صحيح حيث قد يكون العنوان علّة ومع ذلك لا يكون منحصراً في الفرد الواحد كالخيارات حيث يمكن القول بأنّ خيار العيب له علّتان العيب والضرر، فلا تكون العلّة منحصرة، وعليه فلا صحة لملاك الانحصار وعدمه في التفريق بين العلّة والحكمة فلابد لنا من الرجوع إلى القرائن لمعرفة أنّ العنوان المذكور علّة أو حكمة ومتى لم نحرز ذلك من القرائن صار الكلام مجملاً غير قابل للتعدّي إلى الموارد المشابهة.

وبعبارة أوضح فإنّ استفدنا العلّية من العنوان كان قابلاً للتعميم والتعدّي إلى سائر الموارد المماثلة ـ بخلاف ما لو كان العنوان حكمة، فعلى سبيل المثال في حرمة الربا لو سلّمنا بأنّ الحرمة ناشئة من كون الربا معنون بعنوان الظلم وكان هذا العنوان علّة جاز لنا أن نعمّم حكم الحرمة حتى في الروايات الدالة على جواز التحيّل في الربا.

أمّا لو كان عنوان الظلم حكمة لم يكن له هذا الأثر، وقد اشتهر أنّ (العلّة تعمّم والحكمة لا تعمّم) مع إمكان المناقشة في هذه القاعدة بأنّ الحكمة لم لا تكون معمّمة؟ فلابد من التفريق بين العلّة والحكمة من جهة العدم أي يلزم من عدم العلّة عدم الحكم ولا يلزم من عدم الحكمة عدم الحكم.

ولا قرينة في التعبير الوارد في موثّقة بكير بن أعين على علية هذا التعبير مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ العلّة في عدم الاعتناء بالشك هو قوله(ع): (مما قد مضى) وليس الأذكرية كما سبق آنفاً في التعبير الأوّل أو يمكن القول بأنّ كليهما معاً علةً لا لوحده، وعليه يمكن أن يكون مفاد قوله(ع): (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ) تعميم مجاري قاعدة الفراغ على جميع أبواب الفقه.

التعبير الثالث: المذكور في روايات قاعدة الفراغ الذي يستفاد منه تعميم جريان القاعدة في جميع أبواب الفقه هو عموم التعليل الوارد في ذيل رواية محمد بن مسلم (وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)(1) وهذه العبارة كناية عن أنّ المكلّف قد أنهى عمله كاملاً ولها عنوان التعليل فتجري في جميع أبواب الفقه من باب أنّ العلّة تعمّم.

ويأتي في هذا التعبير والإشكال عليه جميع ما سبق في التعبير السابق من أنّ


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة ج8باب37من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص246حديث3.

العليّة التامّة إنّما هي لمضيّ العمل والفراغ منه ولا عليّة تامّة للأذكرية فلا يمكن استفادة العموم من رواية محمد بن مسلم.

هذا ولكن لمّا كان التعبير الأوّل (كلّما شككت فيه مّما قد مضى) تعبيراً عاماً استنتجنا من ذلك أنّ قاعدة الفراغ عامة تجري في جميع أبواب الفقه وليست مختصّة بباب الصّلاة.

دراسة عموم قاعدة التجاوز:

والمهمّ أن نبحث حول قاعدة التجاوز التي دلّت الأدلّة عندها على أنّها غير قاعدة الفراغ وهي تجري في أثناء العمل هل هي أيضاً عامة تجري في جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات.

يرى المحقّق النائيني(1) بأنّ قاعدة التجاوز مختصّة بباب الصلاة واستدلّ على رأيه بدليلين:

الأول:

ما أشرنا إليه في الأبحاث السابقة من أنّ أكثر روايات قاعدة الفراغ ظاهرة في الشك في كلّ العمل والروايات المعدودة المتعلّقة بقاعدة التجاوز حاكمة على روايات قاعدة الفراغ وألحقت الشك في الجزء بالشك في الكلّ وحكمت بوجوب عدم الاعتناء بالشك في الجزء كما هو الشأن في الشك في كلّ العمل بعد الفراغ منه، وعليه فلو شك في الجزء السابق بعد الدخول في الجزء اللاحق لا يعتنى به وإلحاق الشك في الجزء بالشك في الكلّ يوجب التوسعة التي لابدّ فيها من الاكتفاء على ما دلّت عليه الروايات لأنّ الحكومة عنوان تعبّدي لابدّ فيه من


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات479:2، محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول626:4.

الاكتفاء على القدر المتيقّن الذي هو أجزاء الصلاة.

الدليل الثاني:

هو أنّ القاعدة الأولية في المركّبات هي أنّ مجموع العمل المركب شيء واحد ولا يلاحظ الأجزاء لحاظاً استقلالياً، فمثلاً أنّ أجزاء الوضوء من حيث المجموع تعتبر عملاً واحداً ولم يلاحظ الشارع كل جزءٍ من أجزائه على نحو الاستقلال. والمورد الوحيد الذي خرج من هذه القاعدة حيث لاحظ الشارع أجزاء المركّب مستقلّة هو الصلاة، وعليه فإنّ قاعدة التجاوز يمكن إجراؤها في الصلاة فقط أمّا سائر المركبّات حيث لا لحاظ استقلالي لأجزائها فلا تجري فيها هذه القاعدة(1).

والظاهر أنّ كلا الدليلين قابلٌ للمناقشة، أمّا الدليل الأول فقد ذكرنا سابقاً بأنّ في باب الحكومة يعتبر في حكومة أحد الدليلين على الآخر أن يكون الدليل الحاكم ناظراً عرفاً إلى الدليل المحكوم أمّا بتوسعة موضوعه أو بتضييقه مع أنّ روايات قاعدة التجاوز ليست ناظرة عرفاً إلى روايات قاعدة الفراغ وعليه فلا حكومة هنا.

وأمّا الدليل الثاني فنقول فيه: ما الدليل على أنّ الشارع لاحظ الأجزاء في الصلاة فقط على نحو الاستقلالية؟ إنّ الروايات الواردة في قاعدة التجاوز هي ثلاث روايات يستفاد من جميعها عموم جريانها في جميع أبواب الفقه، وقد استند إليها القائلون بعموم هذه القاعدة كالإمام الخميني(2) وصاحب الجواهر(3).


1 . وهذا نصّ كلام المحقّق النائيني في فوائد الأصول626:4: (وبما ذكرنا ظهر اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة ولا تجري في أجزاء سائر المركبات الأخر لاختصاص مورد التعبّد والتنزيل بأجزاء الصلاة).

2 . الاستصحاب، ص320.

3 . محمد حسن النجفي: جواهر الكلام355:2.

الرواية الأولى: صحيحة زرارة التي يستفاد من إطلاقها العموم حيث جاء في ذيل الرواية: (يا زرارة إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء)(1) فإنّ لكلمة (شيء) اطلاقاً يشمل جميع المركبّات من العبادات وغيرها.

لا يقال بأنّ الإطلاق يتوقف على تمامية مقدّمات الحكمة التي من جملتها عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب حيث لو كان موجوداً بين المتكلّم والمخاطب لم يجز التمسّك بالإطلاق وهذه المقدّمة مفقودة في المقام حيث إنّ القدر المتيقن موجود في الرواية وهو سؤال زرارة المتعلّق بالصلاة فيكون هذا السؤال قرينة على أنّ المراد بلفظ شيء في ذيل الرواية هو أجزاء الصلاة أي (شيء من أجزاء الصلاة لاشيء من أجزاء العمل) لأنّا نقول:

أولاً: بأنّ هذا الإشكال مبنائي أي أنّه يتمّ على قول من يرى أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب مضرٌّ بالإطلاق لكنّ كثيراً من المحقّقين لم يرتضوا هذا المبنى ولا يرون أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب مخلّ بالإطلاق.

ثانياً: أنّ سؤال زرارة وإن كان عن الصلاة لكنّه ليس بعنوان القدر المتيقّن في مقام التخاطب، لأنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب أمر يحتاج إلى طرفين، مثلاً لو تحدّث اثنان عن الطعام ثم قال أحدهما للآخر (جئني بشيء) حُمل لفظ (شيء) على الطعام ولا قدر متيقّن، كذلك في الرواية فإنّ اختصاص سؤال زرارة بباب الصلاة محلّ تأمّل وترديد، إذ لو استمر الكلام لاحتمل أن تتكرّر أسئلة زرارة حول سائر أبواب الفقه.

الرواية الثانية: موثقة إسماعيل بن جابر والعموم يستفاد من ذيلها الذي جاء فيه (كل شيءٍ شكّ فيه مّما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه)(2).


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج8باب23من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص237حديث1.

2 . الوسائل 6 / 318، الباب 13 من أبواب الرکوع، ح 4.

تقريب الاستدلال هو أنّ هذه العبارة تضمّنت على كلمة (كلّ) التي هي من أدوات العموم وهي تدلّ على العموم من دون الحاجة إلى الإطلاق ومقدمات الحكمة.

الرواية الثالثة التي يستفاد منها عموم جريان قاعدة التجاوز في جميع أبواب الفقه موثقة ابن أبي يعفور وقد جاء في ذيلها قوله(ع): (إنّما الشك إذا كنت في شيءٍ لم تجزه)(1). وقد بحثنا مفصّلاً فيما سبق حول هذه الرواية وقلنا بأنّ هذه العبارة إن تعلّقت بالشك حين العمل كانت الرواية عامة غير مختصة بباب الصلاة.

والحاصل أنّ قاعدة التجاوز كقاعدة الفراغ ليست مختصة بباب الصلاة والطهارة بل تجري في جميع أبواب الفقه من العبادات والمعاملات.

نعم وقع النزاع في كلمات الفقهاء في أنّ قاعدة التجاوز هل تجري في الطهارات الثلاث (الوضوء والغسل والتيمّم) أولا؟ مثلاً لو شك المكلّف حين غسل يده اليمنى في أنّه هل غسل وجهه أولا؟ فهل تجري قاعدة التجاوز ويحكم بصحّة الوضوء؟ هذا السؤال ما سنجيب عليه فيما يلي من البحث.

البحث في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث:

قام الإجماع على عدم جريان قاعدة التجاوز في باب الوضوء وقد ألحق الفقهاء به الغسل والتيمّم ولا مجال لهذا البحث من أساسه على مبنى بعض الأعاظم كالمحقق النائيني الذي ذهب إلى اختصاص قاعدة التجاوز بباب الصلاة حيث يكون خروج بحث الوضوء والغسل والتيمّم من جريان قاعدة التجاوز من


1 . الوسائل 1 / 470، الباب 42 من أبواب الوضوء، ح 2.

باب التخصّص فلا تشملها هذه القاعدة(1).

أمّا على مذهب القائلين بعموم جريان قاعدة التجاوز ـ كما ثبت ذلك عندنا ـ فيكون خروج هذه الأبواب الثلاثة من جريان قاعدة التجاوز من باب التخصيص فالأولى أن نبحث كلاً من الوضوء والغسل والتيمم على نحو الاستقلال لتتّضح لنا المسألة بوضوح أكثر:

عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء:

ذُكر في الكتب الفقهية وكلمات الفقهاء ثلاثة أدلّة استدلّوا بها على خروج الوضوء من قاعدة التجاوز الكليّة:

أ: الإجماع: ذكر الفقهاء أنّ الإجماع قائم على أنّ قاعدة التجاوز غير جارية في الوضوء ومن هنا أفتوا بوجوب إعادة غسل الوجه فيما لو شك المكلّف حين غسل اليدين في أنّه هل غسل وجهه أولا، وعليه لابدّ من إعادة الوضوء وهذا من المواضع التي نُقل فيها الإجماع على نحو الاستفاضة.

ب ـ الروايات: استدلّ مضافاً إلى الإجماع بعدّة روايات في هذا المجال وها نحن نبدأ بدراستها وتحليلها:


1 . رأيه هو أنّه: (لا خصوصية للطهارات الثلاث حتى قال: إنّها خارجة عن عموم قاعدة التجاوز بالتخصيص للأخبار والإجماع فإنّه لا عموم في القاعدة حتّى يكون خروجها بالتخصيص)فوائد الأصول626:4.

2 . على سبيل المثال: المحقق العراقي في نهاية الأفكار ج4قسم2ص46 يقول: (فإنّهم أجمعوا على أن الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يجب عليه العود لإتيان المشكوك فيه)، ويقول المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهية351:1: (أمّا بالنسبة إلى الوضوء فمضافاً إلى الإجماع على عدم جريان القاعدة صحيحة زرارة)، ويقول الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول336:3: (فإنّهم أجمعوا على أن الشاك في فعلٍ من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يأتي به وإن دخل في فعل آخر).

3 . على سبيل المثال يقول المرحوم النجفي في جواهر الكلام354:2: (وكذا لو تيقّن ترك غسل عضو أو مسحه أتى به إجماعاً محصّلاً ومنقولاً وسنةً بالخصوص).

1 ـ صحيحة زرارة عن الإمام الباقر(ع) حيث يقول فيها الإمام(ع): (إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا، فأعدّ عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله تمسحه، ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه، وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه، لا شيء عليك)(1).

نظراً إلى صدر هذه الرواية لا تجري قاعدة التجاوز في الوضوء وبالنظر إلى ذيلها تجري قاعدة الفراغ في الوضوء، وعليه يمكن تخصيص العمومات التي مفادها جريان قاعدة التجاوز في جميع أبواب الفقه بواسطة صدر هذه الصحيحة.

نعم يمكن أن يدّعى هنا بأنّ الإجماع المدّعى من قبل المجمعين قد يكون مستنداً إلى هذه الصحيحة وبالتالي يكون الإجماع مدركياً فلا حجيّة له.

2 ـ موثقة ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق(ع) حيث يقول(ع): (إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه)(2).

وقد سبق أنّ مرجع الضمير في قوله(ع) (في غيره) فيه احتمالين:

أحدهما أن يكون مرجعه الوضوء، والآخر أن يكون الضمير راجعاً إلى (شيءٍ) والاستدلال بهذه الرواية على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء إنّما يتمّ فيما لو رجع الضمير إلى الوضوء حيث يكون مفهوم الحديث على هذا الاحتمال أنّه إن لم تدخل في غير الوضوء كان شكّك معتبراً لابدّ من الاعتناء به.


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص469حديث1.

2 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص470حديث2.

أمّا لو عاد ضمير (غيره) إلى (شيءٍ) كان مفاد الحديث جريان قاعدة التجاوز في الوضوء أيضاً وعليه تتعارض موثقة ابن أبي يعفور مع صحيحة زرارة فتتساقطان ثمّ يجب الرجوع إلى عمومات روايات التجاوز الحاكمة بجريان قاعدة التجاوز في الوضوء أيضاً، ومن هنا فلابدّ من إيجاد حلٍّ لهذا التعارض، فقد ذهب الشيخ الأعظم إلى طريق لحلّ هذا التعارض سنذكره في حديثنا تحت عنوان الدليل الثالث.

ج ـ مجموع أفعال الوضوء فعل واحد:

فقد سلك الشيخ الأنصاري لإخراج أفعال الوضوء من مفاد قاعدة التجاوز ولحلّ التعارض بين موثقة ابن أبي يعفور وصحيحة زرارة مسلكاً آخر مفاده أنّ الوضوء بجميع أجزاءه من المسحتين والغسلتين إنّما هو فعل واحد في نظر الشارع لأنّ مسبّبه وأثره واحد وهو الطهارة، وعليه فليست أجزاء الوضوء عند الشارع كأجزاء الصلاة التي لها لحاظات استقلالية فلم يلاحظ أجزاء الوضوء على أنّها أفعال مستقلّة كأجزاء الصلاة حتّى يُتصوّر لكلّ واحد منها محلّ خاص بحيث يكمن تصوّر التجاوز منه كما يتصور مجموع القراءة في الصلاة فعلاً واحداً لا أنّ كلّ أية تعتبر جزءاً مستقلاً كما سنتحدّث عن ذلك فيما سيأتي تحت عنوان جزء الجزء، وهل تجري قاعدة التجاوز في جزء الجزء أولا؟ فقد ذهب المشهور إلى عدم الجريان ومن هنا يمكن القول بانّ الشارع المقدّس كما اعتبر مجموع القراءة جزءاً واحداً كذلك جعل مجموع أفعال الوضوء جزءاً واحداً.

وعليه فطالما لم ينته المكلّف من الوضوء لم يصدق في حقّه التجاوز عن المحل فلا تعارض هنا بين الروايتين(1).


1 . هذا نصّ كلام الشيخ(ره): (ويمكن أن يقال لدفع جميع ما في الخبر من الإشكال: إنّ الوضوء بتمامه في نظر الشارع فعل واحد باعتبار وحدة مسبّبه وهي الطهارة فلا يلاحظ كل فعل منه بحياله حتى يكون مورداً لتعارض هذا الخبر مع الأخبار السابقة ولا يلاحظ بعض أجزائه كغسل اليد مثلاً شيئاً مستقلاً يشكّ في بعض أجزائه قبل تجاوزه أو بعده ليوجب ذلك الإشكال في الحصر المستفاد من الذيل وبالجملة فإذا فرض الوضوء فعلاً واحداً لم يلاحظ الشارع أجزاءه أفعالاً مستقلّة يجري فيها حكم الشك بعد تجاوز المحل لم يتوجّه شيء من الإشكالين في الاعتماد على الخبر ولم يكن حكم الوضوء مخالفاً للقاعدة إذ الشك في أجزاء الوضوء قبل الفراغ ليس إلا شكاً واقعاً في الشيء قبل التجاوز عنه) فرائد الأصول337:3.

إشكالات المحقق العراقي على مسلك الشيخ الأنصاري:

أورد المحقق العراقي على كلام الشيخ الانصاري إشكالين:

الأوّل: إن كلام الشيخ بأنّ الشارع قد لاحظ الوضوء بمنزلة شيء واحد لا ينسجم مع ظاهر الموثقة حيث جاء فيها (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء) حيث استعملت فيها من تبعيضيّةً لبيان أجزاء الوضوء فيكون الشارع هنا قد لاحظ أجزاء الوضوء كلحاظ أجزاء الصلاة.

الإشكال الثاني: للمحقق العراقي هو إنّ استدلال الشيخ الأعظم بوحدة المسبب وهو الطهارة على وحدة الوضوء غير تام، لأنّ وحدة المسبّب (الطهارة) ليست دليلاً (لا تدلّ) على وحدة السبب أبداً وإلاّ لقلنا بذلك في كثير من العبادات كالصلاة والحجّ لوحدة المسبّب في الصلاة وهو النهي عن الفحشاء والمنكر والتقرب إلى الله.

كما أنّ مسبّب الحج كذلك واحد وهو كونه ذكر الله(1).

هذا وقد أيّد المحقق العراقي بعض تلامذته كالمحقق البجنوردي(2) حيث أقرّ


1 . يقول محمد تقي البروجردي النجفي في نهاية الأفكار ج4 قسم2ص50: (وفيه مضافاً إلى أنّ ما ذكر من الوحدة خلاف ظاهر تبعيضية من في صدر الرواية أنّ مجرد بساطة أثر الوضوء لا يقتضي هذا الاعتبار في مؤثره الذي هو نفس الوضوء وإلا لاقتضى جريان المناط المزبور في سائر العبادات أيضاً كالصلاة بالنسبة إلى آثارها المترتّبة عليها من نحو الانتهاء عن الفحشاء والمقرّبية فيلزم أن يكون الشك في كلّ جزء منها قبل الفراغ عنها شكّاً فيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء باعتبار وحدة السبب الناشئ عن وحدة الأثر وبساطته).

2 . القواعد الفقهية352:1.

بتمامية هذين الإشكالين.

إشكالات نظرية المحقق العراقي:

أجاب بعض الأعاظم(1) في مقام الردّ على المحقق العراقي أمّا عن إشكاله الأوّل فبأنّ مراد الشيخ الأنصاري هو أنّ الشارع قد لاحظ للوضوء المركّب من الأجزاء المتعدّدة وحدة اعتبارية وهي فرع لكون العمل في الظاهر مركبّاً فهو(ره) لا ينفي التركيب للوضوء فلا تنافي بين كلام الشيخ الأنصاري وبين ما قاله العراقي من كون (من) تبعيضيّة مفادها أنّ الوضوء ذو أجزاء.

الظاهر أنّ هذا الجواب في غير محلّه إذ ليس البحث في أنّ الوضوء في الخارج عمل مركب أولا؟ فإنّ الشيخ الأنصاري يرى أنّ الشارع يلاحظ مجموع الوضوء جزءاً واحداً ويعتبر له حكماً واحداً وعليه يكون إشكال المحقق العراقي في محلّه حيث إنّ الشارع بيّن في صدر الموثّقة الحكم للجزء المشكوك من الوضوء ممّا يدلّ بوضوح على أنّ الشارع قد لاحظ أجزاء الوضوء لحاظاً استقلالياً.

أمّا جوابهم عن الإشكال الثاني للمحقق العراقي فهو أنّ الأثر في باب الوضوء يختلف عن أثر الصلاة كلّيّاً ذلك أنّ هناك قسمين من الآثار أحدهما هو الأثر


1 . يقول السيد عبد الصاحب الحكيم في منتقى الأصول تقريراً لأبحاث السيد محمد الروحاني307:7: (وكلا الوجهين مخدوش فيهما أمّا الأول فلأن الواحد بالاعتبار لابد وأن يكون مركّباً في نفسه وواقعه وإلا لما احتيج إلى اعتبار وحدته فالتعبير في الصدر بالشك في شيءٍ من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت وتم الدليل عليه.
وأمّا الثاني فلأنّ الأثر التي يترتّب على العمل تارةً يكون تكوينياً وأخرى يكون جعلياً والآخر المترتّب على الوضوء وأخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة المسبّب إلى السبب فملاكية وحدة السبب لاعتبار وحدة الوضوء إنّما تقتضي اطراد ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبّب إلى السبب دون كلّ أمر يترتب عليه أثر ما، وهذا إنّما يكون في العقود لأنها سبب في ترتب آثار عليها أمّا الصلاة ونحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية فلا تصلح مادّة النقض على الاطراد لعدم اعتبار الوحدة فيها بل النقض إنّما يتوجّه بباب العقود).

الشرعي الذي يُعبّر عنه بالأثر الجعلي، والآخر هو الأثر التكويني وما هو موجود في باب الوضوء هو الأثر الشرعي والنسبة بين هذا الأثر ومؤثره نسبة المسبّب إلى السبب بمعنى أنّ الشارع قد جعل أفعال الوضوء من الغسلتين والمسحتين سبباً لأثر يعبّر عنه بالطهارة أمّا الأثر الموجود في الصلاة فهو أثر تكويني كالنهي عن الفحشاء والمنكر والتقريب إلى الله فالأثر أن مختلفان ولا يمكن قياس أثر الوضوء على آثار سائر العبادات التي منها الصلاة.

والظاهر أنّ في هذا الجواب تأمّلاً واضحاً وتكلّفاً ظاهراً، أولاً لعدم وجود قرينة في كلمات الشيخ الأنصاري تدلّ على أنّ المراد من الأثر هو خصوص الأثر الشرعي الوضعي دون الأثر التكويني.

ثانياً لو سلّمنا وجود القرينة على ذلك وأنّ الشيخ قد لاحظ الفرق إلاّ أنّ هناك إشكالاً آخر يرد على هذا المجيب وهو أنّه كيف فرّق بين الأثر الشرعي والأثر التكويني؟ فإنّ الأثر التكويني أيضاً بمقتضى قاعدة: (الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد) لابدّ من أن يكون فيه المسبّب الواحد كاشفاً عن وحدة السبب فلا وجه للفرق بين الأثر الشرعي والأثر التكويني بأيّ وجه من الوجوه ـ فالمحقق العراقي إنّما أورد على الشيخ الأنصاري بانّ ما استدلّ به ليس في الواقع دليلاً وبالتالي يبقى كلام الشيخ ادّعاءً من غير دليلٍ.

وبالجملة فإنّ إشكالي المحقق العراقي على كلام الشيخ الأنصاري لا غبار عليهما، وبالتالي لا يكون دليل الشيخ الأنصاري تامّاً، ومن هنا لابدّ من التعرّض فيما يأتي للوجوه الأخرى للجمع بين الصحيحة والموثقة.

دراسة الوجوه الأخرى للجمع بين الصحيحة والموثّقة:

الوجه الثاني للجمع بين صحيحة زرارة وموثقة ابن أبي يعفور هو أنّ الجمع الدلالي بينهما غير متيّسر فيما نحن فيه ومن هنا قالوا:

إنّ الموثقة مخالفة للعامّة بينما الرواية الصحيحة موافقة لهم فيكون صدورها على وجه التقيّة فلابدّ من الأخذ بالموثّقة وطرح الصحيحة.

