نظرية حقّ الطاعة
۲۴ دی ۱۳۹۴
۱۱:۵۲
۵۰
چکیده :
نشست های علمی
نظرية حقّ الطاعة
محمد جواد الفاضل اللنکراني
المبحث الأوّل دراسات مفهومية
بالنظر إلى مكانة ومفاد «حقّ الطاعة»، بوصفها واحدة من النظريات الاُصولية الهامّة، يجدر بنا أن نعمل في بادى الأمر ـ ضمن مسار منطقي ومنسجم ـ على بيان مفهوم حكم العقل، والبراءة العقلية، والاحتياط العقلي؛ لنصل بذلك إلى فهم وإدراك مشترك بشأن المفردات الرئيسة في هذه الدراسة.
المقام الأوّل: حكم العقل
بالنظر إلى أنّ الرأي المشهور القائل بـ«قبح العقاب بلا بيان» هو حكم عقلي، يجدر بنا أن نعمل في هذا المقام على بيان وتحليل مكانة العقل وحكمه باختصار.
إنّ العقل لغة بالمعنى الحدثي يساوق المنع والردع، وبمعنى اسم الذات يساوق الديّة والقِوَد، وبمعنى اسم المعنى يساوق الإدراك والتمييز[1]، وفي المجموع ترجع هذه المعاني كلّها إلى التثبّت والتوقّف؛ إذ الفهم والإدراك بدوره يحتاج إلى توقّف وتأمّل في المسألة أيضاً.
لم يتمّ تنقيح المراد من هذه المفردة في التعاريف الاُصولية بشكل واضح، وبدلاً من ذلك يُشار إلى دليل العقل، أو حكم العقل بوصفه واحداً من أدلّة الأحكام. يطلق الدليل العقلي على القضايا ـ الأعمّ من البديهية والنظرية ـ التي يدركها العقل بشكل جازم وقاطع دون الاستناد إلى القرآن والسنّة، وتكون له صلاحية الاستناد إليه في مسار استنباط الحكم الشرعي والقطع به[2].
ينقسم نشاط العقل في بعض تقسيماته ـ بوصفه مدركاً ـ إلى قسمين، وهما: العقل النظري، والعقل العملي؛ بحيث لو كان الأمر الذي يدركه العقل بشكل عامّ، من قبيل معرفة حقائق (الوجود والعدم) ـ التي لا تستحقّ غير العلم والمعرفة، وليس لها أيّ صلة بدائرة الإنسان العملية من (الضرورات والمحظورات) ـ كان ذلك الأمر داخلاً في دائرة إدراك العقل النظري؛ وفي قبال ذلك إذا كان المتعلّق العامّ للإدراك العقلي من نوع الاُمور التي لها شأنية الفعل أو الترك الاختياري، كان ذلك داخلاً في دائرة إدراك العقل العملي؛ لأنّ هذا النوع من الإدراك يشكّل منشأ ومصدراً للتحفيز والفعل الاختياري للنفس؛ بمعنى أنّه يتمّ من خلاله تحديد واستنباط وجوب وضرورة القيام بفعل، أو تركه بالنسبة إلى النفس.
كما ينقسم الدليل العقلي في بعض تقسيماته [التقسيم الاُصولي]، إلى: الدليل العقلي المستقلّ، والدليل العقلي غير المستقلّ. إنّ المستقلاّت العقلية جزء من المدركات البديهية للعقل العملي، والتي يدركها العقل بشكل مستقلّ؛ بمعنى أنّ المقدّمات التي تشكّل قضية الاستنباط (من الصغرى والكبرى) تكون عقلية بحتة، وهي منحصرة ـ بطبيعة الحال ـ في مسألة التحسين والتقبيح العقلي. وأمّا غير المستقلاّت العقلية (اللوازم العقلية) فهي بدورها جزء من مدركات العقل العملي التي لا يمكن للعقل أن يدركها بشكل مستقلّ؛ بمعنى أنّها من صنف الأحكام العقلية التي يكون دليلها مؤلّفاً من مقدّمة شرعية (الصغرى)، ومقدّمة عقلية (الكبرى)، وإنّ مضمون تلك المقدّمة هي الملازمة العقلية بين حكمين شرعيين، من قبيل: الملازمة العقلية بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة.
وبذلك يتّضح أنّ حكم العقل بقبح العقاب عند الشكّ في الحكم الشرعي الواقعي، هو من الأحكام العقلية المستقلّة، ومن قسم أحكام العقل العملي، وصغريات الظلم المحكوم عليه بالقبح. وبذلك إنّما يتمّ التعاطي معه بوصفه دليلاً فقاهيّاً، وتكون له المرجعية العملية في موارد عدم وجود الدليل الشرعي المعتبر فقط، ولن تثبت له الحجّية إلاّ بعد الرجوع إلى الكتاب والسنّة.
وعلى كلّ حال، يرد هذا السؤال: هل العقل حاكم على نحو ما يكون الشرع حاكماً، وأنّ له مثله: أمر ونهي، أو بعث وزجر؟ أم هو مجرّد قوّة إدراكية تستطيع كشف الحُسن والقبح، وأنّ الشارع يحكم على طبق ذلك؟
والجواب عن ذلك هو أنّ المراد من حكم العقل ـ بناءً على المشهور ـ ليس هو صدور الأمر والنهي من قبل العقل، وإنّ العقل في الأساس ليس له شأنية الحكومة، وإنّما المراد منه إدراك حقائق الأفعال، من قبيل: المصالح أو المفاسد المُلزمة التي تعبّر عن اقتضاء الفعل للحُسن أو القبح، وبذلك يشكّل أرضية للشوق والإرادة بطبيعة الحال.
بيد أنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ذهب في تفسير قبح العقاب، إلى القول بأنّ حكم العقل هو حكم وبناء العقلاء؛ بمعنى أنّه لا يرتضي تفسير الحُسن والقبح الذاتي بمعنى الإدراك المستقلّ والضروري للعقل؛ بل يرى حُسن العدل مشتملاً على مصالح عامّة تؤدّي إلى حفظ النظام، وفي المقابل فإنّ الظلم والعدوان بدوره يشتمل على مفاسد عامّة تؤدّي إلى اختلال النظام. ومن هنا، فإنّه يذهب إلى الاعتقاد بأنّ العقلاء لا يفرّقون بين المولى العُرفي والمولى الشرعي، وإنّ الشارع بوصفه أحد العقلاء ورئيس العقلاء، قد أقرّ مثل هذا الجعل؛ فإذا أراد أن يعاقب على مخالفة تكليف لم يرد فيه بيان إلى المكلّف، كان هذا العقاب قبيحاً[3].
وتظهر ثمرة المبنيين في فرض الشكّ؛ فإذا شككنا في مورد ولم نعلم ما إذا كان هذا الفعل حسناً أو قبيحاً؛ فإنّه طبقاً لمبنى المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) يجب الرجوع إلى بناء العقلاء؛ لنرى هل أنّهم متّفقون على تحسين هذا الفعل أو تقبيحه، وأمّا على مبنى المشهور، تبقى حالة الشكّ كما هي، ولن يكون هناك علاج لهذه المسألة.
المقام الثاني: الشبهة
إنّ مفردة الشبهة ـ مثل مفردة الشكّ ـ تقع في قبال العلم، والمراد منها لغة هو: الالتباس، أو الاشتباه الناجم عن الشبه الموجودة بينها وبين الحقّ؛ بحيث لا يمكن التمييز بينهما بسهولة[4]. وقد تمّ تقسيم هذا المصطلح في علم الاُصول إلى: الشبهة البدوية (شكّ المكلّف في توجّه التكليف)، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي (المحصورة وغير المحصورة)، والشبهة الموضوعية والحكمية (الوجوبية والتحريمية)، وكذلك الشبهة المفهومية والمصداقية أيضاً. وفي هذا الكتاب سوف يتمّ التركيز في الغالب على الشبهات البدوية الحكمية؛ وهي الشبهات التي يكون متعلّق الشكّ فيها هو جعل الحكم الشرعي الكلّي، والتي يكون منشأ الشكّ والاشتباه فيها هو عدم وجود النصّ، أو إجماله أو تعارضه مع مسألة، أو نصّ آخر[5]، وإنّ رفع هذا الشكّ يكون بيد الشارع المقدّس، والدليل الواصل من ناحيته[6].
المقام الثالث: الأصل
الأصل لغة هو: الجذر والركيزة، وأساس الشيء، وهو الشيء الذي يقوم عليه شيء آخر، أو يستقيم بسببه[7].
وقد تمّ استعمال هذه المفردة في المصطلح الاُصولي للدلالة على معان متعدّدة، من قبيل: الدليل، والراجح، والظاهر، والقاعدة الشرعية أو العقلية أو العقلائية المجعولة في ظرف الشكّ. وبعبارة أدقّ: هي الضابطة العامّة المجعولة لتحديد الوظيفة العملية للمكلّف، وتحديد الحكم الظاهري في ظرف الجهل بالحكم الواقعي[8].
وينقسم الأصل في التقسيمات الاُصولية إلى: الأصل العملي، والأصل اللفظي. وكذلك إلى: الأصل الشرعي، والأصل العقلي. والمراد من الأصل العقلي هو الأصل الذي يكون الحاكم والمُدرِك فيه هو العقل، ولا يتضمّن جعل حكم ظاهري شرعي، وينحصر في أصلين في أصالة البراءة العقلية، وأصالة الاحتياط العقلي. وفي المقابل، فإنّ الاُصول التي يكون الشارع المقدس حاكماً عليها، وتتضمّن حكماً ظاهرياً شرعياً، تسمّى بالأصول الشرعية؛ من قبيل: الاستصحاب، والبراءة الشرعية، وأصالة الصحّة، وأصالة الطهارة، وما إلى ذلك[9].
وقد ذهب مشهور الإمامية إلى القول بأصالة البراءة العقلية، وأمّا السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ومن اقتفى أثره، فقد ذهبوا إلى القول بأصالة الاحتياط العقلي، أو أصالة اشتغال الذمّة. وسوف نبحث كلا هذين الأصلين.
المقام الرابع: البراءة العقلية
إنّ أصالة البراءة من الأحكام الظاهرية، ومن أقسام الاُصول العملية التي تعني براءة الذمّة (المعذّرية) من التكليف (النفسي أو الغيري) المشكوك بعد الفحص واليأس من العثور على دليل الحكم الواقعي. إنّ موضوع هذا الأصل هو التكليف الذي يكون حكمه الواقعي مشكوكاً فيه، ومحموله هو الإباحة وترخيص المكلّف في القيام بفعل أو ترك ذلك الفعل المشكوك في حكمه. وتنقسم البراءة بدورها إلى قسمين أيضاً، وهما: البراءة الشرعية (النقلية)، والبراءة العقلية. إنّ المكلّف ـ بناءً على البراءة العقلية ـ إذا عجز عن الوصول إلى دليل الحكم الشرعي، لا يكون من الناحية العقلية وبمقتضى قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» ملزماً بالطاعة الإلهيّة، بمعنى أنّه يكون معذوراً في قبال الحكم الواقعي المشكوك فيه، وسوف يكون بطبيعة الحال آمناً من استحقاق العقاب فيما لو أتى بذلك الفعل أو تركه[10].
المقام الخامس: الاحتياط العقلي
إنّ الاحتياط يعني الموافقة القطعية لأوامر الشارع في موارد عدم القطع بالتكليف الواقعي، واجتناب المخالفة المحتملة لها؛ ومن هنا، يكون مجرى الاحتياط مختلفاً عن مجرى أصالة الاحتياط التي هي واحدة من الاُصول العملية؛ لأنّ أصالة الاحتياط من الأحكام الظاهرية التي تحدّد الوظيفة العملية للمكلّف عند الشكّ في الحكم المكلّف به، في حين أنّ الاحتياط يشمل أصالة الاحتياط وغيرها، من قبيل: موارد الشكّ في المحصّل، والشكّ في الإتيان، وحتّى الاحتياط في فتاوى مراجع التقليد أيضاً.
تنقسم أصالة الاحتياط إلى قسمين، وهما: أصالة الاحتياط الشرعي، وأصالة الاحتياط العقلي. إنّ أصالة الاحتياط الشرعي قد تمّ جعلها تعبّداً من أجل تحديد الوظيفة العملية للمكلّف عند الشكّ في المكلّف به، وهي تحكم بلزوم الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال؛ في حين أنّ الاحتياط العقلي إنّما يجري في الموارد التي تشتمل على ضرورة الطاعة الإلهيّة. إنّ الموضوع في هذه المسألة هو الفعل المحتمل الضرر، والمحمول فيه هو لزوم الاجتناب العقلي[11].
وفي هذه الحالة يعمل العقل بشكل عامّ على تحديد الوظيفة العملية للعبد في قبال الشرع؛ وبطبيعة الحال، فإنّ التكليف العملي العقلي سوف يكون رهناً بالسعة أو عدم السعة في حدود حقّ الطاعة الإلهيّة؛ إذ يجب على المكلّف ـ بمقتضى القاعدة العقلية القائمة على دفع الضرر المحتمل (الضرر الاُخروي أو الضرر الهامّ) ـ أن يجتنب الأفعال المشتملة على احتمال الضرر، كما يجتنب موارد القطع بالضرر. وعلى هذا الأساس، يجب عليه امتثال التكاليف المحتملة كما يجب عليه امتثال التكاليف المعلومة، إلاّ في الموارد التي يثبت بالدليلي القطعي أنّ التكليف فيها قد رفع عن المكلّف.
وعلى هذا الأساس، فإنّه في مختلف حالات الشبهات، من قبيل: الشبهة البدوية قبل الفحص، والعلم الإجمالي بالتكليف، وكذلك العلم التفصيلي بالتكليف والشكّ في سقوطه، وتحديد المقدار الواجب من إطاعة المولى، يتمّ الرجوع إلى مدركات العقل العملي، من قبيل: القاعدة أعلاه، أو قاعدة اشتغال الذمّة، وكلتا القاعدتين ناظرة إلى نفي استحقاق العقاب؛ فمثلاً بمقتضى القاعدة العقلية القائلة بأنّ «الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني» يتمّ الحكم في مقام الامتثال بوجوب تحصيل اليقين بتحقّق الطاعة، ولا يكفي احتمال تحقّق الطاعة[12].
وسوف نعمل في هذا الكتاب على تقييم مكانة مسلك حقّ الطاعة الذي يعتبر بوصفه واحداً من المباني الهامّة في الوجوب العقلي للاحتياط[13].
المبحث الثاني الجذور التاريخية
إنّ من بين المقدّمات الهامّة التي تُسهم وتساعد على إيضاح هذا البحث ومفاهيمه، بيان الجذور التاريخية العلمية للبراءة العقلية والاحتياط العقلي، وسوف نحرص في بيان ذلك على الجمع بين الاختصار والدقّة، مع التأكيد على أبحاث سماحة الشيخ الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ .
المقام الأوّل: الجذور التاريخية للبراءة العقلية
يمكن العُثور ـ من الناحية التاريخية ـ على جذور وسابقة بحث البراءة العقلية في مسألة الحظر والإباحة؛ إذ كان هذا البحث مطروحاً في الكتب الاُصولية للمتقدّمين، وهو أنّ العقل لو سبق الشرع في إدراك وجود مصلحة أو مفسدة في شيء، هل يحكم بقبح ذلك، وهذا تعبير آخر عن أصالة الحظر وعدم جواز التصرّف في الأشياء، أو يحكم بعدم قبح ذلك، وهذا تعبير آخر عن أصالة الإباحة وجواز التصرّف؟
ومن بين القائلين بأصالة الإباحة من المتقدّمين، كلّ من: ابن أبي عقيل، وابن الجنيد الإسكافي، والشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيّد المرتضى[14]، والشيخ الطوسي في كتابه الفقهي «الخلاف»[15]، وفي كتابه التفسيري «التبيان»[16].
وبعد الشيخ الطوسي(قدسسره) قال الكثير من الفقهاء الآخرين بأصالة الإباحة أيضاً، ومن بينهم: السيّد ابن زهرة[17]، وابن إدريس[18] أيضاً، حتّى جاء دور المحقّق الحلّي(رحمهالله) حيث ذكر في كتبه مسألة البراءة بوصفها أصلاً، وأخذ يستدلّ عليها، وقد تمسّك بها في مباحث متنوّعة[19]، ثمّ شاع هذا المصطلح بعده بين الفقهاء.
وقد عمد الوحيد البهبهاني إلى ذكر البراءة العقلية وجريانها في الشبهات الحكمية والموضوعية في كتابه «الفوائد الحائرية» بشكل واضح، حيث قال:
اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه والشبهة في موضوع الحكم الأصلي فيهما البراءة... دليل المجتهدين: حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن بيان[20].
وقد عمد سماحته إلى تغيير تقرير هذا الدليل في كتابه «الرسائل الاُصولية»، حيث صحّحه قائلاً:
دليل المعظم؛ أنّه إذا لم يكن نصّ لم يكن حكم، فالعقاب قبيح على اللّه تعالى ... فالصواب؛ أن يجعل الدليل هكذا: إذا لم يصل دليل لم يكن عقاب؛ لقبح التكليف والعقاب حينئذٍ، كما عليه جمع من أرباب العقول[21].
وقال الميرزا القمي بشأن هذه القاعدة، في كتاب «القوانين»:
أنّ القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلاّ بعد البيان أو وصول البيان إلينا بعد الفحص والطّلب بقدر الوسع فيما يحتمل فيه الحكم المخالف للأصل، للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه[22].
وقد ذهب السيّد المجاهد ـ سبط الوحيد البهبهاني ـ في كتابه «مفاتيح الاُصول» إلى اختيار رأي جدّه بعد اصلاحه في كتاب «الرسائل الاُصولية»[23].
وقد بحث الشيخ الأنصاري أصالة البراءة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، بشكل كامل، وعمل على تحكيم اُسسها وركائزها بالقواعد العلمية المتقنة[24]، وكانت آراؤه مطمح أنظار علماء الإمامية حتّى الآن[25]، إلى الحدّ الذي عدّها المحقّق الحائري اليزدي في عصره، في كتابه «دُرر الفوائد»، قاعدة مسلّمة عند العدلية[26].
ومن بين الفقهاء المعاصرين ذهب سماحة الإمام الخميني(رحمهالله)[27]، والمحقّق السيّد الخوئي(رحمهالله)[28]، والفقيه الاُصولي الراحل آية اللّه الفاضل اللنكراني(رحمهالله)[29]، إلى تبني هذه القاعدة أيضاً.
لا يخفى أنّ هذه القاعدة أعلاه، تختلف عن قاعدة «قبح التكليف بما لا يطاق»، وتختلف عن قاعدة «قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة» أيضاً؛ بمعنى أنّ التكليف بلا بيان لن يكون من مصاديق التكليف بما لا يطاق، ولن يكون خارجاً عن قدرة العبد، حتّى يكون التكليف مرتفعاً قهراً في مثل هذه الحالة؛ إذ هناك إمكانية الامتثال الإجمالي في التكليف غير المعلوم، وذلك عن طريق الاحتياط؛ في حين أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة من مصاديق التكليف بما لا يطاق، ويكون مرتفعاً؛ إذ أنّ الحكم إذا تمّ بيانه في خطاب الشارع المقدّس بشكل مجمل، ولم يتمّ رفع الإجمال والإبهام عنه إلى حين لزوم العمل به، لن يكون امتثاله مقدوراً للعبد.
المقام الثاني: الجذور التاريخية للاحتياط العقلي
طبقاً للتقريرات المتوفّرة لدينا عن السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، فإنّه بالإضافة إلى نقد وإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، يسعى كثيراً إلى إظهار القدماء بوصفهم متّفقين معه في القول بنظرية حقّ الطاعة، ومن هنا نجده يقول في بيان تاريخ هذا البحث:
ما ذكر في كلمات المتقدّمين بشكل مشوّش، وذكر في كلمات المتأخّرين كالشيخ الطوسي(قدسسره)باسم أصالة الحظر فيما لا يعلم جوازه. والمظنون أنّ مقصودهم بذلك كان هو ما ذكرناه من أنّ حقّ المولويّة لا يختصّ بالتكاليف المعلومة، بل يشمل كلّ تكليف محتمل ما لم يعلم بعدم اهتمام المولى به في مورد الشكّ، وإن عبّر عن ذلك بتعبيرات مشوّشة وفقاً لمستوى اللّغة العلميّة وقتئذ. والشيخ الطوسيّ(رحمهالله) أنكر أصالة الحظر وقال بأصالة الوقف، وبالنتيجة التزم في مقام العمل بالاحتياط والحظر. وقال: إنّما نخرج عن هذا الاحتياط بسبب الترخيصات الواردة عنهم(عليهمالسلام). والظاهر أنّ هذا مجرّد خلاف لفظيّ بين الشيخ الطوسيّ ومن قال بأصالة الحظر نشأ من الخلط بين مقام الفتوى ومقام العمل، فكلاهما معترفان بأنّ الوظيفة العمليّة هي الحظر، وبأنّ الحكم الإلهي غير معلوم، فلا يمكن الإفتاء به. هذا. ويظهر من قوله بالخروج عن الاحتياط بما ورد عنهم(عليهمالسلام) من الترخيص: أنّه لو لا الترخيص الوارد من الشارع لكان يقول بأصالة الاحتياط، وهذا يشهد لما قلناه من أنّ المقصود هو ما ادّعيناه من كون القاعدة العقليّة الأوّليّة هي الاحتياط، وأنّ من حقّ المولى (تعالى) الطاعة حتّى في تكاليفه الاحتماليّة ما لم يعلم برضاه بالمخالفة[30].
وعليه: فإنّ الذين قالوا بأصالة الحظر، وكذلك الفقهاء الذين نادراً ما يتوقّفون في الفتوى ـ من أمثال الشيخ الطوسي ـ ويطرحون مسألة الاحتياط في العمل[31]، يعترفون بأنّ الوظيفة العملية في الموارد التي لا يمكن للعقل أن يفهم حسن أو قبح الأشياء فيها، أو لا يمكنه أن يفهم اقتضاءها للحُسن والقبح، يجب عليه في مقام العمل أن يتعامل معها كما يتعامل مع الأمر الممنوع؛ فكما يعمل على ترك ذلك، عليه أن يترك هذا المورد أيضاً.
وفي الختام يستنتج سماحته ـ حيث يتّخذ من هذا الكلام الأخير في الواقع شاهداً على مدّعاه ـ أنّ القاعدة الأوّلية في هذا الباب هي الاحتياط؛ ولذلك، فإنّ من حقّ المولى على المكلّفين أن يطيعوه حتّى في التكاليف المحتملة أيضاً، إلاّ إذا كان المولى لا يهتمّ بالمورد المشكوك ويصدر منه الترخيص بشأنه[32].
وبطبيعة الحال، فقد ذهب بعض الفقهاء الآخرين، من أمثال المحقّق اللاري الشيرازي[33]، وصاحب المنتقى[34] إلى نقد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وقد ذهب بعضهم من أمثال المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)[35] إلى إنكار أن تكون هذه القاعدة عقلية، وآثر طرحها بشكل عقلائي.
وقد ذهب المحقّق الداماد(رحمهالله) إلى إنكار عقلية أو عقلائية هذه القاعدة، واختار الاحتياط العقلي ما لم يؤدّ إلى الإخلال بالنظام[36].
وفي السنوات الأخيرة قام بعض المحقّقين المعاصرين بتناول هذه المسألة بالبحث والنقاش، وألّفوا في هذه النظرية الكتب، أو كتبوا مقالات في نقدها ومناقشتها إثباتاً أو إنكاراً، وبذلك عمدوا إلى اثراء أدبيات هذا الحقل بآرائهم ونظرياتهم، حيث جهودهم في هذا المجال تستحقّ الثناء والتقدير، ونخصّ منهم: آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني في مقالة «مسلك حقّ الطاعه بين الرفض والقبول»[37]، والمحقّق الشيخ صادق اللاريجاني في مقالة «نظرية حقّ الطاعة»[38]، حيث سلكا اتّجاهاً نقدياً حول هذا الموضوع. وفي المقابل، ذهب المحقّق السيّد علي أكبر الحائري في مقالة «حديث الساعة حول نظرية حقّ الطاعة»[39]، والمحقّق رضا الإسلامى في كتاب له بعنوان «نظريه حقّ الطاعة»[40]، إلى سلوك اتّجاه إثباتي في هذا الشأن، وقد أجابا عن بعض الإشكالات الموجودة في هذا البحث، وقاما بالدفاع عن هذه النظرية. كما قام بلال شاكري في مقالة له بعنوان «نقد وبررسى كتاب نظريه حقّ الطاعه»[41]، بتقييم مباحث الكتاب الأخير من وجهة نظره.
المبحث الثالث أقسام المولوية
إنّ نظرية حقّ الطاعة من القواعد الاُصولية الممتزجة ببعض المباني الكلامية، من قبيل: المولوية التشريعية للّه عزّ وجل، ومن هنا يجدر بنا أن نعمل في هذا المبحث على بيان الاُسس النظرية لهذه المسألة على نحو الاختصار.
يرى السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) أنّ صحّة الاحتياط العقلي تقوم على التوسّع في ثبوت حقّ المولوية، وأنّ صحّة البراءة العقلية ـ من وجهة نظر المشهور ـ تقوم على عدم التوسّع في مثل هذا الحقّ. إنّ هذا البحث يعود في الحقيقة إلى تحديد حقّ المولوية للّه سبحانه وتعالى، فهل هو من قبيل حقّ المولوية الثابت لبعض الموالي من البشر على بعضهم؟ أو أنّ هذا القياس باطل من الأساس، وأنّ مولوية اللّه مولوية ذاتية وغير محدودة، ولا يمكن اعتبارها من قبيل مولوية الرؤساء والموالي من البشر.
ومن هنا، فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يطرح نظرية حقّ الطاعة وحكم العقل بمسؤولية المكلّف تجاه الحكم الإلهي بالالتفات إلى ملاك المولوية الشرعية وفي مساحة أوسع من مساحة المولويات العرفية؛ بمعنى أنّ الرأي المذكور يتمّ إثباته بالنظر إلى أصل المولوية التشريعية للّه وارتباط هذه المولوية بالمولوية التكوينية؛ فإذا كان العُرف والعقلاء يكتفون بمجرّد امتثال التكاليف الصادرة من الموالين العاديين من البشر إذا كانت معلومة ومقطوعة، لا ينبغي اتّخاذ ذلك دليلاً وشاهداً على أنّ الأمر كذلك في دائرة التشريع أيضاً؛ وحصر وجوب الامتثال في التكاليف الإلهية المعلومة فقط.
وعلى هذا الأساس، فإنّ السيّد الشهيد، يُقسّم المولوية ـ التي يعدّ وجوب الطاعة ولزوم الامتثال من شؤونها ـ بشكل عامّ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: المولويّة الذاتية الثابتة في لوح الواقع، بقطع النظر عن جعل أيّ جاعل، ويكون حالها حال الملازمة بين العلّة والمعلول، فكما أنّ هذه الملازمة أمر واقعي ثابت في لوح الواقع وإن لم يوجد أيّ معتبر، كذلك هذه المولويّة الذاتية، ومثل هذه المولوية مخصوصة باللّه سبحانه وتعالى، فبحكم مالكيّته للكون ومن وما فيه، يكون له مثل هذه المولويّة الحقيقيّة. وهذه المولويّة الحقيقيّة تفترض المولوية التشريعيّة على ضوء المولويّة التكوينيّة، فكما أنّ إرادته نافذة في الكون، كذلك إرادته التشريعيّة نافذة تكويناً، بمعنى أنّ له حقّ الطاعة على كلّ من يريد منه تشريعاً شيء من الأشياء. وهذه المولويّة ثابتة حتّى بقطع النظر عن وجوب شكر المنعم، الّذي خرّج علماء الكلام على أساسه وجوب معرفة اللّه تعالى ولزوم طاعته، لأنّ مسألة شكره شيء، ومسألة مولويّته الحقيقيّة شيء آخر.
كما أنّ هذه المولويّة يستحيل أن تكون مجعولة من قبله سبحانه، لأنّ معنى ذلك، أنّه في المرتبة السابقة على جعله لهذه المولويّة لم يكن مولى، و معه لا يمكن نفوذ حكمه بمولوية نفسه، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه. إذا عرفت ذلك، وإنّ هذه المولوية غير مجعولة أصلاً، وإنّما إدراكها عند العقلاء على حدّ إدراكهم للقضايا الواقعية الاُخرى، حينئذٍ نقول: إنّ القطع دائماً يحقّق صغرى هذه المولوية الراجعة إلى حقّ الطاعة، وذلك بسبب كاشفيّة القطع التكوينيّة، ومن هنا يتّضح أنّ حجّية القطع ذاتية غير قابلة للجعل أصلاً، لأنّ حجّيته كما عرفت مرجعها إلى كبرى هي المولوية المذكورة، وهي غير قابلة للجعل كما تقدّم، وإلى صغرى هي كاشفيّة القطع وهي تكوينيّة، ولا معنى لجعل كاشفيته التكوينيّة. وبهذا يتّضح أنّ حجّية القطع في مثل المقام ذاتية.
القسم الثاني: المولويّة المجعولة من قبل المولى الحقيقي كمولويّة النّبيّ أو الوليّ عليهماالسلامعلى كلّ النّاس، المجعولة من قبل اللّه سبحانه، وكذا مولويّة الأب على الابن على القول بها، ونحو ذلك. ولمّا كانت هذه المولويّة مجعولة، فيمكن للجاعل أن يجعلها في صورة قطع المولّى عليه بالتكليف، وفي صورة ظنّه، أو شكّه، كما أنّه بالإمكان أن يجعلها في صورة الظنّ أو الشكّ دون القطع، ولا لتهافت، لأنّ هذه المولويّة ليست من لوازم النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم، أو الوليّ عليهالسلام، أو الأب، وإنّما هي مجعولة، والجاعل يمكنه التحكم في ذلك، فهي تتبع في السعة والضيق مقدار جعلها. نعم، القدر المتيقّن عقلائياً من وجوب الإطاعة هو صورة القطع. وعليه، فحجّية القطع في مثل ذلك تكون قابلة للجعل، فإذا شملته دائرة الجعل يكون حجّة، وإلاّ فلا حجّية له. القسم الثالث: المولويّة المجعولة من قبل نفس العبد على نفسه، أو العقلاء على أنفسهم، كما لو جعل شخص لآخر حقّ الطاعة على نفسه لشخص آخر، باعتبار ما له من خبرة ومعرفة مثلاً، أو كما في الموالي والسلطات الاجتماعية الوضعية، فإنّ هذه المولوية أيضاً تتبع مقدار الجعل والعقد والاتّفاق العقلائي[42].
يمكن القول في توضيح الكلام أعلاه، إنّ السيّد الشهيد(قدسسره) يرى أنّ المولوية أمراً مشكّكاً وله مراتب مختلفة[43]، حيث قال في بيان هذه الأقسام: إنّ المولوية في القسم الأوّل مولوية ذاتية وتكوينية، وهي بذلك لا تحتاج إلى اعتبار وجعل من جاعل. إنّ هذا النوع من المولوية بسبب المالكية الحقيقية للّه سبحانه وتعالى على جميع العالم، إنّما يختصّ بذاته المقدّسة؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ المولوية التشريعية للّه تنفذ في ضوء مولويته الحقيقية أيضاً، بمعنى أنّ حقّ الطاعة ولزوم الامتثال الإلهي تكون ضرورية بالنسبة إلى كلّ فرد يفرض إرادته عليه، وهذه حقيقة يدركها جميع العقلاء بواسطة حكم العقل العملي؛ إذ أنّ ملاك هذا النوع من المولوية من وجهة نظر العقل هو خالقية ومالكية اللّه سبحانه وتعالى على الناس، وليس من باب شكر المنعم.
وأمّا المولوية في القسم الثاني فهي المولوية المجعولة من قبل المولى الحقيقي لبعض الناس الذين تتوفّر فيهم الصلاحية اللازمة، من قبيل المولوية المجعولة من قبل اللّه للأنبياء وأوصيائهم على جميع البشر، بيد أنّ هذه الولاية في حدّ ذاتها ليست من اللوازم التي لا تنفكّ عن النبيّ أو الوليّ. من هنا، فإنّ حدود الولاية من حيث السعة والضيق يجب أن تكون تابعة لمقدار جعلها من قبل الجاعل. وبطبيعة الحال، فإنّ دائرة وجوب الطاعة بدورها سوف تنحصر بذلك الحدّ.
وأمّا المولوية في القسم الثالث فهي مولوية عرفية ووضعية يتواطأ عليها العقلاء فيما بينهم لإدارة مختلف شؤونهم الاجتماعية، بعد إعطاء العقلاء هذه المولوية لشخص أو جماعة، فيكون أمر ذلك الشخص أو تلك الجماعة نافذاً، وإنّ العقلاء يلزمون أنفسهم بإطاعة تلك الأوامر، ولو لم يتمّ إعطاء تلك المولوية من قبل العقلاء، لا تكون تلك الأوامر نافذة، كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية حيث ينتخب الناس فيها الشخص من ذوي العلم والخبرة بوصفه رئيساً وحاكماً. إنّ هذا النوع من الأنظمة بدوره يكون تابعاً لجعل الحاكم أو العقد الاجتماعي الذي يرسم حدود تلك المولوية واختياراتها.
وعلى هذا الأساس، فإنّ المولوية الذاتية تختلف عن المولوية العقلائية، وذلك:
أوّلاً: أنّ المولوية الذاتية غير قابلة للإنفكاك والفصل، في حين أنّ المولوية المجعولة من قبل العقلاء يمكن أن تعطى لشخص ثمّ يتمّ سلبها منه وتعطى إلى شخص آخر.
وثانياً: إنّ المولوية الذاتية مولوية مطلقة، ولا تقبل أيّ نوع من أنواع التحديد، وأمّا المولوية العقلائية فهي محدودة؛ بمعنى أنّ اللّه سبحانه وتعالى حيث هو خالق ومالك الإنسان تكون مولويته مطلقة، في حين أنّ المولويات العقلائية ليست مطلقة.
وثالثاً: إنّ المولوية الذاتية لا تقبل التفصيل والتجزئة، أمّا المولوية العقلائية فيمكن أن تكون في بعض الموارد ثابتة، وقد لا تكون ثابتة في بعض الموارد الاُخرى.
القسم الثاني نقد ومناقشة استدلالية حول قاعدة قبح العقاب بلا بيان
بيان البحث
يتمّ لحاظ البراءة العقلية بوصفها فرضية منافسة في مسلك حقّ الطاعة؛ ولذلك، فإنّ السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر(رحمهالله) وكذلك غيره من الفقهاء الكبار كالسيّد الروحاني، قد أثاروا بعض الإشكالات على البراءة العقلية، ووضعوها أمام تحدّيات كبيرة. ومن هنا، فإنّنا نهدف في هذا القسم من البحث الراهن إلى تقرير إشكالات هذه النظرية بشكل صحيح، ثمّ نعمل بعد بذلك على مناقشة ونقد تلك الإشكالات، واختيار ما هو الحقّ حول قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
المبحث الأوّل ملاحظات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ونقدها
إنّ الدليل الأهمّ في حقل البراءة العقلية يتمثّل بـ «قاعدة قبح العقاب بلا بيان»، وفي سياق تقييم هذا المدّعى علينا أن نبحث أوّلاً ما إذا كانت هذه المسألة صحيحة في حدّ ذاتها، أم لا؟ وهل يعتبر هذا الحكم ثابتاً من الناحية العقلية، أم لا؟ وهل هناك دليل وأساس لهذه القاعدة، أم لا؟
ومن هنا، يجدر بنا في إطار التحقيق في صحّة وسقم هذه القاعدة أن نعمل أوّلاً على بيان ملاحظات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ، ثمّ نعمل بعد ذلك على بحث ومناقشة سائر التقريرات الاُخرى المطروحة في هذه المسألة.
المقام الأوّل: رأي السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)
يرى السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) أنّ الإشكال الأهمّ الذي يرد بشأن عدم عقلية هذه القاعدة يكمن في عدم بداهتها؛ إذ يقول بأنّ هذه القاعدة إذا كانت حكماً بديهياً للعقل والفطرة، وأنّ العقل بدوره يحكم بقبح العقاب بلا بيان، لزم أن يذهب المتقدّمون من العلماء إلى القول بهذه النظرية أيضاً، في حين أنّنا لا نرى في كلماتهم أثراً لهذه القاعدة.
ورد في كتاب مباحث الاُصول:
أنّها ليست من البديهيات، وليست من مدركات العقل الفطري، بل إنّما هي من منتجات علم الاُصول ... ونبيّن أنّ هذه القاعدة مستحدثة، اختلف محدّثوها في حدودها وشؤونها بنحو يدلّ على أنّها أبعد ما تكون عن الفطريّة والبداهة[44].
يرى السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) أنّ هذه القاعدة إذا كانت عقلية وبديهية وفطرية، إذن لماذا لم يكن لها ـ بمفهومها الراهن ـ وجود في المراحل السابقة، بل لم تظهر بين الاُصوليين إلاّ في عصر الوحيد البهباني(رحمهالله)؟ ثمّ إذا كانت هذه القاعدة عقلية، إذن لماذا كثر اللغط بشأنها ـ بعد بيانها من قبل الوحيد البهبهاني(رحمهالله) وتأصيلها من قبل الشيخ الأنصاري(رحمهالله) ـ واختلف أكثر الفقهاء في بيان حدودها وثغورها.
من ذلك على سبيل المثال هناك اختلاف في جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات الحكمية، وقد ذكر السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في هذا البحث حكم حِداء الإبل في باب الغناء؛ حيث يذهب بعض المحقّقين إلى التشكيك في شمول هذه القاعدة للشبهات المفهومية؛ بمعنى أنّ «البيان» تامّ من ناحية المولى، ولكنّه مجمل؛ وقد ذهب بعض المحقّقين إلى القول بانتفاء البيان في مثل هذه الحالة بسبب الإجمال؛ لأنّهم يرون أنّ المراد من البيان هو الكلام الذي يدلّ عند المخاطب على المعنى المطلوب بشكل واضح لا لبس فيه. وكان هناك من العلماء من يُجري البراءة في الشبهات الموضوعية أيضاً. وبالتالي فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يذهب إلى الاعتقاد بأنّ الاُصوليين لم يكونوا على وفاق في بيان هذه المسألة، وقد تنزّلوا فيها واعتبروها بمثابة الدليل اللفظي[45]، وفي المجموع، فإنّ هذا كلّه يكشف عن أنّ هذه القاعدة لم تكن قاعدة اُصولية ثابتة عند الجميع، وإنّما تبلورت بفعل التطوّر الحاصل في علم الاُصول.
يقول السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في نقد رأيه:
(إن قلت): كم من المطالب التي لم يدركها المحقّقون السابقون وأدركها المتأخّرون، كوجوه التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، والفرق بين الواجب المشروط والمعلّق، والمطلق والمنجّز، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل. (قلت): عدم إدراك السابقين لمثل تلك المطالب يكون لأحد وجهين: الأوّل: دقّة المطلب وعمقه، فتفلسف اجتماع الحكم الظاهري والواقعي مثلاً ليس إلاّ أمراً دقيقاً يناسب عدم إدراك السابقين له من هذه الجهة، والمفروض أنّ البراءة العقليّة حكم من أحكام العقل العمليّ المدرِك للحُسن والقبح، وأمر بديهي فلا يعقل فيه هذا المنشأ، لعدم الإدراك. والثاني: عدم تصوّرهم لأطراف المطلب والتفاتهم إليها حتّى يدركوا حكماً في المقام، فلم يكونوا قد تصوّروا انقسام الحكم إلى واقعي و ظاهري حتّى يدركوا وجه الجمع بينهما، ولم يكونوا قد تصوّروا: أنّ الحكم مشروط تارة ومعلّق اُخرى، أو مطلق تارة ومنجّز اُخرى، كي يدركوا الفرق بين المشروط والمعلّق، أو بين المطلق والمنجّز. لكن الالتفات إلى تصوّرات القضيّة فيما نحن فيه كان حاصلاً لهم، فإنّك تراهم تكلّموا في الحظر والإباحة، والشكّ في المصلحة والمفسدة، وأنّ الأصل هل هو البراءة أو الاحتياط، أو هو الحظر أو الإباحة، أو التوقّف على اختلاف تعبيراتهم، وما إلى ذلك[46].
المقام الثاني: نقد رأي السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)
بعد التأمّل في ملاحظات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، يبدو أنّ أصل هذا التتبّع وإن تمّ بيانه بشكل صحيح، وأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان يتمّ تداولها في الغالب في علم الاُصول منذ عصر الوحيد البهبهاني(رحمهالله)، إلاّ أنّ النتيجة التي يذكرها من وراء هذا التتبّع ليست صحيحة؛ وذلك أوّلاً: لأنّ عقلية المسألة لا تساوق بداهتها. وثانياً: لم يتحدّث أيّ واحد من الاُصوليين عن فطرية أو بداهة هذه القاعدة، وكما تقدّم بيانه في معرض الحديث عن المرحلة التاريخية لهذا البحث، فقد قام البعض في تحليل هذه المسألة إلى بحثها على أساس الارتكاز العقلائي، وذهب آخرون إلى التأكيد على عناوين اُخرى، من قبيل عقلية هذه المسألة. وعليه: لم يتمّ تناول البداهة العقلية في هذه المسألة. غاية ما هنالك، ورد في بعض كلمات المحقّق العراقي(رحمهالله) في «نهاية الأفكار»، قوله:
لا ريب في أنّ من القضايا المسلّمة بين الأخباريين والاُصوليين، بل بين قاطبة العدلية، هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإنّه لا نزاع بينهم في أصل هذا الكبرى، إذ لا يتوهّم إنكارها ممّن له أدنى مسكة ودراية[47].
ومع ذلك، يمكن القول: إنّ المراد من هذا الكلام هو وضوح هذه القاعدة عند العلماء المتقدّمين، بيد أنّ هذا النوع من التعابير هو في واقع الأمر غير الادّعاء بأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة بديهية، من قبيل استحالة اجتماع النقيضين. ولو سلّمنا جدلاً أنّ المراد من هذا الكلام هو بداهة هذه المسألة عقلياً، لزم القول: إنّ البديهيات العقلية قد تتعرّض للتشكيك والإنكار أحياناً. وثالثاً: ليس هناك تلازم بين البداهة العقلية في بعض المسائل العلمية، وعدم طرحها في الأزمنة الماضية، من ذلك أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ على سبيل المثال ـ هي من بين الأبحاث البديهية التي لم تكن مطروحة في الأزمنة الماضية على نحو ما يتمّ تناولها حالياً في الاُصول المتأخّرة؛ وعليه: فإنّ مجرّد بداهة مسألة ما، لا يستلزم التعرّض لها، وبيانها في كلمات المتقدّمين، بل يبدو للذهن بقوّة أنّ المتقدّمين لم يكونوا بحاجة إلى البراءة العقلية؛ وذلك لأنّهم كانوا يمتلكون الكثير من الأدلّة النقلية والشرعية على البراءة، وكانت مسألة البراءة الشرعية في غاية الوضوح عندهم؛ بمعنى أنّهم كانوا يبحثون مسألة البراءة على طبق تلك الأدلّة، ولذلك فإنّه منذ عصر ابن زهرة لم يكن بحث الدليل العقلي على البراءة مطروحاً، حتّى تمّ تداول قاعدة قبح العقاب بلا بيان في هذا الشأن.
وقد صرّح السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في كلامه بهذا الأمر، حيث قال إنّ ابن زهرة (م: 585ق ) ـ من بين المتقدّمين ـ هو أوّل من ذكر عبارة البراءة العقلية[48]. ولذلك فإنّ هذا الأمر يشكّل جواباً آخر على إشكال السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، بمعنى أنّ الدليل على بداهة قاعدة ما، لا يستوجب حتميّة ذكرها في كلمات المتقدّمين؛ وذلك لأنّ العلوم المختلفة تشتمل دائماً على قواعد بديهية وعقلية واضحة، لم تكن موجودة في السابقة العلمية لتلك العلوم؛ وعليه: إذا أراد العلماء توضيح موضوع قاعدة عقلية، فهذا لا يعني أنّهم يتعاطون مع تلك القاعدة كما لو كانت قاعدة لفظية؛ فلو تمّ في تفسير قاعدة فلسفية، من قبيل: «الوجود مساوق للوحدة» ـ على سبيل المثال ـ من خلال أخذ كلّ واحدة من مفرداتها على انفراد، مثل: الوحدة أو الوجود، لا يعني هذا أنّ هذه القاعدة قد تنزّلت عن كونها قاعدة عقلية، ويتمّ التعامل معها كما لو كانت قاعدة لفظية.
المبحث الثاني الأفهام المتنوّعة في قاعدة قبح العقاب بلا بيان
لقد تعرّض السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في معرض كلامه إلى بيان مناشئ الالتزام بهذه القاعدة من وجهة نظر المتأخّرين. ثمّ ذكر الأدلّة المتنوّعة حول هذه القاعدة، وعمل على نقدها.