وهذا الوجه لا صحّة له إذ لو كانت العامة متّفقةً على القول الواحد لصحّ هذا الوجه إلاّ أنّ العامة مختلفة على أقوال متعدّدة فلا يجوز على هذا حملُ الصحيحة على التقيّة.

الوجه الثالث للجمع على ما قيل هو أنّ الأمر (فأعد عليهما) المذكور في صحيحة زرارة لابدّ من حمله على الاستحباب بقرينة قوله(ع) في الموثّقة: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء ودخلت في غيره فليس شكّك بشيءٍ).

والإشكال الوارد على هذا الوجه هو أنّ الحمل على الاستحباب إنّما يتم فيما لو أحرزنا أنّ الحكم من الأحكام التكليفيّة، أمّا لو احتملنا كون الحكم إرشادياً فلا مجال للحمل على الاستحباب فإنّ الحكم الموجود في صحيحة زرارة (القائل بأنّ المكلّف طالماً لم يفرغ من الوضوء بل هو منشغل به وجب عليه الاعتناء بشكّه ولابدّ من إعادة العمل) إرشاد إلى حكم العقل.

الوجه الرابع: قالوا من أنّ موثقة ابن أبي يعفور تسقط عن الحجّية والاعتبار بسبب وجود الإجماع المستفيض في هذه المسألة فلابدّ من الأخذ بالحكم الوارد في صحيحة زرارة.

وبعبارة أخرى فإنّ إعراض المشهور عن العمل بمضمون الموثّقة يوجب كسرها وتضعيفها.

بالنسبة إلى هذا الوجه لابدّ من القول بأنّ المسألة مبنائية حيث إنّ مبنى المشهور أنّ إعراض المشهور يؤدّي إلى ضعف الرواية، هذا مضافاً إلى أنّ الإجماع هنا يحتمل استناده إلى صحيحة زرارة فيكون إجماعاً مدركياً كما

ذكرنا ذلك فيما سبق، ومن المعلوم أنّ الإجماع المدركي والشهرة المذكورة لا يقدحان بالرواية.

وبعبارة أوضح إنّ الشهرة إنمّا تكون قادحة فيما لو لم يُعلَمْ مستند المشهور والمجمعين أمّا لو أحرزنا مستندهم فلا يكون الإجماع هو الأساس والعمدة بل يرتكز البحث حينئذٍ على صحة مدرك عمل المشهور ومستنده وعلى هذا فلا صحة لهذا الوجه أيضاً.

الوجه الخامس للجمع ما ذكره الشيخ الأعظم(1) وأقرّه المحقق العراقي(2) وهو أن نلتزم بإرجاع ضمير (غيره) الوارد في الموثقة إلى الوضوء لا إلى (الشيء) من باب أنّ الأقرب يمنع الأبعد، وعليه فيكون مفاد الرواية أنّك لو لم تدخل في غير الوضوء كان شكّك معتبراً ويجب الاعتناء به.

نعم هناك اختلاف بسيط بين الشيخ والمحقق العراقي في المقام وهو أنّ الشيخ يرى أنّ المراد بالتجاوز في الوضوء هو التجاوز عن جميع أفعال الوضوء، وذلك بقرينة أنّ مجموع الوضوء عنده يعتبر عملاً واحداً ولم يلاحظ فيه الأجزاء على نحو الاستقلالية، أمّا العراقي فإنه يتمسّك على كلامه بقرينة الإجماع.

وبهذا البيان لكلام الشيخ الأنصاري والمحقق العراقي يمكن أن يجاب عن إشكالات عديدة:

الأوّل: أنّه كيف يمكن أن يُقيّد المصداق مع إبقاء الكبرى الواردة في الرواية على إطلاقها، فيما لو ذُكر المصداق لكبرى كلّيّة فإنّ المصداق المذكور في هذه الرواية هو التجاوز عن الوضوء المقيّد بالتجاوز الخاصّ وهو التجاوز عن


1 . فرائد الأصول337:3.

2 . نهاية الأفكار ج4قسم2ص50-51.

مجموع أفعال الوضوء مع أنّ الكبرى تبيّن مطلق التجاوز الشامل للتجاوز عن الجزء والتجاوز عن الكلّ؟

أجاب المحقق العراقي عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من تقييد المصداق مع إبقاء الكبرى على إطلاقها وقد وردت أمثال ذلك في موارد من الفقه منها آية النبأ (إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(1) حيث يدلّ مفهومها على عدم وجوب التبيّن فيما لو جاء العادل بنبأ.

والمستفاد من هذا المفهوم الذي هو كبرى كلّية أنّ خبر العادل حجة. بينما إنّ مورد الآية ومصداقها هو الإخبار في الموضوعات الخارجية لا في الأحكام مع أنّ الثابت من خلال الأدلّة التي بين أيدينا عدم كفاية خبر العادل الواحد في الموضوعات الخارجية بل لابدّ من وجود شاهدين عادلين.

وعليه يجب تقييد مورد الآية في الموضوعات الخارجية بانضمام عادل آخر ليتمّ قبول خبر العادل مع أنّ الكبرى باقية على إطلاقها ـ وهكذا الحال فيما نحن فيه فإنّ الكبرى أعني قوله(ع): (إنّما الشكّ في شيءٍ لم تجزه).

باقية على إطلاقها بينما أنّ موردها وهو الوضوء قد قُيّد بمجموع الوضوء، وبهذا البيان ينحل إشكال خروج المورد من الكبرى الكلّيّة(2).

كما ينحلّ إشكال التهافت والتعارض بين موثقة ابن أبي يعفور وصحيحة زرارة، وقد سبق بيان ذلك آنفاً.


1 . سورة الحجرات: الآية6.

2 . وهذا نصّّ عبارة المحقق العراقي في نهاية الأفكار: (ولا محذور في الالتزام بهذا المقدار فإنّ تقييد المورد مع إطلاق الكبرى غير عزيز نظير تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدلٍ آخر مع إبقاء اشتراط كبرى قبول الخبر الواحد يكون المخبر عادلاً على إطلاقه لصورة عدم ضمّ خبر عدلٍ آخر إليه)ج4قسم2ص50.

وبهذا الجواب ينحلّ عند المحقق العراقي إشكال ثالث أيضاً وهو أنّ بين منطوق صدر الموثّقة ومفهوم ذيلها تعارضاً حيث يدلّ منطوق قوله: (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره) على عدم الاعتناء بالشك فيما لو خرج المكلّف من جزء ودخل في جزء آخر وشك في صحّة ذلك الجزء السابق قبل الفراغ من العمل كلّه، مع أنّ مفهوم قوله(ع): (إنّما الشكّ في شيءٍ لم تجزه) هو وجوب الاعتناء بالشك فيما لو لم يفرغ المكلّف من العمل، وعليه يحصل التعارض بين منطوق هذه الموثقة ومفهومها فيما لو شك قبل الفراغ من العمل في صحّة الجزء لا في أصل وجود الجزء.

الإشكالات على الوجه الخامس

للجمع بين صحيحة زرارة وموثقة ابن أبي يعفور المذكور في كلمات الشيخ الأنصاري والمحقق العراقي:

الإشكال الأوّل: إنّ لفظ الوضوء في موثقة ابن أبي يعفور أقرب من لفظ الشيء الوارد فيها والأقرب يمنع الأبعد إلاّ أنّ الإمام(ع) في هذه الرواية إنمّا هو في مقام بيان حكم الشيء لا بيان حكم نفس الوضوء، وهذا أقوى من قرينة الأقربية لإرجاع الضمير إلى نفس الشيء.

وبتعبير أوضح فإنّ كون الإمام في مقام بيان حكم ما شُكّ في صحّته قرينة أقوى من قرينة الأقربية.

الإشكال الثاني إنّما يرد على كلام المحقّق العراقي حيث قال: بأن تقييد المورد والمصداق مع بقاء الكبرى على إطلاقها أمر شائع وكثير فإنّ هذا الادّعاء منه مجرّد دعوى لا دليل عليها ولا صحّة لها.

والإنصاف قلة وقوع ذلك، مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا كثرته إلاّ أنّ وقوع ذلك

فيما لو كان المولى في مقام البيان أمر مستهجن وقبيح ويستنكف العرف أن يكون المورد المبيّن مقيّداً بينما تكون الكبرى الكلّيّة غير مقيدة وهذا نظير ما إذا قال المولى: (أكرم زيداً العالم) ثمّ يقول: (يجب إكرام كلّ عالم) ثمّ يشترط في المصداق الذي هو إكرام زيد خصوصية العدالة بينما لا وجود لهذه الخصوصية في الكبرى، فإنّ العرف لا يقبل ذلك.

الإشكال الثالث: هو أنّ قياس ما نحن فيه بمفهوم آية النبأ قياس مع الفارق إذ مفهوم آية النبأ أجنبي عن مسألة البيّنة والشهادة، بل مفهومها أنّ خبر غير الفاسق واجب القبول، أمّا ضميمة خبر عادل آخر في باب البيّنة فليست من جهة أنّ حجيّة خبر العادل مقيّدة بانضمام خبر عادل آخر بل لأنّ الأدلّة في باب الشهادة تدلّ على عدم كفاية إخبار العادل الواحد ولابدّ من شهادة عادلين اثنين أي أنّ خبر العادل حجة في نفسه إلاّ أنّ الشهادة تحتاج إلى عادلين ولا يكفي فيها العادل الواحد، وعلى هذا فالظاهر أنّ القياس في كلام المحقق العراقي في غير محلّه، لأنّه قياس مع الفارق، وبالجملة فوجه الجمع المذكور في كلمات الشيخ الأنصاري والمحقق الأنصاري غير صحيح.

الوجه السادس: للجمع بين الصحيحة والوثقة: هو أنّ المراد بالشك في موثقة ابن أبي يعفور في قوله(ع): (إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) هو الشكّ في الصحة، والمراد من (شيءٍ) هو مجموع العمل، وعليه فيكون الإمام(ع) في ذيل الرواية في صدد بيان حكم الشكّ في صحة مجموع العمل بعد الفراغ منه فيكون هذا قرينة على رجوع الضمير في (غيره) إلى الوضوء، وبالتالي تكون الرواية دالة على قاعدة الفراغ لا على قاعدة التجاوز ويكون مضمونها أنّك إذا شككت في جزءٍ من أجزاء الوضوء وأنت قد دخلت في غير الوضوء فلا تعتن

بشكك وبهذا يتمّ التوفيق بين هذه الموثقة وبين صحيحة زرارة.

الإشكال الوارد على هذا الوجه هو أن الشكّ في شيءٍ ظاهر أولاً وبالذات إلى الشكّ في وجود ذلك الشيء لا الشكّ في صحته هذا مضافاً إلى أنّ استعمال لفظة من للبيان إنما هو على خلاف الأصل حيث إنّ الأصل الأوّلي في معنى من هو التبعيض.

الوجه السابع للجمع بين الموثقة والصحيحة أن يقال بأنّ المراد من الشكّ في الموثقة هو الشكّ بعد الفراغ من العمل، لكنّه في جزءٍ من أجزائه.

وبعبارة أخرى يكون مفاد الرواية مفاد كان التامّة وعليه فإنّ صدر الرواية ظاهر في أنّ للشيء في قوله(ع): (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره) محلاً قد تجاوز المكلّف عنه ثمّ شك فيه بعد تجاوز محلّه لا أنّه قد شكّ بعد الانتهاء من كلّ العمل.

والإشكال على هذا الوجه أيضاً أنّه خلاف الظاهر.

المختار في الجمع بين الموثّقة وصحيحة زرارة:

والذي نختاره هو أن ذيل الموثقة (إنما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) كبرى كلّيّة تبيّن قاعدة التجاوز أمّا صدر الرواية (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيءٍ) فلابدّ من التصرف فيه ـ بقرينة الإجماع ـ بأن نلتزم أنّ مجموع أفعال الوضوء يُعتبر عملاً واحداً ولم يلاحظ الشارع أجزاءها على نحو الاستقلال لكن لمّا سبق وأنْ بيّنا بأنّ الإجماع لا يمكن أن يصبح دليلاً على التصرف في مدلول الرواية الاستعمالي فلابدّ من التفكيك في الحجّية بأن يُطرح صدر الرواية لمخالفته مع الإجماع فتثبت الحجية لذيل الرواية المفيد لقاعدة التجاوز ويؤخذ به. هذا غاية ما يمكن بيانه فيما يتعلق بالموثقة.

نعم قد يقال بأنّ هذا الإجماع يحتمل أن يكون مدركياً فلا يمكن التمسّك به ولا يجوز الاستناد إليه لكنّنا نقول بأنّ صدر الرواية لابدّ من طرحه لإعراض المشهور عنه. فإن قيل: إنّ إعراض المشهور إنّما نشأ من صحيحة زرارة والمشهور باستناده إليها قد أعرض عن صدر الموثقة فلا فائدة من هذا الإعراض.

قلنا: فعلى هذا كلّه تصبح الموثقة مجملة ولا يمكن الاستناد إليها ولا بد من التمسّك بالصحيحة لأنّ المجمل لا يقاوم المبيّن ولا يعارضه.

بحث حول جريان قاعدة التجاوز في الغُسل والتيمّم:

اختلف الفقهاء في إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز أو أنّهما لا يُلحقان به فتجري فيهما قاعدة التجاوز.

فقد صرّح الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة(1) بأنّ المشهور إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء وعليه فلا تجري قاعدة التجاوز فيهما كما لا تجري في الوضوء.

أمّا كبار المعاصرين أمثال الإمام الخميني(ره)(2) والمحقق الخوئي(ره)(3) فقد ذهبوا إلى عدم إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء فتجري قاعدة التجاوز فيهما وعليه فلو شك المكلّف أثناء الغُسل حين غَسل الطرف الأيمن من جسمه في أنّه هل غسل رأسه وعنقه أولا؟ جرت في حقّه قاعدة التجاوز وحُكِمَ بأنّه قد غسلهما، وهكذا الحال في التيمّم.

نعم لا يمكن إجراء قاعدة التجاوز هنا على مذهب من لا يرى الترتيب واجباً


1 . ج2 ص473 وهذه عبارته: (فإلحاق الغسل بالوضوء في حكم المذكور مع اختصاص الصحيحة بالوضوء وعدم تنقيح المناط وعدم العلم بالإجماع يحتاج إلى دليل وإن كانت الشهرة محقّقة).

2 . الاستصحاب، ص329.

3 . كتاب الطهارة252:8، ومصباح الأصول290:3.

بين غَسْل الطرف الأيمن والطرف الأيسر كما ذهب إليه بعض الأعاظم مثل المحقق الخوئي(ره)(1) فعلى مبنى هؤلاء الأعاظم لو شك المكلّف أثناء غَسل الطرف الأيسر من الجسم في أنّه هل غسل طرفه الأيمن أولا؟ وجب عليه أن يعيد غسل الطرف الأيمن لعدم تحقق التجاوز عن المحل حينئذٍ.

هذا كلّه بالنظر إلى الأقوال.

أمّا بالنسبة إلى دليل المسألة وأنّ الدليل ماذا يقتضي؟ فإنّ ما يدلّ على عدم جريان قاعدة التجاوز في باب الوضوء أمران أحدهما الإجماع، والآخر صحيحة زرارة ولا شك في اختصاص مورد هذين الدليلين بالوضوء ولا وجه فيهما لإلحاق الغسل والتيمم بباب الوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز.

وبعبارة أخرى فإنّ إلغاء الخصوصية في التعبّديات أمر مشكل جدّاً ولا وجه له في هذا البحث كما أنّ تنقيح المناط هنا غير ممكن لعدم إحراز وحدة المناط في الوضوء والمناط في الغسل والتيمّم فإنّ اختلاف الأحكام والخصوصيات بين الوضوء من جهة والغسل والتيمم من جهة أخرى دليل على عدم اليقين بتنقيح المناط هنا.

مع ذلك كلّه فإنّ هناك دليلين على الإلحاق لابد من دراستهما والبحث حولهما.

الدليل الأوّل المختصّ بالتيمّم هو أنّ التيمّم بدل الوضوء له عنوان البدلية ولا استقلالية له والبدليّة تقتضي عدم جريان قاعدة التجاوز في البدل (التيمم) كما لم تجز في المبدل منه (الوضوء):

ويرد على هذا الدليل إشكالان:

الأوّل أنّه لا دليل يدل على أنّ التيمم لمّا كان بدلاً عن الوضوء فلابدّ من أنْ


1 . كتاب الطهارة468:5.

يتصف بجميع أحكام الوضوء بل البدلية معناها أنّ التيمم كالوضوء في أنّه مبيح للدخول في الصلاة فالتيمّم يحمل عنوان البدلية عن الوضوء في هذا المقدار من الإباحة، ومن هنا تختلف أحكام التيمم عن أحكام الوضوء.

الإشكال الثاني: هو ما ذكره بعضهم على نحو الاحتمال من أنّ التيمّم كالوضوء فلا تجري فيه قاعدة التجاوز أمّا الغسل فتجري فيه تلك القاعدة. وقد يُتساءل هنا على هذا المبنى في التيمم بدل الغسل حيث لا يمكن القول بالتفصيل بأن يقال: لا تجري قاعدة التجاوز في التيمم بدل الوضوء بينما تجري في التيمم بدل الغسل لأنّ التيمّم فعل واحد ولا يجوز فيه التفصيل.

الدليل الثاني: عامّ وهو ما ذكره واستند إليه الشيخ الأنصاري فإنّه ذكر لإثبات أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في الوضوء. ذكر بأن الشارع إنّما لاحظ جميع أفعال الوضوء فعلاً واحداً ولم يلاحظها على نحو الاستقلال لأنّ الوضوء له أثر واحد يسمّى بالطهارة ومع وحدة الأثر فإنّ المؤثّر واحد وهذا كلّه جارٍ في الغسل والتيمم أيضاً إذ لهما أثر واحد هو الطهارة فيكون الشارع قد لاحظ كلّاً منهما عملاً واحداً ولا تجري قاعدة التجاوز في كلّ ما اعتبره الشارع شيئاً واحداً.

هذا وقد أورد المحقق السيد الخوئي(ره) على هذا الدليل إشكالين:

الإشكال الأوّل:

إنّ متعلّق التكلّيف في الوضوء على ما يستفاد من ظاهر الآيات والروايات في باب الوضوء هو أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات لا الطهارة.

وبعبارة أخرى فإنّ المأمور به في باب الوضوء نفس الغسلات والمسحات لا


1 . مصباح الأصول289:3.

الطهارة التي هي أثر تلك الغسلات والمسحات(1).

ومن الجدير بالذكر هنا في إشكال السيد الخوئي أنّ بعض تلامذة السيد قد صرّحوا بأنّ هذا الإشكال منه إنّما نشأ من عدم ذكره نظرية الشيخ الأنصاري على وجهها الصحيح في تقريراته، فإنّ السيد الخوئي قال في تقريره لدليل الشيخ الأنصاري:

ما ذكره شيخنا الأنصاري وهو أنّ التكلّيف إنّما تعلق بالطهارة وإنّما الغسل والمسح مقدّمة لحصولها فالشك في تحقق شيءٍ من الغسل والمسح يرجع إلى الشكّ في حصول الطهارة وهي أمر بسيط فلا تجري فيه قاعدة التجاوز(2).

لكن بالرجوع إلى كلام الشيخ الأنصاري الذي ذكرناه في الأبحاث السابقة يتّضح لنا أنّ الشيخ لم يركّز نظره على أنّ المأمور به في باب الوضوء هل هو أفعال الوضوء أو الطهارة بل نظر إلى أنّ الوضوء في الخارج وإن اعتبر عملاً مركباً إلاّ أنّ الشارع لاحظه شيئاً واحداً واعتبر لأفعاله وحدة اعتبارية.

وعليه فإن إشكال المحقق الخوئي الأوّل غير وارد على نظرية الشيخ الأعظم.

الإشكال الثاني:

يقول المحقق الخوئي: لو سلّمنا بأنّ المأمور به في باب الوضوء هو الطهارة وأنّ أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات مقدمة للمأمور به.

لكن لابدّ من الالتزام بأنّ قاعدة التجاوز إنّما لا تجري في هذه المقدمات فيما لو كانت مقدمات عقلية خارجية كما لو أمر المولى عبده بقتل رجلٍ وكان قتله


1 . وهذا نصّ عبارة السيد الخوئي: (وفيه أولاً أن ظاهر الآيات والروايات كون نفس الوضوء متعلّقاً للتكليف كقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) وكقوله(ع): (افتتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) والوضوء مركب فلا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه).

2 . مصباح الأصول289:3.

متوقّفاً على مقدمات فإنّه لو شك في هذه المقدمات لم تجر قاعدة التجاوز لأنّ ذا المقدمة أي القتل عنوان بسيط والشك في المقدمات يكون من قبيل الشكّ في محصّل العنوان وهو مجرى الاحتياط، لكن الغسلات والمسحات التي هي مقدمة للطهارة في باب الوضوء تعتبر مقدّمات شرعية لأنّ الشارع هو الذي أمر بها، ومن الواضح جريان قاعدة التجاوز في الأجزاء والمقدمات الشرعية المركبّة(1).

وما يمكن القول في هذا الإشكال هو أن صحّة هذا الإشكال مبتنية على القول بأنّ قاعدة التجاوز قاعدة تعبّدية محضة وعلى هذا يكون من وجوه التفريق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز أنّ قاعدة الفراغ أمر عقلائي دون قاعدة التجاوز.

ومن هنا لا يرد هذا الإشكال على قول من يرى قاعدة الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة ترجعان إلى عنوان واحد هو عدم الاعتناء بالشك بعد تجاوز المحل وهو عنوان عقلائي كما هو مذهب الإمام الخميني والمحقق البجنوردي، لأنّ التفريق بين المقدمات العقلية والمقدمات الشرعية إنّما يتمّ فيما لو كانت هاتان القاعدتان قاعدتين مستقلتين.

هذا مضافاً إلى ما سبق في الإشكال السابق من أنّ إشكالات السيد الخوئي إنّما نشأت من تفسيره الخاطئ لنظرية الشيخ الأنصاري فلو فُسِّرتْ نظريته على الوجه الصحيح لم ترد عليه هذه الإشكالات. نعم لا ننكر تلك الإشكالات


1 . مصباح الأصول289:3: (وثانياً على تقدير تسليم كون الطهارة هي المأمور به وأنّ الوضوء مقدمة لها أنّ عدم جريان قاعدة التجاوز في المقدمة مع كون ذيها بسيطاً إنّما هو في المقدمات العقلية الخارجية كما إذا أمر المولى بقتل أحد وتوقف القتل على عدّة من المقدمّات فالشك في بعض هذه المقدمات لا يكون مورداً لقاعدة التجاوز لأن المأمور به وهو القتل بسيط لا تجري فيه قاعدة التجاوز والشك في المقدمات شكّ في المحصّل فلابدّ من الاحتياط هذا بخلاف المقام فإنّ الوضوء من المقدمات الشرعية لحصول الطهارة إذ الشارع جعله مقدمة لها وأمر به وبعد تعلق الأمر الشرعي به وكونه مركباً لا مانع من جريان قاعدة التجاوز فيه).

السابقة التي أوردها المحقق العراقي على نظرية الشيخ الأنصاري فأنّها تامة مقبولة ولا داعي إلى إعادتها.

وحاصل ما ذكرنا إلى هنا عدم إلحاق الغسل والتيمم بالوضوء وأنّ قاعدة التجاوز تجري في هذه الأبواب الفقهية، وقد خرج منها باب الوضوء بالدليل الخاصّ الدال على عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء خاصة.

المؤيّد لجريان قاعدة التجاوز في الغُسل:

يذكر الإمام الخميني بعد هذا الكلام بعض الروايات التي يستفاد منها جريان قاعدة التجاوز في الغسل كصحيحة زرارة التي ذكرناها سابقاً: (قال زرارة: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة؟ فقال: إذا شك ثمّ كانت به بلّة وهو في صلاته مسح بها عليه، وإن كان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ما لم يُصب بلّةً فإنْ دخله الشكّ وقد دخل في حال أخرى فليمض في صلاته ولا شيء عليه)(1).

فإنّ الإمام الخميني يرى أنّ المستفاد من إطلاق عبارة الإمام(ع): (فإن دخله الشكّ وقد دخل في حال أخرى فليمض في صلاته ولا شيء عليه).

إنّ قاعدة التجاوز تجري من دون أيّ مانع فيما لو كان المكلّف منشغلاً بغسل الجنابة قبل الصلاة وقد دخل من جزءٍ إلى جزءٍ آخر ثمّ شك في الجزء السابق(2).

يقول الإمام الخميني: هناك عبارة أخرى في صحيحة زرارة هذه عدا تلك العبارة السابقة يستفاد منها أن الشكّ بعد تجاوز المحلّ لا اعتبار به في غسل الجنابة.


1 . ثقة الإسلام الكليني: الكافي33:3ج2باب الشك في الوضوء.

2 . الاستصحاب ص327وهو يقول: (وكذا يمكن أن يقال: إنّ قوله في ذيلها (فإن دخله الشك وقد دخل في حال أخرى) يدلّ بإطلاقه على أنّ من شك في غسل ذراعه أو بعض جسده من الطرف الأيسر وقد دخل في حال أخرى أيّة حالة كانت لا يعتني بشكّه).

بحث جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء:

من جملة ما يُبحَث عنه في قاعدة التجاوز هو أنّ قاعدة التجاوز هل هي مختصّة بالأجزاء الأصلية للعمل أو أنّها تجري في أجزاء الأجزاء أيضاً. الشكّ في الأجزاء الأصلية بعد تجاوز المحلّ كما لو شكّ المكلّف حين السجود في إتيان الركوع، أمّا الشكّ في جزء الجزء فكما لو شك أثناء قراءة السورة في الصلاة في أنّه هل قرأ الآية السابقة أولا؟ في هذا البحث آراء مختلفة في كلمات الأعاظم.

اختلفت كلمات الأعاظم وتضاربت آراؤهم في هذه المسألة

نظرية المحقق النائيني:

ذهب المحقق النائيني ومن تبعه من الأعاظم إلى أنّ قاعدة التجاوز مختصّة بالشك في أجزاء العمل الأصلية ولا تجري في جزء الجزء كالشك في الآية السابقة بعد الدخول في غيرها(1).

والدليل على هذا المنع كما يستفاد من كلماته أمران:

الأمر الأوّل: إنّ روايات التجاوز حاكمة على روايات الفراغ وهي أي روايات التجاوز تلحق الشكّ في الجزء بالشك في الجزء فإنّ الشارع أمر بعدم الاعتناء بالشك في أجزاء الصلاة أثناء الصلاة كما لا اعتناء بالشك في كلّ الصلاة بعد الفراغ منها ولم يجعل الشارع جزء الجزء بمنزلة كلّ العمل فلا تجري قاعدة التجاوز في جزء الجزء، وبعبارة أخرى فإنّ أدلّة التنزيل لا تشمل الشكّ في جزء الجزء(2).


1 . فوائد الأصول634:4.

2 . هذا نصّ عبارته: (لأن شمول قوله(ع): (كلّ شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه) للشك في الأجزاء إنّما كان بعناية التعبّد والتنزيل ولحاظ الأجزاء في المرتبة السابقة على التركيب فإنّه في تلك المرتبة يكون كل جزء من أجزاء الصلاة وأجزاء أجزائها من الآيات والكلمات بل الحروف شيئاً مستقلاً في مقابل الكلّ.
وأمّا في مرتبة التأليف والتركيب فلا يكون الجزء شيئاً مستقلاً في مقابل الكلّ بل شيئية الجزء تندكّ في شيئية الكلّ كما تقدم فدخول الأجزاء في عموم الشيء في عرض دخول الكلّ لا يمكن إلاّ بعناية التعبّد والتنزيل وحينئذٍ لابدّ من الاقتصار على مورد التنزيل والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الأجزاء المستقلّة بالتبويب).

ونحن أوردنا فيما سبق على هذا الدليل وذكرنا أنّ قاعدة الفراغ والتجاوز إنّما يستفاد كلّ منهما على نحو الاستقلال من الروايات ولا ناظرية لإحداهما إلى الأخرى وقد ناقشنا مسألة التنزيل وعليه فلابدّ من طرح هذا الدليل.

الأمر الثاني: أنّ المستفاد من روايات قاعدة التجاوز إنّا لو دخلنا من الجزء إلى الجزء الآخر فلابدّ من استفادة عنوان الخروج من المحل والدخول في غيره، والمراد بالمحل هو المحل الذي حدّده الشارع.

مثلاً إن لركوع الصلاة خصوصيّتين: أـ أنّه مأمور به، ب ـ أنّ له محلاً معيّناً من قبل الشارع، ففي مثل هذه الأجزاء التي لها محلّ معين شرعاً مضافاً إلى كونها مأموراً بها تجري قاعدة التجاوز بحيث أن يكون هذا المحل المعيّن من قبل الشارع دخيلاً في كونها مأموراً بها بمعنى أنّ المكلّف لو أتى بالركوع بعد السجود كان آتياً بجزء المأمور به لكنّه قد أخلّ بترتيب الصلاة.

وعلى هذا فلا تجري قاعدة التجاوز في الأجزاء التي ليس لها محل معيّن شرعاً، كما لو قدّم وأخرّ المكلّف ألفاظ السورة وقال بدل (الله الصمد): الصمدُ اللهُ ـ أو قال بدل (الله أكبر): أكبر الله، لم يمكن الالتزام بأنّه قد أتى بالمأمور به لكنّه أخلّ بالترتيب، لأنه لم يأت بالمأمور به هنا على الإطلاق فإن الترتيب بين الكلمات له مدخلية في ماهية السورة والكلام فلا تجري في هذه الموارد قاعدة التجاوز لأنّ الشكّ فيها يساوي الشكّ في أصل إتيان المأمور به ووجوده.

وهذا الدليل أيضاً غير تام إذ سيأتي في الأبحاث اللاحقة أنّ المراد بالمحل

في قاعدة التجاوز ليس خصوص المحل المقرر شرعاً بل المراد به مطلق التجاوز عن محل جزءٍ من الأجزاء. وسنبحث في الأبحاث القادمة مفصّلاً عما هو المراد بالمحلّ في قاعدة التجاوز إن شاء الله.

نظرية المحقق الأصفهاني:

الدليل الثالث ما ذكره المحقق الأصفهاني كدليل على عدم جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء حيث قال بأن كلمة الشيء الواردة في رواية قاعدة التجاوز في قوله(ع): (إذا شككت في شيءٍ ودخلت في غيره) منصرفة إلى الجزء نفسه الشامل للأجزاء الأوّلية المبوّبة كالشك في التكبير والقراءة والركوع والسجود ولا يشمل جزء الجزء الذي هو من الأجزاء الثانوية فالشيء كناية عن أجزاء الصلاة ويشمل أجزاء الصلاة الأصلية المبوّبة دون أجزاء الصلاة(1).

والظاهر أنّ هذا الدليل حسن لا بأس به وإن وقع مخدوشاً فيه من قبل بعض الأعاظم لأنّ الانصراف ليس ممّا يمكن للمرء إنكاره أو قبوله بسهولة بحيث يدّعي أحدٌ الانصراف وينكره الآخر فإنّ الانصراف أمر وجداني، والذي يبدو هنا أنّ الحق مع المحقق الأصفهاني في عدم شمول لفظ الشيء لجزء الجزء.


1 . نهاية الدراية في شرح الكفاية300:3 (الطبعة الحجرية)، الميرزا حسن سيادتي السبزواري: وسيلة الوصول إلى حقائق الأصول تقريراً لأبحاث المحقّق الأصفهاني ص803وهذا نص كلمات المحقّق الأصفهاني في وسيلة الوصول: (ثم إنّ الشك في الشيء بعد الدخول في غيره الذي لا يعتنى به بمقتضى قاعدة التجاوز مخصوص بالشك في الأجزاء المبوّية الأولية كالشك في التكبير والقراءة والركوع والسجود ونحوها كما في مورد الرواية أو تعمّ غير الأجزاء الأولية من الأجزاء الثانوية وهكذا كما أفتى به بعض من عدم الاعتناء بالشك في أول السورة وهو في آخرها بل بالشك في أوّل الآية وهو في آخرها بل بالشك في أول الكلمة وهو في آخرها والظاهر هو الأول لأن الشيء وإن كان من الألفاظ العامة إلا أن عمومه باعتبار ما يكنّى به عنه وهو في الرواية كناية عن أجزاء الصلاة كما هي مورد قاعدة التجاوز بمقتضى الرواية فمعنى قوله(ع): (إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء) إذا خرجت من أجزاء الصلاة وأجزاء الصلاة هي الأجزاء الأوليّة المبوّبة).

والذي يؤيّد هذا الانصراف تعبير الدخول في غيره الذي لا ينطبق عرفاً على التجاوز من جزء الجزء وبعبارة أخرى فإنّ جزء الجزء عند العرف شيء واحد لا شيئان والعرف يرى جملة (الله أكبر) شيئاً واحداً ولا يفكّك بين (الله) و (أكبر) بحيث يشكّ المكلّف حين التلفظ بـ (أكبر) في أنّه هل تلفّظ بلفظة (الله) أو لا؟ ولو شك كذلك وجب الاعتناء بشكه ولابدّ من إعادة مجموعة جملة (الله أكبر).

نعم يمكن القول بانفصال كلّ آية عن الأخرى في القرآن فيصحّ التفكيك فيها عرفاً، وعليه فلو شك حين قراءة (مالك يوم الدين) هل أتى بـ (الرحمن الرحيم) أولا؟ جرتْ في حقه قاعدة التجاوز لأنّ العرف يرى هاتين الآيتين شيئين مستقلين.

وحاصل رأينا هو أنّه لا يلزم في جريان قاعدة التجاوز أن يلاحظ المحل مقرراً شرعاً بل المحل مطلق وإنما تجري قاعدة التجاوز في الأجزاء التي يلاحظها العرف على نحو الاستقلال من حيث الدخول والخروج.

وهنا يمكن أن يتساءل المرء بأنّه هل يمكن أن يستفاد من عنوان الأذكرية الوارد في الروايات جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء أيضاً؟

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل من وجهين:

الأوّل: كما ذكرنا سابقاً في الأبحاث الماضية أنّ الأذكرية تتعلّق بروايات قاعدة الفراغ ولا تجري في قاعدة التجاوز، وهذا هو أحد الفروق بين هاتين القاعدتين.

والثاني: أنّ الأذكرية لها عنوان الحكمة لا عنوان العليّة.

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في الجزء الأخير من المركّب

من الأبحاث الهامّة في هاتين القاعدتين أنّ قاعدة التجاوز والفراغ هل

تجريان في الجزء الأخير من المركب أولا؟ مثلاً لو شك المصلّي بعد الفراغ من الصلاة في أنّه هل سلّم أولا؟ أو أنّه هل جاء بالتسليم على الوجه الصحيح أولا؟ وكذا لو شك الحاج في باب الحج في أنّه هل جاء بطواف النساء وصلاته اللذي هو الجزء الأخير من واجبات الحجّ؟ وكما لو غلب النعاس على المصلّي في السجود بحيث لا يعلم هل هذا هو سجود صلاته الأخير أو كان سجود الشكر؟ فهل تجري قاعدة الفراغ والتجاوز في هذه الموارد؟

الحق في الإجابة عن هذا السؤال هو عدم إمكان جريان قاعدة الفراغ بمقتضى التعبيرات الواردة في روايات هذه القاعدة مثل قوله(ع): (بعد ما تفرغ من صلاتك) و (بعد ما ينصرف) و (بعد ما يصلي) لوجود الترديد والشك في تحقق عنوان الفراغ أو الانصراف في الموارد السابقة فلا مجال لجريان هذه القاعدة.

نعم لو حملنا الدخول في الغير الوارد في قاعدة التجاوز بالمعنى الأعمّ وحملنا المحلّ على الأعم من المحل الشرعي والعادي وكان المصلي قد خرج من محلّ صلاته ودخل في عمل آخر أو كان الحاج قد خرج من مكة جاز لنا إجراء قاعدة التجاوز إلاّ أن نلتزم باختصاص قاعدة التجاوز بأثناء العمل فلا يكون للعمل بعد الفراغ منه محل كما استفدنا ذلك من الروايات.

هذا وقد فصّل بعض المحققين(1) في هذه المسألة وذكر عدة صور:

1 ـ يجب تدارك العمل المشكوك فيه فيما لو شك في الجزء الأخير ولما يدخل المكلّف في العمل الآخر.

2 ـ أمّا لو دخل المكلّف في العمل الآخر فللمسألة صور عديدة:


1 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات222:4.

الأوّلى: أن يشكّ في التسليم بعد الدخول في تعقيبات الصلاة أو في سجدتي السهو أو صلاة الاحتياط مما شرعه الشارع بعد الفراغ من الصلاة.

ولا شك هنا في جريان قاعدة الفراغ لأنّ الشكّ هنا من مصاديق الشكّ في الشيء وبعد الدخول في غيره.

إشكال: يبدو أنّ هذا الكلام تام بالنسبة إلى قاعدة التجاوز، وقد ذكرنا سابقاً أنّ أحد وجوه الفرق بين قاعدتي التجاوز والفراغ أنّ الدخول في الغير غير معتبر في قاعدة التجاوز خلافاً لقاعدة الفراغ.

نعم لا يرد هذا الإشكال على من يعتبر في قاعدة الفراغ الدخول في الغير كالمحقق النائيني(1) الذي يعتقد بأنّ هذا الاشتراط يستفاد من أدلّة قاعدة الفراغ بغض النظر عن اتّحاد القاعدتين ـ حيث لا يمكن أن يكون منشأ لهذه النظرية ـ فإنّ أدلّة قاعدة الفراغ طائفتان فقد ورد هذا القيد في بعضها كصحيحة زرارة حيث يقول فيها الإمام(ع): (إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكك ليس بشيءٍ). بينما لا وجود لهذا القيد في بعضها الآخر كموثقة ابن بكير حيث جاء فيها: (كلّما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو) وكذلك موثقة ابن أبي يعفور: (إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه).

ولا بد هنا إمّا من حمل المطلق على المقيّد أو جعل القيد من القيود الواردة في مقام الغالب، وبالتالي لا يكون مقيّداً للإطلاقات.

والتحقيق هو الأوّل لا لأجل وجود المفهوم في القيد ولا لأجل حمل المطلق على المقيد بل إنّ هذا المطلّق ينصرف إلى الفرد الغالب لقصوره الذاتي بالنسبة إلى الفرد غير الغالب، بمعنى أن التجاوز عن الشيء غالباً ما يصدق مع الدخول


1 . أجود التقريرات321:4.

في الشيء الآخر، ونادراً ما يحصل مع عدم الدخول في الشيء الآخر.

نعم من الواضح أنّ مجرد الغلبة في الوجود الخارجي لا يكون سبباً للانصراف إلاّ أنّنا ندّعي أن المطلق في حقيقته وماهيته له قصور عن الفرد النادر.

وتحقيق القول هو أنّنا ذكرنا في دراستنا لروايات قاعدة التجاوز أنّ صحيحة زرارة هي من الروايات الدالة على قاعدة التجاوز فقط ولا تستفاد منها قاعدة الفراغ كما أنّ الأمثلة الواردة في صدر الرواية هي من مصاديق قاعدة التجاوز والشك في أثناء العمل، وهذه الأمثلة قرينة جليّة على أنّ القاعدة الكلّيّة المذكورة في ذيل الرواية أيضاً محمولة على قاعدة التجاوز وعليه فلا يمكن الالتزام بأنّ من روايات قاعدة الفراغ ما يدل على اعتبار الدخول في الغير بل إنّ روايات قاعدة الفراغ أمّا صريحة في الانصراف عن أصل العمل (بعدما ينصرف من صلاته) أو أنّها صريحة في الفراغ من العمل (بعدما تفرغ من صلاتك)، أو أنّ الوارد فيها مجرد عنوان (ما مضى).

نعم هناك صحيحة أخرى لزرارة تقول: (إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلتَ ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت فلا شيء عليك)(1).

وهي كما ذكرنا سابقاً تدلّ على قاعدة الفراغ وقد جاء فيها قيد (وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها) وعلى هذا يمكن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ بناءً على هذه الرواية فلا تفترق عن قاعدة التجاوز من هذه الناحية إلاّ من جهة أنّ الغير في قاعدة التجاوز هو العمل المترتّب شرعاً على الجزء السابق بينما في قاعدة الفراغ هو الفعل المباين للعمل المشكوك فبحسب هذه الرواية


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص469حديث1.

يمكن إجراء قاعدة الفراغ لمن كان منشغلاً بالتعقيبات وشك في التسليم.

رأي المحقق النائيني: هذا وقد ذهب الميرزا النائيني إلى جريان قاعدة التجاوز في هذه المسألة (مسألة انشغال المكلّف بتعقيبات الصلاة مع الشكّ في التسليم) مستدلاً على ما جاء في كتاب أجود التقريرات(1) بأنّ الإمام(ع) في روايات التجاوز قد ألحق الأذان والإقامة بأجزاء الصلاة مما يجعل الفقيه يقطع بعدم خصوصية للأذان والإقامة بل كلّما ألحق بالصلاة من المقدمات والتوابع كالتعقيبات المترتبة على الصلاة شرعاً يصدق عليها الدخول في الغير وهو قد صرّح في فوائد الأصول بأنّه (لا فرق بين الدخول في الإقامة والدخول في التعقيب كلّيهما عن حقيقة الصلاة) (2).

والظاهر عدم تمامية هذه النظرية إذ كما بيّنا مراراً بأن روايات قاعدة التجاوز لها عنوان تعبّدي ولا يمكن لنا تحصيل ذلك القطع الذي ادّعاه الميرزا وكيف يمكن إلحاق توابع الصلاة بمقدماتها مع أنّ المقدمات لها عنوان الدخول في الصلاة بينما تقع التعقيبات بعد الفراغ من الصلاة؟

وعليه فاالظاهر هنا عدم جريان قاعدة التجاوز نعم يمكن إجراء قاعدة الفراغ بمقتضى صحيحة زرارة الثانية الواردة في الشكّ في الذراعين.

لأنّ قوله(ع): (صرت في حال أخرى من الصلاة أو غيرها) يشمل هذا المورد من دون شك وترديد.

وقد أورد المحقق الخوئي(3) أيضاً إشكالين على رأي أستاذه هنا:

الإشكال الأوّل: إشكال نقضي بأنّ المكلّف لو شك أثناء الانشغال بالتعقيبات


1 . ج4، ص223.

2 . ج4، ص628.

3 . مصباح الأصول294:3.

في أنّه هل أتى بأصل الصلاة أولا؟ فإنّ أحداً من الفقهاء لم يلتزم بجريان قاعدة التجاوز هنا.

ويمكن الذبّ عن هذا الإشكال أولاً بأنّه لا علاقة لهذا النقض بالإلحاق وعدم الإلحاق بل إنّ الإشكال وارد على كلّ من يجري قاعدة التجاوز في الشكّ في إتيان أصل العمل سواء ألحقنا التوابع بالمقدمات أم لا.

وثانياً أنّ المحقق النائيني يلتزم بحكومة روايات قاعدة التجاوز على روايات قاعدة الفراغ ولابد في باب الحكومة من التعبّد بمقدار دائرة الدليل الحاكم والدليل الحاكم لا يشمل ذلك الفرض الذي ذكره السيد الخوئي تحت عنوان النقض.

وبعبارة أخرى فإنّ قاعدة التجاوز تجري في الأجزاء المشكوكة المترتب عليها جزء آخر ولا تجري في أصل العمل.

نعم لو التزم المحقق النائيني بأنّ ملاك التجاوز عن الشيء شامل للتجاوز عن محلّ الشيء وعن أصل الشيء ـ كما صرح بذلك في أجود التقريرات ـ لزمه القول بجريان قاعدة التجاوز في هذه الصورة أيضاً لصدق التجاوز عن الشيء مع الانشغال بالتعقيبات، وعليه فلا استبعاد لجريان القاعدة في هذا الفرض أيضاً وإن كان لابدّ من الإتيان بالصلاة هنا من سائر الجهات ومع وجود سائر الأدلّة.

الإشكال الثاني: وهو حلّي ويتّضح بالفرق بين المقدمات والتوابع فإنّ الإقامة مترتبة على الأذان شرعاً وتقع بعده ويكون الشكّ في الأذان بعد الدخول في الإقامة من صغريات قاعدة التجاوز بخلاف التعقيبات حيث يعتبر تقديم التسليم عليها دون تأخر التعقيبات عن التسليم وعليه فإنّ التعقيب ليس له محل معيّن مترتب على التسليم في نظر الشارع فلا تجري قاعدة التجاوز.

ومن جهة أخرى لم يحرز عنوان الفراغ وبالتالي لا تجري قاعدة الفراغ ويجب على المكلّف أن يتدارك التسليم.

ويمكن للمحقق النائيني أن يجيب عن هذا الإشكال بأنّ الغرض من الإلحاق هو هذا المطلب بمعنى أنّنا نلحق الجزء غير المترتب على الجزء السابق شرعاً كالتعقيب بالمقدمات التي يتوفّر فيها الترتب الشرعي. وعلى هذا فالأوّلى في النظر هو الإشكال الذي قدمنّاه نحن وهو أنّ لروايات التجاوز عنواناً تعبّدياً فلا يمكننا التعدّي عنها.

الصورة الثانية التي ذكرها هي أنْ يشكّ المكلّف في تسليم الصلاة بعد إتيان الفعل المنافي المبطل للصلاة سواء كان ذلك الفعل عن عمد أم سهواً كالحدث أو النوم.

يعتقد المحقق الخوئي والمحقق العراقي بعدم جريان القاعدة في هذه الصورة أمّا المحقق النائيني فقد التزم بجريان هذه القاعدة في هذه الصورة في الدورة الأوّلى من الأصول لكنّه عدل عن ذلك في الدورة الثانية وهو قد ذكر وجهين على جريان القاعدة هنا:

الوجه الأوّل لجريان قاعدة التجاوز أنّ ترتّب الفعل المنافي على التسليم إنّما هو من أجل أنّ التسليم له عنوان المحلّل ويكون ترتب المحلّل من باب ترتب المحلّل بالمحلّل، وبالتالي يصدق هنا التجاوز عن الشيء والدخول في غيره.

ثمّ أورد المحقق النائيني إشكالاً على هذا الوجه وهو أنّ القدر المتيقّن من أدلّة قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير الذي يعتبر أحد أجزاء المركّب أو ملحقاته فلا تشمل قاعدة التجاوز الدخول في الغير مطلقاً وبعبارة أخرى أنّه لا يحصل لنا الظن فضلاً عن القطع بكفاية الدخول في الغير المطلق.

الوجه الثاني لجريان قاعدة التجاوز هو: أنّ فعل المبطل أثناء الصلاة لمّا كان موجباً لفسادها بل الأحوط وجوباً حرمته فلابدّ من أن يكون محلّه بعد التسليم ويكون من الأجزاء ويكون من الأجزاء المترتبة على الجزء الأخير شرعاً. فلو جيء بالمبطل وشك في الجزء الأخير صدق حينئذٍ العنوان الكلّي للشك في الشيء بعد الدخول في غيره وجرتْ قاعدة التجاوز.

أمّا وجه عدم جريان قاعدة التجاوز فهو أنّ المبطليّة أثناء العمل أو حرمته مستلزمة لأن يكون المحل الشرعي للمبطل بعد الجزء الأخير ولا يمكن أن يكون المبطل كالتعقيبات بحيث يكون محلّه الشرعي بعد الجزء الأخير، وبينها فرق واضح.

هذا وقد استقرب بعضهم الوجه الأوّل إذ لو فرضنا وقوع الفعل المبطل قبل التسليم لم يمكن للمصلّي الإتيان بالتسليم ولا بدّ من أن يكون محلّ التسليم قبل المبطل، فلو شكّ في التسليم بعد إتيان الفعل المبطل كان ذلك من مصاديق الشكّ في الشيء بعد الدخول في غيره.

الوجه المختار: والظاهر هو أنّ القول بعدم الجريان هو الأقوى، إذ لا ملازمة بين عدم صحّة التسليم بعد المبطل وبين كون محلّ التسليم قبل المبطل ولا يمكن الالتزام بأنّ ما كان مبطلاً لشيءٍ لابدّ أن يكون محلّ ذلك الشيء شرعاً قبل المبطل.

توضيح ذلك أنّه لو جاء المكلّف في أثناء الصلاة بما يُبطل الصلاة كما لو جاء به قبل ركوعها فإنّ أحداً لم يلتزم هنا بأنّ محلّ الركوع شرعاً هو قبل المبطل، هذا مع أنّ المبطل لا اختصاص له بالجزء الأخير بل له عنوان المبطلية بالنسبة لمجموع العمل، مع أنّ قاعدة التجاوز إنّما تجري في الجزء المعيّن

المشكوك، وعليه فالظاهر أنّ قاعدة التجاوز غير جارية في هذه الصورة.

وقد ذهب السيد الخوئي(1) إلى هذا الرأي إذ يعتبر في جريان هذه القاعدة أن يكون الجزء المشكوك قبل الجزء الآخر من وجهة نظر الشارع مع أنّ تسليم الصلاة لا يعتبر فيه أن يقع قبل إتيان المبطل عمداً كان أم سهواً وإن اعتبر في صحّته عدم وقوع الفعل المنافي. ومن هنا لا تجري قاعدة التجاوز.