ومن هنا، يجب أوّلاً بيان هذا النوع من التقارير من وجهة نظر المحقّقين من الاُصوليين، مع بيان نقدها ومناقشتها من وجهة نظر السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) وغيره من الاُصوليين، ثمّ بيان رأي الاُستاذ في نقد وتحليل كلماتهم.
وعلى كلّ حال، فإنّه من خلال البحث في كلمات العلماء يتّضح أنّ هناك العديد من التفاسير لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهناك لبعضها بيان وتقريب أبسط، ولبعضها الآخر تقريب أعمق.
المقام الأوّل: رأي الشيخ الأنصاري(رحمهالله)، ونقده ومناقشته
لقد ذكر الشيخ الأنصاري أيسر التفاسير في تقريب قاعدة قبح العقاب بلا بيان. إذ أكّد في كتابه فرائد الاُصول على عقلية الحكم بقبح العقاب بلا بيان، واتّخذ من عدم اختلاف العقلاء في هذا الشأن، بوصفه شاهداً على مدّعاه. كما أنّه في مقام الردّ على ظنّية أصل البراءة، قد ذهب إلى الاعتقاد بأنّ اعتبار البراءة إنّما هو من باب حكم العقل القطعي بقبح التكليف من دون بيان[49].
وقد قال سماحته ضمن بيان الدليل الرابع على حجّية البراءة:
الرابع من الأدلّة حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف، ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلاً بتحريمه[50].
توضيح ذلك: أنّه يرى أنّ حكم العقل يقتضي أنّه إذا كان هناك تكليف في الواقع، ولكنّه لم يصل إلى المكلّف، ومن هنا فإنّ المكلّف سوف يخالف هذا التكليف في مقام العمل، ولكن الشارع لن يعاقبه على هذه المخالفة. وتحليل هذا المدّعى يكون بالرجوع إلى طريقة ومنهج الموالي العرفيين تجاه عبيدهم؛ إذ بناءً على الوجدان العُرفي والارتكاز العقلائي، إذا لم يقم العبد بعمل في مورد ما، وأراد المولى أن يوبّخه، يمكن للعبد أن يقول في جوابه: «ما علمت بصدور هذا الأمر». وعندها لن يكون للمولى حجّة في مؤاخذة العبد، ولن يمكن أن يُسائله. وبعبارة اُخرى: عندما نراجع الموالي والعبيد العرفيين، نجد أنّ عدم العلم بالحكم الواقعي (الأوّلي) والظاهري (الثانوي) يُقبل من المولى بوصفه عذراً للعبد، ولن يكون لديه الحقّ في معاقبة المكلّف على عدم فعل أمر يجهله.
وعلى هذا الأساس، فإنّ العقلاء يقبلون بهذا الأمر فيما يتعلّق بالموالي العرفيين وعبيدهم. ثمّ أخذ الاُصوليون يتوسّعون في هذا الأمر ويطبقونه فيما يتعلّق بالارتباط بين اللّه تبارك وتعالى والمكلّفين. وعليه: لو قال اللّه للمكلّف يوم القيامة: لماذا لم تمتثل التكليف؟ أمكن للعبد أن يحتجّ ويقول: لم أكن أعلم به. وإذا قال اللّه تعالى: لماذا لم تعمل بالاحتياط؟ أمكن للمكلّف أن يقول: لم أكن أعلم بوجوب الاحتياط أيضاً. وعندها تنقطع الحجّة على اللّه، ولا يمكنه مؤاخذة العبد. ومن هنا لن يكون استحقاق العقاب مطروحاً، وهذا هو الذي يتمّ التعريف عنه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وعليه: فإنّ هذا من جملة الأدلّة التي استند إليها الشيخ الأنصاري وجماعة من الاُصوليين. وبطبيعة الحال، لم يكن بحث الفطرية مطروحاً بينهم، وإنّما غاية ما هنالك هو مسألة الوجدان العُرفي والارتكاز العقلائي.
وقد أشكل السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على هذا الدليل، وقال: إنّ الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه هؤلاء العلماء الكبار، يكمن في قياسهم «مولوية اللّه تبارك وتعالى» بـ «مولوية الموالي العرفيين»، وافترضوها أمراً متعيّناً وقابلاً للتحديد، في حين أنّ «مولوية الموالي العرفيين» لا يمكن قياسها مع «مولوية اللّه تبارك وتعالى». ومن هنا، فإنّ نقد السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) نقد مبنائي يقوم على أساس مسلك حقّ الطاعة، وسوف يأتي بحث هذا المسلك ـ بطبيعة الحال ـ وتحليله بالتفصيل في المبحث الثاني، إن شاء اللّه تعالى.
المقام الثاني: رأي المحقّق النائيني(رحمهالله)، ونقده ومناقشته
كان المحقّق النائيني(رحمهالله) يؤكّد على عدم محرّكية التكليف إلاّ في ظرف الوصول، وذهب في كتابه «أجود التقريرات» إلى الاعتقاد بأنّ سبب التحرّك إذا لم يكن متوفّراً في بعض الموارد، كان العقاب على تركه قبيحاً؛ لأنّ التكاليف ـ مثل سائر الحقائق ـ إنّما يكون العلم بها هو السبب في تحقّق الإنفعال في النفس، وليس صرف وجودها الخارجي. ومن هنا فإنّه يقول:
حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان إنّما هو لأجل إنّ الأحكام الواقعية بعد وضوح أنّها لا تكون محرّكة للعبد إلاّ بالإرادة، لا يعقل محركيتها إلاّ بعد الوصول ضرورة عدم إمكان الانبعاث إلاّ عن البعث بوجوده العلمي دون الخارجي، فكما أنّ الأسد الخارجي لا يوجب التحرّز والفرار عنه إلاّ بعد محرزية وجوده، فكذلك الحرمة المجعولة من الشارع لا يترتّب عليها الانزجار إلاّ بعد وصولها، وقبله لا اقتضاء له للمحركيّة أبداً، وإنّما يتمّ محركيّته بالإرادة وفي فرض الانقياد بالوصول وإحرازه، وأمّا الحكم المحتمل فهو بنفسه غير قابل للمحركيّة أيضاً، لتساوي احتمال الوجود مع احتمال عدمه. نعم، يصحّ كونه محرّكاً بضميمة خارجية مثل كون العبد في مقام الاحتياط ونحو ذلك، وإذا كان الحكم بوجوده الواقعي غير قابل للمحركيّة أصلاً ووجوده الاحتمالي غير قابل لها بنفسه، فالعقاب على مخالفته عند عدم وصوله عقاب على مخالفة حكم لا اقتضاء له للمحرّكية، ولا ريب في قبح ذلك، كما يظهر ذلك بأدنى تأمّل في أحوال العبيد مع مواليهم العرفية[51].
توضيح ذلك: أنّ الأحكام الواقعية في دائرة التشريع، لن تصل إلى مرحلة المحرّكية بالنسبة إلى المكلّف إلاّ بعد وصولها إليه؛ بمعنى أنّ مجرّد وجود حكم في واقع الأمر، لا تكون له قابلية الانبعاث، في حين أنّ البعث والانبعاث يتوقّف على وجود العلم، بمعنى أنّ المكلّف يلزم أن يحصل لديه علم بذلك التكليف الواقعي وأن يحرزه؛ فكما أنّ نفس الوجود الواقعي للأسد لا يستوجب اجتنابه والتحرّز عنه، بل إنّ الذي يستوجب اجتنابه والتحرّز منه إنّما هو العلم بوجوده، كذلك الأمر بالنسبة إلى التكليف المحتمل أيضاً؛ إذ كما يوجد هناك احتمال وجوده، يوجد احتمال الخلاف أيضاً، ولذلك فإنّ وجود هذا الاحتمال يكون سبباً في عدم اشتماله على عنوان المحرّكية. وعلى هذا الأساس، فإنّ التكليف المحتمل في نفسه لا يشتمل على المحرّكية، إلاّ بضمّ قيد خارجي، بمعنى أنّ التكليف المحتمل إنّما يكون مشتملاً على المحرّكية إذا اُضيف له قيد أنّ العبد في مقام الاحتياط، إلاّ أنّ نفس التكليف المحتمل لا محرّكية له في حدّ ذاته، وحيث لا محرّكية له، فلا معنى لمخالفته؛ بمعنى أنّ التكليف الذي لا ينطوي على بعث وانبعاث أو محرّكية، لا يكون هناك معنى لمخالفته، وإذا لم يكن هناك معنى لمخالفته؛ إذن لا يكون هناك معنى للمعاقبة على تركه أيضاً.
والنتيجة هي أنّ المراد من البيان هو البيان الواصل؛ إذ أنّ التكليف الذي لا يكون مبيّناً، أو الذي يكون مبيّناً ولا يكون واصلاً، لا محرّكية له، ومع عدم المحرّكية، لا معنى للعقاب عليه، ويكون العقاب عليه قبيحاً من الناحية العقلية؛ وذلك لأنّ تفويت المحتمل والمطلوب لا يستند إلى المكلّف، وهذا الأمر يتّضح من خلال الرجوع إلى الموالي العرفيين أيضاً.
وقد ذكر المحقّق النائيني(رحمهالله) هذا الأمر بتقرير مختلف في كتابه «فوائد الاُصول» حيث قال:
وأمّا العقل: فحكمه بالبراءة ممّا لا يكاد يخفى، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّ وجوده، ولا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلّف، فإنّ وجود البيان الواقعي، كعدمه غير قابل لأن يكون باعثاً ومحرّكاً لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي. فتوهّم: أنّ البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي ـ سواء وصل إلى العبد أو لم يصل ـ فاسد، فإنّ العقل وإن استقلّ بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي، إلاّ أنّ استقلاله بذلك لمكان أنّ مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتمّ، فلا إرادة في الواقع، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب، لأنّه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعاً، بخلاف البيان الغير الواصل، فإنّه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعاً، إلاّ أنّ فواته لم يستند إلى المكلّف بعد إعمال وظيفته، بل فواته إمّا أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفِ مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة، وإمّا أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلّف، وعلى كلّ تقدير: لا يستند الفوات إلى العبد، فلأجل ذلك يستقلّ العقل بقبح مؤاخذته، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي، غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلّف[52].
توضيح ذلك: أنّ المولى إذا لم يبيّن التكليف، أو بيّنه ولكنه لم يصل إلى العبد رغم قيامه بالبحث والفحص، ونتيجة لذلك سوف يفوته امتثال التكليف، تكون مؤاخذة العبد والمكلّف على ترك ذلك التكليف ـ في مثل هذه الحالة ـ قبيحة من الناحية العقلية، وبطبيعة الحال، فإنّ فوت أو تضييع التكليف وإن كان في كلتا الحالتين لا يستند إلى المكلّف، إلاّ أنّ قبح العقاب العقلي يكون بملاكين مختلفين؛ إذ في المورد الأوّل لا يكون للمولى بيان أصلاً؛ وعليه: لا تكون له إرادة؛ وإذا لم تكن له إرادة لا يكون له مراد، وحيث لا يكون له مراد لا يكون له مطلوب، وحيث لا يكون له مطلوب يكون تفويت المطلوب بلا معنى [إذ هو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع]؛ ومع ذلك، فإنّ فوت التكليف في المورد الثاني إمّا أن يكون مستنداً إلى المولى؛ حيث كان يجب عليه أن يبيّنه بحيث يصل إلى المكلّف، أو أنّه بسبب الموانع الخارجية، من قبيل وجود العدوّ، غاب أو خفي مراد المولى عن المكلّف؛ فعلى كلّ حال، يثبت حكم العقل المستقلّ بقبح مؤاخذة العبد في هذا النوع من الموارد والحالات.
وبالنتيجة أنّ سماحته يؤكّد في هذا التقرير على هذه النقطة، وهي أنّه في حال عدم وصول البيان، لن يكون فوت التكليف المطلوب مستنداً إلى العبد، في حين أنّ العقاب إنّما يكون صحيحاً إذا كان الفوت مستنداً إلى العبد.
الفقرة الاُولى: إشكال السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على رأي المحقّق النائيني(رحمهالله)، ونقده
يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى تقسيم المحرّكية إلى قسمين، وهما:
القسم الأوّل: المحرّكية التكوينية الناشئة عن وجود غرض واقعي نحو الشيء، والذي ينسجم مع واحد من القوى أو الرغبات البشرية.
القسم الثاني: المحرّكية التشريعية، وهي عبارة عن حكم العقل بضرورة التحرّك، سواء أكان هناك غرض من الأغراض البشرية في هذا المورد، أو لا يكون هناك مثل هذا الغرض أصلاً.
إنّ المراد من المحرّك التكويني ـ من وجهة نظر سماحته ـ أن يكون الشيء بمقتضى العقل أو الطبع الإنساني ـ الأعمّ من الانسجام الروحي أو النفور النفسي ـ قد بلغ حدّاً تغلّب معه على التعب والنصب، ويمكن أن يكون ذلك سبباً لتحريك الشخص، من قبيل حركة الظمآن نحو حفر الأرض للوصول إلى ماء للشرب، أو القصد إلى الفرار من الأسد المفترس، رغم ما ينطوي عليه ذلك من العناء والتعب. وكذلك فإنّ المراد من المحرّكيّة التشريعية هو ذلك الشيء الذي يقتضي التحريك على أساس الحُسن والقبح بالنسبة إلى حقوق المولى، وكذلك ضرورة الطاعة وترك المعصية بحكم العقل العملي.
وعلى هذا الأساس، إذا كان مراد المحقّق النائيني(رحمهالله) هنا هو المحرّك التكويني، فإنّ الشيء بسبب وجوده الواقعي لا يشتمل على محرّكية تكوينية بشكل قهري؛ وذلك لأنّ الوجود الواقعي ليس من مبادي الإرادة والتحرّك، ولا دخل له في الغرض النفسي أيضاً، وإنّما يكون محرّكاً بوجوده الواصل؛ وذلك لأنّ القيام بالفعل عمل إرادي يحتاج إلى الوصول بطبيعة الحال.
وهنا يلزم القول إنّ الوصول له مراتب مختلفة من قبيل: اليقين، والظنّ، والاحتمال، والوهم، وبذلك يكون الوصول المحتمل واحداً من بين هذه المراتب، وبحسب تفاوت درجة الأهمّية في مقام التزاحم، تختلف درجات المحرّكية أيضاً؛ بحيث يمكن القول إنّ المحرّكية في بعض الموارد إنّما تأتي من احتمال وجود المطلوب فقط. وبعبارة اُخرى: قد يكون الظمآن في وسط الصحراء بحيث لا يرجو العثور على الماء في المناطق القريبة منه، وعليه لا يكون لتحرّكه معنى في مثل هذه الحالة بطبيعة الحال؛ إذ أنّ مجرّد الوجود الواقعي للشيء لا يؤثّر في النفس، ولا يكون سبباً لعقد العزم والإرادة أو تحريك النفس نحو ذلك الأمر؛ وتارة يحتمل هذا الشخص وجود الماء قريباً منه، وهذا الاحتمال بدوره وإن كان يقع في مرتبة نازلة، ولكنّه يعدّ ـ مثل العلم ـ مرتبة من الوصول نوعاً ما، وإن كانت قدرته التحريكية رهناً بمقدار أهمّية ذلك الغرض؛ بحيث أنّه في مثال الشخص الظمآن يكون عطشه إلى شرب الماء بحيث يبادر إلى البحث عن الماء في منطقة رغم ضعف احتمال وجود الماء هناك، ولا ينتظر حصول اليقين بوجود الماء، وتارة يكون عطشه قليلاً بحيث لا يجد البحث عن الماء في المناطق القريبة منه أمراً يستحقّ العناء، ولا يكلف نفسه مشقّة البحث عنه.
وبالتالي فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، يبيّن إشكاله على النحو الآتي:
ومن الواضح أنّ حقّ الطاعة هو محلّ الكلام في المقام على ما ذكرناه سابقاً، من أنّ هذه المسألة ترجع في روحها إلى حقّ الطاعة، وهل إنّ حقّ الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة، أو أنّه يشمل المشكوكة أيضاً؟ فإذا كان أعمّ فهذا معناه: أنّ المحرّك المولوي يكون باحتمال التكاليف، وعليه: نقول للميرزا(قدسسره): ما ذا تقصدون من أنّ هذا التحريك بلا موجب، ومعه فلا يكون مستحقّاً للعقاب؟ هل تقصدون أنّ هذا التحريك بلا موجب تكويني؟ إن كان هذا ما تقصدون فهذا صحيح، لأنّ كلّ فاسق وفاجر لم يتحرّك لعدم الموجب التكويني، إلاّ أنّ هذا لا يعني معذوريته وعدم موجبيّته للعقاب. وإن كان مقصودكم من عدم الموجب للتحريك هو عدم الموجب العقلي، فهذا أوّل الكلام، لأنّ هذا الكلام مرجعه إلى دعوى أنّ حقّ الطاعة غير ثابت في موارد احتمال التكليف، فإذا ادّعي هذا، يكون هذا نفس المدّعى، وهو مصادرة على المطلوب[53].
إنّ السيّد الشهيد يبيّن أصل إشكاله على رأي المحقّق النائيني(رحمهالله)، قائلاً: إنّ جوهر بحث المحرّكية يعود إلى مسألة حقّ الطاعة، وما إذا كانت المحرّكية الناشئة عن حقّ إطاعة المولى تقتصر على خصوص التكاليف الواصلة، أو تشمل حتّى التكاليف المشكوك بها والمحتملة أيضاً؟ وبعبارة اُخرى: إنّ المحرّكية ليست من الخصائص المنحصرة بالعلم فقط، بل إنّ الاحتمال له قابلية التحريك على أساس الأغراض والغايات الإنسانية أيضاً؛ غاية ما هنالك أنّ مراتب الانكشاف تؤثّر في شدّة المحرّكية، لا في أصلها.
وبعد هذا البيان، لو اعتبرنا حقّ الطاعة بالمعنى الأعمّ، فإنّ المحرّكية المولوية سوف تكون ثابتة حتّى مع احتمال التكليف أيضاً. ومن هنا، يلزم أن نسأل المحقّق النائيني(رحمهالله): ما هو مرادك من القول بأنّ التحريك في الموارد المحتملة لا يستند إلى سبب أو دليل، وبالتالي عدم اعتبار العبد بسبب عدم امتثاله مستحّقاً للعقاب؟
إن كان المراد هو عدم الموجب التكويني، كان ذلك صحيحاً؛ إذ لن ينبعث أيّ فاسق بسبب عدم الموجب التكويني، بيد أنّ هذا لا يعني معذريته وعدم استحقاقه للعقاب؛ وإذا كان المراد عدم الموجب العقلي، كان هذا الكلام هو أوّل الدعوى؛ وذلك لعودة هذا الكلام إلى عدم ثبوت حقّ الطاعة في موارد احتمال التكليف؛ وهذا يعدّ في حدّ ذاته مصادرة على المطلوب.
توضيح ذلك: أنّ المحرّكية التشريعية (المولوية أو العقلية) إذا تمّ اعتبارها بمحورية حكم المولى، كان روحها ومرجعها إلى مسألة حقّ الطاعة؛ حيث أنّ حكم العقل بلزوم الطاعة وترك المعصية متفرّع عن مقدار سعة وضيق الحقّ المولوي. فإذا افترضنا ثبوت هذا الحقّ المولوي حتّى بالنسبة إلى الموارد المحتملة، كان مقتضى التحريك موجوداً فيه أيضاً؛ بمعنى أنّه بالرجوع إلى العقل العملي من الممكن أن نفهم ما إذا كان العقل من شأنه أن يكون موجباً للتحريك ويحكم بلزوم الامتثال حتّى في الموارد المشكوكة والمحتملة الوصول أيضاً (إلاّ إذا وصل ترخيص ظاهري من ناحية المولى) أم لا. هذا في حين أنّ المحقّق النائيني(رحمهالله) لا يرتضي المحرّكية في موارد احتمال الوصول؛ ومن هنا فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)يعتبر هذا الإشكال ـ بالنظر إلى مبناه ـ مصادرة على المطلوب؛ بمعنى أنّ كلّ مكلّف يذهب في حالة الشكّ في التكليف إلى الاعتقاد بمسلك حقّ الطاعة، يقول بوجود المحرّكية المولوية حتّى في مثل هذه الحالة أيضاً، وأنّ الوصول المحتمل يمكنه أن يكون موجباً للتحريك أيضاً[54].
وعلى هذا الأساس، لتحقيق هذا البحث يلزم أن نرى ما هي حدود حقّ الطاعة؟ ومن هنا، يكون نقد سماحة السيّد الشهيد نقداً مبنائياً، وسوف تتّضح مناقشته في الأبحاث القادمة، إن شاء اللّه تعالى.
الفقرة الثانية: إشكال المحقّق الروحاني(رحمهالله) على رأي المحقّق النائيني(رحمهالله)، ونقده
وأشكل السيّد الروحاني(رحمهالله) على رأي المحقّق النائيني(رحمهالله) أيضاً، حيث ذهب إلى الاعتقاد بأنّ مخالفة العبد في مقام العمل أمر اختياري، ومن هنا فإنّه قال في نقد رأي المحقّق النائيني(رحمهالله):
أمّا ما جاء في تقريرات الكاظمي ففيه: أنّه إنّما يصحّ لو كان المحتمل أو المدّعى هو ترتّب العقاب على نفس عدم الوصول، إذ يقال: إنّ العقاب على أمر خارج عن اختيار المكلّف. ولكنّ الأمر ليس كذلك، إذ الكلام في ترتّب العقاب على نفس مخالفة التكليف المشكوك، وهو عمل اختياري للمكلّف، لالتفاته كما هو المفروض. ولم يتعرّض لدفع احتمال ترتّب العقاب على ذلك، بل هو مغفول عنه في الكلام بالمرّة[55].
توضيح ذلك: أنّ ترتّب العقاب إذا كان معلولاً لعدم الوصول، سوف يكون كلام المحقّق النائيني(رحمهالله) صحيحاً؛ بمعنى أنّه فيما إذا كان التكليف المحتمل موجوداً، فإذا أراد اللّه أن يعاقب العبد، كان عقابه لا محالة معلولاً لعدم الوصول، وعدم الوصول أمر غير إرادي وخارج عن قدرة المكلّف، فالعقاب في هذا الفرض قبيح. وبعبارة اُخرى: إذا كان الملاك مرتبطاً بعدم الوصول فهو خارج عن اختيار المكلّف، وليس التكليف في هذا الفرض مقدوراً للمكلّف. وعليه: لا يمكن للشارع أن يعاقب المكلّف على أمر غير مقدور له، إلاّ أنّ واقع المسألة ليس كذلك؛ وإنّما المسألة هي أنّ الشخص الذي يحتمل التكليف الواقعي، وكان يمكنه أن يسلك طريق الاحتياط من الناحية العملية، وأن لا يأتي بما يخالف التكليف الواقعي، ولكنّه مع ذلك يتعمّد ترك الاحتياط عملاً، ويخالف التكليف الواقعي؛ بمعنى أنّ الشخص المكلّف كان يحتمل أن يكون التكليف واجباً، ومع ذلك لا يمتثله، أو كان يحتمل أن يكون التكليف حراماً، ومع ذلك يقترفه؛ وبذلك يكون مخالفاً للحكم الواقعي الذي احتمله.
بعبارة اُخرى: إنّ المدّعى هو ترتّب العقاب على ذات مخالفة التكليف المشكوك؛ بمعنى التكليف الذي يكون المكلّف ملتفتاً إليه ويحتمل وجوده، ويكون بإمكانه أن يسلك طريق الاحتياط، وأن يأتي به في مقام العمل بإرادته واختياره، ولكنّه لا يسلك طريق الاحتياط، وبذلك يكون مخالفاً لذلك التكليف المحتمل؛ وعليه: لا تكون مخالفته خارج قدرته، بمعنى أنّها سوف تكون مخالفة للأمر المقدور، وسوف يكون عقاب الشارع على هذا الأمر المقدور. وهذه هي ذات النقطة التي تمّت الغفلة عنها في تقرير المحقّق النائيني(رحمهالله) ؛ وذلك لأنّ المحقّق النائيني(رحمهالله) قد أقام البحث برمّته على مدار عدم الوصول، معتقداً أنّ عدم الوصول أمر غير إرادي، ويقبح العقاب على الأمر غير الإرادي، في حين أنّ هناك افتراضاً آخر في هذا الشأن.
إنّ الإشكال الثاني للسيّد الروحاني(رحمهالله) على المحقّق النائيني(رحمهالله) أنّ استدلاله لا ينسجم مع مبناه في باب حقيقة الحكم. ومن هنا، فإنّه لم يرتض البيان الثاني للمحقّق النائيني(رحمهالله)، وقال:
أمّا ما جاء في أجود التقريرات: فإن كان مراده من كون العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل عقاباً بلا مقتض، هو ما يلتزم به المحقّق الإصفهاني من أنّ فعليّة التكليف بالوصول، فلا تكليف بدون الوصول، فهو يتنافى مع مسلكه من أنّ التكليف له وجود واقعي فعليّ بفعليّة موضوعه ولو مع عدم الوصول. وإن لم يكن مراده ذلك، فلماذا لا يصحّ العقاب مع تحقّق موضوعه وهو مخالفة التكليف الفعلي؟ وإن كان مراده من عدم المقتضي عدم الوجه المصحّح، فهو أوّل الكلام ونفس المدّعى، فلا معنى للاستدلال على المدّعى بنفسه. فكلامه(قدسسره) في كلا تقريريه لا يمكن الالتزام به[56].
يرى المحقّق النائيني(رحمهالله) أنّ فعليّة التكليف رهن بفعليّة الموضوع، ولا شرطية فيه للوصول إلى المكلّف؛ بحيث لو التفت إلى ذلك لاحقاً وجب عليه القضاء. وعلى هذا الأساس، فإنّه طبقاً لمبنى النائيني(رحمهالله)، يكون هناك حالياً وجوب فعليّ للصلاة بالنسبة إلى الكفار الذين لم يكن لديهم في السابق علم بالإسلام وأحكامه، على طبق القواعد الأوّلية، من قبيل: قاعدة «الكفّار مكلّفون بالفروع كما أنّهم مكلّفون بالاُصول». ولكن بعد أن يُسلم الكافر، تكون قاعدة «الإسلام يجبّ ما قبله» حاكمة على القواعد الأوّلية. ولكن على كلّ حال، فإنّ تكليف الكفّار حال جهلهم، لا يحتوي على محرّكية فعلية، ولذلك فإنّه إذا لم يعلم بالإسلام أصلاً، لا يكون عليه عقاب.
وعلى هذا الأساس، فإنّ عقاب العبد على المخالفة، لن يكون عقاباً من دون مقتض؛ في حين أنّه طبقاً لكلامه هنا لا يكون للتكليف فعلية دون الوصول إلى المكلّف، وما دام لم يصل إلى المكلّف، لن يتحقّق التكليف الحقيقي أصلاً، وهذا هو مبنى المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) في باب حقيقة الحكم، حيث يعتبر الوصول شرطاً في فعليته.
وعلى كلّ حال، إذا لم يكن المحقّق النائيني(رحمهالله) قد أراد هذا المعنى، وكان مراده أنّ الوصول حيث لم يتحقّق، لا يكون هناك معنى للعقاب، يجب القول في جوابه: إنّ موضوع العقاب هو «المخالفة»، وإنّ الشخص الذي يتجاهل التكليف الواقعي ولا يأتي به رغم احتمال وجوده، يكون قد حقّق بمخالفته موضوع العقاب.
ولكن يبدو أنّه قد حصل خلط في نقده؛ إذ أنّ كلام المحقّق النائيني(رحمهالله) لا يدور حول محور اختيارية، أو عدم اختيارية العمل بالتكليف المحتمل، كي نفترض العقاب على أمر اختياري وإرادي، بل إنّ المحقّق النائيني(رحمهالله) يؤكّد على تفويت مطلوب المولى، بمعنى أنّ المكلّف وإن كان يمكنه الاحتياط باختياره، كي لا يفوّت المراد الواقعي، ولكن تفويت التكليف أوّلاً وبالذات، على الرغم من الفحص والبحث عن البيان، لا يستند إلى المكلّف، وإنّما يستند إلى المولى، ولذلك لا يمكن للشارع المقدّس أن يعاقب العبد على مخالفة التكليف المحتمل.
وببيان أوضح: حيث أنّ التكليف لم يصل بعد، ولكن يحتمل صدوره، لو أنّ المكلّف لم يرتّب الأثر على هذا الاحتمال وقام بمخالفته، وتمّ تفويت مطلوب المولى، فإنّ هذا التفويت لا يستند إلى المكلّف أوّلاً وبالذات، ومن هنا فإنّه على الرغم من أنّ المكلّف قادر على موافقة التكليف المحتمل في مقام العمل، لكي يتمّ تحصيل غرض المولى، ولكن لا لزوم للإتيان بالعمل، والبحث في الأصل يدور حول لزوم وعدم لزوم الموافقة مع التكليف المحتمل، ولا يدور حول مسألة الإرادة والاختيار.
ومع ذلك، يبدو أنّه على الرغم من أنّ قيود التكليف إذا كانت فعلية، يصل التكليف ـ من وجهة نظر المحقّق النائيني(رحمهالله) ـ إلى الفعلية أيضاً، إلاّ أنّ هذا التكليف الفعلي لا يترتّب عليه العقاب؛ وذلك لأنّ العقاب إنّما يتحقّق إذا كان التكليف الفعلي محرّكاً بالفعل أيضاً؛ في حين أنّ المحقّق النائيني(رحمهالله) يفصل بين هذين الأمرين؛ وعندما لا يكون التكليف محرّكاً بالفعل، لا يكون هناك معنى لاستحقاق العقاب على مخالفته. إذن فالإشكال القائل بكفاية مخالفة التكليف المحتمل والمشكوك في استحقاق العقاب هو أوّل الكلام؛ بمعنى أنّ الإرادة الفاعلية للعبد في إتيان المأمور به وإن كانت معلولة لإرادة الشارع، إلاّ أنّ مجرّد المراد الواقعي للشارع ليس له تأثير في إرادة العبد، بل إنّ المهمّ في انبعاث المكلّف هو الوجود العلمي للحكم وإحرازه.
وعلى هذا الأساس، يكون رأي المحقّق النائيني(رحمهالله) في تقرير قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» صحيحاً وتامّاً، ولا تكون إشكالات صاحب المنتقى واردة عليه. ومن هنا، فإنّ التكليف المحتمل لا تثبت له المحرّكية؛ إذ هناك فرق ـ من وجهة نظر النائيني(رحمهالله) ـ بين مسألة الفعلية ومسألة المحرّكية، بمعنى أنّ التكليف قد تكون له فعلية، ولا يشترط فيه الوصول إلى المكلّف؛ بمعنى أنّ التكليف يخرج من مرحلة الإنشاء ويصل إلى مرحلة الفعلية، حتّى إذا حصل العلم به للعبد لاحقاً، وجب عليه القضاء والإعادة؛ وأمّا إذا كان فعلياً ولم يكن محرّكاً، لا يكون هناك معنى للمخالفة مع عدم المحرّكية، وإذا لم يكن هناك معنى للمخالفة، لا يكون العقاب صحيحاً؛ بمعنى أنّ مخالفة التكليف المشكوك والمحتمل لا يمكن أن تكون موضوعاً للعقاب، إلاّ إذا كان التكليف المحتمل بنفسه منضمّاً إلى قيد في مقام الاحتياط، وعندها تثبت له المحرّكية.
توضيح ذلك: أنّ فعلية التكليف ـ من وجهة نظر المحقّق النائيني(رحمهالله) ـ رهن بفعلية الموضوع؛ ومن هنا لو بلغت قيود هذا التكليف مرحلة الفعلية، فإنّ التكليف بدوره سوف يصل إلى مرحلة الفعلية أيضاً، إلاّ أنّ هذا التكليف الفعلي لا يترتّب عليه العقاب؛ لأنّ العقاب إنّما يكون متحقّقاً حيث يكون التكليف الفعلي محرّكاً بالفعل أيضاً، في حين أنّ التكليف هنا لا يمتلك حتّى صلاحية التحريك واقتضاء الداعي، كي يكون موجباً للانبعاث.
ولكن يجب الالتفات إلى أنّ المحقّق النائيني(رحمهالله) يفصل بين هذه الموارد، بمعنى أنّ التكليف إذا لم يكن محرّكاً بالفعل، فإنّ هذا التكليف المشكوك في نفسه حتّى إذا كان فعلياً، لا يكون هناك معنى لاستحقاق العقاب على مخالفته. وعليه: فإنّ الإشكال القائل بأن مخالفة التكليف المشكوك تكفي لاستحقاق العقاب، هو أوّل الكلام؛ لأنّ محلّ النزاع إنّما يدور حول ما إذا كانت مخالفة التكليف المشكوك كافية لاستحقاق العقاب من قبل الشارع أم لا؟ بمعنى أنّ القائلين بقبح العقاب بلا بيان يرون أنّ مخالفة التكليف المشكوك لا يمكن لها أن تكون موضوعاً للعقاب؛ وذلك لأنّ الانبعاث مقيّد بالعلم والوصول، وإنّ التكليف الذي لا يقبل البعث، تكون المؤاخذة على عدم الانبعاث به بدورها قبيحة؛ لا سيّما بالالتفات إلى أنّ فوت مراد المولى لا يستند إلى المكلّف؛ في حين أنّ صاحب المنتقى قد اعتبر مخالفة مع التكليف المشكوك موضوعاً للعقاب.
المقام الثالث: رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، ونقده ومناقشته
إنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ـ من خلال تأكيده على أنّ كلّ خطاب لا يمكنه أن يكون سبباً للانبعاث ـ يقول بشرطية الوصول في حقيقة الحكم، وقال في ذلك:
نحن وإن ذكرنا مراراً أن مدار الاطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي، وأنّ الحكم الحقيقي متقوّم بنحو من أنحاء الوصول، لعدم معقولية تأثير الإنشاء الواقعي في انقداح الداعي. وحينئذٍ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول، فلا مخالفة للتكليف الحقيقي فلا عقاب، فإنّه على مخالفة التكليف الحقيقي. إلاّ أنّ عدم العقاب لعدم التكليف أمر، وعدم العقاب لعدم وصوله أمر آخر، وما هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الثاني، دون الأوّل. مضافاً إلى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ممّا اتّفق عليه الكلّ، وتقوّم التكليف بالوصول مختلف فيه[57].
يذهب المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ الطاعة والمعصية تدوران مدار الحكم الحقيقي، وإنّ مدار الحكم الحقيقي بدوره رهن بأحد أنحاء الوصول إلى المكلّف، فإذا لم يصل إلى المكلّف، لا يكون هناك تكليف حقيقي؛ إذ لا معنى لأن يكون هناك تأثير لمجرّد الإنشاء الواقعي في خلق الداعي إلى التحرّك والانبعاث. وعليه: إذا لم يكن هناك تكليف حقيقي، لا يكون هناك معنى للمخالفة أيضاً، وإذا لم تتحقّق المخالفة، لا يكون هناك معنى لاستحقاق العقاب والمؤاخذة أيضاً.
وبعد ذكر هذه المقدّمة، عمد المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) إلى بيان رأيه حول مجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان على النحو الآتي: إنّ عدم العقاب في موارد عدم وجود التكليف في الواقع أصلاً، يختلف عن قبح العقاب بسبب عدم وصول التكليف بشكل كامل؛ بمعنى أنّ ملاك هذين الأمرين مختلف، ومن هنا فإنّه في مورد عدم وجود تكليف منذ البداية، لا تكون قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» جارية.
ومن هنا، فإنّه بناءً على رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ما دام التكليف غير واصل إلى المكلّف لا تثبت له الفعلية؛ بمعنى أنّ الوصول معتبر في فعلية التكليف. وبالتالي، فإنّه مع عدم الوصول لا يكون هناك معنى للمخالفة، وعليه لا يكون العقاب صحيحاً؛ في حين أنّ المشهور يذهب إلى الاعتقاد بأنّ قوام الحكم لا يكون بالوصول إلى المكلّف، وإنّ الحكم يبلغ مرحلة الفعلية، سواء وصل إلى المكلّف، أم لم يصل.
وعلى هذا الأساس، فإنّ البراءة العقلية وقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» أمر متّفق عليه؛ في حين أنّ الوصول في الفعلية أمر خلافي، وقد ذهب البعض كالآخوند الخراساني إلى التفريق بين مرحلة الفعلية (البعث والزجر) ومرحلة التنجيز؛ أي طبقاً لمبناه قد لا يتنجّز الحكم بسبب عدم الوصول، وفي الوقت نفسه يكون هذا الحكم فعلياً.
توجيه قاعدة قبح العقاب بناءً على الرأي المشهور
كما تقدّم ذكره في عبارة المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، فإنّه قد عمد إلى توجيه هذه المسألة على طبق الرأي المشهور أيضاً؛ معتقداً أنّ قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» واحدة من مصاديق قبح الظلم؛ ولكنّه ـ خلافاً للمشهور ـ يذهب إلى الاعتقاد بأنّ الظلم من حيث هو ليس قبيحاً[58]؛ بمعنى أنّه ليس حكماً عقلياً أوّلياً. بل إنّ ملاك حُسن وقبح العقل العملي يعود بدوره من وجهة نظره إلى الأحكام العقلائية والقضايا المشهورة، حيث يتّفق عليها جميع العقلاء من أجل الحفاظ على النظام الإنساني، والإبقاء على نوع البشر؛ إذ أنّ المولى إذا لم يُقم للعبد حجّة ودليلاً في هذا المورد، وخالفه العبد بدوره، لا يكون خارجاً عن ربقة العبودية، ولا يُعدّ مخالفاً لشؤون العبودية، وعليه إذا أراد المولى معاقبة المكلّف على مخالفته، كان ذلك ظلماً، بمعنى أنّ العقوبة على شيء لا يستحقّ العقوبة، تستوجب فساد النوع، واختلال النظام.
وعلى هذا الأساس، فإنّ مقتضى العبودية لا يكمن في الاجتناب عن مخالفة الحكم الواقعي للمولى؛ بل يجب اجتناب مخالفة الأحكام التي قامت الحجّية عليها؛ إذ أنّ عقاب المولى على مخالفة لا يُعدّ اجتنابها من مقتضيات العبودية، سوف يُعدّ ظلماً؛ بمعنى أنّه يستوجب فساد نوع البشر واختلال النظام، ولذلك يكون هذا النوع من العقاب قبيحاً بحكم العقل.
الفقرة الاُولى: إشكال السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)
لقد أشكل السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على بيان المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) في بيان قاعدة قبح العقاب بلا بيان:
من قال إنّ الإنشاء لا يعقل أن يكون باعثاً ومحرّكاً إلاّ في حالة الوصول القطعي، فإنّه يمكن أن يكون محرّكاً في حالة الوصول الاحتمالي أيضاً بناءً على ما ندّعيه من سعة دائرة حقّ الطاعة للمولى عليهالسلام؛ وحينئذٍ فيُعقل إنشاء الوجوب بداعي أن يكون محرّكاً، ولو في حالة الشكّ[59].
وعليه: يجب في تحقيق البحث أن نرى ما هي حدود حقّ الطاعة؟ ومن هنا، فإنّ نقده سوف يكون نقداً مبنائياً، وسوف يتّضح في المبحث القادم.
الفقرة الثانية: إشكال السيّد الروحاني على رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، ونقده ومناقشته
كما أشكل المحقّق الروحاني(رحمهالله) على رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، حيث ذهب إلى الاعتقاد بوجود إشكالين على مبناه القائل بأنّ حقيقة الحكم وفعليّته تتقوّم بالوصول:
الإشكال الأوّل: إنّه طبقاً لمبنى المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) يجب أن يشتمل الحكم على داعويّة بالفعل، في حين أنّ جعل مقتضى الداعويّة يكفي في التكليف، وبطبيعة الحال فإنّ اقتضاء داعويّة ومحرّكية التكليف لن تكون متقوّمة بالوصول. وعليه: ليس من الضروري أن تكون للحكم محرّكية بالفعل. ومن هنا، لو أنّ المولى قد كلّف العبد، وكان على يقين من أنّ العبد لن يمتثل التكليف وإنّه سوف يعصي، سوف يكون التكليف صحيحاً؛ في حين إنّه لم يكن مشتملاً على داعويّة بالفعل، وإنّما هو مشتمل على مقتضى الداعويّة فقط.
توضيح ذلك: أنّه على مبنى المشهور إذا كان الحكم مشتملاً على اقتضاء الداعويّة وكان المقتضي فيه موجوداً، ولكنّه حيث لم يصل الآن إلى المكلّف ولم يطّلع عليه، لا يكون مشتملاً بالفعل على الداعي والمحرّك، لن يكون هناك إشكال في ذلك؛ من ذلك أنّ الأحكام الشرعية ـ على سبيل المثال ـ تحتوي في الوقت الحاضر على اقتضاء الداعويّة بالنسبة إلى الكفّار، ولكن الداعي غير موجود بالفعل؛ لكونهم يجهلون الأحكام. وعلى هذا الأساس، فإنّ الإشكال الأوّل سوف يكون إشكالاً مبنائياً.
الإشكال الثاني: إنّ «احتمال وجود التكليف» بدوره يشتمل على اقتضاء وإمكان الداعويّة أيضاً.
توضيح ذلك: أنّ محور البحث ـ في رأي المحقّق الروحاني(رحمهالله) ـ في هذا الموضوع هو «احتمال التكليف»، وليس التكليف على افتراض أن يكون موجوداً بحسب الواقع. ولذلك ليس من اللازم أن يتمّ افتراض تكليف حتماً، بحيث يكون وجوده بحسب الواقع مُسلّماً، ثمّ نعتقد بعد ذلك باقتضاء الداعويّة فيه.
بعبارة اُخرى: كما أنّ التكليف الواصل إلى المكلّف يشتمل على اقتضاء الداعويّة، وكذلك كما أنّ التكليف الموجود بحسب الواقع، يشتمل على اقتضاء الداعويّة، فإنّ احتمال التكليف بدوره سوف يشتمل على اقتضاء الداعوية أيضاً؛ بمعنى أنّه لو احتمل وجود التكليف في الواقع، فإنّ هذا الاحتمال سوف يكون له اقتضاء الداعويّة؛ وذلك لأنّ «الداعي» إليه ليس شيئاً موجوداً في نفس الأمر، ويكون بحسب الوجود الخارجي متأخّراً عن الحكم؛ من ذلك مثلاً أنّ الداعي لامتثال الصلاة هو الذكر، وإنّ وجوده الخارجي سوف يتحقّق بعد تحقّق الصلاة، إلاّ أنّ وجوده الذهني الذي هو موافقة الأمر الإلهي وامتثال الحكم، سوف يكون في الواقع قبل تحقّق الفعل.
وعليه: فإنّ المراد من الداعي هنا هو ذلك الداعي بحسب الوجود الذهني، حيث أنّ احتمال التكليف يشتمل على اقتضاء هذا النوع من الداعويّة؛ بمعنى أنّ الموافقة في موارد احتمال وجود الأمر في الواقع سوف تكون داعة إلى الإتيان به، كما أنّ الموافقة لذلك الأمر المحتمل تكون في موارد الاحتياط داعية إلى الإتيان بالعمل الاحتياطي أيضاً[60].
والنتيجة هي أنّ الوصول ليس ضرورياً في المحرّكية، بل إنّ اقتضاء المحرّكية في التكليف يكون كافياً أيضاً، ولذلك فإنّه في الموارد التي يوجد فيها احتمال التكليف، يوجد اقتضاء الداعويّة أيضاً.
وبطبيعة الحال، فإنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) لا يرتضي هذين الإشكالين على مبناه، ولا يرى اقتضاء الداعويّة كافياً، وبهذا البيان يمكنه الدفاع عن رأيه.
ومن هنا، فإنّ المحقّق الروحاني يورد ثلاثة اشكالات اُخرى على إيراد المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) الذي أورده على المبنى المشهور (عدم اعتبار الوصول في فعلية الأحكام).
الإشكال الأوّل على المحقّق الإصفهاني(رحمهالله): لم يتّضح لنا أنّ المخالفة مع التكليف المحتمل لا تكون سبباً للخروج من دائرة العبودية، ولا تكون ظلماً بحقّ المولى، ولذلك يجب التوقّف في موارد احتمال مخالفة التكليف.
توضيح ذلك: أنّ التكليف إذا كان واصلاً إلى المكلّف، وخالفه المكلّف، لا شكّ في أنّه يكون ظالماً بحقّ المولى، وخارجاً عن دائرة العبودية. ومن ناحية اُخرى إذا كان المكلّف الذي خالف التكليف غافلاً، ولم يكن قد احتمل وجود التكليف أصلاً، فإنّه لن يكون خارجاً عن دائرة العبودية قطعاً؛ وأمّا إذا كان شاكّاً، وكان احتمال التكليف موجوداً، ومع ذلك خالفه، فإنّه من غير المعلوم في مثل هذه الحالة أن لا يكون ظالماً، ولا يكون خارجاً عن دائرة العبودية؛ بل إنّ التسليم بمدّعاه (عدم الخروج من دائرة العبودية) هو أوّل الكلام؛ بمعنى أنّ محلّ النزاع في الواقع يدور حول هذه النقطة وهي: هل يُعدّ احتمال التكليف حجّة عقلاً، كي تكون مخالفة التكليف المحتمل مخالفة للحكم الذي قامت عليه الحجّة، أم لا؟
الإشكال الثاني: لو سلّمنا جدلاً أنّ العبد بمخالفته للتكليف المحتمل، لم يرتكب ظلماً بحقّ المولى، وعليه لو أنّ المولى عاقب العبد بسبب مخالفته للتكليف المحتمل، لن يكون هذا العقاب ظلماً قطعاً؛ لأنّ الظلم إنّما يتحقّق في مورد تكون فيه بين الطرفين حقوق وحدود؛ في حين أنّ العبد هنا ليس له أيّ حقّ على مولاه. نعم، إنّ هذا المدّعى صحيح بالنسبة إلى الموالي العرفيين، وأمّا في مورد اللّه تعالى فلا معنى له[61].