نعم لو قلنا بأنّ وقوع الحدث قبل التسليم يوجب فساد الصلاة كما يراه المحقق النائيني ـ جرتْ قاعدة الفراغ هنا أمّا لو لم نلتزم بإبطاله للصلاة لم تبق لجريان قاعدة الفراغ ثمرة.

ذكر المحقق النائيني بعد أن التزم بعدم جريان قاعدة التجاوز في هذا المورد بأنّ قاعدة الفراغ هي الجارية هنا إذ يُعتبر في جريان قاعدة الفراغ أمران:

أحدهما: التجاوز عن الشيء والفراغ منه.

والثاني: الدخول في غيره المباين مع ذلك الشيء وكلا الأمرين متوفر فيما نحن فيه فإنّ عنوان الدخول في الغير ثابت من أنّه لو أتى بفعل مستحب أو مباح وإن كان غير مناف صدق عنوان الدخول في الغير فضلاً عن إتيان الفعل المنافي فإن عنوان التجاوز عن الشيء صادق معه أيضاً.

لأنّ تحقق معظم الأجزاء كافٍ في إحرازه ولا أثر لإحراز الجزء الأخير كما يقول في استمرار حديثه بأنّه لا فرق في جريان قاعدة الفراغ بين أن يکون الشكّ في الجزء الأخير إلى الشكّ في بطلان العمل، كما لو شك في الجزء الأخير من الوضوء مع فوات شرط الموالاة أو لم يؤدِّ الشكّ في الجزء الأخير إلى الشكّ في بطلان مجموع العمل كالشك في غسل الطرف الأيسر في الغُسل فيما لو كانت


1 . مصباح الأصول296:3.

عادة المكلّف أن يغسل جميع الأعضاء في الغسل دفعة واحدة ممّا توجب هذه العادة صدقَ عنوان التجاوز عن العمل ولمّا كان القطع بإتيان معظم الأجزاء حاصلاً جرت قاعدة الفراغ.

وما يلاحظ على نظرية المحقق النائيني هو أنّه ما الدليل على كفاية تحقق معظم الأجزاء في جريان قاعدة الفراغ؟ بل الظاهر من أدلّة هذه القاعدة انصرافها إلى تمام العمل.

وقد أورد المحقق الخوئي(ره) على جريان قاعدة الفراغ الوارد في كلام المحقق النائيني(ره) بأنّ ملاك جريان قاعدة الفراغ هو إحراز الفراغ وعنوان المضيّ من العمل ولا يحرز هذا العنوان مع الشكّ في تحقق الجزء الأخير، يتابع السيد الخوئي كلامه ويقول: بأننا لا نعتبر عنوان الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ، والمعتبر هو إحراز المضيّ من العمل.

هذا وقد احتمل بعضهم أنّ المراد ليس المضيّ واقعاً وحقيقة، إذ لو اعتبرنا هذا العنوان لزم أن تكون هذه القاعدة لغواً وعبثاً ولا يكون لها أيّ مصداق إذ بمجرّد الشكّ في صحّة العمل لا يكون عنوان المضي الواقعي قابلاً للإحراز، وعليه فإنّ المراد بالمضيّ في هذه القاعدة هو المضيّ بحسب الاعتقاد بمعنى أن يعتقد المصلّي بالفراغ من الصلاة حين اشتغاله بالتعقيب أو العمل المنافي.

ومن هنا يرى السيد الحكيم(1) بأنّ المضي الواقعي غير مقصود في المقام لأنّه بمعنى الفراغ من العمل الصحيح ومع هذا الوصف فلا معنى للشك أبداً.

لكنّ التحقيق أن المراد بالمضيّ هو مضيّ ذات العمل سواء على نحو التام أو الناقص وسواء وقع صحيحاً أم فاسداً، وعليه فإنّ المصلي يكون متيقّناً من الفراغ


1 . مستمسك العروة الوثقى518:2.

من ذات العمل فلا يمكن لنا أن نفسّر لفظ المضيّ بالمضيّ بحسب الاعتقاد.

تحليل نظرية صاحب منتقى الأصول:

سلك بعض المحققين(1) في جريان القاعدة مسلكاً آخر يتوقف على ثلاثة أمور:

الأمر الأوّل: (أنّ المراد من الفراغ من الصلاة هو الاشتغال بغيرها لا إتمامها والانتهاء منها إذ هما مدلولان التزاميان للفراغ ولا يدلاّن عليه بالمطابقة كما أنّ التعبير بالفراغ لم يرد إلاّ في رواية زرارة المفصّلة...)

ذكر في تفسير الفراغ بأنْ ليس المراد من الفراغ إتمام العمل وأنهاءَه إذ أولاً هذا العنوان مدلول التزامي للفراغ وليس مدلولاً مطابقياً لأنّ الفراغ بمعنى الخلوّ يرادف إنهاء العمل وإتمامه، في مقابل أثناء العمل وبينه، وعليه فإنّ الفراغ إنّما يصدق على الإتمام من جهة استلزامه للخلوّ وعدم الاشتغال بمعنى أنّ بعد إتمام العمل يكون المكلّف خالياً من الاشتغال بالعمل.

وثانياً فإنّ عنوان الفراغ إنّما ورد في رواية زرارة التي فرّقت بين الشكّ في أثناء الوضوء والشك بعد الوضوء، ومن الواضح أنّ المقصود من الفراغ في هذه الرواية هو الاشتغال بغير الوضوء. ويتابع المحقق المذكور کلامه ويقول: بأنه لو أغمضنا النظر عن هذا المطلب وفسرّنا الفراغ بمعنى الإتمام والإنهاء إلاّ أنّ الإتمام حسبما نراه إنّما يتحقّق بإتيان معظم الأجزاء لأنّ المراد من الفراغ عن العمل هو الفراغ من العمل الصحيح أو الفاسد، ومن هنا صحّ كلّام المحقق النائيني حيث فسّر العمل بمعظم الأجزاء، ذلك لأنّ عنوان الإتمام والانتهاء عامّ يشمل ما لو تحقق معظم الأجزاء، وعليه فلو دخل المصلّي في قاطع الصلاة ثمّ


1 . منتقى الأصول176:7.

شك في صحتها جرت قاعدة الفراغ فيما لو أتى بمعظم الأجزاء وليس هذا إلاّ لأجل أنّ الإتمام بالمعنى الأعم من الصحيح والفاسد يصدق مع تحقق معظم الأجزاء.

الأمر الثاني: ذكر فيه أنّ ما ذكره السيد الخوئي في تفسير لفظة (المضيّ) لا دليل عليه فإنّ المحقق الخوئي فسرّ المضي من العمل بالفوت وعدم التدارك مع أنّ المضي معناه تحقق الفعل في الزمان السابق ولذا لو دخل المكلّف في الفعل المنافي بعد إتيان معظم الأجزاء لا يُفرّق بين أن يكون المنافي عمداً أم سهواً لصدق المعنيّ حين الانشغال بالعمل المنافي للصلاة.

الأمر الثالث: ذكر فيه أنّه لو سلّمنا بأنّ الفراغ من العمل هو الاشتغال بغيره استنتجنا بأنّ المراد من الفراغ هو الفراغ البنائي لا الفراغ الحقيقي.

توضيح ذلك: أنّ هذا المعنى للفراغ أي الاشتغال بالغير لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا بنى المكلّف على تمامية العمل، وبتعبير أوضح فإنّ الفراغ الحقيقي بالمعنى المذكور آنفاً لا يتحقق إلاّ مع البناء على تمامية العمل فطالما يكون المكلّف منشغلاً بالعمل نفسه وينوي ذلك فهو مشغول بذلك ولم يحصل له الفراغ.

وبهذا البيان يتّضح لنا أنّ لفظ الفراغ قد استعمل في الفراغ الحقيقي وليس هذا الاستعمال مجازياً. والمهم هنا البحث أنّ الفراغ الحقيقي إنّما يتحقق بالفراغ البنائي.

الإشكالات الواردة على رأي صاحب منتقى الأصول:

والظاهر أنّ هناك عدّة ملاحظات على كلام صاحب منتقى الأصول:

الأولى: تتعلّق بالأمر الأوّل من الأمور الثلاثة المذكورة في كلماته وهي أنّ

الاشتغال بغير العمل لا علاقة له في معنى الفراغ، وهناك موارد كثيرة يحصل فيها الفراغ من العمل من غير أن ينشغل المكلّف بعمل آخر، فمثلاً من جاء بتسليم الصلاة ثمّ شكّ مباشرة في صحة الركوع أو السجود فإنّ قاعدة الفراغ جارية في حقّه من دون أي محذور مع أنّ المكلّف لم يشتغل بالغير.

الثانية: إنّ المتبادر عرفاً من الفراغ المذكور في الروايات هو تمامية العمل ولا بد من حمل لفظ الفراغ على هذا المعنى وإن كان هذا المعنى مدلولاً التزامياً للمعنى الأوّلي اللّغوي.

الثالثة: أنّ الظاهر في جريان قاعدة الفراغ هو أنّ المصلّي لا بدّ له من أن يعتبر عمله تاماً بحيث يفرغ من ذات العمل، وعليه فلو شك في صحة بعض الأجزاء جرت في حقه قاعدة الفراغ وإنْ لم يقطع بإتيان معظم الأجزاء.

ومن جهة أخرى فلو شكّ في التشهّد وهو في الركعة الأخيرة من الصلاة وقد أتى بمعظم الأجزاء لم يمكنه إجراء قاعدة الفراغ، وعليه فإنّ ما التزم به تبعاً للمحقق النائيني من كفاية تحقق معظم الأجزاء في جريان قاعدة الفراغ، أمر مردود.

الرابعة: إنّ ما قاله من أنّ تعبير الفراغ إنمّا ورد في رواية زرارة فقط من بين جميع الروايات ولابدّ من أنّ يراد بالفراغ في هذه الرواية الاشتغال بالغير محلّ تعجب منه إذ ورد لفظ الفراغ في عدة روايات أخرى كصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع): (قال: كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد).

الصورة الثالثة: لو شكّ في تسليم الصلاة مع عدم انشغاله بالمبطل ومن جهة ثانية لم يصدر منه سكوت طويل يؤدّي إلى فوات الموالاة فإنّ مقتضى قاعدتي

الاشتغال والاستصحاب الإتيان بالتسليم، ومن الواضح هنا عدم جريان قاعدة التجاوز لعدم تحقق موضوعها وهو الدخول في الغير.

أمّا بالنسبة إلى جريان قاعدة الفراغ أو عدم جريانها فقد احتمل بعضهم جريانها لأنّ هذا الشكّ إنمّا يرجع إلى أنّ المصلي هل يجوز له الاكتفاء بصلاة شكّ في تسليمها أو لا؟ فإنّ مقتضى قاعدة الفراغ الاكتفاء بصلاة كهذه.

وهذا الكلام ليس بتام، لأنّ هذه النتيجة لقاعدة الفراغ إنّما هي فيما لو كان أصل جريان القاعدة أمراً مسلّماً مع احتمال عدم جريانها أمر وارد في المقام لأنّ المصلّي لو لم يأت بالسّلام فإنّه لا يزال في أثناء العمل ولا تجري هذه القاعدة في أثناء العمل، وقد ذكرنا فيما سبق من الأبحاث بأنّ المعتبر في جريان هذه القاعدة فراغ المكلّف من العمل ولا بد من تحقّق الفراغ العملي مع أنّ هذا العنوان لم يُحرزْ في هذه الصورة.

الصورة الرابعة: هي أن يشكّ المكلّف في تسليم الصلاة ولم يفعل بعدُ ما يبطل الصلاة بل انشغل بما لا يبطلها كما لو بدأ بقراءة القرآن. وحكم هذه الصورة يظهر من حكم الصورة الثالثة.

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز عند الشكّ في صحّة الأجزاء:

إلى هنا قد ظهر لنا حكم جريان قاعدة التجاوز عند الشكّ في أصل وجود الجزء كالشك في أصل وجود الركوع بعد الدخول في السجود أو الشكّ في أصل وجود القراءة بعد الدخول في الركوع ولا إشكال في ذلك وإنّما النزاع والإشكال في جريان هذه القاعدة فيما لو شك في صحّة الجزء بسبب احتمال الخلل في شروط ذلك الجزء کما لو شك المكلّف أثناء السجود في أنّه هل كان ركوعه المأتي به صحيحاً أو كان فاسداً بسبب عدم شموله على الطمأنينة فهل

يمكن الحكم بالصحّة في هذه الموارد تمسكاً بقاعدة التجاوز؟

نجيب عن هذا التساؤل: بأنّنا لو جعلنا قاعدتي الفراغ والتجاوز قاعدة واحدة ـ كما ذهب إلى ذلك المحقق البجنوردي والإمام الخميني(ره) ـ التزمنا بعدم التفريق بين الشكّ في صحّة الكلّ والشك في صحّة الجزء.

لأنّ المستفاد من الروايات مثل (كلّما شككت فيه مما قد مضى) هو الحكم الكلّي والقاعدة العامّة أي (عدم الاعتناء بالشكّ بعد المضيّ) وهذا الحكم الكلّي يشمل الأجزاء كما يشمل كلّ العمل أي سواء كان الشكّ بعد الفراغ من العمل أم بعد التجاوز من محل الشيء، وسواء كان الشكّ في أصل وجود ذلك الجزء أم كان الشكّ في صحة الجزء المأتي به فإنّ هذه الموارد كلّها مشمولة للحكم الكلّي المستفاد من قاعدة الفراغ والتجاوز.

أمّا لو لم نعتبرهما قاعدة واحدة كما ارتأينا ذلك وقلنا بأنّ قاعدة الفراغ متعلّقة بكلّ العمل وبما بعد العمل، بينما تختصّ قاعدة التجاوز بالشك في الأجزاء وبأثناء العمل فمن المشكل إجراء قاعدة التجاوز عند الشكّ في صحّة الجزء لأنّ أخبار قاعدة التجاوز ظاهرة في الشكّ في أصل وجود الجزء لا في صحّته بعد الفراغ من أصل وجوده.

نعم قد يقال: بأنّ الأخبار وإن كان لها ظهور بدوي في الشكّ في أصل وجود الجزء إلاّ أنّنا نحكم من خلال تنقيح المناط بعدم التفريق بين الشكّ في أصل وجود الجزء والشك في صحّته، بل ربّما يدّعى الأولويّة هنا، لأنّ الشكّ في أصل الوجود إذا كان داخلاً في القاعدة فإنّ الشكّ في صحة الجزء بعد الفراغ من وجوده يكون داخلاً في القاعدة بطريق أولى.

هنا وقد شكّك بعض الأعاظم في هذا الدليل من جهة أنّ هذه الأولويّة لو

كانت أولوية قطعية لأمكن قبولها لكن لمّا كانت قاعدة التجاوز أمراً تعبّدياً شرعياً ولا يمكن تحصيل القطع بالملاك في الأمور التعبّدية فإن الأولويّة المذكورة لا تكون قطعية ولا يصحّ التمسّك بها.

أمّا جريان قاعدة الفراغ في هذا البحث ففيه رأيان فقد ذهب بعض الأعاظم إلى عدم جريان قاعدة الفراغ في هذا الفرع لأنّها مختصّة بما إذا شك المكلّف في صحّة مجموع العمل بعد الفراغ منه.

بينما تمسّك بعض آخر من الأعاظم كالمحقق الخوئي(ره)(1) وبعض تلامذته بإطلاق موثّقة ابن بكير في هذا الفرض وقالوا: بأنّ لجملة (كلّما شككت فيه ممّا قد مضى) إطلاقاً يشمل الجزء كما يشمل كلّ العمل ومن هنا فإنّهم صرّحوا بأنّ قاعدة الفراغ كما تجري عند الشك في صحّة كلّ العمل كذلك تجري عند الشك في صحّة الجزء أيضاً.

والظاهر أنّ هذا الاستدلال غير تام أولاً لأنّا قد ذكرنا مراراً بأنّ لفظة من في (ممّا قد مضى) بيانية وليست تبعيضية والفاعل في (مضى) ظاهر في كلّ العمل.

وبعبارة أخرى لا إطلاق لهذه الرواية وعليه فلا تجري قاعدة الفراغ في المقام.

ثانياً: لو سلّمنا إطلاق هذه الرواية إلاّ أنّ هناك تعبيرات في الروايات الأخرى في هذا الباب تكون مقيّدة لإطلاق هذه الرواية مثل (بعد ما تفرغ من صلاتك) ومثل (بعد ما ينصرف) و (بعد ما صلّى) حتّى إنّ التعبير بالأذكرية المذكور في روايات الفراغ له ظهور فيما بعد العمل.

والحاصل: أنّ قاعدة الفراغ تكون مختصّة بما بعد العمل ولا تجري في الشك في صحّة الأجزاء أثناء العمل.


1 . مصباح الأصول310:3.

الرأي المختار: وعلى ما استفدناه من روايات قاعدة الفراغ والتجاوز من الفرق بين القاعدتين حيث إنّ قاعدة الفراغ مختصّة بالشك فيما بعد العمل وقاعدة التجاوز بالشك في أثناء العمل وأنكرنا نظرية المشهور في الفرق بين القاعدتين من جهة أنّ مورد قاعدة التجاوز هو الشك في أصل الوجود ومورد قاعدة الفراغ هو الشك في الصحة.

وعليه نستنتج أنّ قاعدة التجاوز تجري في الشك أثناء العمل مطلقاً سواءً كان الشك في وجود الشيء أم في صحّته. ولا داعي حينئذٍ إلى تنقيح المناط والأولوية في البحث.

ما المراد من المحلّ في قاعدة التجاوز؟

لابدّ من قاعدة التجاوز من التجاوز عن المحلّ والسؤال هنا هو إنّه ما معنى التجاوز عن المحل؟ وما معنى المحلّ؟

ذُكِرَ في الجواب عن هذا السؤال ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أنّ المراد بالمحل هو المحل الشرعي المقرر الذي حدّده وعيّنه الشارع المقدّس.

الاحتمال الثاني: إنّ المراد هو المحلّ العقلي فإنّ العقل يجعل للأشياء والأشياء محلاً معيناً عن طريق الملاكات المختلفة فعلى سبيل المثال إن جملة (الله أكبر) من حيث الوضع اللغوي لهذه الهيئة التركيبية يكون لفظ الجلالة مقدّماً فيها على لفظة (أكبر) فالمراد بالمحلّ العقلي هو المحلّ الذي لم يتعيّن من قبل الشارع بل تعيّن وفقاً لضابطة أخرى كالقانون الوضعي.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد بالمحلّ هو المحلّ العادي وهو ما تحقّق بحسب العادة سواء كانت عادةً شخصية أم نوعية، فمثلاً من كانت عادته التوضؤ

بعد كلّ حدثٍ أصغر، فلو صدر منه الحدث الأصغر ومضى عليه نصف ساعةٍ مثلاً فهل تجري في حقّه قاعدة التجاوز؟ وبالنسبة إلى هذه الاحتمالات وجريان قاعدة التجاوز فيها لابدّ من القول بأنّ قاعدة التجاوز جارية من غير شكّ وترديد فيما تجاوز محلّه الشرعي فإنّ محل الركوع في الصلاة قبل السجود، فلو شكّ المصلّي حال السجود في إتيان الركوع جرت في حقّه قاعدة التجاوز لمضيّ محلّ الركوع.

وإنّما الكلّام في الاحتمالين الثاني والثالث فهل تجري قاعدة التجاوز مع تجاوز المحلّ العقلي أو العادي أولا؟

فقد بيّنا بالنسبة إلى المحل العقلي بأنّ العقل بنفسه لا يعيّن محلّ الأشياء والأجزاء بوجه من الوجوه بل يحكم بوجوب مراعاة القانون والضابط الموجود في المقام، وبالتالي يرجع المحلّ العقلي إلى المحلّ الشرعي فإنّ القانون في المقام قد يكون هو الشرع كما لو عيّن الشارع محلّ الركوع في الصلاة، وقد يكون هو الوضع كما لو حكم الوضع بتقديم لفظ الجلالة على (أكبر) في جملة (الله أكبر) فيكون ذلك هو المأمور به.

أمّا المحل العادي فقد مثّلنا له بمن كانت عادته التوضؤ بعد الحدث الأصغر فإنّ محلّ الوضوء العادي يكون بعد الحدث الأصغر فلو شك هذا الشخص بعد مضي نصف ساعة على الحدث الأصغر في أنّه هل توضأ أو لا فهل تجري في حقه قاعدة التجاوز من جهة تجاوز محلّ الوضوء العادي عنده؟

فقد أظهر الشيخ الأنصاري(1) تأملّه في ذلك وذكر أدلّة على جريان قاعدة التجاوز وأخرى على عدم جريأنّها في هذا المورد:


1 . فرائد الأصول ج3ص330-331.

فقد ذكر دليلين على جريان القاعدة:

الدليل الأوّل: هو الإطلاق حيث إنّ إطلاق روايات الباب يشمل التجاوز عن المحلّ العادي أيضاً فإنّ المراد بالشيء في قوله(ع): (جاوزت عن شيءٍ) هو مطلق الشيء.

والدليل الثاني: هو التعليل الوارد في رواية زرارة الصحيحة (هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ)(1) يرى الشيخ أنّ هذا التعليل يدلّ على أنّ الظاهر هو المقدّم فيما لو دار الأمر بين الظاهر والأصل، فمثلاً من توضأ ثمّ شكّ بعد الانتهاء من الوضوء في أنّه هل مسح رأسه أولا؟ فإنّ الأصل عدم إتيان المسح فلابدّ له من الإتيان بالمسح ثانية لكنّ ظاهر حال المكلّف في مقام امتثال أمر المولى يشهد بأنّ المكلّف قد جاء بجميع الأجزاء والشرائط، وبعبارة أخرى فإن الظاهر على إتيان العمل.

وهذا التعليل يدلّ على أنّ الظاهر مقدّم على الأصل فيما لو تعارضا حتى لو كان منشأ هذا الظهور عادة المكلّف(1).

هذان الدليلان ذكرهما الشيخ على جريان قاعدة التجاوز في التجاوز عن المحل العادي لكنه يذكر دليلين آخرين على عدم جريان القاعدة في المقام:

الدليل الأوّل: هو أنّ ذلك يستلزم إحداث فقه جديد حيث لم يُفتِ أحدٌ من الفقهاء بأنّ من كانت عادته أن يتوضأ بعد الحدث الأصغر وشك بعد مرور نصف ساعة على الحدث في أنّه هل توضأ بعد ذلك الحدث الأصغر أولا حُكِمَ


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة332:1باب42من أبواب الوضوء حديث7.

2 . وهذا نص كلام الشيخ: (الظاهر من قوله(ع) فيما تقدم: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك) أن هذه القاعدة من باب تقديم الظاهر على الأصل فهو دائر مدار الظهور النوعي ولو كان من العادة).

على أنه متطهرٌ وجاز له الدخول في الصلاة(1)، وعليه فإنّ إجراء قاعدة التجاوز في التجاوز عن المحل العادي مستلزم لتأسيس فقه جديد.

الدليل الثاني: مضافاً إلى أنّ جريان القاعدة في المقام يخالف الاطلاقات الكثيرة الدالة على وجوب الإتيان بالوضوء كلّما شك المكلّف قبل الصلاة في أنّه هل توضأ أولا سواء كانت عادة المكلّف أن يتوضأ بعد كلّ حدث أصغر أم لم تكن.

ومن هنا فإن الشيخ الأنصاري رأى أنّ الأمر مشكل وأمر بالتأمل فهو متوقف عملياً ولا بد حينئذٍ من الرجوع إلى أصل الاستصحاب.

أدلة اختصاص القاعدة بالمحل الشرعي:

وهناك أدلّة أخرى يستفاد منها أنّ قاعدة التجاوز مختصّة بالتجاوز عن المحل الشرعي:

الدليل الأوّل: قد ذكرنا في مسألة تعدّد القاعدتين أنّ المستند الوحيد لقاعدة التجاوز هي الروايات، ومن هنا كانت هذه القاعدة أمراً تعبديّاً شرعياً، وبالرجوع إلى روايات قاعدة التجاوز يتّضح لنا أنّ المحلّ العادي لم يذكر في أية واحدةٍ من تلك الروايات، والمذكور في جميع الروايات هو التجاوز عن المحل الشرعي، وقد ذكرنا سابقاً أنّ كثرة الأمثلة توجب تحديد الضابطة.

الدليل الثاني: على مبنى المحقق النائيني القائل بحكومة روايات قاعدة التجاوز على روايات قاعدة الفراغ وإلحاق الشك في الجزء بالشك في الكلّ فإنّ


1 . وهذه هي عبارة الشيخ: (مع أنّ فتح هذا الباب بالنسبة إلى العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة فمن اعتاد الصلاة في أوّل وقتها أو مع الجماعة فشكّ في فعلها بعد ذلك فلا يجب عليه الفعل وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتدّ به أو قبل دخول الوقت للتهيّؤ فشكّ بعد ذلك في الوضوء، إلى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها).

الحكومة لمّا كانت أمراً تعبّدياً فلابدّ من الالتزام بدائرة التعبّد الدالة على المحل الشرعي فقط وإن كنّا قد ناقشنا مبنى المحقق النائيني هذا في المباحث السابقة.

الدليل الثالث: ما أشار الإمام الخميني(ره) وهو أنّ المشرّع إذا عين محلاً لأفعال قد أوجبها هو ثمّ أعطانا قاعدة كلّيّة بأنّه كلّما تجاوز عن محل تلك الأفعال ثمّ شككتم فيها لم يجب الاعتناء بها فإنّ العرف والعقلاء إنّما يفهمون من هذا المحلّ ذلك الذي ذكره المشرّع نفسه لا المحل العادي بحسب عادة الشخص أو النوع.

وعلى هذا فإنّ القول بجريان قاعدة التجاوز في التجاوز عن المحلّ العادي لإطلاق الأدلة مشكل وغير قابل للقبول(1).

ما المراد بالغير في قاعدة التجاوز؟

مما وقع فيه الخلاف في بحث قاعدة التجاوز هو أنّه ما المراد من الغير الذي لابدّ من الدخول فيه في قاعدة التجاوز؟ وهل التعبير بقوله(ع): (دخلت في غيره) قيدٌ توضيحي بمعنى أن التجاوز عن الشيء إنّما يتحقّق بالدخول في الغير ولولا الدخول في الغير لما حصل التجاوز.

أو أنّ التجاوز عن المحل عنوان مستقل سواء حصل الدخول في الغير أم لم يحصل؟


1 . الاستصحاب ص326: (لأن الشارع المقنّن إذا قرّر للأشياء محلاً فجعل محلّ القراءة بعد التكبير ومحلّ الركوع بعد القراءة وهكذا ثم جعل قانوناً آخر بأنّ كل ما مضى لا يفهم العرف والعقلاء منه إلا ما هو المحلّ المقرّر الجعلي لا ما صار عادة للأشخاص أو النوع فإن العادة إنّما تحصل بالعمل وهي لا توجب أن يصير المحلّ العادي محلاً للشيء بل المحلّ بقول مطلق هو ما يكون محلاً مقرّراً قانونياً لا ماصاً عادة حتى يختلف باختلاف الأزمنة والأحوال وبالجملة إسراء الحكم إلى المحل العادي بدعوى إطلاق الأدلة في غاية الإشكال بل لا يمكن التزامه).

المستفاد من كلمات الشيخ الأعظم الأنصاري هو أنّ الدخول في الغير قد يكون محصّلاً للتجاوز، وقد يحصل التجاوز من غير أن يحصل الدخول في الغير.

وحتى يتّضح هذا البحث لابدّ من توضيح المراد من الغير، فهل المراد به هو الغير الذي يترتّب على الجزء المشكوك شرعاً أو أنّ المراد به مطلق الغير والجزء التالي وإن لم يترتب شرعاً على الجزء المشكوك؟ فإنّ السجود في الصلاة جزءٌ مترتّب شرعاً على الركوع مع أنّ العمل الواقع قبل السجود أي الهويّ إليه جزء آخر غير مترتّب شرعاً على الركوع.

وكذلك هل يراد بالغير الأجزاء الأصلية كالركوع والسجود والقيام أو أنّه يشمل الأجزاء غير الأصلية أيضاً كالهويّ إلى السجود والنهوض للقيام.

رأي الشيخ الأنصاري: أنّه يرى أنّ المراد به هو الأجزاء الأصلية للعمل وهو ظاهر صحيحة إسماعيل بن جابر إذ يقول الإمام(ع) في صدر الرواية: (إنّ شك في الركوع بعدما سجد فليمض وإن شك في السجود بعدما قام فليمض)(1).

وهذه العبارة مقدّمة للقاعدة الكلّيّة المذكورة في ذيل الرواية (كلّ شيءٍ شكّ فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه).

يقول الشيخ الأعظم بأنّ صدر الرواية في صدد تشخيص المصاديق بينما يبيّن ذيل الرواية قاعدتها الكلّيّة أي أنّ المراد من الدخول في الغير هو الدخول في الأجزاء الأصلية يعني الغير الذي رتّبه الشارع على الجزء المشكوك كالركوع والسجود والقيام لا أيّ جزء وإنْ لم يكن أصلياً(2).


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة318:6باب13من أبواب الركوع حديث4.

2 . فرائد الأصول ج3ص332-333.

وعلى هذا فمن شك حال الهويّ إلى السجود في أنّه هل ركع أو لا يجب عليه الاعتناء بشكه ولابد من الإتيان بالركوع ولا تجري حينئذٍ قاعدة التجاوز.

ويؤيد هذا الرأي رواية أخرى يسأل فيها الراوي من الإمام(ع): (رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد، قلت: فرجل نهض من سجود فشكّ قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: سجد)(1).

وهذه الرواية صريحة في أنّ الدخول في الأجزاء غير الأصلية غير كافٍ.

رأي المحقق الأصفهاني:

يقول المحقق الأصفهاني في مقابل الشيخ الأنصاري بأنّ الموارد والأمثلة المذكورة في صدر الرواية ليست لتحديد القاعدة الكلّيّة المذكورة في ذيل الرواية بل ذُكرت من باب الأمثلة توطئةً لذكر القاعدة الكلّية(2) وعليه فإنّه يرى أنّ قاعدة التجاوز تجري في الأجزاء غير الأصلية أيضاً، فلو شك المكلّف حال الهويّ إلى السجود في أنّه هل ركع أولا يجب عليه الإتيان بالركوع.

قد يقال ردّاً على المحقق الأصفهاني بأنّه لو كان الأمر كما تقولون فلِمَ لم يمثّلْ الإمام(ع) في الرواية بالأجزاء غير الأصلية فلا أقلّ من ذكر مثال واحد على ذلك؟ أليس عدم ذكره دليلاً على عدم جريان القاعدة في الأجزاء غير الأصلية؟


1 . العلامة المجلسي: بحار الأنوار160:88.

2 . نهاية الدراية في شرح الكفاية309:3 (الطبعة الحجرية) فهو يقول: (إلاّ أنّ الظاهر أن هذه الخصوصيات من باب التمثيل توطئة لضرب قاعدة كلية لا تحديد للغير وكما أنّ إطلاق الغير في مقام ضرب قاعدة كليّة يوجب التعدّي إلى غير ما ذكر في الروايتين من الأجزاء كذلك يوجب التعدّي إلى مقدماتها الأمر أوسع من ذلك).

وقد التفت المحقق الأصفهاني إلى هذا الإشكال وأجاب: بأنّ الإمام(ع) إنّما لم يذكر هذه الموارد في صدر الرواية لندرة وجودها فإنّ الشك في إتيان الركوع وعدمه عادةً يقع حال السجود ولا يقع لمن هو في حالة الهويّ إلى السجود وقبل وضع الجبهة على ما يصحّ السجود لقرب عهده من الجزء المشكوك فهذا الشك الذي منشؤه الغفلة غالباً ما يقع في السجود والجزء التالي للسجود(1).

وهو في مقام الإشكال على الشيخ الأنصاري يقول: بأنّ قبول كلام الشيخ الأنصاري يوجب الاكتفاء بتلك الموارد والأمثلة المذكورة في صدر الرواية من غير إمكانية التعدّي إلى موارد أخرى.

ثمّ قال: لو سلّمنا بأنّ ذكر موردي الشك إنّما هو من باب التمثيل ولا اختصاص بهذين الموردين بل لو شككنا حالة القيام بأنّه هل كبّرنا أولا، لابدّ من عدم الاعتناء بهذا الشك.

ومن ناحية ثانية لو التزمنا بوجوب حمل الغير على التحديد وفكّكنا بالتالي بين موضوع الشك من جهة ومعنى الغير من جهة أخرى فإنّ هذا التفكيك لا دليل عليه بل هو تحكّم محض(2).

ويقول أخيراً بأنّ هناك روايات تدلّ على أنّ الدخول في مقدمات الأفعال والأجزاء غير الأصلية كافٍ ويوافق القاعدة كرواية عبد الرحمن حيث يسأل


1 . يقول: (وعدم تعرضه للانتصاب والهويّ والانتقال إلى السجود ليس دليلاً على عدم الاعتبار بالدخول فيها بل حيث أن الغفلة الموجبة للشك بحسب العادة لا تعرض للمصلّي مع قرب الانتصاب والهويّ إلى الركوع فلذا لم يتعرّض لهما بل عقّب الأمثلة العادية بنصب قاعدة كلية والعبرة بمفاد القاعدة لا بموردها الخاص (نهاية الدراية في شرح الكفاية309:3).

2 . المصدر نفسه.

الإمام(ع): (رجلٌ اهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع)(1).

نعم في رواية عبد الرحمن الأخرى يسأل من الإمام(ع): (رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال: يسجد)(2).

حيث يستفاد من هذه الرواية بأنّ المكلّف لو رفع رأسه من السجود وشكّ في أنّه هل سجد أولا؟ وجب عليه أن يعود ويسجد، ولعلّه لهاتين الروايتين لعبد الرحمن فصّل صاحب المدارك بين الهويّ إلى السجود والنهوض إلى القيام وقال في الأوّل: بعدم الاعتناء بشكّه والبناء على أنّه قد أتى بالركوع، وأمّا في الثاني فقد حكم بوجوب الرجوع والإتيان بالسجود.

الرأي المختار:

من بين هاتين النظريتين يبدو لأوّل وهلة أنّ الحقّ مع الشيخ الأنصاري وأنّ قاعدة التجاوز لا تجري في موارد الهويّ إلى السجود والنهوض للقيام والأجزاء غير الأصلية. وقد وضّحنا ذلك في الأبحاث السابقة.

ومن الأهمية بمكان والذي ينفعنا في موارد كثيرة هو أنّ المورد لا يقيّد وأنّه لو سألنا الإمام(ع) عن حكم موردٍ ما وأجاب الإمام(ع) بذكر قاعدة كلّيّة فإنّ مورد السؤال لا يمكن أن يقيّد القاعدة أمّا لو ذُكرت موارد ونماذج عديدة لها جهة اشتراك واحدة قبل بيان القاعدة الكلّيّة من قبل الإمام(ع) فإنّ القاعدة الكلّيّة تتحدّد من قبل الإمام(ع) بتلك المسائل المشتركة فما نحن فيه من هذا القبيل.

أمّا بالنسبة لما ذكره المحقّق الأصفهاني من لزوم التفكيك فنقول في الجواب: ما هو الإشكال فيما لو علمنا من جهةٍ بأنّ لا خصوصية لمثال الركوع والسجود


1 . محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة318:6باب13من أبواب الركوع حديث6.

2 . العلامة المجلسي: بحار الأنوار160:88.

وحكمنا بسبب علمنا هذا بأنّ القاعدة المذكور في الذيل ليست مختصّة بالركوع والسجود، ومن جهة ثانية نرى أنّ هذه الأمثلة مشتركة في محور خاص وبينها قدر جامع مشترك والعرف يفهم منها تقييد الكبرى الكلّيّة وعليه فلا بد من ارتكاب هذا التفكيك ولا تحكّم في البين.

والحاصل أنّ رأي الشيخ الأعظم الأنصاري قابل للقبول.

نعم قد يدّعي أحدهم في مقام الإشكال بأنّ هناك تعارضاً بين رواية عبد الرحمن في الهويّ إلى السجود وبين رواية إسماعيل بن جابر.

لكنّه يجاب بأنّ في رواية إسماعيل بن جابر إنّما يجب الإتيان بالسجود، لأن الشكّ قد وقع قبل الاستواء والقيام ولم يحصل الغير بعدُ عرفاً، أمّا الهويّ للسجود فهو من المقدّمات القريبة للسجود عرفاً فلم يحصل الدخول في غيره، وعليه فلا تعارض بين هاتين الروايتين.

يرى المحقق النائيني بأنّ الهويّ إلى السجود له مراتب إذ من أوّل الانحناء وحالة التقوّس إلى وضع الجبهة على ما يصحّ السجود كلّها من مصاديق الهويّ للسجود.

ويمكن حمل عنوان الهويّ في رواية عبد الرحمن على المرتبة الأخيرة القريبة إلى فعلية السجود وعليه يرتفع التنافي والتعارض(1).

والظاهر أنّ حصر الهويّ في المرتبة الأخيرة منه غير صحيح كما أنّ التفريق بين المرتبة الأولى والأخيرة غير دقيق عرفاً بل لابد من القول بأنّ ابتداء الهويّ أيضاً له عنوان مقدميّة السجود وأنّ الأخذ بالاستواء والقيام لا يعتبر مقدمةً للركوع.


1 . فوائد الأصول636:4.

وأخيراً يمكن القول بأنّ ما سُئل عنه في الرواية هي الموارد التي تحصل غالباً ولا تكون حينئذٍ صالحة لتقييد القاعدة الكلّية كما لابدّ من القول بأنّ لا خصوصية في تحقق معنى الغير سنشير إلى ذلك في مبحث اعتبار الدخول في الغير بأنّ للغير معنى عاماً.

وعلى هذا فإنّ رأي المحقق الأصفهاني هو الرأي المختار لدينا.

بحث اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ والتجاوز:

من الأبحاث الهامّة الأخرى في هذه القاعدة هو أنّه هل يعتبر الدخول في الغير في جريان كلٍّ من هاتين القاعدتين مضافاً على صدق عنوان التجاوز عن الشيء أو الفراغ عنه؟ أو أنّه معتبر في قاعدة التجاوز دون قاعدة الفراغ؟ أو أنّ هذا العنوان أي عنوان الدخول في الغير غير معتبر في كلتا القاعدتين؟

وهل أنّ هذا النزاع نزاع واقعي معنوي أو أنّه مجرّد نزاع لفظي من غير أثر؟

لو التزمنا هنا بوحدة قاعدتي الفراغ والتجاوز كان لابدّ من تحليل جميع الروايات برؤية واحدة وأنْ نلاحظ بأنّ قيد الدخول في الغير هل يستفاد من مجموع هذه الروايات أولا؟

أمّا لو اعتبرناهما قاعدتين مستقلّتين فلابدّ من دراسة روايات كلٍّ من القاعدتين بدقّة على نحو الاستقلال، ولو اتّبعنا هذا المسلك الثاني لاستغنينا عن تحليل الروايات على النحو الأول.

ومن هنا يرد الإشكال على المحقّق النائيني أنّه كيف فكّك في هذا البحث بين قاعدتي الفراغ والتجاوز مع أنّه حصل على كبرى كليّة من مجموع الروايات الواردة في هذا البحث وهو يعتقد بوحدة هاتين القاعدتين.

فإنّه يقول: فتحصّل أنّه لا مانع من الالتزام بوحدة الكبرى المجعولة الشرعية

وربّما تترتب على ذلك ثمرات مهمّة)(1).

وجاء في كلامه الآخر: ولكنّ الإنصاف أنّ القول بتعدّد الكبرى المجعولة الشرعيّة بعيد الغاية فإنّ ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بأنّ الشارع في مقام ضرب قاعدة كلّية للشك في الشيء بعد التجاوز عنه(2).

نعم يمكن الدفاع عن المحقّق النائيني بأنّه قد استفاد من مجموع الروايات أنّ التجاوز عن الجزء منزّل منزلة التجاوز عن الكلّ وهذا تنزيل شرعي في أصل جريان عدم الاعتناء بالشك لكن لا ضير في أن يختص التجاوز عن الجزء بأحكام أخرى كما يعتقدون بأنّ قاعدة التجاوز يختصّ جريانها بأجزاء الصلاة فلا تجري في سائر المركّبات لاختصاص مورد التعبّد والتنزيل بالصلاة ولهذا تخرج الطهارات الثلاث (الوضوء والغسل والتيمّم) من قاعدة التجاوز تخصّصاً.

لكنّه يعتقد في النهاية بأنّ الدخول في الغير معتبر في قاعدة الفراغ على نحو الشرط الشرعي التعبّدي. وبعبارة أخرى فإنّ الدخول في الغير ليس سبباً لصدق عنوان الفراغ في قاعدة الفراغ بل يتحقّق هذا العنوان من غير الدخول في الغير أيضاً أمّا في قاعدة التجاوز فلا يتحقّق عنوان التجاوز من غير الدخول في الغير. وهنا لابدّ لنا من البحث حول كلٍّ من القاعدتين على نحو الاستقلال.

بحث اعتبار الدخول في الغير في مجرى قاعدة التجاوز:

يستفاد من الروايات المتعدّدة التي استدلّلنا بها على قاعدة التجاوز أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان هذه القاعدة.


1 . فوائد الأصول626:4.

2 . فوائد الأصول623:4.

توضيح ذلك:

أولاً: أنّه قد ذكر في بعض الروايات أنّ المصلّي بعد أن دخل في السجود قد شكّ في أنه هل ركع أولا؟ وهذا التعبير مفاده أنّ مجرى قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير، وكذلك المستفاد من صدر صحيحة زرارة الواردة في الشك في الجزء السابق بعد الدخول في الجزء اللاحق، كما لو شكّ وهو في الإقامة هل أذّن أولا؟ أو شكّ حال التكبيرة هل أذّن وأقام أولا؟ أو شكّ حال القراءة هل كبّر أولا؟ يستفاد من ذلك أنّ مجرى قاعدة التجاوز هو تحقّق الدخول في الغير.

ثانياً: إنّ الأهمّ من صدر رواية زرارة تلك القاعدة الكليّة في ذيل هذه الرواية.

وبعض الروايات الأخرى حيث يقول الإمام(ع): (إذا خرجت من شيءٍ ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء) وقد نُصّ في هذه العبارة على الدخول في الغير ويستفاد من ظاهره أنّه جزء الموضوع أي أنّ الموضوع في قاعدة التجاوز له جزآن:1ـ الخروج من الشيء 2ـ الدخول في غير ذلك الشيء.

كذلك نُصّ في موثقة إسماعيل بن جابر على الدخول في الغير: (كلّ شيءٍ شك فيه مّما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه).

وهناك موثقة ابن أبي يعفور حيث يقول فيها الإمام(ع): (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلتَ في غيره).

وقد ذكرنا فيما سبق بأنّنا يمكن أن نستخرج من هذه الرواية قاعدة التجاوز، كما يمكن استفادة قاعدة الفراغ منها، وبعبارة أخرى فإنّ هذه الرواية قابلة للدلالة على حجّية كلتا القاعدتين.

والحاصل أنّ المستفاد من موارد السؤال في روايات التجاوز ومن القاعدة الكليّة المذكورة فيها إنّ الدخول في الغير شرط في قاعدة التجاوز.

هل الدخول في الغير شرط شرعي أو عقلي؟

المهم هنا هو أنّ اعتبار الدخول في الغير هل هو بعنوان أنّه شرط شرعي تعبّدي أو أنّه شرط عقلي؟ كما ذكرنا سابقاً أنّ قاعدة التجاوز قاعدة تعبّدية محضة فلابدّ من معرفة أنّ اعتبار هذا الشرط تعبّدي أيضاً أو أنّ لهذا الشرط مدخليّة في عنوان التجاوز بحيث لا يصدق عنوان التجاوز عن الشيء من غير الدخول في الغير؟

ظاهر روايات قاعدة التجاوز أنّ الدخول في الغير ليس عنواناً جعلياً شرعياً تعبّدياً وإنّما هو لتحقيق عنوان التجاوز.

وبتعبير أوضح أنّه ما لم يتحقّق الدخول في الغير يكون محلّ إتيان الجزء باقياً ولم يتحقّق التجاوز عنه، ومن هنا لو شككنا في إتيان ذلك الجزء وجب الإتيان به وبمجرد الدخول في غيره ينتفي محلّ الجزء السابق ويتحقق التجاوز عنه.

وقد اختار المحقق النائيني هذا الرأي حيث يقول: (لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتّب عليه)(1).

البحث في اعتبار الدخول في الغير في مجرى قاعدة الفراغ:

يرى المحقق النائيني وجمع آخر من العلماء أنّ الدخول في الغير معتبر في جريان قاعدة الفراغ على نحو الشرط الشرعي التعبّدي، بينما ذهب آخرون کالمحقق العراقي(2) إلى خلاف هذا الرأي لأنّهم يرون كفاية مجرّد الفراغ من أصل العمل في جريان قاعدة الفراغ، وعليه فلا حاجة إلى الدخول في الغير.


1 . فوائد الأصول631:4.

2 . نهاية الأفكار ج4قسم2ص53.

والتحقيق في ذلك يستدعي تحليل ودراسة جهات ثلاث:

الجهة الأولى: هل هناك روايات تدلّ بإطلاقها على جريان قاعدة الفراغ بحيث لم يُذكر فيها الدخول في الغير؟

وهل هناك مانع كالانصراف أو ما يمنع انعقاد الإطلاق أولا؟

الجهة الثانية: لو سلّمنا وجود روايات مطلقة فهل بين روايات قاعدة الفراغ ما يدلّ على التقييد؟

الجهة الثالثة: على فرض وجود روايات دالّة على التقييد فهل هناك ما يدلّ على رفع اليد عن هذا التقييد؟

بحث في الجهة الأولى (وجود روايات مطلقة):

لاشك في وجود روايات مطلقة بين تلك الروايات الواردة في خصوص قاعدة الفراغ وهي:

1 ـ إطلاق موثّقة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع): (كلّ ما شككت فيه مّما قد مضى فامضه كما هو)(1).

2 ـ صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق(ع): (في الرجل يشكّ بعد ما ينصرف من صلاته قال: فقال: لا تعيد ولاشيء عليه)(2).

3 ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع): (كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد)(3).

4 ـ خبر محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق(ع): (كلّ ما مضى من صلاتك


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة358:13.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام ج2ص374-375 حديث 1443، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 246:8 باب 7 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث1.

3 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام353:2حديث1460.

وطهورك فذكرته تذكّراً فأمضه ولا إعادة عليك فيه)(1).

وعلى هذا فلا شكّ في أصل وجود الإطلاق بحسب ظاهر روايات قاعدة الفراغ لكنّ البحث الأهم هو أنّه هل هناك مانع من هذا الإطلاق كالانصراف أو ما أشبهه أولا؟

قد ذُكر في كلمات الأعاظم وجود مانع من انعقاد الإطلاق لابدّ من التعرّض لها:

الوجه الأول: ذكر المحقّق النائيني(2) أنّه إن كان صدق العنوان على جميع إفراد الطبيعة على حدّ سواء فلاشك في شمول ذلك العنوان المطلق لجميع الأفراد، فمثلاً لفظ الماء شامل لماء البحر وماء المطر وماء البئر على حدٍّ سواء، فلو ورد في كلام الشارع أنّ الماء طاهر كان شاملاً لجميع هذه المياه.

أمّا لو لم يكن شمول العنوان وصدقه على جميع الأفراد على حدّ سواء كعنوان الحيوانية الذّي لا يصدق على البقر والغنم والإنسان على حدّ سواء إذ في شموله للإنسان نوعٌ من الخفاء بحيث لو قيل عند العرف: رأيت حيواناً وقد أريد به الإنسان لم يتقبّله العرف، ففي مثل هذه الموارد لا يشمل اللفظ جميع الموارد بل ينصرف إلى غير الفرد الخفيّ.

يقول النائيني: (فإنّ غلبة الوجود وإن لم توجب الانصراف كما حقّقناه في محلّه إلاّ أنّه فيما إذا كانت الغلبة لأمر خارج.

وأمّا إذا كانت من جهة قصور الماهية ونقصها في الفرد النادر وكانت الماهية تشكيكية بحيث كان شمول الطبيعة له خفياً في نظر العرف فلا محالة يوجب


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام364:1حديث1104، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة471:1باب42من أبواب الوضوء حديث6.

2 . السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: أجود التقريرات222:4.

ذلك انصراف المطلق إليه، ولا أقلّ من كونه القدر المتيقّن في مقام التخاطب، ومحلّ الكلام من هذا القبيل فإنّ صدق التجاوز عن الشيء مع الدخول في الغير أظهر من صدقه مع عدم الدخول فالمطلق في حدّ ذاته قاصرٌ عن الشمول مع عدم الدخول في الغير ولو لم يكن هناك دليل المقيّد أيضاً).

إشكال الوجه الأول: إنّا لا ننكر أصل كلام المحقق النائيني لكنّنا لا نوافقه في أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل إذ لا شكّ في صدق عنوان الفراغ عرفاً فيما لو لم يتحقّق الدخول في الغير.