وفي نقد ومناقشة رأي سماحته لا بدّ من التذكير بأنّ صاحب «منتقى الأصول» لم يبدِ رأيه في مورد الإشكال الأوّل، أي في حكم العقل بشأن مخالفة التكليف المشكوك، وإنّما توقّف في نهاية المطاف. إلاّ أنّ نقد إشكاله الثاني هو:
أوّلاً: لا ملازمة في تحقّق الظلم بين حقوق الطرفين بين العبد والمولى، بل إنّ معنى الظلم هو أن يكون العمل على خلاف الواقع، وفي هذه الحالة يرى العقل صدوره قبيحاً، حتّى إذا لم يكن هناك أي حقّ على ذلك الشخص، حتّى يزول في الوقت الراهن.
وثانياً: إنّه طبقاً لمبناه، يكون قوله تعالى: «وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ»[62]، من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأنّ الظلم إنّما يقع في مورد يشتمل على حدّ وحقوق بين الطرفين؛ في حين أنّه لا توجد أيّ حقوق بين الطرفين فيما يتعلّق بالأمر بين اللّه وعباده، بل «إنّ العبد وما بيده لمولاه».
توضيح ذلك: أنّه لا يلزم حصر الظلم بتضييع الحقّ فقط، بل إنّ الظلم يقع في قبال العدل الذي هو بمعنى «وضع الشيء في موضعه»، بحيث لا يكون فيه أيّ موضوع بوصفه حقّاً أو لا يلازمه؛ وعليه فإنّ معنى الظلم أعمّ، وإن كان الظلم في أغلب الموارد يصدق حيث يكون هناك تضييع للحقّ، ولكن قد يحدث أن لا يكون هناك حقّ في بعض الموارد، ومع ذلك يعتبره العقل ظلماً، ومن بين مصاديق ذلك بحثنا الراهن؛ فهنا ليس للمكلّف حقّ تجاه المولى، ومع ذلك إذا أراد اللّه أن يعاقبه بسبب مخالفة التكليف المحتمل، فإنّ العقل يحكم بأنّ «هذا ظلم»؛ لأنّ الظلم ليس له معنى شرعي ومصطلح، بل إنّ العرف أو العقل هو الذي يحدّد مصاديقه. وعليه فنفي الظلم من اللّه تعالى مرتبط بالملاكات المقبولة عند العقل والعرف.
وثالثاً: إذا قبلنا بأنّ «العبد وما بيده تكويناً لمولاه»، لا يتنافى هذا الأمر مع وجود حقّ للعبد على مولاه؛ وذلك لأنّ الناس بأجمعهم مخلوقون من قبل اللّه ـ عزّ وجل ـ ولهم الحقّ في أن يرزقهم اللّه، وإلاّ فإنّهم سوف يهلكون بأجمعهم، ويكون في ذلك تضييع لحقوقهم، ومن هنا ورد البحث في الروايات حول حقوق العباد على اللّه.
إنّ الإشكال الثالث الذي يورده السيّد الروحاني(رحمهالله) على المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ، هو أنّنا إذا اعتبرنا «قبح العقاب بلا بيان» من مصاديق «قبح الظلم»، فإنّ هذا لا يتناغم مع مسلكه، بل ولا يكون منسجماً حتّى مع المبنى المشهور أيضاً؛ وذلك لأنّ «قبح الظلم» بناءً على رأيه إنّما هو لجهة حفظ النظام، وبقاء نوع البشر؛ في حين أنّ البحث في حقل عقاب الشارع إنّما يخصّ عالم الآخرة، ونحن لا علم لنا بجزئياته وخصوصياته. والشاهد على هذا المدّعى أنّه في باب قاعدة دفع الضرر المحتمل يرى أن ليس في البين مسألة حفظ النظام أو عدم حفظه. وإذا كان المراد حفظ النظام الدنيوي، فإنّ هذا لا شأن له بالعقاب في عالم الآخرة[63].
بيد أنّ كلام المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) لا يصحّ حتّى على مسلك المشهور؛ بمعنى أنّ الحكم الاستقلالي للعقل بقبح الظلم، فرع عن وجود «العلم بملاك فعل الشارع»، في حين قد يكون هناك ملاك ومعيار آخر ـ في تصحيح العقاب غير ظلم العبد للمولى ـ ونحن لا نتمكّن من معرفة حدوده وثغوره كي يصحّ العقاب مع وجود هذا الملاك، ويقبح مع عدم وجوده.
وعلى هذا الأساس، يبدو أنّ صاحب «منتقى الأصول» ينكر قاعدة «قبح العقاب بلا بيان»، ولكنّه في الوقت نفسه لم يذهب إلى اختيار مبنى حقّ الطاعة أيضاً، وذلك لأنّ مبنى «حقّ الطاعة» ـ كما سيأتي ذكره ـ إنّما يقوم على إثبات أنّ المولوية الذاتية للّه تختلف عن المولويات العرفية، ومن هنا فإنّها تستدعي دائرة أوسع من دائرة إطاعة الموالي العرفيين، في حين أنّه يؤكّد على عدم إمكان معرفة الملاك في العقاب.
وعلى كلّ حال، يبدو أنّ رأيه مخدوش؛ إذ لو تمّ تفسير قبح الظلم بناءً على الرأي المشهور، سوف يصبح العلم بالملاك أمراً قطعياً؛ بمعنى أنّ الظلم من أيّ شخص، ومن أيّ جهة، يصدر يكون قبيحاً، ومن ناحية أخرى فإنّ صفة العدل من بين أهم صفات الباري تعالى.
وبذلك يتّضح ملاك عقاب الشارع، وإنّ الشارع إنّما يمكنه أن يعاقب العبد، إذا لم يستلزم ذلك ظلماً في حقّ العبد. ومن هنا، فإنّ استحقاق العبد للعقاب في موارد عدم وجود البيان يستلزم الظلم في حقّه، بمعنى أنّه يمكن له أن يحتجّ على المولى ويقول له: إنّ هذا البيان لم يصلني، وإنّ تفويت التكليف لم يكن مستنداً إليه، وفي هذه الحالة تكون حجّته مقبولة قطعاً. وعلى هذا الأساس، لا يتمّ طرح أيّ ملاك آخر في باب العقاب.
ونتيجة لذلك تكون قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» قاعدة ثابتة لا شكّ ولا شبهة في صحّتها من الناحية العقلية. وبذلك يكون حقّ الطاعة للّه ـ طبقاً لهذا المبنى ـ منحصراً بالتكاليف المعلومة، ولن يشمل التكاليف المشكوكة والمحتملة. نعم، إنّ هذه القاعدة لن تكون جارية إلاّ بعد الفحص والبحث عن البيان واليأس من وجوده؛ إذ أنّ عدم وصول البيان في هذه الحالة سوف يكون مستنداً إمّا إلى المولى، أو مستنداً لأسباب اُخرى خارجة عن اختيار المكلّف.
الفقرة الثالثة: تفسير الإمام الخميني والاُستاذ المحقّق الفاضل اللنكراني لكلام المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، ومناقشته
إنّ لسماحة الإمام الخميني(قدسسره) وآية اللّه محمّد الفاضل اللنكراني(رحمهالله) رؤية اُخرى في تفسير كلام المحقّق الإصفهاني(رحمهالله). حيث قال سماحة الإمام في تفسير كلام المحقّق الإصفهاني(رحمهالله):
ثمّ إنّه يظهر عن بعضهم: أنّه لا يحتاج الاُصولي إلى هذه الكبرى؛ لأنّ الملاك في استحقاق عقوبة العبد في مخالفة مولاه هو عنوان الظلم؛ فإنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن رسم العبودية، وهو ظلم من العبد إلى مولاه، يستوجب العقوبة. وأمّا مع عدم قيام الحجّة فلا يكون ظالماً، فلا يستحقّ العقوبة، وهو كاف في المقام. وأمّا كون العقاب بلا بيان قبيحاً فغير محتاج إليه فيما يرتئيه الاُصولي؛ وإن كان في نفسه صحيحاً[64].
توضيح ذلك: أنّ سماحة الإمام الخميني(قدسسره) يرى أنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) يذهب إلى الاعتقاد بأن لا حاجة إلى هذه القاعدة في بحث البراءة العقلية، بل إذا أثبت الاُصولي أنّ العبد في مخالفة التكليف المحتمل لا يستحقّ العقاب، كان ذلك كافياً؛ وذلك لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون صادقاً في مورد وقوع الظلم، وبحثنا الراهن خارج هذا المورد؛ إذ أنّ العبد في مخالفته التكليف المحتمل لم يرتكب ظلماً بحقّ المولى؛ بمعنى أنّ استحقاق العبد للعقاب إنّما يكون بملاك الظلم بغضّ النظر عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن هنا يجب أن يرتكب العبد ظلماً بحقّ المولى حتّى يكون مستحقّاً للعقاب، في حين لا شكّ في أنّه إذا لم تقم حجّة على العبد المخالف، وكان هناك مجرّد احتمال التكليف، لا تكون مخالفته خروجاً عن قيد العبودية، ولن تكون مشتملة على ظلم بحقّ المولى[65].
وبعبارة اُخرى ـ هذا الكلام ورد في كلمات المحقّق اللنكراني ـ بأنّ قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» إنّما ترتبط بالمولى. قال آية اللّه الفاضل اللنكراني(رحمهالله) في هذا الشأن:
ثمّ إنّ المحقّق الإصفهاني(قدسسره) ذهب إلى أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وإن كان صحيحاً في نفسه... . وحاصل كلامه(قدسسره) هو أنّ البحث في باب البراءة يرتبط بشأن من شؤونات المكلّف، وأنّه إذا شرب التتن بعد الفحص واليأس عن الدليل على حلّيته وحرمته لا يستحقّ العقوبة. وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمقصود منها أنّ عقوبة المولى للمكلّف عند عدم تماميّة الحجّة على التكليف من قبله قبيح؛ لأنّه ظلم من المولى على العبد، فلا ينطبق الدليل على المدّعى، فإنّ القاعدة ترتبط بالمولى لا بالمكلّف، على أنّه لا أصالة لها بل هي من مصاديق الظلم[66].
توضيح ذلك: أنّ المولى إذا لم يكن لديه بيان واصل إلى العبد، كان العقاب من قبل المولى قبيحاً، في حين أنّ البحث ليس في علاقة المولى بالنسبة إلى العبد، وإنّما البحث في عكس القضية؛ بمعنى أنّ البحث يدور حول استحقاق العقاب على مخالة التكليف المحتمل، لا سيّما وأنّ قبح العقاب بلا بيان ـ من وجهة نظر المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ليس حكماً عقلياً مستقلاًّ، بل هو من مصاديق حكم العقل العملي، ويقع تحت العنوان العامّ لـ «قبح الظلم». ومن هنا، فإنّ هذه القاعدة ليس لها ملاك ومناط مستقلّ عن قبح الظلم. وإنّ صدور الظلم قبيح مطلقاً، سواء صدر من المولى بحقّ العبد، أو بالعكس.
ثمّ قام سماحة الإمام ـ في ضوء تفسيره لكلام الإصفهاني(رحمهالله) ـ بطرح إشكالين، وهما:
الإشكال الأوّل: إنّ مسألة «قبح العقاب بلا بيان» لا ربط لها بـ «قبح الظلم»، وإنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان بغضّ النظر عن تحقّق أو عدم تحقّق الظلم؛ وذلك لأنّ العقل يستقلّ في الحكم بوجوب شكر المنعم وإطاعة المنعم، ويرى قبح مخالفة المنعم، ويرى العبد المخالف في مثل هذه الحالة مستحقّاً للعقاب؛ وليس لأنّ العبد قد اقترف ظلماً بحقّ المولى؛ إذن فهو يستحقّ العقاب.
توضيح ذلك: أنّ لزوم إطاعة المولى حكم مستقلّ للعقل، بملاك الإحسان والإنعام، ولكن ليس مطلق المخالفة مع الحقّ ـ من قبيل: المخالفة المحتملة ـ لا تكون سبباً للظلم، إذ مع المعصية لا يزول الإنعام حتّى يثبت الظلم. ففي المثال لو أنّ الولد عصى والده، ولم يقم بما كان يجب عليه القيام به، لا يكون من الناحية العقلية قد ظلمه؛ إذ ربما كان الوالد قد أمره بذلك لمصلحته؛ وعليه: فإنّ عنوان الظلم يكون بملاك العدوان والتجاوز على حقوق الآخرين وتضييعها.
وعلى هذا الأساس، ليس هناك في باب الطاعة والمعصية بحث عن الظلم، وإنّ معصية العبد لا تعدّ تضييعاً لحقّ المولى؛ وذلك لأنّ مصلحة التكاليف تعود إلى المكلّف نفسه، وإنّ التخلّف عنها يعدّ ظلماً عليه أيضاً، قال تعالى: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»[67].
الإشكال الثاني: إنّ المهمّ في بحث البراءة هو أن يمتلك المكلّف في ارتكاب العمل ما يؤمّنه من العقاب، ولن يكون هناك مثل هذا المؤمّن في دفع استحقاق العقاب دون التمسّك بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان».
ويبدو أنّ إشكال سماحة السيّد الإمام يقوم على تفسيره لكلام المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ، في حين أنّ المستفاد من رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ـ لا سيّما في ضوء التفسير الصحيح الذي ذكره المحقّق الروحاني(رحمهالله)لرأيه ـ هو أنّ الاُصوليين في بحث البراءة العقلية لا يقولون بعدم الحاجة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولذلك فإنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) بصدد توجيه هذه القاعدة ـ بالإضافة إلى مبناه (الوصول في الفعلية) ـ على أساس المبنى المشهور بوجه عامّ أيضاً. بمعنى أن يعمل ـ من خلال تطبيق قاعدة الظلم على هذه القاعدة ـ على حلّ التهافت القائم بين عدم شرطية الوصول في فعلية الحكم وقبح العقاب بلا بيان.
توضيح ذلك: أنّه بناءً على الرأي المشهور في باب حقيقة الحكم وفي فعليته، قد يبلغ الحكم مرحلة الفعلية، ولكنه لا يصل إلى المكلّف. وعليه، فإنّ مثل هذا المدّعى قد لا ينسجم بحسب الظاهر مع مسألة قبح العقاب بلا بيان. ومن هنا، فإنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) يذهب إلى الاعتقاد بوجوب تفسير قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» في ضوء الرأي المشهور، بحيث ينسجم مع مبنى ومسلك المشهور في حقيقة الحكم. ولذلك فإنّ مسألة الطاعة والمعصية في الأساس ليست دائرة مدار الإنعام، وإنّما تدور حول محور التكليف والحكم الحقيقي، ولذلك لا يمكن طرح قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بشكل منفصل عن مسألة «قبح الظلم».
والنتيجة هي أنّه طبقاً لنظرية «قبح العقاب بلا بيان» تكون التكاليف المقطوع بها هي وحدها المدرجة ضمن دائرة حقّ الطاعة للمولى، وأمّا التكاليف التي لا يقطع بها المكلّف، فلا يثبت في موردها استحقاق الطاعة للمولى.
القسم الثالث نقد ونقاش استدلالي في باب قاعدة حقّ الطاعة
ملخص البحث
تُعدّ نظرية حقّ الطاعة من النظريات الاُصولية الهامّة التي تركت تأثيرات كبيرة على النظام الفقهي والاُصولي عند الإمامية، ومن هنا يأتي تسليط المزيد من الضوء في هذا القسم من أجل فهم هذه النظرية بشكل صحيح، وأن يتمّ إيضاح منشأ اعتبارها أيضاً. لننتقل بعد ذلك إلى التدقيق في الأفكار والآراء المطروحة في هذا الشأن والتمييز بين الصحيح والسقيم منها، وفي نهاية المطاف سوف نتعرّض إلى اشكالات الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ على هذه النظرية وبيانها بشكل دقيق، مع توضيح الرأي المختار.
المبحث الأوّل بيان نظرية حقّ الطاعة
سبق أن ذكرنا أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إنّما عمد إلى طرح نظرية حقّ الطاعة في قبال القول بالبراءة العقلية ونظرية قبح العقاب بلا بيان، وقد بذل جهوداً كبيرة في تحقيقها وتعميقها. والسؤال المحوري الذي يفرض نفسه في هذا الموضوع هو: هل يجب في مقام العمل الإتيان بالتكاليف في موارد الشبهات الحكمية والبدوية بعد الفحص، أو التكاليف المحتملة التي لا تكون مقترنة بالعلم الإجمالي، أم أنّ المكلّف في مثل هذه الحالة يكون متحرّراً من المسؤولية، ولا يكون مستحقّاً للعقاب والمؤاخذة على الارتكاب، أو الاجتناب في هذا النوع من التكاليف الأعمّ من محتملة الحرمة أو الوجوب؟
وبطبيعة الحال يمكن تناول هذا البحث بالدراسة من زاويتين مختلفتين، وهما: الزاوية العقلية، والزاوية الشرعية، ولكن كما تقدّم في الأبحاث السابقة، فإنّ المحور الأصلي في هذا الكتاب إنّما يدور حول دراسة الوجوب أو عدم الوجوب العقلي للطاعة. ومن هنا، يجب بيان مقتضى حكم العقل بشأن الاحتياط أو البراءة ـ بقطع النظر عن تدخّل الشرع ـ وبيان تحديد الوظيفة العملية للمكلّف في هذا النوع من التكاليف، واستحقاقه أو عدم استحقاقه للعقاب.
وعليه: فإنّ هذا السؤال يرتبط بمرحلة ما قبل الترخيص أو الاحتياط الشرعي؛ إذ أنّ إجراء الأصل العملي العقلي مشروط بعدم وجود أصل عملي شرعي في المقام.
وبعد بيان محلّ النزاع يتّضح أنّ نظرية السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) تؤدّي في واقع الأمر إلى ردّ وإنكار البراءة العقلية، والقول بالاشتغال العقلي في جميع موارد الشكّ في التكليف؛ إذ بالإضافة إلى الاشتغال العقلي في أطراف العلم الإجمالي، فإنّ الأصل الأوّلي في الشبهات البدوية قبل الفحص وبعده هو الاحتياط أيضاً.
يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ دائرة مولوية المولى الحقيقي أوسع بكثير من دائرة مولوية الموالي العرفيين، ومن هنا فإنّ حقّ الطاعة في مرحلة الإثبات[68]، يحظى بالحدّ الأوسع بحيث يشمل حتّى التكاليف المحتملة بعد الفحص أيضاً. ومن هنا، فإنّه لأهمّية هذا الموضوع وتذليل فهمه، يجدر بنا فيما يلي أن نذكر أهمّ عبارات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)الواردة حول هذا الموضوع في مختلف كتبه، وتقريرات دروسه وأبحاثه. وبحث هذه المسألة بالنظر إلى جميع تلك التعابير وتحليلها ومناقشتها على نحو شامل:
قال سماحته في المجلّد الأوّل من حلقات الاُصول في معرض الحديث عن حدود حقّ الطاعة:
والذي ندركه بعقولنا أنّ مولانا سبحانه وتعالى له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع، أو بالظنّ، أو بالاحتمال، ما لم يرخّص هو نفسه في عدم التحفّظ[69].
وقال في الحلقة الثالثة بشأن مبنى هذه النظرية:
وهكذا نصل إلى المسلك الثاني، وهو مسلك حقّ الطاعة المختار، ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتيّة الثابتة للّه سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعم والخالق مدرك أوّلي للعقل العملي، غير مبرهن كذلك حدوده سعة وضيقاً، وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل، ما لم يثبت الترخيص الجاد في ترك التحفّظ على ما تقدّم في مباحث القطع، فلابدّ من الكلام عن هذا الترخيص، وإمكان إثباته شرعاً، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعية[70].
وقال سماحته في كتاب «مباحث الاُصول» بشأن تفسير قبح العقاب في مسلك حقّ الطاعة ومكانته بالالتفات إلى هذا المبنى:
والشيء الّذي ندركه بعقلنا العمليّ هو أنّ اللّه (تعالى) مولانا في التكاليف المقطوعة والمظنونة والمشكوكة والموهومة، فله حقّ الطاعة حتّى مع عدم العلم لو لم يثبت عندنا الترخيص من قبله ورضاه بفوات التكاليف الواقعية في ظرف الشكّ، بالنحو الّذي فصّلناه في الترخيص الظاهري، وبهذا ننتهي إلى أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا أساس لها، لأنّ العقاب يكون عقاباً على حقّه، وليس العقاب على الحقّ قبيحاً[71].
وقال في موضع آخر:
إنّ العقل العملي يحكم بثبوت المولويّة وحقّ الطاعة للّه تعالى في التكاليف المشكوكة بشرط احتمال اهتمام المولى بهذا التكليف إلى حدّ لا يرضى بفواته في حال الشكّ، فيكفي في تنجّز التكليف احتماله مع احتمال كونه على فرض وجوده مهمّاً عند المولى إلى حدّ لا يرضى بفواته عند الشكّ[72].
كما قال سماحته في هذا الكتاب:
نحن نقول بثبوت حقّ المولويّة بمجرّد احتمال التكليف مع احتمال اهتمام المولى به، إلى حدّ لا يرضى بفواته في فرض الشكّ، وعدم ثبوت هذا الحقّ عند القطع بعدم اهتمام المولى به إلى هذا الحدّ. وشأن الأدلّة الملزمة هو إثبات اهتمام المولى، فيدخل التكليف في موضوع حقّ المولويّة. وشأن الأدلّة المرخّصة إثبات عدم اهتمام المولى، فيخرج التكليف عن موضوع حقّ المولوية، وليس هناك تخصيص لقاعدة عقليّة أصلاً[73].
وفي تقريرات بحوث في علم الاُصول، تكلّم سماحته في معرض الحديث عن عدم صوابية الفصل بين المولوية والمنجّزية، وكذلك اختلاف لوازم المولوية العرفية عن المولوية الحقيقية، قائلاً:
إنّ البحث عن المنجّزية عين البحث عن المولوية، فلا يصحّ التفكيك بينهما، والمولوية مرجعها وروحها إلى إدراك العقل العملي لحقّ الطاعة، وموضوعه ليس هو الوجود الواقعي النفس الأمري للتكاليف، بدليل معذورية القاطع بالعدم جهلاً، ولا يكون جزءاً الموضوع فيه، بدليل استحقاق المتجرّي للعقاب، وإنّما موضوعه إحراز التكليف، فالمولوية ترجع إلى حكم العقل بلزوم إطاعة ما يحرز من تكاليف المولى، فلابدّ حينئذٍ من ملاحظة إن أيّ مرتبة من مراتب الإحراز يكون بحسب نظر العقل الحاكم في هذا الباب هو موضوع هذا الحقّ. وقد ذكرنا أنّ العقل في المولى الحقيقي يرى كفاية مطلق الإحراز، حتّى الاحتمال لوجوب إطاعته، وإنّ البراءة العقلية تبعيض في دائرة حقّ طاعة المولى الحقيقي، وتحديد لمولويته في خصوص التكاليف القطعية فقط، وهذا ما لا يوافق عليه وجداننا العملي[74].
نعم، هذا قد يصحّ في الموالي العرفية التي تكون مولوياتهم مجعولة ولو من قبل العقلاء، فإنّهم جعلوها في خصوص التكاليف المعلومة، لا مطلقاً، فيكون العقاب منهم من غيره بيان قبيحاً، لأنّه عقاب من دون مولوية وارتكازية هذا المطلب العقلائي، وهو الذي دعا القوم إلى تعميم القاعدة المذكورة وإسرائها إلى تكاليف المولى الحقيقي. وقد عرفت أنّه خلاف الوجدان العملي.
وقد ورد المزيد من التوضيح بشأن ماهيّة حقّ الطاعة في تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر، وخلاصته كالآتي:
أنّ الذي يدركه العقل العمليّ حسب وجداننا هو أنّ حقّ الطاعة للمولى الحقيقيّ الذي هو اللّه تعالى، والذي مولويّته غير مجعولة، حقّ الطاعة لهذا المولى سبحانه، ليس مخصوصاً بخصوص التكاليف المقطوعة، بل يشمل كلّ تكليف يصل، ولو احتمالاً، فإنّه يجب على المكلّف حينئذٍ التعرّض له وإطاعته ما لم يُحرز المكلّف صدور إذن من المولى بالترخيص فيه، ولهذا أنكرنا البراءة العقليّة ... بل له حقّ الطاعة مطلقاً، وفي كلّ ما نحتمل أنّه يريده منّا، ما لم يأذن هو لنا في عدم الاحتياط فيه، ورَفَع يده عنه، ومن هنا، قلنا سابقاً: إنّ المعوّل عليه في رفع اليد عن الاحتياط هو البراءة الشرعيّة، لا العقليّة[75].
وقال السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) بشأن منجّزية الاحتمال في موضع آخر من تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر، بوضوح:
لأنّه بحسب التحليل، فإنّ البحث عن الحجّية هو بحث عن حدود المولوية حقيقة، إذاً، هما مسألة واحدة، لأنّ المولوية عبارة عن حقّ الطاعة، وهذا حقّ يدركه العقل بملاك من الملاكات، كشكر المنعم، أو الخالقية، وهذا الحقّ له مراتب مختلفة، إذ كلّما كان ملاك هذا الحقّ آكد، كانت دائرة حقّ الطاعة أوسع، مثلاً: إذا فرضنا أنّ حقّ الطاعة ملاكه المنعميّة، فحينئذٍ، لا إشكال في أنّه كلّما كانت المنعميّة أوسع كان حقّ الطاعة أوسع، ولذا نرى أنّ بعض مراتب المنعميّة لا يترتّب عليها حقّ الطاعة، حتّى مع العلم بالتكليف، كما لو كان المنعم هو جار الأب مثلاً، وعلمنا بتكليف منه لنا، فإنّ ما يحكم العقل بلزوم طاعته إنّما هو تكليف له دخل في تحقّق شكره، وردّ الجميل له على نعمته، أمّا التكاليف التي ليس لها دخل في ذلك، فلا يحكم العقل بلزوم طاعته فيها، بينما بعض المراتب منها، لسعتها يحكم العقل بلزوم طاعته في التكاليف المظنونة منها، بل والمشكوكة و المحتملة أيضاً، عند ما تفرض بعض مراتب المنعمية بدرجة غير محدودة، فحينئذٍ العقل يدرك أنّ حقّ الطاعة لمثل هذا المنعم لا حدّ له، بحيث له حقّ الطاعة في كلّ ما نحتمله من تكاليف. وهذا يعني أنّ العبد يجب عليه الحرص على تكاليف المولى، بحيث لا يضيع منها شيئاً، وذلك لسعة دائرة المولوية باعتبار شدّة ملاكها. وبهذا البيان، ظهر أنّه ليس عندنا شيئان: أحدهما المولوية، و الآخر الحجّية كما ذكروه، وإنّما عندنا مولوية فقط، وأنّه لها مراتب، لأنّه كلّما كان ملاكها أشدّ كانت أوسع دائرة، وإنّ معنى حجّية القطع هو أنّ مولوية المولى سنخ مولوية تستدعي منّا عقلاً التحفّظ على كلّ ما نعلمه من تكاليفه، ومعنى عدم حجّية غيره هو أنّ مولوية المولى سنخ مولوية لا تستدعي منّا عقلاً أكثر من التحفّظ على ما نعلمه من تكاليفه. وهذا في الحقيقة تضييق لدائرة المولوية، و قد عبّر عن الأوّل بحجّية القطع، وعن الثاني بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وبما ذكرناه، يظهر أنّ مرجع البحث في القاعدة إلى أنّ مولوية المولى يشمل التكاليف المشكوكة أم لا؟ ولا إشكال في أنّ المولويات العقلائية المعترف بها عقلائياً عادة، لا تكون دائرتها أوسع من حدود التكاليف المقطوعة، ومن هنا ارتكزت قاعدة البراءة العقلية، وإن لم تسمّ بهذا الاسم، ولكن مولوية اللّه سبحانه وتعالى هل يصحّ قياسها على هذه المولويات؟ والجواب: هو أنّ هذا يرجع إلى إدراك العقل العملي لهذه القضية عند كلّ شخص بشخصه، فكلّ إنسان يرجع إلى عقله ليرى أنّ المولى سبحانه له حقّ الطاعة في خصوص التكاليف المقطوعة، أم في الأعمّ منها؟ ولا أظنّ بعد أن شرحنا المسألة بهذا النحو، أنّ شخصاً يبقى عنده شكّ في شمول مولويّة اللّه سبحانه لكلّ ما نحتمل صدوره من تكاليف، لأنّ العقل يستقلّ بأنّ حقّ الطاعة للّه سبحانه لا حدّ له بعد أن كانت مولويّته لا حدّ لها. وعليه: نثبت منجّزية الاحتمال[76].
بعد ملاحظة جميع هذه العبارات لسماحة السيّد الشهيد(رحمهالله)، تكون النتيجة هي أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إنّما يوسّع من حدود المولوية الإلهية الذاتية ولزوم امتثال التكاليف، ويراها شاملة للتكاليف المحتملة أيضاً؛ بمعنى أنّ وجوب الطاعة غير قابل للتبعيض. وهي تقع في دائرة التكاليف التي هي أوّلاً: يحتمل صدورها، ولا تكون مقطوعة العدم. وثانياً: أن يهتمّ الشارع تعالى بامتثال هذا النوع من الأحكام. وبطبيعة الحال، لو أنّ المكلّف علم أنّ الشارع المقدس لا يهتمّ بالإتيان ببعض التكاليف المحتملة، لن تكون إطاعتها واجبة.
يشير سماحته في بيان حقّ الطاعة إلى أنّ المولويّة لها مراتب مختلفة، وبطبيعة الحال كلّما كان مقدار ملاك وسعة المولويّة أكبر، كان حقّ الطاعة ولزوم الامتثال بدوره أكبر أيضاً. وعلى هذا الأساس، فإنّ موضوع البحث هو تكليف المولى لجهة مولويّته، وإنّ مولويّته التشريعية تنشأ من مولويّته التكوينية، بمعنى أنّ خالقية اللّه سبحانه وتعالى حيث تكون هي السبب الحقيقي في مالكيته، وحيث أنّ اتّصافه بكونه منعماً يستلزم وجوب شكره، فإنّه يكون في أعلى مراتبه، وبذلك فإنّ حقّ الطاعة يثبت له على أوسع المساحات شمولاً، بحيث يشمل هذا الحقّ حتّى التكاليف المحتملة أيضاً. يرى سماحته أنّ شهادة الوجدان وإدراك العقل العملي بشكل مباشر، من أهمّ الأدلّة على الوضوح التامّ والقاطع على هذا المدّعى، ويسعى إلى توفير المنبهات الوجدانية في هذا الشأن إلى المخاطب.
وبعبارة أوضح: يذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ المحقّقين من الاُصوليين قد فصّلوا بين مسألة «مولويّة المولى» التي تذكر في علم الكلام، ومسألة «تنجّز التكليف» التي تمّ تناولها في علم الاُصول؛ وهذا الأمر هو الذي دفعهم إلى ملاحظة دائرة التكليف في حدود الاُمور المقطوع بها فقط. ومن هنا، فقد ذهبوا إلى التركيز على هذه النقطة فقط وهي أنّ «القطع حجّة ذاتية»، بمعنى أنّ على المجتهد تحصيل القطع من أجل إثبات الحجّية. وحيث لا يحصل لديه القطع، يجب أن يكون هناك دليل قطعي بوصفه دعامة للدليل الظنّي، وهذا ما يُشاهد بوضوح في كتب من قبيل: رسائل الشيخ الأنصاري(رحمهالله) وكفاية الاُصول.
وعلى هذا الأساس، فإنّه من الثابت والمتسالم عليه أنّ الدليل يجب إمّا أن يكون مفيداً للقطع بنفسه، أو أن يقوم دليل قطعي على حجيّته. وقد ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ السرّ في تحديد دائرة التكاليف في علم الاُصول الراهن بحدود القطعيات والظنون التي قام الدليل القطعي على حجّيتها، يكمن في أنّهم قد فصّلوا بين «المولويّة الإلهيّة» التي يثبتها المتكلّمون في علم الكلام بشأن اللّه والمولى الحقيقي، وبين «مسألة التنجّز» التي هي شعبة من شُعَب الحجّية. وبالتالي، فإنّ سماحته يرى أنّ الإشكال كلّه يكمن في هذه النقطة، وهي أنّه لا ينبغي التفكيك بين المنجّزية والمولوية، بل إنّ المنجّزية هي من شؤون المولوية، وإنّ المولوية بدورها تتماهى مع حقّ الطاعة. وبعبارة اُخرى: إنّ الرأي المشهور في الاُصول السائدة والذي يقول بأنّ المنجّزية أو الحجّية من شؤون المولويّة، غير صحيح. وإنّما يجب القول بأنّ المنجّزية والحجّية من شؤون المولويّة، بمعنى أنّنا عندما نرجع إلى العقل العملي نجده يجعل «حقّ الطاعة» للمولى لجهة مولويّته. وعلينا بدورنا أن ننظر إلى مسألة المنجّزية والحجّية في اطار «حقّ الطاعة» أيضاً؛ بمعنى أنّ جذور الحجّية يجب أن تعود إلى مسألة «حقّ الطاعة»، لا أن تعود إلى القطع، وأن نعتبر حجّية القطع ذاتية، وأن نعمل على إعادة اعتبار سائر الموارد إليها أيضاً.
يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ خطأ الاُصوليين في تقديم البراءة العقلية يكمن في أنّهم يقيسون مولويّة اللّه ـ تبارك وتعالى ـ على مولويّة الموالي العرفيين؛ إذ أنّنا إذا راجعنا العقل، سوف ندرك أنّ العبد ـ بمقتضى حكم العقل بالنسبة إلى الموالي العرفيين ـ إذا حصل له قطع بالتكليف، إنّما يحصل لزوم بامتثال خصوص الحكم المقطوع، ولا ضرورة لمثل هذا الالتزام في الظنون والمحتملات، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المولوية العرفية أمر اعتباري ومؤقت وغير ذاتي، ولذلك فإنّها تنحصر بامتثال الحقّ المعلوم، في حين أنّ المولويّة الإلهيّة أمر دائمي وذاتي.
وعلى هذا الأساس، يجب في هذه الرؤية الجديدة أن ندرس موضوع حقّ الطاعة وحدود هذا الحقّ ومساحته. وطبقاً لهذا المسار المنطقي، يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّه بمقتضى حكم العقل، وبالنظر إلى المولويّة الذاتية للّه ـ على ما تقدّم في الأبحاث السابقة ـ وكذلك بالنظر إلى أنّ الشارع المقدّس هو الخالق والمنعم على البشر، فإنّ دائرة حقّ الطاعة بالنسبة إليه لا تنحصر بالاُمور المقطوع بها؛ ولذلك لا يمكن القول: كلّما حصل القطع بحكم من أحكام الشارع، وجبت إطاعة هذا المورد فقط، بل إنّ دائرة «حقّ الطاعة» واسعة، وتشمل التكاليف المحتملة، بل وحتى الاحتمالات الضعيفة التي تقع مورداً لاهتمام الشارع أيضاً.
من هنا، فإنّه بمقتضى الإدراك العقلي يكون حتّى احتمال التكليف منجّزاً في دائرة «حقّ الطاعة» أيضاً؛ وبطبيعة الحال، فإنّ تنجّز الحكم في هذا المسلك إنّما يثبت حيث لا يرد الترخيص من قبل الشارع بترك التحفّظ عليه. ومن هنا، إذا كان في الشبهات الوجوبية أو التحريمية وكذلك في الشبهات الحكمية أو الموضوعية، دليل شرعي، من قبيل: البراءة النقلية، لا يكون هناك من الناحية العقلية وجوباً للامتثال «حقّ الطاعة» في هذا النوع من الموارد.
ومن ناحية اُخرى، لا يمكن أن نعمل ـ من خلال القول بالبراءة العقلية ـ على تحديد مولويّة اللّه سبحانه وتعالى في خصوص التكاليف القطعية، ونفي إطاعته في خارج تلك الدائرة؛ إذ أنّ الوجدان والعقل العملي لا يوافقان على هذه المسألة.
خلاصة القول: إنّ هذه النظرية بمقتضى الحكم الأوّلي للعقل العملي، أمر قطعي ولا يحتاج إلى برهان، بمعنى أنّه يجب بالوجدان أن تكون دائرة «حقّ الطاعة» بالنسبة إلى المولى الحقيقي ـ الذي هو اللّه تبارك وتعالى ـ أوسع من دائرة الموالي العرفيين، وكما يكون القطع بالتكليف منجّزاً، كذلك يكون احتمال التكليف منجّزاً أيضاً. وعليه، فإنّه على مبنى هذه النظرية يكون هناك اختلاف بين مولويّة اللّه تبارك وتعالى وبين مولويّة الموالي العرفيين في باب «حقّ الطاعة»، حيث أنّ دائرة «حقّ الطاعة» بالنسبة إلى الموالي العرفيين إنّما تنحصر بذلك الشيء الذي يقطع العبد بالتكليف فيه من قبل مولاه، وأمّا في غير الاُمور المقطوع بها فلا وجود لدائرة «حقّ الطاعة»؛ في حين أنّ نظرية حقّ الطاعة ـ بناءً على رأي السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ إنّما تنشأ من المولويّة الذاتية للمولى، وإنّ مصدرها هو مالكيته ومنعميّته الذاتية، وإنّ جوهر هذين الأمرين يكمن في مقولة خالقية اللّه تبارك وتعالى. ومن هنا، يجب على العبد أن لا يقصّر في تحديد دائرة إطاعة اللّه عزّ وجل، ولذلك فإنّه حتّى إذا شكّ أو احتمل أنّ المولى قد أوجب أمراً من قبيل الدعاء عند رؤية الهلال؛ فإنّ هذا الاحتمال سوف يكون منجّزاً عليه بملاك حقّ الطاعة أيضاً. وبطبيعة الحال، فإنّ الاشتغال العقلي في موارد الشكّ في التكليف، مقيّد بعدم ورود الترخيص الشرعي. وفي هذه الحالة، فإنّ أدلّة البراءة الشرعية سوف تكون واردة على الأصل العقلي الذي يحكم بالاشتغال.
المبحث الثاني نقد ومناقشة نظرية «حقّ الطاعة»
سوف نعمد في هذا البحث قبل كلّ شيء إلى نقد ومناقشة أحد أهم الإشكالات التي أوردها بعض المحقّقين المعاصرين على هذه النظرية، لننتقل بعد ذلك إلى بيان اشكالات الأستاذ على هذه النظرية.
إشكال بعض المحقّقين
إنّ من بين الانتقادات الواردة على نظرية حقّ الطاعة، أنّ لازم الفصل والتفكيك بين المولوية الذاتية والمولويات العرفية والوضعية، هو أن تكون مناشى ومصادر حقّ الطاعة متعددة، في حين أن مصدر ومبنى هذه المسألة لا يعدو أن يكون شيئاً واحداً، ومن هنا، يتمّ تصحيح مقارنة وقياس حقّ الطاعة الشرعية إلى لزوم إطاعة الموالي العرفيين. إنّ هذا الإشكال ينطوي على عدّة نقاط على درجة من الأهمّية، ومن هنا يجب في البدء أن نذكر بعض النقاط الانتقادية، ثمّ نبيّن بعد ذلك إجابة بعض تلاميذ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) عن هذا الإشكال، ولننتقل في نهاية المطاف إلى تقييمها.
يقول المستشكل في هذا الشأن:
«ويبدو لي إنّ التقرير التالي لنظرية (قبح العقاب بلا بيان) يرفع الملاحظات العلمية التي أوردها المحقّق الشهيد قدّس اللّه نفسه الطاهرة على هذه النظريّة التي اعتبرها الشيخ الأعظم قدّس اللّه سرّه من البديهيّات.
وهذا التقرير يتألّف من ثلاث نقاط:
النقطة الاُولى: ليس من ريب في أنّ للمولى على المكلّف حقّ الطاعة، وهذا الحقّ من الحقوق الثابتة بالقطع ولا مجال للتشكيك فيه... ولا يختلف العقلاء أيضاً في أنّ حقّ الطاعة إنّما يثبت للمولى على من يتولاّه ـ في غير حقّ اللّه تعالى على عباده ـ في حال وصول التكليف إلى المكلّف وصولاً قطعيّاً.
وليس للمولى حقّ الطاعة على المكلّف ما لم يبلغه التكليف ـ بصورة قطعية ـ إذا تحرّى المكلّف عن التكليف في مظانّه، ولا يكفي احتمال التكليف في إثبات حقّ الطاعة للمولى على المكلّف. وهذا الشرط (الوصول القطعي للتكليف) من أهمّ شروط (حقّ الطاعة) عند العقلاء عامّة. وإذا توقّفنا عند ملاحظة المحقّق الشهيد الصدر(رحمهالله) في حقّ طاعة اللّه تعالى على عباده، فلا يتوقّف أحد في هذا الشرط في حقّ الطاعة لغيره تعالى من الموالي على المكلّفين. ولا يختلف في ذلك مولى عن مولى، ولا يفرق الناس بين درجات الموالي في هذا الشرط.
وعلى هذا يتطابق العقلاء جميعاً، والمناقشة في ذلك مناقشة في البديهيات ... لا شكّ أنّ هذا التطابق قائم على حكم العقل العملي بنفي حقّ الطاعة في حال عدم الوصول القطعي للتكليف، مع التحرّي عنه في مظانّه، وثبوت حقّ الطاعة للمولى على المكلّف عند الوصول القطعي للتكليف.
وهذا الحكم العقلي من مدركات العقل العملي، ومثله في ذلك مثل حكم العقل بحُسن العدل وقبح الظلم، وهو حكم عقلي قطعي، وأمارة ذلك تطابق العقلاء على ذلك.
ولا تتوقّف حجّية مثل هذه الأحكام العقلية على إمضاء الشارع لها ليصحّ كلام المحقّق الشهيد(رحمهالله) في ردّه حيث يقول(رحمهالله): «وكأنّهم قاسوا ذلك ببعض المولويّات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف، نعم لو قيل بأنّ الشارع أمضى السيرة والطريقة المعتادة في المولويّات الثابتة عند العقلاء وبمقدار ما تستوجبها من الحقّ فلا بأس به، ويكون مرجع هذا بحسب الحقيقة إلى البراءة الشرعية المستكشفة عن طريق إمضاء السيرة العقلائية».
فإنّ المورد ليس من موارد السيرة العقلائية قطعاً، وانّما هو من موارد حكم العقل العملي، شأنه في ذلك شأن حكم العقل بحُسن العدل وقبح الظلم، وأمارة ذلك جزم العقل وحكمه بثبوت ونفي حقّ الطاعة عند وجود هذا الشرط وعدمه، والسيرة العقلائية هي السلوك الخارجي للعقلاء، والمرتكزات العقلائية وهي عبارة اُخرى عن عرف العقلاء في شئون الحياة ... وإذا ثبت أنّ هذا الحكم حكم عقلي من أحكام العقل العملي، فلا نحتاج في حجّيته إلى إمضاء الشارع، وإنّما يلازمه الحكم الشرعي بموجب حكم العقل النظريّ، من باب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.
وشتّان بين إمضاء الشارع للسيرة العقلائية ـ الذي يؤول أمره كما يقول المحقّق الشهيد(رحمهالله) إلى البراءة الشرعية ـ وبين الملازمة بين حكم العقل العملي والحكم الشرعي الّذي قرّرناه في هذا التقرير.
نعم، لا شكّ أنّ للمولى، إذا وجد أهمّية متميّزة لبعض أحكامه أن يأمر المكلّف بالاحتياط فيما لم يصله الحكم على نحو القطع واليقين، كما في موارد الدماء والأموال والفروج مثلاً، لاهتمام الحاكم والمولى به أكثر من غيره، ولكن بشرط تبليغ الأمر بالاحتياط، ومن دون التكليف بالاحتياط، لا تحقّ له الطاعة من دون وصول التكليف... .
النقطة الثانية: ويحكم العقل كذلك حكماً قطعياً بقبح العقاب على المولى الحكيم للمكلّفين إذا خالفوه في أمر أو نهي في كلّ مورد ليس له حقّ الطاعة عليهم، لأنّ العقاب والمؤاخذة فيما لا يكون للمولى على المكلّف (حقّ الطاعة) قبيح ومخالف للعدل والحكمة... .