وبعبارة أخرى أنّ العرف لا يفرّق في صدق هذه العناوين وشمولها بين ما تحقّق فيه الدخول في الغير وما لم يتحقق فيه ذلك. هذا بخلاف عنوان الحيوانية الذي يرى العرف فرقاً واضحاً بين شموله وصدقه على الغنم والبقر وبين دلالته على الإنسان.

الوجه الثاني: أنّ المحقق الخراساني(1) قد دخل عن طريق وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيكون ذلك برأيه مانعاً من انعقاد الإطلاق، والقدر المتيقّن في مقام التخاطب بالنسبة إلى الدخول في الغير أمرٌ متحقّق.

إشكال الوجه الثاني:

أولاً: قد تبيّن في الأبحاث السابقة أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب لا يمنع من انعقاد الإطلاق.

ثانياً: أنّ الدخول في الغير له هذا العنوان ـ تأمل واضح لاسيّما أنّ مصطلح الدخول في الغير قد جاء في كلمات الإمام(ع) في بعض الروايات ولا وجود له في كلمات السائل فتأمّلْ.


1 . كفاية الأصول ص249.

ثالثاً: في موثقة ابن بكير دلالة على نحو العموم الوضعي حيث استعمل فيها ألفاظ العموم كلفظة (كلّ) فليس البحث عن الإطلاق فضلاً عن مسألة القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

الوجه الثالث: إنّ إطلاق بعض الروايات أمر مسلّم إلاّ أنّ الغالب وقوع الشك في الفراغ مع فرض الدخول في الغير، وعلى هذا فإنّ غلبة الوجود الخارجي سببٌ لانصراف هذا الإطلاق.

إشكال الوجه الثالث: إنّ الغلبة الاستعمالية إنّما تكون منشأ للإنصراف دون غلبة الوجود.

يقول المحقق النائيني:

(مجرّد كون الغالب حصول الشكّ بعد الدخول في الغير لا يوجب انصراف المطلق إلى الغالب فإنّه لا عبرة بغلبة الوجود ما لم تقتض صرف ظهور اللفظ)(1).

فالحاصل أنّ هذه الوجوه الثلاثة لا تكون مانعةً عن انعقاد الإطلاق.

نعم ذُكر في كلمات بعض المحقّقين(2) وجهٌ آخر للمنع من الإطلاق فإنّه قد ذكر أنّ الإطلاق تامّ لا شك فيه في موردين:

أ ـ أن يكون المشكوك جزءاً من أجزاء المركب وقد فرغ المكلف من المركب.

ب ـ أن يكون المشكوك شرطاً من شروط بعض أجزاء المركّب والمكلف قد فرغ من المركب فإنّ هذين الموردين تشملهما عبارة (كلّ ما شككت فيه مّما قد مضى فامضه) سواء كان المراد بالشك الشكّ في وصفٍ من أوصاف


1 . محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول632:4.

2 . مرتضى الحائري: خلل الصلاة وأحكامها ص263-269.

الشيء أو كان الشك في أصل وجود الشك، وسواء كان المراد بالمضيّ مضيّ المشكوك نفسه أو مضيّ محل المشكوك.

وبعبارة أخرى أنّ الجزء أو الوصف في هذا المورد كان مشكوكاً وقد تجاوز هو أو محلّه. وعلى أيّ حال فلا شك في أنّ إطلاق الروايات يشمل الشك في الشرط بعد الإتيان بالمشروط، وكذا الشك في جزءٍ من أجزاء المركّب بعد الفراغ من المركّب.

نعم هناك مورد واحد يُشَكّ في شمول الإطلاق له وهو ما لو شكّ المكلّف في جزءٍ من أجزاء المركّب بعد مضيّ المحلّ وقبل الفراغ من المركّب فإنّ شمول موثقة محمد بن مسلم لهذا المورد أمرٌ غير واضح لوجود احتمالين إمّا التصرّف في صدر الرواية (شككت) بحمله على الشك في وصف من الأوصاف لا على الشك في أصل الوجود، وعليه نُبقي قوله(ع): (ما مضى) على ظاهره أي المضيّ أصل العمل.

وإمّا عكس ذلك هو الصحيح بأن نحمل المضيّ على مضيّ المحلّ ونحمل الشكّ على الشك في أصل الوجود، ولمّا لم يكنْ ترجيحٌ لأحد هذين الاحتمالين فلا يكون هذا المورد مشمولاً للرواية ولا يثبت الإطلاق.

وهو يجيب عن هذا الإشكال بأجوبة خمسة أهمّها على الإطلاق جوابان:

الجواب الأول: إنّ المراد بقوله: (ما مضى) في الموثّقة هو مضي زمان المشكوك ومحلّه وهو شايع في استعمالات العرف، فعندما يقال: (مضى الحجّ) أي مضى زمان الحجّ وإن لم يحجّ المكلف نفسه.

والشاهد على ذلك أن الخروج والتجاوز الحقيقي في مجرى روايات هذا الباب مستلزم لإتيان ذلك الجزء بمعنى أنّ المكلّف لو أتى بالجزء واقعاً قيل في حقّه

حينئذٍ أنّه قد خرج عن ذلك الشيء وتجاوز عنه مع أنّ المفروض في الروايات أنّ إتيان الجزء أمر مشكوك فيه، وعليه فلابدّ من حمل (ممّا قد مضى) على مضيّ زمان ذلك الجزء لا على مضيّ أصل العمل حتّى لا تشمل الرواية هذا المورد.

الجواب الثاني: إنّ ذيل موثقة ابن أبي يعفور (إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) يدلّ على الحصر بمعنى أنّ الاعتناء بالشك إنّما يجب فيما لم يتجاوز عنه، أمّا لو تجاوز عنه فلابدّ من عدم الاعتناء به ففي المورد المفروض وإن لم يفرغ المكلّف من مجموع المركّب إلاّ أنّه يجب عدم الاعتناء بالشيءِ لأنّه قد مضى زمانه.

إلى هنا ظهر أولاً أنّه لا إشكال في إطلاق الروايات المطلقة.

وثانياً: إنّ مفاد هذه الروايات هو أنّ أصل المضيّ والتجاوز هو الملاك ولا عبرة بالدخول في الغير. والآن لابدّ من البحث في أن بين سائر الروايات هل هناك ما يدلّ على التقييد أولا؟

بحث الجهة الثانية (وجود روايات دالة على التقييد):

من بين الروايات هناك ثلاث روايات توهم الدلالة على التقييد:

1 ـ صحيحة زرارة عن الإمام الصادق(ع): (إذا خرجت من شيءٍ ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيءٍ)(1) حيث إنّ جملة (دخلت في غيره) في هذه الرواية ظاهرة في التقييد.

يرى(2) بعضٌ أنّه لو أريد الاقتصار على ظاهر هذه الرواية وجب القول بأنّ المعتبر في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز أمران: أحدهما الخروج عن الشيء،


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام378:2حديث1459، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 237:8 باب23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث1.

2 . مرتضى الحائري: خلل الصلاة وأحكامها.

والآخر هو الدخول في غيره مع أنّ ظاهر هذين العنوانين لا ينطبق على شيءٍ من الأمثلة المذكورة في صدر هذه الرواية، لأنّ الخروج من الأذان هو الدخول في الإقامة، والخروج من الأذان والإقامة هو الدخول في تكبيرة الإحرام.

وبعبارة أخرى: إنّ الدخول في الغير يوجب الخروج من تلك الأشياء وليس هناك شيء آخر يوجب تحقّق الخروج ولهذا لابدّ من أن نفسّر الرواية على النحو التالي: (إذا رأيت نفسك خارجاً عن الشيء ولذا دخلت في غيره) بمعنى أنّ المكلف يرى نفسه خارجاً عن الشي أي أنّ الخروج اعتقادي وتخيّلي.

وعلى كلّ حال فمن الواضح أنّ الاقتصار على ظاهر هذه الرواية أمرٌ غير ممكن، لأنّ هذا الاقتصار يؤدّي إلى اللغوية إذ الخروج من الشيء ليس شيئاً آخر عدا الدخول في الشيء الآخر فلا يمكن التمسّك بظاهر الرواية.

والخروج عن الشيء في الواقع هو الدخول في الغير والدخول في الغير ليس فعلاً آخر غير الخروج من الشيء.

2 ـ الرواية الأخرى مصحّحة إسماعيل بن جابر من حيث الصدر والذيل إمّا من جهة صدرها فإنّ جميع الأمثلة المذكورة في صدر هذه الرواية مقرونة بذكر الدخول في الغير، كما لو شك في الركوع وهو في السجود ولم يذكر قبله، وأمّا من حيث ذيل الرواية فإنّ الإمام(ع) يقول فيه: (كلّ شيءٍ شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه)(1) حيث صرّح بالدخول في الغير.

اُجيب عن هذه الرواية: بالنسبة إلى الذيل لابدّ من جعل الدخول في الغير


1 . محمد بن حسن الطوسي: الاستبصار533:1حديث9\1359، وتهذيب الأحكام162:2حديث602، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة317:6باب13من أبواب الركوع حديث4، واللازم ذكره أن الشيخ الطوسي قد نقل هذه الرواية في الاستبصار عن الإمام الباقر(ع) لكنّه نقلها عن الإمام الصادق(ع) في تهذيب الأحكام، وقد نقلها صاحب الوسائل على ما وردت في الاستبصار.

عطفاً تفسيرياً على التجاوز أي أنّ ما يوجب حصول التجاوز هو الدخول في الغير.

وبعبارة أخرى أنّ التجاوز الخيالي والعادي الظاهري غير كافٍ بل لابدّ من التجاوز الواقعي والخارجي.

ومن هنا ظهر الجواب المتعلّق بصدر الرواية، لأنّ السجود موجب لتحقّق التجاوز، وليس كذلك الهويّ إلى السجود، ومن هنا لو توهّم المكلف أنّه قد أتى بالركوع فهوى إلى السجود والتفت بعد ذلك وجب عليه الرجوع والإتيان بالركوع، لأنّ محلّ الركوع لا زال باقياً ولم يحصل هنا زيادة توجب سجدتي السهو إذ ليس الهويّ بقصد السجود من أجزاء الصلاة ليصدق عليه الزيادة.

والظاهر أنّ الجواب الصحيح عن هاتين الروايتين هو أنّهما غير متعلقتين بقاعدة الفراغ بل هما من روايات وأدلة قاعدة التجاوز.

3 ـ جاء في صحيحة زرارة الواردة في الوضوء: (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت فلا شيء عليك)(1) حيث إنّ مفاد هذه الرواية اعتبار الدخول في الغير فتكون مقيّدة للروايات المطلّقة.

أجاب المحقّق الحائري عن هذه الرواية بأنّ ذيل هذه الرواية معارض مع صدرها لأنّ الصدر يدلّ بمفهومه على عدم وجوب إعادة الوضوء فيما لو قام من الوضوء وإن لم يدخل في الغير، وعليه فليس المراد بـ (حالٍ أخرى) الدخول في الغير بل المراد (كلّ حال غير الوضوء فلو كان حال التعطّل المضرّ بالموالاة) الموجب لصدق التجاوز.


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة ج1باب42من أبواب الوضوء ص469حديث1.

وللمحقق الخوئي(1) هنا كلام قريب من هذا حيث يرى دفعاً للتهافت بين صدر الرواية وذيلها لابدّ من جعل عبارة (فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه) تفسيراً وبياناً لقوله(ع): (ما دمت في حال الوضوء) وجعل عبارة (وقد صرت في حال أخرى) توضيحاً لهذا البيان من باب ذكر أوضح الأفراد وغالبها.

الإشكال على رأي المحقّق الخوئي والمحقق الحائري:

الظاهر أنّ كلام هذين العلَميَن لا يخلو من إشكال إذ لا يمكن من وجهة نظر العقلاء حمل الكلام قبل انتهائه على معنىً بل لابدّ من ملاحظة الكلام بأكمله، ومن الواضح أنّ ذيل الكلام دائماً أو غالباً يكون قرينة على صدره، وعليه فلا تدافع بين الصدر والذيل.

ومن هنا يظهر لنا بوضوح أنّ الدخول في الغير شرط في قاعدة الفراغ، نعم يمكن أن تكون هذه الشرطية في مورد الوضوء فقط اقتصاراً على مورد الرواية إلاّ أنّ هذا الاقتصار غير مستندٍ إلى الذوق الفقهي حيث لا يمكن التفريق في قاعدة الفراغ بين الوضوء وسائر الموارد.

لاسيّما أنّ هذا القيد في قاعدة الفراغ لو كان أمراً تعبّدياً والشارع قد اعتنى به كان لابدّ من التنبيه عليه في أغلب الروايات مع أنّ أكثر الروايات الواردة في قاعدة الفراغ مطلّقة.

متابعة كلام المحقق الحائري فهو يقول في الختام: مع أنّا قد أجبنا عن هذه الرواية الدالة على التقييد لكن لو سلّمنا ظهور هذه الروايات في التقييد وجب رفع اليد عن ظهورها بسبب ذيل موثقة ابن أبي يعفور لأنّ الموثّقة في مقام جعل


1 . مصباح الأصول278:3.

القاعدة الكليّة فيكون لها ظهورٌ في إلغاء الخصوصية عن الصغرى وتدلّ على أنّ ما جاء في الصغرى فهو أحد مصاديق الكبرى ثم استنتج المحقق المذكور:

أولاً: إنّ الدخول في الغير غير معتبر وإنّما العبرة بصدق التجاوز والفراغ وعليه فإنّ السكوت الطويل المضرّ بالقراءة غير المخلّ بالصلاة يوجب تحقّق التجاوز.

ثانياً: لو سلّمنا اعتبار الدخول في الغير فإنّ الغير عنوان عام يشمل كلّ حالة وجودية أو عدمية منافية شرعاً للجزء المشكوك، ومن هنا فلا فرق بين اعتبار هذا الشرط وعدم اعتباره.

مناقشة رأي المحقّق الحائري:

هناك عدّة ملاحظات نسجّلها على كلمات هذا المحقّق العَلَم:

أولاً: لو لم نعتبر عنوان الدخول في الغير قيداً تعبّدياً بل جعلناه من الأمور الموجبة لتحقق الخروج عن الشيء فلا حاجة حينئذٍ إلى بحث الروايات المطلّقة والمقيّدة وتحليلها ودراستها.

وبعبارة أخرى إنّ البحث في هذه الروايات إنّما يكون في محلّه فيما لو كان عنوان الدخول في الغير المذكور في بعض الروايات عنواناً تعبديّاً واحترازياً.

ثانياً: إنّ دلّ قوله(ع): (إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه) على قاعدة كليّة وجب الإقرار بأنّ ما جاء في مصحّحة إسماعيل بن جابر (كل شيءٍ شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه) أيضاً قاعدة كليّة.

والسؤال المطروح هنا أنّه لِمَ لم ينظروا إلى هذه العبارة على أنّها قاعدة كليّة مع شمول هذه القاعدة على الدخول في الغير؟ وهل يمكن الالتزام بوجود الاختلاف بين هاتين القاعدتين أو لابدّ من حمل موثّقة ابن أبي يعفور على هذا العنوان بقرينة رواية إسماعيل بن جابر.

والحاصل: أنّه لو سلّمنا بأنّ عنوان الدخول في الغير قيد تعبّدي احترازي وجب تقييد جميع الروايات المطلّقة به.

وقد ظهر من هذا كلّه أنّ مقتضى التحقيق هو أنّ هذا العنوان إنّما هو بمنزلة قيد توضيحي من العناوين الموجبة لتحقّق المضيّ والخروج من الشيء.

وبعبارة أخرى أنّه من علامات الخروج من الشيء ولاسيّما إذا فسرّنا الغير بالمعنى العام كان الأمر أوضح. وعلى هذا فإنّ الدخول في الغير كما هو شرطٌ عقلي في قاعدة التجاوز فكذلك هو شرط عقلي في قاعدة الفراغ، ومن البعيد عن الذوق الفقهي أن يعتبر هذا الشرط في القاعدتين لكن نراه عنواناً تعبّدياً في إحداهما وعنواناً عقلياً في الأخرى كما صرّح بذلك المحقق النائيني.

ومن هذا ظهر عدم صحّة ما تمسّك بعض المحققيّن بموثقة ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق(ع): (إذا شككت في شيءٍ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيءٍ إنّما الشكّ إذا كنت في شيءٍ لم تجزه)(1).

في استفادة أنّ قيد الدخول في الغير قيد تعبّدي وأنّ الدخول في الغير معتبر في جريان قاعدة الفراغ في باب الوضوء وغير معتبر في سائر الواجبات كالصلاة.

وقال: (لا تقييد في باب الصلاة بالدخول في الغير فيقوى القول بكفاية الفراغ في الصلاة دون الوضوء)(2) لأن عنوان الدخول في الغير بصفته أمراً واقعياً وخارجياً له مدخلية في حقيقة المضيّ والفراغ والتجاوز وللغير معنى عام يشمل السكوت الطويل أيضاً وبعبارة أخرى أنّ الغير هو كلّ أمر وجودي أو عدمي ينافي الشيء المشكوك ويخالفه شرعاً.


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام105:1حديث262، محمد بن حسن الحرّ العاملي: وسائل الشيعة469:1باب42من أبواب الوضوء حديث2.

2 . محمد حسين الأصفهاني: نهاية الدراية.

ولعلّ بهذا البيان يُستنتج أنّ أساس هذا النزاع لفظي. ولا فرق بين اعتبار الدخول في الغير وعدم اعتباره.

جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشكّ في الشروط:

ظهر ممّا سبق أنّه لاشكّ في جريان قاعدة التجاوز في الأجزاء أثناء الصلاة لكن النزاع والبحث في جريان هذه القاعدة عند الشك في الشروط أثناء الصلاة أو بعدها؟ وهل تجري قاعدة الفراغ في الشك في الشروط؟

تحليل الاحتمالات الموجودة في المسألة:

في هذا البحث احتمالات بل أقوال:

1 ـ ذهب بعضهم إلى أنّ قاعدة التجاوز لا تجري في أيّ شرط من الشروط.

2 ـ ذهب آخرون منهم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في حاشيته على العروة إلى جريان هذه القاعدة في جميع الشروط.

3 ـ ذهب الكثير من الفقهاء والأعاظم إلى التفصيل بين أنواع الشروط.

لتوضيح هذا التفصيل لابدّ من بيان أقسام الشروط فإنّ المحقّقين ذكروا أقساماً، ثلاثة أقسام عند بعضهم وأربعة عند آخرين وأوصلها بعض الأعاظم كالمحقق العراقي إلى سبعة أقسام.

قسّم المحقّق النائيني الشروط المعتبرة في الصلاة إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ ما هو شرط للأجزاء في حال الصلاة كالطهارة والستر والاستقبال بمعنى وجوب اقتران كلٍّ من أجزاء الصلاة بهذه الشروط.

2 ـ ما هو شرط عقلي للأجزاء أي ما يتوقّف عليه الأجزاء عقلاً بحيث لا يتحقّق الجزء من دون تلك الشروط كالموالاة بين حروف الكلمة الواحدة.

3 ـ ما هو شرط شرعي للأجزاء كالجهر والإخفات وهما شرطان للقراءة في الصلاة.

أمّا القسم الأول أي ما هو شرط للأجزاء حال الصلاة فهو على قسمين:

أ ـ ما له محلّ مقرّر شرعاً وهو لا يستبعد أن تكون الطهارة من الحدث من هذا القسم ويستفاد من الآية الشريفة: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(1) أن محلّ الطهارة قبل الصلاة.

ب ـ ما ليس له محلّ شرعاً كالاستقبال والستر.

وينقسم كلّ من هذين القسمين على نوعين:

ا ـ ما يُشكّ فيه أثناء المشروط.

2 ـ ما يُشك فيه بعد الفراغ من المشروط.

دراسة حكم القسم الأول:

1 ـ الشرط الشرعي المتعلّق بمجموع العمل ذو المحلّ المعيّن في أثناء المشروط وهو قابل لأنْ يرادَ مستقلاً نظير الأعمال المستحبّة المستقلّة كالطهارة من الحدث التي هي شرط لصحة الصلاة وكصلاة الظهر التي هي شرط لصحة صلاة العصر حسبما يستفاد من أدلّة وجوب الترتيب.

فالمثالان لهذا القسم:

1 ـ أن يشكّ أثناء الصلاة في الإتيان بالطهارة الحدثية التي هي شروط صحّة الصلاة.

2 ـ أنْ يشكّ في صلاة العصر أنّه هل صلّى الظهر أولا؟

والسؤال هنا: هل تجري قاعدة التجاوز في هذين الموردين؟ وعلى فرض


1 . سورة المائدة: آية5.

جريانها فهل يترتب عليها جميع آثار وجود الشرط أو فقط تلك الآثار التي كان المكلّف مشتغلاً بها أمّا سائر الأعمال فلا يترتّب آثارها؟ فلو التزمنا بعدم جريان قاعدة التجاوز وجب على من شكّ في الطهارة الحدثية أثناء الاشتغال بالصلاة أن يقطع صلاته ويتوضأ ثم يصلّي.

أمّا لو التزمنا بجريان قاعدة التجاوز والتزمنا بترتّب جميع الآثار حكمنا بصّحة تلك الصلاة كما لا حاجة إلى التوضؤ في الصلوات القادمة، لكن لو التزمنا بجريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى الفعل الذي يشتغل به المكلّف حكمنا بصحّة تلك الصلاة فقط ولابدّ من التوضؤ للصلوات الآتية.

الأقوال في القسم الأول:

الأنسب هنا قبل تحقيق المسألة أن نشير إلى الاحتمالات بل الأقوال وهي:

1 ـ عدم جريان قاعدة التجاوز في الشكّ في أثناء المشروط سواء كان الشرط عقلياً أم شرعياً.

أمّا بعد الفراغ من العمل فتجري قاعدة التجاوز في الشروط الشرعية. كما تجري في المشروط نفسه إن كان الشرط عقلياً(1).

2 ـ للشروط أقسام أربعة لابدّ من التفصيل بينها في جريان قاعدة التجاوز وعدمه.

أ ـ الشروط التي لها عنوان زائد على شرطيتها مضافاً إلى الشرطية كأجزاء الصلاة فهي مأمور بها بأنفسها وشروط أيضاً لغيرها.

ولا إشكال في جريان قاعدة التجاوز في هذا القسم وهي تصحّح ذلك الجزء تعبّداً ليكون شرطاً للأجزاء اللاحقة.


1 . السيد محمود الشاهرودي: نتائج الأفكار369:6.

ب ـ الشروط المتمحضّة في الشرطية ولها وجود واحد مستمر وهي شروط على نحو الوجود المجموعي لكلّ جزءٍ من أجزاء المركّب كالاستقبال ولا تجري قاعدة التجاوز في هذا القسم من الشروط.

ج ـ الشروط التي لها جهة الشرطية فقط وهي شروط لكل جزءٍ في ظرف ذلك الجزء كالستر ولا مانع من جريان قاعدة التجاوز في هذا القسم.

د ـ الشروط التي لها جهة الشرطية لكن لابدّ من إحرازها قبل العمل كالوضوء والحقّ هنا عدم جريان القاعدة إذ لا طائل من جريانها، وهذا التفصيل ما ذهب إليه المحقّق الروحاني(1).

دراسة رأي المحقّق النائيني(2):

فإنّه قد ذكر في هذا المجال ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنّه يجب ترتيب جميع آثار وجود الشرط على مبنی كون قاعدة التجاوز من الأصول المحرزة ففي المثال السابق لابدّ من الحكم بصحّة صلاة الظهر وعدم الحاجة إلى الوضوء الجديد في الصلوات اللاحقة لكنّ الالتزام بهذه النتيجة في غاية الإشكال.

الأمر الثاني: لو التزمنا بعدم جريان قاعدة التجاوز في هذا المورد إطلاقاً وحصرنا مجرى هذه القاعدة بالشكّ في الأجزاء أو الشروط التي لا تتعلّق بها الإرادة الاستقلالية زاد الإشكال هنا أكثر من إشكال الأمر الأوّل إذ أنّ الشكّ في الطهارة من الحدث ليس بأقلّ من الشكّ في الأذان والإقامة وهما من المستحبّات الخارجة من الصلاة.


1 . منتقى الأصول155:7.

2 . فوائد الأصول642:4.

وبعبارة أخرى لابدّ من الالتزام بأنّ ملاك جريان قاعدة التجاوز أن يمكن تعلّق الإرادة التبعيّة بالمشكوك لا أن يقال بوجوب تعلّق الإرادة التبعية بالمورد.

الأمر الثالث: الراجح في النظر هو أن نختار الحدّ الوسط بين الأمر الأول والأمر الثاني بأن نلتزم بجريان قاعدة التجاوز في خصوص العمل الذي يشتغل به المكلف دون الأعمال اللاحقة، وعليه فلابدّ في المثال الأوّل من إكمال الصلاة والحكم عليها بالصحّة، أمّا الصلوات اللاحقة فيجب عليه أن يتوضّأ لها.

وفي المثال الثاني لو كان الوقت باقياً وجب إكمال الصلاة بنيّة صلاة الظهر ثم يصلّي العصر وأمّا مع ضيق الوقت فلابد من إكمال تلك الصلاة بنيّة صلاة العصر ويبني على أنّه قد أتى بصلاة الظهر اعتماداً على قاعدة التجاوز.

ثم قال في الختام بأنّ المسألة تحتاج إلى تأمّلٍ أكثر.

مناقشة نظرية المحقق النائيني:

هناك عدة إشكالات يمكن إيرادها على كلام المحقّق النائيني:

الإشكال الأول:

أنّ مقتضى الصناعة في البحث أن نبحث هذا الفرض على جميع المباني بمعنى أنّه لابدّ من البحث في النتيجة تارةً على القول باتّحاد قاعدتي الفراغ والتجاوز، وتارةً على القول بتغايرهما وتعدّدهما.

فلو جعلناهما قاعدة واحدة والعنوان المشترك والوجه الجامع بينهما هو التجاوز أي عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن الشيء أو عن محلّ الشيء فإنّ هذا العنوان ينطبق على ما نحن فيه بكلّ وضوح لحصول التجاوز عن محل الشيء وهو وقوع الطهارة قبل الدخول في الصلاة.

وإن جعلنا العنوان المشترك هو الفراغ أي عدم الاعتناء بالشك في الشيء بعد

الفراغ منه لم يجز لنا إجراء هذه القاعدة فيما نحن فيه إذ الفراغ من الشيء إنّما هو فيما لو كان حدوث الشيء أمراً متيقّناً، فلو شككنا بعد الفراغ منه في صحته أو وجود جزءٍ من الأجزاء حكمنا بصحّة العمل.

وبعبارة أخرى أنّ ما نحن فيه هو الشك في أثناء المشروط مع أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري بعد الانتهاء من العمل.

والحاصل أنّه إن جعلنا العنوان المشترك عدم الاعتناء بعد التجاوز عن الشيء أو محل الشيء جرت القاعدة فيما نحن فيه وإن جعلناه عدم الاعتناء بالشك بعد الفراغ من الشيء لم تجر هذه القاعدة.

وهنا لو اعتبرنا القاعدتين مستقلتين ومتغايرتين وجب الرجوع إلى أدلّة كلّ من القاعدتين على نحو الاستقلال.

وكما ذكرنا سابقاً بأنّ قاعدة الفراغ ترتبط بالشك بعد انتهاء العمل فهي لا تجري في هذا البحث.

أمّا قاعدة التجاوز فلمّا كانت أمراً تعبّدياً وجب الاقتصار على مورد التعبّد هو جريان القاعدة في الشك في الأجزاء، ويستفاد من الأدلّة الخاصّة عدم جريان هذه القاعدة في الشكّ في الشرط.

وما تفضّل به المحقّق النائيني من أنّ الشك في الطهارة من الحدث ليس بأقلّ من الشكّ في الأذان والإقامة فبعيد جدّاً إذ يمكن القول بأنّ المستفاد من روايات قاعدة التجاوز أنّ في المركب إذا انتقل المكلّف إلى الجزء الآخر وشكّ في الجزء السابق كان محكوماً بالصحّة، والأذان والإقامة بمنزلة أجزاء الصلاة المرتبطة بها إلاّ أنّ الطهارة من الحدث فعلٌ خارج من المركّب (الصلاة) ولها عنوان الشرطية.

الإشكال الثاني:

أنّه لم يقدّم أيّ دليل على الأمور الثلاثة التي ذكرها بل اكتفى بكون كلٍّ واحدٍ منها أمراً مشكلاً والمفروض أن نعرف ما هو مقتضى أدلّة هاتين القاعدتين؟ فهو لم يقدّم الدليل حتّى على الأمر الثالث الذي كان راجحاً برأيه. نعم يمكن القول بانّ الأمر الأول والثاني في كلماته لم يكونا متوافقين مع الذوق الفقهي أو أنّ أحداً من الفقهاء لم يلتزم بهما.

بحث نظرية المحقق العراقي:

ذهب المحقّق العراقي(1) إلى عدم جريان قاعدة التجاوز في الشك في الشرط الشرعي أثناء المشروط كما في المثالين السابقين. ويبدو أنّ المحقّق العراقي دخل في هذا البحث بشكل أدقّ من المحقق النائيني لأنّه تابع المسألة بالنسبة إلى كلٍ من قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ على نحو الاستقلال. ونحن هنا نلخّص كلامه في مطلبين:

المطلب الأول: أنّ قاعدة التجاوز إنّما تجري فيما يصدق عنوان التجاوز عن المحل ولا يصدق التجاوز عن المحلّ بحسب الذات في صلاة العصر بالنسبة إلى صلاة الظهر. بل يصدق التجاوز هنا من جهة أنّّ لتقدّم الظهر شرطية لصلاة العصر وهذا غير كاف.

وبعبارة أخرى إنّ صلاة الظهر بحسب نفسها لا محلّ لها مقرّراً شرعاً، ومن هنا فلو أنّ المكلّف قد صلّى العصر ثمّ تذكّر أنّه لم يأت بصلاة الظهر وجب عليه أن يصلّي صلاة واحدة بنيّة صلاة الظهر لأنّ الترتيب بين صلاتي الظهر والعصر


1 . نهاية الأفكار ج4 قسم2 ص 66-70.

ترتيب ذكري لا واقعي.

فإنّه قد استنتج من هذا المطلب بأنّ مَن يعتقد في هذا المثال بوجوب البناء من جهة على وجود الظهر وإنّ هذه الصلاة إنّما يؤتى بها بنيّة العصر، ومن جهة أخرى لو كان الوقت باقياً بعد الإتيان بالصلاة وجب الإتيان بصلاة الظهر بمقتضى استصحاب عدم إتيانها.

فلا تنافي بين هاتين الجهتين ـ أي قاعدة التجاوز واستصحاب عدم إتيان الظهر ـ وما اشتهر من حكومة قاعدة التجاوز على استصحاب العدم فلا ينطبق على هذا المثال بالنسبة إلى صلاة الظهر فلا حكومة هنا، نعم لقاعدة التجاوز حكومة بالنسبة إلى شرطية تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر فإنّ العلم الإجمالي بكذب أحدهما موجود، إمّا أولاً فلا يستلزم محذور المخالفة العملية، وثانياً لا مانع بالتفكيك بين المتلازمين في الأحكام الظاهرية، ولهذا التفكيك موارد كثيرة في الفقه.

المطلب الثاني: تابع فيه البحث من خلال مثالين على نحو الاستقلال:

المثال الأول: بعد أن استفدنا وجوب الترتيب من أدلّة صلاتي الظهر والعصر نستفيد من أدلّة مشروعية العدول فيما لو اشتغل بصلاة العصر وتذكّر أنّه نسي الظهر وجب العدول إلى صلاة الظهر، يستفاد من ذلك شرطية تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر بالنسبة إلى جميع أجزائها بمعنى أنّ كلّ جزء من أجزاء صلاة العصر مشروط مستقلاً، ويستفاد من هذه الشرطية اشتراطات متعدّدة بحسب تعدّد الأجزاء.

وبعبارة أخرى أنّه لا وجود لمشروط واحد اسمه صلاة العصر وهي لا تلاحظ على أنها عمل واحد.

إذا اتّضح ذلك استنتجنا أنّ في أثناء صلاة العصر لا إشكال في إجراء قاعدة التجاوز في الأجزاء السابقة لصدق التجاوز عن المحلّ بالنسبة إليها لكن لا يمكن إجراء قاعدة التجاوز في الأجزاء اللاحقة إذ لم يصدق في حقّها عنوان التجاوز عن المحلّ.

والنتيجة الأخيرة أنّ بعد عدم جريان قاعدة التجاوز يجب على المكلّف العدول إلى صلاة الظهر وإكمال الصلاة بنيّة الظهر ثم الإتيان بصلاة أخرى بنيّة صلاة العصر.

ثمّ يجيب عن هذا الإشكال بأنّه لو قيل: إنّ مجرى أدلّة العدول ما كان المكلّف منشغلاً بصلاة العصر وتيقّن بعدم إتيان الظهر، أمّا ما لو شك فيه فهو خارج عن دائرة أدلة العدول.

قلنا: بأنّ العدول من لوازم عدم الإتيان الواقعي لصلاة الظهر أمّا العلم واليقين فهو مجرّد طريق ولمّا أحرزنا عدم إتيان الظهر بواسطة استصحاب العدم وجب العدول.

والنقطة الأساسية في كلامه في هذا البحث هي أنّ قاعدة التجاوز غير قابلة للجريان في هذا المثال من الأساس لعدم صدق عنوان التجاوز عن المحلّ على الأجزاء المتبقيّة من الصلاة.

المثال الثاني:

أي: شرطية الطهارة للصلاة والشك أثناء الصلاة في أنّه على طهارة أولا؟ لو اعتبرنا الوضوء الخارجي شرطاً وجعلنا الصلاة على أنّها فعل واحد مشروطاً بحيث لا تجعل كلّ جزء من أجزائها مستقلاً مشروطاً صدق التجاوز عن المحلّ بهذين القيدين وجرتْ قاعدة التجاوز، وعليه فلابدّ من عدم الاعتناء بهذا الشك

في أثناء الصلاة.

ب ـ لو اعتبرنا الوضوء الخارجي شرطاً ولم نجعل مجموع الصلاة مشروطاً بل كلّ جزء من أجزاء الصلاة تعنون بعنوان المشروط لم تجر هنا قاعدة التجاوز ولابدّ من قطع الصلاة عند الشك في أثناء الصلاة فيجب التوضؤ من جديد والإتيان بصلاة جديدة.

ج ـ لو اعتبرنا الشرط ما هو مسبّب عن الوضوء أي الطهارة القلبية كان هذا الشرط من الشروط المقارنة للصلاة كالستر والاستقبال لكنّه يعتقد بأن المستفاد من الآية الشريفة: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(1) هو أنّ الشرط إنّما هو الوضوء الخارجي.

وأمّا المستفاد من رواية (لا صلاة إلاّ بطهور)(2) أنّ الشرط هو الطهارة والوضوء الخارجي يوجب تحقّق هذه الطهارة القلبية وعليه فلا محل معيّن شرعاً لشرط الطهارة فلا تجري قاعدة التجاوز.

الإشكالات على نظرية المحقق العراقي:

الظاهر أنّ كلام المحقق العراقي أيضاً لا يخلو من إشكالات:

الأول: أنّه صوّر المشروط في المثالين على نحو المتعدّد وجعل كلّ جزءٍ من أجزاء صلاة العصر مشروطاً مستقلاً لشرطية صلاة الظهر، كما صوّر كلّ جزء من أجزاء الصلاة مشروطاً مستقلاً للطهارة.

وهذا بعيد جدّاً بل خلاف ظاهر الأدلّة لأنّ الشارع جعل الصلاة عملاً واحداً واعتبرهما شيئاً واحداً والشاهد على ذلك هو أنّ المكلّف لو فقد الطهارة في أحد


1 . سورة المائدة: آية5.

2 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 315:1 باب9 من أبواب نواقض الوضوء حديث1.

السكونات المتخلّلة أثناء الصلاة لا يمكن الحكم عليه بأن يتوضّأ في تلك الحالة ويكمّل صلاته ويُحكم بصحّة صلاته بل يكون مجموع الصلاة باطلاً ويجب استئناف الصلاة بعد أن يتوضّأ.

والحاصل أنّه لم يُقمْ أيّ دليلٍ على مدّعاه في أنّ كلّ جزءٍ من أجزاء الصلاة على نحو الاستقلال يكون المشروط.

ذهب صاحب منتقى الأصول إلى عدم جريان قاعدة التجاوز في هذين المثالين ووافق المحقّق العراقي في رأيه لكنّه جاء بذلك في عبارة أخرى:

(وذلك لأنّ ذات الشرط لا يكون مأموراً به بنفسه وإلاّ لكان دخيلاً في المركّب فيكون جزءاً وهو خلاف الفرض، وإنّما أخذ التقييد به دخيلاً وجزءاً في الصلاة فالشرطية تنتزع عن أخذ التقييد بالعمل ومعنى التقييد في هذا النحو من الشروط هو كون العمل المركّب مسبوقاً بالعمل وهو الوضوء فحيث إنّ العمل المركّب عبارة عن أجزائه فكلّ جزءٍ أخذ فيه مسبوقية بالوضوء فإحراز المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الأجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة لأنّها لم تتجاوز عن محلّها فلا يتحقّق موضوع القاعدة بالنسبة إليها)(1).

وأصل هذا الكلام مأخوذ من كلمات المحقّق العراقي ولابدّ من ذكر هذه الملاحظة وهي أنّه إذا كان المركّب هو هذه الأجزاء فإنّ الشارع ألم يعتبر هذا المركب وهذه الأجزاء عنواناً وعملاً واحداً؟ نعم لو لم يكن هذا الاعتبار كان الحقّ إلى جانبه وإلى جانب المحقق العراقي.

الملاحظة الثانية: إنّ التحقيق هو أنّ الوضوء الخارجي لا شرطية له والشرط هو حصول الطهارة القلبية النفسانية ومع هذا فإنّه لا يلازم أن نعتبر الطهارة شرطاً


1 . منتقى الأصول 7: 155.

مقارناً كالستر والاستقبال بل يمكن أن يستفاد من (لا صلاة إلاّ بطهور)(1) أيضاً أنّ الطهور يجب أن لا يحصل قبل الصلاة وعلى هذا يمكن الالتزام بأنّ التجاوز عن المحلّ صادق في هذين المثالين، ومن هنا فلا إشكال في جريان قاعدة التجاوز.

نعم لمّا كانت قاعدة التجاوز قاعدة تعبّدية وظاهر الأدلّة اختصاصها بالشك في الأجزاء الشرعية لم تجر هذه القاعدة في الشرط الشرعي.

يقول السيد في العروة الوثقى: (إذا شك في أثناء العصر في أنّه أتى بالظهر أم لا، بنى على عدم الإتيان وعدل إليها إن كان في الوقت المشترك ولا تجري قاعدة التجاوز، نعم لو كان في الوقت المختصّ يمكن البناء على الإتيان باعتبار كونه من الشك بعد الوقت)(2).

وافق السيد صاحب العروة كثير من المحشّين على العروة في هذه المسألة ولم يكن لهم تعليق ومنهم الوالد المحقق (قده) لكنّه قال في الوقت المختص بأنّ الاحتياط في قضاء صلاة الظهر وهو كذلك إذ في كون هذا المورد من موارد الشك بعد الوقت تأمّل وإشكالٌ فلابدّ من الاحتياط، هذا وقد خالفه السيد الحكيم وقال في هذا المجال:

(لا يبعد البناء على الإتيان ولا حاجة إلى العدول ولا إلى فعل الظهر بعد الفراغ من العصر وإن كان الاحتياط فيما ذكره المصنّف).

ذكر المرحوم السيد هذه المسألة بعينها في مباحث الخلل في الصلاة في كتاب العروة.

البحث عن حکم القسم الثاني:

2 ـ الصورة الثانية: هي أنّ الشرط شرعي وقد تعلّق بالأجزاء نفسها أو


1 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة315:1 باب9 من أبواب نواقض الوضوء حديث1.

2 . السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي: العروة الوثقى293:2مسألة20من أحكام الأوقات.

بمجموع حالات الصلاة الأعمّ من الأجزاء وغيرها وإن كان ذلك حال السكونات أثناء الصلاة ولم يكن ذا محلّ معين شرعاً كالستر والاستقبال.

يقول المحقق العراقي في هذا الفرض: بأنّ لا شك في عدم جريان قاعدة التجاوز لأنّ ملاك جريان القاعدة هو وجود المحلّ المعين شرعاً ثم يقول:

لا فرق في عدم الجريان بين الشك في الأثناء والشك بعد الفراغ من العمل إلاّ أنّ قاعدة الفراغ لو خصّصناها بما بعد الفراغ من العمل كان من الواضح جريانها في المشروط نفسه أي الصلاة لرجوع ذلك إلى الشك في الصحّة والفساد.

وهكذا تجري قاعدة الفراغ في أثناء العمل بالنسبة إلى المشروط فيما لو كانت الأجزاء السابقة بحيث لها عنوان مستقلّ عند العرف وتعتبر عملاً من الأعمال كالركعة الواحدة حيث لها عنوان مستقلّ بخلاف الآية الواحدة إذ لا استقلالية لها عند العرف، نعم يختصّ جريان قاعدة الفراغ في الأثناء بما إذا أحرز وجود الشرط في ذلك الجزء هو فيه وإلاّ فلو شكّ في ذلك أيضاً لم يترتّب أيّ أثر عملي على جريان قاعدة الفراغ في الأجزاء السابقة وذلك كما في جزءٍ من الأجزاء السابقة في أنّه هل كان مقترناً بالستر أو الاستقبال أولا.

والتحقيق أنّه لا فرق بين مسألة الجهر والإخفات وشرطية الستر والاستقبال ولابدّ من الحکم الواحد في کلاهما، فكما أنّ الجهر والإخفات من شروط الجزء (القراءة) ـ وسنشير إلى ذلك ـ فكذلك الستر والاستقبال فإنّهما وإن كانا من شروط مجموع المركّب بحسب الظاهر إلاّ أنّهما في الواقع شرطان لكلّ جزءٍ من أجزاء الصلاة حتّى للسكونات المتخللّة لأفعال الصلاة، فكما تجري قاعدة التجاوز في شرط الجزء المعيّن تجري في هذه الموارد أيضاً، وعليه فلو شكّ المكلّف أثناء الصلاة في أنّه هل راعى شرط الاستقبال في الأفعال السابقة أولا؟

جاز له التمسّك بقاعدة التجاوز والحكم على صلاته بالصحّة وعدم الاعتناء بشكّه.

يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في ذيل المسألة العاشرة من أحكام الشكوك في كتاب العروة الوثقى:

(لا يبعد كون الشكّ في الشروط قبل الشك في الأجزاء، تجري في قاعدة التجاوز فلو شكّ في الطهارة وهو في تكبيرة الإحرام لم يعتن، وهكذا في الساتر والقبلة لو شكّ فيما مضى من الصلاة وأنّه كان مستتراً أم لا، وهكذا لأنّ محلّ الطهارة والساتر ونحوهما قبل الصلاة وقد تجاوزه فلا يُعتنى بالشكّ فيها).

أمّا المرحوم السيد فيرى أنّه لو شكّ في الشرائط أثناء العمل فلابدّ من الإحراز، وبدونه لا يمكنه استمرار العمل.

بحث نظرية صاحب منتقى الأصول:

يظهر من كلمات بعض المحققّين التفريق بين الستر والاستقبال إذ المستفاد من الأدلّة أنّ الاستقبال متمحّض في الشرطية وهو شرط لكلّ جزء من أجزاء الصلاة بالوجود الواحد المستمرّ أو بالوجود المجموعي بخلاف الستر فإنّه شرط لكلّ جزءٍ في ظرفه.

ثم يقول: بأنّ قاعدة التجاوز غير جارية في المقام بدليلين:

الدليل الأول: عدم ترتّب الأثر شرعاً على جريان قاعدة التجاوز لترتّب الأثر في هذا المورد على الوجود المستمّر ولا يترتّب شرعاً أيّ أثر بجريان القاعدة في الأجزاء السابقة إلاّ بالملازمة.


1 . منتقى الأصول154:7.

والدليل الثاني: أنّ الواجب في جريان هذه القاعدة صدق عنوان التجاوز عن المحل المشكوك فلو جعلنا الشرط وجود المجموع أو الوجود الواحد المستمرّ لم يتحقق هذا العنوان.

أمّا بالنسبة إلى الستر فلا مانع من أجزاء قاعدة التجاوز في الأجزاء اللاحقة، لأنّ المفروض كون الستر شرطاً لكلّ جزءٍ في ظرفه الخاصّ به وقد حصل التجاوز بالنسبة لذلك الجزء.

الإشكالات على نظرية صاحب منتقى الأصول:

والظاهر أنّ كلام صاحب منتقى الأصول لا يخلو من إشكالات وملاحظات:

الملاحظة الأولى: إنّ الستر والاستقبال هما من الشروط المقارنة ولا يمكن أن يستفاد من الأدلّة الاختلاف في كيفية شرطيتهما، وبعبارة أخرى إنّ شرطية كليهما بالوجود الواحد المستمر أو بالوجود المجموعي ولم يُقم هو دليلاً على اختلاف أدلّتهما.

الملاحظة الثانية: يكفي في جريان الأثر تحقق الوجود الواحد في الأجزاء السابقة وقد وقع هنا خلط بين كون الشيء تامّ الأثر وكونه مؤثراً في الجملة إذ لا يترتّب الأثر التام على جريان قاعدة التجاوز في الأجزاء السابقة لكن يكفي في جريان هذه القاعدة شرعاً أنّها تربط الأجزاء السابقة بالأجزاء اللاحقة وتوجب وجود الشرط في مجموع الأجزاء السابقة واللاحقة.

الملاحظة الثالثة: لو جعلنا الشرط هو الوجود المستمرّ أو المجموع فإنّ التجاوز عن المحلّ يصدق على الأجزاء السابقة بالنظر إلى نفس الأجزاء ويكفي بذلك إجراء قاعدة التجاوز في المشروط.

بحث حكم القسم الثالث:

3 ـ القسم الثالث: أن يكون الشك في الشرط الشرعي المختصّ بالجزء كالجهر والإخفات من شروط القراءة التي هي جزءٌ من الصلاة، وذلك كما لو شكّ المكلّف في صلاة الصبح بعد الفراغ من الحمد وأثناء قراءة السورة في أنّه هل جهر بالحمد أو أخفت بها؟

يرى المحقّق النائيني(1) في هذا المقام بأنّه لم يجد مثالاً آخر عدا هذا المثال ولا فائدة في البحث في هذا المثال لقيام النصّ المعتبر على أنّ من تيقّن بعدم مراعاة الجهر والاخفات لم يجب عليه الإعادة والتكرار وبطريق أولى لابدّ من الحكم كذلك في حالة الشك. لكن لابدّ من ذكر البحث العلمي للمسألة إذ يمكن العثور على مثال آخر بالتتبّع والاستقراء.

ويظهر أنّ هناك مثالاً آخر عدا مثال الجهر والاخفات وهو شرطية الطمأنينة في الأذكار الواجبة وهو يعتقد بجريان قاعدة التجاوز في الشرط من هذا القبيل ويقول: (إن كان الشك بعد الدخول في الركن فلا إشكال في الصحة لأنّ العلم بفواته نسياناً بعد الدخول في الركن لا أثر له فضلاً عن الشكّ في الفوات وإن كان الشكّ قبل الدخول في الركن وبعد الدخول في الغير المترتّب على الجزء المشروط بالمشكوك فيه فالأقوى جريان قاعدة التجاوز فيه)(2).

ثم يترقّى ذلك ويقول:

(بل يصحّ جريان القاعدة في كلّ من الشرط والمشروط، لأنّ الشك في وجود الشرط الشرعي يستتبع الشك في وجود المشروط بوصف كونه صحيحاً


1 . فوائد الأصول654:4.

2 . محمد علي الكاظمي الخراساني: فوائد الأصول645:4.

والمفروض أنّ المكلف قد دخل في الغير المترتّب على المشكوك فيه فهو قد تجاوز محل الشرط والمشروط)(1).

مراده أنّ قاعدة التجاوز كما تجري في الشرط فكذلك تجري في المشروط إذ الشك في الشرط يوجب الشك في صحة المشروط.

ببيانٍ آخر إنّ الشك في شرط كالجهر يوجب الشك في صحّة القراءة ولمّا قد تجاوز محلّ كليهما جرت قاعدة التجاوز في الشرط والمشروط معاً.

هذا وقد ذهب المحقّق العراقي(2) خلافاً للمحقق النائيني إلى عدم جريان القاعدة في الشرط واستدلّ بأنّ عنوان الشيء لا يصدق على الشروط من هذا القبيل أي لا يصدق قوله(ع): (خرجت من شيءٍ ودخلت في غيره) على هذا المورد، ثم يقول: بأنّ قاعدة التجاوز لا تجري في المشروط أي القاعدة من جهة الشك في الوجود، إذ لا شك في وجود القراءة بينما تجري قاعدة الفراغ في المشروط من ناحية الشك في الصحّة.

ويستفاد من كلام المحقق العراقي أنّه يرى جريان قاعدة الفراغ مطلقاً بعد العمل وأثناء العمل.