النقطة الثالثة: ... ولا يقاس حقّ الطاعة للّه تعالى على عباده بحقّ الطاعة الثابتة للموالي العرفية العقلائية، ولا يلازم ثبوت هذه القاعدة العقلية في الموالي العقلائية العرفية المجعولة ثبوتها في المولوية الذاتيّة المطلقة للّه تعالى يقول المحقّق الشهيد(رحمهالله): «فلا بدّ من جعل منهج البحث ابتداء عن دائرة مولوية المولى، وأنّها بأيّ مقدار، وهنا فرضان:
1. أن تكون مولويّة المولى أمراً واقعياً موضوعها واقع التكليف بقطع النّظر عن الانكشاف ودرجته، وهذا باطل جزماً؛ لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركّب منجّزاً ومخالفته عصياناً، وهو خلف القطع وواضح البطلان.
2. أن يكون حقّ الطاعة في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلّفين من المولى، وهذا هو روح موقف المشهور الّذي يعني التبعيض في المولويّة بين موارد القطع و الوصول وموارد الشكّ. ولكنا نرى بطلان هذه الفريضة أيضاً، لأنّا نرى أنّ مولويّة المولى من أتمّ مراتب المولويّة على حدّ سائر صفاته، وحقّه في الطاعة على العباد أكبر حقّ، لأنّه ناشئ من المملوكية والعبودية الحقيقية.
3. المولويّة في حدود ما لم يقطع بالعدم، وهذه هي التي ندّعيها، وعلى أساسها ننكر قاعدة قبح العقاب بلا بيان التي على أساسها ذهب المشهور إلى التبعيض في المولويّة، وكأنّهم قاسوا ذلك ببعض المولويّات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف».
وبناءً على ذلك، تبقى لدينا مهمّة واحدة ليتمّ بها تقرير هذه القاعدة العقلية وشمولها لـ (حقّ الطاعة) للّه تعالى على عباده وهي تعميم هذه القاعدة العقلية لتشمل (حقّ الطاعة) للّه تعالى على عباده.
وهذا التعميم يثبت بصورة قطعية بملاحظة وحدة مصدر الطاعة الشرعية، أو وحدة حقّ الطاعة. فليس لدينا حقّان ومصدران للطاعة، حقّ الطاعة للّه وحقّ الطاعة لغير اللّه تعالى من الموالي، وإنّما هو حقّ واحد ومصدر واحد.
وتوضيح ذلك: إنّ الطاعة لا تزيد على حالتين: إمّا أن تكون طاعة شرعية، أو تكون طاعة غير شرعية.
... وليس من شكّ أنّ العقلاء يتطابقون على أنّ حقّ الطاعة مشروط بوصول التكليف إلى المكلّف، وما لم يصل التكليف إلى المكلّف وصولاً قطعياً لا يكون للمولى حقّ للطاعة على المكلّف.
وإذا عرفنا بوحدة حقّ ومصدر الطاعة الشرعية أمكننا أن نعمّم الحكم العقلي السابق في مورد حقّ اللّه تعالى على عباده بالطاعة.
وليس من شكّ أنّ للّه تعالى أن يطلب الطاعة من عباده بالاحتياط في حال احتمال التكليف والشكّ، بل الوهم أيضاً، ولكن بشرط التبليغ، ومن دون التبليغ يبقى الحكم العقلي الثابت في موارد الطاعة المشروعة نافذاً في حقّ طاعة اللّه تعالى على عباده، من دون فرق، لوحدة حقّ الطاعة ومصدرها. فما يشترط من شرط في حقّ الطاعة هناك يشترط في حقّ الطاعة للّه، وما لا يشترط هناك لا يشترط في حقّ الطاعة للّه، وذلك لأنّ هذه النماذج من الطاعة واحدة. وحقّ الطاعة لها وللّه تعالى من المتواطي الّذي لا تختلف أفراده من حيث الزيادة والنقيصة وليس من مقولة المشكّك، وإن اختلفت في مساحة الطاعة.
ولا فرق فيها بين وجوب ووجوب، وطاعة وطاعة، فإنّ وجوب طاعة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ووجوب طاعة أوصيائه وخلفاء أوصيائه والحكّام والمسؤولين الشرعيين من وجوب طاعة اللّه.
ولدى التزاحم بين هذه الواجبات نرجّح الأهمّ من حيث متعلّق الأمر والوجوب، لا الأهمّ من حيث مصدر الأمر والوجوب، كما هو مقتضى باب التزاحم. فإنّ ردّ السلام ـ مثلاً ـ واجب بصريح القرآن، فلو تزاحم ردّ السلام مع تكليف الوالد لولده بمهمّة خطيرة قدّم الولد أمر الأب على ردّ السلام، وذلك لأنّ طاعة الأب هي من طاعة اللّه تعالى، ولا فرق بين طاعة وطاعة إلاّ من حيث أهمّية متعلّق الأمر. فإذا كان متعلّق الأمر في تكليف الوالد أهمّ من ردّ السلام قدّمه عليه لدى التزاحم على قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ.
فإنّ طاعة الوالد من الطاعة للّه تعالى ووجود الوسائط لا يغيّر جوهر الطاعة. فيتمّ تقديم طاعة على طاعة بموجب أهمّية متعلّق الأمر لا بموجب أهمّية مصدر الأمر، فإنّ مصدر الأمر في كلّ هذه النماذج هو اللّه تعالى.
وهذه حقيقة مهمّة تعيننا في درك عمومية قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) في مورد طاعة اللّه تعالى، وعدم وجود استثناء في البين.
والفرق بين الولايتين بأنّ إحداهما ذاتية والاُخرى مجعولة وبالعرض، غير فارق فيما هو المهمّ من هذه المسألة في اشتراط حقّ الطاعة للمولى بوصول التكليف، أو عدم الاشتراط. وذلك لأنّ المولويّات العرضية المشروعة التي هي من النحو الثاني تتمّ بجعل من اللّه تعالى. وليست لها طاعة ومعصية مستقلّة عن طاعة اللّه ومعصيته»[77].
توضيح الإشكال
بيان الإشكال أنّ المستشكل يذهب إلى الاعتقاد بأنّه كما يجب القطع بالتكليف من قبل المكلّف بالنسبة إلى أحكام الموالي العرفيين، ولا يكون التكليف منجّزاً من دون القطع، كذلك الأمر بالنسبة إلى أحكام اللّه أيضاً؛ وذلك لأنّنا لا نمتلك مصدرين ومنشئين لـ «حقّ الطاعة»؛ لنقول إنّ الحاكم بـ «حقّ الطاعة» في الموالي العرفيين شيء، وفي مورد اللّه تبارك وتعالى يكون المصدر شيئاً آخر. بيد أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في مقام الفصل والتفكيك بين هذين النوعين من الطاعة، يعمد إلى الاستدلال بـ «السيرة العقلائية»؛ بمعنى أنّ مصدر ومنشأ الموالي العرفيين في العلاقات الاجتماعية بين العبد والمولى هي السيرة العقلائية، وطبقاً لهذه السيرة حيث لا يحصل القطع واليقين لدى العبد بأوامر المولى، لا يكون التكليف منجّزاً عليه، وحتى لو حصل له في مورد احتمال قوي، مع ذلك لا يحقّ للمولى أن يذمّه أو يؤاخذه؛ وأمّا في مورد اللّه تبارك وتعالى فإنّ العقل العملي الأوّلي يدرك «حقّ الطاعة» بالنسبة إلى جميع تكاليفه؛ وذلك لأنّ اللّه هو المنعم والمالك والخالق الحقيقي للإنسان، وبذلك تكون مولويّته مطلقة، ولا أمد لها.
وعلى هذا الأساس، ليس لدينا بالنسبة إلى «حقّ الطاعة» سوى مصدر واحد، وهو العقل؛ بمعنى أنّ العقل العملي وحده هو الذي يرى في بعض الموارد ـ بالنسبة إلى فرد أو ذات ـ حقّاً باسم «حقّ الطاعة»، ولا يوجد مصدر ومنشأ غير هذا المصدر، ولذلك فإنّ الأمر في الموالي العرفيين ليس بأن يتّفق العقلاء على أنّ المولى إذا أصدر أمراً، فإنّه تجب إطاعته من قبل العبد؛ بل إنّه بمقتضى ذات العقل العملي يوجد «حقّ الطاعة» للمولى العرفي بسبب ذلك الحقّ الثابت له على العبد ولو على نطاق محدود. وعلى هذا الأساس، فإنّ المنظور ـ طبقاً للرأي المشهور ـ في مقام المقارنة بين مولويّة اللّه تبارك وتعالى ومولويّة الموالي العرفيين، هو وحدة العلّة ووحدة المصدر، ولذلك لا يمكن اعتبار حقّ الطاعة بالنسبة إلى اللّه تبارك وتعالى أوسع من دائرة حقّ الطاعة بالنسبة إلى الموالي العرفيين.
وعلى هذا الأساس، فإنّ المستشكل يؤكّد في هذا الإشكال على ثلاث نقاط، وهي كالآتي:
النقطة الاُولى: إنّنا إنّما نقول بأصل «حقّ الطاعة» للّه تبارك وتعالى بملاك المنعميّة ووجوب شكر المنعم، وكذلك بملاك الخالقية، كما أنّه لا يوجد شخص يشكّ في هذه المسألة، وهي أنّ القطع بالتكليف يمثّل شرطاً للامتثال من الناحية العقلية أو العقلائية. وعليه: إذا كان مبنى هذا الشرط في الموالي العرفيين هو السيرة العقلائية، فإنّه سيحتاج إلى إمضاء الشارع، وما لم يرد «الإمضاء» و«عدم الردع» لن يكون له اعتبار؛ وأمّا إذا كان مبنى هذا الشرط هو العقل العملي الأوّلي، فلن يكون بحاجة إلى إمضاء الشارع.
النقطة الثانية: يقول المستشكل نحن نقبل بأنّ قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» مسبوقة بدائرة «حقّ الطاعة»؛ بمعنى أنّ هناك قبل قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وفي حلقة سابقة حكم عقلي آخر اسمه «حقّ الطاعة»، ومن هنا حيث يتمّ إحراز حقّ الطاعة، لا يكون العقاب قبيحاً، وفي كلّ مورد لا يحرز «حقّ الطاعة» يكون العقاب قبيحاً.
النقطة الثالثة: هل هناك فرق بين إطاعة اللّه وإطاعة غير اللّه؟ وهل هناك حقّ طاعة للّه سبحانه وتعالى، وحقّ طاعة للموالي العرفيين؟ وهل تكون إطاعة الولد لوالده، وإطاعة الزوجة لزوجها، وحتّى اطاعة الناس للأئمّة الأطهار(عليهمالسلام) أو إطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهمختلفة عن إطاعة اللّه سبحانه وتعالى؟ حتّى نستنتج من ذلك ونقول: إنّه في الموارد التي نأخذ إطاعة اللّه سبحانه وتعالى بنظر الاعتبار تكون دائرة «حقّ الطاعة» واسعة جداً، فحتّى إذا كان هناك احتمال ضعيف، كان ذلك الاحتمال منجّزاً؛ وأمّا بالنسبة إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله وغيره فإنّ دائرة «حقّ الطاعة» تقتصر على حدود الاُمور المقطوع بها فقط؛ إذ في هذه الموارد لا توجد هناك مولويّة ذاتية.
إنّ لازم هذا الادّعاء هو أن يكون الحاكم بـ «حقّ الطاعة» في مورد اللّه سبحانه وتعالى، مختلفاً عن الحاكم بـ «حقّ الطاعة» في غير مورد الذات الربوبية المقدّسة. في حين إنّه قد أثبتنا في الخطوة الاُولى أنّه لا يوجد في هذه الموارد سوى حاكم واحد، وهو العقل العملي فقط. وبمقتضى هذا العقل لا يوجد فرق في الطاعة المولويّة بين المولويّة الذاتية والاعتبارية. وكما أنّ العقل يدرك أصل هذه القضية، فإنّه يدرك أنّ شرطها هو القطع بالحكم أيضاً.
والذي يؤيّد هذا الادّعاء القائل بأنّ منشأ الحكم لا دخل له في باب التكاليف، أنّه لو حصل التزاحم بين وجوب ردّ السلام ووجوب إطاعة الوالد، يذهب الاُصوليون إلى القول بتقديم المورد الأهمّ، وهو هنا إطاعة الوالد؛ في حين أنّ مسألة وجوب ردّ السلام مجعولة من قبل اللّه على الإنسان، وموضوع إطاعة الوالد توجد بنفس الأمر الصادر من الأب. وعلى هذا الأساس، فإنّ الذي له دخل في مسألة «حقّ الطاعة» هو متعلّق التكليف، ولذلك يجب في باب التزاحم أن نبحث أيّ واحد من تلك الموارد هو الأهمّ.
والنتيجة هي أنّ المستشكل يرى أنّ مسألة اشتراط الوصول القطعي في لزوم امتثال التكاليف ـ حتّى في مورد الموالي العرفية ـ إنّما تكون بملاك إدراك العقل العملي، وهو العقل الذي يحكم بالحُسن والقبح، ولذلك فإنّه ينفي نشأة هذا الاشتراط من إدراك العقلاء، أو توافقهم وتواطؤهم؛ لا سيّما وأنّ المستشكل يعتقد بأنّ هناك نوعين من الطاعة في الموالي العرفيين، النوع الأوّل: «الطاعة الشرعية»، والنوع الثاني: «الطاعة غير الشرعية»؛ والطاعة الشرعية هي إطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله والأئمّة الأطهار(عليهمالسلام) والذين أمر اللّه سبحانه وتعالى بإطاعتهم؛ مثل الأب والزوج. وأمّا الطاعة لغير هؤلاء فلها عنوان غير شرعي. فهل منشأ وجوب الطاعة في موارد الطاعة الشرعية يختلف عن «حقّ الطاعة» للّه تبارك وتعالى، أم لا؟ يبدو أنّه لا يوجد في البين نوعان من حقّ الطاعة في هذه الموارد؛ حتى يقال: إنّ نوعاً من حقّ الطاعة مقيّد ومحدود، وهو مجعول لغير اللّه تعالى، وهناك نوع آخر من حقّ الطاعة على نحو مطلق، وهو يوجد بالنسبة إلى اللّه تبارك وتعالى فقط؟
وبطبيعة الحال، يجب الالتفات إلى أنّ الموارد التي يكون فيها النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهمأموراً بإبلاغ الأحكام الإلهيّة، تكون إطاعته بالعنوان الأوّلي إطاعة للّه سبحانه وتعالى، ولا يوجد في الأساس شيء آخر غير إطاعة اللّه تعالى، وإنّ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهفي هذه الموارد مجرّد واسطة في الإبلاغ. وأمّا في الموارد التي يصدر النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله أمراً بصفته الشخصية، من قبيل أوامره في الحرب، فتكون إطاعته إطاعة للرسول. وطبقاً لهذا المبنى، ينبغي أن ينحصر الوجوب في دائرة القطعيات فقط. وعلى هذا الأساس، لو قلنا في مورد النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله: إنّ التكاليف التي تصدر منه إلى العباد إنّما يجب امتثالها إذا بلغت مرحلة القطعية، وإذا لم تبلغ مرحلة القطع فلا يجب امتثالها، كذلك يجب أن نتّخذ ذات هذا المبنى بالنسبة إلى الأحكام والتكاليف الصادرة عن اللّه أيضاً.
والنقطة الاُخرى أنّه على الرغم من أنّ إطاعة الوالدين وإطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهكلاهما واجب من حيث وجوب الطاعة، وتعدّ مخالفتهما معصية، ولكن هناك فرق بين هذه الموارد من حيث الملاك، وإنّ معصية النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله تكون أشدّ.
دفاع بعض تلاميذ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، ونقد الإشكال المذكور
فقد تصدّى بعض تلاميذ[78] السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الدفاع عن سماحته في مقام نقد هذا الإشكال. فقد ذهب هذا الناقد المحترم إلى الاعتقاد بعدم صوابيّة ما قاله المستشكل؛ إذ يقوم مدّعى المستشكل على أنّ شرط الامتثال في الموالي العرفيين هو الوصول القطعي إلى العبد، وما دام العبد غير قاطع، لا يجب عليه امتثال التكليف، وهذه الشرطية إنّما تكون بحكم العقل العملي، وليست مجرّد توافق وتبان عقلائي؛ إذ أنّ الحاكم بهذه الشرطية ليس له مصدران؛ وبطبيعة الحال، فإنّ توافق العقلاء على هذا الاشتراط، يمثّل شاهداً على صحّة الإدراك القطعي بواسطة العقل العملي. يذهب الناقد المحترم إلى ضرورة بحث المولويّات البشرية، ويثبت سماحته أنّ المولويّات البشرية ـ كما قال سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ لا تخرج عن ثلاثة أقسام. وإنّ بعض المولويّات هي من قبيل المولويّات الاعتبارية، وإنّ حدودها تكون تابعة لاعتبار المعتبر، ولذلك لا ربط لها بالعقل العملي. وإذا كانت مرتبطة بالعقل العملي، فإنّها في المولويّات البشرية، تسجّل حضورها بملاك آخر.
توضيح ذلك: أنّه في القسم الأوّل يقوم البشر أنفسهم بوضع مولويّة خاصّة لهم؛ كما هو الحال في الانتخابات، وهذا النوع من الموارد لا ربط له بالشرع، وإنّ هذا النوع من المولويّة ليس مولويّة شرعية، بل إنّ استعمال مصطلح المولى في هذه الموارد استعمال مجازي، وبالتالي فإنّ هذا القسم خارج عن محلّ النزاع، وإنّ حدود هذه المولويّة ودائرة اختياراتها تابعة بدورها للقيود والخصائص التي يتواضع عليها الناس بالنسبة إلى رئيسهم.
وأمّا القسم الثاني من المولويّة، فهو المولويّة الي يجعلها اللّه سبحانه وتعالى لبعض أفراد البشر بشكل مباشر، من قبيل الولاية المجعولة للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوالأئمّة الأطهار(عليهمالسلام)، أو الموضوعة لبعض الأفراد بشكل غير مباشر، من قبيل ولاية الفقيه. وفي هذا النوع من المولويّات، لن تكون إطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهمنفصلة عن حقّ الطاعة للّه تبارك وتعالى؛ بمعنى أنّ جوهر وحقيقة إطاعة النبيّ صلىاللهعليهوآله، هي ذات حقّ الطاعة الثابت للّه عزّ وجلّ، ولذلك لو تمّ إدراك هذا الحقّ بواسطة حكم العقل العملي، فإنّ «حقّ الطاعة» للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله سوف يكون كذلك بطبيعة الحال أيضاً. يذهب الناقد المحترم إلى الاعتقاد بأنّ هناك وجوبين في مثل هذه المولويّات، وهو الوجوب العقلي، والوجوب الشرعي؛ بمعنى أنّه من حيث أنّ إطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهواجبة، فإنّ هذه الطاعة تكتسب ـ بمقتضى أمر اللّه سبحانه وتعالى باطاعة النبيّ ـ وجوباً شرعيّاً وتأسيسياً؛ وأمّا من ناحية أنّ إطاعة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله هي إطاعة للّه عزّ وجل، فإنّها سوف تكتسب وجوباً عقلياً أيضاً.
وبطبيعة الحال، فإنّ سماحته في هذا القسم يذهب بالتالي إلى الاعتقاد بأنّ هذا الوجوب حيث يكون وجوباً شرعياً، يجب الرجوع في تعيين حدوده وثغوره إلى كتاب اللّه، ويتمّ تحديد مساحته من خلاله. وعليه، فإنّه في مثل هذه الحالة يجب على اللّه أن يبيّن حدود دائرة مولويّة النبيّ والإمام، وما إذا كانت واسعة تشمل حتى الموارد المحتملة، أو هي ضيّقة تقتصر على موارد القطع واليقين فقط. وعلى هذا الأساس، لا يمكن الرجوع ـ في هذه الموارد ـ إلى العقل العملي، بل يجب على منشأ جعلها ـ الذي هو الشارع المقدّس فيما نحن فيه ـ أن يحدّد مساحتها أيضاً. من ذلك أنّ الشارع المقدّس ـ على سبيل المثال ـ قد حدّد دائرة حقّ الطاعة للأب بحيث لا يأمر ولده أو ينهاه بما يؤدّي إلى كفره وشركه، أو تمرّده على اللّه سبحانه وتعالى.
ونتيجة لذلك فإنّه في الموارد التي يكون العقل العملي هو الذي يحكم بوجوب الطاعة، فإنّه على هذا العقل العملي أن يعمل بدوره على تحديد دائرة الطاعة، وحيث يكون الجعل والاعتبار هو الذي يحكم بالطاعة، فإنّ سعتها وضيقها سوف تكون بدورها تابعة لهذا الجعل والاعتبار أيضاً. وبعبارة اُخرى: إذا كانت المولويّة مجعولة، فمن المحال أن تكون دائرتها عقلية، وكذلك في الموارد التي تكون المولويّة عقلية، من المحال أن تكون دائرتها مجعولة.
إنّ القسم الثالث من المولويّة يرتبط بالمولويّة البشرية أيضاً؛ حيث يحكم بها العقل في هذا المورد بملاك المنعميّة بالنسبة إلى أولياء النِعم، ويرى ذلك كافياً في الحكم بثبوت حقّ الطاعة، في حين أنّه لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هذا النوع من المولويّات هو الآخر ليس ذاتياً، وإنّ توسيع دائرة حقّ الطاعة بدوره تابع لملاك المولويّة. من ذلك على سبيل المثال: في بعض الموارد حيث يكون ملاك المنعميّة أوسع، يجب اتّباع غير موارد القطع أيضاً، وإذا كانت المنعميّة موجودة في مورد محدود، فإنّ العقل يحكم بطبيعة الحال بضرورة الامتثال في موارد القطع فقط. وعلى هذا الأساس، فإنّ دائرة «حقّ الطاعة» في هذا النوع من الموارد، تابعة من حيث القوّة والضعف لسعة وضيق الملاك.
والخلاصة هي: أنّ الناقد المحترم يرى أنّ الخطأ الذي يرتكبه المستشكل يكمن في هذه النقطة، وهي أنّه يرى أنّ إطاعة الأولياء المعصومين إطاعة للّه. ونتيجة لذلك، يذهب إلى الاعتقاد بأنّ ذات «حقّ الطاعة» الموجود في مورد اللّه، موجود في هذه الموارد أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، وإنّه في هذا النوع من الموارد إنّما نمتلك وجوباً عقلياً ووجوباً شرعياً؛ إذ أنّ لإطاعة هؤلاء من جهة وجوباً شرعياً، ولكنّهم من جهة اُخرى حيث هم من مصاديق «من أمر اللّه بطاعته»، لا تكون إطاعتهم واجبة بالوجوب العقلي ومن مدركات العقل العملي، بل إنّ وجوب الطاعة في هذه الموارد أمر اعتباري، حيث يكون تعيينه مثل وجوب الصلاة والصوم، بمعنى أنّ وجوب هذه الأحكام يخلق موضوع الطاعة العقلية، وأمّا هو فلا ينطوي على عنوان اطاعة اللّه بالعنوان الأوّلي، ومن ناحية اُخرى حيث إنّ إطاعة هؤلاء تعود إلى إطاعة اللّه، إذن فهي تحتوي على وجوب عقلي ولكن بالواسطة. وعلى كلّ حال، فإنّ حقّ الطاعة للّه سبحانه وتعالى من جملة الموضوعات التي يدركها العقل على نحو الاستقلال. وبعبارة اُخرى: إنّه من مدركات العقل العملي؛ وعلى هذا الأساس، لا ينبغي أن نقول بالاتّحاد بين هذين السنخين.
والنتيجة هي أنّه كما أنّ أصل وجوب الصلاة أمر شرعي واعتباري، يمكن للشارع المقدّس أن يذكر قيوداً لحدوده وثغوره أيضاً. من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ الشارع يمكنه أن يجعل وجوب الجهر في الصلاة على المكلّف إذا كان عالماً بهذا الحكم، في حين أنّ العقل لا يمتلك مثل هذه القابلية أبداً، بحيث يدرك ملاك التعبّديات من قبيل وجوب الصلاة وحدودها وأبعادها، ولكن من ناحية اُخرى يوجد هناك إلى جانب هذا الوجوب الشرعي حكم عقلي أيضاً، وهو وجوب اطاعة اللّه الذي يدركه العقل أيضاً.
بيان محلّ النزاع
والآن بعد ملاحظة الإشكال على نظرية السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، ونقد هذا الإشكال من قبل بعض تلاميذه، نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه يلزم إيضاح محلّ النزاع وأبعاده بشكل أكبر، لكي يتّضح الحقّ في هذه المسألة. وعلى هذا الأساس، سوف نشير إلى عدد من النقاط المحوريّة في بحث حقّ الطاعة:
النقطة الاُولى: هل هناك نزاع واحد في هذه المسألة، أم هناك نزاعان؟ وإذا كان هناك نزاع واحد فما هو؟
إنّ لكلمات بعض القائلين بحقّ الطاعة ظهوراً في أنّه لا يوجد هنا سوى نزاع واحد، بمعنى أنّه حيث يكون الامتثال في الموالي العرفيين مشروطاً بالوصول القطعي للتكليف، ويكون لزوم الامتثال في هذه الدائرة مسلّماً، فإنّ النزاع بدوره يدور حول ما إذا كان يمكن لنا قياس مولويّة اللّه تبارك وتعالى على مولويّة الموالي العرفيين، بأن نقول: حيث أنّ الامتثال في مورد الموالي العرفيين ينحصر في دائرة القطعيات فقط، كذلك يكون الأمر بالنسبة إلى اللّه أيضاً، أم أنّ هذا القياس غير صحيح؟ وعليه، فإنّ النزاع يدور حول هذه المسألة فقط، وهي هل يجوز هذا القياس، أو لا يجوز؟
البيان الآخر لمحلّ النزاع هو أنّ البحث في الأساس ليس في القياس وعدم القياس، ولا نريد أن نقيس مولويّة اللّه مع مولويّة الموالي العرفيين، إنّما البحث حول ما إذا كانت المولويّة الذاتية للّه التي تقوم على أساس منعميّته وخالقيّته، تقتضي ـ من الناحية العقلية ـ «حقّ الطاعة» على نحو موسّع بحيث تشمل موارد من قبيل الظنّ بالتكليف واحتماله أيضاً، أم لا؟
وعليه: فإنّ البحث هنا فيما إذا كان النزاع يدور حول تصوّر القياس وعدم القياس تارة، وهناك تارة اُخرى نزاع من نوع آخر، وهو أنّنا لا ننظر إلى القياس، وإنّما يجب أن ننظر إلى ما تقتضيه المولويّة الذاتية للّه سبحانه وتعالى.
لقد ورد الحديث في بعض الكمات حول بحث القياس، حتّى ذهب البعض إلى أنّ هذا القياس والمقارنة هي صلب الكلام، في حين لم يرد الكلام في البيان الثاني عن الموالي العرفيين أبداً، وإنّما كلّ البحث يدور حول المولويّة الذاتية للّه تبارك وتعالى بملاك المنعميّة والخالقيّة، وكذلك إدراك سعتها من قبل العقل أيضاً.
النقطة الثانية: حول الخلط في مورد المصدر الحاكم على لزوم الامتثال في الموالي العرفيين، بمعنى أنّه من الواضح أنّ دائرة الامتثال بالنسبة إلى الموالي العرفيين محدودة بالاُمور المقطوع بها، إنّما الاختلاف هنا حول ملاك عقلية، أو عقلانية ذلك.
النقطة الثالثة: حول وجود الملازمة أو عدم الملازمة بين المولويّات الاعتبارية والمجعولة، وبين دائرة الطاعة؛ بمعنى هل أنّ هناك ملازمة بين اعتبارية وجعلية المولوية وكون دائرة هذه المولوية من حيث كون سعتها وضيقها بيد الجاعل والمعتبر أيضاً، أم لا توجد مثل هذه الملازمة، وأنّ للعقل هناك طريقاً أيضاً؟
ذهب بعض أنصار مسلك «حقّ الطاعة» إلى الاعتقاد بأنّه إذا تمّ جعل مولوية ما، لا يكون هناك للعقل أيّ حقّ في التدخّل، ولا يمكنه الدخول في تلك الدائرة، ولكن هناك في المقابل احتمال آخر، وهو أنّه في المولوية الاعتبارية والجعلية كما يمكن للمعتبِر والجاعل أن يعيّن حدود إطاعة المجعول، ويمكن للعقل كذلك في بعض الموارد أن يتدخّل، ويكون لإدراك العقل في هذه الموارد حجّية بطبيعة الحال أيضاً.
وعلى هذا الأساس، فإنّ البحث هو أوّلاً: هل العقل في خصوص ذات اللّه يقول بتوسيع دائرة «حقّ الطاعة»، أو أنّه يعمل على تحديدها؟
وثانياً: هل إنّ العقل يرى للمولى بما هو مولى ـ سواء كان هو اللّه أو غيره ـ «حقّ الطاعة» بشكل موسّع أم مضيّق؟ ليصل الدور بعد ذلك إلى هذا البحث وهو هل «حقّ الطاعة» في مورد اللّه يكون بتشخيص العقل، وفي مورد غير اللّه يكون من خلال بناء العقلاء وتوافقهم أم لا؟ بمعنى أنّ منعمية وخالقية ومالكية اللّه هل تقتضي من الناحية العقلية أن يرى العبد غاية الحرمة للّه سبحانه وتعالى، وأن يراعي حتّى التكاليف التي يحتملها، أم أنّ العقل رغم قوله بلزوم حقّ الطاعة بالنسبة إلى اللّه، يرى العبد ملزماً بامتثال خصوص التكاليف المقطوعة فقط؟ ومن هنا، إذا لم يقم العبد بامتثال التكاليف غير القطعية لا يكون منتهكاً لحقّ مولوية اللّه، ولا يكون ظالماً بحقّ اللّه تبارك وتعالى.
يجب علينا أن نحلّل وندقّق من منطلق هذا البيان، لنستنتج أيّ النظريتين يجب أن يتمّ بيانها هنا. وسوف نقوم بهذا التحليل ضمن الانتقادات التي أوردها سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ على النحو الآتي:
النقد الأوّل
إنّ أنصار نظرية «حقّ الطاعة» يقولون بالملازمة بين لزوم إطاعة اللّه ودائرة «حقّ الطاعة»، ويذهبون إلى الاعتقاد بأنّه كما أنّ «أصل لزوم إطاعة اللّه» حكم بديهي أوّلي عقلي، ولا يحتاج إلى برهان، فإنّ دائرة «حقّ الطاعة» بدورها عنوان بديهي وأوّلي. ومن هنا، يجب على العبد أن يطيع في جميع الموارد، الأعمّ من المقطوع بها أو المحتملة. وإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يؤكّد على هذه النقطة كثيراً، ويذهب إلى الاعتقاد بأنّ حقّ الطاعة كما هو بديهي وغير مبرهن، فإنّ دائرته كذلك أيضاً، وإنّ العقل العملي يثبت حقّ الطاعة حتّى في الموارد المحتملة أيضاً.
ويرد في هذا البحث سؤالان لابدّ من بحثهما، وهما كالآتي:
السؤال الأوّل: هل هناك ملازمة بين بداهة الشيء عقلياً وبين حدود دائرته؟ يبدو أنّه لا مانع من أن يدرك العقل لزوم إطاعة اللّه سبحانه وتعالى بوصفه حكماً أوّلياً بديهياً، وفي الوقت نفسه لا يكون لديه حكم بديهي في دائرة وحدود الطاعة؛ وذلك للأسباب الآتية:
أوّلاً: لا يوجد لدينا دليل بأنّ العقل إذا أدرك حكماً بشكل بديهي، فإنّ دائرته يجب أن تكون عقلية وبديهية أيضاً، بل قد يتدخّل العقلاء أو الشارع نفسه في تلك الدائرة أيضاً.
وثانياً: هناك شواهد على عدم وجود مثل هذه الملازمة، وهي كالآتي:
الشاهد الأوّل: في بحث اجتماع النقيضين، واستحالته الثابتة بالحكم العقلي البديهي، اختلفت المناطقة والفلاسفة في بعض شرائط هذا البحث، وعليه فإنّ الاستحالة العقلية لاجتماع النقيضين، لا تلازم أن تكون دائرتها بديهية أيضاً.
الشاهد الثاني: في بحث القطع الموضوعي أنّ اللّه سبحانه وتعالى يمكنه تحريم الخمر بذاته؛ بمعنى أن يحرّمه بعنوان الخمرية، ويقول مثلاً: «الخمر حرام»، ويمكنه كذلك أن يحرّم الخمر المعلوم، ويقول على سبيل المثال: «الخمر المقطوع حرام»، أو «إذا قطعت بخمرية شيء فهو لك حرام»، وهذا يعني أنّ الشارع يمكنه أن يرسم حدود الطاعة من حيث العلم، أو الاحتمال والظنّ.
وعلى هذا الأساس، لو أردنا أن نعتبر دائرة «حقّ الطاعة» أمراً بديهياً وعقلياً، فإنّ أوّل لازم فاسد يترتّب على ذلك هو أنّ الشارع تعالى لا يستطيع التصرّف في أحكامه، كما هو الحال بالنسبة إلى أصل حكم بديهي عقلي مثل استحالة اجتماع النقيضين، بمعنى أنّه إذا قام حكم عقلي بديهي في مورد شيء، فإنّ الشارع لا يستطيع أن يخالفه، في حين أنّ الشارع له حقّ التصرّف، ويمكنه أن يتصرّف في هذه الدائرة بالضرورة.
الشاهد الثالث: إنّ الشارع المقدّس يمكنه في موارد وجود الظنّ بالحكم، وقيام الاستصحاب في المقابل على الخلاف، أن يجعل الاستصحاب حجّة.
الشاهد الرابع: أنّ أنصار نظرية «حقّ الطاعة» يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ أدلّة الاحتياط إذا كانت تامّة، فإنّ هذه الأدلّة تزيل موضوع حكم العقل في قبح العقاب بلا بيان؛ وذلك لأنّ موضوع هذه القاعدة هو عدم البيان، وأدلّة الاحتياط تعدّ «بياناً»، وهم يرون ـ بطبيعة الحال ـ أنّ لزوم الاحتياط العقلي لا يتنافى مع ترخيص الشارع في البراءة الشرعية؛ بمعنى أنّ أدلّة البراءة الشرعية، تزيل موضوع «حقّ الطاعة»؛ لأنّ موضوع «حقّ الطاعة» هو كلّ احتمال موجود في مورد تكليف المولى، ويكون منجّزاً على المكلّف، إلاّ إذا كان الشارع من خلال الترخيص في ترك التحفّظ لا يرى العمل بالاحتياط لازماً. وعليه، فإنّه بالالتفات إلى هذه النقطة نلاحظ أنّ أصل لزوم الاحتياط حكم بديهي عقلي، ولكن تعيين دائرته ليس حكماً بديهياً عقلياً؛ وإلاّ لما أمكن للشارع مخالفته بواسطة جعل الحكم الترخيصي؛ أي إذا كان ملاك لزوم إطاعة الشارع هو الحكم العقلي البديهي، كان ذلك من قبيل عدم إمكان تصرّف الشارع في باب استحالة اجتماع النقيضين. وعليه: لا يمكن التقييد هنا ـ بالنسبة إلى لزوم الامتثال ـ من قبل الشارع أيضاً.
ومن ناحية اُخرى، من المحال أيضاً أن يكون الحكم العقلي مقيّداً، بمعنى أن يكون الوجوب العقلي للإطاعة منذ البداية مقيّداً بموارد لم ينفها اللّه سبحانه وتعالى؛ بمعنى أنّ الحكم العقلي لا يقبل التقييد أو التخصيص؛ إذ مادام مناط حكم العقل موجوداً، وكان في ذلك الفعل تمام الاقتضاء للطاعة، فإنّ الحكم العقلي سوف يكون موجوداً أيضاً. وعليه، إذا كان السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يرى أنّ ملاك حقّ الطاعة هو المولوية الذاتية للّه، وجب عليه القول باستمرارية لزوم الإطاعة إلى الأبد وعلى نحو مطلق، والترخيص بناءً على هذا الفرض لا يمكن أن يكون من شؤون المولوية.
نعم، يمكن للشارع في موارد الجهل بالحكم أن يرخّص رعاية لمصلحة التسهيل؛ ولكن لو كان لزوم الإطاعة حكماً بديهياً عقلياً، مثل امتناع النقيضين، فإنّ كلّ ما يتنافى وهذا الحكم العقلي البديهي لن يكون قابلاً للقبول، ولا قابلاً للتصوّر.
والنتيجة هي أنّنا نرى بالضرورة أنّ الشارع يستطيع التصرّف في دائرة «حقّ الطاعة»، وهذا الأمر يكشف عن أنّ حدود الحكم البديهي العقلي (حقّ الطاعة)، يمكن أن لا تكون بديهية، ويمكن للشارع أن يتصرّف فيها؛ بمعنى أنّ مقطوع الخمرية يمكن من الناحية الشرعية أن يكون حراماً، أو لا يكون الظنّ بالتكليف ـ بعد جعل الاستصحاب ـ قابلاً للامثال. وبعبارة اُخرى، إنّ نتيجة الجواب عن السؤال الأوّل هي أنّه لا توجد أيّ ملازمة بين بداهة حقّ الطاعة وبداهة دائرتها، فقد يكون أصل حقّ الطاعة بديهياً وعقلياً، ولكن يتمّ تحديد دائرته من قبل الشرع، وفي الموارد التي لا يكون للشارع تحديد وتعيين، يجب علينا العمل على طبق المرتكزات العقلائية.
السؤال الثاني: من الذي يجب عليه أن يحدّد لنا مصداق الطاعة؟ هل هو العقل، أم الشرع؟ بمعنى أنّه إذا كان محور النزاع بشأن المولوية الذاتية للّه تبارك وتعالى، وإذا كانت المولوية الذاتية تقتضي توسيع دائرة الطاعة، يلزم البحث عمّن يجب عليه تعيين مصاديق الطاعة؛ وهل يمكن للعقل أن يعيّن جميع مصاديق الطاعة؟ وهل يمكن للعقل أن يدرك أنّ هذا المورد من مصاديق الطاعة، وذلك المورد ليس من مصاديق الطاعة؟ أم أنّ الشارع هو الذي يتعيّن عليه تحديد مصاديق الطاعة، وأمّا العقل فتقتصر مهمته على تحديد شرائط لزوم الامتثال فقط.
ويبدو أنّه لا يوجد ترديد في هذه المسألة، وهي أنّ العقل إنّما يدرك أصل وجوب الإطاعة، إلاّ أنّ دائرتها ومصاديقها ـ ولا سيّما في باب التعبّديات، من قبيل: الصلاة والصوم ـ فيقع تحديدها وتعيينها على عاتق الشارع. ومن ذلك على سبيل المثال: أنّ الشارع هو الذي يمكنه التفصيل في مسألة الجهر والإخفات في الصلاة بين العالم والجاهل، أو يمكن للشارع أن يضيّق في بعض الموارد ويلاحظ القطع الموضوعي في حكمه، أو يوسّع في بعض الموارد الاُخرى، وينجّز الاحتمال بالنسبة إلى النفس والعرض والدم أيضاً، ومن هنا قيل: إنّ الأحكام الشرعية لطف في الأحكام العقلية، بمعنى أنّ العقل يدرك أنّ العبد يجب عليه أن يطيع اللّه، إلاّ أنّ الشارع قد بيّن مصاديق الإطاعة بجميع خصائصها بلطفه ورحمته.
إنّ ثمرة هذا البحث الهامّة تتّضح في بعض الموارد التي لم يعيّن الشارع حكمها، فيتعيّن على العقل قهراً أن يبيّن التكليف في تلك الموارد، بيد أنّ ملاك العقل في هذا النوع من الموارد ليس هو حقّ الطاعة، وإنّما هو مسألة قبح العقاب بلا بيان.
ومن ناحية اُخرى فإنّ التلازم بين جعل المولوية واعتبارية دائرة هذا الجعل، باطل أيضاً؛ بمعنى أنّه كما لا توجد ملازمة بين بداهة شيء ما، وبين دائرته، كذلكلا توجد ملازمة بين اعتبارية شيء ما، وبين اعتبارية دائرته أيضاً؛ إذ من الممكن في بعض الموارد أن يكون أصل نوع من المولوية اعتبارياً، ولكن يتمّ تعيين دائرته من قبل العقل؛ من ذلك لو أنّ اللّه سبحانه وتعالى قد جعل مولوية للنبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ـ على سبيل المثال ـ يمكن لدائرة تلك المولوية أن يتمّ بيانها من قبل العقل، كما يمكن أن يتمّ بيانها من قبل الشرع أيضاً؛ وبعبارة اُخرى: في الموارد التي لا يتدخّل الشارع في دائرة الشرع، يمكن للعقل أن يكون هو المرجع فيها.
النقد الثاني
لقد بحث أنصار نظرية «حقّ الطاعة» هذه المسألة على أساس المنعميّة الذاتية للّه ومالكيته وخالقيته، وقالوا: حيث أنّ اللّه منعم بالذات وخالق ومالك للبشر، فإنّ احترامه يقتضي من العبد أن يمتثل الأحكام الصادرة عن اللّه حتّى في الموارد المحتملة، في حين يبدو أنّ مقولة المنعميّة والخالقية والمالكية لا موضوعية لها في امتثال الأوامر الإلهية، بل بمزيد من التدقيق يمكن القول: لا دخل حتّى لمولوية اللّه في باب امتثال التكليف أيضاً؛ إذ يوجد هناك في هذا الباب عنوان هام آخر أيضاً، وهو عنوان مستقل، وهو عنوان «إنّه شارع مشرّع مقنّن»، بمعنى أنّ العبد في باب الامتثال ـ بملاك أنّ اللّه شارع ومكلِّف (بصيغة اسم الفاعل) ـ يجب أن يمتثل أوامره؛ ولذلك فإنّ ملاك أنّه منعم أو خالق أو مالك، لا يتدخّل في لزوم الامتثال مباشرة، بل يمكن لصاحب هذه الأوصاف أن يكون شارعاً، وبطبيعة الحال فإنّ لزوم الامتثال سوف يكون بملاك المشرّعية؛ بمعنى أنّ الخالقية والمنعمية حيثية تعليلية للشارع، وليس لها عنوان تقييدي.
ولتقريب الفكرة إلى الذهن يمكن القول: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يتّصف بالخالقية والمالكية حتّى بالنسبة إلى الكائنات الاُخرى، ولكنّه مع ذلك لا يمتلك تشريعاً بالنسبة إليها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأطفال وغير المكلّفين من بني البشر، في حين أنّ له ذات المالكية والخالقية تجاه الأطفال على غرار البالغين والمكلّفين، إلاّ أنّ العقل لا يطرح مسألة حقّ الطاعة بالنسبة إلى الأطفال أبداً. إنّ هذه الأمثلة تكشف عن أنّ موضوع «حقّ الطاعة» لا يكون بملاك الخالقية أو المنعميّة أو المالكية، وإنّما بملاك الشارعية، والعقلاء في موارد التقنين والتشريع، يعتبرون التكليف الواصل إلى المكلّف لازماً، دون الموارد المحتملة التي يكون وصولها مشكوكاً به، ولا سيّما أنّه يجب الالتفات إلى أنّ التشريع إذا لم يكن موجوداً، لما كان هناك لمخالفة اللّه والظلم بحقّ ذاته المقدّسة موضعاً من الإعراب أصلاً؛ بمعنى أنّ مسألة الظلم بحقّ المولى والخروج من زيّ العبودية، إنّما تكون مطروحة إذا أراد العبد مخالفة التكاليف الإلزامية والمحرزة للمولى.
ومن هنا، إذا لم يكن للمالك الحقيقي والمنعم الواقعي منذ البداية تشريعاً وتكليفاً، فإنّ العقل لن يطرح لزوم الامتثال بملاك المنعميّة والخالقية أبداً؛ إذ لا يكون هناك في الأساس موضوعاً للامتثال.
وعلى هذا الأساس، فإنّ حقّ الطاعة للّه تبارك وتعالى طبقاً لإدراك العقل العملي سوف يكون بـ «ملاك الشارعية»؛ بمعنى أنّ له حقّ الطاعة والانقياد لعمله على جعل دستور وقانون، بملاك كونه شارعاً. وبهذا التوضيح سوف تكون مسألة المولوية الذاتية التي تشكّل أساساً لمسلك «حقّ الطاعة» منتفية، ولا يمكن اعتبارها ملاكاً للإطاعة.
وبعبارة أوضح: إنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يعتقد أنّ للّه مولوية ذاتية، وإنّ مولويته الذاتية تقتضي من العبد أن يمتثل التكليف المحتمل حتّى إذا بلغت درجته واحداً بالمئة، في حين أنّ المولوية الذاتية ليست هي موضوع الامتثال، بل إنّ موضوع الامتثال هو القانون والجعل والتشريع والتكليف؛ وذلك لأنّ اللّه له صفات متنوّعة، وإنّ من بين صفاته أنّ له أوامر ونواهٍ، وإنّ على المكلّف أن يمتثلها؛ بمعنى أنّ للّه تبارك وتعالى يثبت له حقّ في أوامره ونواهيه طبقاً لإدراك العقل العملي. وعليه، إذا شككنا في مورد ما بأنّ التكليف موجود أم لا؟ فإنّ العقل لا يرى الإطاعة واجبة في مثل هذه الحالة؛ وذلك لأنّ العقل قد عمل منذ البداية على تحديد واقعية الموضوع، وقيّده بأنّ له «حقّ الطاعة إذا أمر ونهى»، بمعنى التكاليف التي يتمّ إحرازها بالإحراز اليقيني، أو ما يقوم مقام الإحراز اليقيني، وليس مطلق الإحراز.
ونتيجة ذلك هي أوّلاً: إنّ تمام الموضوع للإطاعة هو التكليف. وثانياً: ليس لدى العقل والعقلاء إلزام بالإتيان بالتكاليف المشكوكة، بمعنى أنّ لزوم حقّ الطاعة في هذه الموارد سوف يكون مشكوكاً. وبطبيعة الحال، يجب القبول بأنّ اللّه إنّما هو مشرّع بملاك الخالقية؛ بيد أنّ هذه الجهة من الحيثيات التعليلية ولا تشكّل جزءاً من الموضوع، ولذلك لا يجب في امتثال التكاليف والأوامر استحضار جهة الخالقية أو المنعميّة من صفات اللّه، بل يمكن الامتثال حتّى مع عدم استحضار هذه الصفة. وذلك لأنّ الذي يكون موضوعاً للامتثال مباشرة هو التكليف نفسه، ومن هنا لو افترضنا أنّ اللّه سبحانه وتعالى منذ البداية لم يصدر تكليفاً أو تشريعاً، فإنّه لن يكون له شيء باسم حقّ الطاعة، على الرغم من احتفاظه بصفة الخالقية والمالكية والمنعميّة.
النقد الثالث
اتّضح في الأبحاث السابقة أنّ صاحب كتاب «منتقى الاُصول»[79]، يُفرّق بين المولى العرفي والمولى الحقيقي، ويرى في الموالي الحقيقيّين أنّ العبد ليس له أيّ حقّ على المولى، ومن هنا لو أنّ العبد خالف في مورد الاحتمال، وعاقبه اللّه على ذلك يوم القيامة، لن يكون اللّه ظالماً له. وذلك لأنّ العبد وما بيده لمولاه. في حين أنّنا نرى أنّ العبد وإن لم يكن له حقّ على اللّه من جهة الخالقية والمالكية والمنعميّة، ولكن في باب التكليف هناك للعبد حقوقاً على المولى؛ بمعنى أنّه بمقتضى إدراك العقل العملي في دائرة التكليف، يكون جهل العبد موجداً لحقّ له بالنسبة إلى ترك الامتثال؛ بمعنى أنّ العبد إذا كان جاهلاً، لا يمكن للمولى أن يعاقبه؛ ولذلك ورد في بعض الروايات أنّ العبد يُسأل يوم القيامة: «لماذا لم تمتثل هذا الأمر؟»؛ فيقول في الجواب: «لم أعلم به!» فيُقال له: «هلاّ تعلّمت؟»، ولا يقال له: «بل كان عليك أن تعمل حتّى إذا لم تكن تعلم»؛ وهذا يعني أنّ هذا المستوى من الجهل يوجد نوعاً من الحقّ للعبد على المولى. أجل، حيث يكون العبد مكلّفاً بالتعلّم وقد عصاه؛ فسوف يعاقب على عدم التعلّم خاصّة، وأمّا بالنسبة إلى ترك الواجبات، فلن يكون هناك معنى لمعاقبته عليها، وهذا يعني أنّ الجهل بها قد أوجد للعبد حقّاً. وعلى هذا الأساس، لا يمكن من الناحية العقلية طرح مسألة «حقّ الطاعة» بشأن أيّ مولى «بما هو مولى» في غير حالة القطع، سواء أكانت المولوية ذاتية أو اعتبارية، وما لم يكن هناك علم بالتكليف، لن يكون هناك حكم بالإطاعة أيضاً. نعم، إذا كان هناك تكليف صادر من المولى، وقد وصل هذا التكليف إلى العبد، وجب الإتيان به.
النقد الرابع
طبقاً لنظرية حقّ الطاعة، حيث يحتمل وجود المطلوب الشرعي في أيّ مورد، ولم يرد الترخيص الشرعي بشأنه، فإنّ العقل يحكم بلزوم رعاية الحقّ المولوي وتحقيق غرض المولى؛ في حين يبدو أنّ غرض المولى لا يعتبر متعلّقاً للبعث، ولذلك لن يكون لتحصيله وجوب بالذات، ولا وجوب بالعرض؛ ومن هنا، ليس من اللازم أن نذهب إلى أبعد من حدود التكاليف الإلزامية والقطعية، وأن نأتي بها كذلك؛ لاحتمال اهتمام المولى في المشكوكات والمحتملات أيضاً.
وسوف نعمل على بيان هذا الإشكال فنّياً واُصولياً من وجهة نظر المحقّق الإصفهاني(رحمهالله). حيث قال في بيان ما هو الغرض والملاك اللازم:
إنّ تحصيل الغرض: تارة: يجب عقلاً لنفسه من دون نظر إلى الأمر، وموافقته أو اسقاطه. واُخرى: يجب عقلاً مقدّمة لإسقاط الأمر المنبعث عنه، حيث لا يسقط المعلول إلاّ بسقوط علّته. وثالثة: يجب شرعاً لبّاً، نظراً إلى أنّ ما يجب لفائدة ففي الحقيقة تلك الفائدة هي المطلوبة أوّلاً وبالأصالة، ومحصلها مطلوب ثانياً وبالتبع. ولا يخفى عليك: أنّ لزوم تحصيل الغرض لنفسه، تارة: يراد به الغرض بما هو غرض، أي المصلحة الباعثة الداعية، فسبيله سبيل موافقة الأمر بما هو أمر المولى؛ أو تحصيل مراد المولى بما هو مراده، فكذا تحصيل غرضه بما هو غرض له داع إلى إرادته وبعثه. واُخرى: تحصيل ذات الغرض، أعني نفس المصلحة اللّزومية بذاتها. ولذا لا ريب في أنّه إذا علم بأنّ ولد المولى غريق ولم يلتفت إليه المولى حتّى يدعوه إلى إرادة انقاذه والبعث نحوه، يجب عليه عقلاً انقاذه، لكونه ذا مصلحة لزومية، بحيث لو التفت إليها المولى لانقدح في نفسه الداعي إلى البعث إليه. والجواب عنه: أمّا على الوجه الأوّل بقسميه، فبأنّ تحصيل الغرض إنّما يجب إذا انكشف بحجّة شرعية أو عقلية، لا الغرض الواقعي الذي لا حجّة عليه عقلاً ولا شرعاً، فإنّه كالامر الواقعي والارادة الواقعية التي لا حجّة عليهما، فإنّه ليس من زيّ الرقيّة وعدم الخروج عن رسم العبودية تحصيل أغراض مولاه الواقعية التي لا حجّة عليها. وأيضاً الأمر بشيء يصلح للكشف عن سنخ غرض يفي به المأمور به، ولا يصلح للكشف عن سنخ غرض لا يفي به، إذ المفروض العلم بالغرض من طريق العلم بمعلوله، والعلّة والمعلول متوافقان سعة وضيقاً... . وأمّا على الوجه الثاني: فبأنّ الغرض القائم بشيء يستحيل أن ينبعث عنه الشوق، إلاّ إلى ذلك الشيء دون غيره ... وأمّا على الوجه الثالث: فبأنّ الأحكام الشرعية تارة: تكون مستندة إلى أحكام عقلية، واُخرى: لا تكون مستندة إليها. فالأولى: حيث إنّها بعين الملاك الذي يستقلّ العقل بحُسنه، فحالها حال الحكم العقلي. وقد بيّنا مراراً أنّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية حيثيات تقييدية لها، وأنّ الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها. فالضرب مثلاً بما هو تأديب حَسَنٌ، لا أنّه حسن للأدب المرتّب عليه، وأنّه الباعث على استقلال العقل بحُسنه، بل التأديب بعنوانه المندرج تحت عنوان الإحسان حسن، سواء انطبق على الضرب، أو على غيره. وبالجملة: فمثل هذا الحكم الشرعي حيث إنّه بملاك الحسن العقلي، فلا محالة حاله حاله في تحصيل الفعل بما هو معنون بالعنوان الحسن. والثانية: حيث إنّها بملاك مولوي في نظر الشارع، وقد مرّ وسيأتي ـ إن شاء اللّه تعالى ـ أنّ الملاكات المولوية الشرعية لا يجب أن تكون عين الملاكات الموجبة لاتّصاف الأفعال بالتحسين والتقبيح العقلائيين، فلا محالة تكون الأغراض متمحّضة في كونها حيثيات تعليلية، ولا موجب لكونها حيثيات تقييدية، إذ لا يتّصف الفعل بأنّه واجب شرعي، إلاّ إذا وقع في حيّز البعث والتحريك، ولا موقع للاتّصاف به واقعاً وظاهراً إلاّ من حيث تعلّق البعث به، والمفروض تعلّق البعث بنفس الفعل. وكذا حال الإرادة التشريعية، فإنّ البعث منبعث عنها، فلا يتسبّب المولى إلى إيجاد فعل، إلاّ إذا كان مراداً من المكلّف، فليس الغرض مراداً ولا واجباً شرعاً، لا بالذات ولا بالعرض[80].
توضيح ذلك: أنّ الأغراض من وجهة نظر المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) على ثلاثة أنواع، وهي:
النوع الأوّل: الغرض الذي ينطوي في حدّ ذاته على لزوم عقلي، بمعنى الملاكات والأغراض التي يكون تحصيلها لازماً من الناحية العقلية، ولا تحتاج إلى أمر الشارع.
النوع الثاني: الأغراض التي يكون لتحصيلها وجوب عقلي مقدّمي؛ بمعنى أنّ الغرض يكون تمهيداً لاسقاط الأمر. وفي الأساس، فإنّ الوجوب الذي يظهر في المأمور به إنّما يكون منبعثاً من ذلك الغرض، وإنّ النسبة بينهما هي نسبة العلّة والمعلول؛ بمعنى أن يكون الغرض هو العلّة، والأمر والنهي معلولاً له.
النوع الثالث: الأغراض التي يكون لها وجوب شرعي لُبّي، بمعنى أنّ هذه الأغراض لم تجب بالوجوب الشرعي لفظاً، من قبيل: الآثار والفوائد التي تذكر للإتيان بالواجبات في الشريعة.
والقسم الأوّل ـ الذي يكون للغرض فيه وجوب عقلي نفسي ـ ينقسم بدوره إلى نوعين آخرين:
في النوع الأوّل، يكون الغرض في نفسه مطلوباً للمولى، بمعنى أنّ ذات ذلك الملاك والمصلحة الداعية مطلوبة، وفي هذه الحالة يكون له ـ من حيث الموافقة والمخالفة ـ ذات حكم الأمر.
وفي النوع الثاني، يكون ذو الغرض مطلوباً للمولى؛ بمعنى أنّ ذلك الشيء الذي يحتوي على هذا الغرض يكون مطلوباً للمولى؛ من قبيل أن يرى العبد ابن مولاه يغرق، والمولى لا علم له بذلك حتّى يصدر أمراً بإنقاذ ولده؛ إلاّ أنّ العبد يعلم أنّ المولى لو التفت إلى هذه المسألة، فإنّه سوف يصدر الأمر له بإنقاذ ولده حتماً، وسوف يكون هذا الأمر مطلوباً له قطعاً. وعليه، فإنّ هذا النوع من الأغراض لن يكون بحاجة إلى أمر وبيان.
يقول المحقّق الإصفهاني(رحمهالله): إذا كان للغرض وجوب عقلي نفسي، فإنّه إنّما يكتسب قابلية التحقّق إذا علم المكلّف بوجوده من طريق الحجّة الشرعية، أو الدليل العقلي؛ بمعنى أنّ الأغراض الواقعية التي لا يعلم بها المكلّف، أو أنّه يحتمل وجودها فقط، لا يجب تحصيلها من الناحية العقلية. وعليه لو أنّ المكلّف قد احتمل وجود غرض أو ملاك في مورد ما، لا يمكن القول عقلاً: إنّ حقّ المولوية يقتضي الإتيان به، ولذلك إذا لم يوافق ذلك الغرض، لا يعتبره العقل خارجاً عن دائرة الرقيّة والعبودية.
إنّ للغرض في النوع الثاني وجوباً عقلياً مقدّمياً؛ بمعنى أنّ المقدّمة إنّما هي لإسقاط الأمر؛ بحيث أنّه لو لم يكن ذلك الأمر موجوداً، لما كان هناك وجوب لتحصيل هذا الغرض. إلاّ أنّ المهمّ في البين هو الغرض من النوع الثالث؛ بمعنى الملاكات التي تحتوي على وجوب شرعي لُبّي، ولم يتمّ التصريح بها على المستوى اللفظي. بيد أنّنا نعلم أنّ لدى الشارع مثل هذه الأغراض حقّاً. يقول المحقّق الإصفهاني(رحمهالله): إنّ هذا القسم على نوعين أيضاً؛ بمعنى أنّ الأحكام الشرعية تستند تارة إلى الأحكام العقلية، وتكون دعامتها حكماً عقلياً، وتارة اُخرى لا يكون الأمر كذلك. وعليه لو كانت دعامة الحكم الشرعي حكماً عقلياً، فسوف يكون هذا الحكم الشرعي من حيث الملاك نظير الحكم العقلي؛ وذلك لأنّ الحيثيات التعليلية في الأحكام العقلية هي في الواقع حيثيات تقييدية. من ذلك مثلاً لو أنّ الرجل ضرب ولده للتأديب، فإنّ لهذا «التأديب» ـ بحسب الظاهر ـ حيثية تعليلية، ولأنّ هذا الضرب قد وقع «للتأديب»، نقول: «الضرب حسن»، في حين أنّ الضرب بما هو ضرب ليس بحسَن، بل إنّ خصوص ما وقع من الضرب هنا هو الحسَن، وبكلمة اُخرى: إنّ التأديب هو الحسَن؛ بمعنى أنّ الضرب ليس له ملاك مستقلّ من قبيل الحُسن والقبح. وبعبارة اُخرى: إنّ جميع الحيثيات التعليلية تشكّل بنفسها موضوعاً لحكم العقل؛ أي أنّ ذات التأديب الذي هو حيثية تعليلية، يقع موضوعاً لحكم العقل، وإنّ العقل ليس له رأي بشأن حُسن وقبح الضرب أصلاً، ولكنّه يرى التأديب حسَن. وعليه إذا كان هناك حكم شرعي، وكانت دعامته حكماً عقلياً، وكان ذلك الحكم الشرعي مستنداً إليه، وجب أن نفترض الملاك الموجود في الحكم الشرعي شبيهاً بالملاك الموجود في الحكم العقلي، وأن نعتبره بوصفه حيثية تقييدية.
وفي المقابل، فإنّ بعض الأحكام الشرعية لا تستند إلى الأحكام العقلية. ومن هنا، سوف تكون مشتملة على ملاك المولوية الشرعية بشكل مستقلّ. وفي هذا القسم لن تكون ملاكات المولوية الشرعية عين الملاكات العقلية بالضرورة؛ من ذلك مثلاً أنّ العقل يحكم بحُسن شيء بملاك العدل، ومن الممكن للشارع أن يكون له مثل هذا الحكم، ولكن بملاك آخر.
وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر الغايات والأغراض التي تكون مورداً لنظر الشارع هي من النوع الثالث، وفرق هذا النوع عن النوع الأوّل يكمن في أنّ العنوان في الملاكات العقلية من القسم الأوّل، وإن كان ينطوي ـ بحسب الظاهر ـ على حيثية تعليلية، ولكنّها في الحقيقة والواقع إنّما تؤخذ بوصفها حيثية تقييدية وبوصفها جزء الموضوع، ويتمّ أخذها في الموضوع. وأمّا في النوع الثالث حيث يوجد غرض شرعي، فإنّ جميع الحيثيات في هذا النوع من الموارد تؤخذ بوصفها حيثيات تعليلية، وفي الأساس لا يوجد في الأغراض الشرعية مجال للحيثية التقييدية؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ الذي يقع متعلّقاً للبعث والأمر في اقامة الصلاة لـ «ذكر اللّه»، والصوم في شهر رمضان من أجل تحصيل «التقوى»، هو ذات الصلاة وذات الصوم، وأمّا «الذكر» و«التقوى» فلهما حيثية تعليلية، وليست تقييدية. ومن هنا، فإنّ الغرض في الغايات الشرعية لن يقع مورداً للطلب أو متعلّقاً للطلب أبداً؛ بل حتّى في هذا النوع من الأغراض الشرعية لا يمكن القول إنّ الصلاة أو الصوم قد وجبا بالأصالة، وإنّ الذكر أو التقوى قد وجبا بالعرَض.
والنتيجة هي أنّ دائرة المولوية ومساحة حقّ الطاعة تنحصر في أن يتعلّق الأمر أو النهي بشيء على نحو الفعلية، ولذلك ليس من اللازم امتثال شيء فيما وراء هذه الدائرة، وإنّ عدم امتثاله لن يكون متنافياً مع زيّ العبودية أيضاً.
النقد الخامس
والإشكال الآخر الذي يرد على نظرية حقّ الطاعة، هو أنّ هذا المسلك قد جعل من مسألة المنعميّة والخالقية والمالكية للّه سبحانه وتعالى ملاكاً، وحيث أنّ اللّه يتّصف بهذه الصفات، فإنّ ذلك سوف يكون سبباً في توسيع دائرة «حقّ الطاعة»، في حين أنّ اللّه يتّصف في الوقت نفسه بالرحمة والرحيمية الواسعة أيضاً، وإنّ التكليف ـ بمقتضى هذه الأوصاف ـ ما لم يكن واصلاً إلى العبد، لا يكون حقّ الطاعة موجوداً فيه، لا سيّما وأنّ هناك في بعض آيات القرآن تصريح؛ إذ يقول تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّة بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً»[81]. إنّ النقطة الهامّة في هذه الآية الكريمة أنّ كلمة «حجّة» ليست عنواناً تعبّدياً، بل هي كاشفة عن حقيقة أو ملاك عقلي أو عقلائي في قبال اللّه تبارك وتعالى؛ بحيث أنّ الناس لا يكون لهم حقّ على اللّه بعد إرسال الرسل، وإنّما يكون لهم مثل هذا الحقّ عند عدم إرسال الرسل.
النقد السادس
ورد في بعض كلمات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) أنّ البراءة العقلية تستلزم تحديد المولوية. في حين أنّ هذا الأمر غير صحيح؛ بمعنى أنّه في موارد عدم صدور البيان من قبل المولى، أو في موارد عدم وصول التكليف إلى العبد بشكل قطعي، يكون المكلّف معذوراً تجاه عدم التكليف. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه المعذّرية لا تعني نفي المولوية عن المولى أبداً. وبعبارة اُخرى: عندما يكون للبراءة العقلية عنوان العذر للمكلّف ظاهرياً، كيف يكون ذلك موجباً لتحديد مولوية المولى التي هي أمر تكويني؟! إذن كما أنّ يقين المكلّف بالتكليف الواقعي لا ينبثق عن المولوية الذاتية للمولى، وليس له أيّ تأثير في ذلك، كذلك يكون الأمر في الموارد المحتملة أيضاً.
النقد السابع
لقد جعل السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) من الحقّ وتضييع حقّ المولى موضوعاً للعقاب، وفي المقابل يذهب المشهور إلى الاعتقاد بأنّ موضوع صحّة العقاب هو البيان ووصول التكليف. ونحن على فرض التسليم بهذا المبنى، وقولنا بأنّ موضوع العقاب هو تضييع الحقّ، نطرح هذا السؤال القائل: ما هو الطريق إلى تشخيص هذا الحقّ؟ فهل تشخيص ذلك يكون بواسطة العقل أم أنّ العقلاء هم الذين يشخّصون الطريق إلى ذلك؟ يذهب العقلاء إلى القول بأنّ العقاب يكون على تضييع الحقّ الثابت والمُحرز. وأمّا في مورد مجرّد الاحتمال البدوي، فلا يرون هناك حقّاً ثابتاً في البين.
النقد الثامن
يكمن سعي السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في إرجاع دائرة الحجّية إلى المولوية، في حين أنّ هذا الأمر واضح البطلان؛ إذ بالإضافة إلى أنّ سماحته لم يأت بدليل على هذا المدّعى، يمكن القول: إنّ الحجّية تتعلّق بالدليل والطريق، ولا يمكن ربطها بمولوية المولى؛ بمعنى أنّه لا حجّية دليل تثبت المولوية، ولا نفي ذلك الدليل يوجب نفي المولوية. وبعبارة اُخرى: إنّ حجّية دليل ما أو عدمها لا تحدث تغييراً في دائرة المولى، ولا فرق في هذا الأمر بين اللّه سبحانه وتعالى، وبين سائر الموالي العرفيين.
النقد التاسع
كما سبق أن أوضحنا في الأبحاث السابقة، فإنّ العقاب إنّما يصحّ إذا كان تفويت التكليف مستنداً إلى المكلّف، وفي موارد الاحتمال لا يتحقّق هذا العنوان أبداً.
النقد العاشر
لقد صرّح السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) بهذه النقطة، وهي أنّ موضوع حقّ الطاعة لا يمثّل الوجود الواقعي للتكليف لا بنحو تمام الموضوع ولا بنحو جزء الموضوع، بل إنّ الموضوع هو إحراز التكليف، إلاّ أنّ هذا الإحراز يتّسع بحكم العقل، ويشمل حتّى الإحراز غير اليقيني أيضاً. وفي الحقيقة، فإنّ سماحته يتّفق مع المحقّق النائيني(رحمهالله)والمحقّق الإصفهاني(رحمهالله) وغيرهما في شرطية الوصول والإحراز، ولكنّه يوسّع من دائرة الإحراز، والحال أنّه يجب أن نتساءل: لماذا يجب أن يكون الحاكم في هذا الإحراز هو العقل حصراً؟ في حين يمكن للعُرف أن يكون هو الحاكم بهذا الإحراز؛ بمعنى أنّ ذات العقل الذي يحكم بحقّ الطاعة، لا يعمل بعد ذلك على تفسير موضوعه بواسطة هذا الحكم، في حين أنّ العقل ـ طبقاً لمبنى السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)ـ يعمل في هذا الحكم على تفسير موضوعه أيضاً، وهذا واضح البطلان. إنّ الإحراز الذي هو موضوع حكم العقل بحقّ الطاعة، يتّضح بواسطة العُرف؛ كما هو الحال بالنسبة إلى سائر موضوعات الأحكام العقلية، من قبيل: حُسن العدل، وقبح الظلم. وهل يمكن القول حقّاً بأنّ للعقل في حُسن العدل نوعين من الحكم والفهم، أحدهما: أصل حُسن العدل، والآخر: طريقة وكيفية العدل؟ في حين أنّ هذا الأمر واضح البطلان؛ ولذلك يجب الرجوع إلى العُرف أو الشرع في تحقّق عنوان الظلم والعدل.
النقد الحادي عشر
الإشكال الآخر في هذا البحث هو أنّه في مسألة حقّ الطاعة كما يوجد من ناحية احتمال تكليف ما، من قبيل: وجوب الدعاء عند رؤية هلال الشهر، كذلك يوجد من ناحية أخرى احتمال الإباحة الاقتضائية أيضاً، بمعنى أنّه من الممكن أنّ الشارع بسبب وجود مصلحة ما قد أباح ذات هذا التكليف؛ إذ كما أنّ للشارع أحكاماً إلزامية، كذلك له أحكام ترخيصية من قبيل الإباحة أيضاً، ولذلك لو عمل العبد على خلاف الإباحة، فإنّه سوف يكون ـ بناءً على نظرية حقّ الطاعة ـ قد عمل على خلاف المولوية الذاتية للمولى أيضاً.
النقد الثاني عشر
من بين الإشكالات التي يمكن إيرادها على نظرية حقّ الطاعة، أنّ هذه النظرية لا تنسجم مع كون الشريعة الإسلامية سهلة سمحة؛ إذ أنّ الذي يكون متعلّقاً للأمر الواقع ـ طبقاً للدين السهل والسمح ـ واجب، وإنّ الذي يكون متعلّقاً للنهي، حرام؛ في حين أنّ نظرية حقّ الطاعة تجعل الدين أمراً مشكلاً لمن يريد الإيمان به.
النقد الثالث عشر
النقطة الأخيرة الجديرة بالذكر، هي أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ، في بيانه للجذور التاريخية لنظرية حقّ الطاعة، قد عمل بنحو من الأنحاء على ربط هذه النظرية بأصالة الحظر[82]. في حين أنّه على الرغم من احتمال أن يكون دليل كلتا النظريتين واحد، إلاّ أنّ أصالة الحظر تختلف في الواقع عن حقّ الطاعة اختلافاً موضوعياً؛ إذ الموضوع في أصالة الحظر يرتبط بما قبل الشرع؛ بمعنى أنّه يرتبط بالأفعال التي نقطع ونوقن بأنّ الشارع لم يُصدر حكماً بشأنها. وعلى هذا الأساس، فإنّ أنصار أصالة الحظر يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ حقّ المولوية للمولى يقتضي أن لا يقوم العبد بأيّ عمل دون إذن المولى. وأمّا الموضوع في مسلك حقّ الطاعة فهو الأفعال بعد الشرع، بمعنى أنّه يرتبط بالأفعال التي نحتمل في الحدّ الأدنى أن يكون الشارع قد بيّن حكمها، ولكن هذا الحكم لم يصل إلينا، وعليه تكون مخالفة العبد لها في مثل هذه الحالة خروجاً عن زيّ الرقّية والعبودية.
وعلى كلّ حال، لو أراد السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) أن يصرّ على إحالة جذور حقّ الطاعة إلى أصالة الحظر، وجب عليه الالتزام بلوازم هذه الإحالة، وهي لوازم تكون معلولة لأصالة الحظر؛ بمعنى أنّ على العبد أن يعمل بالاحتياط حتّى في الموارد التي يقطع فيها بعدم وجود تكليف للشارع أصلاً، وأن يعمل على توسيع دائرة حقّ الطاعة أكثر ممّا هي عليه حالياً؛ لأنّ موضوع أصالة الحظر مطلق، ويشمل حتّى موارد قطع العبد بعدم التكليف.
القسم الرابع نقد ومناقشة آثار حقّ الطاعة في المسائل الاُصولية
بيان المسألة
لقد حظيت نظرية حقّ الطاعة بمكانة مرموقة في الأدبيات الاُصولية المعاصرة، وقد ترتّبت عليها ـ بالإضافة إلى أصالة الاشتغال العقلي ـ آثار ولوازم هامّة اُخرى في مختلف المسائل الاُصولية، وسوف نتناولها في هذا الفصل ضمن مبحثين حول المسائل المرتبطة ببحث القطع والظنّ.
المبحث الأوّل آثار مسلك حقّ الطاعة في المسائل المرتبطة بالقطع
سوف نسعى في هذا البحث ـ في حدود المقدور ـ إلى إيضاح النتائج المختلفة التي تتبلور في المسائل الاُصولية المرتبطة بالقطع بناءً على مبنى نظرية حقّ الطاعة، ضمن ثلاث مقالات مستقلّة، وإخضاع ثمرات هذه النظرية على طاولة النقد والنقاش من وجهة نظر سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ .
المقال الأوّل: تأثير حقّ الطاعة في الحجّية الذاتية للقطع
إنّ القطع في العُرف واللغة يعني: الانكشاف التامّ والكامل، وهو مرادف للعلم واليقين[83]. وهكذا في الاصطلاح أيضاً حيث القطع يعني الاعتقاد الجازم بشيء[84]. ومن هنا فإنّ القاطع ـ سواء أكان مصيباً أو مخطئاً ـ يعتقد أنّ الواقع منكشف له، ولا يحتمل الخلاف في قطعه أبداً[85].
إنّ من بين الأبحاث الاُصولية الهامّة والمشهورة في هذا البحث، ذاتية حجّية القطع وكونها غير قابلة للجعل والاعتبار؛ بمعنى أنّ جعل الحجّية من خلال تشريع الشارع يساوق تحصيل الحاصل؛ كما أنّ سلب الحجّية عن القطع يستلزم اجتماع النقيضين.
وعلى هذا الأساس، فإنّ حجّية القطع بمعنى الانكشاف الكامل، هو من جملة الآثار العقلية للقطع، وهو يعني قابلية وصلاحية الاستناد والاحتجاج به، ولازم ذلك بطبيعة الحال هو المنجّزية في فرض المطابقة مع الواقع، والمعذّرية في فرض مخالفة القطع للواقع، وهذه الموضوعات بطبيعة الحال موضع بحث ونظر بين علماء الاُصول، وبشكل عامّ نحن نواجه ثلاث نظريات في هذه المسألة:
النظرية الأولى: نظرية الأخباريين، وهي في الواقع تمثّل النقطة المقابلة لنظرية حقّ الطاعة، وحتى في موارد قيام القطع على أساس الدليل العقلي، لا يرون الامتثال واجباً ولازماً. وفي هذا المسلك إنّما يكون الامتثال واجباً إذا كان القطع حاصلاً من الأدلّة النقلية.
النظرية الثانية: وهي الرأي الاُصولي المشهور، والذي يمثّل في الواقع الحدّ الوسط بين الأخباريين ومسلك حقّ الطاعة. وطبقاً لهذا الرأي تكون الطريقية والحجّية من اللوازم الذاتية للقطع، بمعنى أنّه كما أنّ الزوجية من اللوازم الذاتية للأربعة، كذلك الطريقية من اللوازم الذاتية للقطع أيضاً.
النظرية الثالثة: وهي نظرية السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) . وقد ذهب سماحته إلى الادّعاء في مورد القطع بناءً على نظرية حقّ الطاعة، بأنّ الحجّية ليست من شؤون القطع بما هو قطع، حيث بحث سماحته هذه المسألة في حلقات الاُصول، قائلاً:
إنّ الحجّيّة والمنجّزيّة ثابتة للقطع، لأنّها من لوازمه. والاُخرى: إنّها يستحيل أن تنفكّ عنه، لأنّ اللازم لا ينفكّ عن الملزوم. أمّا القضيّة الاُولى فيمكن أن نتساءل بشأنها: أي قطع هذا الذي تكون المنجّزيّة من لوازمه؟ هل هو القطع بتكليف المولى، أو القطع بتكليف أيّ آمر؟. ومن الواضح أنّ الجواب هو الأوّل لأنّ غير المولى إذا أمر لا يكون تكليفه منجّزا على المأمور ولو قطع به، فالمنجّزيّة إذن تابعة للقطع بتكليف المولى، فنحن إذن نفترض أوّلا أنّ الآمر مولى ثمّ نفترضالقطع بصدور التكليف منه، وهنا نتساءل من جديد ما معنى المولى؟ والجواب أنّ المولى هو من له حقّ الطاعة، أي: من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته، وهذا يعني إنّ الحجّيّة (التي محصّلها ـ كما تقدّم ـ حكم العقل بوجوب الامتثال واستحقاق العقاب على المخالفة) قد افترضناها مسبقاً بمجرّد افتراض أنّ الآمر مولى، فهي إذن من شؤون كون الآمر مولى، ومستبطنة في نفس افتراض المولويّة، فحينما نقول: إنّ القطع بتكليف المولى حجّة أي يجب امتثاله عقلاً كأنّنا قلنا: إنّ القطع بتكليف من يجب امتثاله يجب امتثاله، وهذا تكرار لما هو المفترض، فلا بدّ أن نأخذ نفس حقّ الطاعة والمنجّزيّة المفترضة في نفس كون الآمر مولى لنرى مدى ما للمولى من حقّ الطاعة على المأمور، وهل له حقّ الطاعة في كلّ ما يقطع به من تكاليفه، أو أوسع من ذلك بأن يفترض حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لديه من تكاليفه ولو بالظنّ أو الاحتمال، أو أضيق من ذلك بأن يفترض حقّ الطاعة في بعض ما يقطع به من التكاليف خاصّة؟ وهكذا يبدو أنّ البحث في حقيقته بحث عن حدود مولويّة المولى، وما نؤمن به له مسبقاً من حقّ الطاعة، فعلى الأوّل تكون المنجّزيّة ثابتة في حالات القطع خاصّة، وعلى الثاني تكون ثابتة في كلّ حالات القطع والظنّ والاحتمال، وعلى الثالث تكون ثابتة في بعض حالات القطع. والذي ندركه بعقولنا أنّ مولانا سبحانه وتعالى له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظنّ أو بالاحتمال، ما لم يرخّص هو نفسه في عدم التحفّظ. وهذا يعني أنّ المنجّزيّة ليست ثابتة للقطع بما هو قطع بل بما هو انكشاف، وأنّ كلّ انكشاف منجّز مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به. نعم، كلّما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة و قبح المخالفة أشدّ، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجّز والإدانة، لأنّه المرتبة العليا من الانكشاف[86].
يذهب سماحته إلى الاعتقاد بأنّ القطع إذا كان حجّة، فهو حجّة في فرض مولوية المولى فقط. ومن هنا، لو لم تكن هناك مولوية للآمر، فإنّ القطع بأمره لن يوجب التنجّز.
توضيح ذلك: أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يذهب ـ بشكل عامّ ـ إلى الاعتقاد بأنّ التكليف والأمر الصادر من شخص لا يكون منجّزاً وقطعياً ولازم الامتثال من وجهة نظر العقل، إلاّ إذا كان لهذا الشخص مولوية على الآخرين. فإذا لم يكن للشخص الذي يصدر الأمر مولوية، لن تكون هناك قيمة لأمره بالنسبة إلى الآخرين، وعليه لن يكون تكليفه منجّزاً على الآخرين، حتّى لو حصل لهم اليقين بهذا الأمر. وعلى هذا الأساس، فإنّ الحجّية تعتبر من شؤون مولوية الآمر؛ وبعبارة فنّية: إنّ المهمّ في المولوية وحقّ الطاعة من وجهة نظر العقل هو «الانكشاف» والذي تحصل أعلى درجاته في مورد القطع، ولذلك فإنّ حقّ المولوية هو عين مسألة الحجّية.
وعلى هذا الأساس، عندما يقال: إنّ القطع بتكليف المولى حجّة، فإنّ هذا يعني أنّ العمل بالتكليف الذي أمر به المولى لازم، ويكون امتثال التكليف واجباً من الناحية العقلية. وبعبارة اُخرى: إنّ حجّية القطع بمعنى المنجّزية والمعذّرية إنّما تثبتان في ظلّ قضية مؤلّفة من صغرى وكبرى، والكبرى هي مسألة حقّ الطاعة التي تنشأ من المولوية الذاتية للمولى، والتي يكون المنشأ فيها هو المنعمية والخالقية للّه تعالى، ولذلك يجب على العبد أن لا يقصر في دائرة إطاعة اللّه سبحانه وتعالى. والصغرى هي القطع بـ «التكليف» الصادر عن المولى، ولو لم يجتمع هذان الأمران لما كان للقطع حجّية في نفسه. وقال سماحته في كتاب «مباحث الاُصول» بوضوح:
إنّ حجّيّة القطع بمعنى التّنجيز والتّعذير ليست إلاّ عبارة عما تتحقّق كبراها بفرض مولويّة المولى وصغراها بنفس القطع بحكم المولى، وتكفي في ثبوت النّتيجة تماميّة الصّغرى والكبرى، ولو قطع العبد بحكم مولاه ومع ذلك لم يطعه لم يكن له عذر إلاّ أحد أمرين: (الأوّل) منع مولويّة المولى فيما قطع به من أمره والمفروض هو الفراغ عن مولويّته. (والثاني) إنكار وصول أمره إليه، والمفروض وصوله بالقطع الّذي هو حجّة بالمعنى المنطقيّ بلا إشكال. وهذه النّتيجة أعني الحجّيّة يمكن نسبتها إلى القطع باعتبار وقوعه في صغراها، أمّا كونها من ذاتيّات القطع فلا، وإنّما هي من ذاتيّات مولويّة المولى. وإن شئت فعبّر: بأنّها من ذاتيّات القطع بحكم المولى مع فرض التحفّظ على مولويّته فيما قطع به، أي أنّها ذاتيّة لمجموع الصّغرى والكبرى[87].
يذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ بشكل عامّ ـ إلى الاعتقاد بوقوع خطأ أساسي حول بحث الحجّية والمولوية، ويتمثل هذا الخطأ في الفصل بين الحجّية والمولوية؛ في حين أنّ الفصل والتفكيك بين هذين الأمرين غير صحيح؛ لأنّ البحث عن الحجّية في الواقع إنّما هو بحث عن حدود المولوية. وهو يرى أنّ المولوية عبارة عن حقّ الطاعة، وإنّ حقّ الطاعة بمراتبه المختلفة، من بين الأمور التي يدركها العقل بملاك الخالقية أو شكر المنعم أو المالكية.
توضيح ذلك: أنّ سماحته يعتقد أنّ مشهور الاُصوليين قد فصّلوا بين مولوية المولى ومنجّزية الأحكام؛ بمعنى أنّهم تصوّروا أنّ هناك بابين مستقلّين؛ أحدهما: باب المولوية الواقعية الثابتة للمولى. وإنّ هذا الباب ليس موضع نزاع من وجهة نظر المشهور، بل يفترض في الأساس أن يكون قطعياً ومفروغاً عنه. والباب الثاني هو بحث الحجّية والمنجّزية، حيث لا ربط له بمسألة المولوية من وجهة نظر المشهور، بل يرى المشهور أنّ التكليف إنّما يتنجّز بالوصول وحصول اليقين، وما لم يكن التكليف متيقّناً أو لم يكن واصلاً إلى المكلّف، لا يكون منجّزاً، ولذلك فإنّهم يقولون بقبح العقاب بلا بيان؛ في حين يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ هذا التفصيل إنّما هو في الواقع تفصيل في حدود مولوية المولى وحقّ الطاعة للمولى، ولا يكون صحيحاً؛ إذ أنّ المنجّزية في الأساس من لوازم حقّ الطاعة للمولى على العبد؛ بمعنى أنّه عندما يكون للمولى حقّ العبودية والطاعة على العباد، تتبلور مسألة الحجّية والمنجّزية أيضاً. ولذلك فإنّ سماحته يقول: يجب علينا أن نبيّن حدود دائرة حقّ الطاعة، لكي نوضّح بطلان التفكيك بين المولوية والمنجّزية الذي ارتكبه المشهور.
ويرى سماحته أنّ هناك عدّة احتمالات في مورد دائرة المولوية وحقّ الطاعة، وقد وردت الإشارة إلى هذه الاحتمالات في تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر، على النحو الآتي:
كان لابدّ من جعل منهج البحث ابتداء، عن دائرة مولويّة المولى وحقّ طاعته، وبيان حدودها، وذلك ضمن فرضيات: أ ـ الفرضية الاُولى: هي أن تكون مولوية المولى أمراً واقعياً، موضوعها واقع التكليف، بقطع النظر عن درجة الانكشاف به. وهذا فرض واضح البطلان، لأنّه يستلزم أن يكون التكليف في موارد الجهل المركب منجّزاً وتكون مخالفته عصياناً، وهو خلف معذّرية القطع، وهو باطل. ب ـ الفرضية الثانية: هي أن تكون مولوية المولى وحقّ طاعته في خصوص ما يقطع به ويصل إلى المكلّفين. وهذا هو روح مذهب المشهور، و هو يعني التبعيض في المولوية بين موارد القطع و الوصول، وموارد الظن و الشكّ. وهذه الفرضية نرى بطلانها أيضاً، لأنّا نرى أنّ مولويّة المولى هي من أكمل مراتب صفاته الذاتية، ومن ثمّ يكون حقّه في الطاعة على العباد من أكبر الحقوق وأوسعها حيث تشمل كلّ الموارد، لأنّه ناشئ من المملوكيّة والعبوديّة الحقيقيّة. ج ـ الفرضية الثالثة: هي أن تكون مولوية المولى في حدود ما لم يقطع بعدمه. وهذه المولويّة هي الّتي ندّعيها لمولانا سبحانه، وهي الّتي على أساسها أنكرنا قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» والّتي اعتمدها المشهور للتبعيض في المولوية[88].
توضيح هذه العبارة: أنّ الاحتمال الأوّل يكون في مورد اعتبار مولوية المولى أمراً واقعياً، حيث يكون موضوعه واقع التكليف بقطع النظر عن انكشافه؛ بمعنى أنّ مولوية المولى إنّما تكون في دائرة التكليف الواقعي فقط. وهذا الاحتمال باطل قطعاً؛ إذ لازم هذا الاحتمال أن يكون التكليف منجّزاً حتّى في موارد الجهل المركّب، كما في حالات كون المكلّف موقناً بتكليف مخالف للواقع، وفي هذه الحالة يجب بطبيعة الحال أن يتحقّق العصيان بمخالفة ذلك التكليف وأن يقع مورداً للمؤاخذة، في حين أنّ هذا غير صحيح قطعاً، ولا ينسجم مع معذّرية القطع الذي هو أمر مفروغ عنه بحسب الفرض.
والاحتمال الثاني: أن يكون حقّ الطاعة ثابتاً في خصوص الموارد المقطوع بها والواصلة إلى المكلّف. كما أنّ جوهر كلام المشهور يعود إلى هذا الاحتمال أيضاً؛ بمعنى أنّهم في الواقع يفصّلون في باب المولوية بين موارد القطع والوصول إلى المكلّف وموارد احتمال التكليف، ويرون أنّ حقّ الطاعة ثابت في موارد القطع واليقين. وأمّا في موارد الشكّ في التكليف فلا يكون حقّ الطاعة ثابتاً. يذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى القول ببطلان هذا الاحتمال أيضاً؛ وذلك لأنّ مولوية المولى ـ مثل سائر صفات اللّه تعالى ـ هي من أتمّ مراتب المولوية والطاعة التي له على العباد، حيث تنشأ من المملوكية والعبودية الحقيقية من قبل الإنسان. ومن هنا، لا ينبغي الفصل بين المولوية والمنجّزية، وعدم حصر منجّزية أوامر المولى في حدود خاصّة فقط؛ أي: في الموارد التي يصل فيها التكليف إلى المكلّف بشكل قطعي فقط.
والاحتمال الثالث: أن تكون المولوية ثابتة حتّى في موارد عدم القطع بالتكليف؛ بمعنى أنّ حقّ الطاعة لا يثبت حيث يكون لدينا يقين بعدم التكليف فقط، ومن هنا سوف يكون هذا الحقّ ثابتاً في سائر الموارد أيضاً؛ الأعمّ من اليقين بالتكليف، والظنّ بالتكليف، والشكّ في التكليف، بل وحتى وجود احتمال ضئيل في مورد التكليف أيضاً. وبالتالي فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يذهب إلى الاعتقاد بأنّ الاحتمال الثالث هو الاحتمال الذي يجب القبول به. كما يرى سماحته أنّ حكم العقل بوجوب الامتثال في موارد حقّ الطاعة، إنّما يثبت ـ بطبيعة الحال ـ إذا لم يرد ترخيص وإذن من قبل المولى نفسه بترك الاحتياط. وعليه، فلو أنّ المولى قام برفع حقّ الطاعة من باب اللطف والمنّة على العباد من خلال البراءة الشرعية في مورد التكاليف المظنونة والمحتملة، لا يعود الاحتياط واجباً.
والنتيجة هي أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ، إنّما يرى أنّ حجّية القطع تأتي من باب المولوية الذاتية للمولى، ويعتقد أنّ منشأ خطأ المشهور يكمن في القياس والمقارنة بين المولوية الحقيقية والذاتية للّه تعالى، وبين المولويات العقلائية؛ بمعنى أنّه حيث أنّ المنجّزية في المولويات العقلائية تنحصر في موارد وصول التكليف إلى المخاطب وفهمه من قبل المكلّف فقط؛ فإنّ حقّ المولوية وحقّ الطاعة الإلهية إنّما يثبت ضمن هذه المساحة؛ في حين أنّه لا وجود لمثل هذه المحدودية بالنسبة إلى المولوية الحقيقية للّه تعالى، بل إنّها تشمل حتّى الظنون والاحتمالات التي تقع مورداً لاهتمام الشارع المقدّس.
ومن ناحية اُخرى، حتّى القطع نفسه ما لم يتمّ ضمّ مسألة المولوية الذاتية للمولى إليه، لن تثبت له الحجّية الاُصولية. ويجب القول في توضيح هذه المسألة: لقد تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) قد قسّم المولوية إلى ثلاثة أنواع، ومن هنا فقد ذهب سماحته إلى الاعتقاد بأنّ القسم الأوّل هو المولوية الذاتية، والتي تنشأ من المالكية المطلقة، وهذه المولوية خاصّة باللّه تبارك وتعالى، ولا طريق لجعل الجاعل في هذا النوع من المولوية. والقسم الثاني هي المولوية التي يجعلها اللّه سبحانه وتعالى للأنبياء وأوصيائهم. والقسم الثالث هو المولوية التي يتعاقد الناس فيما بينهم على جعلها لواحد منهم؛ فتكون له المولوية بذلك عليهم.
بعد ملاحظة هذه المقدّمة، فإنّ سماحته يستنتج من ذلك أنّنا إذا قطعنا بأنّ اللّه قد أوجب علينا أمراً، فإنّنا نثبت حجّية القطع من خلال المولوية الذاتية؛ بمعنى أنّ القطع هنا حيث يكون قطعاً بالتكليف الصادر عن مولى يتمتّع بالمولوية الذاتية، فإنّ حجّية هذا القطع بدورها سوف تكون حجّية ذاتية، وليس لها قابلية الجعل، بحيث لا يمكن للشارع أن يجعل الحجّية للقطع الحاصل في هذه الموارد. وأمّا في مورد القسم الثاني والقسم الثالث من المولوية، فيمكن الجعل والاعتبار في القطع، وإنّ سعة وضيق هذا النوع من الحجّية رهن بجعل الشارع أو الجاعل[89].
وعلى كلّ حال، فإنّه بالالتفات إلى الانتقادات المبنائية التي تقدّمت في الأبحاث السابقة على نظرية حقّ الطاعة، سوف يكون الأثر المذكور في هذه النظرية بشأن حجّية القطع مخدوشاً أيضاً؛ ثمّ إنّ النقطة الهامّة التي يطمح إليها السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في هذا الشأن، وقام بنقدها ومناقشتها، تتمثّل في رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) في مورد «مبنى الحجّية».
إنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) لا يرى حجّية القطع بمعنى المنجّزية (استحقاق العقاب عند مخالفة التكليف المعلوم) والمعذّرية، ثابتة على مبنى المدركات العقلية أو المولوية الذاتية (حقّ الطاعة)، بل يرى أنّ حجيته تقوم على مبنى الإدراك العقلائي ومن باب القضايا المنطقية المشهورة التي يتّفق عليها العقلاء في مقام العمل بها، للحفاظ على نوع البشر وبقاء المجتمع الإنساني. والفارق الهامّ بين هذين الاثنين يكمن في أنّ المدركات العقلية ليس لها قابلية للجعل، وأمّا القضايا العقلائية فهي تقع مورداً للمجعول العقلائي.
وعلى كلّ حال، فإنّ المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) يقول في توضيحه لجعل الحجّية على المبنى العقلائي:
إنّ استحقاق العقاب ليس من الآثار القهريّة واللوازم الذاتيّة لمخالفة التكليف المعلوم قطعاً، بل من اللوازم الجعليّة من العقلاء، لما سيأتي عمّا قريب إن شاء اللّه تعالى أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، لعموم مصالحها، ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته، وهو ظلم عليه، والظلم قبيح؛ أي: ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء. فدخل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظّلم بنحو الشرطيّة جعلي عقلائيّ، لا ذاتيّ قهريّ كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة. ومنه ينقدح ما في البرهان الآتي من أنّ الجعل التأليفي لا يكون بين الشيء ولوازمه، فإنّه في المتلازمين واقعاً، لا جعلاً، ولو عقلاً. ولا يرد كلّ ذلك على ما سلكناه في الحاشية المتقدّمة من البحث عن الطريقيّة وأنّها في القطع، حيث كانت ذاتية، فلذا لا يعقل الجعل، كما تقدّم تفصيله. وحيث عرفت أنّ الحجّية بمعنى المنجّزيّة من اللوازم الجعليّة العقلائيّة، فبناءً على أن جعل العقاب من الشارع يصحّ القول بجعل المنجّزيّة للقطع شرعاً من دون لزوم محذور[90].
توضيح ذلك: أنّه من وجهة نظر سماحته في باب القطع عندما نرجع إلى العقل ندرك أنّ العقل ليس لديه في خصوص القطع حكم جديد، من قبيل القول بأنّ «القطع حجّة» و«القطع منجّز»، بل إنّ القطع نفسه مصداق من مصاديق قضية كبرى كلّية وعقلائية، ويقوم المبنى على أنّ العبد إذا أراد أن لا يطيع أوامر ونواهي مولاه، فإنّ مخالفته سوف تعدّ ظلماً بحقّ المولى، بمعنى أنّها تكون سبباً في تحقّق عصيان حكم المولى، وموجبة لاستحقاق العبد للعقاب. وعلى هذا الأساس، فإنّ استحقاق العقاب ليس من اللوازم العقلية أو أثراً قهرياً وذاتياً لمعصية المولى، وإلاّ لوجب أن يكون الجاهل بحكم المولى ـ إذا ترك واجباً أو ارتكب حراماً ـ مستحقّاً للعقاب؛ من ذلك مثلاً أنّ ارتكاب شرب الخمر يستوجب استحقاق العقاب بذاته، وحتى الشخص الجاهل إذا شرب الخمر جهلاً بهذا الحكم يكون قد ارتكب عملاً مبغوضاً للمولى، ويكون بذلك مستحقّاً للعقاب أيضاً، في حين أنّ هذا لا يقول به أحد. ومن هنا، فإنّ مسألة استحقاق العقاب ليست من قبيل القضية البرهانية، كي يقال إنّ العلاقة بين العمل واستحقاق العقاب، هي ملازمة من قبيل العلّة والمعلول.
يرى المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) أنّ العقل في الأساس لا شأن له بالمصاديق، ولذلك لا يكون للقطع حكم مستقلّ بمعزل عن الأحكام الاُخرى، وإنّما يبيّن مجرّد هذه الكبرى الكلّية، وهي استحقاق العقاب في حال تحقّق المعصية. إنّه(رحمهالله) يرى أنّ سبب هذه الكبرى الكلّية يكمن في أنّ المكلّف قد ارتكب ظلماً بحقّ المولى، وإنّ الظلم ينطوي على عنوان القبيح: «الظلم قبيح». وعلى هذا الأساس، فإنّ حجّية القطع تندرج تحت كبرى كلّية قاعدة قبح الظلم.
إنّ سماحته يذهب إلى الاعتقاد بأنّ القضايا التي هي من قبيل: «العدل حسن» و«الظلم قبيح» ليست من الاُمور الواقعية التي يراد للعقل أن يدركها؛ إذ لو كانت من الأحكام العقلية لوجب أن تكون واحدة من القضايا المنطقية الضرورية الستّة، وهي: الأوّليات، والفطريات، والحسّيات، والمتواترات، والحدسيات، والمشاهدات؛ في حين أنّ الأمر ليس كذلك. ثمّ إنّ القضايا أعلاه مختلف فيها بين العقلاء، فهم لا يرون حسن وقبح العدل والظلم في جميع الموارد. ومن هنا، فقد تواطأ العقلاء فيما بينهم واتّفقوا على «حُسن العدل» و«قبح الظلم» من أجل الحفاظ على النظم وبقاء المجتمع، بمعنى أنّ الحُسن والقبح ليس من ذاتيات العدل والظلم مثل الإمكان بالنسبة إلى الإنسان، كيما يكون تصوّر هذين العنوانين كافيين للانتزاع، بل هما مثل التصرّف في باب الغصب؛ حيث يكون إثبات الظلم فيه بحاجة إلى ضمّ قضية خارجية. ومن هنا، فإنّ الظلم يكون من بين القضايا العقلائية المشهورة، وإنّما يكون قبيحاً إذا أدّى إلى اختلال النظام الاجتماعي؛ بمعنى أنّ القبح يعدّ عرَضاً ذاتياً بالنسبة إلى الظلم.
وعليه ففي مورد البحث يجب القول أيضاً: إنّ عبارة «القطع حجّة» مصداق، ليس للعقل حكم بالخصوص في مورده، بل هناك في هذا الشأن كبرى كلّية تقوم على أنّ المكلّف إذا عصى، سوف يكون مستحقّاً للعقاب؛ وذلك لأنّ المعصية ظلم بحقّ المولى، والظلم قبيح باتّفاق العقلاء. والنتيجة هي أنّ استحقاق العقاب حيث يكون من القضايا المجعولة من قبل العقلاء، فإنّه لا يحتاج إلى إمضاء الشارع، أو عدم ردعه في الحد الأدنى.
وقد عمد السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى نقد ومناقشة رأي المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)، وقال بأنّ حجّية القطع لا يمكن عدّها مصداقاً لكبرى قاعدة قبح الظلم؛ وذلك لأنّ إثبات هذا الأمر يستلزم الدور. وقد ورد كلامه حول ذلك في كتاب «مباحث الاُصول» على النحو الآتي:
إنّ الظّلم عبارة عن سلب ذي الحقّ حقّه، والعدل عبارة عن إعطائه إيّاه وعدم سلبه عنه، فلا بدّ أن يفترض في المرتبة السّابقة حقّ كي يقال: إنّ سلبه ظلم، وهذا الحقّ هنا عبارة عن حقّ المولويّة، فلو لم نفترض الآمر مولى لم يكن القطع منجّزا أو معذّراً كما هو واضح. فإن كان المقصود من الاستدلال على حجّيّة القطع بقبح الظّلم وحسن العدل إثبات مولويّة المولى بذلك، كان هذا دوراً واضحاً. فإنّ كون العمل بالقطع عدلاً ومخالفته ظلماً فرع مولويّة المولى، فلا يمكن إثبات مولويته بذلك. وإن كان المقصود إثبات حجّيّة القطع بأمر المولى بعد فرض مولويّته في المرتبة السّابقة، ورد عليه: أنّه بعد فرض مولويّة المولى فيما نقطع به من أحكامه تثبت الحجّيّة للقطع بلا حاجة إلى قاعدة حسن العدل وقبح الظّلم الّتي يكون جريانها في طول المولويّة، فإنّ مولويّة المولى تعني لزوم إطاعة أمره وقد قطعنا بتحقّق الأمر حسب الفرض[91].
توضيح ذلك: أنّ سماحته يرى عدم إمكان إثبات مولوية المولى بقاعدة قبح الظلم؛ بحيث يقال: حيث إنّ الظلم قبيح، يجب أن تثبت المولوية للّه علينا؛ بل إنّ قاعدة قبح الظلم إنّما تتوقّف على أن تكون مولوية المولى وحقّ الطاعة ثابتة قبل ذلك؛ إذ أنّ الظلم إنّما يتحقّق فيما إذا تمّ تضييع أو سلب حقّ ذي الحقّ. وعلى هذا الأساس، حيث أنّ للشارع تعالى مولوية، وإنّ من بين الحقوق التي له على العباد هو حقّ الطاعة، فإذا خالف المكلّفون أوامره ونواهيه، إنّما يكونون في الواقع مخالفين لمولوية الشارع ومضيّعين لحقّه.
وعليه يجب قبل كلّ شيء إثبات مولوية المولى من طريق آخر، وعندها لن تعود هناك حاجة إلى التمسك بقاعدة قبح الظلم، أي: أنّ العقل ـ طبقاً للطريق الجديد المتطابق مع مسلك السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ يقطع بوجود تكليف صادر من ناحية المولى الذي له حقّ المولوية وحقّ الطاعة. ثمّ بعد ضمّ هذه الصغرى إلى تلك الكبرى، نستنتج لزوم وحجّية القطع. بمعنى أنّه طبقاً لإدراك العقل لو بيّن المولى تكليفاً، ولم يتّبعه العبد كان مستحقّاً للعقاب. وبهذا البيان تثبت الحجّية للقطع بمعنى المنجّزية (أي: استحقاق العقاب) بمجرّد إثبات مولوية المولى وحقّ الطاعة.
وبطبيعة الحال، فإنّ دائرة حقّ الطاعة أوسع من ذلك بكثير، وتشمل جميع موارد الظنّ والشكّ والوهم بالنسبة إلى التكليف الذي يهتمّ به المولى، بمعنى أنّه حتى لو بلغ احتمال تكليفنا من قبل الشارع المقدّس مقدار 5 %، يكون هذا الاحتمال منجّزاً مثل القطع. وفي مثل هذه الحالة لا يبقى هناك مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
مناقشة ونقد
يجب القول في مقام نقد كلام سماحته: إذا كان مراده أنّ الحجّية ـ على مبنى نظرية حقّ الطاعة بسبب المولوية الذاتية للمولى ـ لا تنفكّ عن القطع، يجب السؤال: لماذا لا يمكن للّه ـ الذي يمتلك مولوية ذاتية ـ أن يصرّح بأنّ القطع بالتكليف إذا حصل من هذا الطريق، لا يكون معتبراً من قبله؟ وأمّا إذا كان مراده أنّه عندما يتمّ طرح مسألة المولوية الذاتية، فإنّ الحجّية تثبت للقطع بشكل تلقائي، ولا تعود هناك حاجة إلى الجعل والاعتبار، كان هذا الأمر صحيحاً ومطابقاً لمقتضى التحقيق؛ لأنّ القطع هو عين الطريقية، وإنّ حقيقته هي حقيقة الكاشفية. وعلى هذا الأساس، ليس لدينا غير الطريقية التامّة والآثار المترتّبة على الطريقية التامّة شيء آخر بعنوان المنجّزية وأمثالها.
وبطبيعة الحال، هناك بيانان لنفي التنجيز (استحقاق العقاب)، البيان الأوّل: أن يقال لا يوجد للعقل ـ أصلاً ـ حكم باستحقاق العقاب، وليس لدينا على استحقاق أهل الفسق والفجور للعقاب في الآخرة أيّ طريق سوى الأدلّة النقلية؛ لأنّ العقاب إنّما يصحّ من الناحية العقلية في مورد إذا كانت تترتّب عليه فائدة مثل التأديب في الدنيا؛ في حين لا تترتّب مثل هذه الفائدة على العقاب الاُخروي؛ إذ ليس هناك بحث للتكليف واستئناف العمل مجدّداً، وإذا كان العقاب دون ترتّب فائدة كان لغواً، وصدور اللغو من الحكيم محال؛ ولذلك لابدّ من توجيه ظواهر الآيات والروايات بحيث يكون منسجماً مع حكم العقل؛ كأن يُقال إنّ العقاب في يوم القيامة ليس مثل العقاب في الدنيا، بحيث يكون هناك فرق بين العقاب وذات العمل؛ إذ هما فعلان منفصلان، ولهما ماهية مستقلّة؛ بل إنّ العقاب هو حقيقة عمل المذنب، وهو تجلّ وظهور لذلك العمل بالنسبة إلى مرتكب المعصية؛ أو يقال: إنّ هناك تكامل حتّى في عالم الآخرة أيضاً، ولذلك تجب معاقبة بعض الناس كي يتكاملوا، ويتطهّروا، ويصلوا إلى مراحل أعلى.
ومع ذلك، فإنّ هذا البيان يواجه إشكالاً في غاية الوضوح؛ بمعنى: لماذا يجب أن تتحقّق فائدة العقاب بعد تحقّقه حتماً، بل من الناحية العقلية من خلال الوعيد بالعذاب على فعل من قبل الشارع، يجب على المكلّف أن يتركه في عالم الدنيا، وليس من اللازم أن تترتّب فائدة استحقاق العقاب ـ من وجهة نظر العقل ـ في ظرف العقاب أو بعد العقاب، بل بمقتضى الإدراك العقلي، لو خالف العبد، كان مستحقّاً للعقاب، وإن لم تترتّب فائدة اُخرى بعد العقاب.
وببيان آخر: لا شكّ في أنّ الأفعال التي تصدر عن اللّه ابتداء يجب أن تترتّب عليها فائدة. وفي المسألة مورد البحث يوجد عنوان الاستحقاق وعنوان الحقّ، ولذلك فإنّ العقل يدرك من خلال الملاكات الموجودة أنّ العبد إذا خالف تكاليف المولى، يثبت للمولى مثل هذا الحقّ (حقّ استحقاق العقاب)، وإذا أراد اللّه أن يمارس حقّه هذا في يوم القيامة، كان ذلك صحيحاً وفي محلّه. إنّ العقل يدرك هذا المقدار، وهذا المقدار يكفي بدوره في باب استحقاق العقاب. ثمّ حتّى لو سلّمنا بوجوب أن تكون هناك فائدة بعد العقاب، فإنّ هذه الفائدة إنّما تثبت وتظهر لأصحاب الجنّة، حيث أنّهم سينظرون إلى جزاء الظالمين بأعينهم، ويكون في ذلك شفاء لصدورهم.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن القول بأنّ العقل لا يدرك استحقاق العقاب، بيد أنّ البحث الأصلي يكمن في هذه النقطة وهي أوّلاً: إنّ استحقاق العقاب بعنوان المنجّزية وكذلك وجوب الاتّباع ليس من آثار القطع؛ بمعنى أنّ العقل ليس له حكم خاصّ ومستقلّ في باب القطع؛ لأنّ المراد من القطع هو متعلّق القطع والمقطوع به، فلو حصل القطع بوجوب صلاة الجمعة، وجب العمل بمقتضى هذا القطع، أو إذا حصل له القطع بحرمة الخمر، كان متعلّق القطع هو حرمة الخمر، حيث يجب عليه اتّباع هذا القطع، ومن هنا فإنّ المراد هو التبعية للقطع بالحكم، كما لو سمع من لسان النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله مباشرة، سيكون ذلك بمعنى التبعية للمقطوع به، أي العمل والموافقة مع الحكم والتكليف، وليس القطع؛ بمعنى أنّ إطاعة المولى واجبة بمقتضى إدراك العقل، ومثل ما لو أنّ النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلههو الذي نقل الحكم إلى المخاطب مباشرة، حيث يكون الفرد قد وصل إلى ذات الواقع.
ومن هنا، فإنّه بالرجوع إلى الوجدان يتّضح أنّ القطع مجرّد طريق يوصل الفرد إلى الواقع، ولكن عندما يصل إلى الواقع، لن يعود هناك وجوب لاتّباعه، بل من باب أنّ الواقع صار عند المكلّف، فإنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة، ولذلك ليس هناك غير حكم العقل بلزوم إطاعة المولى، حكم آخر باسم وجوب التبعية للقطع. ولذلك لو قيل إنّ هذا الفعل اتّباع للقطع، كان هذا من قبيل التسامح في التعبير.
وثانياً: إنّ المنجّزية والمعذّرية بدورهما ليسا صفتين لذات القطع، وإنّما يعودان ـ من خلال كشف الواقع ـ إلى لزوم الإطاعة العقلية؛ بمعنى أنّ الواقع عندما يصل إلى المكلّف، يثبت التكليف في ذمّته، وإنّ القطع مجرّد طريق لاكتشاف الواقع، وإنّ العقل من خلال كشف الواقع يحكم بلزوم الإطاعة. ومن هنا، فإنّ الذي يكون هو الملاك بالنسبة إلى المكلّف إنّما هو الوصول وعدم الوصول إلى الواقع، وليس لدى العقل بالنسبة إلى الموضوع حكم آخر غير لزوم إطاعة المولى. وإنّ المراد من معذّرية القطع هو احتجاج المكلّف بعدم وصوله إلى الواقع، لا أنّ هذا الشخص حيث لم يحصل له قطع فهو معذور.
وعلى هذا الأساس، لو كان المراد من المنجّزية والمعذّرية مجرّد لزوم إطاعة تكليف المولى، وجب القول: إنّ هذين الموردين إنّما هما أثران لذات التكليف، وليسا أثرين لطريق التكليف؛ لا سيّما إذا كانت الحجّية من اللوازم الذاتية للقطع؛ فعندها لا يجب تصوّر الانفكاك؛ في حين يعرض للإنسان طوال اليوم كثير من حالات القطع واليقين، دون أن تكون مسألة المنجّزية والمعذّرية مطروحة في البين أبداً. إنّ هذه النقطة تكشف عن وجود حكم العقل بلزوم إطاعة المولى في الشرع، ولا وجود لمثل هذا الحكم من وجهة نظر العقل خارج هذه الدائرة.
والنتيجة هي أنّ خصائص من قبيل وجوب التبعية للقطع، أو عنوان الحجّية واستحقاق العقاب في حالة المخالفة، لا تثبت لذات القطع؛ وإنّما القطع هو مجرّد طريق تامّ إلى الواقع، وهي طريقية ذاتية تكمن في واقعية القطع، ولذلك لا يمكن القول في مورد القطع: «القطع شيء أثره الطريقية». ومن هنا، يكون جعل الحجّية للقطع تحصيلاً للحاصل ولغواً.
ويستفاد من بعض كلمات المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) أنّ الطريقية والكاشفية في الأساس ليسا من آثار ولوازم القطع، بل هما عين القطع. قال سماحته في كتاب «نهاية الدراية»:
إنّ القطع حقيقة نوريّة محضة، بل حقيقته حقيقة الطريقيّة والمرآتيّة، لا أنّه شيء لازمه العقلي الطريقيّة والانكشاف، بداهة أنّ كلّ وصف اشتقاقي ينتزع عن مرتبة ذات شيء، فمبدؤه ينتزع عنه قهراً، وإلاّ لزم الخلف، بل ذاته نفس الانكشاف وانتزاع الكاشف عنه باعتبار وجدانه لنفسه، ولا معنى للطريقيّة إلاّ وصول الشيء بعين حضوره للنّفس فالطريقيّة عين ذاته لا من ذاتيّاته، فلذا لا حالة منتظرة في الإذعان بانطباق الكبرى العقليّة على المورد، فيتحقّق بسببه ما هو السبب التامّ لاستحقاقه العقاب بلا كلام. وحيث إنّ طريقيّته ذاتيّة، فجعل الطريقيّة له من الشارع غير معقول، لا بما هو جاعل الممكنات، ولا بما هو شارع الشرائع و الأحكام[92].
يذهب سماحته إلى القول بأنّ القطع ليس بالشيء الذي تكون الطريقية من آثاره ولوازمه العقلية؛ بل إنّ حقيقة القطع هي عين الطريقية؛ بمعنى أنّه عين الكاشفية والمرآتية. وعلى هذا الأساس، لو قلنا بأنّ الطريقية والكاشفية عين ماهية وذات القطع، أو قلنا إنّه لازم الماهية، فسوف تكون الكبرى الكلّية هنا هي أنّ لوازم الماهية لا تقبل الجعل؛ بمعنى أنّها لا تمتلك قابلية الجعل المركّب أو التأليفي الذي هو عبارة عن ثبوت شيء لشيء آخر، وإنّ الجاعل والشارع بما أنّه جاعل الممكنات وخالقها أو بوصف أنّه صاحب الشريعة وشارع، لا يمكنه القول إنّ القطع إذا حصل لشخص فإنّي أجعل الطريقية له، أو أسلب الطريقية عنه.
المقال الثاني: تأثير حقّ الطاعة في القطع غير المصيب (التجرّي)
إنّ التجرّي «لغة» يعني المبادرة إلى فعل شيء دون تدبّر أو تحقيق؛ بحيث يُظهر الإنسان جرأة في القيام بكلّ أمر ينطوي على مخاطرة أو مجازفة ويسارع إلى ارتكابه[93].
وأمّا في المصطلح الاُصولي فإنّ التجرّي يعني مخالفة التكليف المقطوع على افتراض خطأ الاعتقاد والقطع؛ بحيث يقوم العبد على مخالفة المولى خلافاً ليقينه، ويصادف أن يكون الواقع مخالفاً لقطعه ويقينه أيضاً، وفي الحقيقة يكون علمه ويقينه من الجهل المركب. وعلى هذا الأساس، كلّما قام شخص بعمل مع علمه بكونه معصية، ثمّ يتّضح لاحقاً أنّ ذلك العمل لم يكن في الواقع معصية، عُدّ الفاعل متجرّئاً، ولن يكون هناك شكّ في قبحه الفاعلي؛ بمعنى سوء نيّة وسريرة الفاعل وجرأته وهتكه لحرمة المولى واستحقاق اللوم والمؤاخذة[94]. ولكن السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه هنا هو: هل هناك في هذا الشأن قبح فعلي في ما يقوم به المتجرّي ـ بالإضافة إلى القبح الفاعلي ـ حتّى يكون مستحقّاً للعقاب والعذاب بالإضافة إلى استحقاقه اللوم والعتاب أيضاً، أم لا؟ وبعبارة اُخرى: هل الآثار التي تترتّب على المخالفة الواقعية في حالة العصيان، تترتّب كذلك على المخالفة الاعتقادية أيضاً، أم لا؟
ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد ـ بناءً على نظرية حقّ الطاعة ـ بأنّ موضوع حكم العقل بقبح المعصية يقوم على إحراز التكليف بالمنجّز العقلي أو الشرعي، سواء أكان التكليف ثابتاً في الواقع أم لا. ومن هنا، حيث يكون انكشاف التكليف هو تمام الموضوع بالنسبة إلى حقّ الطاعة، يكون حقّ المولوية في موارد التجرّي ثابتاً للمولى، ويكون المتجرّي مستحقاً للعقاب. وقال سماحته في توضيح هذه المسألة:
بعد أن عرفنا إنّ حكم العقل يرجع بحسب تحليلنا إلى حقّ المولى على العبد، فلابدّ من الفحص عن دائرة هذه المولوية وحقّ الطاعة، وهل يشمل ذلك موارد التجرّي، أم لا؟ ومن هنا نطرح ثلاثة تصوّرات. 1. أن يكون موضوع هذا الحقّ تكاليف المولى الواقعية. وبناءً على هذا الاحتمال، يلزم أن يكون حقّ الطاعة للمولى غير ثابت في موارد التجرّي، لأنّ تمام موضوع هذا الحقّ هو التكليف بوجوده الواقعي، والمفروض عدم وجوده في موارد التجرّي، إلاّ أنّ هذا الاحتمال ساقط في نفسه، باعتبار ما تقدّم من أنّ لازمه تحقّق المعصية في موارد مخالفة التكليف الواقعي ولو لم يكن منجّزاً، بل حتّى إذا كان قاطعاً بالعدم، وهو واضح البطلان. 2. أن يكون موضوعه إحراز التكليف بمنجّز شرعي أو عقلي سواء كان هناك تكليف في الواقع أم لا، فالإحراز المذكور هو تمام الموضوع. وبناءً عليه تكون موارد التجرّي أيضاً ممّا فيه للمولى حقّ الطاعة، لأنّ المفروض إحراز التكليف فيها بالقطع المنجّز عقلاً. 3. أن يكون موضوعه مركّباً من التكليف بوجوده الواقعي ومن إحرازه بمنجّز عقلي أو شرعي، وهذا وسط بين السابقين، وبناءً عليه يثبت عدم الحقّ في موارد التجرّي لعدم تمامية موضوعه. ولنا في المقام كلامان. أوّلاً ـ إنّ الصحيح هو التصوّر الثاني، لا الأوّل، ولا الثالث. وثانياً ـ إنّه بناءً على التصوّرين الآخرين أيضاً نقول بقبح التجرّي. أمّا الكلام الأوّل فحاصله: إنّ حقّ الطاعة تارة يكون حقّاً مجعولاً، واُخرى يكون حقّاً ذاتياً، ومحلّ كلامنا هو الثاني، لا الأوّل. وهذا الحقّ الذاتي ليس شأنه شأن الحقوق الاُخرى التي لها واقع محفوظ بقطع النّظر عن القطع والشكّ نظير الحقوق الاُخرى والتكاليف الشرعية، بل يكون للانكشاف والقطع دخل فيه، لأنّ هذا الحقّ بحسب الحقيقة حقّ للمولى على العبد أن يطيع مولاه ويقوم بأدب العبودية والاستعداد لأداء الوظيفة التي يأمره بها، وليس بملاك تحصيل مصلحة له، أو عدم إضرار به، كما في حقوق الناس وأموالهم، ففي حقّ المالك في ملكه قد يقال: بأنّ من أتلف مالاً يتخيّل أنّه لزيد ثمّ تبيّن أنّه مال نفسه لم يكن ظالماً لزيد، لأنّه لم يخسره شيئاً ولم يتعدّ على ماله، وأمّا هنا فالاعتداء بلحاظ نفس حقّ الطاعة وأدب العبودية، ومن الواضح إنّ مثل هذا الحقّ الاحترامي يكون تمام موضوعه نفس القطع بتكليف المولى أو مطلق تنجّزه لا واقع التكليف، فلو تنجّز التكليف على العبد ومع ذلك خالف مولاه، كان بذلك قد خرج عن أدب العبودية واحترام مولاه، ولو لم يكن تكليف واقعاً. وهذا هو معنى صحّة التصوّر الثاني من التصوّرات المتقدّمة. وأمّا كلامنا الثاني فهو إنّه لو فرض صحّة أحد الاحتمالين الأوّل أو الثالث، مع ذلك نقول بقبح الفعل المتجرّى به، وذلك لبديهية اُخرى ندّعيها، وهي إنّ الإقدام على الظلم وسلب الحقّ قبيح عقلاً وإن لم يكن ظلماً واقعاً، لعدم ثبوت حقّ كذلك. وذلك ببرهان حكم العقل بالقبح في ارتكاب الخلاف في موارد تخيّل أصل المولوية، كما إذا تصوّر زيد إنّ عمراً مولاه ومع ذلك أهانه ولم يحترمه بما يناسب مقام مولاه من أدب الشكر والتقدير، فإنّه لا إشكال في أنّ صدور مثل هذا الفعل يعتبر في نظر العقل قبيحاً، وفاعله يُعدّ مذموماً، ولو انكشف بعد ذلك إنّ عمراً لم يكن مولى له، بل انكشف إنّه لا مولى له أصلاً، وموارد التجرّي من هذا القبيل، فإنّه وإن لم يكن قد سلب حقّ المولى ـ بعد التنزّل عن الكلام الأوّل ـ إلاّ إنّه كان قد أقدم عليه فيكون فعله بهذا الاعتبار قبيحاً، وإنّما يستحقّ من المولى الحقيقي العقاب ـ مع إنّه لم يظلمه ـ بملاك إنّ مقتضى مولوية المولى الحقيقي أن يكون ذمّه وتأنيبه لعبده الفاعل للقبيح بذلك وإن لم يكن فعله القبيح ظلماً في حقّ مولاه[95].
وبعد أن تبيّن حكم العقل في مسألة حقّ الطاعة فاللازم البحث حول دائرته، فهل هي شاملة لمورد التجرّي، أم لا؟
هناك من وجهة نظر سماحته في تشخيص دائرة حقّ الطاعة ثلاثة احتمالات، وهي كالآتي:
الاحتمال الأوّل: إنّ الموضوع هو التكليف الواقعي للمولى بغضّ النظر عن علم المكلّف أو جهله، فلا تشمل الدائرة، موارد التجرّي.
الاحتمال الثاني: إنّ الموضوع هو إحراز التكليف الواقعي إمّا بالطرق الشرعية أو الطرق العقلية. فهذا الإحراز هو تمام الموضوع لحقّ الطاعة سواء كان التكليف موجوداً في الواقع أم لا، وعلى هذا فموارد التجرّي داخلة في حقّ الطاعة، لأنّ التكليف في موارد التجرّي ثابت عقلاً.
الاحتمال الثالث: إنّ موضوع حقّ الطاعة هو المركّب من الوجود الواقعي للتكليف والوجود العلمي له، بمعنى أنّ الموضوع هو خصوص القطع المصيب للواقع.
ويرى سماحته بطلان الاحتمال الأوّل والاحتمال الثالث؛ وذلك لأنّ الاحتمال الأوّل يستلزم تحقّق المعصية واستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي حتّى في صورة قطع المكلّف بعدم التكليف، في حين أنّ التكليف ثابت في الواقع، ولازم ذلك عدم معذّرية القطع، وهذا الأمر واضح البطلان. والاحتمال الثالث بدوره يستلزم أن يكون العقاب منوطاً بإصابة القاطع في قطعه، في حين أنّ إصابة القطع وعدم إصابته لا تدخل في حدود اختيار المكلّف.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الوجود الواقعي للتكليف لا يمثّل جزء الموضوع بالنسبة إلى حقّ الطاعة؛ بل إنّ المهمّ والذي له موضوعية في هذا البحث، هو مطلق الإحراز والانكشاف من طريق القطع والظنّ، وشكّ المكلّف بثبوت التكليف، ولزوم امتثاله استناداً إلى المولوية الذاتية الثابتة للشارع المقدّس، وليس التكليف الواقعي. وعلى هذا الأساس، فإنّ المتجرّي لا يستحقّ العقاب إلاّ على الاحتمال الثاني فقط؛ إذ في فرض التجرّي يكون المكلّف على يقين من ثبوت التكليف، ومع مخالفته لانكشافه يكون متجاهلاً لحرمة المولى وهاتكاً لها. وأمّا في الاحتمال الأوّل والاحتمال الثالث فلا يكون المتجرّي مستحقّاً للعقاب؛ لأنّ استحقاق العقاب على مخالفة التكليف فرع دخول التكليف في دائرة حقّ الطاعة؛ في حين أنّ حقّ الطاعة لا يكون ثابتاً للمولى في هذين الاحتمالين. وقال سماحته في حلقات الاُصول بشكل صريح:
يعتبر القطع بالتكليف تمام الموضوع لحقّ الطاعة، كما إنّ القطع بعدمه تمام الموضوع لخروج المورد عن هذا الحقّ. ومن هنا، كان المتجرّي مستحقّاً للعقاب كاستحقاق العاصي، لأنّ انتهاكهما لحقّ الطاعة على نحو واحد. ونقصد بالمتجرّي من ارتكب ما يقطع بكونه حراماً ولكنّه ليس بحرام في الواقع[96].
والنتيجة هي أنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يعتقد أوّلاً بأنّ بحث التجرّي لا ينحصر بالقطع فقط، وإنّما يشمل جميع المنجّزات الشرعية، من قبيل: الأمارات والاُصول العملية أيضاً. وثانياً: حيث أنّ تمام الموضوع بالنسبة إلى حقّ الطاعة هو إحراز التكليف، تكون مخالفة التكليف الاعتقادي سبباً في هتك حرمة المولى، واستحقاق العقاب بطبيعة الحال.
مناقشة ونقد
في مقام مناقشة النتيجة الاُولى، يجب القول إنّ الرأي المشهور يذهب إلى الاعتقاد بأنّ التجرّي ينحصر بالقطع فقط، ولا يشمل الأمارات والاُصول العملية؛ إذ لا معنى لكشف الخلاف في الأحكام الظاهرية من الأساس؛ إذ أنّ موضوع الأحكام الظاهرية هو الجهل بالحكم الواقعي، وفي مثل هذه الموارد يتمّ العمل على طبق الأمارات أو الاُصول العملية. وعلى هذا الأساس، لو تمّ اكتشاف الخلاف، يكون زمن الحكم الظاهري قد أزفت نهايته في الواقع. ومن هنا، فإنّ كشف الخلاف في هذا النوع من الموارد لا يعني أنّه كان له حكم آخر في السابق، بل ما دام هناك وجود للأمارة أو الأصل العملي ـ من قبيل: الاستصحاب ـ يكون هذا هو حكمه، ولذلك فإنّ مخالفة الأمارة والاُصول يُعدّ عصياناً حقيقة؛ لا أن يُقال إنّ هذا الأمر بمنزلة العصيان الحقيقي؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الجهل بالواقع. فإذا حصل اليقين بالخلاف، يكون زمن الحكم الظاهري منقضياً، ويتعيّن العمل من الآن فصاعداً على طبق اليقين؛ ولكن هذه النقطة لا تكشف عن أنّ الحكم السابق كان خطأ. وبعبارة اُخرى: إنّ الحكم الظاهري يبقى ثابتاً ما دام هناك جهل بالحكم الواقعي، ولكن بعد انكشاف الحكم الواقعي، يكون موضوع الحكم الظاهري منتفياً، ولا معنى لكشف الخلاف في انتفاء الموضوع.
وعلى هذا الأساس، لا يكون هناك معنى للتجرّي ـ من وجهة نظر المشهور ـ في باب المنجّزات الشرعية، من قبيل: الحكم الظاهري؛ وذلك لأنّ التجرّي إنّما يكون في الموارد التي يرد فيها انكشاف الخلاف، وحيث لا يمكن كشف الخلاف في موضوع الحكم الظاهري ، فلن يكون هناك معنى للتجرّي أيضاً؛ إذ يجب في التجرّي أن تكون هناك مخالفة اعتقادية، ثمّ يتمّ كشف الخلاف، بحيث يتّضح في ذات الفترة الزمنية التي يرتكب الشخص فيها الفعل عالماً بحرمته، أنّه لم يكن حراماً في الواقع، في حين أنّ الأمر في موارد العمل بالحكم الظاهري ليس كذلك.
وأمّا بالنسبة إلى النتيجة الثانية في كلام السيّد الشهيد(رحمهالله)، فيطرح هذا السؤال نفسه: هل لدى العقل ـ بغضّ النظر عن الحكم بقبح الظلم ـ حكم مستقلّ بشأن ذات التجرّي أيضاً، أم حيث أنّ التجرّي يؤدّي إلى الظلم بحقّ المولى سوف يكتسب عنوان القبح أيضاً؟
ذهب سماحة السيّد الشهيد(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّه حيث يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى حقّ الطاعة، هو إحراز التكليف، فإنّ مخالفة التكليف الاعتقادي تكون خروجاً عن زيّ العبودية، وسبباً في هتك حرمة المولى. ومن هنا، حيث يكون هتك حرمة المولى قبيحاً، يكون المتجرّي مستحقاً للعقاب. وعلى هذا الأساس، فإنّ ذات التجرّي بعنوانه ليس موضوعاً، بل يكون حراماً بملاك آخر عنوانه قبح الظلم، وكما سبق أن ذكرنا في الأبحاث السابقة، ليس لدى العقل سوى حكم واحد وهو لزوم إطاعة المولى، وقبح الظلم بحقّ المولى. ولكن يجب البحث فيما إذا كانت مسألة الظلم بحقّ المولى تصدق في مورد التجرّي، أم لا؟
ويبدو أنّه على الرغم من أنّ العقل يرى قبح وحرمة مطلق الظلم بحقّ المولى، ولكن بالالتفات إلى أنّ الشارع المقدّس قد عيّن حدوداً وإلزامات في الشريعة تحت عنوان الواجبات والمحرّمات، وقد حصر تكاليف الإنسان بهذه الحدود أيضاً، فسوف يقتصر هتك حرمة المولى في ترك الواجبات وارتكاب المحرمات فقط، ولا يمكن القول بأنّ العقل يحكم كذلك بأنّ مطلق هتك حرمة المولى والظلم في حقّه قبيح وحرام؛ بمعنى أنّه بمقتضى الإدراك العقلي إذا كان هناك شيء خارج هذه الحدود، لا يعدّ عدم الإتيان به من وجهة نظر الشارع المقدّس هتكاً لحرمته أو ظلماً في حقّه. وبعبارة ثانية: إنّ السيّد الشهيد(رحمهالله) لم يُقم دليلاً على هذا المدّعى القائل بأنّ القيام بالظلم حيث لا يكون هناك تكليف في الواقع، يُعدّ قبيحاً وحراماً أيضاً. وبعبارة اُخرى: من الواضح أنّ العقل ليس له حكمان يكون الموضوع في أحدهما هو الظلم، والموضوع في الآخر هو الإقدام على الظلم، وفي جميع هذه الموارد التي يمارس الشخص فيها ظلماً، لا يوجد سوى حكم واحد في هذا الشأن. ومن هنا يتّضح أنّه حيث يوجد للحقّ في بعض الموارد حكم وتكليف في الواقع، وأراد العبد أن يخالفه، سوف يكون هذا المورد من مصاديق القيام بالظلم، وأمّا إذا تمّ توهّم وجود التكليف، لن يكون ذلك من مصاديق ارتكاب الظلم.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الحكم الذي يعتقد الشخص بوجوبه أو حرمته، ثمّ يخالفه، ثمّ يتبيّن في الواقع أنّه لم يكن واجباً أو حراماً؛ لن يكون ما قام به من وجهة نظر الشارع مصداقاً للظلم؛ وذلك لأنّ الشارع المقدّس قد حدّد مصاديق الظلم في حقّه من خلال بيان الواجبات والمحرّمات.
وقد يُشكل بأنّ ذات هتك حرمة المولى بوصفه واحداً من الحدود الإلهية يكون حراماً؛ لأنّ الشخص بارتكابه يخرج عن زيّ العبودية، وفي مثل هذه الحالة يكون التجرّي قبيحاً وحراماً، ولكن أوّلاً قد ثبت في محلّه أنّ المولى لا يمكن أن يكون له مثل هذا الحكم، ولذلك فإنّ هتك حرمة المولى لا يمكن أن يكون من الأحكام الشرعية، بل إنّ هتك الحرمة الإلهية إنّما يُعدّ من الأحكام العقلية. وثانياً: لو سلّمنا أنّ لهذا الحكم عنوان الحكم الشرعي، إلاّ أنّه سيكون خارج محلّ النزاع؛ لأنّ البحث يدور حول الحكم العقلي وليس الحكم الشرعي.
والنتيجة هي عدم وجود دليل عقليّ على حرمة وقبح التجرّي؛ وإن كان المتجرّي بسلوكه قد أظهر خبثه وسوء سريرته. نعم، هناك روايات في هذا الشأن تثبت العقاب للمتجرّى، ومن هذا العقاب نكتشف أنّ التجرّي حرام من الناحية الشرعية، بيد أنّ بحث هذه الروايات ومناقشتها يخرجنا عن غاية هذه الرسالة.
المقال الثالث: تأثير حقّ الطاعة في إمكان الترخيص في القطع الإجمالي
إنّ العلم الإجمالي في مصطلح علماء الاُصول، يعني العلم بوجود الجامع الكلّي في واحد من طرفين أو أطراف محدّدة، وكذلك الشكّ بالنسبة إلى المورد الذي انطبق عليه الجامع في الواقع؛ بحيث يكون المتعلّق والمعلوم بالعرض مردّداً؛ بمعنى أنّ لدى المكلّف فيما يتعلّق بتكليفه علماً مشوباً بالجهل، بحيث أنّه يعلم بنوع التكليف ولكنّه يشكّ ويتردّد في تعيين مصداقه؛ وهو الشكّ الذي يكون مؤثّراً في أطراف العلم الإجمالي، وإنّ ارتكابه في باب المحرّمات يستتبع مظنّة الضرر في الآخرة.
إنّ السيّد الشهيد(رحمهالله) بالنظر إلى مسلك حقّ الطاعة يرى أنّه وإن كان العلم بالجامع في باب العلم الإجمالي منجّز بدوره مثل العلم التفصيلي، وكذلك وإن كان احتمال وجود التكليف في أطراف العلم الإجمالي منجّز أيضاً، ولكن في الوقت نفسه ومن الناحية الثبوتية، هناك إمكان للترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي، والإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، وبالتالي إسقاط منجّزية العلم الإجمالي؛ في حين يذهب المشهور إلى الاعتقاد بأنّ ترخيص الشارع في مخالفة القطع في العلم الإجمالي، يعني الإذن في ارتكاب المعصية، ويكون محالاً بسبب القبح العقلي. وقال سماحة السيّد الشهيد(رحمهالله) في بيان هذا الأثر:
فقد ذكر المشهور إنّ الترخيص الشرعي في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي غير معقول، لأنّها معصية قبيحة بحكم العقل، فالترخيص فيها يناقض حكم العقل، ويكون ترخيصاً في القبيح، وهو محال. وهذا البيان غير متّجه، لأنّنا عرفنا سابقاً أنّ مردّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب الامتثال إلى حكمه بحقّ الطاعة للمولى، وهذا حكم معلّق على عدم ورود الترخيص الجادّ من المولى في المخالفة، فإذا جاء الترخيص ارتفع موضوع الحكم العقلي، فلا تكون المخالفة القطعيّة قبيحة عقلاً. وعلى هذا، فالبحث ينبغي أن ينصبّ على أنّه: هل يعقل ورود الترخيص الجادّ من قبل المولى على نحو يلائم مع ثبوت الأحكام الواقعية؟ والجواب: إنّه معقول، لأنّ الجامع وإن كان معلوماً، ولكن إذا افترضنا أن الملاكات الاقتضائية للإباحة كانت بدرجة من الأهميّة تستدعي لضمان الحفاظ عليها الترخيص حتّى في المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال، فمن المعقول أن يصدر من المولى هذا الترخيص، ويكون ترخيصاً ظاهرياً بروحه و جوهره، لأنّه ليس حكماً حقيقياً ناشئاً من مبادئ في متعلّقه، بل خطاباً طريقياً من أجل ضمان الحفاظ على الملاكات الاقتضائية للإباحة الواقعية. وعلى هذا الأساس، لا يحصل تناف بينه وبين التكليف المعلوم بالإجمال، إذ ليس له مبادئ خاصّة به في مقابل مبادئ الأحكام الواقعية ليكون منافياً للتكليف المعلوم بالإجمال. ... ويبقى بعد ذلك سؤال إثباتي وهو: هل ورد الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي؟ وهل يمكن إثبات ذلك بإطلاق أدلّة الاُصول؟ والجواب هو النفي، لأنّ ذلك يعني افتراض أهميّة الغرض الترخيصي من الغرض الإلزامي، حتّى في حالة العلم بالإلزام ووصوله إجمالاً، أو مساواته له على الأقلّ، وهو وإن كان افتراضاً معقولاً ثبوتاً، ولكنّه على خلاف الارتكاز العقلائي، لأنّ الغالب في الأغراض العقلائية عدم بلوغ الأغراض الترخيصية إلى تلك المرتبة، وهذا الارتكاز بنفسه، يكون قرينة لبّية متّصلة على تقييد إطلاق أدلّة الاُصول، وبذلك نثبت حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي عقلاً. ويسمّى الاعتقاد بمنجّزية العلم الإجمالي لهذه المرحلة، على نحو لا يمكن الردع عنها عقلاً أو عقلائياً بالقول بعلّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعيّة. بينما يسمّى الاعتقاد بمنجّزيته لهذه المرحلة مع افتراض إمكان الردع عنها عقلاً وعقلائياً بالقول باقتضاء العلم الإجمالي للحرمة المذكورة[97].
توضيح ذلك: أنّ المشهور يذهب إلى القول بعدم إمكان إجراء الاُصول الترخيصية، من قبيل: البراءة، والإباحة، والطهارة، في أطراف العلم الإجمالي، وسلب المنجّزية عنها؛ بمعنى لو شككنا ـ مثلاً ـ أيّ الإنائين هو النجس، لا يمكن التمسك بـ «أصالة الطهارة» في أيّ واحد من الطرفين؛ وذلك لأنّ إجراء هذا النوع من الاُصول يستوجب المخالفة القطعية، وبملاحظة الحجّية الذاتية للقطع، سوف تكون المخالفة القطعية للعلم الإجمالي معصية، وقبيحة بحكم العقل، ولذلك يكون إذن الشارع في المعصية بدوره قبيحاً ومستحيلاً. في حين أنّ السيّد الشهيد(رحمهالله) يرى أنّه طبقاً لمبنى مسلك حقّ الطاعة يمكن من الناحية الثبوتية مخالفة الشارع في بعض الأطراف أو جميع أطراف العلم الإجمالي؛ بمعنى أنّ الشارع يمكنه في هذه الموارد أن يجري الاُصول الترخيصية في جميع أطراف الشبهة، حتّى إذا استلزم جريان الترخيص المولوي المخالفة القطعية للعلم الإجمالي بالجامع، وذلك أوّلاً: إنّ ذات القطع على هذا المبنى ليست له حجّية ذاتية، وإنّ الملاك هو حقّ الطاعة والمولوية الذاتية للشارع؛ وثانياً: إنّ القبح العقلي للمعصية في التكليف منوط بحكم العقل بثبوت حقّ الطاعة للمولى تجاه ذلك التكليف، بمعنى أنّه خلافاً للقطع التفصيلي، فإنّ حكم العقل بمنجّزية الظنّ والاحتمال في العلم الإجمالي معلّق على عدم ورود الترخيص الظاهري من قبل المولى. وبعبارة اُخرى: إنّ منجّزية العلم الإجمالي معلّقة على عدم إحراز الترخيص الظاهري في مخالفة كلا طرفي الشبهة، ومن هنا لو أنّ الشارع أصدر ترخيصاً بترك كلا الطرفين، لا يلزم من ذلك محال، حتّى وإن أدّى إلى المخالفة القطعية؛ لا سيّما وأنّ ذات الترخيص طبقاً لمبناه يحتوي في بعض الموارد على ملاك إباحة اقتضائية أهمّ، من قبيل التسهيل على الناس، وإنّ الشارع من أجل الحفاظ على ذلك الملاك يمكنه أن يرخّص ظاهرياً وطريقياً في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال أيضاً. ومن هنا، لا يمكن للترخيص أن يكون حكماً واقعياً؛ ليكون الجمع بين الحكمين أمراً ممكناً.
ومن هنا، فإنّ سماحته في هذا الباب يختار مسلك الاقتضائية؛ بمعنى أنّ احتمال وجود ملاك الإباحة الاقتضائية سوف يمثّل من الناحية العقلية مجالاً لورود الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي، ومن هنا فإنّ العلم الإجمالي يعتبر مقتضياً لوجوب الاحتياط، بشرط أن لا يقوم الشارع المقدّس باسقاط حقّ الطاعة له في هذه الموارد من خلال ترخيصه في مخالفة التكليف، ومع ذلك فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يذهب في مقام الإثبات إلى الاعتقاد بأنّه لا يوجد في الشريعة دليل يثبت الترخيص في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، لا سيّما وإنّ افتراض أهمّية الغرض الترخيصي بالنسبة إلى الغرض الإلزامي، خلافاً للارتكاز العقلائي، وإنّ هذا الارتكاز سوف يكون بمنزلة القرينة اللبيّة المتّصلة، ويكون سبباً في تقييد أدلّة الاُصول الترخيصية، وبذلك تثبت حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي. وقد أكّد سماحته على هذه المسألة في الحلقة الثانية من دروس علم الاُصول؛ إذ يقول:
لأنّ الترخيص في المخالفة القطعيّة، وإن لم يكن منافياً عقلاً للتكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال، إذا كان ترخيصاً منتزعاً عن حكمين ظاهريّين في الطرفين، ولكنّه مناف له عقلائيّاً وعرفاً. ويكفي ذلك في تعذّر الأخذ بإطلاق دليل البراءة. وثانياً: إنّ الجامع قد تمّ عليه البيان بالعلم الإجماليّ، فيدخل في مفهوم الغاية لقوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»[98]. ومقتضى مفهوم الغاية أنّه مع بعث الرسول وإقامة الحجّة يستحقّ العقاب، وهذا ينافي إطلاق دليل الأصل المقتضي للترخيص في المخالفة القطعيّة[99].
وبذلك فقد ذهب سماحته إلى الاعتقاد بأنّ الترخيص الظاهري في المخالفة القطعية وإن كان من وجهة نظر البحث الثبوتي والعقلي لا يتنافى مع التكليف الواقعي المعلوم بالإجمال، ولكن مثل هذا الترخيص يبدو غير مناسب من وجهة نظر عرفية وعقلائية، وإنّ هذا التنافي العقلائي يستوجب عدم إمكان الاستناد إلى إطلاق دليل البراءة في طرفي العلم الإجمالي.
ثمّ إنّ البيان تامّ بالنسبة إلى الجامع في العلم الإجمالي، ومن هذه الناحية يدخل في مفهوم الغاية في هذه الآية أعلاه، وبمقتضاها مع وجود بعث الرسل وإقامة الحجّة فإنّ المخالفة توجب استحقاق العقاب. ومن هنا، فإنّ هذه القرينة بدورها تمنع التمسّك بأدلّة الاُصول الترخيصية في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي.
مناقشة ونقد
يبدو أنّه يجب علينا من أجل تحقيق ومناقشة كلام سماحته أن نذهب إلى القول بالتفصيل بين مخالفة جميع أطراف العلم الإجمالي وبين مخالفة بعض الأطراف؛ وذلك لاستحالة إذن الشارع في مخالفة جميع الأطراف، كما أنّ هذا غير ممكن من الناحية الثبوتية أيضاً؛ وذلك للأسباب الآتية:
أوّلاً: إنّ مثل هذا الإذن هو ـ باعتراف السيّد الشهيد(رحمهالله) نفسه ـ مجرّد دقّة عقلية، لا عرفية له، وهو على خلاف رؤية العقلاء؛ بمعنى أنّه كيف يمكن من جهة أن يكون الشارع قد اعتبر القطع بالنسبة إلى الجامع بملاك المولوية الذاتية أمراً منجّزاً ولازم الامتثال، ومن جهة اُخرى يذهب الشارع نفسه إلى مخالفة هذا التكليف الفعلي، ويجعل في قباله أصلاً أو أمارة اُخرى ويجعل الحجّية لهما. إنّ هذه المسألة غير قابلة للجمع من الناحية العرفية؛ بحيث أنّ العقلاء يعتبرون هذا الإذن من مصاديق الإذن في المعصية القطعية، ولذلك فإنّ السيّد الشهيد(رحمهالله) قد عدل بدوره عن هذا الرأي أيضاً.
وقال سماحة السيّد الإمام(قدسسره) في هذا الشأن:
إنّ الترخيص في أطراف العلم الإجمالي الذي ثبت الحكم فيه بالحجّة يعدّ عند ارتكاز العقلاء ترخيصاً في المعصية وتفويتاً للغرض. وهذا الارتكاز وإن كان خلاف الواقع على ما عرفت من أنّه ترخيص في مخالفة الأمارة لا ترخيص في المعصية، لكنّه تدقيق عقلي منّا، والعرف لا يقف عليه بفهمه الساذج[100].
وثانياً: لنفترض أنّ الترخيص في جميع الأطراف لا ينطوي على عنوان الإذن في المعصية، إلاّ أنّ المولى في الأساس ما إن يجعل القانون فعلياً ومنجّزاً ومعتبراً ليعمل به الناس، ثمّ يقوم بالعمل على مخالفته وينقضه، ومع ذلك يُعدّ من وجهة نظر العقلاء أمراً قبيحاً أيضاً؛ فلو أنّه ـ على سبيل المثال ـ جعل البيّنة دليلاً من جهة، وقال من جهة اُخرى بإمكان مخالفة البيّنة، سوف يُعدّ هذا الأمر قبيحاً من وجهة نظرهم.
وثالثاً: لا فرق من الناحية العقلية بين القطع بالجامع في العلم الإجمالي وبين القطع التفصيلي في لزوم الاتباع، وإنّ المخالفة القطعية حرام في كلا هذين النوعين من القطع. وقد صرّح السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) باستحالة الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي، حيث قال في حلقات الاُصول صراحة:
وأمّا التكليف المنكشف بالقطع فلا يمكن ورود المؤمّن من المولى بالترخيص الجادّ في مخالفته، لأنّ هذا الترخيص إمّا حكم واقعي حقيقي، وإمّا حكم ظاهري طريقي، وكلاهما مستحيل: والوجه في استحالة الأوّل: إنّه يلزم اجتماع حكمين واقعيين حقيقيين متنافيين في حالة كون التكليف المقطوع ثابتاً في الواقع. ويلزم اجتماعهما على أيّ حال في نظر القاطع، لأنّه يرى مقطوعه ثابتاً دائماً، فكيف يصدّق بذلك. والوجه في استحالة الثاني: إنّ الحكم الظاهري ما يؤخذ في موضوعه الشكّ، ولا شكّ مع القطع، فلا مجال لجعل الحكم الظاهري[101].
ومع ذلك، فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) من الناحية الثبوتية لا يرى استحالة المخالفة القطعية لجميع أطراف العلم الإجمالي؛ في حين أنّ لازم كلامه في إمكان الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي، القول بأنّ حكم العقل قد وقع مورداً للتخصيص، وأنّ المولى يخرج المصداق الذي رخّص في جميع أطرافه من شمول حكمه، أو يكون حكم العقل مقيّداً منذ البداية بهذا القيد (الترخيص في الارتكاب)؛ في حين أنّ التخصيص والتقييد في الأحكام العقلية محال.
وعلى هذا الأساس، فإنّه طبقاً لرأي المشهور من الفقهاء لا يمكن إجراء الاُصول العملية في جميع أطراف العلم الإجمالي، إذ سيترتّب عليه محذور ثبوتي. والدليل الأهمّ للمشهور في ذلك هو أنّ إجراء الأحكام الظاهرية في جميع أطراف العلم الإجمالي، يستلزم الإذن في المعصية القطعية، وهو قبيح. ومن هنا فإنّ المشكلة الأساسية من وجهة نظر المشهور تكمن في الإذن في المعصية، وهنا يمكن أن يقال: إنّ المخالفة الاحتمالية لبعض أطراف العلم الإجمالي قبيحة أيضاً؛ إذ كما يحكم العقل في الموارد التي تستلزم المعصية القطعية بقبح إذن المولى في ارتكابها، كذلك يحكم بقبح الإذن الشرعي في ارتكاب موارد المعصية المحتملة أيضاً.
ومع ذلك، فإنّ جوهر هذه المسألة تكمن في هذه النقطة وهي أنّ العقلاء يذهبون إلى قبح الإذن في ارتكاب ما يجهل الإنسان أنّه معصية أم لا؛ في حين يبدو أنّ هذا الفرض من قبيل الشبهات البدوية، حيث يمكن للشارع أن يأذن في الارتكاب، دون أن يكون هناك قبح في هذه المسألة أصلاً، بل القبح إنّما يمكن تصوّره حيث تكون المعصية يقينية. وإنّ سبب القبح هنا يعود إلى تضييع حقّ المولى في هذه الموارد، وسوف يكون هذا ظلماً في حقّ المولى.
وأمّا في المعصية المحتملة إذا أذن الشارع في الترخيص؛ فحيث لا يعلم أنّه يؤدّي إلى مخالفة المولى أم لا، لن ينطوي على ظلم في حقّ المولى؛ إذ أنّ أحد الطرفين من وجهة نظر العرف والعقل خارج عن دائرة التكليف؛ في حين أنّ مثل هذا الإذن في المخالفة القطعية سوف يستلزم اللغوية.
المبحث الثاني آثار حقّ الطاعة في المسائل المرتبطة بالظنّ
سوف نقوم في هذا البحث على بيان ومناقشة ثلاثة موارد من الآثار التي توجدها نظرية حقّ الطاعة بشأنّ المسائل الاُصولية المرتبطة بالظنون الشرعية، ضمن ثلاثة مقالات، على النحو الآتي:
المقال الأوّل: تأثير حقّ الطاعة في إمكان التعبّد بالظنّ
إنّ الظنّ عبارة عن حالة نفسية هي فوق الشكّ ودون العلم، وفي مثل هذه الحالة يكون لأحد طرفي الاحتمال قوّة ورجحان لدى الفرد. وفي باب إمكان التعبّد بالظن، يواجه المشهور ـ الذي آمن بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بوصفها حكماً عقلياً كلّياً ـ إشكالاً هامّاً في تبرير وتوجيه جعل الحجّية للظنّ، وهو: هل التكاليف التي تثبت باُصول مثل: الاستصحاب، أو الأمارات من قبيل: خبر الواحد، يتمّ فيها تخصيص قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» أم لا؟ لا سيّما وأنّ هذه القاعدة ـ التي لا تكون التكاليف المحتملة وغير المقطوع بها طبقاً لها منجّزة ـ هي من جهة حكم عقلي لا يقبل التخصيص، ومن ناحية اُخرى لا يوجد تكليف يقيني وبيان قطعي في هذا النوع من الموارد.
وعلى هذا الأساس، يجب القول: حتّى الظنون المعتبرة والمنجّزة سوف تبقى على حالها في دائرة قبح العقاب بلا بيان؛ وذلك لأنّ دائرة «حقّ الطاعة» من وجهة نظر المشهور تقتصر في الأساس على الموارد المقطوع بها فقط، وبطبيعة الحال يوجد في موارد الظنّ تكليف غير قطعي. ومن هنا فقد بذل الاُصوليون جهوداً في حلّ هذه المشكلة، من ذلك أنّهم ـ على سبيل المثال ـ قد اعتبروا الظنون المعتبرة بوصفها علماً تعبّداً، أو اعتقدوا بعدم وجود عقوبة على التكليف الواقعي في موارد الظنون؛ لعدم وجود القطع بالتكليف الواقعي، وإنّما العقوبة على مخالفة ذات الحكم الظاهري، بيد أنّ سماحته قال في نقد رؤية المشهور:
إنّ حجّية غير العلم مناف مع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، لأنّ غير العلم لا يخرج عن كونه غير العلم مهما جعلت له الحجّية شرعاً أو عقلائياً، فيكون العقاب في مورده عقوبة بلا بيان، والأحكام العقلية لا تقبل التخصيص[102].
في حين أنّ القول بنظرية حقّ الطاعة، لا يترتّب عليه مثل هذا التالي الفاسد؛ إذ طبقاً لهذا المسلك تكون دائرة حقّ الطاعة واسعة وتشمل التكاليف القطعية وغير القطعية على السواء؛ بمعنى أنّه لو تمّ اعتبار حجّية الظنّ ذاتية مثل القطع، فعندها سوف يكون المراد من «عدم البيان» في قاعدة قبح العقاب العقلية، عدم الانكشاف العلمي أو الظنّي. وبطبيعة الحال فإنّ حكم العقل بوجوب الامتثال في الموارد غير القطعية سوف يكون حكماً معلّقاً؛ بمعنى أنّ هذا الحكم يكون منذ البداية مشروطاً بعدم إحراز الترخيص الظاهري من ناحية المولى. ومن هنا لا يكون هذا الترخيص معارضاً لحكم العقل، بل يعدّ رافعاً لموضوعه[103].
مناقشة ونقد
يبدو أنّ المراد من «البيان» في قاعدة قبح العقاب ليس هو «القطع»، بل المراد منه هو «البيان الواصل»، وعليه لن يكون هناك محذور في البين.
المقال الثاني: تأثير حقّ الطاعة في حجّية الظنّ
إنّ الأصل الأوّلى في باب الظنون ـ بناءً على الرأي المشهور ـ هو عدم الحجّية الذاتية لها، وحرمة العمل بها، وإنّ إثبات هذا الأصل لا يحتاج إلى دليل؛ وذلك لأنّ الشكّ في إنشاء الحجّية للظنّ في الأساس مساوق للقطع بعدم حجّيته في مرحلة الفعلية. ومع ذلك فإنّ له قابلية الحجّية، ولذلك لو قام دليل قطعي على حجّيته على نحو مطلق، أو في بعض الموارد المعيّنة، كان له أثر، وسوف يكون قابلاً للاحتجاج.
وفي المقابل، ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ على مبنى نظرية حقّ الطاعة ـ إلى القول بحجّية الظنّ في تنجيز التكليف المظنون من الناحية الثبوتية؛ بمعنى أنّ العبد لو ظنّ تنجّز التكليف عليه من ناحية المولى، سوف يكون الإتيان بذلك التكليف واجباً؛ وهذا طبعاً مشروط بأن يكون التكليف المظنون قد بلغ درجة من الأهمّية بحيث لو كان منجّزاً على المكلّف في اللوح المحفوظ، لم يكن الشارع يرضى بتركه. وقال سماحته في هذا الشأن:
مولويّة الشارع مولويّة حقيقيّة ذاتيّة، لا تقبل التضييق والتوسعة، بل له حقّ الطاعة مطلقاً، وفي كلّ ما نحتمل أنّه يريده منّا، ما لم يأذن هو لنا في عدم الاحتياط فيه، ورَفَع يده عنه، ومن هنا، قلنا سابقاً: إنّ المعوّل عليه في رفع اليد عن الاحتياط هو البراءة الشرعيّة لا العقليّة، وعلى أساس هذا الموقف: يتوضّح أنّ منجّزيّة الظنّ ذاتيّة في الجهة الاُولى، كالقطع، بمعنى: أنّها ثابتة له أيضاً كما هي في العلم؛ لأنّ دائرة مولويّة المولى واسعة تشمل التكاليف المظنونة والمحتملة. نعم، منجّزية الظنّ تختلف عن منجّزية القطع في أمر أشرنا إليه، وهو أنّ الشارع يمكنه أن يرخّص في مخالفة التكليف المظنون ترخيصاً ظاهريّاً، بينما بالنسبة للقطع لا يمكنه ذلك، كما عرفت سابقاً، وسوف يأتي تفصيل النكتة في ذلك في بحث الجمع بين الأحكام الواقعيّة والظاهريّة. نعم، نحن انقلبت عندنا قاعدة منجّزية الظنّ باعتبار البراءة الشرعيّة؛ إذ مقتضى عموم (رُفِع ما لا يعلمون) هو عدم حجّيّة الظنّ، فانقلبت الحجّة إلى اللاّحجّة؛ لأنّ منجّزية الظنّ معلّقة على عدم ورود دليل من الشارع في المخالفة، وقد ورد الإذن في دليل البراءة الشرعيّة، ومن هنا، كنّا نحتاج إلى مخصّص لدليل البراءة الشرعيّة، فحينما نتكلّم في حجّية الشهرة، وخبر الواحد، إنّما نتكلّم عن أنّ دليل البراءة الشرعيّة الحاكم على قاعدة المنجّزية الاُولى، هل ورد عليه مخصّص في المقام أو لا؟ والحاصل: هو أنّنا نحكم بعدم اعتبار المنجّزية للظنّ فيما إذا ثبتت في مورده البراءة الشرعيّة، باعتبار كونها حكماً ظاهريّاً شرعيّاً بعدم وجوب الاحتياط؛ إذ قد عرفت فيما تقدّم: أنّ حكم العقل بالمنجّزيّة وحقّ الطاعة معلّق على عدم الترخيص الشرعيّ. وبهذا يتّضح: أنّ البحث عن دليل حجّيّة الظنّ انّما هو بحث عن المخصّص لدليل البراءة الشرعيّة، بناءً على مسلكنا[104].
كما قال سماحته في حلقات الاُصول:
إنّ الصحيح في حقّ الطاعة شموله للتكاليف المظنونة والمحتملة أيضاً، فيكون الظنّ والاحتمال منجّزاً أيضاً، ومن ذلك يستنتج إنّ المنجّزية موضوعها مطلق انكشاف التكليف، ولو كان انكشافاً احتمالياً، لسعة دائرة حقّ الطاعة. غير إنّ هذا الحقّ وهذا التنجيز يتوقّف على عدم حصول مؤمّن من قبل المولى نفسه في مخالفة ذلك التكليف، وذلك بصدور ترخيص جادّ منه في مخالفة التكليف المنكشف، إذ من الواضح أنّه ليس لشخص حقّ الطاعة لتكليفه والإدانة بمخالفته إذا كان هو نفسه قد رخّص بصورة جادّة في مخالفته.
أمّا متى يتأتّى للمولى إن يرخّص في مخالفة التكليف المنكشف بصورة جادّة؟
فالجواب: على ذلك أنّ هذا يتأتّى للمولى بالنسبة إلى التكاليف المنكشفة بالاحتمال أو الظنّ، وذلك بجعل حكم ظاهري ترخيصي في موردها، كأصالة الإباحة و البراءة. ولا تنافي بين هذا الترخيص الظاهري والتكليف المحتمل أو المظنون، لما سبق من التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية، وليس الترخيص الظاهري هنا هزليا، بل المولى جادّ فيه، ضماناً لما هو الأهمّ من الأغراض والمبادئ الواقعية[105].
وعلى هذا الأساس، فإنّ المنجّزية والمولوية من وجهة نظر سماحته لا تقبلان الانفكاك والانفصال عن بعضهما، وإنّ التبعيض في المنجّزية إنّما هو في الواقع تبعيض في مولوية اللّه تعالى، وهذا قياس للمولوية الحقيقية على المولوية العقلائية، وهو قياس غير صحيح. وعلى هذا الأساس، فإنّ البحث عن المنجّزية هو عين البحث عن مولوية المولى، وبهذا الملاك سوف تكون حجّية الظنّ ذاتية؛ مع فارق أنّ جعل الحكم الظاهري في مورد الظنّ ممكن؛ إذ أنّ عدم العلم مأخوذ في موضوع الأحكام الظاهرية، ومن هنا فإنّ قاعدة حجّية الظنّ بمقتضى أدلّة البراءة الشرعية سوف تنقلب في الواقع إلى أصل عدم حجّية الظنّ؛ إذ أنّ منجّزية الظن ـ كما أكّد سماحته مراراً ـ معلّقة على عدم ورود الدليل الشرعي على مخالفته؛ في حين أنّه قد صدر مثل هذا الإذن بمقتضى أدلّة البراءة الشرعية. ولذلك فإنّه طبقاً لمسلك حقّ الطاعة كلّما تمّ افتراض حجّية واعتبار الظنّ من وجهة النظر الشرعية، فإنّ دليل حجّية الظن سوف يعمل في الواقع على تخصيص أدلّة البراءة الشرعية.
مناقشة ونقد
في مقام مناقشة كلام سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ، بالإضافة إلى الإشكال المبنائي الذي كان وارداً على أصل هذه النظرية، وتقدّم بيانه في الأبحاث السابقة بالتفصيل، يجب الرجوع في هذا المورد إلى الرأي المشهور، والعمل على تقييمه مجدّداً. بناءً على الرأي المشهور لا يمكن اعتبار الظنّ بما هو ظن علّة تامّة في الحجّية، بحيث لا يمكن سلب الحجّية عنه. كما لا يوجد في الظنّ مقتض للحجّية، حتّى إذا لم يكن هناك مانع كان الظنّ حجّة من تلقائه، ومن هنا لا يجب على الشارع أن ينهى بالنهي المولوي عن العمل بالظنّ كما هو الحال بالنسبة إلى العمل بالشكّ والوهم[106]. وبطبيعة الحال، لابدّ من الالتفات إلى أنّ هناك فرقاً بين القابلية والاقتضاء؛ وذلك لأنّ الظنّ له قابلية جعل الحجّية، ومن هنا يكون بحاجة إلى جعل من قبل جاعل، ويمكن لجاعل الحجّية للظنّ أن يكون هو الشارع أو العقل، ومع ذلك يبدو أنّه بالالتفات إلى بناء عامّة الناس ـ لا سيّما في الجاهلية حيث كان العمل بالمظنونات قائماً ـ ليس هناك مانع من اعتبار النهي عن العمل بالظنّ أمراً مولوياً مثل النهي عن العمل بالقياس؛ كي يُعدّ العمل بالظنّ حراماً شرعاً.
وعلى كلّ حال، فإنّ الحجّية في الأساس ـ كما تقدّم تحقيقه في الأبحاث السابقة ـ ليست جزءاً من الذاتيات، أو اللوازم الذاتية للقطع؛ بمعنى أنّ العقل ليس له حكم مستقل بحيث يجعل القطع في ضوئه موضوعاً والحجّية محمولاً في تلك القضية؛ بل إنّ الطريقية والكاشفية التامّة وحدها هي من ذاتيات القطع، وليس للقطع أكثر من هذه الخصوصية. وبعبارة اُخرى: إنّ الخصيصة الوحيدة في القطع هي أنّه يكشف واقع الأمر بالنسبة إلى القاطع، وعندما ينكشف له واقع الأمر، سوف يترتّب على ذلك لزوم الامتثال.
وبناءً على هذا المبنى، يجب القول من جهة إنّ الظنّ ليس له حجّية ذاتية مثل القطع، ومن ناحية اُخرى، إنّ الظنّ لا يمتلك الخصوصية الذاتية للقطع (الطريقية والكاشفية)، بل إنّ الظنّ إمّا أنّه لا يمتلك كاشفية أصلاً، أو له كاشفية ناقصة، والنتيجة واحدة. وعلى هذا الأساس، عندما يحصل ظنّ بالحكم، فهذا يعني أنّ الواقع لا يزال غير منكشف، وعندما لا يتمّ إحراز الواقع بطبيعة الحال لا يكون حكم العقل بوجوب الامتثال سارياً، وبالتالي لا يكون الظنّ معتبراً لا في مورد ثبوت التكليف، ولا في مورد سقوط التكليف.
والنقطة الهامّة والملفتة للانتباه هي أنّ آيات القرآن الكريم تدلّ على عدم حجّية الظنّ وحرمة العمل به، وإنّ هذه الآيات وإن كان لها ظهور في حكم مولوي، ولكن بالالتفات إلى التعليل الوارد في بعضها، كما في قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»[107]، يُستفاد أنّ الظنّ لا يمكنه إيصال الناس إلى الواقع أبداً، وهذا في حدّ ذاته يعني عدم الحجّية الذاتية للظنّ وعدم اعتباره. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه التعليل يُشير إلى أمر ارتكازي وواقعي في مورد ماهية الظنّ. وعلى هذا الأساس، فإنّ القاعدة الأوّلية العقلائية أو الشرعية في مورد الظنّ، هي حرمة العمل به وعدم حجيّته. وإنّ هذا البيان في حدّ ذاته يمكن أن يكون واحداً من الإشكالات الهامّة على نظرية حقّ الطاعة؛ إذ بناءً على هذه النظرية تعتبر حجّية الظنّ أمراً واقعياً وذاتياً، وهذا على خلاف القاعدة التي أشرنا إليها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ النقطة الثانية التي يمكن لنا أن نستفيدها من هذه القاعدة، هي أنّنا في بحث الظنون نحتاج إلى دليل خاصّ؛ ليعمل على تخصيص هذه القاعدة، وإنّ أدلّة البراءة في البين أجنبية بالكامل عن هاتين المجموعتين من الأدلّة. إنّ مفاد أدلّة البراءة هو الترخيص في التكليف المحتمل، أو المظنون الذي لا يتعارض مع القاعدة الأوّلية، وإنّ الظنّ بالتكليف ـ بناءً على كلا المجموعتين من الأدلّة (أدلّة البراءة، وقاعدة حرمة العمل بالظن) ـ غير معتبر، وكذلك لا صلة لها بحجّية الظنون أيضاً؛ فعلى سبيل المثال، كيف يمكن لمفاد الأدلّة الدالّة على حجّية الشهرة ـ فيما لو كانت الشهرة تدلّ على الإباحة أو الاستحباب ـ أن يخصّص أدلّة البراءة؟ وإذا قامت الشهرة على حكم وتكليف، لن يبقى هناك مجال لأدلّة البراءة؛ وذلك لأنّ موضوع هذه الأدلّة إنّما هو في مورد حيث لا يكون هناك دليل وبيان معتبر واصل بشأن التكليف.
المقال الثالث: تأثير حقّ الطاعة في حجّية خبر الواحد
إنّ من بين الآثار المذكورة لنظرية حقّ الطاعة، تلك التي ترتبط ببحث حجّية خبر الواحد، عند الاستدلال بآية النفر. وفي معرض إيضاح هذا الأثر، سوف نعمل على بيان بعض المقدّمات فيما يتعلّق بهذا البحث، ولننتقل بعد ذلك إلى بيان السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في ضوء نظرية حقّ الطاعة وتطبيقاتها على الاستدلال بهذه الآية. وفي نهاية المطاف، سوف نتعرّض إلى ما يقتضيه التحقيق بشكل كامل.
إنّ الخبر في قبال الإنشاء يطلق على الكلام الذي يقبل التصديق والتكذيب، وهو في المصطلح يُرادف الحديث والرواية والكلام الذي يحكي عن سنّة المعصوم عليهالسلام .
إنّ خبر الواحد يُطلق على الخبر الذي لم يبلغ حدّ التواتر، ولا يمكن إثبات صحّته دون قرينة مورثة للقطع واليقين[108]، بل غالباً ما يحصل الظنّ بمؤدّاه. وهناك اختلاف في إثبات الحجّية له، وإن كان المشهور يرى حجّية خبر الواحد في الجملة. وعلى كلّ حال، فقد تمّ الاستناد إلى الكتاب والسنّة والإجماع والعقل لإثبات حجّية خبر الواحد. وإنّ من بين أهمّ الآيات التي استدلّ بها في هذا الشأن، آية النفر، وهي قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَة لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا اِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»[109].
والاستدلال الأوّلي بهذه الآية الكريمة هو أنّ الذهاب إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله، وأخذ الأحكام منه مباشرة وإن كان أمراً ضرورياً وملحّاً بالنسبة إلى الجميع، بيد أنّ إيجاب ذلك على جميع آحاد الناس ينطوي على مشقّة وعناء. ومن هنا، فقد تمّ نفي ضرورة نفر جميع الناس إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله لتعلّم أحكام الدين، ولكن يجب على بعضهم أن ينفروا إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله وأن يأخذوا منه الأحكام والتعاليم الدينية، ونقلها إلى قومهم عند رجوعهم إليهم وإنذارهم بها. وهذا يستلزم أن يكون كلام النافرين إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله حجّة بالنسبة إلى قومهم، وإلاّ كان تشريع نفرهم وذهابهم إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله لغواً وبلا فائدة.
إنّ سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) بعد تقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة، أورد بعض الانتقادات على هذا الاستدلال في ضوء نظرية حقّ الطاعة. ومن هنا فإنّه يخدش في دلالة هذه الآية على حجّية خبر الواحد. وقال سماحته في تقريب دلالة آية النفر على المدّعى ونقده:
وتقريب الاستدلال بها أنّها تدلّ على مطلوبيّة التحذّر عند الإنذار، بقرينة وقوع الحذر موقع الترجّي بدخول لعلّ عليه، وجعله غاية للإنذار الواجب، ومقتضى الإطلاق كون التحذّر واجباً عند الإنذار، ولو لم يحصل العلم من قول المنذر. وهذا يكشف عن حجّيّة إخبار المنذر. والجواب على ذلك: أوّلا: أنّ وجوب التحذّر عند الإنذار لا يكشف عن كون الحذر الواجب بملاك حجّيّة خبر المنذر، وذلك لأنّ (الإنذار) يفترض العقاب مسبقاً، وكون الحكم منجّزاً بمنجّز سابق، كالعلم الإجمالي، أو الشكّ قبل الفحص. ولا يصدق عنوان (الإنذار) على الإخبار عن حكم لا يستتبع عقاباً إلاّ بسبب هذا الإخبار. وثانياً: لو سلّمنا أنّ خبر المنذر بنفسه كان منجّزاً، فهذا لا يساوق الحجّيّة بمعناها الكامل، لما سبق من أنّ أيّ دليل احتماليّ على التكليف فهو ينجّزه بحكم العقل، فغاية ما تفيده الآية الكريمة أنّها تنفي جعل أصالة البراءة شرعاً في موارد قيام الخبر على التكليف، ولا تثبت جعل الشارع الحجّيّة للخبر. نعم، بناءً على مسلك قبح العقاب بلا بيان يكشف ما ذكر عن الجعل الشرعيّ، إذ لو لا الجعل الشرعيّ لجرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان[110].
توضيح كلام سماحته في تقريب الاستدلال: أنّ هذه الآية الكريمة تدلّ على وجوب مطلق الحذر والاحتراز العملي من العقاب بعد الإنذار؛ وهو الإنذار الذي وجب على بعض المسلمين على نحو الوجوب الكفائي؛ إذ من جهة بالالتفات إلى أنّ «اللام» في «لينذروا» هي لام الأمر؛ وعليه فإنّها تدلّ على وجوب الإنذار، ومن ناحية اُخرى فإنّ المستفاد من ذيل الآية الكريمة وهو قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»، جعل الحذر غاية للإنذار الواجب، وإنّ غاية الشيء الواجب واجبة أيضاً؛ بمعنى أنّه ليس هناك من الناحية العقلية معنى لأن يكون نفر عدد من المسلمين إلى النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله وتفقّههم في الدين وإنذارهم لقومهم واجباً، وفي الوقت نفسه لا تكون الغاية ـ التي من أجلها وجبت هذه الاُمور ـ واجبة. وعليه، فإنّ وجوب قبول قول المنذر بالنسبة إلى الآخرين يعني وجوب الحذر والاجتناب العملي، لا سيّما وأنّ «لعل» من مصاديق الطلب؛ حيث تفيد الترجّي والمطلوبية، وعندما يأتي بعدها الفعل «يحذرون» يكون ذلك بمعنى رجحان الحذر ومطلوبيته عند الشارع المقدس، وهو رجحان تحقّق بمقتضى حجّية الإنذار، وإنّ مخالفته تستوجب استحقاق العقاب. ومن هنا فإنّه يُعدّ مساوقاً للوجوب. وعلى هذا الأساس، فإنّ مقتضى إطلاق الآية الكريمة هو وجوب الحذر عند تلقّي الإنذار، وإنّ قبول السامع لم يتمّ تقييده بحصول العلم بالنسبة إلى مؤدّاه ومطابقته للواقع.
وبعبارة اُخرى: بمقتضى إطلاق مطلوبية الحذر عند الإنذار، كلّما وجب الإنذار، سوف يكون الحذر واجباً بطبيعة الحال؛ حتّى إذا لم يحصل للسامع أيّ علم من كلام المنذِر؛ إذ عندما يفرض الشارع المقدّس وجوب الإنذار على المتفقّه، سوف يكون لازم ذلك ـ الذي هو قبول الإنذار ـ واجباً على السامع أيضاً؛ إذ في غير هذه الحالة سوف يكون هذا تخصيصاً بالفرد النادر، وبالتالي سوف يُعدّ وجوب الإنذار لغواً وبلا فائدة. وعلى هذا الأساس، يكون إطلاق وجوب الحذر كاشفاً عن الحجّية التعبّدية لخبر الواحد غير اليقيني، وصحّة الاعتماد عليه، وكذلك صحّة الاحتجاج به عند مخالفة الإنذار.
لقد ذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في نقد هذا التقريب إلى القول بأنّ وجوب الخوف النفسي والاجتناب العملي بعد الإنذار، لا يكشف عن ملاك حجّية خبر الواحد؛ بمعنى أنّ الحجّية التعبّديّة للإنذار لا تلازم حجّية خبر الواحد؛ وذلك للأسباب الآتية:
أوّلاً: إنّ موضوع الآية الكريمة هو قول المنذِر، دون المخبِر؛ وهذان العنوانان ليسا مترادفين؛ بل الإنذار أخصّ من الإخبار؛ وذلك لأنّ الإنذار إنّما هو إخبار عن تهديد بالعقاب، أو استحقاق العقاب على فعل أو ترك، قد تنجّز على المكلّف في مرتبة سابقة؛ بمعنى أنّ الإنذار كاشف عن الخطر، لا أنّه يوجد الخطر. ومن هنا فإنّ الإنذار إنّما يُطلق فيما إذا كان استحقاق العقاب والحكم العقلي المنجّز في العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات في الشريعة الإسلامية، أو الحكم المنجّز في موارد الشبهة الحكمية قبل الفحص، ثابتاً ومفروضاً في ذهن المنذَر في مرتبة سابقة، ولكنّه لم يكن يتمّ الاحتياط بشأنه، والآن يتمّ التذكير التفصيلي بذلك الأمر المنجّز من خلال الإنذار.
وعلى هذا الأساس، فإنّ العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزامية في الشريعة لن ينحلّ قبل الفحص واليأس، ومن هنا فإنّ الإنذار ليس سبباً في حجّية متعلّقه ومؤدّاه، ليكون قول المنذِر حجّة تعبّدية في وجوب الحذر، بل هناك سبب آخر يوجب تنجّز الحكم حتّى مع عدم حصول العلم، وهو اللزوم العقلي للاحتياط في هذا النوع من الموارد. وعلى هذا، فإنّ عنوان «الإنذار» لا يُطلق على الإخبار بحكم لم يُفرض عقاب له في مرحلة سابقة، وهو الآن يخبر عن ذلك، ويكون له قصد إلى تنجّز التكليف من خلال الإخبار. ومن هنا، فإنّ هذه الآية الكريمة ليست ناظرة إلى مثل هذا الخبر، وإنّ هذا المدّعى على خلاف ظاهر الآية، بل يجب ـ على سبيل المثال ـ أن تكون الحرمة والعقوبة على فعل مثل شرب الخمر معلومة للسامع في مرحلة سابقة؛ ليكون إنذاره بمقتضى هذه الآية سبباً في اجتنابه.
وثانياً: لو سلّمنا أنّ الإنذار مرادف للإخبار، وإنّ خبر المنذر في نفسه ـ وليس لأجل المنجّز السابق ـ هو السبب في التنجيز، ولكن مع ذلك لا يكون الاستدلال بهذه الآية الكريمة بملاك الجعل الشرعي والحجّية الكاملة (المعذّرية والمنجّزية) لخبر الواحد؛ بل إنّ هذه الآية إرشاد إلى حكم العقل من طريق ملاك منجّزية احتمال التكليف؛ وذلك لأنّ أقصى ما يثبت في هذه الآية الكريمة لحجّية خبر المنذر إنّما هو نفي البراءة الشرعية عن التكليف المحتمل. بمعنى أنّه بناءً على مسلك حقّ الطاعة يمكن أن يكون تنجيز الخبر في هذه الآية الكريمة من باب حجّية الاحتمال، وبحكم العقل بلزوم إطاعة المنعم والخالق في جميع التكاليف؛ إذ بناءً على هذا المسلك يكون وجود كلّ دليل محتمل على ثبوت التكليف، بمعنى تنجّزه العقلي؛ ومن هنا قد يكون خبر الشخص المنذِر بالتكليف الإلزامي سبباً لإيجاد الاحتمال المولوي لدى السامع، وإنّ هذا الاحتمال قد تنجّز عقلاً بمقتضى مسلك حقّ الطاعة.
وعلى هذا الأساس، وبمقتضى هذه الآية، لا يوجد إمكان جريان البراءة الشرعية بالنسبة إلى المنذَر في موارد قيام الخبر الإنذاري على التكليف، ولكن هذا لا يعني إثبات الحجّية التعبّدية للخبر من خلال الاستناد إلى هذه الآية الكريمة؛ وذلك لأنّ المنجّزية إنّما هي للاحتمال وليس للخبر بوصفه إنذاراً. وبناءً على نظرية قبح العقاب بلا بيان تكون هذه الآية الكريمة كاشفة عن الجعل الشرعي للحجّية بالنسبة إلى خبر الواحد؛ إذ بمقتضى هذه القاعدة ما دام قول المنذر ليس حجّة، لن يكون الحذر على السامع واجباً؛ بمعنى أنّه إذا لم يكن هناك جعل شرعي في هذه الموارد، لن تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان جارية في موردها.
والنتيجة هي أنّ إطلاق وجوب الحذر حتّى على فرض عدم حصول العلم من قول المنذر لا يتوقّف على جعل الحجّية التعبّدية لأخباره، ومع ذلك يبدو أنّ مفردة الإنذار رغم استعمالها في موارد احتمال وجود الخطر، بيد أنّها لا تختصّ من وجهة نظر عُرفية بالإخبار عن الماضي؛ بل إنّها تصدق حتّى في موارد أمر المولى لعبده ابتداء بالقيام بفعل، وتهديده له بالعقاب على تركه، وإن لم يكن هذا التهديد موجوداً في المرحلة السابقة أبداً. ومن ناحية اُخرى فإنّ عدم حجّية قول المنذِر لا يتناسب مع الوجوب الكفائي في هذه الآية الكريمة. ثمّ إنّه مع إبطال نظرية حقّ الطاعة لن يكون هناك وجود لمثل هذه القرينة لمنشأ حجّية خبر المنذِر.
مناقشة ونقد
أوّلاً: يبدو من ظاهر هذه الآية الكريمة أنّ للإنذار موضوعية بالنسبة إلى مطلوبية الحذر أو لزومه، بحيث لا تكون للحذر مطلوبية بغضّ النظر عنه. وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن نستفيد من الآية الكريمة أن يكون الإنذار ثابتاً، حيث يكون العقاب قد ثبت في مرحلة سابقة.
وثانياً: كيف يمكن للآية الكريمة أن تدلّ على نفي أصالة البراءة في مورد قيام خبر الواحد على أمر، ولكنّها لا تدلّ على حجّية ذلك الخبر؟! وبعبارة اُخرى: إنّ هذه ملازمة عُرفية؛ فحيث يتمّ نفي أصالة البراءة، يجب علينا أن نقبل بأنّ لخبر الواحد حجّية كاملة. وبعبارة ثالثة: لا يُستفاد من الآية الكريمة أنّ خبر الواحد تكون له الحجّية بملاك اشتماله على احتمال تكليف منجّز، بل إنّ ذات خبر الواحد بما هو خبر واحد عادل يشكّل موضوعاً للحجّية. وعلى هذا الأساس، فإنّ خبر الواحد سوف يكون بعنوانه نافياً لأصالة البراءة، وهذا لا يتحقّق إلاّ إذا كانت له حجّية.
خاتمة المقال إطلالة على نتائج التحقيق
لقد كان السؤال الأساسي في هذا البحث يدور حول هذه المسألة، وهي: هل يثبت استحقاق العقاب من الناحية العقلية على مخالفة التكليف المحتمل بعد الفحص أم لا؟ وفي معرض الإجابة عن هذه المسألة تمّ طرح نظريتين، وإنّ هذه الدراسة قد تناولت بحث هذا الموضوع من خلال الاتّجاه التحليلي والاستنباطي ضمن ثلاثة أقسام.
وفي الفصل الأوّل تمّ بيان بحث المفاهيم العامّة والكلّيات التمهيدية، وقلنا: إنّ الأدلّة العقلية ـ من قبيل: نظرية حقّ الطاعة أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ إنّما تطلق على القضايا الأعمّ من البديهية والنظرية التي يدركها العقل ويفهمها جازماً، دون الاستناد إلى القرآن والسنّة، وتكون لها صلاحية الوقوع في مسار استنباط الحكم الشرعي والقطع به. وبطبيعة الحال، فإنّ المتعلّق الكلّي للإدراك العقلي في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ونظرية حقّ الطاعة إنّما هو من نوع الاُمور التي لها شأنية القيام أو الترك الاختياري لفعل ما، ولذلك يُطلق عليها عنوان مدركات العقل العملي؛ بمعنى أنّ النفس تدرك وجوب وضرورة القيام بها أو تركها. كما أنّه بالالتفات إلى اعتبار المقدّمات المؤلّفة للاستنباط (الصغرى والكبرى) في هاتين النظريتين عقلية بحتة، فإنّها تعدّ بوصفها من المستقلاّت العقلية أيضاً. وبطبيعة الحال، فإنّ مكانة هاتين النظريتين بوصفهما أصلين عقليين، ونعني بذلك: البراءة العقلية وأصالة الاحتياط العقلية، إنّما تتركّز غالباً فيما يرتبط بالشبهات البدوية الحكمية؛ وهي الشبهات التي يكون متعلّق الشكّ فيها هو جعل الحكم الشرعي الكلّي، ويكون منشأ الشكّ فيها هو فقدان أو إجمال أو تعارض النصّ في مسألة ما مع نصّ آخر.
وفي السابق كان علماء الإمامية غالباً ما يطرحون أصالة الإباحة في كتبهم الفقهية، حتّى جاء المحقّق الحلّي(رحمهالله) ليستدلّ في كتبه المتعدّدة على مسألة البراءة الأصلية، وتمسّك بها في الأبحاث المتنوّعة، ثمّ شاع استعمال هذا المصطلح بعده. وفي نهاية المطاف، قام الوحيد البهبهاني(رحمهالله) في كتاب «الفوائد الحائرية» بتنقيح البراءة العقلية ومجراها في الشبهات الحكمية والموضوعية، وأحكم الشيخ الأنصاري دعائمها على أساس القواعد العلمية، ولا تزال هذه النظرية مطمح نظر المشهور من الإمامية، بل عدّها المحقّق الحائري اليزدي(رحمهالله) في كتابه «درر الفوائد» قاعدة مسلّمة عند العدلية في عصره. وبطبيعة الحال، فقد عمد بعض الفقهاء الآخرين ـ من أمثال المحقّق اللاري الشيرازي(رحمهالله)وصاحب المنتقى(رحمهالله) ـ إلى نقد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، كما ذهب آخرون ـ من أمثال المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) ـ إلى إنكار أن تكون هذه القاعدة عقلية، وكانوا يقولون بأنّها قاعدة عقلائية.
وقد ذهب المحقّق الداماد(رحمهالله) إلى إنكار عقلية أو عقلائية قاعدة قبح العقاب بلا بيان، واختار ـ قبل السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ القول بالاحتياط العقلي، ما لم يؤدّ إلى اختلال النظام.
وقد ذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ بحث الاحتياط العقلي قد تمّ بيانه في كلمات المتقدّمين بشكل مضطرب، ورأى سماحته أنّ مراد القدماء من «أصالة الحظر» هو مسلك حقّ الطاعة، وبطبيعة الحال فإنّ القائلين بـ «أصالة الحظر» لا يسعهم القول بمولوية المولى في التكاليف القطعية فقط، بل سوف يعتبرونها شاملة لجميع التكاليف القطعية وغير القطعية أيضاً.
إنّ نظرية حقّ الطاعة من المسائل الاُصولية المشبعة بالمباني الكلامية الهامّة، من قبيل المولوية التشريعية للّه سبحانه وتعالى. لقد ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)إلى الاعتقاد بأنّ مقولة المولوية أمر مشكّك وله مراتب متفاوتة، وإنّ أعلى درجاتها ومراتبها هي المولوية الذاتية والتكوينية التي لا تحتاج إلى اعتبار من جاعل، وإنّ هذا النوع من المولوية بسبب الخالقية والمالكية الحقيقية للّه سبحانه وتعالى على جميع العالم، إنّما تختصّ بذاته المقدّسة دون غيره.
وفي القسم الثاني تمّ تناول المناقشات الاستدلالية من قبيل: إشكالات السيدّ الشهيد(رحمهالله)، وكذلك المحقّق الروحاني(رحمهالله) على نظرية البراءة العقلية، ودفاع الاُستاذ عن هذه النظرية. وفي هذا الإطار كان سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) يذهب إلى الاعتقاد بأنّ هذه القاعدة إذا كانت أمراً عقلياً وبديهياً، لما وجب أن يقتصر بحثها على المراحل الزمنية المتأخّرة على نطاق واسع، ولما وقع الاختلاف في حدودها ومساحاتها، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ كون المسألة عقلية لا يساوق بداهتها، كما أنّه لم تكن فطريّة هذه القاعدة أو بداهتها مطروحة بين الاُصوليين. ولو سلّمنا أن مرادهم من هذا الكلام هي البداهة العقلية، لزم القول إنّ البديهيات العقلية قد تقع مورداً للتشكيك والإنكار في بعض الأحيان. ثمّ إنّه لا يوجد تلازم بين البداهة العقلية في بعض المسائل العلمية، وعدم تناولها في الأزمنة السابقة.
وفي المبحث الثاني من الفصل الثاني تمّ تداول تفاسير مختلفة في بيان هذه القاعدة. وقد ذكر الشيخ الأنصاري(رحمهالله) البيان الأسهل في تقريب قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فهو يرى أنّ حكم العقل يقتضي أنّ التكليف إذا كان موجوداً في الواقع، ولكنّه لم يصل إلى المكلّف، ونتيجة لذلك قام المكلّف بمخالفته في مقام العمل، لا يمكن للشارع أن يعاقبه على مخالفته. إنّ تحليل هذا المدّعى يتّضح بدوره من خلال الرجوع إلى اُسلوب ومنهج الموالي العرفيين بالنسبة إلى عبيدهم. وبطبيعة الحال، فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) قد أشكل على هذا الدليل قائلاً: إنّ الخطأ الرئيس الذي ارتكبه هؤلاء العلماء الكبار يكمن في أنّهم قاسوا «مولوية اللّه تبارك وتعالى» على «مولوية الموالي العرفيين»، واعتبروا مولوية اللّه لذلك مولوية محدودة وضيّقة، في حين أنّه لا يمكن المقارنة بين «مولوية الموالي العرفيين» وبين «مولوية اللّه تبارك وتعالى».
وكان المحقّق النائيني(رحمهالله) في تقريره الثاني لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، يؤكّد على عدم محرّكية التكليف، إلاّ في ظرف الوصول إلى المكلّف، معتقداً أنّه حيث لا يكون هناك ما يبعث إلى التحرّك، يكون العقاب على تركه قبيحاً؛ إذ أنّ التكاليف ـ مثل سائر الحقائق ـ إنّما يكون العلم بها هو السبب في حدوث الانفعال في النفس، وليس مجرّد وجودها الخارجي. ومن هنا، فإنّه يرى أنّ المراد من البيان هو البيان الواصل؛ إذ لو لم يكن التكليف مبيّناً، أو كان مبيّناً ولكنّه لم يكن واصلاً، لن تكون له قابلية التحريك، وحيث لا تكون هناك محرّكية، لا يكون هناك معنى للعقاب، ويكون العقاب قبيحاً من الناحية العقلية؛ إذ أنّ تفويت المحتمل والمطلوب لا يستند إلى المكلّف. وهذا الأمر يتّضح من خلال الرجوع إلى الموالي العرفيين أيضاً؛ ومع ذلك فإنّ السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، يقول في نقد هذا الرأي: إنّ روح وجوهر بحث المحرّكية يعود إلى مسألة حقّ الطاعة، وعليه يعود السؤال القائل: هل المحرّكية الناشئة من حقّ إطاعة المولى تقتصر على خصوص التكاليف الواصلة، أم تشمل حتّى التكاليف المشكوكة والمحتملة أيضاً؟ وبعبارة اُخرى: إنّ المحرّكية ليست صفة حصرية لعلم، وإنّما حتّى الاحتمال يمكن أن تكون له قابلية التحريك على أساس الأغراض الإنسانية أيضاً، غاية ما هنالك أنّ مراتب الانكشاف تؤثّر في المحرّكية شدّة وضعفاً، لا أنّها تؤثّر في أصل ثبوت التحريك.
كما أكّد المحقّق الإصفهاني(رحمهالله) في معرض بيان هذه القاعدة ـ من خلال تأكيده على أنّه لا يمكن لكلّ خطاب أن يكون سبباً في الانبعاث ـ على شرطية الوصول في حقيقة الحكم، وعليه فإنّه يقول: ما لم يصل التكليف إلى المكلّف، لا تثبت له الفعلية، بمعنى أنّ الوصول معتبر في فعلية التكليف. وبالتالي فإنّه لا يكون هناك معنى للمخالفة مع عدم الوصول، ولذلك لا تكون المؤاخذة والعقوبة على الترك صحيحة؛ في حين يذهب المشهور إلى الاعتقاد بأنّ قوام الحكم ليس في وصوله إلى المكلّف، وإنّ الحكم تثبت له الفعلية سواء وصل إلى المكلّف أو لم يصل. ومن هنا فقد أشكل سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على بيان المحقّق الإصفهاني(رحمهالله)في بيان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، قائلاً: إنّ هذا الوجه القائل بأنّ إنشاء الحكم إنّما تثبت له الباعثية والمحرّكية في حالة الوصول القطعي فقط، يتوقّف على ادّعاء ضيق دائرة حقّ الطاعة، في حين أنّه على مبنى سعة دائرة حقّ الطاعة يمكن اعتبار إنشاء الحكم محرّكاً في حالة الشكّ والوصول المحتمل أيضاً. ومن هنا فقد اتّضح أنّ انتقادات السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) على التفاسير المختلفة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، عبارة عن مبنى اتّضحت مناقشته ونقده في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
فقد عمدنا في هذا الفصل إلى تحليل وتقييم نظرية حقّ الطاعة بشكل دقيق، وذلك ضمن ثلاثة أبحاث، وفي البحث الأوّل تمّت دراسة هذه النظرية بدقّة، واتّضح أنّ دائرة المولى ـ من وجهة نظر سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)، واستناداً إلى مقتضى إدراك العقل العملي ـ واسعة جدّاً، ومن هنا فإنّ حقّ الطاعة في مرحلة الإثبات تحظى بالحدّ الأوسع الذي يمكن تصوّره، حيث يشمل القطع والظنّ والشكّ والوهم أيضاً. ومن هنا، فإنّه إذا لم يرد لنا ترخيص من قبله، وكذلك إذا لم يثبت لنا أنّ الشارع يرضى بترك التكليف الواقعي في ظرف الشكّ، إذن سوف يكون هناك لزوم لامتثال التكليف وحقّ الطاعة حتّى مع عدم العلم بالتكليف أيضاً.
وبناءً على هذا الرأي، لن يبقى هناك أساس وموضع بعد ذلك لقاعدة قبح العقاب؛ لأنّ البراءة العقلية تكون سبباً للتبعيض في دائرة حقّ الطاعة بالنسبة إلى المولى الحقيقي، وتحصر مولويته بالتكاليف المقطوعة فقط، ولا تكون منسجمة مع العقل والوجدان العملي؛ بمعنى أنّ العقل العملي يكون حاكماً بثبوت المولوية وحقّ الطاعة في التكاليف المحتملة بعد الفحص. وذلك طبعاً بشرط احتمال أن يكون اهتمام المولى بالنسبة إلى امتثال هذا التكليف قد بلغ حدّاً بحيث لا يرضى بتركه حتّى في حالة الشكّ. وعلى هذا الأساس، فإنّ عقابه في موارد عدم العلم سوف يكون بحقّ أيضاً ولن يكون هذا العقاب قبيحاً. نعم يعدّ هذا الأمر قبيحاً من الناحية العقلائية بالنسبة إلى الموالي العرفيين وأوامرهم الاعتبارية؛ بمعنى أنّهم يقصرون مجعولاتهم على مجرّد التكاليف المعلومة، وعلى هذا الأساس يكون العقاب بلا بيان قبيحاً في تلك الموارد.
وعلى هذا الأساس، فإنّ شأن الأدلّة الملزمة هو شأن إثبات اهتمام المولى بالنسبة إلى هذا الأمر، ليدخل التكليف المحتمل في موضوع حقّ الطاعة، ومن ناحية اُخرى فإنّ شأن الأدلّة الترخيصية بدوره هو إثبات عدم مثل هذا الاهتمام بالنسبة إلى المولى، كي يخرج التكليف من دائرة حقّ المولوية.
والنتيجة هي أنّه على مبنى نظرية حقّ الطاعة، يكون البحث عن الحجّية في الحقيقة، هو ذات البحث عن حدود المولوية؛ بمعنى أنّ هذه المسألة من بين الحقوق التي يأخذها العقل بنظر الاعتبار تحت عناوين ملاكات، من قبيل: شكر المنعم ومقولة الخالقية، ويدرك أنّ بعض مراتب المنعمية بسبب سعة دائرتها وعدم تناهي درجتها بحيث تجعل حتّى التكاليف المظنونة والمشكوكة والمحتملة واجبة الإطاعة أيضاً. وبطبيعة الحال، فإنّ الاشتغال العقلي في موارد الشكّ في التكليف مقيّد بعدم ورود الترخيص الشرعي، وفي مثل هذه الحالة سوف تكون أدلّة البراءة الشرعية واردة على الأصل العقلي الحاكم بالاشتغال.
وقد ذهب البعض في نقد رأي سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى القول بأنّه كما يجب أن يحصل المكلّف على القطع بالتكليف بالنسبة إلى الموالي العرفيين، ولا يكون التكليف منجّزاً من دون حصول القطع، كذلك الأمر بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى أيضاً؛ إذ ليس لدينا مصدران لـ «حقّ الطاعة»، لنقول إنّ الحاكم بـ «حقّ الطاعة» في الموالي العرفيين شيء، وفي مورد اللّه شيء آخر؛ بمعنى أنّ المصدر الوحيد في إثبات حقّ الطاعة لجميع الموالي هو العقل العملي، حيث يثبت في بعض الموارد حقّاً لفرد أو لذات بعنوان «حقّ الطاعة»، وليس هناك من مصدر ومنشأ غير هذا المصدر، ومن هنا فإنّ الذي يكون منظوراً في مقام المقارنة بين مولوية اللّه ومولوية الموالي العرفيين من وجهة نظر المشهور هو وحدة العلّة ووحدة المصدر، ومن هنا لا يمكن اعتبار حقّ الطاعة في مورد اللّه سبحانه وتعالى واسعاً؛ بل إنّ الذي له دخل في مسألة «حقّ الطاعة» هو متعلّق التكليف، ولذلك يجب في باب التزاحم بحث ما هو الأهمّ من بين تلك الموارد، دون أن يكون لنا شأن بمنشأ صدور التكليف.
وقال بعض آخر في نقد هذا الإشكال: إنّ خطأ المستشكل المحترم، يكمن في أنّه يرى إطاعة الأولياء المعصومين(عليهمالسلام) عين إطاعة اللّه سبحانه وتعالى، وكنتيجة لذلك يرى أنّ ذات «حقّ الطاعة» الثابت للّه يثبت في هذه الموارد أيضاً؛ في حين أنّ الأمر ليس كذلك، وأنّنا في هذه الموارد لدينا وجوبان؛ أحدهما عقلي والآخر شرعي؛ إذ أنّ إطاعة هؤلاء من جهة له وجوب شرعي، ولأنّهم من جهة اُخرى «ممّن أمر اللّه بطاعته»، فعليه لا يكون وجوب إطاعتهم وجوباً عقلياً، ومن مدركات العقل العملي؛ بل إنّ وجوب الطاعة في هذه الموارد أمر جعلي، حيث يكون تعيينه من قبيل: وجوب الصلاة والصوم؛ بمعنى أنّ وجوب هذه الأحكام يوجد موضوع الطاعة العقلية، وأمّا هو فلا يمتلك عنوان إطاعة اللّه بالعنوان الأوّلي، في حين أنّ حقّ الطاعة للّه سبحانه وتعالى من الموضوعات التي يدركها العقل بالاستقلال، وبذلك تكون بحسب المصطلح من مدركات العقل العملي؛ إذن لا ينبغي عدّ هذين السنخين من الطاعة أمراً واحداً؛ إذ العقل في بعض الموارد لا يمتلك ـ بحسب الاُصول ـ قابلية إدراك ملاك الشرعيات والتعبّديات.
وعلى كلّ حال، علينا في مقام نقد ومناقشة هذا الرأي والإشكال الوارد عليه، أن نرى على أيّ محور يقوم النزاع الرئيسي. وفي بعض الكلمات تمّ تناول بحث القياس، حيث ذهب التصوّر إلى أنّ هذا القياس هو أساس الكلام، في حين يبدو أنّ هذا البحث إنّما يدور حول المولوية الذاتية للّه تبارك وتعالى بملاك المنعمية والخالقية، وإدراك دائرتها ومساحتها بواسطة العقل؛ ومن هنا فإنّ أنصار «حقّ الطاعة» يعتقدون كما أن «أصل لزوم إطاعة اللّه» حكم بديهي أوّلي عقلي ولا يحتاج إلى برهان، فإنّ دائرة «حقّ الطاعة» بدورها عنوان بديهي أوّلي أيضاً، ومن هنا فإنّ على العبد أن يطيع المولى في جميع الموارد الأعمّ من المقطوع بها أو المحتملة؛ ومع ذلك يبدو أنّه لا يوجد مانع من أن يدرك العقل لزوم طاعة اللّه بعنوان الحكم الأوّلي البديهي، وفي الوقت نفسه لا يكون له في دائرة الإطاعة ـ من قبيل بحث القطع الموضوعي ـ حكماً بديهياً؛ بل إذا أردنا أن نعتبر دائرة «حقّ الطاعة» أمراً بديهياً وعقلياً، فإنّ أوّل لازم فاسد يترتّب على ذلك هو أنّ الشارع لا يستطيع التصرّف حتّى في أحكامه ـ كما لا يستطيع التصرّف في أصل الحكم البديهي العقلي، مثل استحالة اجتماع النقيضين ـ أيضاً، في حين أنّ الشارع يمكنه التصرّف في هذه الدائرة بالضرورة.
ومن ناحية اُخرى: فإنّ أنصار مسلك «حقّ الطاعة» يقولون بأنّ أدلّة وجوب الاحتياط لو تمّت فإنّها تزيل موضوع حكم العقل في قبح العقاب بلا بيان؛ وذلكلأنّ موضوعها هو عدم البيان، وأدلّة الاحتياط تعدّ من «البيان». وبطبيعة الحال فإنّهم يرون أنّ لزوم الاحتياط لا يتنافى مع ترخيص الشارع في البراءة الشرعية؛ بمعنى أنّ أدلّة البراءة الشرعية تزيل موضوع «حقّ الطاعة». وعليه، فإنّه بالالتفات إلى هذه النقطة نلاحظ أنّ أصل لزوم الاحتياط حكم بديهي للعقل، بيد أنّ تعيين دائرته ليس حكماً بديهياً للعقل، وإلاّ لما أمكن للشارع أن يأذن في مخالفته، أو يجعل حكماً ترخيصياً في تركه، بمعنى أنّ ملاك وجوب إطاعة الشارع إذا كان من أحكام العقل العملي البديهي، من قبيل عدم إمكان تصرّف الشارع في استحالة اجتماع النقيضين، لما أمكن تقييد وجوب الامتثال في هذه الدائرة من ناحية الشارع.
ومن ناحية اُخرى، نعلم أنّ حكم العقل لا يقبل التخصيص، ولذلك ما دام مناط حكم العقل موجوداً، وكان في ذلك الفعل اقتضاء تامّ للإطاعة، سوف يكون حكم العقل بدوره ثابتاً أيضاً. وعليه فإذا كان سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)يعتقد بأنّ المولوية الذاتية للّه هي الملاك في حقّ الطاعة، وجب أن يكون لزوم الإطاعة أبدياً؛ وذلك لأنّ الترخيص ليس من شؤون المولوية، بل إنّه يخدش فيها.
والأمر الآخر هو أنّ محور النزاع وإن كان يدور حول المولوية الذاتية للّه تبارك وتعالى، بيد أنّ العقل لا يستطيع تعيين مصاديق الطاعة، وبالتالي يمكن للعقل في بعض الموارد أن يشخّص شرائط لزوم الامتثال، من قبيل القدرة. ومن ناحية اُخرى، فإنّ التلازم بين جعل المولوية وجعلية دائرتها باطل أيضاً؛ بمعنى أنّه يمكن في بعض الموارد أن تكون أصل المولوية جعلاً، ولكن العقل هو من يقوم بتحديد دائرتها. وعليه يمكن لدائرة «حقّ الطاعة» أن تكون من اختيارات الشرع، وأن تكون من اختيارات العقل أيضاً.
يبدو في باب لزوم الامتثال أن لا موضوعية لعناوين من قبيل المنعمية والخالقية والمالكية للّه، بل يمكن القول بدقّة أكبر: لا دخل حتّى لعنوان مولوية اللّه في باب امتثال التكليف أيضاً؛ بل هناك في هذا الباب وصف هامّ آخر هو في حدّ ذاته يمثّل عنواناً مستقلاًّ، وهو عنوان «إنّه شارع ومشرّع ومقنّن»؛ بمعنى أنّ العبد في باب الامتثال يجب أن يمتثل التكاليف الإلهية بملاك أنّ اللّه سبحانه وتعالى شارع ومكلِّف (بصيغة اسم الفاعل). ومن هنا فإنّ موضوع «حقّ الطاعة» هو التكليف الواصل إلى المكلّف، وليس موارد الاحتمال التي يكون الوصول فيها مشكوكاً. ولذلك لو لم يكن للمالك الحقيقي والمنعم الواقعي منذ البداية تشريعاً وتكليفاً منذ البداية، فإنّ العقل لن يحكم أبداً بلزوم الامتثال بملاك المنعمية والخالقية؛ إذ ليس هناك في البين موضوع للامتثال حتّى يحكم بلزومه.
والإشكال الآخر: أنّه في مسلك حقّ الطاعة، كما يوجد احتمال تكليف من قبيل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، يوجد احتمال الإباحة الاقتضائية أيضاً؛ بمعنى أنّه يحتمل أن يكون الشارع قد أباحه لوجود مصلحة؛ إذ كما أنّ للشارع أحكاماً إلزامية، كذلك له أحكام مباحة أيضاً، ولو أنّ المكلّف عمل على خلاف حكم الإباحة، فإنّه سوف يكون ـ على مسلك حقّ الطاعة ـ قد عمل على خلاف المولوية الذاتية للمولى؛ لا سيّما إذا لم يكن اهتمام المولى أو غرض المولى في باب الامتثال متعلّقاً للبعث، ولذلك لن يكون لتحصيله وجوب بالذات أو وجوب بالعرَض. وعلى هذا الأساس، فإنّ دائرة الطاعة ـ طبقاً لهذه النظرية ـ سوف تنحصر بأن يتعلّق الأمر أو النهي بشيء على نحو فعلي، وليس من اللازم أن يتمّ الامتثال خارج هذه الدائرة.
وفي الفصل الرابع تمّ تقييم بعض الثمار والنتائج الاُصولية المتفرّعة على نظرية حقّ الطاعة. وفي المبحث الأوّل من هذا الفصل تمّ بيان آثار ولوازم حقّ الطاعة في المسائل المرتبطة بالقطع ضمن ثلاثة مقالات مستقلّة. وفي المقالة الاُولى تمّ إيضاح تأثير حقّ الطاعة في الحجّية الذاتية للقطع، وقلنا إنّ سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)يرى أنّ القطع إذا كان حجّة، فإنّه إنّما يكون حجّة في فرض مولوية المولى وبأمر منه، ولذلك إذا لم يكن للآمر مولوية، فإنّ القطع بأوامره لن يوجب التنجّز أيضاً. ومن هنا، فإنّ الحجّية من شؤون مولوية الآمر، وبعبارة فنّية: إنّ المهمّ في المولوية وحقّ الطاعة ـ من وجهة نظر العقل ـ هو الانكشاف، والذي تحصل أعلى درجاته في مورد القطع أيضاً، ولذلك فإنّ حقّ المولوية هو عين مسألة الحجّية. وبعبارة اُخرى: إنّ حجّية القطع بمعنى المنجّزية والمعذّرية إنّما تثبت في ضوء قضية مؤلّفة من صغرى وكبرى، والكبرى هي مسألة حقّ الطاعة التي تنشأ من المولوية الذاتية للمولى، والصغرى بدورها عبارة عن القطع بـ «التكليف» الصادر عن المولى، ولولا هذان الأمران لا يكون للقطع حجّية في حدّ ذاته.
ومع ذلك، إذا كان المراد أنّ الحجّية ـ على مبنى نظرية حقّ الطاعة ـ لا تنفصل عن القطع بسبب المولوية الذاتية للمولى، وجب أن نتساءل: لماذا لا يمكن للّه ـ الذي له مولوية ذاتية ـ أن يبيّن بأنّه إذا حصل القطع بالتكليف من هذا الطريق، فإنّه لن يكون معتبراً من ناحيته؟ وأمّا إذا كان المراد أنّه إذا تمّ طرح مسألة المولوية الذاتية؛ فإنّ الحجّية سوف تكون ثابتة للقطع بشكل تلقائي، ولا تعود هناك حاجة إلى الجعل، فهو أمر صحيح وموافق لمقتضى التحقيق؛ وذلك لأنّ القطع هو عين الطريقية، وإنّ حقيقته هي الكاشفية. وعلى هذا الأساس، ليس لدينا شيء آخر بعنوان المنجّزية وأمثالها غير الطريقية التامّة والآثار التي تترتّب على الطريقية التامّة؛ بمعنى أنّه بالرجوع إلى الوجدان يتّضح أنّ القطع مجرّد طريق يوصل الفرد إلى الواقع، ولكن عندما يصل هذا الفرد إلى الواقع، لا يكون هناك وجوب للاتّباع لذاته، وإنّ وجوب التبعية من باب أنّ الواقع صار في يد المكلّف، ومن هنا يحكم العقل بوجوب الطاعة، ولذلك لا يوجد حكم آخر غير حكم العقل باسم وجوب التبعية للقطع بلزوم إطاعة المولى، وإذا قيل بأنّ هذا العمل هو اتّباع للقطع كان هذا التعبير من باب التسامح.
وفي المقالة الثانية من المبحث الأوّل تمّ طرح هذه المسألة القائلة: هل هناك بالنسبة إلى المتجرّي قبح فعلي ـ بالإضافة إلى القبح الفاعلي ـ حتّى يكون بذلك مستحقّاً للعقاب والعذاب أيضاً أم لا؟ وقد ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)ـ بناءً على نظرية حقّ الطاعة ـ إلى الاعتقاد بأنّ موضوع حكم العقل بقبح المعصية هو صرف إحراز التكليف بالمنجّز العقلي أو الشرعي، سواء أكان التكليف ثابتاً في الواقع، أم لم يكن ثابتاً. ومن هنا حيث يكون انكشاف التكليف هو تمام الموضوع بالنسبة إلى حقّ الطاعة، يكون حقّ المولوية ثابتاً في موارد التجرّي. وفي الحقيقة، فإنّ التجرّي يكون سبباً في الظلم بحقّ المولى، وموجباً لاستحقاق العقاب. في حين يبدو أنّ الشارع المقدّس حيث بيّن حدود إلزاماته في الشريعة تحت عنوان الواجبات والمحرّمات، وقد حصر تكاليف الإنسان بهذه الاُمور، فإنّ الذي يكون سبباً في هتك حرمة المولى هو خصوص ترك الواجبات وارتكاب المحرّمات، ولا يمكن القول بأنّ العقل يحكم بقبح وحرمة مطلق هتك حرمة المولى، حتّى في غير هذه الموارد أيضاً.
وفي المقالة الثالثة من المبحث الأوّل، تناولنا البحث عن تأثير حقّ الطاعة في إمكان الترخيص في القطع الإجمالي، واتّضح أنّ سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله)ـ بالالتفات إلى نظرية حقّ الطاعة ـ يذهب إلى الاعتقاد بأنّه على الرغم من أنّ العلم بالجامع في باب العلم الإجمالي منجّز كما هو الحال في العلم التفصيلي، وكذلك على الرغم من أنّ احتمال وجود التكليف في أطراف العلم الإجمالي منجّز أيضاً، ولكن في الوقت نفسه يمكن الترخيص ـ من الناحية الثبوتية ـ في جميع أطراف العلم الإجمالي والإذن في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال، وبالتالي سيكون هناك متّسع لإسقاط المنجّزية عن العلم الإجمالي؛ بمعنى أنّ احتمال وجود ملاك الإباحة الاقتضائية يفتح ـ من الناحية العقلية ـ مجالاً ومتّسعاً لورود الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي، ومن هنا يعتبر العلم الإجمالي مقتضياً لوجوب الاحتياط، شريطة أن لا يُسقط الشارع المقدّس حقّه في الطاعة من خلال الترخيص في مخالفة التكليف في هذه الموارد؛ وبطبيعة الحال فإنّ سماحته في مقام الإثبات يذهب إلى الاعتقاد بعدم وجود دليل في الشريعة يثبت الترخيص في مخالفة التكليف المعلوم بالإجمال.
وعلى هذا الأساس، فإنّ مثل هذا الإذن والترخيص هو ـ باعتراف السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) ـ مجرّد دقّة عقلية وليست له أيّ عُرفية، وإنّ هذه الدقّة العقلية إنّما هي على خلاف رؤية العقلاء، هذا أوّلاً. وثانياً: لو سلّمنا أنّ الترخيص في جميع أطراف العلم الإجمالي لا يكتسب عنوان الإذن في المعصية، ولكن المولى في الأساس ما أن يعتبر فعلاً ما منجّزاً ومعتبراً ليأتي به الناس، ثمّ يعمل على خلافه ويقوم بنقضه، فإن يبقى ـ مع ذلك ـ من وجهة نظر العقلاء أمراً قبيحاً. وثالثاً: لا فرق من الناحية العقلية بين القطع بالجامع في العلم الإجمالي وبين القطع التفصيلي في لزوم الاتّباع؛ بمعنى أنّ المخالفة القطعية تكون حراماً على كلتا الحالتين. وعلى هذا الأساس، فإنّه طبقاً لمشهور الفقهاء لا يكون هناك إمكان لجريان الاُصول العملية في جميع أطراف العلم الإجمالي، إذ سوف يترتّب على ذلك محذور ثبوتي؛ إذ أنّ إجراء الأحكام الظاهرية في جميع أطراف العلم الإجمالي، يستلزم الإذن في المعصية القطعية، وهو قبيح. ومن هنا، فإنّه بناءً على رؤية المشهور الذي يرى أنّ المشكلة الرئيسية تكمن في الإذن بالمعصية، قد يقال إنّ المخالفة الاحتمالية لبعض أطراف العلم الإجمالي قبيحة أيضاً؛ إذ جوهر هذه المسألة يعود إلى هذه النقطة وهي أنّ العقلاء يرون قبح الإذن بارتكاب مورد لا يعلم المكلّف ما إذا كان فيه معصية أم لا؛ في حين يبدو أنّ هذا الفرض مثل الشبهات البدوية؛ حيث يمكن للشارع أن يأذن في ارتكاب المخالفة، وهذه المسألة ليست قبيحة أصلاً، بل القبح إنّما يتصوّر فيما إذا كانت المعصية يقينية.
وفي المبحث الثاني تحدّثنا عن آثار حقّ الطاعة في المسائل المتعلّقة بالظنّ، وفي المقالة الاُولى اتّضح تأثير حقّ الطاعة في إمكان التعبّد بالظن. وقد ذهب السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) إلى الاعتقاد بأنّ حجّية غير العلم تتنافى مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ مهما أتينا من عمل في سياق اعتبار غير العلم، لن يصيّره ذلك علماً، وفي مثل هذه الحالة سيكون العقاب في موارد من قبيل الأمارات عقاباً بلا بيان، وإنّ الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص. في حين لن يترتّب مثل هذا التالي الفاسد على القول بمسلك حقّ الطاعة؛ إذ بناءً على هذا المسلك تكون حدود الطاعة واسعة وشاملة للتكاليف القطعية وغير القطعية؛ بمعنى لو قلنا بأنّ حجّية الظنّ ذاتية مثل حجّية القطع، عندها سوف يكون المراد من عبارة «بلا بيان» في قاعدة قبح العقاب العقلية، عدم الانكشاف العلمي أو الظنّي للتكليف. وبطبيعة الحال، فإنّ حكم العقل بلزوم الامتثال في الموارد غير القطعية هو حكم معلّق؛ بمعنى أنّ هذا الحكم يكون منذ البداية مشروطاً بعدم إحراز الترخيص الظاهري من قبل المولى، ولذلك فإنّ هذا الترخيص لا يكون معارضاً لحكم العقل، بل يُعدّ رافعاً لموضوعه. ومع ذلك يبدو أنّ المراد من «البيان» في قاعدة قبح العقاب ليس بمعنى «القطع» أساساً، بل يُعتبر بمعنى «الحجّة» و«البيان الواصل»، وفي مثل هذه الحالة لن يكون هناك أيّ محذور في البين.
وفي المقالة الثاني من البحث الختامي، تمّ بيان تأثير حقّ الطاعة في حجّية الظنّ. وعلى مبنى مسلك حقّ الطاعة يمكن القول ـ من الناحية الثبوتية ـ بحجّية الظنّ في تنجيز التكليف المظنون؛ لأنّ البحث عن المنجّزية هو عين البحث عن مولوية المولى، ولكن أوّلاً: بشرط أن يكون التكليف المظنون بالغاً درجة من الأهمّية بحيث لو كان منجّزاً على المكلّف في اللوح المحفوظ، فإنّ الشارع لا يرضى بتركه ومخالفته. وثانياً: إنّ منجّزية الظنّ سوف تكون معلّقة على عدم ورود الدليل الشرعي على مخالفته.
ومع ذلك، فإنّه علاوة على الإشكال المبنائي الوارد على أصل هذه النظرية، لا يمكن ـ بناءً على الرأي المشهور ـ اعتبار الظنّ بما هو ظنّ علّة تامّة على الحجّية؛ ليكون سلب الحجّية عنه أمراً غير ممكن. كما أنّه لا يوجد في الظنّ مقتض للحجّية، حتّى يقال إذا لم يكن هناك مانع، كان الظن حجّة من تلقائه، ولذلك لا حاجة لأن ينهى الشارع عن العمل بالظنّ بالنهي المولوي، كما هو الحال بالنسبة إلى العمل بالشكّ والوهم.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الظنّ من جهة لا يمتلك حجّية ذاتية مثل القطع، ومن ناحية اُخرى لا يمتلك الخصوصية الذاتية للقطع (من الطريقية والكاشفية التامّة)، بل الظنّ إمّا أنّه يفتقر إلى الكاشفية التامّة أصلاً، أو أنّ له كاشفية ناقصة، والنتيجة واحدة. ولذلك عندما يحصل الظنّ بحكم، لا يكون الواقع منكشفاً، وعندما لا يتمّ إحراز الواقع، لا يكون حكم العقل بلزوم الامتثال جارياً بطبيعة الحال، وبالتالي لا يكون الظنّ معتبراً، لا في مورد ثبوت التكليف، ولا في مورد سقوط التكليف.
وفي المقالة الأخيرة تناولنا بالبحث والنقاش عن تأثير حقّ الطاعة في باب الاستدلال بآية النفر بشأن حجّية خبر الواحد. وقد ذهب سماحة السيّد الشهيد الصدر(رحمهالله) في هذا الشأن إلى الاعتقاد بأنّ الاستدلال بآية النفر ليس لإثبات خبر الواحد بملاك الجعل الشرعي والحجّية الكاملة (المعذّرية والمنجّزية)؛ بل إنّ هذه الآية إنّما هي إرشاد إلى حكم العقل من طريق ملاك منجّزية احتمال التكليف؛ لأنّ أقصى ما يثبت في هذه الآية الكريمة لحجّية خبر المنذِر، هو نفي البراءة الشرعية عن التكليف المحتمل؛ بمعنى أنّه من الممكن ـ بناءً على مسلك حقّ الطاعة ـ أن يكون تنجيز الخبر في هذه الآية الكريمة، من باب حجّية الاحتمال، وبحكم العقل بلزوم إطاعة المنعم والخالق في جميع التكاليف؛ إذ بناءً على هذا الرأي يكون وجود أيّ دليل محتمل على ثبوت التكليف في الأساس، بمعنى تنجّزه من الناحية العقلية. ومن هنا، قد يكون خبر الفرد المنذر بالتكليف الإلزامي سبباً لإيجاد احتمال مولوي عند السامع، وهذا الاحتمال قد تنجّز من الناحية العقلية بمقتضى مسلك حقّ الطاعة؛ ومع ذلك، فإنّه بعد إبطال نظرية حقّ الطاعة، لن يكون هناك وجود لمثل هذا الاحتمال بالنسبة إلى منشأ حجّية خبر المنذر، وإنّ حجّيته سوف تكون بملاك حجّية خبر الواحد.
------------------------------
[1] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي 2: 423؛ لسان العرب 11: 458 ـ 459.
[2] القوانين المحكمة في الأصول 3: 14؛ دروس في علم الأصول 2: 147؛ بحوث في علم الأصول تقرير بحث أصول السيّد محمّد باقر الصدر 4: 119.
[3] نهاية الدراية في شرح الكفاية 21: 460 ـ 462.
[4] تاج العروس من جواهر القاموس 19: 51؛ مفردات ألفاظ القرآن: 443؛ مجمع البحرين 6: 350.
[5] المعجم الأصولي: 651 ـ 653.
[6] اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: 147.
[7] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي 2: 16.
[8] الأصول العامّة للفقه المقارن: 39.
[9] اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: 59.
[10] فرهنگنامه اُصول فقه (معجم اُصول الفقه): 206 و273.
[11] فرهنگنامه اُصول فقه معجم اُصول الفقه: 204.
[12] فرهنگنامه اُصول فقه معجم اُصول الفقه: 98 و204.
[13] مباحث الاُصول (تقرير بحث اُصول السيّد محمّد باقر الصدر) 3: 328.
[14] حياة ابن أبي عقيل وفقهه: 283؛ مجموعة فتاوى ابن جنيد: 176؛ الاعتقادات في دين الإمامية: 369؛ تصحيح اعتقادات الإمامية: 143؛ الذريعة إلى أصول الشريعة 2: 811؛ الإنتصار: 402.
[15] الخلاف 1: 98.
[16] التبيان في تفسير القرآن 8: 434.
[17] غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع 2: 416.
[18] السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 32.
[19] معارج الأصول: 212 ـ 213؛ المعتبر في شرح المختصر 1: 77 و232، و252 و359؛ المختصر النافع في فقه الإمامية: 34.
[20] الفوائد الحائرية: 239 ـ 241.
[21] الرسائل الأصولية: 350.
[22] القوانين المحكمة في الأصول 3: 41.
[23] مفاتيح الأصول: 518.
[24] فرائد الأصول 1: 190 ـ 191 و 335، وج 2: 56.
[25] درر الفوائد (تقرير أصول محمّد حسين النائيني) 3: 215، و365.
[26] درر الفوائد: 427. وأنظر للمزيد من الاطّلاع: قواعد فقه للمحقّق الداماد (قسم العقوبات) 3: 13 ـ 15؛ نظرية حقّ الطاعة: 105 ـ 143.
[27] تهذيب الأصول 3: 252.
[28] مصباح الأصول 1: 283 ـ 288.
[29] دراسات في الأصول 2: 526 ـ 527.
[30] مباحث الأصول 3: 327 ـ 329.
[31] العدّة في أصول الفقه 2: 741 ـ 742.
[32] بحوث في علم الأصول 11: 53 ـ 57؛ مباحث الأصول 3: 64 ـ 70.
[33] التعليقة على فرائد الأصول 2: 272.
[34] منتقى الأصول 4: 438.
[35] نهاية الدراية 2: 462 ـ 461.
[36] المحاضرات 2: 237.
[37] مقالة «مسلك حقّ الطاعة بين الرفض والقبول»، مجلة پژوهشهاى اصولى، شتاء عام 81 وربيع عام 82، العدد 2: 133 ـ 113.
[38] مقالة «نظرية حقّ الطاعة»، مجلة پژوهشهاى اُصولي، العدد: 1، ص 26 ـ 11.
[39] مقالة «حديث الساعة حول نظرية حقّ الطاعة»، مجلة پژوهشهاى اصولى: 42 ـ 27.
[40] الإسلامي، رضا، نظرية حقّ الطاعة، 1385ش.
[41] نقد ومناقشة كتاب نظرية حقّ الطاعة.
[42] بحوث في علم الأصول 4: 28 وج 8: 46 ـ 49.
[43] مباحث الأصول 3: 20.
[44] مباحث الأصول 3: 64 ـ 70.
[45] مباحث الاُصول 3: 70.
[46] مباحث الاُصول 3: 71.
[47] نهاية الأفكار 3: 199. كما ذهب المحقّق الحائري اليزدي في كتابه «درر الفوائد» إلى اعتبار هذه القاعدة في عصره من القواعد المسلّمة والثابتة بين العدلية، وسيأتي توجيه كلامه على غرار توجيه كلام المحقّق العراقي أيضاً. درر الفوائد: 427.
[48] بحوث في علم الاُصول 5: 25.
[49] فرائد الاُصول 1: 190.
[50] فرائد الاُصول 1: 335.
[51] أجود التقريرات 2: 186.
[52] فوائد الأصول 3: 365 ـ 366.
[53] بحوث في علم الاُصول 11: 61.
[54] بحوث في علم الاُصول 5: 27؛ مباحث الاُصول 3: 75 ـ 76.
[55] منتقى الأصول 4: 443.
[56] منتقى الاُصول 4: 444.
[57] نهاية الدراية في شرح الكفاية 4: 83 ـ 85.
[58] يقول سماحته في هذا الشأن: «ومن الواضح أن حكم العقل ـ بقبح العقاب بلا بيان ـ ليس حكما عقلياً عملياً منفرداً عن سائر الاحكام العقلية العملية، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، وهو ظلم من العبد على مولاه، فيستحقّ منه الذم والعقاب. كما أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم، إذ ليس من زي الرقية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجاً عن زي الرقية حتّى يكون ظلماً». أنظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية 4: 84.
[59] بحوث في علم الاُصول 11: 64.
[60] منتقى الأصول 4: 444.
[61] منتقى الاُصول 4: 445.
[62] سورة آل عمران 3: 182؛ سورة الأنفال 8: 51؛ سورة الحجّ 22: 10.
[63] منتقى الاُصول 4: 445.
[64] تهذيب الاُصول 3: 87.
[65] تهذيب الاُصول 3: 86 .
[66] دراسات في الاُصول 2: 527.
[67] سورة البقرة 2: 57؛ سورة الأعراف 7: 160.
[68] إنّ العقل لا يرى الإنسان مسؤولاً تجاه التكاليف الثبوتية التي لم تصدر عن المولى أصلاً.
[69] دروس في علم الأصول 1: 175.
[70] دروس في علم الاُصول 4: 321 ـ 322.
[71] مباحث الاُصول 3: 63.
[72] مباحث الاُصول 2: 20.
[73] مباحث الاُصول 2: 23.
[74] بحوث في علم الاُصول 4: 186.
[75] بحوث في علم الاُصول 9: 10 ـ 13.
[76] بحوث في علم الاُصول 11: 51 ـ 53.
[77] الاجتهاد والتقليد الفوائد الحائرية، مع مقدّمة الأستاذ محمّد مهدي الآصفي: 68 ـ 78.
[78] مقالة: «نظرية حقّ الطاعة»، مجلة: فصلنامه فقه أهل بيت(عليهمالسلام)، العدد: 17 ـ 18، ص 159 ـ 176، سنة 1378ش.
[79] منتقى الاُصول 4: 445.
[80] نهاية الدراية في شرح الكفاية 4: 299 ـ 304.
[81] سورة النساء 4: 165.
[82] مباحث الاُصول 3: 327 ـ 329.
[83] لا شكّ في أنّ مفردة القطع عُرفاً مرادفة للعلم واليقين؛ لأنّ العلم يعني الاعتقاد الثابت المطابق للواقع، ولذلك فهو أخصّ من القطع؛ إذ أنّ القطع يشمل المطابقة مع الواقع والجهل المركب أيضاً، وأمّا اليقين فهو العلم بالشيء استدلالاً بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه، ولهذا لا يجوز أن يوصف اللّه ـ تبارك وتعالى ـ باليقين؛ ومن هنا فإنّ كلّ يقين قطع، وليس كلّ قطع يقين؛ إذ القطع يشمل الاعتقاد التقليدي أيضاً. أنظر: معجم الفروق اللغوية: 374
[84] اصطلاحات الاُصول ومعظم أبحاثها: 219.
[85] فرهنگنامه اُصول فقه معجم اُصول الفقه: 639.
[86] دروس في علم الأصول 1: 172 ـ 175.
[87] مباحث الاُصول 1: 222.
[88] بحوث في علم الاُصول 8: 49.
[89] مباحث الاُصول 1: 200.
[90] نهاية الدراية في شرح الكفاية 3: 22.
[91] مباحث الاُصول 1: 221.
[92] نهاية الدراية في شرح الكفاية 3: 18.
[93] تاج العروس من جواهر القاموس 1: 124.
[94] اصطلاحات الأصول ومعظم أبحاثها: 94.
[95] بحوث في علم الاُصول 4: 36 ـ 38.
[96] دروس في علم الأصول 2: 43.
[97] دروس في علم الأصول 2: 39 ـ 41.
[98] سورة الإسراء 17: 15.
[99] دروس في علم الأصول 2: 402.
[100] تهذيب الاُصول 3: 193.
[101] دروس في علم الأصول 2: 36.
[102] بحوث في علم الاُصول 4: 188.
[103] دروس في علم الاُصول 2: 22.
[104] بحوث في علم الاُصول 9: 13.
[105] دروس في علم الأصول 2: 35 ـ 36.
[106] مصباح الاُصول 1: 88 ـ 89.
[107] سورة النجم 53: 28. وأنظر أيضاً: سورة يونس 10: 36.
[108] معالم الدين وملاذ المجتهدين: 187.
[109] سورة التوبة 9: 122.
[110] دروس في علم الأصول 1: 285 ـ 286.