والتحقيق: أنّ كلام المحقق النائيني في هذا المقام أوفق مع التحقيق وأنّ كلام المحقّق العراقي قابل للنقد والمناقشة إذ ليس من الواضح عدم صدق عنوان الشيء على هذا الشرط، والخروج من هذا الشرط إنمّا هو باعتبار الخروج من المشروط، وهذا مطابق مع فهم العرف فإنّ العرف يرى في الشرط المتعلّق بالجزء بأنّ الخروج من الجزء والدخول في الجزء الآخر مساوق مع الخروج من


1 . المصدر نفسه.

2 . محمد تقي البروجردي: نهاية الأفكار ج4قسم2ص65.

شرط ذلك الجزء، وهذا المقدار كافٍ في جريان قاعدة التجاوز.

نعم قد ذكرنا سابقاً بأنّ أدلّة هذه القاعدة لا تشمل الشروط أمّا شرط الجزء فله حكم ذلك الجزء ويختلف عن الشرط الخارج عن المركّب، فتدبّر.

يقول السيد في هذا المجال: (لو كان المنسيّ الجهر أو الإخفات لم يجب التدارك بإعادة القراءة أو الذكر على الأقوى، وإن كان أحوط إذا لم يدخل في الركوع)(1).

فهو يقول: لا يحب التدارك فيما لو نسي الجهر أو الإخفات، لكنّ الاحتياط المستحب هو الإعادة ما لم يدخل في الركوع.

وكما ذكرنا سابقاً أنّ صحيحة زرارة أيضاً قد وردت في هذا المقام من غير التمسّك بقاعدة التجاوز فالإمام(ع) يقول فيها: (أي ذلك فعل متعمّداً نقض صلاته وإن فعل ناسياً أو جاهلاً أو لا يدري فليس عليه شيء وقد تمّتْ صلاته)(2) حيث إنّ المستفاد منها عدم وجوب الإعادة والتدارك فيما لو عرض النسيان في ظرف اعتبار الشرط وحين لزوم الإتيان به ومراعاته.

وما نستنتجه هو كالتالي:

أ ـ إذا تذكّر في القنوت أنّه كان عليه الجهر بالقراءة ولكنّه أخفت بها لم يجب عليه إعادة القراءة.

ب ـ إذا دخل في قراءة السورة وتذكّر أنّه لم يجهر بفاتحة الكتاب لم تجب الإعادة.

ج ـ إذا شكّ في الآية التي هو فيها أو تذكّر بأنّه لم يأت بالآية السابقة على


1 . العروة الوثقى226:3مسألة19.

2 . محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة86:6باب26من أبواب القراءة في الصلاة حديث1.

النحو المطلوب من جهة الجهر والإخفات لم تجب عليه الإعادة.

د ـ إذا حصل ذلك في الكلمة التي هو فيها بالنسبة إلى الكلمة السابقة لم تجب عليه الإعادة أيضاً.

يقول الإمام الخميني(ره) في حاشيته على هذه المسألة في العروة: (خصوصاً لو تذكّر في أثناء القراءة فإنّه لا ينبغي ترك الاحتياط فيه) أي أنّ هذه الحالة لو جرت أثناء القراءة كان الاحتياط وجوباً في الإعادة والتدارك.

يمكن أن يُعلّل هذا الاحتياط الوجوبي بأنّ شرطية القراءة إنّما اعتُبرت في مجموع القراءة ومع فرض المسألة أثناء القراءة لم يُعلم صدق الخروج عن الشيء.

والدقيق في المقام هو أنّه مع جريان قاعدة التجاوز في هذا المورد لم يبق وجهٌ للاحتياط المستحبّ ولا للاحتياط الواجب إذ بيّنا سابقاً بأنّ هذه القاعدة معتبرة على نحو العزيمة، ومع هذا العنوان فلا وجه إلی الاحتياط إلاّ الإتيان بعنوان الرجاء أو بقصد القربة مطلقاً.

ولو جعلنا مستند عدم الإعادة صحيحة زرارة لزم كذلك الالتزام بما ذُكر إذ يُحكم بصحة الصلاة في هذه الموارد بمقتضى صحيحة زرارة ولا وجه للإعادة من باب الامتثال، نعم لا بأس بالإتيان من باب الرجاء أو مطلق قصد القربة. كما أنّه لو شككنا في جريان القاعدة في هذه الموارد من الأساس لم يكن وجه للاحتياط أيضاً ولابدّ من الحكم والإفتاء بوجوب الإعادة.

بحث حكم القسم الرابع:

4 ـ الصورة الرابعة أن يكون الشكّ في الشرط العقلي المتعلّق بالمأمور به نفسه كالنيّة التي لها مدخليّة في تحقّق الصلاتية وفي عنوان العصرية والظهرية عقلاً.

ذهب المحقق العراقي إلى عدم جريان قاعدة التجاوز في هذا المورد لاختصاص هذه القاعدة بما إذا كان المشكوك فعلاً شرعياً له محلّ شرعي ولا يمكن إحراز عنوان المشروط كالصلاتية والظهرية من خلال قاعدة التجاوز.

إذ من وجهة نظر العقل لو وُجّه قصد الصلاتية تحقّق لذلك الفعل عنوان الصلاة، أمّا بمجرّد التعبّد بالصلاتية فلا يمكن إحراز وجود الصلاة.

وبعبارة أخرى إنّ التعبّد بوجود القصد والنيّة لا يقتضي إثباته وعليه فلو شك في أنّ هذا العمل هل يتّصف بعنوان الصلاة أولا؟ يكون في الواقع قد شكّ من الأساس في أنّه كان معنوناً بهذا العنوان أم لا؟

ويتابع العراقي كلامه بأنّ قاعدة الفراغ أيضاً غير جارية في المقام لاختصاص هذه القاعدة بما إذا أُحرز عنوان العمل وكان الشك في صحّته وفساده.

وعليه استنتج العراقي:

أ ـ لو شكّ في أنّ ما هو منشغل به صلاةٌ أم عمل آخر بطل هذا العمل بعنوان الصلاتية ويجب الإتيان بالصلاة من جديد بمقتضى قاعدة الاشتغال.

ب ـ لو شكّ بأنّ ما هو مشغول به هل صلاة ظهر أو عصر فلو كان عالماً بأنّه قد أتى بالظهر أولاً بطلت هذه الصلاة لأنّه يشك في هذه الصلاة هل أنّه جاء بها من البداية بنيّة صلاة العصر أم لا؟ نعم لو علم بأنّه لم يأت بالظهر أو شك في إتيانها وجب العدول إلى الظهر وصحّت صلاته.

ج ـ إذا كانت النيّة بمعنى قصد القربة، فلو شك في أثناء الصلاة هل دخل فيها بقصد القربة أولا؟ لم تجر قاعدة التجاوز وإن كان قصد القربة شرطاً شرعياً ولم يكن شرطاً عقلياً في مقام الامتثال.

والدليل على عدم جريان قاعدة التجاوز هو أنّ النيّة وإن كانت شرطاً شرعياً

إلاّ أنّها ليس لها محلّ مقرّر شرعاً ولا يصدق في حقّها عنوان التجاوز عن المحل والدخول في الغير.

نعم لو جعلنا قصد القربة شرطاً شرعياً جرت قاعدة الفراغ وإن جعلناه شرطاً عقلياً لم تجر قاعدة الفراغ لاختصاص هذه القاعدة بالشك في صحّة عملٍ لِم يُعلم شموله على جميع الأجزاء والشروط الشرعية وعدمه وعلى القول بأنّ قصد القربة شرط عقلي يحصل لنا اليقين بأنّ هذا العمل واحدٌ لجميع الأجزاء والشرائط الشرعية.

ونحن نوافق المحقق العراقي فيما ذكره ونؤكّد مضافاً إلى ذلك أنّ مستند عدم جريان قاعدة التجاوز في الموارد المذكورة هو انعدام المحل الشرعي المعيّن ونؤكّد على أنّ المستند المهمّ هو انعدام عنوان الخروج من الشيء والدخول في الغير الذي هو من مقوّمات قاعدة التجاوز.

في هذه الموارد نعم لو التزمنا بجريان قاعدة الفراغ في أثناء العمل كما يرى ذلك المحقّق العراقي أمكن إجراء قاعدة الفراغ في الأجزاء السابقة لكنّنا ذكرنا سابقاً أنّ مقتضى التحقيق اختصاص جريان قاعدة الفراغ بما بعد الانتهاء من العمل. وهذا يستفاد بوضوح من أدلّة قاعدة الفراغ.

وعلى هذا فعلى رأينا لو شك المكلّف أثناء الصلاة في أنّ صلاته منذ البداية هل كانت مع قصد القربة أولا؟ لم تجر في حقّه قاعدة الفراغ، أمّا لو شك بعد الفراغ من الصلاة في أنّ صلاته هل كانت مقرونة بقصد القربة أولا؟ جرتْ في حقّه هذه القاعدة.

هل أنّ لزوم المضيّ وعدم الاعتناء بالشك في قاعدة التجاوز رخصة أم عزيمة؟

فرع آخر من الفروع المتعلّقة بقاعدة التجاوز أن نبحث بأنّ جريان قاعدة

التجاوز هل هو رخصة ـ بمعنى أنّ من شكّ في السجود هل أتى بالركوع؟

أو شك في أيّ جزءٍ لاحق هل أتى بالجزء السابق جاز له عدم الاعتناء بالجزء المشكوك فلا يأتي به كما يجوز له الاعتناء بالجزء المشكوك فيأتي به احتياطاً ـ أو أنّه عزيمة فلا يجوز الاحتياط والإتيان بذلك الجزء؟

احتمالات المسألة:

في المسألة ثلاثة احتمالات بل ثلاثة آراء:

1 ـ أنّ مفاد القاعدة هي الرخصة فيجري الاحتياط في جميع الأجزاء.

2 ـ أنّ مفادها العزيمة ولا يجوز الاحتياط. صرّح بذلك المحقّق العراقي.

3 ـ التفصيل في الأجزاء فيكون عزيمة في بعض الأجزاء كالركوع والسجود ورخصة في سائر أجزاء الصلاة.

بحث نظرية المحقّق العراقي:

يرى المحقّق العراقي أنّ قاعدة التجاوز عزيمة ولا يجوز الإتيان بالجزء المشكوك وإن كان برجاء إدراك الواقع، وبالتالي يكون إتيان ذلك الجزء زيادة عمدية بالنسبة لنفس الجزء وبالنسبة للجزء اللاحق الذي قد دخل فيه فيكون سبباً لبطلان الصلاة.

قال العراقي في التنبيه الحادي عشر في هذه القاعدة:

(الظاهر أنّ المضيّ على المشكوك فيه في قاعدة التجاوز عزيمة لا رخصة فلا يجوز الإتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع لظهور الأمر بالمضيّ في أخبار الباب وقوله(ع): (بلى قد ركعت) في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحقّقه في محلّه وإلغاء الشكّ فيه فإنّه مع هذا الأمر وهذا البناء لا يجوز العود إلى المشكوك فيه ولو رجاءً لأنّه لا موضوع له مع حكم الشارع بوجوده فيكون

الإتيان به حينئذٍ من الزيادة العمدية بالنسبة إلى نفس المشكوك فيه وبالنسبة إلى الغير الذي دخل فيه وهي موجبة لبطلان الصلاة مع أنّ الظاهر كون المسألة اتفاقية فلا يعتنى حينئذٍ بما يختلج بالبال من الاحتمالات)(1).

ويتلخّص استدلاله في النقاط التالية:

1 ـ إنّ الأمر بالمضيّ في الروايات ظاهر بنفسه في العزيمة.

2 ـ إنّ قول الإمام(ع): (قد ركعت) ظاهرٌ في البناء على عدم جواز العود إلى المشكوك فيه لعدم بقاء موضوع العود بعد أن حكم الشارع بوجوده.

3 ـ إنّ الإتيان بالجزء المشكوك يوجب زيادتين عمديتيين أولاهما أنّ الجزء المشكوك على فرض الإتيان به واقعاً وقد أُتي به ثانية. والثانية أنّ الجزء اللاحق الذي قد دخل فيه جيء به ثانية.

ومن الواضح أنّ الزيادة العمدية توجب بطلان الصلاة.

4 ـ ثم قال أخيراً بأنّ عدم جواز العود الذي هو معنى العزيمة متّفق عليه عند الفقهاء.

إشكال صاحب منتقى الأصول على نظرية المحقّق العراقي:

أورد بعض المحقّقين(2) الإشكال على كلمات المحقق العراقي:

أمّا على الاستدلال الأول فبأنّ الأمر بالمضيّ من مصاديق الأمر الوارد بعد توهّم الخطر لأنّ ما يتوهمّ في مثل هذه الموارد من الشك أنّ الجزء المشكوك واجب الإتيان والإمام(ع) يرفع هذا التوهّم بالأمر بالمضيّ.

وأمّا على الاستدلال الثاني بأنّ الظاهر من تعبير (بلى قد ركعت) ليس هو


1 . محمد تقي البروجردي: نهاية الأفكار ج4 قسم2 ص77.

2 . السيد عبد الصاحب الحكيم: منتقى الأصول221:7.

إخبار الشارع المقدس عن تحقّق الركوع في الواقع بل هو تعبّد ظاهري من موارد الأحكام الظاهرية، ومن الواضح عدم وجود المانع من الاحتياط في مثل هذه الأحكام لأنّ الأحكام الظاهرية غايتها التأمين والتعذير وبالتالي يكون لها عنوان الرخصة.

وأمّا بالنسبة إلى الثمرة الّتي رتّبها هو لابدّ من القول بأنّ الأجزاء قسمان:

الأول: ما يوجب تكراره الزيادة فيما لو قصد المصلّي الجزئية فيه كالقراءة والتشهد. فلو لم يقصد الجزئية في هذه الأجزاء وجيء بها بمجرّد داعي الاحتياط لم تصدق عليها الجزئية.

والثاني: ما لا يجب فيه قصد الجزئية بل تصدق الزيادة بمجرد الإتيان به ثانية وإن لم يقصد فيه الجزئية كالركوع والسجود. وإنّما يصحِّ كلام المحقق العراقي في هذا القسم الثاني دون القسم الأول. وإن كان الممكن في القسم الثاني إجراء أصالة عدم الزيادة مع الإتيان بالركوع والحكم بصحة الصلاة.

وهو يأمرنا بالتأمّل في هذا الكلام الأخير في الختام. ولعلّ وجه هذا التأمّل هو أنّ المورد إذا كان من موارد قاعدة التجاوز لم يبق مجالٌ لاستصحاب عدم الزيادة لتقدّم قاعدة التجاوز على الاستصحاب.

مناقشة إشكالات صاحب المنتقى:

هناك عدة ملاحظات على إشكالات صاحب المنتقى:

الأولى: أنّه ليس من الواضح كيفية استفادة مسألة توهّم الخطر من الروايات فما الدليل على أنّ الأمر بالمضيّ من مصاديق الأمر بعد توهّم الخطر.

وبعبارة أخرى أنّ السائل يمكن أن يتوهّم في نفسه بطلان الصلاة أو أمراً آخر.

والحاصل أنّ توهم وجوب إعادة العمل أمرٌ غير واضح.

الثانية: إنّ بعض الروايات صرّحت بالنهي عن الإعادة مضافاً إلى الأمر بالمضيّ فلابدّ من حمل النهي عن الإعادة على الإرشاد إلى عدم لزوم الإعادة حسب كلام هذا المحقق العظيم مع أنّ ذلك خلاف الظاهر فقد جاء في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع): (كلّ ما شككت فيه بعدما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد)(1) حيث إنّ ظاهرها أنّ الشارع قد تعبّد المكلّف في هذه الموارد من الشك بالمضيّ وبعدم الإعادة فلا يمكن جعل ذلك إرشاداً إلى عدم لزوم الإعادة، ولاسيّما أنّ بعض الروايات علّلت هذا التعبّد بأنّ هذه الشكوك عادةً معلولة للشيطان ونفوذه في الصلاة فقد جاء في موثقة فضيل: (قلت لأبي عبد الله(ع) أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أولا؟ قال: بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنّما ذلك من الشيطان)(2).

الثالثة: إنّ ما قيل من أن عبارة (قد ركعت) تعبّد ظاهري بإتيان الركوع وهي حكم ظاهري موافق لأصل الاحتياط وإن كان صحيحاً وواضحاً وأنّ الأحكام الظاهرية إنّما هي لأجل التأمين والمعذّرية لكن يمكن أن نستخرج من هذه الروايات أنّ الشارع في خصوص هذه الموارد هو في مقام النهي عن الاحتياط، كما أنّه لو ترتّب على الاحتياط حرج أو ضررٌ لم يترتّب عليه حسنٌ وكان الشارع في هذه الموارد حاكماً بعدم الاحتياط.

وبعبارة أخرى يمكن أن نقول: أنّ المستفاد من الروايات التوسعة في متعلّق


1 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الأحكام 378:2حديث1460، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 246:8 باب 27 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث2.

2 . محمد بن حسن الطوسي: تهذيب الاحكام151:3حديث50، محمد بن حسن الحر العاملي: وسائل الشيعة 317:6 باب 13 من أبواب الركوع حديث3.

المأمور به بالنسبة إلى مورد الشك، فلو كان الشارع في مقام التوسعة لم يتناسب ذلك مع الاحتياط ويحصل الشك في حسن الاحتياط.

وعلى هذا فلا يمكن للمكلّف إعادة العمل طالما هو في حالة الشك الذي هو موضوع قاعدة التجاوز. ونستنتج من ذلك أنّ مفاد قاعدة التجاوز هو العزيمة ويكون رأي المحقّق العراقي هو الصحيح والرأي المختار. والحمد لله رب العالمين.

تاريخ كتابة القواعد الفقهية

نبذة عن كتابة القواعد الفقهية عند أهل السنة

الكتب المؤلّفة في القواعد الفقهية

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه المالكي

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه الشافعي

مؤلفو القواعد الفقهية في الفقه الحنبلي

مقدمة المترجم

التعريف الإجمالي للقاعدتين

قاعدة التجاوز

أدلّة قاعدة الفراغ والتجاوز

1 ـ الإجماع العملي:

المناقشة في دليليت الإجماع العملي:

ـ السيرة المتشرّعة:

مناقشة هذا الدليل:

3 ـ سيرة العقلاء:

4 ـ إثبات حجية القاعدة بأصالة الصحة:

تحقيق الكلام في الفرق بين قاعدة الفراغ وأصالة الصحة:

5 ـ أدلة المحقق الهمداني:

الدليل الأوّل قاعدة لا حرج:

الدليل الثاني:

الدليل الثالث اختلال النظام:

الرد على أدلّة المرحوم الهمداني:

أ ـ الرد الكلّي المتعلّق بجميع الأدلّة الثلاثة:

ب ـ الرد الخاص بدليلية (لاحرج):

ج ـ الرد الخاص بالتعليل بقاعدة اليد واختلال النظام:

6 ـ الأخبار والروايات:

حول دلالة هذه الرواية على قاعدة الفراغ يقول صاحب الوسائل(ره):

كما لا شكّ في دلالة هذه الروايات على الأمور التالية:

ما المراد من الشكّ في الشيء؟

إتحاد قاعدتي الفراغ والتجاوز أو تغايرهما:

مقام الثبوت:

أدلّة القائلين بتغاير القاعدتين:

الدليل الأوّل عدم وجود القدر الجامع بين القاعدتين:

البيان الأوّل للمحقق النائيني:

كلام الشيخ الأنصاري:

الإشكالات الواردة على كلام الشيخ الأنصاري(ره):

1 ـ إشكالات الميرزا النائيني(ره):

إشكال المحقق الخوئي(ره) على رأي المحقق النائيني(ره):

إشكال المحقق العراقي(ره) على رأي المحقق النائيني(ره):

نتيجة البحث والاحتمالات الموجودة:

تحقيق المسألة:

2 ـ إشكال المحقق العراقي على رأي الشيخ الأنصاري:

3 ـ إشكال المحقق الأصفهاني على رأي الشيخ الأنصاري:

تحقيق البحث في الوجه الأوّل:

البيان الثاني في الدليل الأوّل:

البيان الثالث في الدليل الأوّل:

إشكالات هذه النظرية:

نتيجة الدليل الأوّل:

الدليل الثاني: اجتماع لحاظي الآلية والاستقلالية في الشيء الواحد:

يقول المحقق النائيني في هذا السياق:

الإشكالات الواردة على الدليل الثاني:

1 ـ نظرية المحقق النائيني:

الإشكال على نظرية المحقق النائيني:

2 ـ نظرية المحقق الخوئي:

الإشكال على جواب السيد الخوئي الأوّل:

الدليل الثالث: محذور الجمع بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي:

يقول المحقق السيد الخوئي في توضيح هذا الدليل:

الإشكالات على الدليل الثالث:

1 ـ نظرية المحقق النائيني:

2 ـ نظرية المحقق الخوئي:

الدليل الرابع محذور التدافع:

الإشكالات على الدليل الرابع:

نظرية المحقق النائيني:

جواب المحقق النائيني عن محذور التدافع:

نظرية المحقق الخوئي:

مناقشة نظرية المحقق الخوئي:

الرأی المختار في الدليل الرابع:

نتيجة البحث في مقام الثبوت:

تحليل نظرية رجوع الشك في الصحة إلى الشك في الوجود:

مقام الإثبات

البحث في مقام الإثبات في تعدّد قاعدتي الفراغ والتجاوز

نظرية المحقق النائيني في جعل قاعدة الفراغ والتجاوز:

الإشكالات على نظرية المحقق النائيني:

مقدمات بحث مقام الإثبات:

أ ـ روايات قاعدة التجاوز:

ب ـ روايات قاعدة الفراغ:

نقد مبنی الإمام الخميني في تعدد القاعدتين

الفرق بين قاعدتي الفراغ والتجاوز:

دراسة وتحليل رأي الإمام الخميني(ره) في استفادة قاعدة التجاوز من الروايات

مناقشة نظرية الإمام الخميني(ره):

مناقشة رأي الإمام الخميني(ره):

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في جميع أبواب الفقه:

دراسة عموم قاعدة التجاوز:

البحث في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث:

عدم جريان قاعدة التجاوز في الوضوء:

إشكالات المحقق العراقي على مسلك الشيخ الأنصاري:

إشكالات نظرية المحقق العراقي:

دراسة الوجوه الأخرى للجمع بين الصحيحة والموثّقة:

الإشكالات على الوجه الخامس

المختار في الجمع بين الموثّقة وصحيحة زرارة:

بحث حول جريان قاعدة التجاوز في الغُسل والتيمّم:

هذا وقد أورد المحقق السيد الخوئي(ره) على هذا الدليل إشكالين:

المؤيّد لجريان قاعدة التجاوز في الغُسل:

بحث جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء:

نظرية المحقق النائيني:

نظرية المحقق الأصفهاني:

ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل من وجهين:

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في الجزء الأخير من المركّب

هذا وقد فصّل بعض المحققين(1) في هذه المسألة وذكر عدة صور:

وقد أورد المحقق الخوئي(3) أيضاً إشكالين على رأي أستاذه هنا:

تحليل نظرية صاحب منتقى الأصول:

الإشكالات الواردة على رأي صاحب منتقى الأصول:

والظاهر أنّ هناك عدّة ملاحظات على كلام صاحب منتقى الأصول:

جريان قاعدة الفراغ والتجاوز عند الشكّ في صحّة الأجزاء:

ما المراد من المحلّ في قاعدة التجاوز؟

فقد ذكر دليلين على جريان القاعدة:

أدلة اختصاص القاعدة بالمحل الشرعي:

ما المراد بالغير في قاعدة التجاوز؟

رأي المحقق الأصفهاني:

الرأي المختار:

بحث اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ والتجاوز:

بحث اعتبار الدخول في الغير في مجرى قاعدة التجاوز:

هل الدخول في الغير شرط شرعي أو عقلي؟

البحث في اعتبار الدخول في الغير في مجرى قاعدة الفراغ:

الإشكال على رأي المحقّق الخوئي والمحقق الحائري:

مناقشة رأي المحقّق الحائري:

جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشكّ في الشروط:

تحليل الاحتمالات الموجودة في المسألة:

دراسة رأي المحقّق النائيني(2):

مناقشة نظرية المحقق النائيني:

بحث نظرية المحقق العراقي:

الإشكالات على نظرية المحقق العراقي:

بحث نظرية صاحب منتقى الأصول:

الإشكالات على نظرية صاحب منتقى الأصول:

هل أنّ لزوم المضيّ وعدم الاعتناء بالشك في قاعدة التجاوز رخصة أم عزيمة؟

بحث نظرية المحقّق العراقي:

إشكال صاحب منتقى الأصول على نظرية المحقّق العراقي:

مناقشة إشكالات صاحب المنتقى: