دراسة في صيانة القرآن الكريم من التحريف

۲۴ تیر ۱۳۹۸

۱۲:۴۱

۹۰

چکیده :
فيما يلي سوف نبحث مسألة صيانة القرآن الكريم من التحريف في ضوء هذين الكتابين القيّمين، ومسائل أخرى سيرد ذكرها في طيّات المباحث إن شاء اللّه‏ تعالى
نشست های علمی

دراسة في صيانة القرآن الكريم من التحريف
محمد جواد الفاضل اللنکراني

توطئـة البحـث
التحريف لغة

التحريف من مادة «حَرَفَ» بمعنى: جانب الشيء وشفيره وحدّه. جاء في الصحاح:

حَرْفُ كلِّ شيءٍ: طَرَفُهُ وشَفِيرُهُ وحَدُّهُ. ومنه حَرْفُ الجَبل، وهو أعلاه المُحَدَّدُ. وقولُه تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه‏َ عَلى حَرْف»[1]، قالوا: على وَجه واحد، وهو أنْ يَعبدَه على السَرَّاءِ دونَ الضَرّاءِ[2].

وقال الراغب الإصفهاني:

حَرْفُ الشيء: طرفه، وجمعه: أَحْرُفٌ وحُرُوفٌ، يقال: حرف السيف، وحرف السفينة، وحرف الجبل[3].

التحريف اصطلاحاً

جاء في كتب اللغة في بيان المعنى الاصطلاحي لتحريف القرآن الكريم:

والتَّحْرِيف في القرآن تغيير الكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه، كما كانت اليهود تغيّر معاني التوراة بالأشباه، فوصفهم اللّه‏ بفعلهم فقال: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِه»[4].[5]

وسوف يأتي في الأبحاث القادمة أنّ هذا المعنى المذكور للتحريف، هو التحريف المعنوي دون اللفظي. وقال الراغب الإصفهاني في هذا الشأن:

وتَحْرِيفُ الشيء: إمالته، كتحريف القلم، وتَحْرِيفُ الكلام: أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين، قال عزّ وجلّ: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ»[6]، و«يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ»[7]، «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّه‏ِ ثُمَ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ»[8].[9]

وفي رواية عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ورد استعمال التحريف بمعنى الإمالة؛ حيث قال لبعض كتّابه:

أَلِقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَانْصِبِ الْبَاءَ[10].

ومن الضروري التذكير بهذه النقطة ـ بطبيعة الحال ـ وهي أنّ تحريف القلم، قد يراد منه بري القلم بشكل مائل كما هو معهود بين الخطاطين، وقد يكون بمعنى حرف الكتابة عن الوقائع والعمل على تغييرها.

ومن هنا فإنّ التحريف قد ورد استعماله بمعنى إمالة الشيء أيضاً، وإن كانت هذه الإمالة يمكن أن تكون معنوية أو لفظية.

وبعد اتّضاح معنى التحريف، من الضروري أن نعمل ـ قبل بحث أدلّة عدم تحريف القرآن الكريم ـ على بيان أقوال الفريقين في مورد تحريف القرآن؛ إذ أنّ أهمية هذه الأقوال في هذا البحث ـ للأسف الشديد ـ أكبر من بحث الأدلّة نفسها.

أقوال الفريقين في تحريف القرآن الكريم

قبل الدخول في صلب البحث، لا بدّ من التذكير بأنّ السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) قد تناول في كتابه القيّم «البيان في تفسير القرآن» بعض المسائل حول عدم تحريف القرآن الكريم فيما يزيد على الخمسين صفحة. كما أنّ سماحة المحقّق الوالد آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) كان بدوره قد عقد العزم على تأليف دورة في التفسير على غرار منهج السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، وقد تمّ طبع مقدمات هذا المشروع تحت عنوان «مدخل التفسير». وفيما يلي سوف نبحث مسألة صيانة القرآن الكريم من التحريف في ضوء هذين الكتابين القيّمين، ومسائل أخرى سيرد ذكرها في طيّات المباحث إن شاء اللّه‏ تعالى.

أقسام التحريف من وجهة نظر السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

يذهب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بأنّ مفردة «التحريف» مشترك لفظي.

وقد أدّى عدم الالتفات إلى هذه النقطة بأهل السنّة إلى عدم فهم رأي الإماميّة بشكل صحيح، ونتيجة لذلك إتّهموا الشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم. قال سماحة السيّد الخوئي(قدس‏‌‌سره) في هذا الشأن:

معنى التحريف: يطلق لفظ التحريف ويراد منه عدّة معان على سبيل الاشتراك، فبعض منها واقع في القرآن باتّفاق من المسلمين، وبعض منها لم يقع فيه باتّفاق منهم أيضاً، وبعض منها وقع الخلاف بينهم[11].

إنّ التحريف في القرآن الكريم من وجهة نظر السيّد الخوئي(قدس‏‌‌سره) على ستّة أنواع، ويتمّ تبويبها على الأنحاء الثلاثة الآتية:

أ ـ وقوع بعض التحريفات في القرآن، باتّفاق المسلمين.

ب ـ عدم وقوع بعض التحريفات في القرآن الكريم، باتّفاق المسلمين.

ج ـ وقوع بعض التحريفات التي اختلف المسلمون بشأنها.

القسم الأوّل: التحريف المعنوي

لقد عمد سماحة السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إلى بيان النوع الأوّل من التحريف، على النحو الآتي:

الأوّل: «نقل الشيء عن موضعه وتحويله إلى غيره» ومنه قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ». ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب اللّه‏، فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه فقد حرّفه. وترى كثيراً من أهل البدع، والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم. وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات. منها: رواية الكافي بإسناده عن الباقر(عليه‏‌‌السلام) أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...»[12].[13]

لقد فسّر السيّد الخوئي(قدس‏‌‌سره) كلمة «يحرّفون» في هذه الآية الكريمة، بالتحريف المعنوي، وقال بأنّ وقوع التحريف المعنوي في القرآن الكريم متّفق عليه بين جميع المسلمين؛ إذ هناك الكثير من الموارد التي حدثت على امتداد التاريخ، حيث كان بعض الأشخاص يعملون على تأويل القرآن وتفسيره على طبق أهوائهم من أجل تحقيق رغباتهم النفسية، ومن بين المصاديق البارزة على هؤلاء هم الخوارج.

نقد القسم الأوّل من التحريف (التحريف المعنوي)

هناك من المحقّقين من يقول إنّه حيثما يرد الكلام في القرآن عن التحريف، يكون المراد من ذلك هو التحريف المعنوي. ومن هنا فإنّ التحريف في قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ»[14]، قد تمّ حمله ـ بقرينة كلمة «مواضع» ـ على التحريف المعنوية، وفسّروا كلمة «مواضع» بـ «المعاني»[15].

بيد أنّه لا يمكن القبول بهذا الادّعاء؛ وذلك لأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد ذكر بعد ذلك في ذات هذه الآية أمراً يدلّ على التحريف اللفظي؛ إذ يقول تعالى: «مِنَ الَّذينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع وَرَاعِنَا لَيَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه‏ُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً»[16].

من الواضح أنّ الكلام هنا يدور حول التحريف اللفظي دون المعنوي؛ وذلك لأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول: إنّ اليهود كانوا يستعملون الكلام والألفاظ في مواضع اُخرى، كأن يقولوا: «سمعنا وعصينا» بدلاً من «سمعنا وأطعنا»، أو كانوا يقولون: «وراعنا» بدلاً من «وانظرنا». كلّ ذلك يدلّ على أنّ التحريف المراد في هذه الآية هو التحريف اللفظي وليس المعنوي. نعم، قد يمكن القول ـ وهو احتمال موجود ـ بأنّ هذا الموضع من الآية، أي: من قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ»إلى آخر الآية، تذكر واحداً من مصاديق التحريف ـ وهو التحريف اللفظي ـ ولكن هذا لا يُشكل قرينة على أنّ المراد من كلمة «يُحَرِّفُونَ»في صدر الآية هو خصوص التحريف اللفظي فقط، فقد يراد منه التحريف المعنوي أيضاً.

القسم الثاني: النقصان أو الزيادة في حروف أو حركات القرآن

لقد ذكر السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) القسم الثاني من التحريف في القرآن الكريم على النحو الآتي:

الثاني: «النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه، وإن لم يكن متميّزاً في الخارج عن غيره». والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً، فقد أثبتنا لك فيما تقدّم عدم تواتر القراءات، ومعنى هذا أنّ القرآن المنزل إنّما هو مطابق لإحدى القراءات، وأمّا غيرها فهو إمّا زيادة في القرآن، وإمّا نقيصة فيه[17].

طبقاً لهذا البيان يكون التحريف بنقصان أو زيادة في الحروف أو في حركات القرآن، قد وقع؛ من قبيل: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» أو «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ». وكذلك القراءات المختلفة لآية واحدة، كما في قوله تعالى: «لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض»[18]. حيث قرئت «تجارةً» ـ بالنصب ـ وقرئت «تجارةٌ» ـ بالرفع ـ وقُبلت كلتا القراءتين بوصفها من أصل القرآن، من دون أن يتّضح نزول القرآن بأيّ واحد منهما. وعلى الرغم من أنّ أصل القرآن هنا محفوظ، ولكنه غير قابل للتمييز.

يرى السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) وقوع التحريف في القرآن بهذا المعنى، وإنّ ظاهرة القراءات السبعة أو العشرة يمثّل شاهداً على وقوع هذا القسم من التحريف في القرآن الكريم.

وقد ذهب الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)[19] إلى الاعتقاد بأنّ هذه القراءات إذا كانت صادرة عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالتواتر، كانت بأجمعها قرآناً، وأمّا بناءً على رأي الذين أنكروا تواتر جميع القراءات، من أمثال: السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، والوالد المعظم(رحمه‏‌‌الله)، ومشهور الإماميّة[20]، فلا يعدو القرآن الحقيقي سوى قراءة واحدة من بين هذه القراءات السبعة أو العشرة. وعليه يجب القول: إنّ لازم قول المنكرين لتواتر القراءات، هو القول بوقوع التحريف في القرآن الكريم.

القسم الثالث: نقصان أو زيادة كلمة أو عدد من الكلمات مع الحفاظ على القرآن

القسم الثالث الذي يذكره السيّد الخوئي(قدس‏‌‌سره) من تحريف القرآن الكريم هو التحريف بنقصان أو زيادة كلمة واحدة أو عدد من الكلمات بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من قبل الصحابة، مع بقاء أصل القرآن النازل على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) محفوظاً من التحريف. وقد ذكر سماحته هذا القسم من التحريف، قائلاً:

الثالث: «النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل». والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام، وفي زمان الصحابة قطعاً، ويدلّنا على ذلك إجماع المسلمين على أنّ عثمان أحرق جملة من المصاحف وأمر ولاته بحرق كلّ مصحف غير ما جمعه، وهذا يدلّ على أنّ هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف، منهم عبد اللّه‏ بن أبي داود السجستاني، وقد سمّى كتابه هذا بـ «كتاب المصاحف». وعلى ذلك، فالتحريف واقع لا محالة، إمّا من عثمان أو من كتّاب تلك المصاحف، ولكنّا سنبيّن بعد هذا إن شاء اللّه‏ تعالى أنّ ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين، الذي تداولوه عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)يداً بيد. فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنّما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان، وأمّا القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة. وجملة القول: إنّ من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف ـ كما هو الصحيح ـ فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأوّل إلاّ أنّه قد انقطع في زمان عثمان، وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وأمّا القائل بتواتر المصاحف بأجمعها، فلابدّ له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل، وبضياع شيء منه[21].

نقد آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) على رأي السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

لقد ناقش سماحة الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره)، هذا الرأي من السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، قائلاً:

ولكنّه سيجيء إن شاء اللّه‏ تعالى في موضوع جمع القرآن وأنّه في أيّ زمان جمع، أنّ الجمع كان في عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وأنّ اختلاف مصحف عثمان مع سائر المصاحف كان في كيفيّة القرائة من دون اختلاف في الكلمات[22].

ثمّ استطرد سماحته في النقل والاستدلال، ليكمل مناقشته لكلام السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، بالقول:

والعجب أنّه بنفسه يصرّح فيما بعد بذلك. حيث يقول: نعم لا شكّ أنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الاُخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرّح بهذا كثير من أعلام أهل السنّة. فحينئذٍ فالاختلاف انّما كان في القراءة لا في الكلمات كما سيظهر[23].

من الواضح أنّ آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) يذهب إلى القول بأنّ القرآن الكريم في تلك المرحلة كان واحداً، وإنّ الاختلاف إنّما يأتي من تعدّد القراءات[24]. وقد ذهب سماحته ـ خلافاً للسيد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) ـ إلى انكار أصل وقوع هذا النوع من التحريف.

القسم الرابع: نقصان وزيادة آية أو سورة مع الحفاظ على القرآن النازل

قال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في بيان القسم الرابع من أقسام التحريف، ما يلي:

الرابع: «التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إيّاها». والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً. فالبسملة ـ مثلاً ـ ممّا تسالم المسلمون على أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة، فاختار جمع منهم أنّها ليست من القرآن، بل ذهبت المالكية إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلاّ إذا نوى به المصلّي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة اُخرى إلى أنّ البسملة من القرآن. وأمّا الشيعة فهم متسالمون على جزئية البسملة من كلّ سورة غير سورة التوبة، واختار هذا القول جماعة من علماء السنّة أيضاً ـ وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا سورة الفاتحة ـ وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقيناً، بالزيادة أو بالنقيصة[25].

إنّ البحث في هذا القسم من التحريف لا يدور حول كيفيّة قراءة القرآن الكريم أو الإنقاص منه أو الزيادة عليه، وإنّما البحث يدور حول تعيين مصداق القرآن؛ من ذلك مثلاً: ليس هناك اختلاف بين المسلمين حول قراءة «بِسْمِ اللّه‏ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، فقد اتّفقوا بأجمعهم على أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) كان يتلو هذه الكلمة الطيّبة قبل كلّ سورة باستثناء سورة التوبة؛ ولكن هناك من كان يعتبرها جزءاً من القرآن، بينما ذهب آخرون إلى القول بأنّها من كلام النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

القسم الخامس: التحريف بالزيادة

لقد ذكر السيّد الخوئي(قدس‏‌‌سره) القسم الخامس من التحريف، قائلاً:

الخامس: «التحريف بالزيادة بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل». والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو ممّا علم بطلانه بالضرورة[26].

يرى السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) أنّ عدم وقوع هذا القسم من التحريف ثابت بإجماع المسلمين، واعتبر هذا النوع من التحريف باطلاً بالضرورة. ولكن لم يتّضح مراده من الضرورة هنا؛ فإن كان مراده منها هو الضروري من الدين، كان ذلك أقوى من الإجماع.

إنّ الملاك في الضروري من الدين، عبارة عن: «ما لا يقبل الاختلاف»، بمعنى أنّ الضروري هو الذي لم يختلف فيه العلماء، وبعبارة اُخرى: إنّ الضروري هو ما ليس فيه قابلية الاختلاف. من الواضح أنّ هذا الملاك غير متوفّر في مسألة التحريف؛ وبالتالي يكون الدليل الوحيد على بطلان هذا النوع من التحريف هو خصوص الإجماع، ولولا هذا الإجماع على عدم التحريف؛ لوقع الاختلاف بين العلماء حول القسم الخامس أيضاً.

وحيث لم يتمّ بيان مفهوم «الضروري» ومساحته في الكتب الفقهية والاُصولية بشكل صحيح، عمدنا في بحث الاجتهاد والتقليد ـ بمناسبة الاجتهاد في الضروريات وعدم ذلك ـ إلى تحليل ملاك الضروري، فيجدر الرجوع إلى ذلك؛ للحصول على الفهم الصحيح للمراد من «الضروري».

القسم السادس: التحريف بالنقصان

هناك اختلاف بين العلماء في الآراء حول القسم السادس من تحريف القرآن، وهو التحريف بالنقصان. وقال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في هذا الشأن:

السادس: «التحريف بالنقيصة، بمعنى أنّ المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس». والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم، ونفاه آخرون[27].

إتّهام الإماميّة بالقول بتحريف القرآن

إنّ النقطة الأهمّ في بحث التحريف، هي نسبة الاعتقاد بتحريف القرآن الكريم إلى علماء الإماميّة. وقد بدأ هذا الإتّهام بالظهور منذ عصر الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، ومنشأ ذلك وجود بعض الروايات في مصادر الحديث لدى الشيعة. ولكي ندفع هذه التهمة؛ يجب أوّلاً مناقشة الروايات الدالّة على تحريف القرآن الكريم المذكورة في كتب الإماميّة، لننتقل بعد ذلك إلى بيان أدلّة الإماميّة على عدم القول بالتحريف؛ وذلك لكي نرفع هذا الإتّهام الباطل عن الإماميّة.

لقد ذهب الميرزا القمي(رحمه‏‌‌الله) في «القوانين» إلى نسبة القول بتحريف القرآن الكريم إلى أكثر الأخباريين[28].

وعليه، من الضروري أن نهتمّ في هذا البحث ببيان العلاقة بين الأخبارية والقول بتحريف القرآن، وكذلك بيان النسبة بين المحدّث والأخباري وتحريف القرآن أيضاً؛ ولكن قبل الخوض في هذا البحث، يجب العمل أوّلاً على بيان أقوال كبار العلماء من الشيعة حول مسألة تحريف القرآن الكريم:

رأي الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)

قال الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) ـ وهو من كبار المحدّثين الشيعة، وله مكانة مرموقة بين علماء الإماميّة حتّى لُقّب بـ «رئيس المحدّثين» ـ في كتابه الاعتقادي «إعتقادات الإماميّة»:

إعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه‏ تعالى على نبيّه محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)‏وسلم هو ما بين الدفّتين، وهو ما في أيدي النّاس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة. وعندنا أنّ الضحى وألم نشرح سورة واحدة، ولإيلاف وألم تر كيف سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب[29].

وعلى هذا الأساس، فإنّ رأي الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) هو أنّ القرآن الذي كان موجوداً في أيدي النّاس في عصره ـ القرن الرابع للهجرة ـ هو ذات القرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

ثمّ استطرد الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) يتكلّم حول المعارف الاُخرى التي نزلت من عند اللّه‏ سبحانه وتعالى على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وقال في ذلك:

إنّه قد نزل الوحي الذي ليس بقرآن، ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبعة عشر ألف آية[30].

بناءً على رأي الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، إنّ ما اُضيف إلى القرآن في بعض روايات الشيعة، يمكن أن يكون من الوحي، ولكنّه ليس من القرآن الكريم.

وإنّه(رحمه‏‌‌الله) ـ خلافاً لما ورد من المطالب في كتاب «الاعتقادات» ـ نقل في كتابيه «ثواب الأعمال وعقاب الأعمال»، و«من لا يحضره الفقيه»[31] بعض الروايات التي تدلّ في ظاهرها على تحريف القرآن الكريم، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما ذكره في كتاب «من لا يحضره الفقيه»، قائلاً:

وروى هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): في القرآن رجم؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة، فإنّهما قضيا الشهوة»[32].

وقد ذكر الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) في مقدّمة كتاب «من لا يحضره الفقيه»، دافعه من وراء تأليف هذا الكتاب، قائلاً:

ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتى به وأحكم بصحّته[33].

وقد ذهب آية اللّه‏ السيّد محسن الحكيم(رحمه‏‌‌الله) في «مستمسك العروة الوثقى»[34]، إلى الاعتقاد بأنّ الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) قد عدل عن هذا الشرط المذكور في بداية كتابه.

وقد ذهب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)[35] إلى اعتبار رواية سليمان عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)، واردة بداعي التقية؛ وذلك لأنّ حديث الرجل وارد في كتب أهل السنّة، وتعود جذوره إلى الخليفة الثاني.

رأي الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)

لقد تعرّض الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 413 هـ ـ في كتابه «أوائل المقالات»، حول مسألة تحريف القرآن، قائلاً:

وقد قال جماعة من أهل الإمامة أنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزّلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه‏ تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال اللّه‏ تعالى: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضِى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْماً»فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف. وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميل، واللّه‏ أسأل توفيقه للصواب[36].

في شرح كلام الشيخ المفيد(قدس‏‌‌سره)، يجب القول: إنّ آيات القرآن الكريم في نزولها التدريجي كانت تنزّل بشكل منفصل عن بعضها، وكان على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أن يعلم النّاس الآيات واحدة بعد اُخرى، مع ذكر تأويلها وتفسيرها. وإنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى ـ بناءً على ما ورد في «تفسير القمّي» ـ قد أمر نبيّه بأن لا يبيّن الآية وتأويلها وتفسيرها قبل أن يقضى إليه وحيها. وإليك نصّ الكلام الوارد في «تفسير القمّي»، في هذا الشأن:

قال: كان رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إذا نزّل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الآية والمعنى فأنزل اللّه‏ عزّ وجلّ «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» أي: تفرغ من قراءته «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْماً»[37].

بالالتفات إلى ما ذُكر في تفسير القمي، فإنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، كان يقرأ الآية للنّاس، ويُبيّن لهم تفسيرها قبل اكتمال نزولها. وإنّ الكثير من كتّاب الوحي كانوا يكتبون تفسير الآيات التي يبيّنها رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) على هامشها، كما كانوا يكتبون تفاصيل اُخرى، مثل: شأن نزول الآيات وأسبابها، لا بوصفها من القرآن ـ بطبيعة الحال ـ وإنّما بوصفها تفسيراً للقرآن أو بياناً لشأن النزول، وما إلى ذلك.

وكان على رأس كتّاب الوحي وارث علم الأنبياء أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)؛ حيث كان يكتب ما يُوحى إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بجميع تفاصيله؛ بل كان طبقاً لكلام رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يسمع ما يسمعه رسول اللّه‏ ويرى ما يراه: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ـ إلاّ أنّك لست بنبيّ ولكنّك لوزير ـ وإنّك لعلى خير»[38].

وجاء في تفاسير أهل السنّة أيضاً:

1. حدّثني محمّد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدّثني الحرث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ»؟[39] قال: لا تتله على أحد حتّى نبيّنه لك[40].

2. حدّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمّر، عن قتادة: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» قال: تبيانه.

وقد نقل صاحب «مجمع البيان»(رحمه‏‌‌الله) ما ذكره الطبري في تفسيره أيضاً[41].

كما وردت تفاسير اُخرى بشأن هذه الآية الكريمة، وإليك بيان بعضها:

أ ـ كان النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) حيث يتأخّر عليه نزول الوحي، يشتاق إلى نزوله، فنزل عليه قول اللّه‏ تعالى: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ».

ب ـ كان النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يسبق جبرائيل(عليه‏‌‌السلام) في تلاوة الآيات؛ وذلك لأنّ القرآن قبل نزوله التدريجي قد نزل دفعة واحدة [في ليلة القدر]؛ فنزلت هذه الآية.

لقد كان الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) ـ كما سبق أن ذكرنا ـ يذهب إلى الاعتقاد بعدم نقص شيء من القرآن الكريم، إلاّ اللهمّ ما يكون من تلك التأويلات التي كان النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يذكرها للصحابة، وكان يرى أنّ تأويل القرآن كان يُسمّى قرآناً أيضاً. وقد اتّخذ من الآية مورد البحث شاهداً على كلامه، معتقداً أن لا خلاف بين المفسّرين في هذا الشأن. وفي الحقيقة فإنّه قد فسّر كلمة «القرآن» في هذه الآية بـ «تأويل القرآن».

وعلى هذا الأساس فإنّ الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) يرفض تحريف القرآن بمعنى النقصان، ثمّ استطرد في كلامه حول تحريف القرآن بالزيادة، قائلاً:

وأمّا الزيادة فيه فمقطوع على فسادها من وجه، ويجوز صحّتها من وجه، فالوجه الذي أقطع على فساده أن يمكن لأحد من الخلق زيادة مقدار سورة فيه على حدّ يلتبس به عند أحد من الفصحاء، وأمّا الوجه المجوز فهو أن يزاد فيه الكلمة والكلمتان والحرف والحرفان وما أشبه ذلك مما لا يبلغ حدّ الإعجاز، ويكون ملتبساً عند أكثر الفصحاء بكلم القرآن، غير أنّه لابدّ متى وقع ذلك من أن يدلّ اللّه‏ عليه، ويوضح لعباده عن الحقّ فيه، ولست أقطع على كون ذلك، بل أميل إلى عدمه، وسلامة القرآن عنه[42].

وبذلك يتّضح أنّ الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) ـ وهو من أكابر علماء الإماميّة ـ يرفض القول بتحريف القرآن بالزيادة، وإنّما يحتمل مجرّد احتمال وقوع هذا النوع من التحريف في القرآن الكريم بزيادة حرف أو كلمة واحداً، ثمّ عمد إلى نفي هذا الاحتمال مباشرة، مستدلاً على ذلك بقاعدة اللطف.

رأي السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله)

لقد ذهب السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 436 للهجرة ـ في كتابه «المسائل الطرابلسيات»، إلى الاعتقاد قائلاً:

أنّ العلم بصحّة نقل القرآن، كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت، والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من اعرابه، وقراءته، وحروفه، وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً، مع العناية الصادقة، والضبط الشديد[43].

وعليه بحسب رأي السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله)، لم يحدث أيّ تغيير أو تحريف في القرآن الكريم؛ وذلك لأنّ الناس كانوا يكتبون تاريخ الحواضر الكبرى، والأحداث والوقائع الكبيرة، وأشعار العرب دون زيادة أو نقصان، وكانوا يحفظونها في ذاكرتهم وصدورهم، فكيف يكون شأنهم تجاه حفظ القرآن الذي هو أكثر قداسة وأهميّة عند المسلمين من حفظ تاريخ وأشعار العرب؟

وعليه، لا يمكن القول بتحريفه في مثل هذه الحالة؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم هو معجزة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وهو مصدر علم الشريعة والأحكام؛ ومن هنا فقد اجتهد العلماء على الدوام في صيانة هذا الكتاب السماوي وحراسته من التحريف والتغيير، وإذا حدث اختلاف في حروفه أو اعرابه وقراءته كانوا يعلمون ذلك، ولم يكونوا يحفظون حروفه فحسب، بل كانوا على علم ودراية باختلاف قراءاته أيضاً، وكانوا يعملون على ضبط ذلك بشكل دقيق.

وقال السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) في موضع آخر:

إنّ العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله، كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما، حتّى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب، لعرف وميّز وعلم أنّه ملحق، وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني. ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه، أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء[44].

وجاء في نصّ هذا الكلام في بعض النسخ، ومن بينها كتاب الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) التعبير بـ «العلم بتفصيل» بدلاً من «العلم بتفسير»، ويبدو أنّه مأخوذ من كتاب «مجمع البيان»[45].

وبذلك يذهب السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) إلى الاعتقاد بأنّه كما هناك قطع وعلم بأصل نزول القرآن من عند اللّه‏ سبحانه وتعالى، كذلك هناك علم وقطع بشأن أبعاضه وأجزائه وخصائص وتفصيل الآيات أيضاً؛ إذ لا شكّ في أنّ القرآن الكريم ليس بأقلّ عند المسلمين من الكتب الأدبية وأشعار العرب من ذلك ـ على سبيل المثال ـ لو اُضيف شيء إلى كتاب سيبويه أو بعض دواوين العرب أو أنقص منه، فإنّ علماء النحو سوف يدركون ذلك، فكيف يمكن ـ والحال هذه ـ أن يضاف شيء إلى القرآن أو يُنقص منه، دون أن يلتفت العلماء إلى ذلك، وهم وعامّة المسلمين يتعهّدونه، ويقرأونه أطراف الليل وآناء النهار باستمرار؟!

ثمّ استطرد سماحته قائلاً:

إنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وإن كان يعرض على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ويتلى عليه، وإنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه‏ بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وغيرهما، ختموا القرآن على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)‏وسلم عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث. وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشوية لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته[46].

وعليه من الواضح ـ كما قال السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) ـ أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) لم يكن مهملاً لحفظ وجمع القرآن الكريم، بل على العكس من ذلك، كان شديد الحرص على حفظ كتاب اللّه‏. ومن هنا فإنّه قد أمر الصحابة في حياته بجمع القرآن وتدوينه، وقد قام الكثير من الصحابة بكتابة الوحي وحفظه، وكانوا بعد كتابة الآيات والسوَر يعرضونها على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ وبذلك شاع موضوع ختم القرآن الكريم في عصر النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وقد عمد الصحابة إلى ختم القرآن المجموع على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) مراراً.

وفي الختام ذهب السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بعدم الالتفات إلى مقالة بعض الإماميّة والحشوية ـ وهم جماعة من أهل السنّة ـ وإنّما اقتصر على اتّهام بعض أصحاب الحديث بالقول بالتحريف فقط؛ لاعتقاده أنّهم كانوا يصحّحون الأحاديث غير الصحيحة، ومن هنا قالوا بتحريف القرآن الكريم.

بالالتفات إلى كلام السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله)، نستنتج ما يلي:

أوّلاً: إنّ القول بتحريف القرآن الكريم، ينسب في الغالب إلى أصحاب الحديث.

ثانياً: إنّ أصحاب الحديث إنّما تمسّكوا في ذلك بالروايات الضعيفة، ولم يتمسّكوا بمثل هذه الروايات الضعيفة في الموارد المشابهة؛ في حين توجد روايات صحيحة في قبال هذا النوع من الروايات الضعيفة.

وبعبارة اُخرى: إنّ الروايات الضعيفة التي تمسّك بها أصحاب الحديث للقول بتحريف القرآن، هي روايات ظنّية، وهناك في المقابل روايات قطعية تثبت عدم تحريف القرآن الكريم.

والأمر الذي يجدر التذكير به هنا، هو أنّ ابن حجر قد نقل في كتابه «لسان الميزان» عن ابن حزم كلاماً حول السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله)، قال فيه:

وقال ابن حزم: كان من كبار المعتزلة الدعاة وكان إماميّاً، لكنّه يكفر من زعم أنّ القرآن بدل أو زيد فيه أو نقص منه، وكذا كان صاحباه أبو القاسم الرازي وأبو يعلى الطوسي[47].

إنّ ما نقله ابن حجر عن ابن حزم في قول السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) بكفر القائل بالتحريف، لم يتمّ العثور عليه في أيّ واحد من كتب السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله)، ولم ينقله أيّ واحد من علماء الإماميّة أيضاً.

رأي الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله)

وبعد السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) ذهب تلميذه الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 460 هـ ـ في بداية كتابه في التفسير «التبيان في تفسير القرآن»، في معرض حديثه عن تحريف القرآن الكريم، إلى القول:

وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى(رحمه‏‌‌الله)، وهو الظاهر في الروايات؛ غير أنّه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصّة والعامّة، بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها، ولو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفّتين؛ فإنّ ذلك معلوم صحّته، لا يعترضه أحد من الاُمّة ولا يدفعه، ورواياتنا متناصرة بالحثّ على قراءته والتمسّك بما فيه، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه[48].

يرى الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره): أنّ مرجع الضمير في عبارة «لا يليق به» يعود إلى «التفسير»؛ أي: لا يليق البحث حول التحريف في البحث التفسيري. كما أنّ الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) في مقدّمة «مجمع البيان» ـ حيث نقل زبدة «التبيان» ـ قد أرجع الضمير هنا إلى التفسير أيضاً[49]؛ ولكن يبدو أنّ مرجع الضمير هو «القرآن».

بالالتفات إلى ما تقدّم، يتّضح أنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) ـ مثل سائر العلماء الكبار من الإماميّة ـ يقول بعدم تحريف القرآن، ويرى أنّ الروايات الدالّة على التحريف هي من أخبار الآحاد التي لا يمكن الاعتماد عليها.

كما أنّ ظاهر عبارة «فإنّ ذلك معلوم صحّته»، أنّه لو سلّمنا وقوع التحريف في القرآن، إلاّ أنّ هذا الافتراض لا يشكل مانعاً من العمل بهذا القرآن الذي بين أيدينا؛ وذلك لأنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) قد أمرونا بالعمل بهذا القرآن.

وهذا هو رأيه في كتابه التفسيري، وأمّا في كتابه «اختيار معرفة الرجال»، فله كلام آخر، وفي كتاب «تهذيب الأحكام» قد نقل مسألة رجم الشيخ والشيخة بسند صحيح على الشكل الآتي: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما»[50]، كما استدلّ بهذه الرواية في كتاب «الخلاف» أيضاً؛ وإن كان استدلاله هذا يأتي من باب الجدال في قبال الخصم؛ ببيان أنّ الخوارج قد ادّعوا أنّ الإسلام لا يشتمل على حدّ الرجم؛ إذ لم تتمّ الإشارة إليه في ظاهر القرآن ولا في السنّة المتواترة.

ومن هنا فقد عمد سماحته إلى نقل هذه الرواية في مقام النقد والردّ عليهم، قائلاً: «روي عن عمر أنّه قال: لولا أنّني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن؛ لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف»[51].

رأي العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله)

لقد نقل العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 548 هـ ـ في مقدّمة «مجمع البيان» رأي السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) ورأي الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) وارتضاه. وقد قال في هذا الشأن:

الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فإنّه لا يليق بالتفسير. فأمّا الزيادة فيه: فمجمع على بطلانه. وأمّا النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من حشوية العامّة، أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً. والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدّس اللّه‏ روحه[52].

وقد تقدّم بطبيعة الحال أنّه يرى مرجع الضمير في كلمة «به» ـ بالالتفات إلى وجود القرائن في الكلام ـ إلى «التفسير»، لا إلى «القرآن».

رأي العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله)

لم يذكر الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) رأي العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله)في كتابه «مدخل التفسير»، ومع ذلك تجدر بنا الإشارة إلى هذا الرأي.

قال العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 726 هـ ـ في معرض الإجابة عن أسئلة حول تحريف القرآن الكريم: «الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه، وأنّه لم يزد ولم ينقص»[53].

رأي المحقّق الثاني(رحمه‏‌‌الله)

لقد ألّف المحقّق الثاني(رحمه‏‌‌الله) رسالة في نفي حدوث النقص في القرآن الكريم[54]. وقد أكثر السيّد محسن الأعرجي البغدادي في كتابه «شرح الوافية في علم الاُصول»[55]، من الإشارة إلى عبارات المحقّق الثاني، صاحب كتاب «جامع المقاصد»(رحمه‏‌‌الله). قال سماحته في جواب أولئك الذين يرون تنافياً بين نفي وقوع التحريف في القرآن الكريم وبين وجود الروايات الدالّة على التحريف:

إذا كانت هناك روايات وكانت مخالفة للأدلّة القطعية والسنّة المتواترة والإجماع، فإن أمكن وجب تأويلها، فإذا لم يمكن التأويل وجب إهمالها؛ لأنّها مخالفة للإجماع أو الشهرة. وعليه لو قام شخص باختلاق حديث في كتاب التهذيب للشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) وأضاف عليه، كان الطريق الوحيد في تشخيص ذلك هو دراسة مخالفة ذلك الحديث للإجماع أو الضرورة أو السنّة المتواترة وعدم ذلك[56].

رأي السيّد نور اللّه‏ التستري(رحمه‏‌‌الله)

لقد تحدّث السيّد نور اللّه‏ التستري(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 1019 هـ ـ في كتابه «مصائب النواصب في الردّ على نواقض الروافض» ـ وهو في موضوع الإمامة وعلم الكلام ـ قائلاً:

ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة؛ إنّما قال به شرذمة قليلة منهم، لا اعتداد بهم فيما بينهم[57].

ويبدو أنّ المراد من «الشرذمة القليلة» بعض الأخباريين؛ إذ من الواضح أنّ الكثير من الأخباريين لا يقول بالتحريف، وإنّما الذي يقول به قلّة قليلة منهم، حيث يجب البحث في ذلك.

رأي الشيخ البهائي(رحمه‏‌‌الله)

يعتبر الشيخ البهائي(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 1030 هـ ـ عالماً موسوعياً قلّ نظيره. وممّا قاله في تحريف القرآن الكريم:

اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه، والصحيح إنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصاناً؛ ويدلّ عليه قوله تعالى «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، وما اشتهر بين النّاس من اسقاط اسم أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ»في عليّ وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء[58].

رأي المقدّس البغدادي (الشيخ محسن الأعرجي)(رحمه‏‌‌الله)

نقل عنه الوالد المحقّق آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) رأيه القائل بوجود الإجماع على عدم النقص في القرآن الكريم. كما أنّه ينقل عن اُستاذه الشيخ عليّ بن عبد العالي ـ الذي ألّف رسالة مستقلّة في نفي التحريف بالنقيصة ـ كلاماً يقول فيه: إذا كانت هناك روايات دالّة على حدوث النقص في القرآن، ولم يمكن تأويلها، وجب نبذها وطرحها.

رأي الفاضل التوني(رحمه‏‌‌الله)

قال الفاضل التوني(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 1071 هـ ـ في كتابه «الوافية»:

والمشهور: أنّه محفوظ ومضبوط كما أنزل، لم يتبدّل ولم يتغيّر، حفظه الحكيم الخبير، قال اللّه‏ تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ». والحقّ: أنّه لا أثر لهذا الاختلاف، إذا الظاهر تحقّق الإجماع على وجوب العمل بما في أيدينا، سواء كان مغيّراً أو لا، وفي بعض الأخبار تصريح بوجوب العمل به إلى ظهور القائم من آل محمّد(عليهم‏‌‌السلام)[59].

رأي الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله)

لقد صرّح الفيض الكاشاني في كتابه «الوافي» و«علم اليقين» بعدم وقوع التحريف بالنقيصة في القرآن الكريم. كما أنّه ذكر في كتابه «تفسير الصافي» أدلّة القائلين بالتحريف وروايات التحريف بالنقيصة، وأجاب عنها. وعمد سماحته بعد ذكر الاختلاف إلى القول في مقام الجواب:

أقول: ويرد على هذا كلّه إشكال، وهو أنّه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن، إذ على هذا يحتمل كلّ آية منه أن يكون محرّفاً ومغيّراً ويكون على خلاف ما أنزل اللّه‏، فلم يبق لنا في القرآن حجّة أصلاً، فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصية بالتمسّك به إلى غير ذلك، وأيضاً قال اللّه‏ عزّ وجلّ «وَاِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيز لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»، وقال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ»فكيف يتطرّق إليه التحريف والتغيير؟[60].

لقد ذهب الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بأنّنا إذا التزمنا بالقول بتحريف القرآن، وارتضينا القول بوقوع التحريف ولو على نحو قليل جدّاً ـ سواء بالنقيصة أو الزيادة ـ سوف يؤدّي بنا ذلك إلى القول بعدم حجّية القرآن، ومن هنا سوف يكون تطبيق القرآن الكريم واتّباعه، والأمر بالتبعية له على ما روي عن الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) لغواً وعبثاً. وقد استند سماحته في هذا الشأن إلى الآية 42 من سورة فصّلت، والآية 9 من سورة الحجر أيضاً. ثمّ استطرد الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) في استدلاله قائلاً:

وأيضاً قد استفاض عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) حديث عرض الخبر المروي على كتاب اللّه‏ ليعلم صحّته بموافقته له وفساده بمخالفته، فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفاً فما فائدة العرض؟ مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه‏ مكذّب له فيجب ردّه والحكم بفساده أو تأويله[61].

يذهب الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) في البداية إلى رفض روايات التحريف ويراها مخالفة للقرآن الكريم، ويقول: طبقاً لروايات عرض الأحاديث على القرآن، تعدّ هذه الروايات مردودة ومرفوضة.

ثمّ استطرد بعد ذلك قائلاً: ولو تنزّلنا عن هذا الكلام وقبلنا بصحّة هذه الروايات، وجب علينا العمل على تأويلها، ومن هنا قال سماحته في مقام تأويل هذا النوع من الروايات:

ويخطر بالبال في دفع هذا الإشكال والعلم عند اللّه‏ أن يقال: إن صحت هذه الأخبار، فلعلّ التغيير إنّما وقع فيما لا يخلّ بالمقصود كثير اخلال، كحذف اسم علي وآل محمّد(عليهم‏‌‌السلام)، وحذف أسماء المنافقين ـ عليهم لعائن اللّه‏ ـ فإنّ الانتفاع بعموم اللفظ باق، وكحذف بعض الآيات وكتمانه فإنّ الانتفاع بالباقي باق، مع أنّ الأوصياء كانوا يتداركون ما فاتنا منه من هذا القبيل ويدلّ على هذا قوله(عليه‏‌‌السلام) في حديث طلحة: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنّة، فإنّ فيه حجّتنا وبيان حقّنا وفرض طاعتنا[62].

بيد أنّنا لا نرى هذا التأويل صحيحاً؛ وذلك للأسباب الآتية، وهي أوّلاً: لا يمكن التسليم بأنّ تغيير بعض الألفاظ لا يؤدّي إلى تغيير المعاني، بل إنّ نقص أو زيادة الألفاظ حتّى على فرضية أن يكون لها عنوان مصداقي، يكون له تأثير في توسعة أو تضييق المعنى المطلوب. وثانياً: لو سلّمنا أنّ هذا الحذف [أو الزيادة] لا يغيّر في المعنى شيئاً، ولكنّنا نقول إنّ هذا الأمر سوف يُخلّ بالإعجاز اللفظي للقرآن الكريم.

ثمّ ذكر الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) بعد ذلك تأويلاً آخر ـ سبقت الإشارة إليه ـ ونحن نرى أنّ هذا التأويل الثاني هو الصحيح؛ إذ يقول:

ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنّ بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان، ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى، أي: حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله، أعني: حملوه على خلاف ما هو به، فمعنى قولهم(عليهم‏‌‌السلام) كذا نزلت أنّ المراد به ذلك لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها فحذف منها ذلك اللفظ. وممّا يدلّ على هذا ما رواه في الكافي باسناده عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام): أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية. الحديث. وما روته العامّة أنّ عليّاً(عليه‏‌‌السلام) كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان، ولا يكون جزء من القرآن، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك. هذا ما عندي من التفصّي عن الاشكال واللّه‏ يعلم حقيقة الحال[63].

وعليه، فإنّ حصيلة كلام الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله)، هي أنّ التحريف إذا كان واقعاً في القرآن، فهو تحريف معنوي وليس تحريفاً لفظياً؛ كما أنّنا لو سلّمنا صحّة روايات التحريف، إلاّ أنّ هذا لا يُحدث خللاً في معاني القرآن الكريم.

وبطبيعة الحال، فإنّ الفيض الكاشاني قد اكتفى بالإشارة إلى عبارات وروايات التحريف في كتاب «الوافي» و«تفسير الصافي»، وأمّا في كتاب «علم اليقين»[64] فقد بحث في هذا الشأن بالتفصيل.

رأي البلاغي(رحمه‏‌‌الله)

وقد تحدّث العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله) في مقدّمة تفسير «آلاء الرحمن» بشأن الروايات الواردة في تحريف القرآن الكريم، قائلاً:

ولئن سمعت في الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه، فلا تقم لتلك الروايات وزناً. وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين، وفيما جاءت به في مرويّاتها الواهية من الوهن[65].

وبذلك يتّضح أنّ العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله) يرفض الروايات الدالّة على التحريف من الأساس. ثمّ تحدّث سماحته بعد ذلك حول عدم تحريف القرآن بالتفصيل، ولكنّنا لا نرى هنا حاجة إلى الدخول في تلك التفاصيل، ونكتفي من البحث بما ذكرناه.

رأي صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله)

على الرغم من كون صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) أخبارياً[66]، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يذهب إلى القول بأنّ القرآن ثابت بما يفوق التواتر؛ إذ قام بحفظه آلاف الصحابة، كما ألّف سماحته رسالة في إثبات تواتر القرآن الكريم.

أسباب إتّهام الإماميّة بالقول بتحريف القرآن

لقد اتّضح في الأبحاث السابقة أنّ أكثر علماء الشيعة ـ الأعمّ من المحدّثين والفقهاء والأصوليين وغيرهم ـ من أمثال: الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي، والعلاّمة وآخرين رحمهم‏الله، قد رفضوا نسبة التحريف إلى القرآن. وعلى هذا الأساس، فإنّ الذين اتّهموا الإماميّة بالقول بالتحريف، لا يخلو أمرهم من إحدى ثلاث حالات: فإمّا أنّهم لم يلقوا نظرة على كتب الشيعة أبداً، أو أنّهم يذهبون في هذا الاتّهام من منطلق العصبية والجهل والعناد، أو أنّهم جعلوا من اعتقاد شرذمة قليلة من الإماميّة مستنداً في نسبة هذا القول إلى جميع علماء الشيعة.

وبطبيعة الحال، ربما جاء اتّهام الإماميّة بالقول بتحريف القرآن الكريم، من أحد الأسباب الآتية:

أوّلاً: ربما لما ورد من القول في بعض روايات الإماميّة: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»[67]، وما يراه الإماميّة من أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)هم المخاطبون الحقيقيون بالقرآن الكريم، ولذلك فإنّهم يأخذون العلم منهم، ومن ناحية اُخرى تذهب شرذمة قليلة من الأخباريين إلى القول بتحريف القرآن استناداً إلى بعض الروايات المأثورة عن الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) في تحريف القرآن، عمد المخالفون إلى نسبة نظرية التحريف إلى مجموع الإماميّة.

ثانياً: إنّ نقل بعض المحدّثين والأخباريين لأحاديث التحريف، دعت بعض المعاندين والمخالفين إلى القول بنسبة التحريف إلى الإماميّة، في حين أنّ نقل الروايات لا يعني قبولها بالضرورة.

ثالثاً: وردت الإشارة في عبارات بعض الأخباريين إلى أنّ حقائق وبطون القرآن الكريم وتأويلاته موجودة عند الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، وأنّهم يرون أنّ المراد من بعض الروايات من قبيل: «سقط من القرآن شيء»، أنّه سقط من القرآن الحقائق والبطون، وما إلى ذلك من الأمور الموجودة حالياً عند الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)؛ في حين يذهب المخالفون إلى القول بأنّ هذا النوع من الروايات يدلّ على نقصان أصل القرآن وألفاظه.

وجاء في كتاب «موقف الرافضة من القرآن»:

القول بوقوع التحريف والتغيير في القرآن الكريم ونقصانه هو إجماع المتقدّمين من علماء الرافضة؛ حيث صرّحوا بذلك في مؤلّفاتهم وشحنوها بالروايات المنسوبة إلى أئمّتهم، وهي كلّها صريحة فى وقوع التحريف في القرآن الكريم، ولم يخرج من إجماعهم إلاّ أفراد قلائل منهم، وقد حصرهم النوري الطبرسي بأربعة أشخاص... وما عدا أولئك الأربعة فجميع المتقدّمين منهم متّفقون على القول بتحريف القرآن الكريم[68].

من الواضح أنّ جذور ادّعاء مؤلّف هذا الكتاب تعود إلى كتاب «فصل الخطاب» لمؤلفّه الشيخ النوري الطبرسي، ولهذا الكتاب بدوره قصّة عجيبة، ولا يخفى تدخّل الأجانب والأعداء في تأليفه؛ إذ من المعروف أنّ أحد المقرّبين من السفارات الأجنبية كان قد تسلل إلى الحوزة بزيّ طلبة العلم، وكان يشجّع النوري الطبرسي على تأليف هذا الكتاب، وكان يأخذ عنه الروايات الواردة في التحريف، وينقلها إلى مكان مجهول.

وممّا روي في هذا الشأن أنّه كلّما كان يتمّ الحديث عن كتاب «فصل الخطاب» في مجلس كان الشيخ عباس القمي(رحمه‏‌‌الله) ـ صاحب «مفاتيح الجنان»، وهو تلميذ الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) ـ يطاطي رأسه خجلاً.

وعلى كلّ حال، فقد تمّ جمع موادّ هذا الكتاب وطبعه قبل تنظيمه أو اخضاع مطالبه للنقض والإبرام.

ومن ناحية اُخرى هناك من يرى أنّ عنوان الكتاب كان في الأصل هو «فصل الخطاب في إثبات عدم تحريف كتاب ربّ الأرباب»، وأنّ الشيخ النوري الطبرسي كانت له غاية اُخرى من وراء تأليف هذا الكتاب.

وعلى كلّ حال فإنّه قد كتب في المقدّمة الثالثة[69] من كتابه، ما يلي:

في ذكر أقوال علمائنا في تغيير القرآن وعدمه فاعلم أنّ لهم في ذلك أقوالاً، مشهورها اثنان: الأوّل: وقوع التغيير والنقصان فيه. والثانى: عدم وقوع التغيير والنقصان فيه، وأنّ جميع ما أنزل اللّه‏ على رسوله(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو الموجود بأيدي الناس فيما بين الدّفتين، وإليه ذهب الصدوق في عقائده والمرتضى وشيخ الطائفة في التبيان... وممّن صرح بهذا القول الشيخ أبو علي الطبرسي في مجمع البيان[70].

ثمّ استطرد الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) بعد ذلك، ليدّعي الشهرة بشأن تحريف القرآن؛ إذ يقول:

ومن جميع ما ذكرنا ونقلنا بتتبّعي القاصر يمكن دعوى الشهرة العظيمة بين المتقدّمين وانحصار المخالف فيهم بأشخاص معيّنين[71].

ولكن لا يمكن القبول بهذا الكلام؛ وذلك أوّلاً: لأنّ هناك اختلافاً كبيراً بين الشهرة والإجماع.

وثانياً: لأنّ الشيخ النوري الطبرسي كان محدّثاً، ولم يكن فقيهاً.

وقبل الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، كان الفضل بن شاذان ـ وهو من المعاصرين للأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) والمتوفّى في سنة 260 ـ قد ألّف كتاباً بعنوان «الإيضاح» وقد صرّح فيه بنفي القول بالتحريف.

وعلى الرغم من عدم إمكان إنكار وجود روايات التحريف في المصادر الروائيّة لدى الإماميّة، إلاّ أنّ دلالتها على التحريف مرفوضة، ومن هنا فإنّ القول بأنّ الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) كان معتقداً بمضمون هذه الروايات هو أوّل الكلام، وفي الحقيقة فإنّ هذا الكاتب قد أخطأ، واشتبه عليه الأمر ظّناً منه أن نقل الرواية يساوي الاعتقاد بها.

الأمر الآخر: أنّ كاتب «موقف الرافضة» يقول بإجماع الإماميّة على القول بتحريف القرآن، في حين أنّ الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) إنّما يدّعي الشهرة العظيمة في ذلك وليس الإجماع. يُضاف إلى ذلك أنّ دعوى الشهرة العظيمة لا يمكن لها أن تصمد أمام مخالفة الكثرة الكاثرة من علماء الإماميّة، والمستمرة منذ عصر الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) إلى سنوات متمادية! ومن ناحية اُخرى: لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أقطاب المتقدّمين من الإماميّة، من أمثال: الشيخ الصدوق، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره)م كانوا يقولون بعدم تحريف القرآن الكريم، وإنّ ما يذهب إليه هؤلاء يبلغ في حدّ ذاته حدود الإجماع؛ ومن هنا فقد ذهب بعض كبار علماء الإماميّة من أمثال المحقّق البروجردي(رحمه‏‌‌الله)، إلى القول بأنّه إذا اتّفقت كلمة خمسة أو ستّة من العلماء المتقدّمين ـ من أمثال: الشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، والشيخ الطوسي رحمهم‏الله ـ حول مسألة ما، كانت تلك المسألة من المسائل المجمع عليها[72].

والنقطة الهامّة في الردّ على ادّعاء الشهرة من قبل الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)، تكمن في أنّ الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره) قد نقل دعوى إجماع علماء عصره على بطلان القول بتحريف القرآن بالزيادة، كما نسب القول ببطلان التحريف بالنقيصة إلى مذهب الإماميّة. والسؤال الهامّ هو: أنّه إذا كانت الشهرة في عصر الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) على تحريف القرآن بالنقيصة؛ فكيف أتى له أن ينسب خلاف ذلك إلى مذهب الإماميّة؟! ولا بدّ من الالتفات أيضاً إلى أنّ بعض كبار العلماء ـ من أمثال السيّد نور اللّه‏ التستري(رحمه‏‌‌الله) ـ قد نسب القول بالتحريف إلى شرذمة قليلة.

القائلون بالتحريف من علماء الإماميّة

1 ـ سُليم بن قيس الهلالي

إنّ أوّل من ذكر مسألة تحريف القرآن الكريم من الإماميّة هو سُليم بن قيس الهلالي، وذلك في كتاب «السقيفة».

ولكن هذه النسبة غير صحيحة، وذلك لأنّ سليم بن قيس الهلالي قد توفّي سنة 90 للهجرة، وكان معاصراً لأمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام). وقد ورد الكلام عنه في كتاب موقف الرافضة»، على النحو الآتي:

ونجده في كتابه يروي عن عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) أخباراً كثيرة صريحة في وقوع التحريف في القرآن الكريم، منها: ما رواه‏عن سلمان الفارسي ممّا دار بين علي(عليه‏‌‌السلام) والشيخين ومن معهما من الصحابة من أمر الخلافة في خبر طويل فيه: فلمّا رأى غدرهم وقلّة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه وكان في الصحف والشظاظ والسيار والرقاع، فلمّا جمعه كلّه وكتبه بيده تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع، فبعث إليه علي(عليه‏‌‌السلام) إنّي لمشغول وقد آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي رداء إلاّ للصلاة حتّى أؤلّف القرآن وأجمعه، فسكتوا عنه أيّاماً، فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثمّ خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)فنادى علي(عليه‏‌‌السلام)بأعلى صوته: يا أيّها الناس إنّي لم أزل منذ قبض رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)مشغولاً بغسله ثمّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثوب الواحد، فلم ينزّل اللّه‏ على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)آية إلاّ وقد جمعتها وليست منه آية إلاّ وقد جمعتها وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول اللّه‏ وعلّمني تأويلها، ثمّ قال لهم علي(عليه‏‌‌السلام): لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين، ثمّ قال لهم علي(عليه‏‌‌السلام): لئلاّ تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب اللّه‏ من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه[73].

ثمّ نقل كاتب «موقف الرافضة» رواية اُخرى عن كتاب سليم بن قيس، يقول فيها:

وأصرح من هذا ما نسبه إلى طلحة من محادثات مع علي(عليه‏‌‌السلام)عنهما، وفيه قال طلحة: يا أبا الحسن شيء أريد أن أسألك عنه، رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت: أيّها النّاس إنّي لم أزل مشغولاً برسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بغسله وتكفينه ودفنه ثمّ شغلت بكتاب اللّه‏ حتّى جمعته، لم يسقط منه حرف فلم أر ذلك الكتاب الذي كتبت وألّفت، ولقد رأيت عمر بعث إليك حين استخلف أن ابعث به إليّ فأبيت أن تفعل، فدعا عمر النّاس فإذا شهد رجلان على آية قرآن كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد رماه ولم يكتبه، وقد قال عمر: وأنّا أسمع قد قتل يوم اليمامة رجال كانوا يقرءون قرآناً لا يقرؤه غيرهم، فذهب وقد جاءت شاة إلى صحيفة وكتاب عمر يكتبون فأكلتها وذهب ما فيها، والكاتب يومئذ عثمان، فما تقولون؟ وسمعت عمر يقول وأصحابه الذين ألّفوا وكتبوا على عهد عمر وعلى عهد عثمان: إنّ الأحزاب تعدل سورة البقرة والنور ستّون ومائة، والحجرات ستّون آية، والحجر تسعون ومائة آية فما هذا؟ وما الذي يمنعك يرحمك اللّه‏ أن تخرج ما ألّفت للنّاس وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألّف عمر فجمع له الكتاب وحمل النّاس على قراءة واحدة، ومزّق مصحف أبيّ وابن مسعود وأحرقهما بالنّار فما هذا؟ فقال أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام): يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها اللّه‏ على محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)عندي باملاء رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وكلّ حلال وحرام أو حدّ أو حكم أو أيّ شيء تحتاج إليه الاُمة إلى يوم القيامة عندي حتّى أرش الخدش[74].

وبعد نقل هاتين الروايتين، ذهب صاحب كتاب «موقف الرافضة» إلى هذه النتيجة قائلاً:

ففي هذين الخبرين وغيرهما من الأخبار الكثيرة التي رواها سليم بن قيس في كتابه هذا التصريح بوقوع التحريف في القرآن الكريم[75].

هذا في حين أنّه لم يرد في أيّ واحدة من هاتين الروايتين ما يدلّ على أنّ قرآن أمير المؤمنين(عليهم‏‌‌السلام) كان مختلفاً عن القرآن الذي كان موجوداً بأيدي النّاس في عصره، سوى أنّ القرآن الذي كان عند أمير المؤمنين(عليهم‏‌‌السلام)كان مشتملاً على إضافات حيث أضاف إلى هامش الآيات، تأويلها وتفسيرها ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها. ومع ذلك لم ينظر شخص في ذلك القرآن كي يتسنّى له معرفة ما إذا كان متطابقاً مع القرآن الشائع في ذلك العصر أم لا. بل جاء في كلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)نفسه أنّه قال: «لقد جمعت لكم القرآن مع تأويله». بيد أنّ ما جاء في الرواية الثانية من أنّ سورة الأحزاب كانت بحجم سورة البقرة[76]، أو أنّ جماعة من النّاس يقرأون القرآن بشكل آخر، أو أنّ مصحف عمر قد أكلته الداجنة، فهو كلّه من كلام طلحة نقلاً عن الخليفة الثاني، وليس من كلام أمير المؤمنين علي(عليه‏‌‌السلام). وعلى كلّ حال، فقد تمّ عرض هذا القرآن على الخليفة الأوّل وعلى الخليفة الثاني، ولكنّهما قد رفضاه.

منزلة سُليم بن قيس عند الإماميّة

قال البرقي بشأن سُليم بن قيس الهلالي، ما يلي:

من الأولياء من أصحاب أمير المؤمنين، والإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام السجّاد، والإمام الباقر(عليهم‏‌‌السلام).

وفي البدء لابدّ من بيان كلمة «الأولياء» في علم الرجال بالنسبة إلى تعديل الشخص. يذهب الكثير من العلماء إلى عدم دلالة هذه العبارة على تعديل الراوي، وإنّما هي واردة في مدح الشخص لا أكثر. ومن هنا لو كان الراوي إماميّاً كانت روايته قويّة، وإن لم يكن إماميّاً كانت روايته حسنة. وبالتالي ليس هناك من شكّ في كون سليم بن قيس ممدوحاً. نعم، ذكر الكشّي في رجاله[77] رواية تدلّ على صدقه. وقد ذهب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)إلى القول بأنّ سليم بن قيس ثقة، جليل القدر وعظيم الشان. ورأى كفاية شهادة البرقي في شأنه بكونه من الأولياء، وقال: لقد حكم العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) في القسم الأوّل من الخلاصة بعدالة سليم[78].

موقف الإماميّة من كتاب سُليم

هناك ثلاثة آراء بشأن كتاب سُليم بن قيس الهلالي، وهي كالآتي:

1 . إنّه كتاب صحيح ويجب الاعتماد عليه، بل هو من أكبر أصول الشيعة.

2 . إنّه كتاب موضوع ومختلق.

3 . لقد تمّ الخلط في هذا الكتاب بين الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة، وإنّه ـ بعبارة اُخرى ـ قد تعرّض للدسّ والتحريف.

رأي ابن الغضائري بشأن كتاب سليم

ذهب ابن الغضائري(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بأنّ كتاب سليم بن قيس منتحل[79]. وقال بشأن سليم بن قيس نفسه:

سُلَيْمُ بنُ قَيْس، الهِلاليّ، العامِريّ؛ روى عن أمير المؤمنين، والحسن، والحسين، وعليّ بن الحسين(عليهم‏‌‌السلام)؛ وينسب إليه هذا الكتاب المشهور. وكان أصحابنا يقولون: إنّ سليماً لا يعرف، ولا ذكر في خبر. وقد وجدت ذكره في مواضع من غير جهة كتابه، ولا من رواية أبان ابن أبي عيّاش عنه. وقد ذكر له ابن عقدة في «رجال أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)» أحاديث عنه. والكتاب موضوع، لا مرية فيه، وعلى ذلك علامات فيه تدلّ على ما ذكرناه. منها: ما ذكر أنّ محمّد بن أبي بكر وعظ أباه عند موته. ومنها: أنّ الأئمّة ثلاثة عشر. وغير ذلك[80].

وقد ذكر ابن الغضائري بعض الأدلّة على انتحال واختلاق هذا الكتاب؛ ومن بينها: أنّه قد اشتمل على القول بأنّ محمّد بن أبي بكر قد وعظ أباه أثناء وفاته؛ في حين أنّ محمّد بن أبي بكر لم يكن يبلغ من العمر عند وفاة والده سوى ثلاث سنوات! والدليل الثاني على اختلاق هذا الكتاب أنّه يذكر عدد الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)بثلاثة عشر إماماً، وهو مخالف لقول الإماميّة في هذا الشأن.

وقال ابن الغضائري في مورد أبان بن أبي عيّاش: «ونسب أصحابنا وضع كتاب سليم بن قيس إليه»[81].

أجل، لو أنّنا قلنا بعدم اعتبار كتاب ابن الغضائري، ينتفي الدليلان اللّذان ذكرهما للدلالة على اختلاق كتاب سُليم. ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) قال في ترجمة سُليم:

والذي وصل إلينا من نسخة الكتاب ليس فيه شيء فاسد، ولا شيء ممّا استدلّ به على الوضع، ولعلّ الموضوع الفاسد غيره؛ ولذلك لم يشتهر[82] ولم يصل إلينا.

وقال الفاضل التفرشي(رحمه‏‌‌الله) في حاشية نقد الرجال:

قال بعض الأفاضل: رأيت فيما وصل إليّ من نسخة هذا الكتاب: أنّ عبداللّه‏ بن عمر وعظ أباه عند موته، وأنّ الأئمّة ثلاثة عشر من ولد إسماعيل، وهم رسول اللّه‏ ـ صلى اللّه‏ عليه وآله ـ مع الأئمّة الاثني عشر(عليهم‏‌‌السلام)[83].

والنتيجة المترتّبة على ذلك، هي أنّ ما ذكره ابن الغضائري ـ على فرض صحّة كتابه ـ مخدوش وغير تمام.

رأي الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) بشأن كتاب سليم

لقد ذهب الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بأنّ كتاب سليم بن قيس يشتمل على تخليط وتدليس، وعليه لا يمكن العمل بكلّ ما ورد في هذا الكتاب، وقال في هذا الشأن:

وأمّا ما تعلّق به أبو جعفر(رحمه‏‌‌الله) من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب المضاف إليه برواية أبان بن أبي عيّاش فالمعنى فيه صحيح، غير أنّ هذا الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتديّن أن يجتنب العمل بكلّ ما فيه، ولا يعول على جملته والتقليد لرواته وليفزع إلى العلماء فيما تضمّنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد، واللّه‏ الموفّق للصواب[84].

من الواضح أنّ رأي الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) بشأن كتاب سُليم بن قيس، ليس كمثل رأي ابن الغضائري، بل إنّه يرى عدم جواز العمل بجميع روايات هذا الكتاب على نحو كامل، وقد حظر على المتديّنين أن يعملوا بجميع ما ورد في كتاب سليم. ومن هنا فإنّ على المؤمنين ـ في تمييز الروايات الصحيحة من غيرها في هذا الكتاب ـ أن يرجعوا إلى العلماء.

وفي قبال الشيخ المفيد وابن الغضائري هناك علماء آخرون ذهبوا إلى القول بصحّة كتاب سليم بن قيس، ومن بينهم النعماني صاحب كتاب الغيبة.

رأي النعماني(رحمه‏‌‌الله) حول كتاب سليم

قال النعماني(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «الغيبة»، بشأن كتاب سُليم:

وليس بين جميع الشيعة ممّن حمل العلم ورواه عن الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)خلاف في أنّ كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الاُصول الّتي رواها أهل العلم ومن حملة حديث أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام)وأقدمها، لأنّ جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل إنّما هو عن رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وأمير المؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر ومن جرى مجراهم ممّن شهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وأمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)وسمع منهما، وهو من الأصول التي ترجع الشيعة إليها ويعول عليها[85].

وقد ذهب صاحب وسائل الشيعة(رحمه‏‌‌الله) بدوره إلى القول باعتبار كتاب سُليم بن قيس، وأنّه قابل للاعتماد.

نتيجة البحث

إنّ تحقيق المسألة بشأن كتاب سُليم بن قيس الهلالي، كالآتي:

أوّلاً: بغضّ النظر عمّا ذكرناه في جواب ابن الغضائري، يجب القبول بوجود الاختلاف بين نسخة ابن الغضائري(رحمه‏‌‌الله) ونسخة صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله)، وكذلك بين نسخة الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) ونسخة النعماني(رحمه‏‌‌الله)؛ وذلك لعدم استبعاد احتمال التدليس في بعض النسخ. لا سيّما في ذلك العصر حيث يكثر المعاندون وأعداء الشيعة؛ حيث كانوا يعملون على دسّ بعض الاُمور الباطلة والزائفة في كتب الشيعة المعتبرة، لغاية اسقاطها عن الاعتبار. وعليه فإنّه فيما يتعلّق بأحاديث كتاب سُليم، يجب بحث كلّ واحد منها بشكل مستقل، وهذا هو الذي ذهب إليه الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله).

وثانياً: لقد أثبتنا في الأبحاث الفقهية[86] أنّ بعض الاُمور يكفي في إثباتها مجرّد الاشتهار، من قبيل: الوقفية، والسيادة، والنسب وما إلى ذلك؛ ومن هنا فإنّنا نذهب إلى كفاية الاشتهار في نسبة كتاب ما إلى مؤلّفه، ولا نحتاج في ذلك إلى إثباته بالتواتر. أجل، لو رفض شخص هذا المبنى، تعيّن عليه إثبات نسبة هذا الكتاب إلى سُليم بن قيس من طريق التواتر أو طريق معتبر. وفي هذا الشأن عمد الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله)إلى نقل هذا الكتاب بسندين، وفي كلا السندين «محمّد بن علي الصيرفي» المكنّى بـ «أبي سمينة»، وهو من وجهة نظر علماء الرجال ضعيف وكذّاب.

وعلى هذا الأساس، فإنّه وإن لم يكن هناك شكّ في أنّ شخص سليم بن قيس من أولياء أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وأنّه من أصحاب الإمام الحسن، والإمام الحسين، والإمام زين العابدين، والإمام الباقر(عليهم‏‌‌السلام)، بيد أنّنا لو قبلنا بالاشتهار ـ وهو مختارنا ـ ثبتت صحّة نسبة هذا الكتاب إلى سليم، وأمّا إذا لم نقبل هذا المبنى، يكون هناك شكّ في نسبة هذا الكتاب إليه.

روى العلاّمة الحلّي(قدس‏‌‌سره) في «الخلاصة» عن السيّد عليّ بن أحمد العقيقي، أنّه قال:

كان سليم بن قيس من أصحاب أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وقد طلبه الحجّاج ليقتله؛ فهرب وأوى إلى بيت ابن أخيه أبان بن أبي عيّاش، فلمّا حضرته الوفاة قال لأبان: إنّ لك عليّ حقاً، وقد حضرني الموت يابن أخي، ثمّ دفع إليه كتاباً مشتملاً على روايات النبيّ الأكرم وأحاديث أمير المؤمنين والأئمّة من بعده وصولاً إلى الإمام الباقر(عليهم‏‌‌السلام)[87].

وبحسب نقل السيّد عليّ بن أحمد العقيقي لم تثبت رواية كتاب سليم بن قيس إلاّ من طريق أبان بن أبي عيّاش، فهو الراوي الوحيد عن سليم، وحيث ضعّف علماء الرجال «أبان بن أبي عيّاش»، فإنّه لا يمكن الاعتماد على كتابه. ولكن يُستفاد من كلام النجاشي(رحمه‏‌‌الله) أنّ لهذا الكتاب طريقاً آخر غير طريق أبان أيضاً، وهو طريق «إبراهيم بن عمر». قال النجاشي بعد بيان الطريق الأوّل: «وحدّثنا إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس بالكتاب». وكذلك جاء في رجال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله): «ورواه حمّاد بن عيسى عن إبراهيم بن عمر اليماني عنه».

وعلى هذا الأساس ـ حتّى لو ثبتت صحّة نسبة هذا الكتاب إلى سليم ـ إذا وقع في طريقه بعض الضعفاء عند علماء الرجال، لا يمكن العمل بالأحاديث الموجودة فيه.

2 . الفضل بن شاذان

إنّ الفضل بن شاذان(رحمه‏‌‌الله) ـ المتوفّى سنة 260 للهجرة ـ هو من بين العلماء الذين اتّهمهم صاحب كتاب «موقف الرافضة من القرآن الكريم» بالقول بتحريف القرآن. حيث قال في كتابه بشأن الفضل بن شاذان:

فهو أيضاً من القائلين بتحريف القرآن، صرّح بذلك في كتابه الإيضاح بقوله «ذكر ما ذهب من القرآن» واستدلّ على ذلك ببعض الأخبار التي ثبتت عن طريق أهل السنّة ممّا يدلّ على وقوع النسخ لبعض تلك الآيات من القرآن الكريم تفيد ظاهرها سقوط شيء من القرآن، وليس كذلك في حقيقة الأمر. وقد تعلّق بتلك الأخبار يعني تمسّك وجعلها دليلاً على صحّة دعواه هذه، وهو يرى أنّه قد ألزم أهل السنّة بهذا القول حيث يقول: «ورويتم أنّ أبا بكر وعمر جمعا القرآن من أوّله إلى آخره من أفواه الرجال بشهادة الشاهدين وكان الرجل الواحد منهم إذا أتى بآية سمعها من رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)لم يقبلا منه، وإذا جاء اثنان بآية قبلاه وكتباه[88].

هناك في كتاب الإيضاح باب بعنوان «ذكر ما ذهب من القرآن»، نقل فيه الفضل بن شاذان روايات عن أهل السنّة تقول بتحريف القرآن. وعليه فقد كان الفضل بن شاذان في هذا الباب بصدد إلزام أهل السنّة بالقول بالتحريف، لا أنّه هو القائل بتحريف القرآن الكريم.

لقد ذهب صاحب كتاب موقف الرافضة إلى الاعتقاد بأنّ الذي يبدو في نظر الفضل بن شاذان دالاًّ على التحريف، إنّما يدلّ على النسخ. وسوف يأتي الحديث عن هذا في الأبحاث القادمة، وسوف نثبت أنّ لازم كلام أهل السنّة حول نسخ التلاوة هو الاعتقاد بتحريف القرآن.

ثمّ ذهب صاحب كتاب موقف الرافضة بعد ذلك إلى وصف الفضل بن شاذان بأنّه جاهل بعلوم القرآن حيث قال:

وقصده من هذا أنّه يريد أن يقول إنّ الآيات التي جاء بها واحد ولم تتوفّر لها شهادة اثنين قد أسقطت من القرآن وضاعت منه، هذا الذي يقصده من إيراده لهذا الكلام، وهو دليل على جهله بعلوم القرآن، فإنّ المعروف أنّ القرآن الكريم لا يثبت إلاّ بنقل متواتر، وما ثبت بطريق الآحاد فليس من القرآن إجماعاً[89].

صحيح أنّ القرآن الكريم ثابت بالتواتر، إلاّ أنّ هذه النقطة بدورها جديرة بالتأمّل، وهي أنّ أخبار الآحاد لا يمكن الاعتماد عليها في ضبط القرآن الكريم، بل إنّ الأخبار المنقولة بشهادة شخصين هي الأخرى لا تُعدّ من الأخبار المتواترة.

إنّ صاحب كتاب مواقف الرافضة في نقل هذه الرواية لا ينسب الكذب إلى الفضل بن شاذان، ولكنّه فيما بعد يعدّ هذه الرواية كاذبة؛ إذ يقول:

وقال أيضاً: ثمّ رويتم أنّ عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف كانا وضعا صحيفة فيها القرآن ليكتباها فجائت شاة فأكلت الصحيفة التي فيها القرآن فذهب من القرآن جميع ما كان في تلك الصحيفة. هذا كذب ظاهر، فإنّه لم يرو أحد من علماء المسلمين هذه القصّة عن عثمان وعبدالرحمن بن عوف وهو مجرّد افتراء وكذب، قال المعلّق في الهامش وهو منهم هذه القضية بهذه الوجه لم أراها إلى الآن على ما ببالي في كتاب، نعم نظيرها مذكور في الكتب.

والعجيب من صاحب هذا الكتاب؛ كيف يعتبر هذا الحديث كذباً وافتراء، في حين أنّ الفضل بن شاذان(رحمه‏‌‌الله) إنّما نقل هذه الرواية من مصادر أهل السنّة!

ثمّ استطرد صاحب كتاب موقف الرافضة، ونقل عن كتاب فصل الخطاب، ما يلي:

وقد نقل عنه النوري الطبرسي القول بتحريف القرآن عند ذكر من ذهب إلى هذا القول من علمائهم حيث يقول: وممّن ذهب إلى هذا القول الشيخ الجليل الأقدم فضل بن شاذان في مواضع من كتابه الإيضاح ويظهر أنّ ضياع طائفة من القرآن من المسلّمات عند العامّة[90].

ولكن الرأي المختار يذهب إلى عدم قول الفضل بن شاذان بتحريف القرآن. ولذلك قد يكون المحدّث النوري؛ قد أخطأ في هذه النسبة، وربما لم يكن قد قرأ كامل كتاب الإيضاح بدقّة، والملفت للانتباه أنّ المحدّث النوري(رحمه‏‌‌الله) قال في نهاية عبارته: «إنّ ضياع طائفة من القرآن الكريم من المسلّمات عند العامّة»، وهذه الفقرة مستفادة من كلمات الفضل بن شاذان.

3 . محمّد بن الحسن الصّفار

إنّ محمّد بن الحسن الصفّار ـ المتوفّى سنة 290 للهجرة ـ هو الشخص الثالث المتّهم بالقول بتحريف القرآن الكريم. لقد ألّف الصفّار كتاباً بعنوان: «بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد(عليهم‏‌‌السلام)»، وهو يشتمل على جميع فضائل الأئمّة المعصومين الأطهار(عليهم‏‌‌السلام). وقد جمع فيه كافّة الروايات الخاصّة بالأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) بشكل كامل؛ ومن هنا ربما أمكن القول بأنّه لا يوجد لهذا الكتاب مثيل في جامعيته لفضائل الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

لقد ذهب صاحب كتاب مواقف الرافضة إلى القول باعتبار محمّد بن الحسن الصفّار من القائلين بتحريف القرآن؛ وذلك لوجود باب في هذا الكتاب بعنوان: «باب في أنّ الأئمّة عندهم جميع القرآن الذي أنزل على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)»[91].

يقول صاحب كتاب موقف الرافضة إنّ هذه الروايات الواردة في هذا الباب تدلّ على تحريف القرآن الكريم. ونقل مثلاً هذه الرواية عن هذا الكتاب:

عن جابر عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أنّه جمع القرآن كلّه غير الأوصياء.

ولكن بعد الرجوع إلى كتاب بصائر الدرجات، ندرك أنّ هذه الرواية قد تمّ تقطيعها، حيث حذف جزء منها في كتاب موقف الرافضة. وهذا من أساليب بعض علماء أهل السنّة في مواجهة الإماميّة. والحال أنّ هذه الرواية منقولة في كتاب بصائر الدرجات على النحو الآتي:

حدّثنا محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن المنخل، عن جابر عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام)أنّه قال: ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّه جمع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء[92].

واضح أنّ صاحب موقف الرافضة قد أراد من وراء حذف عبارة «ظاهره وباطنه» إثبات التهمة على الإماميّة بالقول بتحريف القرآن الكريم.

إنّ ظاهر هذه الرواية يقول: إنّ العلم بباطن وظاهر القرآن ـ الأعمّ من التأويل، والتفسير، وبطون القرآن، والناسخ والمنسوخ، وما إلى ذلك ـ لا يمكن أن يعلمه شخص سوى وصيّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وهذا من المسلّمات عند الإماميّة.

الأمر الآخر أنّ هذه الرواية نفسها في سندها شخص اسمه «منخل»، وهو «منخل بن جميل الأسدي»، وقد ذهب أكثر علماء الرجال إلى تضعيفه[93]، وهناك منهم من ذهب إلى أبعد من ذلك واعتبره «فاسد العقيدة»[94]. ولكن حيث أنّ متن هذه الرواية يتّفق مع متون روايات اُخرى معتبرة، يكون صدورها عن الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) محرزاً.

ويجب التذكير بالنسبة إلى صاحب كتاب موقف الرافضة وأضرابه؛ أنّهم يكتفون بمجرّد رواية واحدة يجدونها في كتب الشيعة، ويعتبرونها دليلاً على اعتقاد الإماميّة بمضمونها. بمعنى أنّهم لا يقومون ـ مثل الإماميّة وعلى أساس مباني الشيعة ـ بدراسة الأحاديث؛ فعلى سبيل المثال: إنّهم لا يلتفتون إلى سند الرواية أبداً؛ هذا في حين أنّ علماء الإماميّة يعملون قبل كلّ شيء على مراجعة الكتب الرجالية لدى أهل السنّة، ويناقشون أسانيد الروايات المنقولة عن أهل السنّة.

وقد أشار صاحب كتاب موقف الرافضة إلى حديث ثالث مذكور في هذا الباب من كتاب بصائر الدرجات، وعلّق عليه بالقول:

وروى أيضاً بسنده عن سالم بن سلمة قال: قرأ رجل على أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام) وأنا أسمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرؤها النّاس فقال أبو عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام): مه مه، كُفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ النّاس حتّى يقوم القائم، فإذا قام فقرأ كتاب اللّه‏ على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي(عليه‏‌‌السلام)...[95].

والنقطة الهامّة في البين أنّ كبار علماء الرجال[96]، من أمثال: ابن الغضائري[97]، والنجاشي[98]، والعلاّمة[99]، والمجلسي[100]، قد ذهبوا إلى القول بتضعيف «سالم بن أبي سلمة»، ومن هنا لا يكون سند هذه الرواية معتبراً.

ومن ناحية اُخرى قد يكون المراد من عبارة: «وأنا أسمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأ النّاس»، هو حروف من تأويل وتفسير القرآن، وليس حروفاً من أصل القرآن؛ وذلك لأنّ الأئمّة المصومين(عليهم‏‌‌السلام) كانوا أنفسهم يثابرون على قراءة القرآن الكريم وتلاوته، ويحثّون النّاس على قراءة القرآن، وكانوا يتلون القرآن في بعض الأحيان بصوت مسموع، وكان الآخرون يسمعون قراءاتهم وتلاوتهم. وعلى هذا الأساس لو كان لديهم قرآن آخر، لوجب أن يثبت ذلك ويسجّل في التاريخ ولتمّ نقله إلينا. هذا في حين لم تنقل ولو رواية واحدة عن الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) تدلّ على الاختلاف بين القرآن الذي كانوا يقرأونه والقرآن الذي كان يقرأه سائر النّاس.

وقد يحدث في بعض الموارد أن يقرأ شخص القرآن عند الإمام(عليه‏‌‌السلام)، ويتلو الآيات على ما عنده من التأويلات والتفسيرات التي أمروا النّاس بكتمانها؛ ومن هنا يصدر الأمر له من الإمام(عليه‏‌‌السلام) بالكفّ عن تلك القراءة.

وعليه بعد ملاحظة هاتين الروايتين يتّضح لنا أنّ صاحب كتاب موقف الرافضة قد نقل عن كتاب محمّد بن الحسن الصفّار روايات لا تدلّ على تحريف القرآن. كما يشتمل كتاب الصفّار على روايات اُخرى أيضاً، ولم يُشر إليها هذا الكاتب، وهي بأجمعها تعاني من مشاكل في السند، مثل الحديث الثاني في هذا الباب:

حدّثنا أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام)يقول: ما من أحد من النّاس يقول: «إنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل اللّه‏»، إلاّ كذّاب، وما جمعه وما حفظه كما أنزل اللّه‏ إلاّ عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) والأئمّة من بعده[101].

وقد نقل ثقة الإسلام الكليني(رحمه‏‌‌الله) هذه الرواية في الكافي أيضاً[102]؛ ولكن بعد دراسة سند الحديث، نجد فيه عمرو بن أبي مقدام، ولعلماء الرجال بشأنه قولان مختلفان.

وعليه، لو سلّمنا أنّ سند الرواية معتبر، إلاّ أنّ أكثر إشكالات أهل السنّة على الإماميّة إنّما تدور حول مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وجواب كبار علماء الإماميّة عن هذا الإشكال واضح؛ إذ أنّ مصحف أمير المؤمنين يشتمل على الناسخ والمنسوخ، وتأويلات القرآن، وشأن نزول الآيات، على نحو ما أملاه رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) على الإمام علي(عليه‏‌‌السلام). وعليه فإنّ مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) إنّما هو إملاء كلام رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)في بيان وتفسير وتأويل الآيات، وليس كلام أمير المؤمنين علي(عليه‏‌‌السلام).

إنّ الإماميّة تدّعي وجود مثل هذا المصحف، كما أنّ الإماميّة يؤمنون بأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قد عرض هذا المصحف على النّاس، إلاّ أنّ الخليفة الأوّل والخليفة الثاني رفضاه، وكان من الطبيعي أن يرفضاه؛ إذ مع وجود شأن النزول وخصائص الآيات لا يبقى هناك مجال لخلافتهما. ومن هنا فإنّهم من أجل كتمان خصائص الدين الإسلامي الحنيف وطمس معالمه عمدوا إلى تعريف مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)بوصفه قرآناً محرّفاً، وإلاّ فإنّ رواية الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) التي يقول فيها: «ما ادّعى أحد من النّاس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل... إلاّ عليّ بن أبي طالب»، تعني أنّه لم يكن هناك شخص غير أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، قد أثبت خصائص الآيات التي أشار إليها رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). وعليه فإنّ عدم إدراكهم الصحيح للآيات والروايات هو الإشكال الرئيس الوارد عليهم.

اعتبار كتاب بصائر الدرجات

ورد في سند كتاب بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار، شخص اسمه «أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار»، ولم يرد فيه توثيق من قبل علماء الرجال، ولكن هناك من قال باعتباره مكتفياً بكونه من شيوخ الإجازة. إلاّ أنّ السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)لا يرتضي ذلك، ومن هنا فإنّه يتردّد في اعتبار كتاب بصار الدرجات[103].

وبطبيعة الحال فقد تمّ إثبات توثيق «أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار» في محلّه[104]، وإنّ الكتاب المذكور بدوره معتبر أيضاً، إلاّ أنّ هذا التوثيق لا يكون سبباً في اعتبار جميع روايات كتاب البصائر، ويجب البحث في سند كلّ رواية من روايات هذا الكتاب بشكل مستقل.

4 . فرات الكوفي

«فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي» من أعلام القرن الثالث للهجرة، ومن أصحاب الإمام الرضا، والإمام الجواد، والإمام الهادي(عليهم‏‌‌السلام). له كتاب قيّم جدّاً في التفسير، وأكثر الروايات التي يذكرها تشتمل على ذكر الآيات النازلة في فضائل أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) والأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

وقد ذهب صاحب كتاب موقف الرافضة إلى اتّهامه بالقول بوقوع التحريف في القرآن أيضاً[105]؛ وذلك لأنّه روى في تفسير قوله تعالى: «إِنَّ اللّه‏َ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ»[106]، الرواية الآتية:

فرات، قال: حدّثني جعفر بن محمّد الفزاري مُعنعناً عن حمران، قال: سمعت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) يقرأ هذه الآية «إِنَّ اللّه‏َ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ». قلت ليس يقرأ هكذا [كذا]، قال [فقال]: أدخل حرف مكان حرف.

يرى صاحب موقف الرافضة أنّ هذه الرواية من مختلقات الإماميّة، وقال بأنّ الإماميّة قد اختلقوا هذه الرواية ليتّهموا أصحاب النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بتحريف القرآن.

ثمّ ذكر بعد ذلك رواية اُخرى عن فرات الكوفي تقول:

فرات، قال: حدّثنا عليّ بن عتاب مُعنعناً عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام)، قال: لو أنّ الجهّال من هذه الاُمّة يعرفون متى سمّي أمير المؤمنين لم ينكروا أنّ اللّه‏ تبارك وتعالى حين أخذ ميثاق ذرّية آدم، وذلك فيما أنزل اللّه‏ على محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)في كتابه، قال اللّه‏، فنزل به جبرئيل كما قرأناه يا جابر، ألم تسمع اللّه‏ يقول في كتابه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»وإنّ محمّداً رسول اللّه‏ وإنّ عليّاً أمير المؤمنين، فو اللّه‏ لسمّاه اللّه‏ تعالى أمير المؤمنين في الأظلّة حيث أخذ ميثاق ذرّية آدم[107].

وبعد نقل صاحب موقف الرافضة لهذه الرواية، علّق عليها قائلاً:

فهذه الآية كسابقتها قد أدخلوا فيها من خرافتهم؛ فإنّ الآية كما هي في المصحف العثماني ليست فيها جملة «وأنّ محمّداً عبدي ورسولي وأنّ عليّاً أمير المؤمنين»؛ فهو من زيادة الرافضة واختلاقهم الكذب على اللّه‏ سبحانه وتعالى في سبيل خدمة أغراضهم الفاسدة من غير حياء، كما هو واضح من قوله هذا: إنّ اللّه‏ تعالى هو الذي سمّى عليّ بن أبي طالب رضي اللّه‏ عنه بأمير المؤمنين، مع أنّ الثابت والمعروف لدى جميع المسلمين أنّ أوّل من لقّب بهذا اللقب هو عمر بن الخطّاب، وهذا مجمع عليه بين المسلمين ولم يخالف في ذلك إلاّ متعصّب مكابر عن الحقّ[108].

إلاّ أنّ هذا الكاتب غير المطّلع أو المغرض لم يلتفت إلى أنّ هذا القسم من الرواية إنّما هو في الواقع تفسير وتأويل للقرآن، ولم يرد بوصفه جزءاً من الآية.

ومن ناحية اُخرى، حتّى لو سلّمنا بأنّ تلقيب «عمر بن الخطّاب» بأمير المؤمنين كان أمراً مجمعاً عليه من قبل المسلمين[109]، إلاّ أنّ هذا لا يتنافى مع القول بأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد لقّب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) بهذا اللقب في عالم الذرّ وقبل خلق الإنسان، والبحث في هذا الشأن موكول إلى محلّه.

5 ـ محمّد بن مسعود العيّاشي

ثمّ قام مؤلّف كتاب موقف الرافضة بعد ذلك بإعمال مبضع اتّهامه على أبي النضر محمّد بن مسعود العيّاشي؛ حيث يتّهمه هو الآخر بالقول بتحريف القرآن الكريم أيضاً.

العيّاشي من وجهة نظر علماء الرجال

يذهب علماء الرجال إلى القول بوثاقة محمّد بن مسعود بن عيّاش السلمي السمرقندي، المكنّى بـ «أبي النضر» والمعروف بـ «العيّاشي».

قال النجاشي(رحمه‏‌‌الله) بشأنه:

محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي أبو النضر المعروف بالعيّاشي، ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة، وكان يروي عن الضعفاء كثيراً. وكان في أوّل أمره عامّي المذهب، وسمع حديث العامّة، فأكثر منه ثمّ تبصّر وعاد إلينا، وكان حديث السنّ[110].

لقد عمد النجاشي(رحمه‏‌‌الله) إلى توثيق العيّاشي(رحمه‏‌‌الله)، وأشار إلى تسنّنه في مقتبل العمر واستبصاره في شبابه. إنّ للعياشي الكثير من المؤلّفات، وقد بلغ عدد كتبه إلى أكثر من مئتي كتاب. ومن بينها كتاب «تفسير العيّاشي»[111] هناك الكثير من الخصائص المنقولة في كتب الرجال حول هذا الكتاب، وفيما يلي نشير إلى نقطتين في هذا الشأن:

1 . إنّ الروايات الموجودة في هذا التفسير، من المراسيل.

2 . في طرق إسناد كبار العلماء من أمثال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) والشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)إلى العيّاشي(رحمه‏‌‌الله) بعض الضعاف؛ من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّ في طريق الشيخ(رحمه‏‌‌الله)إليه، أبا المفضّل وجعفر بن محمّد بن مسعود، وهما ضعيفان[112].

وعليه فإنّ كتابه في التفسير غير معتمد من قبل علماء الإماميّة.

وقد نقل صاحب كتاب موقف الرافضة روايات عن تفسير العيّاشي تدلّ على اعتقاد العيّاشي والإماميّة بتحريف القرآن، وفيما يلي نناقش هذه الروايات.

مناقشة الروايات الدالّة على التحريف في تفسير العيّاشي

قال صاحب كتاب موقف الرافضة بشأن شخص العيّاشي ما يلي:

فهو أيضاً من الذين أكثروا روايات تحريف القرآن فى مؤلّفاتهم، فإنّه قد شحن كتابه التفسير بتلك الروايات المنسوبة إلى أئمّتهم والتي تدلّ على ضياع كثير من القرآن، وعلى زيادة الكلمات فيه.

ثمّ قام بنقل روايات عن كتاب تفسير العيّاشي، ومن بينها ما يلي:

ومن ذلك: عن إبراهيم بن عمر، قال: قال أبو عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام): إنّ في القرآن ما مضى وما يحدث وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فألقيت، وإنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا يحصى؛ يعرف ذلك الوصاة[113].

ويجدر بنا ذكر بعض النقاط بشأن هذه الرواية:

النقطة الاُولى: فيما يتعلّق بتوثيق إبراهيم بن عمر ـ وهو الراوي لهذه الرواية ـ هناك اختلاف بين علماء الرجال؛ فهناك من وثّقه، وهناك من لم يوثّقه[114].

النقطة الثانية: إنّ المراد من أسماء الأشخاص الذين وردت الإشارة إليهم في هذه الرواية، هم الأشخاص الذين ورد ذكر أسمائهم في مصحف الإمام علي(عليه‏‌‌السلام)، وإنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قد أشار إليها بوصفها تأويلاً وتفسيراً؛ من قبيل الرواية القائلة: «يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك في علي»، إذ أنّ «في علي» ليست جزءاً من القرآن، وإنّما هو تفسير وشأن نزول الآية؛ إلاّ أنّ هذا الشخص ـ أي: صاحب كتاب موقف الرافضة ـ فهم من رواية تفسير العيّاشي أنّها أسماء كانت في القرآن الكريم، ثمّ حذفت منه.

كما سبق أن ذكرنا في الأبحاث السابقة فإنّ جهل بعض علماء أهل السنّة قد أدّى بهم إلى عدم فهم روايات الشيعة بشكل صحيح. ومن هنا فإنّ بعض علماء السنّة دون أن يتعرّفوا على مباني الشيعة أو لغاية في نفوسهم، يذهبون إلى مناقشة هذه الروايات بما يتطابق مع رؤيتهم، ويصلون بذلك إلى نتائج مبيّتة.

ثمّ نقل صاحب كتاب موقف الرافضة رواية اُخرى من كتاب العيّاشي:

عن ميسر، عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) قال: لولا أنّه زيد في كتاب اللّه‏ ونقص منه ما خفى حقنا على ذي حجى، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن[115].

فمن ناحية إنّ الجزء الثاني من هذه الرواية، الوارد بشأن الإمام القائم(عج)، مورد قبول وإجماع علماء الشيعة، ومن ناحية اُخرى يذهب الإماميّة إلى عدم إضافة أو حذف «واو» من القرآن الكريم؛ ومن هنا فإنّ الروايات التي هي من قبيل هذه الرواية الواردة في بعض الكتب، يجب إخضاعها للضوابط المذكورة من قبل علماء الإماميّة؛ ببيان أنّ الرواية إذا كانت مخالفة للقرآن وسنة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)والإجماع أو العقل، يجب الإعراض عنها، حتّى إذا كان سندها معتبراً، وكان جزء منها مورد تأييد الإماميّة أيضاً.

وهذه الرواية تدلّ من جهة على نقصان القرآن الكريم، كما أنّها على خلاف إجماع الإماميّة من جهة اُخرى، وبذلك تكون ساقطة عن الاعتبار.

لقد عمد السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في كتاب البيان ـ بعد ذكر الروايات الدالّة على حذف أسماء الرجال في القرآن ـ إلى نقل رواية معتبرة وصحيحة عن الكافي، وردّ بها جميع تلك الروايات، وهذه الرواية كالآتي:

عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس وعليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد أبي سعيد، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)عن قول اللّه‏ عزّ وجلّ: «أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ»فقال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين عليهماالسلام : فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته(عليهم‏‌‌السلام) في كتاب اللّه‏ عزّ وجلّ؟ قال: فقال: قولوا لهم: إنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ اللّه‏ لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتّى كان رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو الذي فسّر ذلك لهم[116].

إنّ هذه الرواية معتبرة وصحيحة، وتدلّ على أنّ أسماء أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام)وأمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، لم ترد في القرآن الكريم، وبالتالي فإنّ هذه الرواية تتعارض مع الروايات الدالّة على حذف أسمائهم من القرآن، كما أنّها ـ من ناحية اُخرى ـ تدلّ على أنّ الكثير من المعارف القرآنية، إبتداءً من التأويل والتفسير وصولاً إلى معرفة الناسخ والمنسوخ وبطون الآيات، موجودة عند رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وإنّه أمر بإبلاغ هذه المعارف، وهي المعارف المجموعة ـ طبقاً لعقيدة الإماميّة ـ في مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام).

ومن ناحية اُخرى على فرض صحّة هذه الرواية، فإنّ المراد من عبارة: «زيد أو نقص» هو الزيادة والنقصان في التأويل والتفسير، وليس في ألفاظ القرآن الكريم؛ بمعنى أنّه بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) ـ ولا سيّما في عصر بني اُميّة ـ تمّ اختلاق أسباب نزول وتفاسير وتأويلات كاذبة لآيات القرآن الكريم من قبل أعداء الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، وتمّ إخفاء أسباب النزول والتأويلات والتفاسير الحقيقيّة للقرآن. وهذا في الحقيقة إنّما هو من التحريف المعنوي للقرآن الكريم وليس من التحريف اللفظي للقرآن، وهذا النوع من التحريف المعنوي واقع بإجماع كافّة علماء الإسلام.

وقد حدث الكثير من هذه التحريفات في التاريخ، ومن ذلك على سبيل المثال أنّ معاوية في فترة حكمه كان يدفع الأموال الطائلة للمرتزقة الذين يختلقون الأحاديث في النيل من أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وكان يأمرهم بحرف الآيات النازلة في حقّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، ونسبتها إلى ابن ملجم المرادي[117].

6 . عليّ بن إبراهيم

إنّ عليّ بن إبراهيم(رحمه‏‌‌الله) هو الآخر من المتّهمين بالقول بتحريف القرآن. وهو شيخ واُستاذ ثقة الإسلام الكليني(قدس‏‌‌سره)، وإنّ الكليني قد روى أكثر من ثمانين بالمئة من رواياته عن عليّ بن إبراهيم. كما أنّ تفسير عليّ بن إبراهيم من التفاسير المشهورة أيضاً. قال عنه صاحب كتاب «موقف الرافضة»:

وهو أيضاً من أبرز القائلين بتحريف القرآن، ومن المكثّرين فيه حيث ملأ تفسيره بالروايات الصريحة في ذلك، كما صرّح هو نفسه بذلك في مواضع من تفسيره، فقد جاء في مقدّمة تفسيره من قوله: فالقرآن منه ناسخ ومنه منسوخ إلى قوله: ومنه حرف مكان حرف ومنه على خلاف ما أنزل اللّه‏[118].

وقال مؤلّف هذا الكتاب في موضع آخر:

ثمّ شرع في تفصيل ذلك فقال: «وأمّا ما هو كان على خلاف ما أنزل اللّه‏ فهو قوله «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه‏ِ»فقال أبو عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) لقاري هذه الآية «خير اُمّة» يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين بن علي؟ فقيل له: وكيف نزلت يا ابن رسول اللّه‏؟ فقال: إنّما نزلت «كنتم خير أئمّة اُخرجت للناس» ألا ترى مدح اللّه‏ لهم في آخر الآية «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه‏ِ»[119].

يجب القول بأنّ هذه الرواية تعاني من الإشكال ـ سواء من حيث السند أو من حيث المتن ـ ناهيك عن أنّ كتاب عليّ بن إبراهيم نفسه موضع تردّد وتأمّل.

ومن ناحية اُخرى يمكن القول: إنّ هذه الرواية هي الاُخرى بصدد تفسير القرآن، بمعنى أنّ المراد من «الاُمّة» في هذه الآية هم الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، كما ورد ذلك بشأن النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) في آية اُخرى؛ إذ يقول تعالى: «إِنَّ اِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للّه‏ِِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ»[120].

ثمّ نقل مؤلّف كتاب «موقف الرافضة» بعد ذلك كلاماً للشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله)، في تأييد هذا الرأي، حيث قال:

وقال النوري الطبرسي عن مذهبه: وهو مذهب الشيخ الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي شيخ الكليني، في تفسيره صرّح بذلك في أوّله وملأ كتابه من أخباره، مع التزامه في أوّله بأن لا يذكر فيه إلاّ ما رواه مشايخه وثقاته[121].

يجب القول في هذا الشأن: إنّ الشيخ النوري ـ للأسف الشديد ـ هو الآخر لم يدرك مضمون هذه الروايات بشكل صحيح، ومن هنا فقد ارتكب مثل هذا الخطأ الفادح.

7 . الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله)

ثمّ استطرد كاتب «موقف الرافضة» في كلامه، ليتّهم الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله)بالقول بتحريف القرآن الكريم أيضاً، وقال في هذا الشأن:

وهو من أكابر الذين تولّوا هذا القول وتزعموه حيث ملأ كتابه الكافي الذي هو أصحّ الكتب عندهم على الإطلاق والمعتمد عندهم في أمور دينهم بروايات كثيرة دالّة على تحريف القرآن الكريم بحيث لا تقبل أيّ تأويل، فقد جائت تلك الروايات في مواضع كثيرة من كتابه، أذكر بعضها هنا وأترك البعض الآخر لحينه.

إنّ خصوم الشيعة يبدون حساسية كبيرة تجاه روايات التحريف المذكورة في كتاب الكافي؛ لأنّ بعض علماء الأخبارية ـ كما أشار الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «فرائد الأصول»[122] ـ يرون أنّ الكتب الأربعة قطعية الصدور.

وفي هذا السياق ذهب السيّد المجاهد(رحمه‏‌‌الله) إلى الاعتقاد، قائلاً: «دعوى قطعية ما في الكتب الأربعة ممّا لا ريب في فسادها»[123].

وقد ذهب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إلى القول ببطلان الرأي القائل بقطعية صدور جميع روايات الكتب الأربعة؛ لأنّ الرواية التي يسمعها شخص من آخر، وهذا الآخر ينقلها بدوره عن شخص آخر، لا يمكن أن تكون قطعيّة الصدور. علاوة على أنّ بعض رواة الكتب الأربعة معروفون بالكذب والوضع وقد اختلقوا بعض الروايات أيضاً[124].

وفي المقابل قام أهل السنّة بوسم عدد من مصادرهم بـ «الصحاح». وهذا العنوان إنّما يصحّ استعماله فيما لو صحّت جميع المسائل الموجودة في ذلك الكتاب؛ في حين أنّ صحاح أهل السنّة، من قبيل: صحيح البخاري، وصحيح مسلم ونظائرهما، تشتمل على روايات تدلّ على تجسيم اللّه‏ سبحانه وتعالى، وبطلان وفساد هذه المسألة واضح من الناحية الشرعيّة والعقليّة.

لا بدّ من الالتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ العلماء والفقهاء من الإماميّة لا يقولون بقطعية صدور الكتب الأربعة؛ ولذلك فإنّهم يرون دراسة سند الرواية قبل كلّ شيء، وفي المرحلة اللاحقة يصيرون إلى تحليل دلالة الرواية. بمعنى أنّ الرواية يجب أن لا تكون مخالفة للقرآن الكريم، أو المعلوم من ضرورة الدين وسنة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)والإجماع. وعليه لو خالفت الرواية واحداً من هذه الاُمور وجب نبذها وعدم التمسّك بها؛ حتّى إذا لم تكن الرواية تعاني مشكلة من الناحية السندية.

يذهب صاحب موقف الرافضة إلى اتّهام الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله) بأنّه قد شحن كتاب الكافي بروايات التحريف. هذا في حين أنّ الروايات الواردة بشأن تحريف القرآن في كتاب الكافي بأجمعه لا تزيد على مأة رواية، مع أنّ مجموع روايات الكافي تبلغ حوالي 16199 رواية.

الأمر الآخر أنّ صاحب كتاب موقف الرافضة يقول إنّ كتاب الكافي أصحّ الكتب عند الشيعة؛ في حين أنّ الشيعة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ لا يعتبرون جميع ما ورد في الكتب الأربعة قطعيّ الصدور؛ ومن هنا فإنّ الروايات الموجودة في هذا الكتب يتمّ تقسيمها ـ بحسب الموازين المندرجة في علم الدراية ـ إلى: الصحيح، والحسن، والثقة، والضعيف. وعليه من الضروري طبقاً لذلك أن نرى تحت أيّ قسم من هذه الأقسام تندرج الروايات الدالّة على التحريف.

يرى صاحب الحدائق الناضرة(رحمه‏‌‌الله) أنّ أوّل من قسّم الروايات والأخبار إلى أربعة أقسام: (الصحيح، والحسن، والثقة، والضعيف) هو العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله)، أو اُستاذه السيّد بن طاووس(رحمه‏‌‌الله)؛ وأمّا العلماء المتقدّمون فقد كانوا يعملون بجميع روايات الكتب الأربعة، بل ويجب القول: إنّ هذا كان هو ديدنهم في التعامل مع جميع الكتب والمصادر.

قال المحقّق البحراني(رحمه‏‌‌الله) ـ صاحب الحدائق الناضرة ـ في هذا الشأن:

قد صرّح جملة من أصحابنا المتأخّرين بأنّ الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلاّمة، أو شيخه جمال الدين بن طاوس، نوّر اللّه‏ تعالى مرقديهما[125].

إنّ هذا الكلام من صاحب الحدائق(رحمه‏‌‌الله) غير صحيح؛ إذ بعد الرجوع إلى كلمات المتقدّمين، نجد تعابيرهم على خلاف رأيه؛ من قبيل: التعبير المعروف للكشّي؛ إذ يقول: «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة»، أو العبارة الاُخرى التي نجدها في كلمات بعض المتقدّمين، مثل: «فلان ضعيف الحديث». كما قام أهل قم بطرد أمثال «أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري» بسبب نشر الأحاديث الضعيفة بينهم. وعليه فإنّ تقسيم الحديث إلى صحيح وضعيف كان شائعاً حتّى بين المتقدّمين أيضاً، وإن لم يكن عنوان «الموثّق» أو «الحسن» متداولاً بينهم.

وعليه فليس كلّ ما ورد في كتاب الكافي من الروايات يعدّ صحيح السند ويمكن الاعتماد عليه، ومن هنا فقد ذهب العلماء ـ من المتقدّمين والمتأخّرين ـ إلى تضعيف بعض روايات الكتب الأربعة.

وعليه فإنّ النتيجة هي أنّ الجزء الأوّل من كلام صاحب «الحدائق الناضرة»(رحمه‏‌‌الله)، غير تامّ، ولا يمكن قبوله.

ثمّ استطرد صاحب كتاب «موقف الرافضة» في الإشارة إلى الروايات الواردة في باب «إنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) وأنّهم يعلمون علمه كلّه»، وعمد إلى استعراض بعضها.

ومن بينها الرواية أدناه، والتي تمّ تناولها في الأبحاث السابقة أيضاً:

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) يقول: ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله اللّه‏ تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) والأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) من بعده[126].

كما سبق أن أشرنا مراراً إلى أنّ المراد من «كلّ القرآن» في هذه الرواية، هو التفسير والتأويل، وشأن النزول، ومعرفة الناسخ من المنسوخ، والعلوم الخاصّة بالقرآن الكريم.

وإنّ العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) له حاشية على كتاب الكافي، وقد ذكر في تحشيته على الحديث الثاني من هذا الباب، قائلاً:

قوله(عليه‏‌‌السلام) «أنّ عنده القرآن كلّه الخ» الجملة وإن كانت ظاهرة في لفظ القرآن ومشعره بوقوع التحريف فيه، لكن تقييدها بقوله: «ظاهره وباطنه» يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي، وكذا قوله في الرواية السابقة: «وما جمعه وحفظه» إلخ حيث قيّد الجمع بالحفظ، فافهم...[127].

يذهب العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) إلى القول بأنّه حيث تمّ تقييد جمع القرآن بـ «الحفظ»، يتّضح أنّ المراد من «الجمع» هو جمع المعاني الباطنيّة للقرآن الكريم، وليس جمع الألفاظ والمعاني الظاهريّة للقرآن الكريم فقط.

آيات القرآن الكريم الدالّة على عدم تحريفه

قبل بيان ومناقشة أدلّة استحالة تحريف القرآن، لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الذي يحتاج إلى دليل هو إثبات التحريف دون إثبات عدم التحريف؛ إذ الأصل على عدم تحريف القرآن الكريم. ومع ذلك فقد تبرّع عدد من المحقّقين والعلماء الكبار ببيان بعض الأدلّة لإثبات عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم. فإنّهم بالإضافة إلى إنكارهم وقوع التحريف في القرآن، يسعون إلى إثبات أنّ البشر لا يمتلكون القدرة على تحريف القرآن الكريم، وإنّ تحريف القرآن غير ممكن من الناحية العملية؛ والمراد من الإمكان هنا ـ بطبيعة الحال ـ هو الإمكان الوقوعي دون الإمكان العقلي.

أجل، يمكن القول: حيث وقع التحريف في جميع الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم، فإنّه إذا لم يكن التحريف بالنسبة إلى القرآن الكريم ممكناً، وجب إثبات ذلك بالدليل. ومن هذه الناحية هناك في القرآن الكريم نفسه آيات تدلّ على عدم تحريفه.

1. الآية التاسعة من سورة الحجر

لقد استدلّ القائلون بعدم تحريف القرآن، بعدد من الآيات على نفي التحريف، وإنّ أوّل وأهمّ هذه الآيات هي الآية التاسعة من سورة الحجر؛ إذ يقول تعالى:

«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[128].

يتّضح من خلال الرجوع إلى الآيات السابقة على هذه الآية أنّ الكفّار والمشركين كانوا ينسبون النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إلى الجنون؛ للسخرية والاستهزاء به وإيذائه، وكانوا يقولون له: لماذا لم ينزّل اللّه‏ هذا الكتاب علينا بواسطة الملائكة، ولو أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّاً، فلماذا يجب أن يأتي به إنسان ويتلوه علينا؟ وكان المشركون يدّعون أنّ القرآن لو جاء به الملائكة لآمنوا به، فردّ القرآن على ادّعائهم هذا بالقول:

«وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ اِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ»[129].

وبعد أن ذكر اللّه‏ ادّعاء المشركين والكافرين، ردّ عليهم في الجواب قائلاً: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ».

بمعنى أنّ اللّه‏ يقول في الحقيقة: إنّنا نحن الذين أنزلنا القرآن ـ وإنّ هذا الكتاب لا شأن للنبيّ والملائكة به ـ ونحن نتكفل بحفظه.

رأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)

قال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في تفسير هذه الآية:

صدر الآية مسوق سوق الحصر، وظاهر السياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذكر، من ردّهم القرآن بأنّه من أهذار الجنون وإنّه(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)‏وسلممجنون لا عبرة بما صنع ولا حجر، ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته، وإنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ. والمعنى ـ على هذا واللّه‏ أعلم ـ أنّ هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك، حتّى يعجزوك ويبطلوه بعنادهم، وشدّة بطشهم، وتتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر، وليس نازلاً من عند الملائكة حتّى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إيّاه، بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالاً تدريجيّا وإنّا له لحافظون، بما له من صفة الذكر، بما لنا من العناية الكاملة به[130].

وكما أشار العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، لقد تمّ الاهتمام في هذه الآيات بنقطة دقيقة، وهي أنّ اللّه‏ تعالى يقول لنبيّه: إنّك لم تأت بهذا القرآن من عندك، كيما يعجزك هؤلاء الكفّار، أو يبطلوه بعنادهم وعدوانهم. وعليه فإنّه لا يسعهم إبطاله حتّى تتكلّف في حفظه، بل إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى هو الذي تكفل بحفظ كتابه، وسوف يحافظ عليه. وعلى هذا الأساس واستناداً إلى هذه الآية الشريفة، ليست هناك نقطة من القرآن إلاّ وهي من عند اللّه‏.

ثمّ استطرد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، يقول:

فهو ذكر حيّ خالد مصون من أن يموت وينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكراً، مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكراً للّه‏ مبيّناً لحقائق معارفه. فالآية تدلّ على كون كتاب اللّه‏ محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه، من جهة كونه ذكراً للّه‏ سبحانه، فهو ذكر حيّ خالد[131].

والإشكال الذي يمكن أن يرد على كلام العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، هو أنّ الكتب السماوية السابقة بدورها كانت ذكراً، بيد أنّها مع ذلك تعرّضت للتحريف بصريح القرآن الكريم؟!

وقد عمد سماحته من أجل رفع هذا الإشكال ـ بعد أن اعتبر كون القرآن الكريم ذكراً، دليلاً على عدم التحريف ـ قائلاً:

وقد ظهر بما تقدّم أنّ اللاّم في الذكر للعهد الذكرى، وأنّ المراد بالوصف «لحافظون» هو الاستقبال، كما هو الظاهر من اسم الفاعل، فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر لدلّت على نفيه من التوراة والإنجيل أيضاً؛ لأنّ كلاًّ منهما ذكر، مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما. وذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، ولا دلالة فيها على علّية الذكر للحفظ الإلهي، ودوران الحكم مداره.

إنّ العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) لا يرى في كون القرآن الكريم ذكراً ملاكاً تامّاً في صيانته من التحريف، وإنّما كونه ذكراً يمثّل علّة ناقصة، والجزء الآخر من العلّة يتمثّل في استمرارية القرآن الكريم؛ بمعنى: بقاء القرآن ذكراً إلى يوم القيامة.

الانتقادات الواردة على دلالة الآية التاسعة من سورة الحجر

النقد الأوّل: المراد من الذكر هو النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وليس القرآن

قيل: إنّه قد يقال: إنّ المراد من الذكر في هذه الآية المباركة هو شخص النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وليس القرآن الكريم؛ إذ هناك الكثير من الموارد القرآنية التي تمّ التعبير فيها عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالذكر؛ من قبيل قوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللّه‏ُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللّه‏ِ»[132].

إنّ لفظ «رسولاً» في هذه الآية بدل من «ذكراً». ولذلك يوجد هناك احتمال أن يكون المراد من «الذكر» في الآية التاسعة من سورة الحجر، هو «الرسول» أيضاً. وقد كان الكفّار والمشركون يقولون للنبيّ الأعظم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): «اِنَّكَ لَمَجْنُون»[133]، وكان اللّه‏ يقول في المقابل: «إنّا نحن أرسلناك، وسوف نتكفّل بحفظك».

الجواب عن النقد الأوّل

على الرغم من احتمال أن يكون المراد من «الذكر» في الآيات الاُخرى هو «الرسول»، إلاّ أنّ كلمة «نزّلنا» ـ في هذه الآية الشريفة ـ لا تتناسب مع «الرسول»؛ وذلك لأنّ الإنزال والتنزيل إنّما يرتبط بالكتب السماوية، ومن الممكن بطبيعة الحال أن يشمل الملائكة أيضاً. والقرينة الاُخرى أنّ المراد من الذكر حتّى في سورة الطلاق هو القرآن أيضاً. وعليه فإنّ كلمة «رسولاً» في هذه الآية ليست بدلاً من «ذكراً» بل إنّ هاتين آيتان؛ بمعنى أنّ علماء التفسير يرون أنّ كلمة «رسولاً» إمّا منسوبة إلى فعل محذوف والتقدير «أرسل رسولاً»، أو هو مفعول لـ «ذكراً»؛ يضاف إلى ذلك أنّ الآيات السابقة في سورة الحجرات قرينة على أنّ المراد من «الذكر» هو القرآن؛ إذ يقول تعالى: «وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ».

وعليه فإنّ الذكر ليس بمعنى الرسول، وإنّ «الألف واللام» في كلمة «الذكر» إنّما هي للعهد الذكري، وبمعنى القرآن.

رأي الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) بشأن آية «الذكر»

يذهب الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) إلى الاعتقاد بعدم امكان التمسّك بالآية التاسعة من سورة الحجر لإثبات عدم تحريف القرآن؛ وذلك لأنّ هذه الآية من الآيات المتشابهة. وقال في هذا الشأن:

وقد أجمع الاُمّة على عدم جواز التمسّك بمتشابهات القرآن إلاّ بعد ورود النصّ الصريح في بيان المراد منها، ولا شكّ أنّ المشترك اللفظي إذا لم يكن معه قرينة تعيّن بعض أفراده، والمعنوي إذا علم عدم إرادة القدر المشترك منها بل اُريد منه أحد أفراده ولم يقترن بما يعيّنه، من أقسام المتشابهات[134].

الجواب عن استدلال الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)

هناك في مورد البحث ـ كما أشار سماحة الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) ـ قرينة تدلّ على أنّ المراد من «الذكر» هو القرآن الكريم؛ ولذلك فإنّ هذه الكلمة لا تتناسب مع «الرسول». وإنّ القرينة المذكورة في الآية كلمة «نزّل»؛ إذ ورد في الآيتين السابقتين على هذه الآية، قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ».

وقال سماحته في نقد كلام المحدّث النوري(رحمه‏‌‌الله):

والعجب منه مع كونه محدّثاً مشهوراً وذا عناية بالروايات المأثورة عن العترة الطاهرة عليهم آلاف الثناء والتحيّة ولو كانت رواتها كذّابين وضّاعين، كيف نقل آية الحفظ هكذا إنّا أنزلنا الذكر؟[135].

إنّ المحدّث النوري(رحمه‏‌‌الله) في كتاب فصل الخطاب فيما يتعلّق بالآية التاسعة من سورة الحجر أخطأ في ضبط قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ»، وقال بدلاً من ذلك «إنّا أنزلنا الذكر». كما أخطأ في ضبط آية الطلاق، فبدلاً من قوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللّه‏ُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللّه‏ِ»[136]، قال: «إنّا أنزلنا إليكم ذكراً رسولاً».

النقد الثاني: وجود احتمالات اُخرى في الآية

هناك احتمالان آخران بشأن هذه الآية الكريمة، وهما:

1 . قد لا يكون المراد من «حافظون» هو حفظ القرآن، بل المراد من حافظون هنا هو «عالمون»، وهذا هو الاحتمال الذي ذكره الميرزا القمي(رحمه‏‌‌الله)[137].

2 . لو سلّمنا أنّ معنى «الحفظ» في هذه الآية هو الحفظ والصيانة، إلاّ أنّ المراد هنا ليس هي الصيانة والحفظ من التغيير والتبديل؛ بل المراد هو الحفظ والصيانة من القدح؛ بمعنى أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول: حيث يشتمل القرآن الكريم على معاني عالية ومطالب سامية، فإنّنا سوف نعمل على حفظ وصيانة عظمة القرآن، ولن نسمح بالقدح والمساس بالمطالب والمعاني الشامخة والسامية للقرآن. ومن الواضح أنّ «الحفظ» بهذا المعنى، لا يدلّ على عدم تحريف القرآن.

وعليه ينتج من ذلك خلاصة مفادها: أنّ هناك ثلاثة احتمالات بشأن كلمة «حافظون» والمعنى المراد منها في هذه الآية، وهي:

1 . إنّ المراد من الحفظ هو الصيانة من التغيير والتبديل، وبناءً على هذا الاحتمال تدلّ هذه الآية على عدم تحريف القرآن الكريم.

2 . إنّ المراد من الحفظ هو العلم. وفي هذه الحالة لا تدلّ الآية على عدم تحريف القرآن الكريم.

3 . أن يكون المراد من الحفظ هو الحفاظ على القرآن من القدح، وفي هذه الحال لا تكون في الآية دلالة على عدم تحريف القرآن الكريم.

ولكي نثبت دلالة الآية على عدم التحريف، يتعيّن علينا إبطال الاحتمالين الثاني والثالث في المراد من معنى الحفظ.

وبالنسبة إلى الاحتمال الثاني ـ الذي ذكره الميرزا القمّي(رحمه‏‌‌الله) حيث فسّر عبارة «حافظون» بـ «عالمون» ـ قال سماحة الوالد المحقّق آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره)في الردّ عليه:

أمّا الجواب عن الاحتمال الأوّل الذي ذكره المحقّق القمّي(رحمه‏‌‌الله)فهو وضوح عدم كون الحفظ لغة وعرفاً بمعنى العلم. فإنّ المراد منه هو الصيانة وأين هو من العلم بمعنى الإدراك والإطلاع؟ ومجرّد الإحتمال إنّما يقدح في الاستدلال إذا كان احتمالاً عقلائيّاً منافياً لانعقاد الظهور للفظ ومن الواضح عدم ثبوت هذا النحو من الاحتمال فى المقام[138].

وأمّا الاحتمال الثالث فقد ذكره السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، وقال في الجواب عنه بنفسه:

وهذا الاحتمال أبين فساداً من الأوّل: لأنّ صيانته عن القدح إن اُريد بها حفظه من قدح الكفّار والمعاندين فلا ريب في بطلان ذلك، لأنّ قدح هؤلاء في القرآن فوق حدّ الإحصاء. وإن اُريد أنّ القرآن رصين المعاني، قويّ الاستدلال مستقيم الطريقة، وأنّه لهذه الجهات ونحوها أرفع مقاماً من أن يصل إليه قدح القادحين، وريب المرتابين فهو صحيح، ولكن هذا ليس من الحفظ بعد التنزيل كما تقوله الآية، لأنّ القرآن بما له من الميزات حافظ لنفسه، وليس محتاجاً إلى حافظ آخر، وهو غير مفاد الآية الكريمة، لأنّها تضمّنت حفظه بعد التنزيل[139].

إنّ الكفار والمعاندين كانوا يقدحون في القرآن الكريم ويطعنون فيه، سواء في عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وبعد رحيله، ولا يزال هذا القدح والطعن مستمرّاً إلى يومنا هذا. إذن لا يمكن القول بأنّ المراد من حفظ القرآن الكريم من القدح هو عدم القدح فيه بعد التنزيل؛ إذ أنّ هذا القدح حاصل يقيناً. وأمّا إذا كان المراد من حفظ القرآن من القدح حفظ معانيه وحقيقته، فقد كانت هذه الحقيقة موجودة مع نزول القرآن على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أيضاً، وهذه الآية تقول إنّنا نحفظ القرآن بعد التنزيل؛ إذن لا يمكن أن يكون المراد من الحفظ هو حفظ حقيقة القرآن من القدح، والنتيجة هي أنّ المراد من حفظ القرآن في هذه الآية، هو حفظه من التغيير.

كما أنّ لسماحة الوالد المحقّق آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) ذات هذا الرأي تجاه هذا الإشكال أيضاً؛ وقد قال في مقام الجواب عنه:

وبعبارة اُخرى: مرجع ما ذكر إلى أنّ القرآن حافظ لنفسه بنفسه، لاستحكام مطالبه، ومتانة معانيه، وعلوّ مقاصده، والآية تدلّ على افتقاره إلى حافظ غيره، وهو اللّه‏ الذى نزّله، فأين هذا من ذاك؟ فتدبّر جيداً[140].

إنّ للقرآن الكريم خصائص، من قبيل: قوّة الاستدلال، والطريق المستقيم وما إلى ذلك، ممّا يكون سبباً في حفظ القرآن. هذا في حين أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية الكريمة: إنّنا بعد إنزال القرآن، نتكفّل بحفظه. ولذلك يجب أن يكون معنى هذه الآية متأخّراً عن ذات القرآن، وعليه فإنّ كلمة «لحافظون» في هذه الآية الكريمة، تحمل معنى ومرتبة متأخّرة عن التنزيل. وعليه فإنّ اللّه‏ ليس حافظاً للقرآن مع تنزيله؛ وذلك لأنّ القرآن محفوظ من تلقائه، بل إنّ هذا الحفظ لا صلة له بالصفات الموجودة للقرآن الكريم في زمن التنزيل.

وبعد نفي الاحتمال الثاني والثالث، يتعيّن الاحتمال الأوّل ـ الحفظ من التبديل والتغيير ـ الأمر الذي يثبت عدم تحريف القرآن الكريم.

الرأي المختار في معنى كلمة «حافظون»

كما نقل عن العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)؛ فإنّ عبارة «حافظون» في الآية الكريمة، تدلّ على حفظ القرآن الكريم من جميع الجهات؛ ولذلك فإنّ الحفظ في هذه الآية يشمل المعنى الأوّل كما يشمل المعنى الثاني أيضاً؛ ببيان أنّ التغيير والتبديل لا يحصل في ظاهر القرآن الكريم، كما لا يتمّ القدح في معناه أيضاً.

أمّا المعنى الثالث، فلا ربط له ببحث تحريف القرآن الكريم.

وقيل في مقام الجواب عن الاحتمال الثالث: إنّ بعض آيات القرآن الكريم ـ كما في قوله تعالى: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَة إِلاَّ اللّه‏ُ لَفَسَدَتَا»[141] ـ تحظى باستدلال محكم، حيث لا يتوجّه إليها أيّ نوع من أنواع القدح والإشكال.

وفي الجواب عن نظرية العلاّمة الطباطبائي(قدس‏‌‌سره) ـ إذ يقول: إنّ الآية تدلّ على الحفظ بعد التنزيل، في حين أنّه بمقتضى الاحتمال الثالث يكون الحفظ بسبب القرآن ذاته في حين النزول ـ يُقال أيضاً: لا ملازمة بين حفظ القرآن الكريم وبين وجوب تحقّق الحفظ بعد التنزيل؛ إذ أنّ الحقّ هو أنّ نفس تنزيل القرآن بحيث يتمّ حفظه تلقائيّاً؛ وعليه فإنّ الحفظ أعمّ من الحفظ في المستقبل، والحفظ في المحتوى والحقيقة. وبعبارة اُخرى: إنّ كلا نوعي الحفظ يكون من قبل اللّه‏ سبحانه وتعالى.

خلاصة المطلب؛ أوّلاً: إنّ اطلاق قوله تعالى: «إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»يشمل الاحتمال الأوّل والاحتمال الثاني.

وثانياً: إنّ هذه الآية ليست منحصرة في الحفظ بعد التنزيل؛ وإن كان أحد مواردها الذي يرتبط بمسألة التحريف يختصّ بما بعد التنزيل. وعليه فإنّ «الحفظ» لا ينحصر في المعنى الأوّل.

النقد الثالث: عدم حفظ جميع أفراد القرآن الكريم

لقد ذهب الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي(رحمه‏‌‌الله)[142] ـ وهو صاحب كتاب «مجد البيان في تفسير القرآن» ـ إلى قبول مسألة تحريف القرآن الكريم، وادّعى في بعض الموارد أنّه ربما أمكن حمل هذه الروايات على التحريف المعنوي.

وقال سماحته بشأن الاستدلال بهذه الآية الكريمة:

إن حُمل على غير حفظ الحروف في المصاحف والقلوب فلا ربط له بالمقام، وإن حمل عليه فإن اُريد حفظه في الجميع لزم انتفاء الغلط في المصاحف الموجودة بين النّاس، وعدم ضياع المصاحف وبقائها على حالها أبد الدهر، وعدم سهو أحد في حفظه، وعدم نسيانه له، والمشاهد المحسوس كثرة خلاف ذلك إذ قلّما يوجد مصحف صحيح تامّ لا غلط فيه ولا لها بقاء أزيد من سائر الكتب...، وإن اُريد حفظه في الجملة بأن يكون باقياً ولو في بعض، فيكفي فيه كونه محفوظاً عند أهله على أنّ الحفظ غير مؤقّت بالأبد، فيمكن كونه محفوظاً إلى زمان وقوع التحريف[143].

وبعبارة اُخرى: إنّ المراد من الحفظ، ليس هو الحفظ لجميع أفراد القرآن على نحو العموم الاستغراقي؛ فإن كان المراد من الحفظ هو حفظه عند الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، كان ذلك مقبولاً، ولكن هذا المعنى لا يتنافى مع القول بتحريف القرآن الموجود بأيدي الناس.

جواب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) عن النقد الثالث

لقد عمد السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) أوّلاً إلى بيان هذا الإشكال على نحو آخر، ثمّ أجاب عنه لاحقاً؛ فقال في بيانه:

الثالث: إنّ الآية دلّت على حفظ القرآن في الجملة، ولم تدلّ على حفظ كلّ فرد من أفراد القرآن، فإنّ هذا غير مراد من الآية بالضرورة، وإذا كان المراد حفظه في الجملة، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب(عج)[144].

ثمّ أجاب عنه قائلاً:

وهذا الاحتمال أوهن الاحتمالات، لأنّ حفظ القرآن يجب أن يكون عند من اُنزل إليهم، وهم عامّة البشر، أمّا حفظه عند الإمام(عليه‏‌‌السلام)فهو نظير حفظه في اللوح المحفوظ، أو عند ملك من الملائكة، وهو معنى تافه يشبه قول القائل: إنّي أرسلت إليك بهديّة وأنا حافظ لها عندي، أو عند بعض خاصّتي[145].

من الواضح أنّ القرآن الكريم قد نزل إلى كافّة النّاس، ولإتمام الحجّة على جميع أفراد البشر، وإنّ القرآن الكريم يجب أن يكون محفوظاً عندهم؛ وإلاّ إذا كان محفوظاً عند الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) ولكن كان القرآن الموجود عند النّاس الآخرين قرآناً آخر، فإنّ الأمر سيكون كما لو أنّ القرآن لم ينزل بعد.

وقال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في نقد كلام الشيخ الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله):

ومن الغريب قول هذا القائل أنّ المراد في الآية حفظ القرآن في الجملة، لا حفظ كلّ فرد من أفراده، فكأنّه توهّم أنّ المراد بالذكر هو القرآن المكتوب، أو الملفوظ، لتكون له أفراد كثيرة، ومن الواضح أنّ المراد ليس ذلك، لأنّ القرآن المكتوب أو الملفوظ لا دوام له خارجاً، فلا يمكن أن يراد من آية الحفظ، وإنّما المراد بالذكر هو المحكي بهذا القرآن الملفوظ أو المكتوب، وهو المنزل على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والمراد بحفظه صيانته عن التلاعب، وعن الضياع، فيمكن للبشر عامّة أن يصلوا إليه، وهو نظير قولنا القصيدة الفلانية محفوظة، فإنّا نريد من حفظها صيانتها، وعدم ضياعها بحيث يمكن الحصول عليها[146].

وعليه فإنّه طبقاً لما قاله سماحة السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) فإنّ المراد من «الذكر» في الآية الكريمة هو المحكي دون الحاكي، والألفاظ التي تحكي عن القرآن المكتوب أو الملفوظ من القرآن النازل على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وخلاصة القول: إنّ المراد من حفظ «الذكر» هو حفظ القرآن الحقيقي النازل على النبيّ الأعظم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). وذلك ببيان أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول: إنّا حفظنا حقيقة القرآن بحيث يكون الناس على الدوام قادرين على بلوغه والحصول عليه، وكما لا يمكن لأحد أن يغيّر شيئاً في المعلّقات السبع، أو ديوان المتنبي، أو ديوان البحتري، كذلك لا يمكن لأحد أن يُغيّر في القرآن الكريم، وإنّ القرآن سوف يبقى محفوظاً إلى الأبد.

وقد عمد الوالد المحقّق سماحة آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) ـ بعد نقل هذا الإشكال عن «فصل الخطاب»[147] في كتابه «مدخل التفسير»[148] ـ إلى اختيار جواب السيّد الخوئي؛.

نقد رأي السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

لا يمكن القبول بكلام سماحة السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، وذلك للأسباب الآتية:

أوّلاً: إنّ النزاع حول مسألة تحريف القرآن الكريم يقع في الحاكي والقرآن المكتوب، والبحث حول تحريف القرآن المكتوب وعدمه؛ إذ القرآن المحكي حقيقة نزلت على قلب النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ولا يمكن للتحريف أن يتطرّق إلى هذه الحقيقة. وعليه لو قلنا هنا إنّ الحاكي لا يتطابق مع المحكي، وجب القول إنّ القرآن الحاكي قد تعرّض للتحريف. وأمّا إذا كان هناك تطابق بين الحاكي والمحكي، يتّضح عندها أنّ القرآن الكريم لم يحرّف. وعليه فإنّ محلّ النزاع في مسألة التحريف إنّما يكمن في القرآن الحاكي، دون القرآن المحكي؛ إذ القرآن المحكي لا يقبل التحريف.

وثانياً: إنّ سماحته لم يأت بقرينة أو دليل على مدّعاه القائل بأنّ المراد من «الذكر» في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»هو القرآن المحكي! وظاهر الآية يُفهم منه أنّ المراد هو القرآن الموجود في أيدي الناس؛ وعليه يكون المراد من «الذكر» في هذه الآية الكريمة هو الكتاب المكتوب والقرآن الملفوظ والمقروء؛ إذ النّاس لا يستطيعون الوصول إلى «الذكر» بمعنى القرآن المحكي الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وثالثاً: من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ اعتبار الحاكي إنّما يكون بوجود المحكي؛ بيد أنّ هذا لا يعني عدم اطلاق عنوان القرآن على الموجود ما بين الدفّتين؛ ومن هنا يجب القول: إنّ ما بين الدفّتين يحتوي على جميع صفات القرآن الكريم، من قبيل: الشفاء، والنور، والهداية، وما إلى ذلك. وبعبارة اُخرى: إنّ لازم كلام سماحته أنّ جميع ما ذكر من الصفات للآيات الكريمة ـ من قبيل: النور، والهداية، والشفاء، والرحمة وما إلى ذلك ـ يرتبط بالمحكي! بل ويجب الالتزام حتّى بأنّ تلاوة هذا القرآن ليست هي الموضوع للأجر والثواب! ومن الواضح أنّ هذا الكلام لا يمكن الالتزام به. والنتيجة هي: أنّ كلام السيّد الخوئي غير صحيح.

الرأي المختار في جواب النقد الثالث

يذهب صاحب كتاب «مجد البيان» إلى الاعتقاد بأنّ المراد من حفظ القرآن في الآية إذا كان هو حفظه من جميع الجهات، وجب أن لا يفنى أيّ قرآن على مرّ التاريخ، ووجب أن تبقى جميع المصاحف إلى الأبد، وحيث أنّ هذا لم يتحقّق يتّضح إذن أنّ المراد من حفظ القرآن الكريم ليس هو حفظ القرآن المكتوب والملفوظ.

وفي معرض الجواب عن هذا الكلام، يجب القول: على الرغم من اندثار الكثير من المصاحف على طول التاريخ، وقد تمّ حرق بعضها بالفعل عمداً، ولكن مراد الآية من الحفظ هو حفظ أصل القرآن في كلّ زمان، وحيث أنّ القرآن الموجود حالياً متطابق مع أصل القرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أيّام البعثة، لن يكون هناك تحريف.

إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد حفظ أصل القرآن المكتوب النازل في كلّ زمان، وهذا هو مكمن اختلاف القرآن الكريم عن سائر الكتب السماوية الاُخرى؛ وذلك لأنّ هذه الكتب لم تكن محفوظة منذ البداية، وأمّا القرآن الكريم فقد كان محفوظاً من بداية الأمر ولا يزال وسوف يبقى محفوظاً إلى الأبد.

وهذا الأمر من قبيل أن يقوم كاتب بتأليف كتاب ويحتفظ بأصله عنده، فإذا طبع عن هذا الكتاب آلاف النسخ على مرّ السنين، دون أن يقع أيّ تحريف بزيادة أو نقيصة في كلّ طبعة من هذه الطبعات، أمكن لهذا الكاتب أن يدعي سلامة كتابه من التحريف، وأنّه قد حافظ عليه في جميع الأزمان؛ وذلك لأنّ أصله محفوظ عنده.

وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى القرآن الكريم أيضاً؛ حيث أنّ أصل القرآن الكريم قد كان محفوظاً عند المسلمين في صدر الإسلام، وقد انتقل بواسطة الحفّاظ والقرّاء إلى الأجيال اللاحقة، واستمرّ الأمر على هذه الحالة حتّى وصل لنا اليوم من الأجيال السابقة.

وبعبارة اُخرى، يمكن القول: إنّ المراد من «الحفظ» في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، هو أنّ اللّه‏ قد حفظ القرآن الكريم بخصائصه ومقوّماته في زمن النزول، ثمّ وصلنا هذا القرآن المحفوظ إلينا بواسطة الحفّاظ والقرّاء من جيل إلى جيل.

وبعبارة ثالثة: يجب تفسير قوله تعالى: «إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» منذ 1400 سنة إلى يومنا هذا؛ إذ أنّ القرآن المكتوب قد نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وأنّه قد تمّ تدوينه، وكتب تحت اشراف النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)واهتمامه دون أدنى تغيير. ثمّ قال اللّه‏ سبحانه وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»؛ أي في الزمان الحاضر، وفي المستقبل، وإلى يوم القيامة؛ لأنّ كلمة «حافظون» في الآية قد وردت بصيغة اسم الفاعل، وهي تدلّ على الاستمرار. وعليه فإنّ حفظ القرآن في ذلك الزمن لم يكن بواسطة الحفّاظ، بل بسبب العناية الخاصّة من قبل اللّه‏ عزّ وجل، حيث تعهّد بحفظ الآيات التي نزلت على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ بحيث لا يمكن لأيّ شخص أن يغيّره.

وبطبيعة الحال فإنّ القرآن الملفوظ والمبيّن على لسان النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)قد انتقل إلى الأجيال اللاحقة من طريق حفّاظ القرآن الكريم. وعليه لم يكن القرآن محفوظاً من البداية بواسطة القرّاء والحفّاظ، وإلاّ لزم قول الشيء نفسه بالنسبة الى التوراة والإنجيل أيضاً؛ إذ كان هناك قرّاء وحفّاظ لهذين الكتابين أيضاً.

وعلى هذا الأساس، يجب أن نأخذ كلمة «الحفظ» في هذه الآية، والتي تعني «عدم التحريف» بغضّ النظر عن حفّاظ وقرّاء القرآن الكريم، والقول: إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى هو الذي تكفّل بحفظ القرآن الملفوظ. ولا ضرورة إلى العلم بطريقة وكيفيّة هذا الحفظ؛ ولذلك فإنّ المهمّ في البين هو إثبات أصل أنّ القرآن الكريم كان منذ عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ولا يزال إلى يومنا هذا محفوظاً، وسوف يبقى محفوظاً إلى يوم القيامة.

والنقطة الاُخرى التي يجب الالتفات إليها في هذا المقام، هي أنّ المحدّث النوري(رحمه‏‌‌الله) يرى أنّ آية الذكر «مكيّة»، وقد وردت بصيغة الماضي. ولذلك فإنّ المراد منها هو أنّ ما نزل من القرآن إلى لحظة نزول تلك الآية وقبلها، هو الذي تكفّل اللّه‏ بحفظه، وليس فيها ما يدلّ على حفظ الآيات والسور التي نزلت بعد ذلك[149].

والجواب عن هذا الكلام منه هو أنّ كلمة «الذكر» في هذه الآية لا تختصّ بحفظ الآيات النازلة حتّى لحظة نزول هذه الآية الشريفة، بل المراد هو كلّ ما يصدق عليه عنوان «الذكر»؛ ومن الواضح أنّ هذه الكلمة تطلق على مجموع آيات وسور القرآن الكريم؛ وذلك لأنّ «الذكر» صفة عامّة، وتشمل جميع القرآن الكريم.

النقد الرابع: لزوم الكذب أو خلف الوعد في محتوى الآية

لو قلنا بفرضية حصول العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي بتحريف القرآن، سوف يلزم من ذلك الكذب أو عدم الوفاء بالوعد في محتوى آية الذكر؛ وذلك لأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد وعد في هذه الآية بحفظ القرآن، ومن ناحيّة اُخرى هناك علم بوجود التحريف في القرآن الكريم. وعليه فإنّ العلم بتحريف القرآن على خلاف محتوى آية الحفظ.

وبعبارة اُخرى: إنّ العلم الإجمالي أو العلم التفصيلي بتحريف القرآن يتنافى مع وعد اللّه‏ تعالى بحفظ القرآن في آية الحفظ؛ إذن لا يمكن التمسّك بهذه الآية لنفي تحريف القرآن.

جواب النقد الرابع

لابدّ من الالتفات إلى أنّ المستدلّ بآية الذكر على عدم تحريف القرآن، ليس لديه علم تفصيلي بالتحريف، ولا علم إجمالي، في حين أنّ الكذب أو عدم الوفاء بالوعد إنّما يكون إذا كان هناك مثل هذا العلم. وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الشخص إنّما يستدلّ بهذه الآية حتّى إذا كان المخاطب من القائلين بوجود مثل هذا العلم التفصيلي أو العلم الإجمالي، نسف له ذلك العلم من الأساس. وعليه ليس هناك تناقض من جهة المستدلّ.

النقد الخامس: لزوم الدور من الاستدلال بالقرآن

إذا كان الدليل على عدم تحريف القرآن هو القرآن نفسه سوف يلزم من ذلك الدور. وبعبارة اُخرى: إذا أردنا أن نثبت عدم تحريف القرآن استناداً إلى آيات القرآن، وجب علينا الالتزام بمحذور الدور؛ إذ علينا في البداية أن نثبت عدم تحريف الآية مورد البحث، لنثبت بعد ذلك عدم تحريف القرآن الكريم استناداً إلى هذه الآية؛ وحيث تكون هذه الآية هي الدليل على عدم التحريف، لزم من ذلك الدور الباطل.

وبعبارة اُخرى: لو سلّمنا أنّ آية الذكر تدلّ على نفي التحريف في القرآن وكان ظاهرها حجّة، بيد أنّ حجيّة ظاهر الآية، يتوقّف على عدم تحريف القرآن، وإنّ هذا الأمر من مصاديق الدور الباطل. والنتيجة هي أنّ آية «الذكر» لا تكفي لإثبات نفي التحريف لمجموع القرآن الكريم.

الأجوبة عن إشكال الدور

هناك الكثير من الإجابات المذكورة على إشكال الدور، وفيما يلي سوف نعمل على مناقشتها:

جواب المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

قال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في الجواب عن إشكال الدور:

وهذه شبهة تدلّ على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهيّة، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم، فإنّه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأمّا من يرى أنّهم حجج اللّه‏ على خلقه، وأنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك فلا ترد عليه هذه الشبهة، لأنّ استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجّية الكتاب الموجود، وإن قيل بتحريفه، غاية الأمر أنّ حجّية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقّفة على إمضائهم[150].

نقد جواب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

يبدو أنّ جواب سماحته ينطوي على ثلاثة إشكالات:

الإشكال الأوّل: في مقام الإجابة عن إشكال الدور، لا ينبغي الدخول في مسألة القول بالولاية وعدمها؛ بل الجواب يجب أن يكون مقبولاً من قبل عموم الأفراد، الأعمّ من المسلمين وغير المسلمين.

الإشكال الثاني: إنّ لازم جواب سماحته هو الاعتراف بالشبهة والإشكال؛ وذلك لأنّ البحث في إثبات حجيّة القرآن وعدم تحريفه من طريق التمسّك بالقرآن، وليس إثباته من طريق التمسّك بأهل البيت(عليهم‏‌‌السلام)؛ وعليه فإنّ جواب سماحته عن شبهة الدور غير تامّ، بل يُشير إلى اعترافه بالشبهة.

الإشكال الثالث: إنّ هذا الجواب إنّما يتمّ إذا كان الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) هم الذين يستدلّون بقوله تعالى ـ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» ـ على عدم تحريف القرآن أو تمسّكوا بموضوع أو عنوان آخر.

الجواب الثاني عن شبهة الدور ونقده

وقيل في جواب آخر: إنّ المسلمين كافّة يُجمعون على عدم تحريف آية «الذكر»، وفي هذه الحالة لن يكون الاستدلال دورياً.

وهذا الجواب بدوره غير مقبول؛ وذلك لأنّ القائلين بتحريف القرآن خارج دائرة الإجماع بحسب القول بالعلم الإجمالي؛ وإلاّ للزم العدم من وجود نظريّتهم. وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الجواب مقبول على أساس رؤية الأخباريين؛ إذ لا توجد هناك رواية تدلّ على تحريف آية الذكر. وأمّا بالنسبة إلى الجماعة الثانية فإنّ مسألة الإجماع لا يمكن أن تكون جواباً مناسباً؛ إذ أنّ القائلين بالتحريف يعتبرون جميع آيات القرآن في مظنّة التحريف.

وخلاصة القول: إنّ القائلين بتحريف القرآن لا يمكن أن يدخلوا في دائرة المجمعين؛ إذ لو كانوا ضمن المجمعين، وجب عليهم التخلّي عن علمهم الإجمالي، وهذا غير ممكن، إذ الفرض قائم على وجود العلم الإجمالي بتحريف القرآن الكريم.

جواب آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(رحمه‏‌‌الله) عن شبهة الدور

تحدّث سماحة الاُستاذ الوالد المحقّق(قدس‏‌‌سره) ـ بعد بيان إشكال الدور، وفي مقام الجواب عنه ـ قائلاً:

والجواب: أنّ الاستدلال إن كان في مقابل من يدّعي التحريف في موارد مخصوصة، وهي التي دلّت عليها روايات التحريف، فلا مجال للمناقشة فيه، لعدم كون آية الحفظ من تلك الموارد على اعترافه، ضرورة أنّه لم ترد رواية تدلّ على وقوع التحريف في آية الحفظ أصلاً[151].

إنّ القائلين بالتحريف عبارة عن طائفتين؛ فبعضهم من قبيل الأخباريّين؛ إذ قبلوا بتحريف القرآن انطلاقاً من دلالة الأخبار على ذلك. حيث يقولون بتحريف كل آية قامت رواية على التصريح بتحريفها، وحيث لا توجد رواية تدلّ على تحريف آية «الذكر» أو آية «الحفظ»، ثبت عدم تحريف هذه الآية. وعلى هذا الأساس يكون الجواب الثاني ـ طبقاً لرأي الأخباريّين ـ تامّاً.

ثمّ استطرد سماحته بعد ذلك ـ في الجواب عن أولئك الذين قالوا بتحريف القرآن في الجملة ـ قائلاً:

وإن كان في مقابل من يدّعي التحريف في القرآن إجمالاً بمعنى أنّ كلّ آية عنده محتملة لوقوع التحريف فيها، وسقوط القرينة الدالّة على خلاف ظاهرها عنها؛ فتارةً يقول القائل بهذا النحو من التحريف بحجّية ظواهر الكتاب، مع وصف التحريف. فعلى الأوّل: لا مجال للمناقشة في الاستدلال بآية الحفظ على عدم التحريف؛ لأنّه بعد ما كانت الظواهر باقية على الحجّية ووقوع التحريف غير مانع عن اتّصاف الظواهر بهذا الوصف كما هو المفروض، نأخذ بظاهر آية الحفظ، ونستدلّ به على العدم كما هو واضح. واُخرى لا يقول بذلك، بل يرى أنّ التحريف مانع عن بقاء ظواهر الكتاب على الحجّية وجواز الأخذ والتمسّك بها، ويعتقد أنّ الدليل على عدم الحجّية هو نفس وقوع التحريف. وعلى الثاني: الذي هو عبارة عن مانعيّة التحريف عن العمل بالظواهر والأخذ بها، فإن كان القائل بالتحريف مدّعياً للعلم به، والقطع بوقوع التحريف في القرآن إجمالاً وكون كلّ آية محتملة لوقوع التحريف فيها، فالاستدلال بآية الحفظ لا يضرّه، ولو كان ظاهرها باقياً على وصف الحجّية، لأنّ ظاهر الكتاب انّما هو حجّة بالإضافة إلى من لا يكون عالماً بخلافه؛ ضرورة أنّه من جملة الأمارات الظنّية المعتبرة، وشأن الأمارة اختصاص حجّيتها بخصوص الجاهل بمقتضاها[152].

والخلاصة أنّ الطائفة الثانية التي لها علم اجمالي بتحريف القرآن، ينقسمون بدورهم إلى قسمين؛ القسم الأوّل منهم يدّعي القطع واليقين بالتحريف، والقسم الثاني يذهب إلى القول باحتمال التحريف.

وفي قبال المجموعة الاُولى ـ التي تقطع بتحريف القرآن ـ لا يمكن الاستدلال بالآية مورد البحث؛ لأنّ ظاهر القرآن ليس حجّة بالنسبة إلى العالم، بخلاف الظاهر، بل المعتبر هو الأمارة الظنّية، وحجّية الأمارة إنّما تختصّ بالجاهل.

وأمّا أولئك الذين يقولون بالتحريف على نحو الاحتمال، فإنّهم يستدلّون في قبال هذه المجموعة، بالقول:

وإن كان القائل به لا يتجاوز عن مجرّد الاحتمال ولا يكون عالِماً بوقوع التحريف في الكتاب، بل شاكّاً، فنقول: مجرّد احتمال وقوع التحريف ـ ولو في آية الحفظ أيضاً ـ لا يمنع عن الاستدلال بها، لعدم التحريف، كيف وكان الدليل على عدم حجّية الظواهر، والمانع عنها هو التحريف؟ فمع عدم ثبوته واحتمال وجوده وعدمه، كيف يرفع اليد عن الظاهر ويحكم بسقوطه عن الحجّية؟ بل اللازم الأخذ به والحكم على طبق مقتضاه الذي عرفت أنّ مرجعه إلى عدم تحقّق التحريف بوجه، ولا يستلزم ذلك تحقّق الدور الباطل؛ ضرورة أنّ سقوط الظاهر عن الحجّية فرع تحقّق التحريف وثبوته، وقد فرضنا أنّ الاستدلال انّما هو في مورد الشكّ وعدم العلم. ومن الواضح أنّ الشكّ فيه لا يوجب سقوط الظاهر عن الحجّية ما دام لم يثبت وقوعه، فتدبّر جيّداً[153].

كما هو واضح من كلام سماحة الشيخ الوالد المحقّق، فإنّه يقسّم القائلين بتحريف القرآن الكريم ـ على طبق برهان السبر والتقسيم ـ إلى أربعة أقسام، وهي كالآتي:

1 . الجماعة التي تقول بأنّ التحريف منحصر بما ورد في المصادر الروائية. وهذه الجماعة ـ التي هي في الغالب من الأخباريّين ـ تذهب إلى الاعتقاد بأنّ بعض الآيات المذكورة في الروايات قد تمّ تحريفها. ولذلك حيث أنّ آية «الحفظ» ليست من هذه الموارد يقيناً، يمكن القول إنّ هذه الآية تبقى على حجّيتها.

2 . الجماعة الثانية هي الجماعة التي تؤمن بالتحريف إجمالاً، وإنّ منشأ هذا العلم الإجمالي قد يأتي من الروايات، ولكنّهم لا يرون إنحصارها بما ورد في الروايات. وإنّ هذه الجماعة تنقسم بدورها إلى قسمين، وهما:

أ) المجموعة الاُولى هم الذين يذهبون ـ ضمن القول بالتحريف ـ إلى الاعتقاد بأنّ ظاهر الآيات يبقى على حجّيته. وفي قبال هؤلاء يمكن الاستدلال بالآية مورد البحث.

ب) المجموعة الثانية هم الذين يقولون بأنّ تحريف القرآن يحول دون حجيّة ظواهر القرآن. وهذه الجماعة تنقسم بدورها إلى قسمين، وهما:

1 . الجماعة التي تقطع بوقوع التحريف في القرآن. وفي قبال هذه الجماعة لا يجدي الاستدلال بآية «الذكر» على عدم وقوع التحريف في القرآن؛ إذ الآية مورد البحث باقية على دلالتها على تحريف القرآن في أطراف العلم الإجمالي.

2 . الجماعة التي لا تقطع بوقوع التحريف في القرآن الكريم، وإنّما لديها مجرّد احتمال وقوع التحريف. وفي قبال هذه الجماعة يكون الاستدلال بآية «الذكر» على عدم وقوع التحريف مجدياً؛ إذ ما لم يثبت وقوع التحريف، تبقى حجّية ظواهر الآيات على حالها.

والنتيجة أنّه لا يمكن التمسّك بالآية مورد البحث على أساس مجرّد العلم الإجمالي بتحريف القرآن الكريم، ومانعيّته عن حجّية ظواهر القرآن الكريم لإثبات عدم تحريف القرآن؛ لاستلزام ذلك شبهة الدور. وعلى هذا الأساس فإنّ سماحته قد قبل بشبهة الدور، بناءً على الاحتمال الثالث الذي يشكّل المحور الأصلي لهذا الإشكال.

جواب آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه)

إنّ سماحته يذكر في مقام نقد إشكال الدور بعض الإجابات، وفيما يلي نناقش هذه الإشكالات:

الإشكال الأوّل: يرى سماحته أنّ برهان السبر والتقسيم لا يجري في هذه المسألة.

ولكن يبدو من وجهة نظرنا أنّ هذا الإشكال غير وارد، وإنّ برهان السبر والتقسيم يجري في هذه القضية؛ وذلك لأنّ العلم بتحريف القرآن الكريم لا يخلو إمّا أن يكون تفصيليّاً، أو اجمالياً، أو أنّه مجرّد احتمال لوقوع التحريف.

ولا يمكن تصوّر فرض رابع. وإنّ لاحتمال العلم الإجمالي في حدّ ذاته صورتان، وبذلك تكون الأقسام التي يمكن تصوّرها عبارة عن أربعة أقسام، وليس هناك احتمال خامس. وبذلك يكون برهان السبر والتقسيم جارياً؛ ولكن كما سبق أن ذكرنا، ليس له نتيجة للإجابة عن اشكال الدور.

الإشكال الثاني: المسألة الاُخرى التي ذكرها سماحته، إنّ الاحتمال والشكّ البدوي في فرض الحكم الفقهي أو الأصول اللفظية لا يمنع من حجّية الظواهر، وأمّا في المسألة الكلاميّة فإنّ الشكّ في الحجّية يشكّل مانعاً. وعليه يجري أصل البراءة في الحكم الفقهي في هذا النوع من الموارد، وفي مقام الشكّ في ظواهر الألفاظ تجري أصالة الظهور والإطلاق، وأمّا إذا كان الشكّ في أصل حجيّة شيء، فلا يمكن الاستناد إلى الشيء المشكوك. وعلى هذا الأساس فإنّ الاحتمال مجرّد افتراض[154].

إنّ اختلاف وجهة نظر سماحته عن وجهة نظر سماحة الشيخ الوالد الراحل(قدس‏‌‌سره)يكمن في أنّ سماحة آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(رحمه‏‌‌الله) يعتقد أنّ مجرّد الاحتمال لا يمنع من الحجّية، خلافاً لسماحة آية اللّه‏ جوادي الآملي (مدّ ظله) الذي رأى في هذا البحث أنّ مجرّد الاحتمال مانع من الحجّية، وقال بإمكان التمسّك بأصالة البراءة في الاُصول اللفظية، ومعاني الألفاظ، والمسائل الفقهيّة، في فرض الشكّ. وأمّا في هذا المقام فإنّ الشكّ في التحريف لا يوجب الشكّ في الحجّية، وفي فرض الشكّ في أصل الحجّية لا يمكن الاستدلال بها.

نقد رأي سماحة آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه)

يجب القول بأن لا شيء من إشكالات سماحته وارد؛ وذلك لأنّ الشكّ والاحتمال البدوي لتحريف القرآن الكريم لا يساوق الشكّ في أصل الحجّية؛ إذ قبل هذا الشكّ هناك قطع بحجّية القرآن وآياته، ولكن مع احتمال الزيادة أو النقيصة. أمّا احتمال الزيادة فهو منتف، بسبب الإجماع على نفيه. وأمّا بشأن احتمال النقصان فقد ذهب الفقهاء إلى القول بجريان «أصالة عدم النقيصة» في فرض الشكّ في نقصان كلمة في الروايات، وبطبيعة الحال فإنّ جريان هذا الأصل يتعارض في بعض الموارد مع «أصالة عدم الزيادة»، وعندها ترد مسألة التساقط. إذن لا يتمّ في المقام طرح مسألة الشكّ في الحجّية، وهذا يختلف عن مسألة أصل عدم حجيّة الظنون الذي يقوم في الاُصول المذكورة على أنّ الشكّ في الحجّية يساوق العلم بعدم الحجّية.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحجّية تحتاج إلى إحراز. ولذلك في فرض عدم إحراز الحجّية، يحصل العلم بعدم الحجّية؛ وأمّا في هذا البحث فإنّ حجيّة القرآن مسلّمة ومحرزة، والبحث إنّما يقع في النقصان وعدم النقصان في القرآن الكريم، وفي مثل هذه الحالة كما أنّه يجب في فرض الشكّ في حجّية خبر الواحد استصحاب حجّية خبر الواحد في عصر المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، كذلك الأمر هنا، ففي فرض الشكّ في الحجّية يجب إجراء الاستصحاب أيضاً. وعلى هذا الأساس، فإنّه طبقاً لرأي سماحته لا ينبغي أن يكون استصحاب الحجّية في الاُصول والفقه جارياً؛ وذلك لأنّ استصحاب الحجيّة إنّما يمكن تصوّره في مورد الشكّ في بقاء الحجّية. إذن لازم كلامه أنّه يجب التخلّي عن الحجّية في فرض الشكّ فيها. وأمّا في بحث التحريف فلا يوجد شكّ في أصل الحجّية، وذلك لأنّ القرآن الكريم صادر من عند اللّه‏ سبحانه وتعالى، وإنّما يحتمل فيه مجرّد احتمال النقيصة، ببيان احتمال وجود قرينة أو قيد لم يصل إلى الأجيال القادمة، ولذلك يجب في هذا المورد أن نجري أصالة عدم النقيصة. وعلى هذا الأساس لا يرد أيّ واحد من إشكالات سماحة الشيخ جوادي الآملي من وجهة نظرنا.

الجواب المختار عن شبهة الدور

أوّلاً: إنّ التحريف يحتاج ـ مثل سائر الأفعال والاُمور ـ إلى دوافع؛ ومن هنا فإنّ الذين يسعون إلى تحريف آيات الولاية، يكون الدافع لديهم إلى ذلك هو التقليل من شأن مسألة الولاية، أو أنّ دافع الذين يسعون إلى تحريف الآيات المرتبطة بالتوحيد، أو صفات اللّه‏ تعالى هو الخدش في اعتبار القرآن الكريم؛ وعليه فإنّ التحريف لا يتحقّق من دون حافز أو دافع.

والسؤال الذي يرد هنا هو: إذا وقع التحريف في هذه الآية الكريمة، فما هو الدافع الذي يمكن أن يكون كامناً من وراء تحريفها؟ هل يمكن تحقّق التغيير في قسم من هذه الآية، أو حذفه، بحيث لا تعود تدلّ على حفظ القرآن، من قبيل أن تستبدل كلمة «لَعالمون» بكلمة «لَحافظون»؟ أو أن يتمّ حذفها دون الإتيان ببديل لها، أو أن يكون مرجع الضمير في «له» شيئاً آخر غير القرآن الكريم؟ وحيث أنّه لم يحصل تغيير في كلمة «لَحافظون» وفي ضمير «له»، يكون احتمال التحريف فيها باطلاً؛ وعليه فإنّ آية «الحفظ» في فرض عدم التحريف تدلّ على حفظ القرآن الكريم من قبل اللّه‏ سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة.

ثانياً: لو كانت الآية الكريمة تقول: «إنّا له لحافظون إلى أجل معيّن» وقد تمّ حذف عبارة «إلى أجل معيّن» من الآية؛ لما وصل الدور إلى كلام الكفّار في الاعتراض على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، واتّهامه بالجنون.

وبذلك نصل من خلال هذين المطلبين إلى الاطمئنان من عدم تحريف هذه الآية الكريمة، وتبعاً لذلك تخرج آية الحفظ من دائرة العلم الإجمالي، ومن خلال التمسّك بهذه الآية تخرج سائر آيات القرآن الكريم من دائرة العلم الإجمالي أيضاً؛ وذلك لأنّ هذه الآية تدلّ على عدم تحريف جميع آيات القرآن. وبذلك سيقتصر التحريف على خصوص الآيات التي دلّت الرواية المعتبرة على تحريفها، وإنّ التحريف في هذا النوع من الآيات، لا يحول دون حجيّة سائر ظواهر الكتاب.

والخلاصة: أنّه بعد التمسّك بآية «الحفظ»، لا يبقى هناك مورد للعلم الإجمالي، كي نحكم بجريان الشبهة البدوية بالنسبة إلى تلك الموارد. يضاف إلى ذلك أنّه على فرض وجود الشبهة البدوية في بعض الآيات، يجري أصل عدم التحريف في القرآن الكريم. وبالتالي لو ذهب شخص إلى القول باعتبار الروايات الدالّة على تحريف بعض الآيات، فإنّ الظواهر سوف تسقط عن الحجيّة في حدود تلك المساحة من الآيات المحرّفة خاصّة، ولا تسقط بالنسبة إلى جميع القرآن.

2. الآيات 41 و42 من سورة فصّلت

قال اللّه‏ تعالى في الآيتين: 41 و42 من سورة فصّلت:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيل مِنْ حَكِيم حَمِيد».

المعنى الإجمالي لهاتين الآيتين

إنّ المعنى الإجمالي لهاتين الآيتين هو أنّ على الذين يكفرون بهذا القرآن، أن يعلموا أنّه عزيز ـ والعزيز يعني المحكم الذي لا يمكن النفوذ إليه ـ ومن هنا فإنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنّه عزيز ومحكم، ولا يمكن التلاعب به والتحريف فيه.

وقد ذكروا لكلمة «العزيز» معنيين، وهما:

أ) الشيء الذي ليس له نظير، يُسمّى «عزيز»؛ «عَزّ الشيء: قلّ»[155]، و«يقال: عَزّ الشيء حتّى يكاد لا يوجد»[156].

وعليه فإنّ كلّ شيء يندر نظيره ويقلّ وجوده، يُطلق عليه لفظ «العزيز».

ب) إنّ الذي يقدر على كلّ شخص وعلى كلّ شيء، ولا يقدر عليه أحد، ولا يمكن لشيء أن يتغلّب عليه، يُسمّه «عزيزاً».

قال الزّجاج: «هو الممتنع فلا يغلبه شيء»، وقال غيره: «هو القوي الغالب كلّ شيء»[157].

وقال الراغب الإصفهاني: « «إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ»، أي: يصعب مناله ووجود مثله»[158].

إنّ الآية الثانية والأربعين من سورة فصّلت تبيّن كيفيّة كون القرآن عزيزاً؛ ببيان أن لا شيء في الماضي ولا في المستقبل، يمكنه أن يتسلّل إلى القرآن الكريم ويبطله.

وقال ابن منظور في لسانه، حول هذه الآية:

وقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»؛ أَي أنّ الكتب التي تقدّمته لا تبطله ولا يأتي بعده كتاب يبطله، وقيل: هو محفوظ من أَن يُنْقَصَ ما فيه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أَو يُزاد فيه، فيأتيه الباطل من خلفه، وكِلا الوجهين حَسَنٌ، أي حفظ وعزّ من أن يلحقه شيء من هذا[159].

والقسم الثاني من الآية الثانية والأربعين من سورة فصّلت يبيّن سبب عزّة القرآن الكريم، بقوله: «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد»؛ فهذه العبارة بمنزلة التعليل لقوله: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز». بمعنى أنّ القرآن منزّل من عند اللّه‏ الحكيم والحميد على الإطلاق، وإنّ الذي يصدر عن الحكيم المطلق، لا شكّ في أنّه حكيم ومتقن يقيناً.

لم يُشكل أحد على هذين الموضعين من الآية الكريمة، ويمكن الاستدلال بأيّ منهما على إثبات عدم تحريف القرآن الكريم.

فإنّ قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز» قادر لوحده على إثبات عدم تحريف القرآن؛ لأنّ الكتاب الذي يكون عزيزاً ولا يمكن لأحد أن يتسلّل إليه، لا يمكن للشبهة والإشكال والبطلان والزيادة والنقيصة وغيرها أن تتطرّق إليه. وكذلك فإنّ قوله تعالى: «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد» يدلّ على عدم تحريف القرآن أيضاً.

بيان الاستدلال

بيد أنّ المهمّ في البين هو قوله تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»؛ إذ تمسّك العلماء بهذه الفقرة من الآية لإثبات عدم تحريف القرآن الكريم؛ ببيان أنّ القرآن كتاب لا يتطرّق إليه الباطل، «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» يعني «من بين يدي القرآن»، وكذلك الأمر في قوله: «وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»؛ إذ يعود الضمير إلى القرآن أيضاً. وعلى الرغم من أنّ بعض المفسّرين والمترجمين للقرآن الكريم، قد أرجعوا الضمير إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، إلاّ أنّ هذا على خلاف الظاهر.

وإنّ الألف واللام في كلمة «الباطل» لبيان الجنس، وعليه يكون المعنى: إنّ جنس الباطل لا يتطرّق إلى القرآن؛ والجنس في سياق النفي، مثل النكرة في سياق النفي في إفادة العموم؛ بمعنى أنّه لا شيء من الباطل يمكنه أن يتطرّق إلى القرآن الكريم، وإنّ للباطل الكثير من الأفراد والمصاديق، وإنّ من بين أهمّ مصاديق الباطل: الكذب، والتناقض، والتحريف؛ وإنّ التحريف سواء أكان بالزيادة أو بالنقصان، كلاهما من المصاديق البارزة للباطل. وعليه لا يمكن لأيّ نوع من أنواع التحريف أن يتطرّق إلى القرآن الكريم.

وإنّ «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»، يعني: أنّه لا يأتيه الباطل في زمان نزول القرآن، كما أنّ «وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»، يعني: أنّ الباطل لن يأتيه بعد النزول أيضاً.

من الواضح أنّ التعليل إنّما يكون مناسباً إذا كان زمان ما بعد النزول جزءاً من القضية أيضاً؛ بمعنى أنّ البطلان لا يقتصر في عدم تطرّقه إلى القرآن في عصر النزول فقط، بل ولن يتطرّق إلى القرآن في المستقبل وإلى يوم القيامة.

قال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في تفسير هذه الآية:

المراد بقوله: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» زمانا الحال والاستقبال، أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة، وقيل: المراد بما بين يديه ومن خلفه جميع الجهات، كالصباح والمساء كناية عن الزمان كلّه، فهو مصون من البطلان من جميع الجهات، وهذا العموم على الوجه الأوّل مستفاد من إطلاق النفي في قوله: «لاَ يَأْتِيهِ». والمدلول على أيّ حال أنّه لا تناقض في بياناته، ولا كذب في إخباره، ولا بطلان يتطرّق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يعارض ولا يغيّر بإدخال ما ليس منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه[160].

فإنّه يرى أنّ المراد بـ «ما بعد النزول» إلى يوم القيامة، وعلى هذا الأساس فإنّ‏المراد من قوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» هو زمن حضور النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وإنّ المراد من قوله تعالى: «وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» أي بعد رحيل رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وربما أمكن أن يُفهم من كلامه أنّ المراد من قوله تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» جميع الأزمنة، وهي إلتفاتة جديرة بالاهتمام.

وقال سماحته في نهاية هذه المسألة:

فالآية تجري مجرى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[161].[162]

مناقشة الشيخ النوري الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) على الآية

إنّ سماحة الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) تصدّى في كتابه «فصل الخطاب» إلى التصدّي بنفسه لنقد الاستدلال المذكور، وأثار عليه بعض الإشكالات، وذهب في نهاية المطاف إلى ذكر معنى آخر لهذه الآية الكريمة.

الإشكال الأوّل: عدم الإشارة إلى مسألة التحريف في روايات الآية

قال سماحته إنّ الروايات الواردة في مورد هذه الآية الكريمة لا تشير إلى مسألة تحريف القرآن الكريم. وهناك روايتان في هذا الشأن، وقد وردت إحداهما في كتاب «تفسير عليّ بن إبراهيم القمي»، والاُخرى في «مجمع البيان في تفسير القرآن».

أمّا الرواية المذكورة في تفسير القمّي؛ فهي كالآتي:

وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام)، في قوله «إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ»يعني: القرآن الذي «لاَ يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»، قال: لا يأتيه الباطل من قبل التوراة، ولا من قبل الإنجيل والزبور، وأمّا من خلفه لا يأتيه من بعده كتاب يبطله[163].

والنتيجة هي أنّ التوراة والإنجيل لا تحتويان على مسائل تُبطل القرآن الكريم، ولن يأتي بعد القرآن كتاب يُبطله. ومن هنا فإنّ هذه الآية الكريمة لا ربط لها بمسألة التحريف.

وقد ذكر العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) في «مجمع البيان» خمسة أوجه في ذيل هذه الآية، وقد أتى على واحد منها على شكل رواية، وهي عبارة عن:

معناه أنّه ليس في اخباره عمّا مضى باطل، ولا في إخباره عمّا يكون في المستقبل باطل، بل إخباره كلّها موافقة لمخبراتها، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه‏ عليهماالسلام[164].

يرى الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) أن لا شيء من هاتين الروايتين يُشير إلى عدم تحريف القرآن الكريم.

جواب آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(رحمه‏‌‌الله) عن الإشكال الأوّل

إنّ الوالد المحقّق آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) ـ بعد ذكره للإشكال أعلاه ونقل روايتين في هامشه ـ أجاب عن الإشكال قائلاً:

إنّ اختلاف الروايتين في تفسير الآية وبيان المراد منها ـ ضرورة أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما؛ فإنّ الإخبار عمّا مضى لا يرتبط بالتوراة والإنجيل والزبور، والإخبار عمّا يكون في المستقبل لا يلائم الكتاب الذي يأتي من بعده ـ دليل على عدم حصر الباطل في شيء من مفادهما، وأنّهما بصدد بيان المصداق، ولا دلالة لهما على الحصر أصلاً. وعليه فظهور الآية في العموم، وعدم تطرّق شيء من أقسام الباطل وأفراده إليه واضح، لا معارض له بوجه[165].

كما اتّضح فإنّ هاتين الروايتين متخالفتان؛ وذلك لأنّ إحداهما ترى مصداق الباطل في «من بين يديه» من الكتب السماوية السابقة، والاُخرى ترى أنّ المصداق هو أخبار الماضين، كما أنّه في إحدى الروايتين يعتبر مصداق الباطل في «من خلفه» الكتب اللاحقة، والاُخرى تراه أخبار الآتين. وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ واحدة من هاتين الروايتين قد بيّنت أحد مصاديق الباطل، وعليه لو قبلنا أنّهما في مقام بيان المصاديق، وجب القول إنّهما تشتملان على عموم؛ وعليه يكون الاستدلال بهذه الآية على عدم التحريف تامّاً.

الإشكال الثاني: عدم إحراز إطلاق الباطل على التحريف

يقول سماحته في الإشكال على دلالة هذه الآية: إنّ هذه الآية تشتمل على عنوان «الباطل»، وإطلاق الباطل على التحريف موضع تأمّل وإشكال. وبعبارة اُخرى: إنّ إطلاق الباطل على تحريف القرآن ليس محرزاً، إذ يجب بحكم وحدة السياق في قوله «الباطل من بين يديه والباطل من خلفه» أن يكون هناك وحدة في المراد أيضاً؛ وذلك لأنّ الآية الكريمة تعرّف القرآن الكريم بالقول: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»، بمعنى أنّ الباطل لا يأتي القرآن من قبله ومن خلفه، لكي يفسّر «من بين يديه» بزمان نزول القرآن، و«من خلفه» بفترة ما بعد نزول القرآن الكريم.

يرى المستشكل أنّه لا يمكن تطبيق التحريف موضع البحث والنزاع على «من بين يديه»؛ وذلك لأنّ نفي التحريف عن القرآن في زمن نزوله ليس له معنى بسبب استحالته؛ لأنّ التحريف مورد البحث إنّما هو التحريف الذي يكون من قبل البشر، ببيان أنّ القائلين بالتحريف يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ آيات القرآن قد تعرّض إلى الزيادة والنقصان على يد الإنسان بمرور الزمان. وعلى هذا الأساس فإنّ التحريف مورد الإدّعاء لا يمكن أن يكون قد تحقّق في عصر نزول القرآن؛ وعليه بالالتفات إلى قرينة وحدة السياق بين «من بين يديه» و«من خلفه»، فعندما لا يكون التحريف مورد البحث منسجماً مع «من بين يديه»، لن يكون منسجماً مع «من خلفه» أيضاً؛ ولذلك لن يكون «التحريف» مصداقاً للباطل.

جواب آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) عن الإشكال الثاني

إنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) لم يُشر إلى هذا الإشكال في كتاب «البيان في تفسير القرآن»، بيد أنّ الشيخ الوالد المحقّق(قدس‏‌‌سره)، قد ذكره في كتابه «مدخل التفسير»، قائلاً:

الإشكال الثاني: التأمّل في صدق الباطل على ورود التحريف عليه، خصوصاً بعد ملاحظة وحدة المراد منه فيما سبق القرآن أو لحقه؛ إذ لا يتوهّم الباطل الذي بين يديه ذلك، فيكون ما في خلفه كذلك[166].

وقال سماحته في الجواب عن الإشكال:

والجواب: من الواضح أنّ كون التحريف من أظهر مصاديق الباطل ممّا لا ينبغي الإرتياب فيه، وتعلّق النفي بالطبيعة المعرفة يفيد العموم على ما ذكرنا، ولا مجال لملاحظة وحدة المراد؛ فإنّ الحكم لم يتعلّق بالأفراد حتّى تلاحظ وحدة المراد، بل بنفس الطبيعة في السابق واللاحق، كما هو غير خفي[167].

يرى سماحته أن لا شكّ ولا ترديد في أنّ التحريف واحد من مصاديق مفهوم البطلان، ولكن يجب هنا أن نتأمّل بالنسبة إلى منشأ الإشكال؛ إذ على الرغم من أنّ لازم وحدة السياق هو وحدة المراد، إلاّ أنّ مسألة السياق إنّما يتمّ طرحها في فرض وجود الأفراد، حيث يجب أن يكون المراد من جميع الأفراد واحداً، ويتمّ جمع الكلّ تحت مفهوم مشترك، ولا يمكن وضع الفرد الأوّل تحت مفهوم، ووضع الفرد الثاني تحت مفهوم ثان، والفرد الثالث تحت مفهوم آخر، وهكذا؛ بل يجب أن يندرج جميع الأفراد تحت معنى ومفهوم عامّ؛ وأمّا في المسألة مورد البحث فلا شأن للأفراد، بل هناك مفهوم عامّ بعنوان «الباطل». وعلى هذا الأساس لم يُرد الأفراد من الباطل في قوله تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»، بل المراد هو المفهوم العامّ، والذي يكون التحريف بالزيادة والنقيصة واحداً من مصاديقه.

الجواب المختار عن الإشكال الثاني

من الواضح أنّ «من بين يديه، ومن خلفه» في الآية الكريمة، فردان ومصداقان من الباطل؛ بمعنى أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد نفى فردين من أفراد الباطل، وقال: إنّ الباطل لا يتحقّق من بين يديه ولا من خلفه؛ ولكن لابدّ من الالتفات إلى أنّ البحث عن وحدة السياق إنّما يرد فيما إذا وجد الأفراد، وفي الموارد التي يكون فيها المفهوم الكلّي هو مورد البحث، لا يكون هناك معنى لوحدة السياق.

إنّ كلام المستشكل والشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)[168] بالنسبة إلى «من بين يديه» و«من خلفه» هو أنّ هذين الأمرين فردان من الباطل، وعليه يجب تفسير «من خلفه» بنفس تفسير «من بين يديه» أيضاً. وعليه لا يكون نقد سماحة الوالد المعظّم(رحمه‏‌‌الله)وارداً.

وعلى هذا الأساس فإنّ الجواب المختار عن الإشكال، هو أنّ المستشكل منذ البداية قد عمد إلى تحديد دائرة التحريف، في حين أنّ لعدم التحريف معنى واسع. بمعنى أنّ ما أنزله اللّه‏ سبحانه وتعالى موجود في القلب الشريف للنبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ولذلك فإنّ الذي يجري على لسان النبيّ إنّما هو ذات القرآن الذي نزل عليه، وهذا هو الذي يبقى. وعليه كما تقدّم من الأبحاث السابقة، فإنّ المراد من قوله تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» هو إنّه في زمن نزول القرآن لا طريق إلى تحريف القرآن بزيادة أو نقيصة من قبل أيّ كائن، سواء أكان من البشر، أو من غير البشر، وسواء أكان نبيّاً، أو غير نبيّ. وعلى هذا الأساس فإنّ مسألة تحريف القرآن الكريم لا تنحصر بالتحريف على يد البشر.

الإشكال الثالث: دلالة الآية على عدم التحريف تفسير جديد

يرى الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) أنّ تفسير الآية بحيث تدلّ على عدم تحريف القرآن هو تفسير جديد، ويتّضح من خلال البحث في الكتب التفسيريّة أنّه لم يأتِ مفسّر على مثل هذا التفسير[169].

لقد ذكر الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «التبيان»، خمسة إحتمالات في تفسير قوله تعالى: «لاَ يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ»، ولا شيء من هذه الإحتمالات الخمسة يُشير إلى مسألة التحريف. فقد قال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في تفسير هذه الآية:

أحدها: أنّه لا تعلّق به الشبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة، وهو الحقّ المخلص، والذي لا يليق به الدنس. والثاني: قال قتادة والسُّدي: معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّاً، ولا يزيد فيه باطلاً. الثالث: إنّ معناه لا يأتي بشيء يوجب بطلانه ممّا وجد قبله، ولا معه، ولا ممّا يوجد بعده. وقال الضحّاك: لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله، «ولا من خلفه»، أي: ولا حديث من بعده يكذبه. الرابع: قال ابن عباس: معناه لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيله، ولا من آخره. والخامس: إنّ معناه لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم، ولا من خلفه، ولا عمّا تأخّر[170].

وعلى الرغم من أنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) قد ادّعى في كتاب «التبيان» وجود خمسة إحتمالات، ولكن يبدو أنّ المعنى الثالث يعود إلى المعنى الأوّل القائل: «لا تعلّق به الشبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من طريق المناقضة».

والمعنى الرابع بدوره يشير إلى أنّ الباطل لا يتطرّق إلى أوّل وآخر التنزيل، ببيان أنّه لا يوجد في الآيات التالية للآية الاُولى ما يتهافت ويتنافى مع سائر الآيات الاُخرى. وبناءً على هذا المعنى ليست هناك آية تبطل آية اُخرى.

كما أنّ المعنى الخامس يفيد أنّ المراد من قوله تعالى «من بين يديه» هو الأخبار الماضية، وأنّ المراد من قوله تعالى «من خلفه» هو الأخبار المقبلة، وقد نقل هذا البيان في رواية عن العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله).

وعلى كلّ حال فإنّه لا شيء من هذه التفاسير الخمسة ينسجم مع تفسير القائلين بعدم تحريف القرآن الكريم.

وعليه فإنّ خلاصة الإشكال الثالث للشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) هو أنّ تفسير الباطل بعدم التحريف لا يتطابق مع أيّ واحد من تفاسير المفسّرين، وكأنّ سماحته يريد القول بأنّه لا يحقّ لأيّ مفسّر في كلّ زمان أن يفسّر القرآن كما يريد، بل عليه أن ينظر إلى ما فهمه الذين كانوا حاضرين في عصر نزول الآية!

جواب آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) عن الإشكال الثالث

قال سماحته في كتابه «مدخل التفسير» بعد نقل كلام صاحب «فصل الخطاب»:

والجواب: أنّا قد حقّقنا في أوّل مبحث اُصول التفسير أنّ الأصل الأوّلي في باب التفسير وكشف مراد اللّه‏ تبارك وتعالى من كتابه العزيز هو ظواهر الكتاب، وأنّ الاعتماد في باب التفسير عليها ممّا لا ينبغي الإرتياب فيه، وقول المفسّرين لم يقم دليل على اعتباره ما لم يكن مبتنياً على تلك الأصول، وقد عرفت أنّ ظاهر الآية تعلّق النفي بطبيعة الباطل، وأنّ التحريف من أوضح مصاديقه، ولا يعارض ذلك قول المفسّرين، إلاّ إذا كان مستنداً إلى بيان المعصوم الذي هو أيضاً من تلك الاُصول، والظاهر عدم الاستناد في المقام، وعلى تقديره فالروايات المستند إليها هي الروايات المتقدّمة، وقد عرفت عدم دلالتها على الحصر الباطل في مفادها، والدليل عليه وجود الاختلاف بينها كما لا يخفى[171].

يرى سماحته أنّ الأصل الأوّلي في تفسير القرآن الكريم يتمثّل في ظواهره، ببيان أنّه لابدّ من التدقيق في ظهور الآيات الكريمة في المعاني. ومن الواضح في المسألة مورد البحث أنّ لـ «الباطل» ظهوراً في العموم، وأنّ له عنواناً عامّاً، ومن هنا يمكن أن يكون له معان ومصاديق اُخرى أيضاً، ولم يُشر المتقدّمون إليها. ومن ناحية اُخرى فإنّ آراء المفسّرين المتقدّمين ليست حجّة بالنسبة إلى الآخرين، بل إنّ كلّ شخص يتصدّى إلى تفسير آية، عليه أن يلتفت إلى ظواهر الآيات.

جواب آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه) عن الإشكال الثالث

قال آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه) في كتابه «نزاهت قرآن از تحريف» في نقد الإشكال الثالث:

أوّلاً: نقل الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «التبيان» في تفسير قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[172]، عن قتادة قوله: لحافظون من الزيادة والنقصان، ومثله قوله: «لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ»[173].

وعليه فإنّ من بين تفاسير هذه الآية أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يحفظ القرآن الكريم من الزيادة والنقصان، وعلى هذا الأساس فإنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) ـ وهو مفسّر للقرآن الكريم ـ يُقرّ بأنّ الآية الثانية والأربعين من سورة فصّلت، هي مثل الآية التاسعة من سورة الحجر: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»؛ وعليه فكما أنّ آية سورة الحجر تدلّ على عدم تحريف القرآن، كذلك هو الحال بالنسبة إلى آية سورة فصّلت، فهي تدلّ على عدم التحريف أيضاً.

ثانياً: لقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره لهذه الآية «لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» وجوهاً، قال في ثالثها: «الثالث: معناه أنّه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه، فيأتيه الباطل من خلفه؛ والدليل عليه قوله «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» فعلى هذا الباطل هو الزيادة والنقصان»[174].

من الواضح أنّ الفخر الرازي يرى أنّ من بين معاني الحفظ من الباطل هو الحفظ من التحريف بالزيادة والنقصان، ببيان أنّه قد فسّر قوله تعالى:«مِنْ بَيْنِ يَدَيْه»بنقصان القرآن، وفسّر قوله تعالى: «مِنْ خَلْفِهِ» بالزيادة في القرآن.

وخلاصة الكلام، أوّلاً: إنّ قول المفسّر ليس حجّة؛ إذ الملاك في التفسير هو ظواهر الآيات، وفي المقام فإنّ كلمة «الباطل» لها ظهور في المعنى العامّ. وثانياً: إنّ كلامه غير تامّ من الناحية الصغروية أيضاً؛ لأنّ بعض المفسّرين قد استدلّوا بآية سورة فصّلت على عدم تحريف القرآن الكريم أيضاً.

رأي الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) في معنى الآية

بعد أن أنكر سماحته دلالة الآية الثانية والأربعين من سورة فصّلت، على عدم تحريف القرآن، إستند إلى الروايتين المذكورتين في الأبحاث السابقة عن «تفسير القمّي» و«مجمع البيان»، وقال في تفسير هذه الآية الكريمة:

لا يوجد في الكتب السماوية الاُخرى شيء يتناقض مع القرآن الكريم، كما لا يوجد كذب في أخبار القرآن عن الوقائع والقضايا الخاصّة بالأزمنة الماضية والأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)[175].

نقد كلام الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)

لقد تحدّث السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في نقد رأي الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)، قائلاً:

إنّ الرواية لا تدلّ على حصر الباطل في ذلك، لتكون منافية لدلالة الآية على العموم، وخصوصاً إذا لاحظنا الروايات التي دلّت على أنّ معاني القرآن لا تختصّ بموارد خاصّة، وقد تقدّم بعض هذه الروايات في مبحث «فضل القرآن»، فالآية دالّة على تنزيه القرآن في جميع الأعصار عن الباطل بجميع أقسامه، والتحريف من أظهر أفراد الباطل، فيجب أن يكون مصوناً عنه، ويشهد لدخول التحريف في الباطل الذي نفته الآية عن الكتاب أنّ الآية وصفت الكتاب بالعزّة، وعزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع، أمّا إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل في الآية الكريمة، فلا يناسبها توصيف الكتاب بالعزّة[176].

إنّ كلام السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إنّما يصحّ ويستقيم إذا جاء قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز» بوصفه شاهداً في الآية.

بيان نكتة تفسيريّة

تقدّم أنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) قد ذكر في كتاب «التبيان» وجوهاً في معنى الآية الكريمة، من قبيل قوله: «قال فلان: معناه لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيل» أو «معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه»، لابدّ من الالتفات إلى أنّه في فرض بيان المصداق، لا يُستفاد هذا الشيء من كلمة «معناه»، بل لا بدّ من بيان ذات المصداق، وعليه ربما تكون هناك عدّة روايات في البين ويشير كلّ واحد منها إلى واحد من تلك المصاديق، ولا يوجد أيّ تناف فيما بينها أيضاً. وأمّا إذا تمّت الإشارة إلى معنى الآية الكريمة، لن يكون هناك عنوان مصداقي، بل إنّ المراد في هذا النوع من الموارد هو تفسير وبيان الآية. وعلى هذا الأساس فإنّ بيان المعنى يختلف عن ذكر المصداق.

إنّ الاختلاف بين المعنى وذكر المصداق إنّما يكون في كلام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، وإلاّ لو تمّ بيان معنى الآية في كلام غير المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، من أمثال قتادة، فليس من اللازم حمله على التفسير، وإنّما يمكن حمله على المصداق.

ومن الجدير ذكره أنّ هذا النوع من النكات لا يتمّ التعرّض له ـ عادة ـ في المباحث التفسيرية، وإنّما تمّ استنباط هذا المطلب من تضاعيف أبحاث سماحة الشيخ الوالد المحقّق(قدس‏‌‌سره)؛ ببيان أنّ المعصوم(عليه‏‌‌السلام) إذا قال في رواية: «معناه كذا»، لا يمكن حمل ذلك على المصداق، وإنّما يجب حمله على التفسير.

وأمّا إذا لم يؤت بكلمة «معناه» أمكن حمله على المصداق، كما في قوله تعالى: «وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا»[177]؛ إذ ورد في رواية أنّ المراد من قوله: «مَا ظَهَرَ» هو «الثياب، أي: الكحل»، وفي رواية ثانية «الكفّان»، وفي رواية اُخرى تمّت الإشارة إلى مصاديق اُخرى. إنّ الروايات في هذا النوع من الموارد إنّما تكون في مقام بيان المصداق، وأمّا إذا ورد في رواية أنّ «ما ظهر منها معناه هذا»، فعندها لا يمكن حملها على المصداق، بل سوف تكون هذه الرواية في مقام بيان وتفسير الآية.

3. الآية 32 من سورة التوبة

قال تعالى في هذه الآية الكريمة:

«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه‏ِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»[178].

كيفيّة دلالة هذه الآية على عدم تحريف القرآن الكريم

لقد نزلت هذه الآية بشأن الكفّار من اليهود والنصارى الذين يسعون إلى إطفاء نور اللّه‏. فإنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قال في الردّ عليهم: «إنّ هؤلاء ـ اليهود والنصارى ـ يرومون إطفاء نور اللّه‏ بأفواههم وكلماتهم». إنّ هذه الآية إنّما يمكن لها أن تكون شاهداً على عدم تحريف القرآن الكريم، إذا كان المراد من «نور اللّه‏» فيها هو القرآن، وقد ورد التعبير عن القرآن الكريم بالنور في الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور، إذ يقول اللّه‏ تعالى: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللّه‏ِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ»[179].

فإذا اعتبرنا أنّ المراد من كلمة «النور» في الآية مورد البحث هي القرآن، وكان تحريف القرآن واحداً من مصاديق إطفاء نور اللّه‏، أمكن الاستناد إلى قوله تعالى: «وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ»؛ لإثبات عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم.

ومن الممكن لشخص أن يدّعي أنّ المراد من «النور» في هذه الآية الكريمة هو اللّه‏ سبحانه وتعالى، وأنّ إضافة «النور» إلى «اللّه‏» فيها من قبيل الإضافة البيانيّة؛ والشاهد على هذا المدّعى من القرآن أيضاً، هو قوله تعالى: «اللّه‏ُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»[180].

إنّ هذا الإدّعاء غير صحيح؛ وذلك لأنّ كلمة «النور» قد استعملت في هذه الآية مرّتين، وعليه فإنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد منهما واحداً، في حين حيث يجب أن يكون المراد من النور في الاستعمال الثاني غير اللّه‏ سبحانه وتعالى؛ إذ يقول تعالى فيه: «وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ»، لا معنى لأن يكون النور في هذا الموضع هو اللّه‏؛ إذن يجب أن يكون المراد منه معنى آخر من قبيل القرآن. ومن ناحية اُخرى لا بدّ من الالتفات إلى أنّ هناك نوعين من النور، وهما: النور التشريعي، والنور التكويني، وحيث أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى هو النور التكويني للسماوات والأرض، وأنّ القرآن الكريم هو النور التشريعي للسماوات والأرض، يكون لهذه الآية الكريمة ظهور في النور التشريعي.

مناقشة الاستدلال بالآية على عدم تحريف القرآن الكريم

إنّ هذا الاستدلال يشتمل على انتقادات ومناقشات متعدّدة؛ ويمكن بيان بعض هذه الانتقادات والإشكالات على النحو الآتي:

النقد الأوّل: عدم إحراز تفسير النور بالقرآن

إنّ تفسير «النور» بـ «القرآن» ليس محرزاً؛ إذ هناك احتمال أن تكون إضافة «النور» إلى «اللّه‏» إضافة بيانية؛ بمعنى أنّ اليهود والنصارى كانوا يسعون إلى إطفاء اللّه‏ تعالى؛ وبطبيعة الحال ليس المراد هنا هو ذات اللّه‏ تعالى، بل إنّهم كانوا يسعون إلى إطفاء ما يرتبط باللّه‏ سبحانه وتعالى، من قبيل: الرسالة، والدين، وغيرهما من أمثلة ونماذج الدين.

إنّ لـ «نور اللّه‏» في الآية ظهوراً في الدين الإسلامي الحنيف؛ بمعنى: أنّ اليهود والنصارى كانوا يسعون إلى القضاء على الإسلام. ومن هنا فقد كانوا يتّهمون النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالسحر والجنون وما إلى ذلك، أو كانوا يسخرون منه، وكانوا يسعون إلى اغتياله. وبعبارة اُخرى: إنّهم كانوا يسعون بشكل إلى محو دين النبيّ الأكرم، وكان القرآن جزءاً من هذا الدين. وعليه فإنّ المراد من «النور» في هذه الآية ليس هو خصوص القرآن الكريم، وإن كان القرآن الكريم جزء من هذا النور. والشاهد على هذا الكلام هو الآية التالية ـ أي الآية الثالثة والثلاثون من سورة التوبة ـ إذ يقول اللّه‏ تبارك وتعالى:

«هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد تكفّل في هذه الآية وتعهّد بنشر الإسلام، واتّساع دائرته وانتصاره. إنّ هذه الآية لا ربط لها بتحريف القرآن الكريم، أو عدم تحريفه، ولا تنسجم مع ما قيل، بمعنى أنّ المراد من «نور اللّه‏» في الآية الثانية والثلاثين هو دين الإسلام.

كما فسّر العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) النور في هذه الآية الكريمة، قائلاً:

«يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّه‏ِ» وهو القرآن والإسلام، عن أكثر المفسّرين. وقيل: نور اللّه‏ الدلالة والبرهان، لأنّهما يهتدى بهما، كما يهتدى بالأنوار، عن الجبائي. قال: ولمّا سمّى سبحانه الحجج والبراهين أنواراً، سمّي معارضتهم لذلك إطفاء[181].

وقال القرطبي في «جامع الأحكام» في تفسير هذه الآية:

قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّه‏ِ» أي: دلالته وحججه على توحيده. جعل البراهين بمنزلة النور لما فيها من البيان. وقيل: المعنى نور الإسلام، أي: أن يخمدوا دين اللّه‏ بتكذيبهم[182].

كما قال الزمخشري في «الكشّاف» في تفسير هذه الآية:

مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، يريد اللّه‏ أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة، ليطفئه بنفخه ويطمسه، «لِيُظْهِرَهُ»ليظهر الرسول(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)«عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» على أهل الأديان كلّهم[183].

النقد الثاني: عدم انسجام تتمّة الآية مع تفسير «النور» بـ «القرآن»

الإشكال الثاني هو: إذا كان المراد من «النور» في الآية الكريمة هو القرآن الكريم، فإنّ ذلك لن ينسجم مع تتمّة الآية، وهي قوله تعالى: «وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ»؛ وذلك لأنّ زمن الحفظ في هذا الفرض إلى إتمام وإكمال القرآن، وبعد إكمال القرآن الكريم يصل الدور إلى تحريف القرآن، ثمّ إنّ تقسيم النور إلى تكويني وتشريعي موضع تأمّل.

الدليل الثاني: الاستدلال بأوصاف القرآن الكريم

هناك في كلمات وعبارات العلماء طريقتان واُسلوبان لإثبات عدم تحريف القرآن من خلال الاستناد إلى آيات القرآن الكريم:

الأسلوب الأوّل: الاستدلال بعدد من الآيات القرآنية الكريمة، وقد تقدّمت مناقشة بعض الآيات في الأبحاث السابقة، وقد استدلّ بعض العلماء بآيات اُخرى أيضاً، ولكنّنا لا نرى دلالة تلك الآيات على عدم تحريف القرآن تامّة، ومن هنا فإنّنا لا نبحث في تلك الآيات.

أمّا الأسلوب الثاني: الاستدلال بالخصائص الأولى للقرآن الكريم، وهذا هو الاُسلوب الذي سار عليه العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله). فقد استدلّ سماحته لإثبات عدم تحريف القرآن بمجموعة من خصائص القرآن الكريم، ببيان أنّ القرآن في زمن النزول قد بيّن لنفسه بعض الأوصاف والخصائص، وعلى أساس تلك الأوصاف عرض مجموع الآيات إلى التحدّي؛ وعليه يكون القرآن الموجود بين أيدينا هو ذات القرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، إذ لو طرأ تحريف على القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، وجب أن لا يشتمل على تلك الأوصاف التي على أساسها فرض اللّه‏ التحدّي على الناس بأن يأتوا بمثله! والحال أنّ جميع تلك الأوصاف والخصائص موجودة في القرآن الموجود بين أيدينا.

رأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)

لقد أشار العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) إلى سبعة عناوين وصفات في هذا الشأن، وقال:

من ضروريات التاريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداً(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) جاء قبل أربعة عشر قرناً ـ تقريباً ـ وادّعى النبوّة، وانتهض للدعوة، وآمن به اُمّة من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن، وينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف وكلّيات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به، ويعدّه آية لنبوّته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به، وقرأه على النّاس المعاصرين له في الجملة، بمعنى أنّه لم يضع من أصله، بأن يفقد كلّه، ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه، وينسب إليه، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلاّ مصاب في فهمه، ولا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين[184].

ثمّ عمد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) بعد ذلك إلى ذكر دليله على النحو الآتي:

ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته، ونجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفّتين واجداً لما وصف به، من أوصاف تحدّى بها، من غير أن يتغيّر في شيء منها، أو يفوته ويفقد[185].

وقد ذكر سماحته لإثبات هذا الكلام موارد من التحدّي للقرآن، وهي عبارة عن:

الصفة الأولى: فصاحة القرآن الكريم وبلاغته

فنجده يتحدّى بالبلاغة والفصاحة، ونجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع، لا يعدله ولا يشابهه شيء من كلام البلغاء والفصحاء، المحفوظ منهم والمروي عنهم، من شعر، أو نثر، أو خطبة، أو رسالة، أو محاورة، أو غير ذلك، وهذا النظم موجود في جميع الآيات، سواء كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود والقلوب[186].

إنّ القرآن الكريم في عصر نزوله قد تحدّى النّاس بالفصاحة والبلاغة الموجودة في القرآن الكريم، ببيان أنّ العرب كانوا في عصر نزول القرآن في ذروة وأوج فصاحتهم وبلاغتهم، حيث كانوا يبدعون الكثير من الأشعار البليغة والخطب الفصيحة والنثر المتقن، ولكن لم يتمكّن أيّ واحد منهم من أن يأتي بجملة واحدة، تجاري القرآن الكريم في قوّة بلاغته وفصاحته. إنّ القرآن الموجود حالياً بين أيدينا يشتمل على ذات المرتبة العالية من الفصاحة والبلاغة.

الصفة الثانية: عدم التنافي والاختلاف بين آيات القرآن

وقال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في بيان الصفة الثانية البارزة للقرآن الكريم:

ونجده يتحدّى بقوله: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه‏ِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»[187] بعدم وجود إختلاف فيه، ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء وأوفاه، فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلاّ ويرفعه آية اُخرى، وما من خلاف أو مناقضة يتوهّم بادي الرأي من شطر إلاّ وهناك ما يدفعه ويفسّره[188].

لقد تحدّى اللّه‏ تعالى الكفّار وأهل الكتاب والمشركين أن يجدوا اختلافاً بين آيات القرآن الكريم، وبطبيعة الحال قد يبدو هناك في الوهلة الاُولى بعض الآيات ذات الغموض، ولكن بعد الرجوع إلى الآيات الاُخرى والروايات ينجلي ذلك الغموض، وبذلك يكون القرآن نفسه رافعاً للغموض والإبهام. وفي القرآن الموجود بين أيدينا لا نجد أيّ نوع من أنواع الإختلاف بين الآيات.

الصفة الثالثة: تعميم التحدّي

وقال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في بيان الخصيصة الثالثة:

ونجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربية، كما في قوله: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الاْءِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً»[189]، وقوله: «اِنَّهُ لَقَوْل فَصْل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ»[190]؛ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الذي لا مرية فيه، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقية، وكلّيات الشرائع الفطرية، وتفاصيل الفضائل الخلقية، من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة والخلل، أو نحصل على شيء من التناقض والزلل، بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد، هو مبدأ جميع المعارف القرآنية والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع وهو التوحيد، فإليه ينتهي الجميع بالتحليل وهو يعود إلى كلّ منها بالتركيب[191].

توضيح ذلك: أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى لم يتحدّ الناطقين باللغة العربية فقط، وإنّما وجّه هذا التحدّي إلى جميع البشر، وهذا ما تدلّ عليه الآية المذكورة في كلام العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله).

قد لا يكون هناك قدر جامع حتّى في الفصل الأوّل والفصل الثاني من كتب البشر، وتكون هناك مسافة كبيرة بين مطالبها، إلاّ أنّ جميع آيات القرآن حقيقة واحدة، ببيان أنّ الملاك الموجود في الأحكام العقلية والفضائل الأخلاقية والشرائع يعود إلى أساس واحد، وهناك حقيقة واحدة تعمل على تدبيرها بأجمعها.

الصفة الرابعة: الاُصول العامّة الحاكمة على رواية قصص الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)

قال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في هذا الشأن:

ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء واُممهم، ونجد ما عندنا من كلام اللّه‏ يورد قصصهم، ويفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين، ويناسب نزاهة ساحة النبوّة، وخلوصها للعبودية والطاعة، وكلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنية على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الإنجلاء[192].

تحكم أخبار الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) واُممهم في القرآن الكريم، والقصص الموجودة في القرآن فصول عامّة تتناسب مع مساحة النبوّة، ومقام عبوديّتهم وطاعتهم؛ يضاف إلى ذلك أنّ هناك اختلافاً كبيراً بين أخبار الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) الموجودة في القرآن الكريم، وبين القصص المنقولة عنهم في كتب العهدين، والآن بعد مضيّ ما يزيد على 1400 سنة على نزول القرآن، لا تزال هذه الخصوصية موجودة في القرآن الكريم.

الصفة الخامسة: تصريح القرآن بموارد من الفتن وأحداث المستقبل

إنّ الصفة الخامسة التي يذكرها القرآن الكريم، وأشار إليها العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، تبيّن الأحداث المرتبطة بما بعد نزول القرآن الكريم؛ إذ يقول في ذلك:

ونجده يورد آيات في الملاحم، ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح، أو بالتلويح، ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة[193].

هناك آيات من القرآن الكريم تتحدّث عن الفتن وأحداث آخر الزمان، حيث كلّما تقدّم الزمن تتّضح بعض أبعادها للبشر.

الصفة السادسة: الاتّصاف بالصفات الجمالية من قبيل: النور والصراط

قال سماحته فيما يتعلّق بهذه الصفة القرآنية:

ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة، كما يصف نفسه بأنّه نور، وأنّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم، وإلى الملّة التي هي أقوم، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك، ولا يهمل من أمر الهداية والدلالة ولا دقيقة[194].

إنّ القرآن الكريم قد وصف نفسه بأوصاف من قبيل: الهدى، والصراط المستقيم، والأقوم قولاً وما إلى ذلك، وإنّ ذات هذه الأوصاف موجودة في القرآن الموجود بين أيدينا أيضاً، ولم يفقد أيّ شيء منها.

الصفة السابعة: كون القرآن ذكر اللّه‏ (بيان صفات اللّه‏ وأسمائه الحسنى)

إنّ الصفة الهامّة المذكورة في القرآن الكريم، عبارة عن:

ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه، أنّه ذكر للّه‏، فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه، حيّة، خالدة، وبما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويصف سنته في الصنع والإيجاد، ويصف ملائكته وكتبه ورسله، ويصف شرائعه وأحكامه، ويصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة، وهو المعاد ورجوع الكلّ إليه سبحانه، وتفاصيل ما يؤل إليه أمر النّاس، من السعادة، والشقاء، والجنّة، والنّار. ففي جميع ذلك ذكر اللّه‏، وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر[195].

إنّ القرآن الكريم يذكّر الإنسان باللّه‏ سبحانه وتعالى، ومن هنا كان في حدّ ذاته دليلاً حيّاً وخالداً.

ثمّ استطرد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في الإشارة إلى دليله على نحو الإجمال، قائلاً:

وخلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله اللّه‏ على نبيّه، ووصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة، لو كان تغيّر في شيء من هذه الأوصاف بزيادة، أو نقيصة، أو تغيير في لفظ، أو ترتيب مؤثّر، فقد آثار تلك الصفة قطعاً، لكنّا نجد القرآن الذي بأيدينا واجداً لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن، وأحسن ما يكون، فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته، فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بعينه، فلو فرض سقوط شيء منه، أو تغيّر في إعراب، أو حرف، أو ترتيب، وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شيء من أوصافه، كالإعجاز وارتفاع الاختلاف، والهداية والنورية والذكرية، والهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، وذلك كآية مكرّرة ساقطة، أو اختلاف في نقطة أو إعراب ونحوها[196].

وخلاصة القول: لو كان التحريف أو التغيير حاصلاً في القرآن الكريم، لحدث تغيير في هذا النوع من الصفات، بمعنى أنّه لو وقع تحريف لوقع تغيّر في عنوان الذكر والنور والهدى والفصاحة والبلاغة، وعدم وجود الاختلاف والتحدّي بالنسبة إلى الجميع في مورد القرآن الكريم.

يرى سماحته أنّ التغيير إذا كان بحيث لا يحدث تغييراً في أوصاف القرآن، التي هي من قبيل الذكر والهدى وما إلى ذلك، واقتصر التغيير على حركات الإعراب، كما في كلمة «يَطهُرْنَ» أو قراءتها على شكل «يَطَّهَّرن»، فإنّ هذا النوع من التغيير لا إشكال فيه.

وعليه، فإنّ مجموع القرآن ـ من وجهة نظر سماحته ـ يدلّ على عدم تحريف القرآن الكريم؛ إذ أنّ القرآن منذ نزوله وإلى يوم القيامة يدعو المنكرين إلى التحدّي.

ومن هنا كان القرآن الكريم معجزة أبديّة، ولو وقع التغيير في القرآن بالنقصان أو الزيادة، لما أمكن له اليوم أن يعمل على تحدّي جميع النّاس بوصفه معجزة.

نقد آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(رحمه‏‌‌الله) لرأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)

قال سماحة والدنا المحقّق والمدقّق(قدس‏‌‌سره) بعد ذكره لرأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله):

وهو وإن كان غير خال عن المناقشة؛ ضرورة أنّ ما أفاده إنّما يجدي لنفي الزيادة الكثيرة، أو النقيصة المتعدّدة في مواضع متكثرة، كما يدّعيه القائل بالتحريف المستند إلى الروايات الكثيرة الدالّة عليه. أمّا احتمال زيادة يسيرة، أو نقيصة يسيرة، كما فرضه في أوّل البحث، فالدليل لا يثبت نفيه، ولا يجدي لدفعه أصلاً[197].

إنّ سماحته بعد ذكره لهذا النقد، يشير على سبيل المثال إلى رواية تدلّ على حذف عبارة «في عليّ» من الآية السابعة والستين من سورة المائدة، وقال بأنّ استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) لا يكفي للردّ على أمثال هذا التحريف.

إشكال آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه) على نقد آية اللّه‏ الفاضل(رحمه‏‌‌الله)

لقد أجاب أستاذنا آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه) عن إشكال المرحوم الوالد، قائلاً:

من الممكن دفع هذا الإشكال من خلال النظر في كلام العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، وذلك لأنّ سماحته قد قسّم التحريف إلى قسمين، وهما: التحريف المؤثّر، والتحريف غير المؤثّر في الأوصاف العامّة للقرآن الكريم، وقال بأنّ برهانه ناظر إلى القسم الأوّل دون الثاني. وأمّا أن يكون حذف مثل عبارة «في عليّ» من القسم الأوّل أو الثاني؟ فهو بحث صغروي وليس كبروياً، فقد لا يكون سقط هذه العبارة من قبل سقط آية متكرّرة وموارد اُخرى افترضها سماحة أستاذنا ـ العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) ـ بوصفها مثالاً من القسم الأوّل[198].

نقد رأي آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه)

يبدو أنّ الإشكال والنقد الذي أورده سماحة الشيخ الأستاذ على كلام سماحة الشيخ الوالد المحقّق(رحمه‏‌‌الله) ليس تامّاً؛ وذلك لأنّه وإن كان لا يوجد بحث في كون حذف عبارة «في علي» هي من القسم الثاني، إلاّ أنّ الإشكال هو أنّ استدلال العلاّمة الطباطبائي ليس كافياً بالنسبة إلى ذلك الشخص الذي يقول بالتحريف بهذا المقدار. وعلى هذا الأساس تكون مناقشة الشيخ الوالد المحقّق(رحمه‏‌‌الله)لكلام العلاّمة الطباطبائي(قدس‏‌‌سره)واردة.

إشكال آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام‏ظلّه) على استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)

يذكر سماحة آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه) في بداية الأمر بعض النقاط حول استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، ومن أهمّها الاستدلال بعموم واطلاق آيات «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، و«لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ».

إنّ العموم والإطلاق من مصاديق ظواهر الآيات، وهي حجّة ظنيّة الدلالة، بيد أنّ هذا الكلام من العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، استدلال بالدليل القطعي على عدم تحريف القرآن الكريم، ببيان أنّ مجموع القرآن الكريم يحتوي على صفات تأتي في مقام التحدّي، فإذا كانت دلالة هذا الأمر على المدّعى تامّة، كان هذا دليلاً قطعياً وليس ظنّياً[199]؛ لأنّه لسان حال جميع الآيات القرآنية، وإنّ جميع ادّعاءات القرآن الكريم مقرونة بالبيّنة والبرهان، ومن هنا لم تتمّ الاستفادة من مجرّد ظاهر الإطلاق أو العموم أو الظن الحاصل من الجملة أو القرينة الموجودة.

جواب إشكال آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه)

إنّ الاختلاف بين استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) واستدلال الآخرين، يكمن في أنّ استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) لا يركز على آية أو عبارة بعينها، بل إنّه يجعل من جميع آيات القرآن الكريم محوراً لاستدلاله، ببيان أنّ سماحته قد برز في مقام التحدّي بجميع الصفات الموجودة في القرآن الكريم، والحال أنّ هذا الصفات المذكورة في القرآن الكريم لا تزال موجودة في القرآن الموجود بين أيدينا أيضاً. ومن هنا يمكن لنا حتّى هذا اليوم أن نتحدّي على أساس الأوصاف الموجودة، ولكن يبدو أنّه لا يمكن لنا أن ندّعي قطعيّة الدليل، إذ لو كان في القرآن الكريم مئة آية، وأشارت كلّ آية منها إلى وصف من أوصاف القرآن، من قبيل: «العربي المبين»، و«الحفظ»، و«عدم الاختلاف» على ما جاء في قوله تعالى: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه‏ِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً»[200]، وما إلى ذلك من الصفات الاُخرى، لما أمكن اعتبار مجموعها بوصفها دليلاً قطعياً على عدم تحريف القرآن الكريم؛ إذ قد ثبت في الاُصول والفلسفة أنّ المجموع من حيث المجموع أمر إعتباري لا يقبل الإتّصاف بوصف، بمعنى أنّه لا يمكن الادّعاء بأنّ المجموع من حيث المجموع متّصف بعنوان الحفظ، إذ أنّ الوصف الحقيقي لا يمكن أن يكون وصفاً للأمر الإعتباري، وإنّ المجموع من حيث المجموع أمر إعتباري. وعليه فإنّ كلّ آية من الآيات تشير إلى صفة من صفات القرآن الكريم، وإنّ الصفة الأجمع هي صفة الحفظ، الواردة في قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»؛ وحيث أنّ هذه الآية نصّ، تكون دلالتها على اتّصاف القرآن بالحفظ قطعيّة، إلاّ أنّ دلالة الحفظ على عدم تحريف القرآن ظنيّة، وهكذا الأمر بالنسبة إلى دلالة الصفات الاُخرى، من قبيل: «العربي المبين»، و«عدم وجود الاختلاف» وما إلى ذلك، حيث تكون دلالتها على عدم تحريف القرآن الكريم دلالة ظنيّة. وعليه فإنّ ما ادّعاه سماحة آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه) من قطعيّة الدليل غير صحيح.

والخلاصة هي أنّ دلالة الآيات على الصفات المذكورة قطعيّة، لأنّ الآيات نصّ في الصفات، بيد أنّ دلالة هذه الصفات على عدم تحريف القرآن الكريم ظنيّة.

وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن نفهم كلام سماحته بناءً على الصناعة العلمية، إذ أنّه في المطلب الرابع قد اعتبر المعيار هو الدلالة القطعيّة دون الظنيّة.

وبطبيعة الحال فقد كان لسماحة آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه) اهتمام كبير بمباني أستاذه العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، ولذلك فقد حفظ أبعاد الجواب ومبانيه.

يُضاف إلى ذلك أنّ منهجه التفسيري بدوره يقوم على تفسير القرآن بالقرآن أيضاً، وحتّى فيما يتعلّق باكتشاف علوم القرآن ـ من قبيل: عدم تحريف القرآن الكريم ـ يستفيد من الآيات القرآنية أيضاً.

تتمّة نقد كلام آية اللّه‏ جوادي الآملي (دام ظلّه)

يرى سماحته أنّ استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) يدلّ على هذه النقطة، وهي أنّ القرآن الكريم كلام اللّه‏ سبحانه وتعالى، بيد أنّه لا يدلّ على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم، ببيان أنّه لا يمكن بهذا الاستدلال أن نثبت أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو ذات القرآن الكريم الذي نزل على القلب الطاهر لرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ في حين هناك بون شاسع بين هذين الأمرين؛ لأنّ القول باعتبار أنّ القرآن الكريم هو كلام اللّه‏، شيء لم يتمّ ادّعاؤه في المقام، وهو خارج عن محلّ البحث، بل المدّعى هو عدم تحريف القرآن، وأنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو ذات القرآن الكريم الذي نزل على القلب الطاهر لرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وبطبيعة الحال فإنّ سماحته قد أشار في بداية الإشكال إلى تعابير من قبيل: التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية، ولم يتّضح المراد من هذه التعابير، ولم يتّضح لنا أيّ قسم من استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) هو من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ثمّ ادّعى أنّ استدلال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) ينطوي على دور رقيق، في حين أنّ الدور إنّما يثبت حيث يكون الدليل عين المدّعى. ومن الواضح أنّ دليل العلاّمة الطباطبائي ليس عين المدعى.

وعليه فإنّ جوهر إشكال الشيخ جوادي الآملي على العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، أنّ المدّعى هو أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، في حين أنّ استدلاله إنّما يثبت أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو كلام اللّه‏، وأنّ هذا القرآن الموجود بين أيدينا يصلح للتحدّي؛ إذ أنّ القائلين بتحريف القرآن يحتملون حذف قضية الغيبة الكبرى وقضايا آخر الزمان وما إلى ذلك، كما يوجد من وجهة نظر القائلين بتحريف القرآن الكريم إحتمال حذف كيفية وخصائص المعاد الجسماني أيضاً، وكذلك حذف اُمور اُخرى، من قبيل: شرح مفطرات الصيام، أو مصاديق الزكاة وما إلى ذلك. ثمّ ذهب سماحته إلى الاعتقاد بأنّ الإجابة عن إشكالات القائلين بالتحريف ليس بهذه البساطة.

والخلاصة هي أنّ سماحته يرى إمكان وجود مسائل في القرآن الكريم تعرّضت للتحريف في عصر نزول القرآن، وهذا الأمر لا يتنافى مع كون القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو كلام اللّه‏.

جواب نقد آية اللّه‏ جوادي الآملي(دام ظلّه)

يرى العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) أنّ القرآن الكريم قد تحدّى المنكرين له بطرق سبعة وأوصاف متعددة. والحال أنّه مع وجود هذه الطرق السبعة ـ ولا سيّما أنّ بعض هذه الطرق يرتبط بأحداث وفتن المستقبل ـ لا يكون ادّعاء حذف القضايا المرتبطة بالغيبة الكبرى صحيحاً؛ وذلك لأنّ الأخبار المرتبطة بالملاحم وآخر الزمان وما إلى ذلك، قد تحقّقت على مدى الألف وأربعمئة سنة السابقة، واحدة بعد اُخرى، وفي مورد المعاد الجسماني هناك آيات في القرآن الكريم تدلّ على ذلك، ولكن بعض العلماء ـ بطبيعة الحال ـ لم يستفيدوا المعاد الجسماني من هذا النوع من الآيات. وعليه فإنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى لم يتحدّ بـ «الحفظ» و«الفصاحة والبلاغة» فقط، بل تحدّى بسبع طرق، في حال وجود جميع هذه الطرق السبعة في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا أيضاً. فإذا كانت جميع الطرق متوفّرة في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، وجب أن لا تقع في القرآن زيادة كلمة أو نقصان كلمة أيضاً. وعليه فإنّ إمكان التحريف لا ينسجم مع التحدّي بسبع طرق، إذ لو انتقض واحد من طرق التحدّي، كان إمكان التحريف متصوّراً، وأمّا إذا افترضنا توفّر جميع الطرق السبعة في القرآن الموجود بين أيدينا، فإنّ هذا يثبت أنّ القرآن الموجود بين أيدينا هو ذات القرآن الكريم الذي نزل على القلب الطاهر لرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

ثمّ إنّ بناء القرآن الكريم كان يقوم على بيان أمر كلّي والعمل على حفظه، من قبيل ما نزل بشأن آخر الزمان في قوله تعالى: «أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ»[201]، ولكنّه لم يتحدّث عن جزئيات وخصائص هذا الأمر العامّ. ومن هنا فإنّ القرآن الكريم لم يكن في مقام بيان الجزئيات.

روايات الفريقين في تحريف القرآن الكريم ومسألة نسخ التلاوة

إنّ من بين الأبحاث الهامّة الاُخرى التي يجب تناولها في موضوع استحالة تحريف القرآن الكريم، مناقشة روايات الفريقين في مسألة تحريف القرآن. وفيما يلي نناقش هذه الروايات على النحو الآتي:

الروايات المذكورة في كتاب الكافي

لقد ذهب السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إلى الإعتقاد بأنّ الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله) قد جمع الروايات الدالّة على تحريف القرآن الكريم في باب النوادر من كتابه، وإنّ منهج الشيخ الكليني يقوم على نقل الروايات الشاذّة والنادرة والتي لم يتمّ العمل بها في باب النوادر[202].

وقال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله)، في كتاب «التهذيب» بعد نقل حديث «حذيفة»: وهذا الخبر لا يصحّ العمل به من وجوه، أحدها: أنّ متن هذا الحديث لا يوجد في شيء من الاُصول المصنّفة، وإنّما هو موجود في الشواذ من الأخبار، ومنها: أنّ كتاب حذيفة بن منصور(رحمه‏‌‌الله) عري منه، والكتاب معروف مشهور[203].

إنّ الروايات التي تذكر في الكتب تحت عنوان باب شاذّ أو نادر هي في العادة من الروايات المهملة والتي لا يتمّ العمل بها؛ وعليه إنّما يصحّ العمل بها إذا لم تكن مخالفة للقرآن، ولم يكن هناك في الروايات الاُخرى ما يعارضها. وعليه إذا كان الكليني(رحمه‏‌‌الله)قد ذكر الروايات الدالّة على التحريف في باب النوادر، كان هذا قرينة وشاهداً على أنّه كان ملتفتاً إلى هذه النقطة، ولكن بالرجوع إلى «كتاب الحجّة» في الكافي يثبت لنا خلاف ذلك، لأنّ الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله) فتح في «كتاب الحجّة» باباً تحت عنوان «باب نادر»، ذكر فيه أربع روايات، ولكنّه بعد ذكر هذا الباب النادر، يذكر باباً بعنوان «باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية»[204]. إنّ «النتف» يعني اقتلاع الشعر أو الريش، إلاّ أنّ معنى كلام الكليني(رحمه‏‌‌الله)، أنّه قد جمع في هذا الباب ما يرتبط بدراية وتأويل القرآن، وتمّ حذفه في هذا الباب. وقد جمع في هذا الباب إثنين وتسعين رواية.

الرواية الاُولى

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، عن حنان بن سدير، عن سالم الحنّاط، قال: قلت لأبي جعفر(عليه‏‌‌السلام): أخبرني عن قول اللّه‏ تبارك وتعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى مُبِين»قال: هي الولاية لأمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)[205].

الرواية الثانية

محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن إسحاق بن عمّار، عن رجل، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): في قول اللّه‏ عزّ وجلّ «اِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً»قال: هي ولاية أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)[206].

وهناك الكثير من هذا النوع من الروايات في هذا الباب، ومن بينها:

الرواية السادسة

محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد اللّه‏، عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام): في قول اللّه‏ عزّ وجلّ «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ» قال: الولاية[207].

الرواية السابعة

الحسين بن محمّد الأشعري، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن مثنى، عن زرارة، عن عبد اللّه‏ بن عجلان، عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام): في قوله تعالى «قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»قال: هم الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)[208].

الرواية الثامنة

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن عليّ بن أسباط، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، في قول اللّه‏ عزّ وجل «وَمَنْ يُطِعِ اللّه‏َ وَرَسُولَهُ»في ولاية علي(عليه‏‌‌السلام)وولاية الأئمّة من بعده «فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظيماً»هكذا نزلت[209].

كما جاء في هذا الباب، في الرواية الرابعة والثلاثين، ما يلي:

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن أورمة ومحمّد بن عبد اللّه‏ عن عليّ بن حسان، عن عبد اللّه‏ بن كثير، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) في قوله تعالى «عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَاِ الْعَظيمِ» قال: النبأ العظيم الولاية وسألته عن قوله «هُنالِكَ الْوَلايَةُ للّه‏ِِ الْحَقِّ»قال: ولاية أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)[210].

من الواضح أنّ روايات من هذا القبيل بصدد تأويل وتفسير آيات القرآن، لا إضافة شيء إلى القرآن الكريم.

كما أنّ الرواية الحادية والسبعين في هذا الباب، هي من هذا القبيل أيضاً:

الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن أورمة، عن عليّ بن حسّان، عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) في قوله تعالى «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ»، قال: ذاك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبوذر والمقداد بن الأسود وعمّار هدوا إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وقوله «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» يعني أمير المؤمنين «وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ» الأوّل والثاني والثالث[211].

وكذلك الرواية الخامسة والثمانون من هذا الباب، أيضاً، إذ تقول:

عليّ بن محمّد وغيره، عن سهل بن زياد، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن عمّار الأسدي، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) في قول اللّه‏ عزّ وجلّ «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»ولايتنا أهل البيت، وأهوى بيده إلى صدره، فمن لم يتولّنا لم يرفع اللّه‏ له عملاً[212].

وفي البداية قال صاحب كتاب «موقف الرافضة»: «أورد أخباراً كثيرة في (باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية)»[213].

ثمّ عمد إلى نقل الرواية الخامسة والعشرين من الباب المذكور:

عليّ بن إبراهيم، عن أحمد بن محمّد البرقي، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن منخل، عن جابر عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام)، قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هكذا «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللّه‏ُ (في عليّ) بَغْياً»[214].

لقد فسّر الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) عبارة «بِمَا أَنزَلَ اللّه‏ُ» بـ «ما أنزل اللّه‏ في عليّ(عليه‏‌‌السلام)»، وإنّ عبارة «نزل هكذا» يعني أنّ تأويل الآية كان على هذه الشاكلة، لا أنّ «في عليّ» جزءاً من الآية، إذ ليس الحديث عن شخص يستلزم ذكر اسمه دائماً، وهكذا الأمر في القرآن الكريم أيضاً. وعليه فإنّ تفسير وتأويل بعض الآيات بأنّ المراد منها الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) لا يعني أنّ أسماءهم قد ذكرت في القرآن الذي أنزله جبرائيل(عليه‏‌‌السلام)على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وقد أشار علماء أهل السنّة في تفاسيرهم إلى هذا النوع من التأويلات أيضاً، إذ فسّروا قوله تعالى «مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ»[215] بالخليفة الأوّل والثاني[216].

والنقطة الاُخرى أنّ صاحب موقف الرافضة، قد نقل عن «فصل الخطاب» أنّه قال:

قال النوري الطبرسي بعد ذكر مذهب عليّ بن إبراهيم في ذلك وهو شيخ الكليني: «ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكليني على ما نسبه إليه جماعة، لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذ المعنى في كتاب «الحجّة» خصوصاً في باب «النكت والنتف من التنزيل» وفي «الروضة» ومن غير أن يتعرّض لردّها أو تأويلها[217].

وحيث كان أسلوب العلماء المتقدّمين قائماً على نقد ومناقشة الرواية التي لا يقبلونها، فقد ذهب صاحب كتاب «فصل الخطاب» إلى القول بأنّ الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله)كان يقبل الروايات التي ذكرها ويراها صحيحة. ولكن يمكن نقض هذا الكلام استناداً إلى الروايات الدالّة على عدم تحريف القرآن الكريم، والتي ورد ذكرها في كتاب الكافي، من قبيل الرواية ـ التي تقدّم ذكرها ـ التي تقول: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»[218]. وذلك لأنّ هذا القسم من الرواية ـ «أن أقاموا حروفه» ـ دالّ على أنّ المخالفين قد حافظوا على ظاهر الكتاب وحروفه بالكامل، وإنّما بتحريف تأويل القرآن وتفسيره. وهذا هو التحريف المعنوي الذي يقول به جميع علماء الإسلام، إذ قالوا بوقوع هذا النوع من التحريف بشكل آخر.

خلاصة وتبويب المسائل

1 . اتّضح أنّ المصادر الروائية لدى الإماميّة لا تشتمل حتّى على رواية واحدة تدلّ دلالة واضحة وصريحة على التحريف اللفظي للقرآن الكريم. وإنّ بعض الروايات تدلّ على أنّ باطن القرآن موجود عند أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) والأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، وإنّ المفترين قد حرّفوا بعض الروايات لإثبات مدعاهم الباطل، ونسبة تحريف القرآن إلى الإماميّة.

2 . إنّ الروايات الدالّة بحسب الظاهر على تغيير حروف أو بعض كلمات القرآن، يراد منها تأويل وتفسير القرآن الكريم أيضاً.

3 . إنّ بعض الروايات هي من قبيل التطبيق، مثل الرواية التي تطبّق عرض الأمانة ـ في قوله تعالى «إِنَّا عَرَضْنَا الْأََمَانَةَ»[219] ـ على ولاية أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وفي الحقيقة فإنّ هذا النوع يدخل بدوره في التحريف المعنوي أيضاً.

4 ـ اتّضح ممّا سبق عدم صحّة نسبة القول بالتحريف إلى أشخاص من أمثال الفضل بن شاذان والشيخ الكليني.

5 ـ طبقاً لموازين الاستدلال والاستنباط عند فقهاء الإماميّة، لو أنّ الرواية كانت على خلاف المعلوم بالضرورة من الدين، أو اجماع المسلمين، أو القرآن الكريم، ولم يكن بالإمكان توجيهها، وجب نبذها، بل إنّ هذه الرواية لا تكون حتّى من قبيل الروايات التي يجب إيكال علمها إلى الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام). وعلى هذا الأساس لو افترضنا أنّ رواية دلّت على التحريف اللفظي للقرآن، ولم يمكن توجيهها بأيّ نوع من أنواع التوجيه، وجب نبذها. وقد تمّ التصريح بهذا الأمر في كلمات بعض كبار العلماء من أمثال المحقّق الثاني(رحمه‏‌‌الله).

نقد آخر على الروايات الدالّة على التحريف

يجب علينا تحليل الروايات الدالّة على التحريف من ناحية السند والدلالة، والعمل على تطبيق ضوابط قبول الرواية في مورد هذه الروايات، لا سيّما مع العلم الإجمالي بوجود الروايات المختلقة في المصادر الروائية، وخاصّة فيما يتعلّق بالروايات المذكورة في هذا الباب. إلى الحدّ الذي أشار معه الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) إلى الكذّابين والوضّاعين في بعض الموارد.

وعليه لا شكّ في أنّ بعض الروايات المنقولة في كتب المحدّثين قد تمّ اختلاقها من قبل بعض أعداء الدين، وعليه لا يمكن القول لو أنّ محدّثاً ذكر رواية في كتابه، فهذا يعني أنّه يقول بصحّتها. ومن ناحيّة اُخرى ليس هناك كتاب لدى الإماميّة يمكن القول بصحّة جميع رواياته، ومن هنا فإنّ العلاّمة المجلسي(رحمه‏‌‌الله) في كتابه «مرآة العقول» قد اعتبر بعض روايات كتاب الكافي ـ وهو من أهمّ المصادر الروائية عند الإماميّة ـ صحيحة، وبعضها ضعيفاً، وبعضها مرسلاً، كما عبّر عن بعض الأحاديث بأنّها حسنة أو قوية[220].

وعليه أوّلاً: إنّ مجرّد نقل حديث في المصادر الروائيّة، لا يدلّ على رأي مؤلّف الكتاب.

وثانياً: بغضّ النظر عن رأي المؤلّف، يلزم دراسة وتحليل الروايات الواردة في كلّ كتاب من حيث السند والدلالة، ولذلك لا يمكن العمل بالروايات الضعيفة. في حين أنّ علماء أهل السنّة يتمسّكون بالروايات الضعيفة من وجهة نظر الشيعة، وينسبون تهمة القول بالتحريف إليهم من خلال التمسّك بتلك الروايات. أضف إلى ذلك أنّهم من حيث الدلالة لم يفهموا المعنى المراد في الكثير من هذه الروايات، إذ أنّ الكثير من هذه الروايات قابل للتأويل والتوجيه.

والنقطة الأهمّ أنّه طبقاً لروايات الإماميّة، يلزم عرض روايات الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) على القرآن الكريم، فإن كانت مخالفة له، وجب الإعراض عنها. ويجب القول: إنّ جميع الروايات الدالّة على التحريف تخالف قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَاِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»[221]، وقوله تعالى: «لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيل مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»[222]، الواردين في مقام بيان عدم تسلل الباطل إلى القرآن الكريم.

ومن هنا فإنّ اعتبار الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) القرآن ملاكاً لاعتبار الروايات المأثورة عنهم، لا ينسجم مع القول بتحريف القرآن من قبلهم.

ومن ناحية اُخرى حتّى لو رفضنا الروايات التي تتّخذ من القرآن الكريم ملاكاً لتشخيص صحّة الروايات، مع ذلك يجب القول بأنّ أخبار تحريف القرآن هي من قبيل أخبار الآحاد، وإنّ المتقدّمين من الإماميّة، من أمثال: الشيخ الصدوق، والشيخ المفيد، والسيّد المرتضى رحمهم‏الله وغيرهم قد أجمعوا على القول بعدم التحريف اللفظي في القرآن، وعلى هذا الأساس حيث أنّ الخبر الدالّ على تحريف القرآن من الموارد المخالفة للإجماع، فإنّه يجب الإعراض عنه.

وبطبيعة الحال فقد تمّ في كلمات بعض الأخباريين ادّعاء التواتر المعنوي على تحريف القرآن الكريم، بمعنى أنّهم أدرجوا جميع الروايات الدالّة على التحريف ضمن عنوان واحد. ولكن طبقاً للرأي المختار، لا يمكن القبول بالتواتر المعنوي أيضاً، وذلك لأنّ بعض الروايات يدلّ على التحريف المرتبط بقرآن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وبعضها يرتبط بالتأويل والتفسير، كما أنّ عدداً منها من الأحاديث القدسية التي كان جبرائيل(عليه‏‌‌السلام)ينقلها إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) على هامش آيات الوحي. وعليه لا يمكن إدراج جميع الروايات الدالّة على التحريف تحت عنوان واحد ومشترك، والذهاب إلى ادّعاء التواتر المعنوي، كما أنّه ليس هناك من يدّعي التواتر اللفظي.

مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)

في معرض البحث والحديث عن مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، يلزم الخوض في مسألتين:

المسألة الاُولى: في الكتب المتأخّرة لأهل السنّة ـ والتي تمّ طبعها في العصر الحاضر ـ يذكر أنّ اتّحاد أهل السنّة مع الشيعة لا يجتمع مع قول الشيعة بتحريف القرآن، ويجب على علماء الشيعة أن لا يتحدّثوا عن ضرورة الاتّحاد! ولكي يثبتوا مدّعاهم القائم على القول بتحريف الشيعة للقرآن الكريم، يستندون إلى اعتقاد الشيعة بمصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)ومصحف فاطمة عليهاالسلام، وأوهموا النّاس أنّ لدى الشيعة قرآناً غير القرآن الموجود عند سائر المسلمين.

لا شكّ في أنّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) قد جمع القرآن الكريم بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ثمّ جاء به إلى القوم، وقال لأبي بكر: «إنّي لم أزل منذ قبض رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)مشغولاً بغسله ثمّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه في هذا الثوب الواحد. فلم ينزل اللّه‏ تعالى على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) آية إلاّ وقد جمعتها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وعلّمني تأويلها»[223]. فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عمّا تدعونا إليه.

كما تمّت الإشارة إلى هذه القضية في مصادر أهل السنّة أيضاً؛ حيث قيل: إنّ عمر أرسل شخصاً إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)؛ ليأخذ منه القرآن، ولكن الإمام رفض أن يسلّم القرآن له.

المسألة الثانية: وفيما يتعلّق بمصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، هناك ثلاث نقاط، تتجلّى حقيقة الأمر من خلال الالتفات إليها:

النقطة الاُولى: الاختلاف من جهة تأويل وتفسير الآيات

جاء في الرواية أنّ عمر قال: «عندنا مثل الذي عندك»[224]. فلو كان في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) إختلاف عن القرآن الذي كان بأيدي النّاس بزيادة أو نقيصة، لوجب على الإمام(عليه‏‌‌السلام) أن يبيّن مواطن هذا الاختلاف، ولكنّه لم يذكر أيّ شيء عن الاختلاف.

وبعبارة اُخرى: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) لم يقل إنّ القرآن الذي جمعته يشتمل على آيات ليست موجودة في قرآنكم. وعليه يجب القول: إنّ الاختلاف بين مصحف الإمام والمصحف الموجود عند النّاس إنّما يكمن في أنّ قرآن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) كان يشتمل على تأويل وتفسير الآيات، والناسخ والمنسوخ، وقد ذهب الكثير من العلماء الكبار إلى اختيار هذا القول.

قال الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)، على ما تقدّم في بحث رأيه حول التحريف في هذا الكتاب:

قال جماعة من أهل الإمامة: إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله. وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام اللّه‏ تعالى الذي هو القرآن المعجز[225].

ثمّ قال سماحته: «وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً»، واستند لإثبات كلامه بقوله تعالى: «وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ»[226]، قائلاً إنّ المراد من ذلك هو تأويل القرآن، وذلك لأنّ اللّه‏ تعالى يقول: لا تعجل بالقرآن إذا كنت تريد فهم المزيد من الآيات والمعاني. وبطبيعة الحال فإنّ النقطة التي يذكرها سماحته حول هذه الآية لإثبات وجود التأويل والتفسير في مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، كافية.

كما قال الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) على ما تقدّم في هذا الكتاب من مناقشة رأيه:

لا يبعد أيضاً أن يقال: إنّ بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان، ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى[227].

ومن هنا فإنّ تحريف وتبديل القرآن معنوي. وعليه فإنّ ما روي عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام في بعض الروايات، من قولهما: «أمّا الكتاب فحرّفوه»[228]، المراد منه هو التحريف من جهة المعنى والتفسير، وهو الذي يتمّ التعبير عنه بـ «التحريف المعنوي».

النقطة الثانية: الاختلاف من جهة ترتيب الآيات والسوَر

إنّ القرآن الكريم الذي جمعه الإمام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، كان يختلف عن قرآن أبي بكر في ترتيب السوَر والآيات، وذلك لأنّ الإمام قد جمعه على تنزيله الزمني بشكل كامل.

وقال العلاّمة الطباطبائي في هذا الشأن:

إنّ جمعه(عليه‏‌‌السلام) القرآن، وحمله إليهم، وعرضه عليهم، لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية، إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور، أو الآيات من السور التي نزلت نجوماً، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية[229].

إنّ العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في كلامه هذا يرتضي القول بالاختلاف في ترتيب السوَر والآيات، على أن لا يضرّ بالاُصول الأصلية للقرآن والحقائق الدينية، وأن لا يحدث تغييراً في القرآن الكريم. ثمّ ذكر سماحته في الختام دليلاً يستحقّ الاهتمام، حيث قال:

ولو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج، ودافع فيه، ولم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه، واستغنائهم عنه، كما روي عنه(عليه‏‌‌السلام)في موارد شتّى ولم ينقل عنه(عليه‏‌‌السلام)فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، وجبههم على إسقاطها أو تحريفها[230].

إنّ هذه النقطة التي ذكرها العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)، نقطة دقيقة جدّاً، ولم يلتفت إليها غيره من العلماء، فهو يقول: إنّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) لم يتحدّث طوال حياته عن تعرّض القرآن الكريم إلى التحريف، ولم يتهم المناوئين له بتحريف آيات القرآن.

وهذا خير دليل على عدم تحريف القرآن.

النقطة الثالثة: عدم إرادة الآيات بحسب المصطلح

إنّ ما ورد في بعض الروايات من القول بأنّ مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)كان يحتوي على سبعة عشر ألف آية، لا يراد منه المعنى المصطلح من الآية في القرآن الكريم، بل المراد منه كلّ ما نزل من قبل اللّه‏ تعالى، ولو على شكل حديث قدسي، كما هو الحال بالنسبة إلى عبارات التوراة والإنجيل، حيث يطلق عليها عنوان الآية أيضاً، كما كان يكتب الكثير من الأحاديث القدسية إلى جانب القرآن، بالتزامن مع نزول الآيات على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، أو بعدها من قبل جبرائيل(عليه‏‌‌السلام).

إنّ كلّ ما كان ينزل من عند اللّه‏ على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، هو من الوحي، غاية ما هنالك أنّ هذا الوحي كان ينزل تارة على شكل قرآن معجز، فيتمّ التعبير عنه بالقرآن، وتارة ينزل على شكل كلام عادي، لا يحمل صفة الإعجاز، وهو ما يصطلح عليه تسمية «الحديث القدسي». ولا يبعد أن يكون مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)مشتملاً على الكثير من الأحاديث القدسية.

مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام

إنّ من بين المصاحف التي وردت الإشارة إليها في روايات الإماميّة مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام. وإنّ أهل السنّة بسبب عدم إدراكهم الصحيح للمعارف الشيعية، لم يفهموا المراد من مصحف فاطمة عليهاالسلام، أو أنّهم أرادوا أن يتّهموا الشيعة بذلك عن قصد وعناد.

ومن هنا فقد ذهب البعض منهم إلى الإدّعاء بأنّ قرآن الشيعة هو مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام، وإنّ الإماميّة يعتبرون فاطمة الزهراء عليهاالسلامنبيّاً بعد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وقد نسجوا في هذا السياق كلاماً لا يستند إلى أساس، ونسبوه إلى الشيعة، ومنشأ جميع ذلك يعود إلى عدم إدراكهم الصحيح لحقيقة الولاية ومذهب أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام).

وردت في كتاب الكافي روايات حول مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام، وقد أدّى عدم الإدراك الصحيح لهذه الروايات من قبل بعض أهل السنّة، إلى تصوّرهم أنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام يقع في قبال القرآن الكريم.

قال مؤلّف كتاب «قضية التأويل بين الشيعة وأهل السنّة»، بعد ذكر بعض الروايات عن الكافي حول مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام:

يفهم من ذلك أنّ الأوصاف التي قدّمها الكليني لمصحف الشيعة غير منطبقة على المصحف المعروف عندنا، وأنّ هذا المصحف نزل به جبرئيل مباشرة على فاطمة، وكان عمل عليّ هو تسجيله، وحفظه بعد ذلك عند الأئمّة، وهذا القرآن هو المراد عندهم من قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، أي: عند الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)[231].

وبذلك فقد نسب صاحب كتاب «قضية التأويل» فهمه الخاطي في بداية الأمر إلى الشيعة، ثمّ قال بعد ذلك:

هذا تهريج واضح، وتلفيق لآل بيت رسول اللّه‏ ظاهر، فضلاً عن كونه مغالطة للحقائق، إذ لا يمكن للمسلمين سليمي العقيدة أن يصدقوا بهذا المصحف المزعوم، والقول بأنّ جبرئيل قد نزل على أحد بعد رسول اللّه‏، سيترتّب عليه إعتقاد نبوّة فاطمة، إذ جبرئيل لا ينزل الاّ على أنبياء، وفاطمة لا تنطبق عليها أوصاف الولاية، فكيف بأوصاف النبوّة، كيف يقال: أنّ لها قرآناً، وما قيمة وجود هذا القرآن، مع أنّه كما قال الكليني ليس به حلالاً ولا حراماً...[232].

بأدنى تأمّل يمكن لنا أن ندرك أنّ السبب الرئيس في عدم فهم حقيقة مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام، يعود إلى عدم التعرّف على مباني الشيعة، والملفت للانتباه أنّ مؤلّف هذا الكتاب يقول: «كيف يمكن اعتبار هذا المصحف قرآناً!» ومن العجيب أنّه ينسب إلى الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)كلاماً لم يقله أيّ واحد من الإماميّة، وكأنّه يعتبر كلّ مصحف قرآناً!

مناقشة الروايات الواردة في قضية مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام


بعد هذا الإتّهام، يلزم مناقشة الروايات الواردة في كتاب الكافي حول مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام، لكي تتّضح حقيقة الأمر للمنصفين، وأصحاب العلم والمعرفة، والذين لا ينطلقون من منطلقات الجدل والافتراء.

هناك في كتاب الكافي باب بعنوان «فيه ذكر الصحيفة، والجفر، والجامعة، ومصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام»، وقد ذكر الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله)ثمان روايات في هذا الباب[233].

الرواية الاُولى

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عبد اللّه‏ بن الحجّال، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن أبي بصير، قال: دخلت على أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)فقلت له: جعلت فداك، إنّي أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)ستراً بينه وبين بيت آخر، فاطّلع فيه، ثمّ قال: يا أبا محمّد سل عمّا بدا لك، قال: قلت: جعلت فداك، إنّ شيعتك يتحدّثون أنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)علّم عليّاً(عليه‏‌‌السلام)باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمّد علّم رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) عليّاً(عليه‏‌‌السلام) ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب. قال: قلت: هذا واللّه‏ العلم، قال: فنكت ساعة في الأرض، ثمّ قال: إنّه لعلم، وما هو بذاك. قال: ثمّ قال: يا أبا محمّد وإنّ عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وإملائه من فلق فيه، وخطّ عليّ بيمينه، فيها كلّ حلال وحرام، وكلّ شيء يحتاج النّاس إليه، حتّى الأرش في الخدش، وضرب بيده إلي، فقال: تأذن لي يا أبا محمّد؟ قال: قلت: جعلت فداك إنّما أنا لك، فاصنع ما شئت. قال: فغمزني بيده، وقال: حتّى أرش هذا ـ كأنّه مغضب ـ قال: قلت: هذا واللّه‏ العلم، قال: إنّه لعلم، وليس بذاك. ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: وإنّ عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: وما الجفر؟ قال: وعاء من أدم فيه علم النبيّين والوصيّين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل. قال: قلت: إنّ هذا هو العلم، قال: إنّه لعلم، وليس بذاك. ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: وإنّ عندنا لمصحف فاطمة عليهاالسلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليهاالسلام؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليهاالسلام؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات، واللّه‏ ما فيه من قرآنكم حرف واحد. قال: قلت: هذا واللّه‏ العلم، قال: إنّه لعلم، وما هو بذاك. ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: إنّ عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن، إلى أن تقوم الساعة، قال: قلت: جعلت فداك هذا واللّه‏ هو العلم، قال: إنّه لعلم وليس بذاك. قلت: جعلت فداك فأي شى العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشيء بعد الشيء، إلى يوم القيامة[234].

وفيما يتعلّق بسند هذه الرواية، يجب القول: إنّ المراد من «عدّة» في عبارة «عدّة من أصحابنا» على ما ثبت في محلّه أشخاص ثقات، ومن هنا فقد ذهب العلاّمة المجلسي(قدس‏‌‌سره) في كتاب «مرآة العقول» إلى تصحيح هذه الرواية[235].

ولا يخفى أنّ دائرة الحديث الصحيح عند المتقدّمين كانت واسعة، وأمّا على مبنى المتأخّرين، فإنّ هذا النوع من الروايات يندرج ضمن الأحاديث الموثّقة. وإنّ للعلاّمة المجلسي(رحمه‏‌‌الله) حول كلمة «رفع» عبارة جديرة بالرجوع إليها[236].

إنّ الأمر الذي أوقع أهل السنّة في الخطأ، هو اشتمال هذه الروايات على عبارة «مصحف فيه مثل قرآنكم»، رغم أنّ عبارة «واللّه‏ ما فيه من قرآنكم من حرف واحد» في حدّ ذاتها تشكّل قرينة على الاختلاف بين القرآن الذي بين أيدينا، وبين مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام.

وعلى كلّ حال، فقد أشارت هذه الرواية إلى هذه النقطة، وهي أنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام لا يشتمل على شيء ممّا ورد في القرآن الكريم، من الحلال والحرام، والاُمور التشريعية، وأنّ مصحف فاطمة عليهاالسلاملم يكن بصدد بيان التشريع.

الرواية الثانية

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن عمر بن عبد العزيز، عن حمّاد بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة عليهاالسلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إنّ اللّه‏ تعالى لمّا قبض نبيّه(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، دخل على فاطمة عليهاالسلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ اللّه‏ عزّ وجلّ، فأرسل اللّه‏ إليها ملكاً يسلّي غمّها ويحدّثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت، قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) يكتب كلّ ما سمع، حتّى أثبت من ذلك مصحفاً، قال: ثمّ قال: أما إنّه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون[237].

إنّ هذه الرواية بدورها تحكي عن أنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام لا يشتمل على شيء من الحلال والحرام، وإنّما هو يشتمل على مجرّد أحداث سوف تحدث في المستقبل.

وطبقاً لما تقدّم يتّضح أنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام لا يشتمل حتّى على حرف واحد من القرآن الكريم، وإنّه مصحف مستقلّ في مضمونه عن القرآن.

في الرواية الاُولى هناك اصرار من الإمام(عليه‏‌‌السلام) نفسه على بيان هذه النقطة، وهي أنّ حقيقة مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام تقع في عرض القرآن الكريم، كما أنّها تختلف عن مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، الذي تقترن فيه آيات القرآن الكريم مع بيان خصائص الآيات، من حيث التأويل والتفسير وما إلى ذلك. وطبعاً هذا على فرض أن يكون المراد من «قرآنكم» هو مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وأمّا إذا كان المراد منه هو القرآن الموجود بين أيدي النّاس، فسوف يكون معنى كلام الإمام(عليه‏‌‌السلام)هو أنّ مضمون مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام لا ربط له بما نزل على قلب النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

الأمر الآخر هو أنّه يمكن توجيه كلمة «هذا» في عبارة: «قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات» بأحد وجهين:

1 . أن تقرأ كلمة «هذا» بشكل منفصل؛ بمعنى أن نقرأ العبارة بشكل بحيث نقف بعد النطق بـ «هذا» وقفة قصيرة، وبهذا المعنى يكون هذا بمنزلة تكرار الإمام لهذه العبارة «مصحف فيه مثل قرآنكم» ثلاث مرّات.

2 . أن تكون كلمة «هذا» متّصلة بما قبلها، وفي هذه الحالة يكون المراد من «هذا» هو القرآن الموجود بأيدي النّاس، ولا يكون المراد في الحقيقة هو الحديث عن مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام).

وعليه يمكن القول: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) يقول: إنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلامهو مثل القرآن في نزوله من عالم الغيب، وإنّه ليس من تأليف العلماء والبشر، ولكن حتّى لا يقع أبو بصير في خطأ تصوّر أنّ مصحف فاطمة هو مثل القرآن الكريم في إعجازه، أو أن تكون فاطمة الزهراء عليهاالسلام في عداد الأنبياء، قال بعد ذلك: «واللّه‏ ما فيه من قرآنكم من حرف واحد»، بمعنى أنّ هناك تفاوت ماهوي في الحقيقة بين مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام والقرآن الكريم الذي نزل على قلب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وذلك لأنّ المصحف الذي نزل على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من قبيل المصاحف التي تتحدّث عن التشريع، وبيان الحلال والحرام، والتي تنزل على الأنبياء، وأنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يعرف فيها بوصفه نبيّاً، وأمّا مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام فهو وإن كان كتاباً سماويّاً، إلاّ أنّه ليس بصدد التشريع، وليس من نوع الكتب التي تنزل على الأنبياء[238].

الرواية الثالثة

إنّ الرواية الاُخرى التي يراها العلاّمة المجلسي(رحمه‏‌‌الله) صحيحة أيضاً، هي الرواية الخامسة من باب «فيه ذكر الصحيفة، والجفر، والجامعة، ومصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلام».

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة، قال: سأل أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) بعض أصحابنا عن الجفر، فقال: هو جلد ثور مملوء علماً، قال: له فالجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج، فيها كلّ ما يحتاج النّاس إليه، وليس من قضية إلاّ وهي فيها، حتّى أرش الخدش. قال: فمصحف فاطمة عليهاالسلام؟ قال: فسكت طويلاً، ثمّ قال: إنّكم لتبحثون عمّا تريدون، وعمّا لا تريدون، إنّ فاطمة مكثت بعد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل(عليه‏‌‌السلام)يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيّب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان عليّ(عليه‏‌‌السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة عليهاالسلام[239].

الرواية الرابعة والخامسة

ومن الروايات الاُخرى المرتبطة بهذا البحث، هي الرواية السابعة والرواية الثامنة من هذا الباب:

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن فضيل بن يسار وبريد بن معاوية وزرارة، أنّ عبد الملك بن أعين، قال لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): إنّ الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمّد بن عبد اللّه‏، فهل له سلطان؟ فقال: واللّه‏ إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كلّ نبيّ وكلّ ملك يملك الأرض، لا واللّه‏ ما محمّد بن عبد اللّه‏ في واحد منهما[240]. وقد صرّح العلاّمة المجلسي بأنّها حسنة سنداً[241]. محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمّد، عن عبد الصمد بن بشير، عن فضيل [بن ]سكرة، قال: دخلت على أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، فقال: يا فضيل أتدري في أيّ شيء كنت أنظر قبيل؟ قال: قلت: لا، قال: كنت أنظر في كتاب فاطمة عليهاالسلام، ليس من ملك يملك الأرض إلاّ وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئاً[242].

وبذلك نصل إلى النتائج الآتية:

1 . إنّ مصحف فاطمة عليهاالسلام ليس فيه شيء من مسائل الحلال والحرام والاُمور التشريعية.

2 . إنّ مصحف فاطمة عليهاالسلام لا يشتمل على عنوان الوحي المتّصف بالإعجاز، وإنّما هو إخبار غيبي من اللّه‏ سبحانه وتعالى، نزل به جبرائيل(عليه‏‌‌السلام) عليها بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

3 . يشتمل هذا المصحف على أخبار حول مستقبل اُمّة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وما يجري على ذريّة الزهراء عليهاالسلام، أو أحداث سائر الاُمم، بما في ذلك أسماء الملوك، والحكّام، والسلاطين، في جميع العصور إلى يوم القيامة.

4 . يُستفاد من مجموع الروايات أنّ أهمّ مصدر لعلم الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) ـ غير العلم بالحلال والحرام ـ هو مصحف فاطمة عليهاالسلام.

5 . سيأتي لاحقاً في الأبحاث القادمة أنّه طبقاً لصريح بعض الروايات، إنّ القرآن الذي نزل على النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، هو آخر الكتب السماويّة، وأنّه لن ينزل بعده كتاب آخر، إنّ هذه النقطة بدورها واضحة أيضاً، وهي أنّ القرآن بوصفه كتاباً سماويّاً ووحياً إلهياً، كان منذ البداية مطروحاً بوصفه كتاباً، وأمّا مصحف فاطمة عليهاالسلام فلم يكن مطروحاً بوصفه كتاباً. أجل، بالنسبة إلى مصحف أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، فقد تمّ التعبير عنه في الروايات بـ «كتاب عليّ». ويأتي هذا من ناحية اشتماله على القرآن أيضاً.

إتّصاف الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) بكونهم محدَّثين

إنّ النقطة الجديرة بالاهتمام هي أنّ كتاب الكافي يشتمل على باب بعنوان «أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) محدّثون مفهّمون»، وإنّ الرواية الاُولى في هذا الباب ضعيفة من وجهة نظر العلاّمة المجلسي[243]، إلاّ أنّ مؤلّف كتاب «الصحيح من الكافي» يراها صحيحة. ونصّ هذه الرواية كالآتي:

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحجّال، عن القاسم بن محمّد، عن عبيد بن زرارة، قال: أرسل أبو جعفر(عليه‏‌‌السلام) إلى زرارة أن يعلم الحكم بن عتيبة (الذي كان كوفيّاً، وتوفّى سنة 115، وروى عنه أرباب الكتب السنّة، وكان تابعيّاً يعتقد بأعلميّة الإمام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)) أنّ أوصياء محمّد عليه وعليهم السلام محدّثون[244].

والظاهر أنّ «الحَكَم بن عتيبة» على ما أشار إليه الكشّي[245] كان اُستاذاً لزرارة بن أعين، وأنّ الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام)قد أرسل إليه هذا الخطاب في الردّ على «الحكم بن عتيبة» الذي كان من الزيديّة[246].

وهناك من يرى كالشيخ في رجاله[247] أنّ «الحَكَم» كان من فقهاء الزيدية، ومن هنا فإنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قد ذكّره بأحد شروط الإمامة والوصيّة عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

والنتيجة هي أنّ هذه الروايات تدلّ دلالة واضحة على أنّ جميع الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)كانوا مُحدَّثين من قبل ملَك من الملائكة، وأنّهم كانوا يحصلون بواسطة هذا الملَك على العلوم والمعارف. ومن هنا نجدهم في بعض الأحيان يقولون ضمن كلامهم: «قال اللّه‏ تعالى»، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المحدَّث لا يكون نبيّاً بالضرورة. وعليه فإنّ ذهاب بعض علماء السنّة إلى توهّم الملازمة بين المحدَّث والنبيّ، إنّما ينشأ من الجهل وعدم إدراك الحقيقة.

وهناك في كتاب الكافي باب بعنوان «باب: الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدَّث»[248]، ويتّضح من الروايات الواردة في هذا الباب وأمثاله أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) ـ كما كانت فاطمة الزهراء عليهاالسلام محدَّثة ـ كانوا بأجمعهم محدَّثين أيضاً. بل ويُستفاد من بعض الروايات أنّ بعض المؤمنين، والخاصّة منهم، كانوا يُحدَّثون بشكل وآخر.

وإليك نصّ الرواية الثالثة في هذا الباب:

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن محبوب، عن الأحول، قال: سألت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) عن الرسول والنبيّ والمحدّث، قال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبُلاً، فيراه ويكلّمه، فهذا الرسول، وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، ونحو ما كان رأى رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من أسباب النبوّة قبل الوحي، حتّى أتاه جبرئيل(عليه‏‌‌السلام) من عند اللّه‏ بالرسالة، وكان محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) حين جُمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند اللّه‏، يجيئه بها جبرئيل ويكلّمه بها قبُلاً، ومن الأنبياء من جُمع له النبوّة، ويرى في منامه، ويأتيه الروح، ويكلّمه ويحدّثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة، وأمّا المحدّث فهو الذي يحدث فيسمع، ولا يعاين ولا يرى في منامه[249].

وهناك في كتاب الكافي باب آخر بعنوان: «في أنّ الأئمّة بمن يُشبهون ممّن مضى، وكراهية القول فيهم بالنبوّة»[250] وإنّ كلمة «الكراهية» في هذا الباب تعني «الحرمة». وعليه فإنّ طرح هذا النوع من الأبواب في كتاب الكافي، يثبت الاهتمام الخاص من قبل الشيخ الكليني(رحمه‏‌‌الله) بمسألة الإمامة. وبطبيعة الحال فإنّ هذا الأمر في محلّه وصائب تماماً، وذلك لأنّ منشأ الكثير من أنواع الإنحراف والضلال، إنّما يأتي من عدم المعرفة الصحيحة بمقام الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام).

وقد جاء في الرواية الاُولى من هذا الباب ـ وهي صحيحة السند ـ ما يلي:

أبو علي الأشعري، عن محمّد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن حُمران بن أعين، قال: قلت لأبي جعفر(عليه‏‌‌السلام): ما موضع العلماء؟ قال: مثل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب موسى(عليه‏‌‌السلام)[251].

وفي هذه الرواية يسأل حُمران بن أعين الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) عن مكانة العلماء، والمراد من العلماء في هذه الرواية هم الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام).

ويرى العلاّمة المجلسي(رحمه‏‌‌الله) أنّ هناك احتمالين بالنسبة إلى «صاحب موسى(عليه‏‌‌السلام)»، وهناك رواية على كلّ واحد من هذين الاحتمالين[252]؛ الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد هو «يوشع بن نون»، والاحتمال الثاني: أن يكون المراد هو الخضر(عليه‏‌‌السلام).

وفي هذا السياق ينقل العلاّمة المجلسي(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «بحار الأنوار» روايات في أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) محدَّثون.

الرواية الأولى:

أبو محمّد، عن عمران عن موسى بن جعفر، عن عليّ بن أسباط، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثمالي، قال: كنت أنا والمغيرة بن سعيد جالسين في المسجد، فأتانا الحكم بن عُيينة، فقال: لقد سمعت من أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام)حديثاً ما سمعه أحد قطّ، فسألناه، فأبى أن يخبرنا به، فدخلنا عليه، فقلنا: إنّ الحكم بن عُيينة أخبرنا أنّه سمع منك ما لم يسمعه منك أحد قطّ، فأبى أن يخبرنا به، فقال: نعم، وجدنا علم عليّ(عليه‏‌‌السلام) في آية من كتاب اللّه‏: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث»، فقلنا: ليست هكذا هي، فقال: في كتاب عليّ: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدث إلاّ إذا تمنّى ألقى الشيطان في اُمنيّته»، فقلت: وأيّ شيء المحدّث؟ فقال: يُنكت في اُذنه، فيسمع طنيناً كطنين الطست، أو يقرع على قلبه، فيسمع وقعاً، كوقع السلسلة على الطست، فقلت: إنّه نبيّ؟ ثمّ قال: لا مثل الخضر، ومثل ذي القرنين[253].

الرواية الثانية:

إنّ هذه الرواية معتبرة أيضاً، وطبقاً لهذه الرواية يقول الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام):

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قال أبو عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) : إنّما الوقوف علينا في الحلال والحرام، فأمّا النبوّة فلا[254].

يتّضح من هذه الرواية أنّ هناك حتّى في عصر الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) من كان يغلو فيهم.

الرواية الثالثة:

وهذه الرواية بدورها صحيحة السند أيضاً، وهي تقول:

محمّد بن يحيى الأشعري، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن أيّوب بن الحرّ، قال: سمعت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)يقول: إنّ اللّه‏ عزّ ذكره ختم بنبيّكم النبيّين، فلا نبيّ بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب، فلا كتاب بعده أبداً، وأنزل فيه تبيان كلّ شيء، وخلقكم، وخلق السماوات والأرض، ونبأ ما قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما بعدكم، وأمر الجنّة والنار، وما أنتم صائرون إليه[255].

تدلّ هذه الرواية بوضوح على أنّه طبقاً لمباني الشيعة لن يأتي كتاب آخر بعد القرآن الكريم أبداً؛ وعليه فإنّ مصحف فاطمة الزهراء عليهاالسلامليس كتاباً نزل على فاطمة الزهراء من قبل جبرائيل(عليه‏‌‌السلام).

الرواية الرابعة:

وهي رواية موثّقة.

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن الحسين بن المختار، عن الحارث بن المغيرة، قال: قال أبو جعفر(عليه‏‌‌السلام): إنّ عليّاً(عليه‏‌‌السلام) كان محدّثاً، فقلت: فتقول: نبيّ؟ قال: فحرّك بيده هكذا، ثمّ قال: أو كصاحب سليمان، أو كصاحب موسى، أو كذي القرنين، أو ما بلغكم أنّه قال: وفيكم مثله؟[256].

تمّت الإشارة في هذه الرواية إلى هذه النقطة، وهي أنّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)كان محدّثاً، وقد أجاب عن سؤال ما إذا كان نبيّاً؟ بالنفي، قائلاً: إنّه مثل آصف بن برخيا، أو يوشع بن نون، أو الخضر، أو ذي القرنين، وإنّه ليس بنبيّ. وإنّ عبارة «وفيكم مثله» إشارة إلى كلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)المنقول في تفسير القمّي[257] وبعض المصادر الروائية الاُخرى.

الرواية الخامسة:

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن اُذينة، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، قال: قلت له: ما منزلتكم؟ ومن تشبهون ممّن مضى؟ قال: صاحب موسى وذو القرنين، كانا عالمين، ولم يكونا نبيّين[258].

الرواية السادسة، هي معتبرة سدير:

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن أبي طالب، عن سدير، قال: قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون بذلك علينا قرآناً: «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماءِ إِلَهٌ وَفِى الْأَرْضِ إِلَهٌ»[259]؟ فقال: يا سدير، سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، وبرئ اللّه‏ منهم، ما هؤلاء على ديني، ولا على دين آبائي، واللّه‏ لا يجمعني اللّه‏ وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم. قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل، يقرؤون علينا بذلك قرآناً: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ»[260]؟ فقال: يا سدير، سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، وبرئ اللّه‏ منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني، ولا على دين آبائي، واللّه‏ لا يجمعني اللّه‏ وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم. قال: قلت: فما أنتم؟ قال: نحن خزّان علم اللّه‏، نحن تراجمة أمر اللّه‏، نحن قوم معصومون، أمر اللّه‏ تبارك وتعالى بطاعتنا، ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض[261].

الرواية السابعة:

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن عبد اللّه‏ بن بحر، عن ابن مسكان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه‏، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)يقول: الأئمّة بمنزلة رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء، ولا يحلّ لهم من النساء ما يحلّ للنبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، فأمّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)[262].

الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) مؤيّدون بالروح

هناك باب آخر في أصول الكافي بعنوان: «باب: الروح التي يسدّد اللّه‏ بها الائمّة(عليهم‏‌‌السلام)». وإنّ من بين الروايات الواردة في هذا الباب ما يلي:

الرواية الاُولى:

إنّ الرواية الاُولى في هذا الباب، رواية معتبرة تقول:

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)عن قول اللّه‏ تبارك وتعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتابُ وَلاَ الاِْيمانُ»[263]. قال: خلق من خلق اللّه‏ عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده[264].

يُستفاد من هذه الرواية أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) كانوا يُحدَّثون من طريق ملَك اسمه الروح، وكان هذا الملَك يحمل صفتين، وهما: الإخبار، والتأييد.

الرواية الثانية:

محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن عليّ بن أسباط، عن أسباط بن سالم، قال: سأله رجل من أهل هيت ـ وأنا حاضر ـ عن قول اللّه‏ عزّ وجلّ: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا»، فقال: منذ أنزل اللّه‏ عزّ وجلّ ذلك الروح على محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا[265].

وعليه فإنّ الملَك الذي هو «الروح»، كان ـ بناءً على هاتين الروايتين ـ أكبر من جميع الملائكة بمن فيهم جبرائيل وميكائيل ، وأنّه كان ينزل على الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ومن الواضح أنّ هذا النزول لم يكن بعنوان وحي.

الرواية الثالثة:

محمّد بن يحيى، عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر، عن عليّ بن أسباط، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة، قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)عن العلم: أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤنه، فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول اللّه‏ عزّ وجلّ: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الْكِتابُ وَلاَ الاْءِيمَانُ»؟ ثمّ قال: أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟ أيقرون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت: لا أدري ـ جعلت فداك ـ ما يقولون، فقال [لي]: بلى، قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، حتّى بعث اللّه‏ تعالى الروح التي ذكر في الكتاب، فلمّا أوحاها إليه علّم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها اللّه‏ تعالى من شاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه الفهم[266].

بالالتفات إلى القسم الأخير من الرواية يمكن القول: إنّ «الروح» لا يختصّ بالأوصياء فقط، وإنّما قد ينزل على غيرهم من خاصّة عباده الذين لم يبلغوا مرتبة الوصيّة، ولكنّهم قد وصلوا إلى درجة من مقام التحديث، ولذلك فإنّهم يدركون الروح العظيم بما يتناسب ومقاماتهم.

ومن خلال التدقيق في الروايات المذكورة في هذا القسم، يتّضح لنا أنّ كلام المعاندين، وقولهم بأنّ جبرائيل(عليه‏‌‌السلام) لا ينزل على غير الأنبياء ليس صحيحاً. ثمّ إنّه بالإضافة إلى ذلك ليس من الضروري أن يقتصر الكشف عن أخبار السماء من قبل جبرائيل(عليه‏‌‌السلام) فقط، وإنّما هناك ملائكة آخرون، مثل «الروح» ـ الوارد ذكرهم في القرآن الكريم والروايات ـ يمكنهم أن يحملوا كلام اللّه‏ إلى أوليائه من البشر، وإن لم يكونوا من الأنبياء أو الأوصياء.

خلاصة المطلب: إنّ على علماء أهل السنّة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ إذا أرادوا التحقيق والبحث في آراء الشيعة، والمباني الحديثية الواردة في كتبهم ـ بعيداً عن العناد والتعصّب والعدوان ـ تعيّن عليهم الغوص في كتب الشيعة، وأن يأخذوا بنظر الاعتبار مجموع الروايات الواردة عندهم، لا أن يتمسّكوا برواية واحدة، أو شطر رواية، واتّخاذها مستمسكاً وذريعة لكيل الاتّهامات الباطلة على الشيعة، ونسبة القول إليهم بتحريف القرآن الكريم أو القول بنبوّة فاطمة الزهراء عليهاالسلام.

مناقشة روايات التحريف في مصادر أهل السنّة

على الرغم من أنّ علماء أهل السنّة ينسبون تحريف القرآن إلى علماء الشيعة، إلاّأنّهم ذكروا في بعض مصادرهم روايات دالّة على التحريف، بل وصرّحوا بوقوع التحريف أحياناً.

وقد اختار المتقدّمون من علماء أهل السنّة ـ في توجيه هذه الروايات ـ سلوك طريق نسخ التلاوة، وقالوا بأنّ الآيات التي حذفت من القرآن الكريم، هي تلك الآيات التي نزلت على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ثمّ نسخت تلاوتها، وبقي حكمها.

بيد أنّ المعاصرين من كبار علماء الشيعة ـ من أمثال: السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)في كتاب «البيان»[267]، والوالد المحقّق آية اللّه‏ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) في كتاب «مدخل التفسير»[268] ـ يعتبرون نسخ التلاوة نوعاً من التحريف، كما ذهب العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في «تفسير الميزان» إلى اعتبار نسخ التلاوة من أشنع أنواع التحريف وأشدّها[269].

لقد أشار المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إلى اثني عشر مورداً من الموارد التي عدّها علماء أهل السنّة من نسخ التلاوة، وهي كالآتي:

المورد الأوّل: آية الرجم

المورد الأوّل بشأن آية الرجم، وقد تحدّثنا عنها سابقاً، وهي منقولة عن ابن عباس:

روى ابن عبّاس: أنّ عمر قال فيما قال، وهو على المنبر: إنّ اللّه‏ بعث محمّداً(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللّه‏ آية الرجم، فقرأناها، وعقلناها، ووعيناها. فلذا رجم رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل: واللّه‏ ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه‏، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللّه‏، والرجم في كتاب اللّه‏ حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال... ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ، من كتاب اللّه‏: «أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم»، أو: «إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ...[270].

ثمّ نقل السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) بعد ذلك كلاماً عن السيوطي، قال فيه:

وذكر السيوطي: أخرج ابن أشته في المصاحف عن الليث بن سعد، قال: أوّل من جمع القرآن أبوبكر، وكتبه زيد، وكان النّاس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل... وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها، لأنّه كان وحده[271].

ثمّ قال سماحته بعد نقل كلام السيوطي:

أقول: وآية الرجم التي ادّعى عمر أنّها من القرآن، ولم تقبل منه، رويت بوجوه: منها: «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، نكالاً من اللّه‏، واللّه‏ عزيز حكيم»[272] ومنها: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة»[273] ومنها: «إنّ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»[274]، وكيف كان فليس في القرآن الموجود ما يستفاد منه حكم الرجم، فلو صحّت الرواية فقد سقطت آية من القرآن لا محالة[275].

المورد الثاني: عدد حروف القرآن

نقل السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) المورد الثاني عن الطبراني:

أخرج الطبراني بسند موثّق عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: «القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف»، بينما القرآن الذي بين أيدنا لا يبلغ ثلث هذا المقدار، وعليه فقد سقط من القرآن أكثر من ثلثيه[276].

وقد نقلت هذه الرواية في كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي[277]، و«المعجم الأوسط» للطبراني[278].

المورد الثالث: رواية مسند أحمد

نقل السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) المورد الثالث، عن مسند أحمد بن حنبل:

روى ابن عبّاس، عن عمر، أنّه قال: إنّ اللّه‏ عزّ وجل بعث محمّداً بالحقّ، وأنزل معه الكتاب، فكان ممّا أنزل إليه آية الرجم، فرجم رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ورجمنا بعده، ثمّ قال: كنّا نقرأ: «ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم»، أو: «إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم»[279].

إنّ هذه الرواية والرواية الأولى واحدة، وراويهما هو ابن عباس(رحمه‏‌‌الله). وعليه لا يمكن اعتبارها بوصفها مورداً مستقلاًّ.

المورد الرابع: ضياع قسم كبير من القرآن

نقل هذا المورد السيوطي في كتاب «الإتقان في علوم القرآن» أيضاً:

روى نافع: أنّ ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، وما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر[280].

المورد الخامس: عدد آيات سورة الأحزاب

المورد الخامس منقول عن السيوطي أيضاً:

روى عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلاّ ما هو الآن[281].

المورد السادس: تغيير الآية السادسة والخمسين من سورة الأحزاب

روت حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ علَيّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة: «إِنَّ اللّه‏َ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً»وعلى الذين يصلّون الصفوف الأوّل، قالت: قبل أن يغيّر عثمان المصاحف[282].

المورد السابع: حذف سورة من القرآن بحجم سورة التوبة

وروى أبو حرب بن الأسود، عن أبيه، قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل، قد قرءوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد، فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب العرب من كان قبلكم، وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي قد حفظت منها: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب»، وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: «يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة»[283].

لقد ذكر السيوطي العبارة المذكورة في كلام أبي موسى الأشعري، وهي: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب»، عن سبعة من الصحابة، وهم: أبو موسى الأشعري، وأبو واقد الليثي، وزيد بن الأرقم، وجابر بن عبد اللّه‏، وبريدة، واُبيّ بن كعب، وعبد اللّه‏ بن مسعود[284]. كما أنّه نقلها عن اُمّهات كتب أهل السنّة، أي: صحيح مسلم، وجامع الأصول لابن الأثير، ومحاضرات الراغب الإصفهاني، وغيرهم من كبار الحفّاظ[285] ثمّ إنّ الحاكم النيسابوري[286]، وأبو علي[287]، وأحمد بن حنبل[288]، والطبراني[289]، والبيهقي، وأبو بكر البزار، والترمذي، والكثير من العلماء الآخرين، يذهبون إلى الاعتقاد بأنّ هذه العبارة كانت موجودة في القرآن الذي كان موجوداً على عهد النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ولكنّها غير موجودة في القرآن الموجود حالياً.

من الواضح أنّ أهل السنّة قد قبلوا بوقوع التحريف في القرآن بالنقصان على مستوى سورة كاملة وأكثر، بل بلغ بهم القول إنّ القرآن قد ضاع منه ثلثاه! ومن ناحية اُخرى على الرغم من إجماع الإماميّة على عدم التحريف بالزيادة، إلاّ أنّ كلمات أهل السنّة تشتمل على وجود التحريف في بعض الآيات بالزيادة، ثمّ إنّه بغضّ النظر عن ذلك لا نجد في أي واحد من الروايات الدالّة على التحريف بالنقصان والمنقولة في المصادر الروائيّة لدى الإماميّة ـ بغضّ النظر عن الإشكال السندي والدلالي ـ ما يشير إلى نقصان في القرآن بحجم سورة واحدة أبداً؛ خلافاً لمصادر أهل السنّة التي يشتمل الكثير منها على مثل هذا التحريف.

المورد الثامن: نقصان آيات سورة الأحزاب والتوبة

وروى زرّ، قال: قال اُبيّ بن كعب: يا زرّ، كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاث وسبعين آية. قال: إن كانت لتضاهي سورة البقرة، أو هي أطول من سورة البقرة...[290].

لقد نقل السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) هذا الكلام عن منتخب كنز العمال، بيد أنّ هذه الرواية منقولة في كتاب «الدرّ المنثور» بهذا المضمون، ولكن مع اختلاف في العبارة، وجاء في نهايتها: «فرفع منها ما رفع»[291]، كما نقل السيوطي في كتاب الإتقان رواية تقول: إنّ سورة الأحزاب كانت على عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)تشتمل على مئتي آية، وإنّه قد سقط منها 127 آية[292]. وبذلك فإنّه يكون من القائلين بتحريف القرآن بالنقصان.

وكذلك ورد في الدرّ المنثور رواية اُخرى في نقصان سورة التوبة:

عن حذيفة رضي اللّه‏ عنه، قال: التي تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب، واللّه‏ ما تركت أحداً إلاّ نالت منه، ولا تقرؤن منها ممّا كنّا نقرأ الاّ ربعها.[293]

بناءً على رأي السيوطي فقد سقط من سورة التوبة ثلاثة أرباعها. وقال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) بعد ذكر اثني عشر مورداً:

وقد نقل بطرق عديدة عن ثبوت سورتي الخلع والحفد في مصحف ابن عباس وأبيّ بن كعب: «اللهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إنّ عذابك بالكافرين ملحق» وغير ذلك ممّا لا يهمّنا استقصاؤه[294].

وقد ذكر السيوطي في «الدرّ المنثور» سورتي «الخلع والحفد»، وقال في ذلك: «إنّ عمر قنت بهاتين السورتين»[295].

كما تمّ نقل رواية اُخرى عن أبي موسى الأشعري بشأن هاتين السورتين.

والملفت للانتباه: أنّه على الرغم من أنّ هاتين السورتين لا يمكن العثور عليهما إلاّ في المصادر الروائية لأهل السنّة، إلاّ أنّ بعضهم ينسبهما إلى الشيعة. يرى مؤلّف كتاب «مذاهب التفسير الإسلامي» أنّ الإماميّة يقولون بتحريف القرآن بالنقصان، ويرون أنّ هناك سورتين باسم «النورين» وهي تحتوي على واحد وأربعين آية، و«الولاية» وتحتوي على سبع آيات، كانتا موجودتين في القرآن، وحيث أنّهما نزلتا في بيان فضل الإمام علي(عليه‏‌‌السلام)، فقد عمد عثمان بن عفان إلى رفعهما من القرآن الكريم[296].

إنّك لا تجد أثراً لهاتين السورتين في أيّ من كتب الشيعة، وإنّ مؤلّف الكتاب المذكور قد نقلهما عن مجلّة، وادّعى أنّه عثر في مكتبة في الهند على نسخة من القرآن تشتمل على فضل هاتين السورتين!

وقد اشتمل كتاب اُصول مذهب الشيعة (من ثلاثة مجلدات) ـ والذي طبع مؤخّراً في المملكة العربية السعودية على نطاق واسع ـ على الكثير من التهم والافتراءات ضدّ الشيعة أيضاً. ومن بين هذه الاتّهامات أنّ الشيعة لديهم مصحف يخفونه عن الآخرين، وفيه سورتان لا وجود لهما في القرآن الموجود عند المسلمين.

وبطبيعة الحال فإنّ الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) قد أشار إلى هاتين السورتين في كتاب «فصل الخطاب»، وقال بأنّ وجود هاتين السورتين قد نقل عن كتاب باسم «دبستان المذاهب» الذي كان مؤلّفوه يعيشون في القرن العاشر. وقد جاء في هذا الكتاب أنّ بعض علماء الشيعة يعتقدون بوجود هاتين السورتين في القرآن ثمّ حذفتا[297]، ولكن يجب القول: طبقاً للتحقيقات المبذولة تبيّن أنّ مؤلّف كتاب «دبستان المذاهب»، موبدان زرادشتي يُدعى «كي خسرو اسفنديار»، وإنّ الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله)بدوره قد نقل عنه. ثمّ قال: إنّه ليس هناك من أثر لهاتين السورتين في أيّ من كتب الشيعة إلاّ ما ذكره محمّد بن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب.

وكتاب المثالب لا يزال مخطوطاً ولم يُطبع بعد، ويبدو من ظاهر كلام الشيخ النوري(رحمه‏‌‌الله) أنّه لم يراجع هذا الكتاب بنفسه، وهذا الأمر يدعو إلى العَجَب.

كما نسب الآلوسي في مقدّمة كتاب روح المعاني وجود هاتين السورتين إلى ابن شهر آشوب في «المثالب»؛ في حين أنّه ـ بغضّ النظر عمّا إذا كان ابن شهر آشوب من القائلين بتحريف القرآن ـ ليس هناك أيّ أثر لهاتين السورتين في مخطوطة كتاب «المثالب» أيضاً.

إنّ العبارة المذكورة في كتب أهل السنّة لهاتين السورتين في القرآن، أشبه بالدعاء منهما إلى القرآن؛ ومن هنا قد يكون ابن عباس وأبيّ بن كعب قد عمدا إلى تدوين بعض الأدعية التي كان يدعو بها النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) في قنوت صلاته، خشية منهما عليهما من الضياع، وأنّ عمر كان يدعو بهما في قنوته أيضاً. ويقوّي هذا الاحتمال ما ورد أدناه في مسند أحمد بن حنبل:

زِرّ بن حُبَيش، قال: قلت لاُبيّ بن كعب: إنّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه؟ فقال: أشهد أنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أخبرني أنّ جبريل(عليه‏‌‌السلام)قال له: قل أعوذ بربّ الفلق، فقلتها، فقال: قل أعوذ بربّ الناس، فقلتها، فنحن نقول ما قال النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)[298].

بناءً على هذه الرواية، كان ابن مسعود يرى أنّ «المعوذتين» ليستا من القرآن، وإنّما هما مجرّد تعويذتان ودعاءان لا أكثر.

ثمّ قال ابن حنبل بعد ذلك:

كان عبد اللّه‏ [ابن مسعود] يحكّ المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللّه‏ تبارك وتعالى[299].

موارد اُخرى من التحريف في كتب أهل السنّة

ذكر السيوطي في «الدرّ المنثور»، أنّ آية المتعة: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»[300]، كانت تتلى على شكل: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى». ونقل الكلام الآتي بشأن هذه الآية عن ابن عباس:

عن أبي نضرة، قال: قرأت على ابن عباس «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»، قال ابن عباس: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى»، فقلت: ما نقرؤها كذلك؟ فقال ابن عباس: واللّه‏ لأنزلها اللّه‏ كذلك[301].

وقد نقل الحاكم بدوره هذا الحديث في المستدرك من طريق صحيح[302].

كما قال الفخر الرازي في تفسيره، بشأن هذه الآية:

روي أنّ أبي بن كعب كان يقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ»، وهذا أيضاً هو قراءة ابن عباس، والاُمّة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة، فكان ذلك إجماعاً من الأمة على صحّة هذه القراءة[303].

وبالإضافة إلى هؤلاء فقد ذكر الزمخشري بدوره هذه القراءة في الكشاف أيضاً:

عن ابن عباس هي محكمة يعني لم تنسخ، وكان يقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى»[304].

ومن بين الموارد العجيبة التي ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور، رواية بشأن الآية السابعة والستين من سورة المائدة:

أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): «يا أيّها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغتَ رسالته واللّه‏ يعصمك من النّاس»[305].

من الواضح أنّ روايات التحريف في كتب أهل السنّة إذا لم تكن أكثر من تلك الموجودة في كتب الشيعة، فهي ليست بأقلّ منها؛ ثمّ إنّ الإماميّة يرون أنّ هذه الإضافات هي من قبيل التفسير والتأويل، وليست جزءاً من القرآن الكريم، خلافاً لعلماء أهل السنّة، إذ يرونها جزءاً من القرآن.

ومن العجيب أنّ بعض المؤلّفين من أهل السنّة ألّف كتاباً في إثبات تحريف القرآن باسم: «الفرقان في تحريف القرآن» لابن الخطيب وقد جمع فيه روايات التحريف عند أهل السنّة، فراجع.

نقد روايات التحريف في مصادر أهل السنّة

تمّت الإشارة في المصادر الروائية والكتب الحديثية لأهل السنّة إلى وجود بعض السوَر، أو الآيات التي لم تعد موجودة في القرآن الفعلي، وكانت تتلى ـ بناءً على مروياتهم ـ في عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). وفي جواب ونقد هذه المطالب، تجدر الإشارة إلى مسألتين في هذا الشأن، وهما:

المسألة الأولى: على الرغم من أنّ الموارد الدالّة على وقوع التحريف في المصادر الروائيّة لأهل السنّة كثيرة، ولا سيّما منها آية الرجم التي ذهب بعض علماء أهل السنّة، وبعض المتخصصين في القرآن، إلى ادّعاء الإجماع المعنوي بشأنها، إلاّ أنّ سند رواياتها غير مقبول؛ ولذلك لا يمكن إثبات وقوع التحريف في القرآن بمثل هذه الروايات.

المسألة الثانية: لو سلّمنا تماميّة سند هذه الروايات، لزم مناقشة دلالة ومضمون هذه الروايات الدالّة على التحريف، وهو ما سنبحثه تباعاً، ولكن حيث لا نستطيع تناول جميع الروايات والكلام حولها في هذا الكتاب المختصر، سوف نكتفي بتحليل ومناقشة بعض الموارد منها فقط.

كلام الشيخ البلاغي(رحمه‏‌‌الله) في نقد آية الرجم

لقد أشار الشيخ البلاغي(رحمه‏‌‌الله) في مقدّمة كتاب «تفسير آلاء الرحمن» إلى بعض موارد التحريف المذكورة في كتب أهل السنّة، مع بيان الإشكالات الواردة عليه. وقال سماحته بشأن آية الرجم:

ممّا ألصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت: كنّا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة»[306].

وبعد أن ذكر العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله) كلام القائلين بهذا المضمون، عمد إلى نقد هذا الكلام على صيغة: «الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة، بما قضيا من الشهوة»، قائلاً:

يا للعجب! كيف رضي هؤلاء المحدّثون لمجد القرآن وكرامته أن يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة، بدون أن يذكر السبب، وهو زناهما أقلاً، فضلاً عن شرط الإحصان؟ وإنّ قضاء الشهوة أعمّ من الجماع، والجماع أعمّ من الزنا، والزنا يكون كثيراً مع عدم الإحصان[307].

يجب القول في تأييد رأي العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله): إنّ حكم الرجم لا يتحقّق بمجرّد مطلق الزنا، بل يشترط الإحصان كذلك في تحقّق الرجم، وفي هذه الآية المزعومة لم يتمّ بيان سبب الرجم.

وقد وردت عبارة آية الرجم في بعض روايات أهل السنّة على شكل: «الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة بما قضينا من الشهوة (اللذّة)»، بمعنى أنّ سبب الحكم بالرجم في الحقيقة يعود إلى قضاء الشهوة أو قضاء اللذّة في عبارة اُخرى.

وكما ذكر العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله)، فإنّ الشهوة واللذّة أعمّ من الجماع، ولذلك إذا كانت علّة حكم الرجم هي قضاء الشهوة واللذّة، فيجب رجم الشيخين بمجرّد تحقّق اللذّة أو الشهوة بينهما، حتّى إذا لم يرتكبا جماعاً (الزنا)!

ثمّ استطرد العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله)، قائلاً:

سامحنا من يزعم أنّ قضاء الشهوة كناية عن الزنا بل زد عليه كونه مع الإحصان، ولكنّا نقول: ما وجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما»، وليس هناك ما يصحّح دخولها من شرط، أو نحوه، لا ظاهر ولا على وجه يصحّ تقديره؟ وانّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا»، لأنّ كلمة «اجلدوا» بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ، والزنا بمنزلة الشرط، وليس الرجم جزاء للشيخوخة، ولا الشيخوخة سبباً له. نعم، الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية[308].

الإشكال الثاني: لا مناسبة بين «الشيخ والشيخة» ومعاقبتهما بالرجم، ففي قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَة»[309]، من الواضح أنّ الزنا هو السبب في الحكم بالجلد، وإنّ الجلد عقوبة على الزنا، فإنّ القاري عندما يقرأ هذه الآية يدرك أنّ الزاني يجب أن يُجلد بسبب ارتكابه لموبقة الزنا، وأنّ عقوبة الزاني هي الجلد، وأمّا في آية الرجم المزعومة، فإنّ الشيخوخة لا يمكن أن تكون سبباً للرجم. أجل، لو أضفنا إليها عبارة «إذا زنيا»، لن يرد هذا الإشكال.

ثمّ ذكر العلاّمة البلاغي(رحمه‏‌‌الله) بعد ذلك عبارة على سبيل الإشكال الثالث، حيث قال:

وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد أن يقيّد الأمر بالشيخ والشيخة، مع إجماع الاُمّة على عمومه لكلّ زان محصن، بالغ الرشد من ذكر أو أنثى؟ وأن يطلق الحكم بالرجم مع إجماع الاُمّة على اشتراط الإحصان فيه[310].

والإشكال هو: إنّ حكم الرجم لا يختصّ بالشيخ والشيخة، وإنّما هو عقوبة ثابتة على البالغ الرشيد، بشرط تحقّق الإحصان. وبعبارة اُخرى: إنّ دلالة الإجماع على عموم الحكم يتنافى مع حصر الحكم في آية الرجم على الشيخ والشيخة. وعلى هذا الأساس يثبت أنّ آية الرجم موضوعة ومختلقة.

روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يقول قبل وفاته بعشرين يوم تقريباً: «لولا أن يقول النّاس: زاد عمر بن الخطّاب في كتاب اللّه‏ تعالى، لكتبت: الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة»:

فقال زيد: سمعت رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة. فقال عمر: لمّا أنزلت هذه أتيت رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، فقلت: أكتبنيها. قال شعبة: فكأنّه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أنّ الشيخ إذا لم يحصن جلد، وأنّ الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم[311].

يتّضح من خلال هذه الرواية أنّ عمر بن الخطاب كان يروم كتابة هذه العبارة في القرآن، بيد أنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) رفض ذلك؛ فكيف يمكن لجملة أن تكون من القرآن، ومع ذلك لا يرضى رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بإضافتها إلى المصحف؟!

بيد أنّ الأهمّ من ذلك رواية ذكرها النسائي في السنن، والحاكم في المستدرك، وأحمد في المسند، ومن الإماميّة أشار إليها ابن أبي جمهور الأحسائي في «عوالي اللآلي»:

أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا رجل عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبي، أنّ عليّاً رضي اللّه‏ تعالى عنه جلد سراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: أجلدها بكتاب اللّه‏، وأرجمها بسنّة رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)[312].

يذهب أهل السنّة إلى القول باعتبار هذه الرواية؛ وذلك لأنّها موجودة في صحاحهم الستّة، كما أنّهم يأخذون بقول الإمام علي(عليه‏‌‌السلام)بوصفه واحداً من الصحابة. والنقطة الهامّة في البين هي أنّ الإمام علي(عليه‏‌‌السلام) قد أصدر الحكم بالرجم ـ على فرض صحّة الرواية ـ على أساس سنة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ وعليه فإنّ حكم وكلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)يكون في قبال آية عمر بن الخطّاب المزعومة. وعلى هذا الأساس فإنّ الشخص الوحيد الذي كان يصرّ على التعريف بآية الرجم بوصفها جزءاً من القرآن الكريم هو عمر بن الخطّاب، ولم يذهب أيّ واحد من الصحابة غيره إلى اعتبارها جزءاً من القرآن.

توجيهات أهل السنّة لروايات التحريف

لقد ذكر علماء أهل السنّة في مقام الجواب عن الشبهة المطروحة حول تحريف القرآن الكريم بعدد من التوجيهات، على النحو الآتي:

1 . الذهاب إلى نفس ما ذهب إليه الإماميّة في حمل الروايات المشابهة على تأويل وتفسير القرآن الكريم.

2 . القول بأنّ الخلع والحفد حديثين قدسيين.

3 . ذهب بعض علماء أهل السنّة إلى الاعتقاد بأنّ بعض هذه الموارد، من قبيل: آية الرجم، إنّما هي من سنّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ومن هنا فقد ذهب إلى التعبير عنها بقوله: «هي سنّة ثابتة»، ولم يقل: «هي آية نازلة».

4 . هناك من ذكر مسألة خطأ واشتباه الراوي.

5 . ذهب أكثر أهل السنّة في توجيه هذا النوع من الروايات ـ كما سبق أن ذكرنا ـ إلى القول بنسخ التلاوة، ببيان أن حكم آية الرجم ثابت بوصفه من القرآن، ولكنّه من القرآن المنسوخ على مستوى التلاوة.

مناقشة وتحليل نسخ التلاوة

قال السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في مقام نقد القول بنسخ التلاوة:

إنّ نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وإمّا أن يكون ممّن تصدّى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، فهو أمر يحتاج إلى الإثبات. وقد اتّفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرّح بذلك جماعة في كتب الاُصول وغيرها[313].

كما قال سماحته، لم يكن هناك في حياة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) شيء اسمه نسخ التلاوة، وإنّ ما ورد من الروايات في نسخ التلاوة، إنّما هو من أخبار الآحاد التي لا يمكن الاعتماد والتعويل عليها.

بل ذهب السيّد الخوئي إلى أبعد من ذلك وقال: حتّى لو افترضنا تواتر هذه الروايات، مع ذلك لا يمكن القبول بمضمونها، طبقاً لرأي كبار العلماء من أهل السنّة، وقال سماحته في ذلك:

بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسّنة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة منع وقوعه[314].

كما قال سماحة السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، فإنّ الأصوليين من أهل السنّة، من أمثال: الشاطبي في «الموافقات»[315]، والشافعي وغيرهما، لم يروا عدم كفاية أخبار الآحاد لنسخ القرآن، بل لم يجيزوا نسخ القرآن الكريم حتّى بالسنّة المتواترة أيضاً، كما أنّ الذين أجازوا نسخ القرآن بالسنّة المتواترة لم يقولوا بتحقّق ذلك في الواقع.

والنقطة الجديرة بالاهتمام هي أنّ نسخ الكتاب إنّما يمكن أن يكون بالكتاب، ولا يصل الأمر إلى خبر الواحد أو المتواتر، ليكون هناك كلام عن وقوعه أو عدم وقوعه.

ثمّ استطرد السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، قائلاً:

وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ إلى النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أنّ نسبة النسخ إلى النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)تنافي جملة من الروايات التي تضمّنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده.

إتّضح حتّى الآن أنّ نسخ التلاوة لم يكن من قبل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وعليه لا يبقى هناك من احتمال سوى وقوعه بعد رحيل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). وفي ذلك فقد استطرد السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، يقول:

وإن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، فهو عين القول بالتحريف. وعلى ذلك فيمكن أن يدّعى أنّ القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنّة، لأنّهم يقولون بجواز نسخ التلاوة[316].

إنّ نسخ التلاوة يعني في الحقيقة أنّ آية من القرآن كانت في عهد النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)تتلى إلى فترة من الزمن، ثمّ تركت تلاوتها بعد ذلك. وكما يتّضح من كلام سماحة السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله): إنّ هذا النسخ إنّما يمكن تصوّر وقوعه بعد عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وهذا لا يمكن أن يكون شيئاً غير التحريف. وعليه فإنّ الذي يقول بالنسخ، إنّما يقبل بحذف بعض الآيات والسوَر، وليس هذا سوى القول بتحريف القرآن الكريم. «سواء أنسخ الحكم أم لم ينسخ، بل تردّد الاُصوليون منهم في جواز تلاوة الجنب ما نسخت تلاوته، وفي جواز أن يمسّه المحدث».

استدلال أهل السنّة بالآية 106 من سورة البقرة على نسخ التلاوة، ونقده

هناك إجماع بين المسلمين على شيء واحد فيما يتعلّق بالقرآن، ألا وهو نسخ الحكم الموجود في الآية، بيد أنّ الذي يتمّ بحثه حالياً هو نسخ تلاوة الآية. هناك في القرآن الكريم آيات تمّ نسخ حكمها، بيد أن تلاوة الآية التي تشتمل على ذلك الحكم لا تزال باقية. وقد ذهب أهل السنّة إلى الاعتقاد بتحقّق نسخ التلاوة على غرار نسخ الحكم أيضاً، سواء أكان الحكم باقياً كما في آية الرجم، أو كان الحكم منسوخاً بالإضافة إلى نسخ التلاوة من قبيل آية الرضاع.

فقد رووا عن عائشة، أنّها قالت:

كان فيما أنزل اللّه‏ في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثمّ نسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وهي ممّا يقرأ من القرآن[317].

لقد تمسّك علماء أهل السنّة لإثبات نسخ التلاوة بآيتين من القرآن الكريم، وهما: الآية رقم 106 من سورة البقرة، والآية رقم 101 من سورة النحل، وفي البداية سوف نناقش دلالة آية سورة البقرة. قال اللّه‏ تبارك وتعالى في هذه الآية:

«مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه‏َ عَلَى كُلِّ شَىْ‏ءٍ قَدِيرٌ».

إنّ هذه الآية تقول إنّ الآيات لا يتمّ نسخها أو إنساؤها ـ بمعنى تأجيلها أو محوها من الذهن والذاكرة ـ إلاّ وسيأتي اللّه‏ تعالى بمثلها، أو ما هو أفضل منها.

ولابدّ من العلم بأنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف أوّلاً: على أن يكون المراد من كلمة «الآية» آيات القرآن الكريم، وثانياً: أن يكون هناك سبب لوقوع نسخ التلاوة. وبهاتين المقدّمتين يمكن إثبات نسخ التلاوة.

بيد أنّه أوّلاً: يرى المفسّرون ـ عامّة وخاصّة ـ أنّ كلمة «ما» في هذه الآية الكريمة تحمل عنوان الشرطية، وإنّ جملة «نأتِ بخير» تمثّل جواب الشرط. وقد ثبت في محلّه أنّ وقوع الجملة الشرطية ليس ضرورياً في الخارج؛ وذلك لأنّ الجملة الشرطية إنّما تدلّ على الإمكان دون الوقوع. وهناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم التي لم يتحقّق شرطها في الخارج، من قبيل قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ»[318]. بمعنى: لو أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)نسب إلينا كلاماً، لأخذناه باليمين ـ كناية عن القوّة والشدّة ـ بيد أنّ هذا الأمر لم يتحقّق في الخارج بالفعل أبداً، وكما في قوله تعالى: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه‏ِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»[319]. ففي هذه الآية على الرغم من أنّ جملة «إن تطع» قد تمّ بيانها بوصفها شرطاً، بيد أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) لم يفعل ذلك أبداً. ولذلك فإنّ الشرط يدلّ على إمكان الوقوع، ولكنّه لا يدلّ على حتميّة الوقوع. وعليه فإنّ الآية لا تدلّ على وقوع النسخ أبداً.

وثانياً: يحتمل أن لا يكون المراد من كلمة «الآية» في الآية رقم 106 من سورة البقرة آيات القرآن الكريم؛ وذلك لأنّ الآية لغة تعني العلامة والأمارة. يُضاف إلى ذلك أنّ «الآية» في القرآن الكريم قد وردت في القرآن الكريم بصيغة المفرد والجمع لتدلّ على معان مختلفة، من قبيل: المعجزة والآية الإلهيّة، كما في قوله سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ»[320]. إلاّ أنّ القاسم المشترك بين جميع هذه المعاني هو العلامة والأمارة. وعليه فإنّ «الآية» مفهوم عامّ، يطلق في كلام اللّه‏ تعالى على الاُمور التكوينية، مثل: السماء والأرض، ومن هنا لا يمكن القول: إنّ المراد من كلمة «الآية» في الآية الشريفة هو خصوص آيات القرآن.

وعليه فإنّ كلام الذين جعلوا كلمة «النسخ» قرينة على حصر «الآية» في الآيات المصطلحة، وقالوا بعدم دلالتها على الآيات التكوينية، غير صحيح؛ وذلك لأنّ «النسخ» يعني الإزالة والحذف، وهو يتحقّق في الآيات التشريعية، كما يتحقّق في الآيات التكوينية أيضاً، ولذلك فإنّ النسخ لا يختصّ بآيات القرآن الكريم فقط.

ومن المناسب في هذا الشأن أن نشير إلى كلام بعض المفسّرين:

قال الفخر الرازي في مقام الجواب عن الذين استدلّوا بهذه الآية لإثبات نسخ التلاوة:

الاستدلال به أيضاً ضعيف، لأنّ «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أنّ قولك: «من جاءك فأكرمه» لا يدلّ على حصول المجيء، بل على أنّه متى جاء وجب الإكرام، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ، بل على أنّه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه[321].

وذهب بعض علماء أهل السنّة إلى الاعتقاد بأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يسعى في هذه الآية إلى بيان الوعد الإلهي: «إنّه تعالى إنّما وعد أنّه إذا نسخ آية أو نسأها أتى بخير منها»[322].

إنّ هذا الكلام بدوره غير صحيح؛ وذلك لأنّ الوعد لا يدلّ على التحقّق القطعي، كما أنّ كبار علماء أهل السنّة أنفسهم يرفضون دلالة الآية على نسخ التلاوة، وقد صرّحوا بذلك في كتبهم؛ ومع ذلك هناك عدد من العلماء المعاصرين ـ ومن بينهم مفتي الديار العربية ـ يسعون إلى نشر كتاب موهون، ويصرّون على دلالة قوله تعالى: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَة أَوْ نُنْسِهَا» على نسخ التلاوة، ويقولون بأنّ شأن نزول الآية يدلّ على هذا المعنى.

قال ابن حجر في كتابه «فتح الباري» الذي هو أحد أهم الشروح على «صحيح البخاري»: «السياق وسبب النزول كان في ذلك»[323].

بعد إمعان النظر في آيات سورة البقرة، يتّضح أنّ سياق الآيات لا يحتوي على أيّ دلالة على هذا المعنى أبداً، كما أنّه بعد الرجوع إلى شأن نزول الآية يتبيّن لنا أنّ شأن النزول لا يدلّ على نسخ التلاوة. فقد ذهب أكثر المفسّرين إلى القول بأنّ شأن نزول هذه الآية هي مسألة تغيير القبلة، ببيان أنّ اليهود كانوا يغمزون من قناة المسلمين، ويقولون لهم: دينكم دين جديد، ومع ذلك لا تمتلكون قبلة غير قبلتنا. وكان اليهود يعتبرون ذلك امتيازاً لهم؛ فكان النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) لذلك يقلّب طرفه في السماء، سائلاً اللّه‏ سبحانه وتعالى تغيير القبلة، حتّى استجاب اللّه‏ سبحانه وتعالى دعاءه، ونقل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ ومع ذلك واصل اليهود إصرارهم على المعارضة.

يقول القرطبي في كتابه «الجامع» ـ وهو من أهمّ التفاسير في آيات الأحكام ـ في تفسير الآية السادسة بعد المئة من سورة البقرة:

هذه آية عظمى في الأحكام. وسببها أنّ اليهود لمّا حسدوا المسلمين في التوجّه إلى الكعبة، وطعنوا في الإسلام بذلك، وقالوا: إنّ محمّداً يأمر أصحابه بشيء، ثمّ ينهاهم عنه، فما كان هذا القرآن إلاّ من جهته، ولهذا يناقض بعضه بعضاً، فأنزل اللّه‏: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة»وأنزل «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة»[324].

وفي بعض تفاسير أهل السنّة الاُخرى، من قبيل: «البحر المحيط» لابن حيّان الاُندلسي، رأي مشابه لرأي القرطبي في هذا الشأن[325].

وعليه فإنّ شأن نزول هاتين الآيتين لا صلة له بتلاوة الآيات ونسخها؛ يُضاف إلى ذلك أنّه قد ثبت في محلّه أنّ شأن النزول إنّما يوفّر الأرضية لنزول الآية فقط، ومن هنا لا يكون شأن النزول مخصّصاً. ولذلك من الضروري الالتفات إلى العنوان العامّ والكلّي في الآية.

ناهيك عن أنّ معنى كلمة «الآية» في هاتين الآيتين، لا ينحصر بآيات القرآن، وهناك من قال بأنّ هذه الكلمة إذا جاءت بصيغة المفرد فإنّها لا تدلّ على آيات القرآن وكلمات اللّه‏ سبحانه وتعالى، وإنّما تدلّ على ذلك إذا جاءت بصيغة الجمع، من قبيل قوله تعالى: «تِلْكَ آَيَاتُ اللّه‏ِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ»[326]، حيث تدلّ هنا على آيات القرآن وكلمات اللّه‏ سبحانه وتعالى.

وهناك من قال إنّ «الآية» إذا وردت في القرآن الكريم بصيغة المفرد، فإنّها تدلّ على الأمر العظيم والخارق للعادة. وقد استشهد هؤلاء لكلامهم بما ورد في الآية السادسة بعد المئة من سورة البقرة: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه‏َ عَلَى كُلِّ شَىْ‏ءٍ قَدِيرٌ»، وما ورد بعدها من قوله: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه‏َ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»[327]. إنّ هذا النوع من التعابير من قبل اللّه‏ سبحانه وتعالى إنّما يتناسب مع الاُمور الهامّة والخارقة للعادة، ولا حاجة لتغيير آية من القرآن واستبدالها بآية اُخرى إلى استخدام تعابير من قبيل: «أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه‏َ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ». وعلى هذا الرأي فإنّ سياق الآية خلافاً لرؤية بعض علماء أهل السنّة لا ينسجم مع مسألة النسخ.

ومن ناحية اُخرى يجب القول في نقد كلام القائلين: إنّ تفسير «الآية» بالاُمور التكوينية، أو الأمر العظيم والخارق للعادة، لا ينسجم مع التعبير بـ «نُنْسِها» المذكور في الآية السادسة بعد المئة من سورة البقرة؛ إذ لا معنى لاستعمال هذا التعبير في كلام اللّه‏ سبحانه وتعالى بالنسبة إلى الأمر التكويني؛ وعليه فإنّه مع وجود قرينة مثل «نُنْسِها» لا يمكن تفسير كلمة «الآية» بالاُمور التكوينية، والأفعال العظيمة، والخارقة للعادة.

إنّ الكلام الذي يبدو صحيحاً في هذا الشأن، هو أنّه بالرجوع إلى الكثير من التفاسير يتّضح لنا بالالتفات إلى شأن نزول الآية (مسألة تغيير القبلة)، أنّ الآية السادسة بعد المئة من سورة البقرة: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا»، في مقام نسخ الشرائع السابقة؛ إذ كان اليهود يرون استحالة نسخ شريعتهم، وكانوا يعلمون أنّ قبلة خاتم الأنبياء(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) سوف تكون إلى بيت المقدس، ولم يكن يخطر في بالهم أنّ هذه القبلة يمكن أن تتغيّر، وكانوا يرون أنّ كلّ من صلّى إلى بيت المقدس وجب عليه البقاء عليها حتّى النهاية.

وبعبارة اُخرى: إنّ الشرائع السابقة ـ ولا سيّما اليهودية ـ كانت تذهب إلى الاعتقاد بأنّه لن يكون هناك نسخ في شريعتهم وكتبهم؛ بيد أنّ المسلمين يرون إنّه بمجرّد ظهور الإسلام تمّ نسخ جميع الأديان السابقة؛ إذ أنّ كلّ شريعة تُنسخ بمجيء الشريعة اللاحقة[328].

وعليه فإنّ المراد من كلمة «الآية» ـ طبقاً لما تقدّم ذكره ـ في الآية مورد البحث هو الشريعة. وعلى هذا الأساس فإنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول في الحقيقة: لو أنّنا نسخنا شريعة أو أنسياها، فإنّنا سوف نأتي بمثلها، أو خير منها. وعليه فالنتيجة هي أنّ الآية السادسة بعد المئة من سورة البقرة لا ربط لها بنسخ تلاوة آية من القرآن الكريم، أو نسخ أحكام الدين الإسلامي في صلب هذا الدين.

رأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) حول الآية 106 من سورة البقرة

قال سماحته في تفسير هذه الآية، وحول مسألة النسخ:

كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود، وبطلان تحقّقها، بل الحكم حيث علّق بالوصف، وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية، بقوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ»الخ، أفاد ذلك أنّ المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنّها آية، أعني إذهاب كون الشيء آية وعلامة مع حفظ أصله، فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره، مع بقاء أصله، وهذا هو المستفاد من اقتران قوله: «نُنْسِها» بقوله: «مَا نَنْسَخْ»[329].

إنّ تعليق الحكم على الوصف يُشعر بالعليّة؛ وعليه فإنّ النسخ في الآية الكريمة: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا»، يعود إلى جهة اعتبار الآية علامة، ببيان أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى لم يحذف الآية التي أنزلها من دائرة الوجود بواسطة النسخ والإنساء، وإنّما اقتصر على نسخ اعتبار كونها علامة. وعلى هذا الأساس فإنّ المراد من النسخ في هذه الآية ـ من وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) ـ هو رفع أثر الآية، والإبقاء على أصلها.

نقد رأي العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)

يبدو أنّ الكبرى الكلّية وأصل كلام العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) صحيح ومقبول؛ إذ كما أفاد سماحته فإنّ المراد من «نسخ الآية» هو نفي كون الآية علامة، وليس الخروج من دائرة الوجود. ولكن يبدو أنّه لا يمكن استفادة هذا الكلام من الآية الكريمة «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة...»، استناداً إلى القول بأنّ «التعليق على الوصف يُشعر بالعليّة»؛ إذ لا يوجد تعليق في هذه الآية، وإنّما عنوان الآية قد صار متعلّقاً وموضوعاً. وبعبارة اُخرى: إنّ الموضوع ليس شيئاً آخر متّصفاً بكونه آية، كي يمكن تطبيق هذه القاعدة.

استدلال أهل السنّة بالآية 101 من سورة النحل على نسخ التلاوة، ونقده

إنّ من بين الآيات الاُخرى التي استدلّ بها أهل السنّة لإثبات نسخ التلاوة، هي الآية رقم 101 من سورة النحل، حيث قال اللّه‏ سبحانه وتعالى في هذه الآية:

«وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللّه‏ُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ».

إنّ ما تقدّم من الكلام بشأن نزول الآية الكريمة رقم: 106 من سورة البقرة، يرد في هذه الآية أيضاً.

قال العلاّمة الطباطبائي(قدس‏‌‌سره) في تفسير هذه الآية:

قوله تعالى: «وَإِذَا بَدَّلْنَا» اشارة إلى النسخ وحكمته، وجواب عمّا اتّهموه(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)به، من الافتراء على اللّه‏، والظاهر من سياق الآيات أنّ القائلين هم المشركون، وإن كانت اليهود هم المتصلّبين في نفي النسخ، ومن المحتمل أن تكون الكلمة ممّا تلقفه المشركون من اليهود، فكثيراً ما كانوا يراجعونهم في أمر النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)[330].

وقد ذكر القرطبي في كتابه، واحداً من معاني الآية، قائلاً: «إذا بدّلنا شريعة متقدّمة بشريعة مستأنفة»[331].

وقد ذهب في تفسيره إلى الاعتقاد بأنّ القائلين بنسخ تلاوة آيات القرآن لا يمكنهم التمسّك بهذه الآية.

وقد ذكر ابن عبّاس لهذه الآية الكريمة شأن نزول آخر، على النحو الآتي:

إنّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) كان إذا نزلت عليه آية فيها شدّة أخذ النّاس بها، وعملوا ما شاء اللّه‏ أن يعملوا، فيشقّ ذلك عليهم، فينسخ اللّه‏ تعالى هذه الشدّة، ويأتيهم بما هو ألين منها وأهون عليهم منها، قالوا أي كفّار قريش: ما يعلمه إلاّ عابس غلام حويطب بن عبد العزى، ويسار بن فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما، وكان رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)يأتيهما فيحدّثهما ويعلّمهما، وكانا يقرءان كتابهما بالعبرانية، فنزل «وَاِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة»»[332].

طبقاً لشأن نزول هذه الآية الكريمة، يتّضح أن ليس هناك أيّ صلة بين نسخ التلاوة، والآية رقم 101 من سورة النحل.

وأمّا فيما يتعلّق بكلمة «آية» في هذه الآية الكريمة، فيوجد هناك احتمالان أيضاً، وهما:

أ) هناك من يعتقد أنّ معنى ومفهوم «الآية» في هذه الآية، يختلف عن معناها ومفهومها في الآية رقم 106 من سورة البقرة، وعليه فإنّ هذه الآية لا صلة لها بمسألة نسخ التلاوة. وبعبارة أخرى: كما أنّ كلمة «الآية» في سورة البقرة لا صلة لها بنسخ التلاوة، فهكذا هو الحال بالنسبة إلى كلمة الآية في سورة النحل أيضاً.

ب) إنّ القصّة والقضية والمفهوم في كلتا الآيتين واحد، وعلى هذا الأساس فإنّ الآية الكريمة في سورة النحل تدلّ على النسخ. وعليه لو تمّ جعل حكم شاق بالنسبة إلى قضية، ثمّ تمّ استبداله في ذات المورد بحكم سهل، حصل نسخ للمعنى في مثل هذه الحالة.

ذهب أكثر المفسّرين إلى تقوية الاحتمال الثاني.

تمّ حتّى الآن بيان ثلاثة تفسيرات بشأن قوله تعالى: «وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَة»، وهي عبارة عن:

1 . إنّ الآية الكريمة تدلّ على نسخ الشرائع السابقة بالشرائع الجديدة واللاحقة، ولذلك لا تكون هناك صلة بين هذه الآية، ومسألة نسخ التلاوة.

2 . بناءً على تفسير ابن عباس، كان المشركون يقولون: إنّ النبيّ يذكر اليوم آية بالنسبة إلى قضية، ليعود في اليوم الآخر ويذكر آية اُخرى بالنسبة إلى ذات القضية، والآية هنا لا صلة لها بمسألة نسخ التلاوة أيضاً.

3 . تفسير أهل السنّة على أنّ المراد من كلمة «الآية» في الآية المذكورة هو آية القرآن، ويمكن استبدال آية مكان آية اُخرى.

يمكن إثبات النسخ بالاحتمال الثالث، إلاّ أنّ هذا الاحتمال إنّما يدلّ على مجرّد النسخ وانتفاء الحكم، وليس تلاوة الآية، كما أفاد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله)أيضاً. وعلى هذا الأساس، لا يكون معنى هذه الآية الكريمة هو حذف آية من دائرة التلاوة واستبدالها بآية اُخرى.

النتيجة: لا دلالة في أيّ من الآيتين 106 من سورة البقرة، و101 من سورة النحل على نسخ التلاوة، يُضاف إلى ذلك أنّ نسخ التلاوة غير مقبول من وجهة نظر العقلاء، إذ لا معنى لأن يحذف الشارع المقدّس تلاوة آية، مع إبقائه على حكمها!

عدم انسجام نسخ التلاوة مع القرآن الكريم

قال العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في إطار بحث الآيات الدالّة على النسخ: لو سلّمنا القبول بنسخ التلاوة، وجب توجيه وتحليل نسخ تلك الآيات بشكل وآخر. ثمّ استطرد في بيان موارد الآيات وتوجيهها، إلى أن قال:

أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام اللّه‏، حتّى أبطلها اللّه‏ بإمحاء ذكرها، وإذهاب أثرها، فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا منزهاً من الاختلاف، ولا قولاً فصلاً، ولا هادياً إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم، ولا معجزاً يتحدّى به، ولا، ولا، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنّه في لوح محفوظ، وأنّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّه قول فصل، وأنّه هدى، وأنّه نور، وأنّه فرقان بين الحقّ والباطل، وأنّه آية معجزة، وأنّه، وأنّه؟[333].

كما أشار سماحته فإنّه على فرض التسليم والقول بنسخ التلاوة، يجب أن يكون هناك دليل على حذف وإنساء الآية، وذلك الدليل هو أنّ الآيات المذكورة من قبيل: آية الرجم، لا تشتمل على صفات كلام اللّه‏ سبحانه وتعالى، ومن هنا فإنّها لم تكن من كلام اللّه‏ منذ البداية. ثمّ استطرد العلاّمة الطباطبائي يقول:

فهل يسعنا أن نقول: إنّ هذه الآيات على كثرتها، وإباء سياقها عن التقييد، مقيّدة بالبعض، فبعض الكتاب فقط وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة، لا يأتيه الباطل، وقول فصل، وهدى ونور، وفرقان، ومعجزة خالدة؟[334].

بالالتفات إلى هذه المطالب، هل يمكن القول: إنّ الآيات المنسوخة كانت تشتمل على ذات هذه الصفات، ومع ذلك تمّ حذفها؟ إذا قلنا إنّها كانت تشتمل على هذه الصفات، لا يكون هناك دليل على نسخها، وإن قلنا إنّها كانت تحتوي على واحد من تلك الصفات، وجب القول إنّ هذه الآيات لم تكن من القرآن منذ البداية.

ثمّ استطرد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) في معرض الحديث عن بيان حقّ المطلب، قائلاً:

فالحقّ أنّ روايات التحريف المروية من طرق الفريقين، وكذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية، مخالفة للكتاب مخالفة قطعية[335].

وعلى هذا الأساس يجب القول: إنّ نسخ التلاوة يخالف آيات القرآن الكريم.

تعارض نسخ التلاوة مع سنّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)

إنّ نسخ التلاوة كما يتعارض مع القرآن الكريم، فإنّه يتعارض مع السنّة النبويّة أيضاً؛ وذلك لأنّ أهل السنّة لم ينسبوا أيّة رواية من الروايات الدالّة على نسخ التلاوة إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). فإنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بوصفه أوّل وأهمّ حافظ للوحي، من مسؤوليته أن ينبّه المسلمين إلى النسخ، لو حصل بالنسبة إلى الآيات، في حين أنّه لم يُعثر في أيّ واحد من مصادر أهل السنّة على سند منسوب إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، يدلّ على نسخ التلاوة.

ثمّ إنّهم بالإضافة إلى الروايات السابقة، قد أشاروا إلى روايتين اُخريين على إثبات نسخ التلاوة، ولكن هاتين الروايتين بدورهما لم تؤثرا عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أيضاً.

1. عن البراء بن عازب، قال: نزلت هذه الآية: «حافظوا على الصلوات وصلاة العصر»، فقرأناها ما شاء اللّه‏، ثمّ نسخها اللّه‏ فنزلت: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى»[336]. فقال رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر. فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها اللّه‏. واللّه‏ أعلم[337].

وفي معرض نقد دلالة هذه الرواية على مطلوب أهل السنّة، يمكن القول:

أوّلاً: كما تقدّم أن ذكرنا مراراً، وارتضاه أهل السنّة أنفسهم، فإنّه لا يمكن التمسّك بخبر الواحد لإثبات نسخ آية من القرآن، أو عدم نسخها.

وثانياً: لقد حصل خلط في المقام، وذلك لأنّ الآية الكريمة تقول في الأصل: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى»[338]. وقد فسّر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بنفسه المراد من الصلاة الوسطى بـ «صلاة العصر»، ثمّ أخطأ البراء بن عازب، حيث استبدل الآية بتفسيرها، وادّعى النسخ بسبب هذا الخطأ.

وثالثاً: إنّ نسخ التلاوة في هذه الرواية لم ينسب إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وإنّما هو مجرّد فهم وتفسير، تبرّع به البراء بن عازب. ولذلك ربما اشتبهت المسألة عليه.

وعلى هذا الأساس لا يمكن إثبات نسخ التلاوة بهذه الرواية. ونظير هذه الرواية قصّة «بئر معونة» المعروفة، المنقولة عن أنس بن مالك:

2. عن أنس(رضى‏ الله ‏عنه) عنه: أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أتاه رعل، وذكوان، وعصية، وبنو لحيان، فزعموا أنّهم قد أسلموا، واستمدّوه على قومهم، فأمدهم النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بسبعين من الأنصار، قال أنس: كنّا نسمّيهم القرّاء، يحطبون بالنهار ويصلّون بالليل، فانطلقوا بهم حتّى بلغوا بئر معونة، غدروا بهم، وقتلوهم فقنت شهراً يدعو على رعل وذكوان وبنى لحيان. قال قتادة: وحدّثنا أنس: أنّهم قرؤوا بهم قرآناً «ألا بلغوا قومنا بأنّا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا» ثمّ رفع ذلك بعد[339].

والجدير بالذكر أنّه قد وردت في الحديث رقم 4095 باب غزوة الرجيح ورعل وذكوان، عبارة: «حتّى نُسخ بعد» بدلاً من «ثمّ رفع ذلك بعد»[340].

نقد الرواية:

يرد في هذه الرواية كلّ ما ورد بشأن الرواية الاُولى، ومن ذلك:

أوّلاً: إنّ هذه الرواية تشتمل بدورها على عنوان خبر الواحد، ولا يمكن إثبات أو نفي قرآنية كلام ما بخبر الواحد.

ثانياً: إنّ أسلوب وطريقة وفصاحة وبلاغة هذه العبارة لا تتناسب مع أسلوب وفصاحة القرآن، وبذلك يكون هذا الكلام عادياً، وليس من القرآن الكريم في شيء.

ثالثاً: المنقول في مسند أحمد[341]، وصحيح مسلم[342]، في رواية اُخرى، عبارة: «فقال رسول اللّه‏ لأصحابه: إنّ اخوانكم قد قتلوا، وأنّهم قالوا: اللّهمّ بلّغ عنّا نبيّنا إنّا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا». حيث قالها النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بوصفها كلاماً قاله هؤلاء الرهط السبعون من الصحابة، لا أنّها من القرآن الكريم.

رابعاً: إنّ هذا الكلام إنّما هو منقول عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالمعنى، وليس هو عين كلامه(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ولذلك لا يمكن الاستناد إليه.

كلام بعض علماء أهل السنّة في بطلان نسخ التلاوة

لقد تنبّه بعض المتأخّرين من علماء أهل السنّة إلى بطلان نسخ التلاوة، وقد صرّح بهذا البطلان. ومن بين هؤلاء العلماء مؤلّف كتاب «فتح المنان في نسخ القرآن»، حيث قال:

ذهبت طائفة من العلماء إلى إنكار هذا النوع من النسخ، وعدم وقوعه في كتاب اللّه‏ عزّ وجل، لأنّه عيب لا يليق بالشارع الحكيم، لأنّه من التصرّفات التي لا تعقل لها فائدة، ولا حاجة إليها، وتنافي حكمة الحكيم، ... ولأنّه يخالف المعقول والمنطق، ولأنّ مدلول النسخ وشروطه التي اشترطها العلماء فيه لا تتوفّر، ولأنّه يفتح ثغرة للطاعنين في كتاب اللّه‏ تعالى[343].

لقد نظر هذا الكتاب إلى المسألة من الزاوية العقلية، وتوصّل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ قيام اللّه‏ تعالى بنسخ آية مع إبقاء حكمها، أو حتّى نسخ حكمها في بعض الموارد، أمر لا ينطوي على فائدة، ولا معنى له.

كما أثار مؤلّف كتاب «اُصول الفقه الإسلامي» سؤالاً في هذا الشأن، قال فيه:

فأيّ حكمة في نسخ التلاوة دون الحكم؟ وإذا كانت التلاوة نسخت، فأين الدليل للحكم بعد نسخ التلاوة، فإن قيل: أنّه سنّة رسول اللّه‏، قلنا: ولم يكون الدليل من الأوّل هو السنّة؟ وأيّ فائدة في تكليف القول بأنّه نزل قرآناً ثمّ نسخت تلاوته، وبقي حكمه؟[344].

وعليه فإنّ المحقّقين من أهل السنّة أنفسهم، أخذوا في العقود الأخيرة ينكرون مسألة نسخ التلاوة؛ هذا في حين أنّ بعض المتعصّبين من أهل السنّة يصرّون على نسبة نسخ التلاوة إلى الشيعة؛ كذلك الشخص الذي هو الآن على قيد الحياة وينسب نسخ التلاوة إلى السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) في كتاب «الذريعة إلى اُصول الشريعة»، وأحال في ذلك إلى الصفحة رقم 428 من الجزء الأوّل من هذا الكتاب؛ بيد أنّه بعد الرجوع إلى موضع الإحالة اتّضح أن هناك باباً عنوانه: «نسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة»، إلاّ أنّ السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله) قد توصّل فيه إلى استحالة نسخ التلاوة، دون نسخ الحكم. وهذا يعني أنّ هذا الشخص قد اكتفى بقراءة العنوان دون المعنون، ورتّب على ذلك الأثر، ونسب القول بنسخ التلاوة إلى السيّد المرتضى(رحمه‏‌‌الله). وهذه الحيلة الممجوجة موجودة في الكثير من المؤلّفات التي تكتب ضدّ الشيعة. ولا يهدف مؤلّفو هذا النوع من الكتب إلى غاية سوى التغرير بالعوام، وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير، للأسف الشديد!

علّة إصرار أهل السنّة على مسألة نسخ التلاوة

في معرض بيان السبب الذي يدفع علماء أهل السنّة إلى الإصرار على القول بنسخ التلاوة واهتمامهم بها؛ يجب القول: إنّ جذور ذلك تعود إلى غيرتهم على الخليفة الثاني؛ فحيث أنّ الخليفة الثاني قد قال بنسخ تلاوة آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا»، أخذوا يصرّون على إمكان نسخ التلاوة في إطار توجيه كلام عمر بن الخطّاب، لا أكثر؛ في حين لا يمكن لهذه العبارة أن تكون من القرآن، ولم ينسبها إلى القرآن الكريم أحد من الصحابة غيره.

تحريف القرآن من وجهة نظر علماء الاُصول

بعد بيان ومناقشة الأقوال والروايات الدالّة على تحريف القرآن الكريم، ونقد أدلّة القائلين بالتحريف، يجدر بنا الانتقال إلى بحث مسئلة التحريف من وجهة نظر علماء اُصول الفقه أيضاً.

العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم

إنّ عدم تحريف القرآن الكريم بالزيادة ـ بمعنى أنّ القرآن الموجود حالياً لا يشتمل على أيّ زيادة ـ أمر مجمع عليه من قبل جميع العلماء قاطبة، وأمّا في النقطة المقابلة فقد ذهب بعض العلماء إلى القول بوجود العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن بالنقصان. فهؤلاء يقولون بحذف كلمات أو آيات من القرآن الكريم، كان لها شأن القرينية بالنسبة إلى سائر الآيات الاُخرى؛ بمعنى أنّ الآيات الموجودة تكتسب من خلال الآيات المحذوفة مفهوماً وظاهراً آخر. وعليه فإنّه بعد حذف بعض آيات القرآن، تنتفي حجّية ظواهر سائر الآيات الاُخرى أيضاً، ويترتّب على ذلك عدم إمكان التمسّك بها.

رأي الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)

لم يستبعد الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) تحقّق العلم الإجمالي بوقوع التحريف بالنقصان في القرآن الكريم، واستشهد لذلك ببعض الروايات ومسألة «الاعتبار» أيضاً[345].

وبطبيعة الحال فقد ذهب كبار علم الاُصول إلى اعتبار عدم استبعاد العلم الإجمالي بتحريف القرآن بالنقصان، زلة قلم من الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)؛ وذلك لأنّ الروايات الدالّة على تحريف القرآن الكريم في مصادر أهل السنّة، مثل: مسند أحمد بن حنبل[346]، وصحيح مسلم[347]، والإتقان للسيوطي[348]، أكثر بكثير من الروايات الواردة في مصادر الإماميّة، بل هناك إشارة في مصادر أهل السنّة إلى حذف وتحريف سوَر وآيات بأكملها.

والنقطة الهامّة التي يجب بحثها في محلّها والتدقيق فيها، هي كيفية تسلل هذه الروايات إلى مصادر الإماميّة وأهل السنّة. ومن بين هذه الروايات رواية تقول: إنّ زنديقاً أو يهودياً جاء إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وأنكر أن يكون هناك تناسب بين عبارات وآيات القرآن، واستشهد لكلامه ـ على سبيل المثال ـ بقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَاِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا»[349]. فقد أشارت هذه الآية إلى نقطة، وهي أنّكم إذا خشيتم أن لا تعدلوا بين الأيتام، أمكن لكم أن تتزوّجوا من النساء اللائي يناسبنكم. ومورد الإشكال من وجهة نظر هذا الشخص الزنديق أو اليهودي يكمن في التهافت وعدم الانسجام بين صدر الآية وذيلها!

وبناءً على هذه الرواية، أجابه الإمام(عليه‏‌‌السلام) بقوله: «وأمّا ظهورك على تناكر [ما ذكرت من الآية] فهو: ممّا قدّمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء... أكثر من ثلث القرآن»[350].

إنّ هذه الرواية تمثّل شاهداً على التحريف في القرآن الكريم بالنقصان؛ في حين أنّه بالرجوع إلى كتب التفسير وشأن نزول الآيات، يتّضح وجود الارتباط بين هاتين الجملتين، ببيان أنّ الآية قد نزلت في مقام النكاح والزواج، وإنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: «لو خفتم في الزواج من الفتيات اليتيمات أن لا تعدلوا، فيمكنكم الزواج من غيرهنّ من سائر النساء».

وقد ذكر العلاّمة الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) في تفسير «مجمع البيان» بالإضافة إلى هذا الوجه، خمسة أوجه اُخرى لبيان التناسب بين صدر وذيل هذه الآية[351].

يذهب الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) إلى اعتبار هذه الروايات شاهداً على عدم استبعاد تحريف القرآن بالنقصان. وإنّه بالإضافة إلى الروايات يذكر قرينة وشاهداً آخر للتحريف أيضاً، وهو «الاعتبار».

هناك اختلاف بين المهمّشين على الكفاية في بيان ماهية ومفهوم الاعتبار. وقد ذهب الشيخ المشكيني(رحمه‏‌‌الله) إلى تفسير عبارة «يساعده الاعتبار» بعدم التناسب بين بعض الآيات[352]؛ بمعنى أنّ عدم التناسب بين صدر الآية وذيلها، يشهد على حذف كلمة أو عبارة من الآية.

هذا في حين أنّ المراد من عبارة «يساعده الاعتبار»، من وجهة نظر الشيخ عبد الحسين الرشتي(رحمه‏‌‌الله)[353] ـ وهو من أدقّ من كتبوا الحواشي على الكفاية ـ هو أنّه في زمن الخليفة الثالث وبعد جمع القرآن، عمد عثمان بن عفّان إلى اختيار واحد من المصاحف الموجودة، وأمر بحرق سائر المصاحف الاُخرى، وهذا في حدّ ذاته يشكل دليلاً على تحريف القرآن بالزيادة والنقصان. وبطبيعة الحال هناك اختلاف في أوجه النظر بالنسبة إلى تاريخ جمع القرآن الكريم، فهناك جماعة ترى أنّه يعود إلى عهد الإمام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وهناك من ينسبه إلى عصر عثمان بن عفّان، وهذا ما يجب البحث عنه ودراسته في مظانّه. وعليه فإنّ الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) يذهب من خلال الاعتماد على هذا المطلب إلى عدم استبعاد وقوع التحريف في القرآن الكريم بالنقصان.

نقد رأي الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)

يذهب الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)، إلى إمكانية العلم الإجمالي بتحريف القرآن بالنقصان. ولإثبات حجّية ظواهر القرآن، في حالة حصول العلم الإجمالي على تحريف القرآن، ذكر دليلين على عدم مانعية العلم الإجمالي بتحريف القرآن، عن حجّية ظواهر القرآن، وهما:

1 . إنّ العلم الإجمالي بتحريف القرآن الكريم لا يستلزم العلم بوقوع الاختلال في ظواهر الآيات، في حين أنّه يجب في الحكم بعدم حجّية ظواهر القرآن أن يحرز المكلّف أنّ آية بعينها قد تعرّضت للخلل والاضطراب بسبب التحريف. والعلم الإجمالي بالتحريف لا يحقّق مثل هذا العلم للمكلّف.

2 . لو سلّمنا أنّ العلم الإجمالي بالتحريف، يستوجب الاختلال في معنى ومفهوم آية بعينها ـ بمعنى أنّه ربما يكون قد تمّ حذف كلمة أو جملة من آية بعينها، وكانت تلك الكلمة أو الجملة لها شأنية القرينية ـ ولكن لا يمكن إثبات أنّ مثل هذا الاختلال والاضطراب قد وقع في آيات الأحكام.

إنّ العلم الإجمالي في هذا المقام ينحلّ؛ وذلك إذ ثبت في محلّه أنّ ابتلاء المكلّف بجميع الأطراف هو الذي يمثّل شرطاً في تنجّز العلم الإجمالي. ومن هنا فإنّه على فرض خروج بعض الأطراف من محلّ الابتلاء، فإنّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى طرف محلّ الابتلاء سوف ينحلّ إلى شبهة بدوية، ويفقد منجزيّته.

يرى الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) أنّ مورد البحث من هذا القبيل. وذلك لأنّ حجّية ظواهر آيات الأحكام وحدها هي محلّ الابتلاء، وأمّا سائر الآيات الاُخرى فهي خارجة عن محلّ البحث؛ في حين يتمّ حصر احتمال التحريف في غير آيات الأحكام فقط، وبذلك يتحوّل الأمر بالنسبة إلى آيات الأحكام إلى شبهة بدوية، ومعه يسقط العلم الإجمالي عن المنجزيّة.

كما ذهب المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) إلى القبول بكلام الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)، وأنكر وجود دافع إلى التحريف في آيات الأحكام، وحصر ذلك بآيات الولاية، وحيث أنّ آيات الولاية خارجة عن دائرة الابتلاء، فسوف ينحلّ العلم الإجمالي إلى شكّ بدوي بالنسبة إلى آيات الأحكام[354].

رأي المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله)

يرى المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) أنّ البحث عن ظواهر آيات من قبيل: الآيات الاعتقادية التي لا تتضمّن تكليفاً فرعياً، عديم المعنى. وبعبارة اُخرى: إنّ حجّية ظواهر الخطاب ـ الذي لا يتضمّن تكليفاً ـ أمر بلا معنى. لأنّ الحجّية إنّما يكون لها معنى إذا أمكن في مورد ذمّ أو معاقبة المكلّف في مقام الاحتجاج. وعليه فإنّ المراد من الحجّية من وجهة نظره هو «ما يصلح الاحتجاج به». ببيان أنّ المكلّف إذا قام بعمل من دون دليل، كان مستحقّاً للمؤاخذة. وعلى هذا الأساس فإنّ البحث بشأن حجّية ظواهر الآيات التي تتضمّن القصص والعقائد والمعارف، لا معنى له، حتّى وإن كانت هذه الآيات متضمّنة للتكليف بالاُصول؛ وذلك لأنّ المطلوب في الآيات الاعتقادية هو الاعتقاد، وليس التعبّد والعمل، كي يكون من الممكن الحديث عن حجّية الظواهر فيها.

النتيجة: هي أنّ البحث عن الحجّية الاصطلاحية ـ من وجهة نظر المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) ـ بمعنى «ما يحتجّ به المولى على العبد»، لا معنى له في غير آيات الأحكام. وذلك لأنّ الحجيّة ترتبط بمقام العمل والمؤاخذة، ومن هنا لا يمكن تصوّرها إلاّ في الآيات المتضمّنة للتكليف، دون آيات القصص والعقيدة، وما إلى ذلك.

وبعبارة أوضح: إنّ سائر آيات القرآن الكريم، باستثناء آيات الأحكام، تخرج عن دائرة ابتلاء الفقيه، لأحد سببين:

السبب الأوّل: إنّ آيات الأحكام من جهة، هي وحدها التي تقع مورداً لابتلاء الفقيه، ومن ناحية اُخرى فإنّ الدوافع إلى التحريف تتّجه في الأعمّ الأغلب إلى غير آيات الأحكام، ومن هنا تكون آيات الأحكام خارجة عن أطراف العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم. وعلى هذا الأساس لا تبقى هناك من حاجة إلى بحث ومناقشة مسألة العلم الإجمالي بالتحريف.

السبب الثاني: يرى المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) أنّ جميع الآيات ـ بما في ذلك آيات الأحكام ـ تقع ضمن أطراف العلم الإجمالي بالتحريف، ولكن حيث أنّ الحجّية بالمعنى المصطلح لا يكون لها معنى في غير آيات الأحكام، فإنّ الذي يبقى ضمن دائرة الابتلاء هو خصوص آيات الأحكام فقط، وأمّا غيرها فيخرج من دائرة الابتلاء.

ومن إبداعات الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله) أنّ خروج بعض أطراف العلم الإجمالي عن محلّ ابتلاء المكلّف، يؤدّي إلى عدم اعتبار وعدم منجزيّة العلم الإجمالي[355].

رأي الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) في عدم جريان أصالة الظهور بالنسبة إلى آيات الأحكام، وإشكاله

لقد ذكر الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) استدراكاً على إشكاله الثاني يقوم على أنّ انحلال العلم الإجمالي وجريان أصالة الظهور إنّما يمكن تصوّره بالنسبة إلى أحكام الآيات، في فرض أن يكون احتمال النقص في الآيات على شكل قرينة منفصلة، وأمّا على فرض احتمال وجود قرينة متصلة في نفس الآية وتحريفها وسقوطها، سوف تفقد ظواهر آيات الأحكام حجّيتها أيضاً؛ وعلى هذا الأساس لا تجري فيها أصالة الظهور، وذلك لأنّ هذا الأصل إنّما يجري في «الظهور المعلوم» وليس في «الظهور المشكوك». ببيان أنّ الكبرى الكلّية القائلة «كلّ ظهور حجّة» إنّما يكون لها معنى فيما إذا كان للفظ ظهور في معنى، وأمّا على فرض احتمال القرينة المتصلة، يكون الظهور مشكوكاً، ولا يمكن إجراء أصالة الظهور في الظهور المشكوك[356].

وفي نقد هذا الرأي من الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله) والإشكال عليه يجب القول: إنّ سماحته قد خلط بين مسألة منجّزية العلم الإجمالي، وحجّية أصالة الظهور، وجريان هذا الأصل؛ إذ لا يوجد أيّ ارتباط بين عدم منجّزية العلم الإجمالي في فرض عدم الابتلاء، وبين مسألة أصالة الظهور؛ وذلك لأنّ سند أصالة الظهور هو السيرة العقلائية، ومن هنا يجب الرجوع إلى العقلاء في جريان أصالة الظهور، في حين أنّ العقلاء في فرض احتمال التحريف لا يُجرون أصالة الظهور في أيّ آية، سواء أكان المحذوف متّصلاً، أو منفصلاً. والمسألة هنا تشبه ما لو أنّ شخصاً قد أعطى الجزء الأوّل من كتابه إلى آخر، وكان المراد الجدّي له من الجزء الأوّل موجوداً في الجزء الثاني، فإنّ المنجّزية في مثل هذه الحالة تسقط من الجزء الأوّل.

وعليه حتّى لو فقد العلم الإجمالي منجّزيته بسبب خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، مع ذلك لا يمكن إجراء أصالة الظهور بالنسبة إلى آيات الأحكام. إنّ المانع من عدم جريان أصالة الظهور في آيات الأحكام ليس هو العلم الإجمالي، كي يرتفع بانحلاله، بل إنّ منشأ جريان أصالة الظهور هو بناء العقلاء وسيرتهم، وهم لا يُجرون الأصل في مثل هذه الموارد.

نقد رأي المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله)

فيما يتعلّق بكلام سماحة المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله)، وتبعاً له المحقّق البروجردي(رحمه‏‌‌الله)، في خروج غير آيات الأحكام عن محلّ الابتلاء، بناءً على رؤية الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله)، والمحقّق النائيني(رحمه‏‌‌الله)، ومختارنا في مباحث اُصول الفقه ـ حيث نرى أنّ الحجّية بمعنى جواز الإسناد إلى الشارع ـ يجب القول: إنّه كلام غير تامّ. وذلك أنّه مع وجود العلم الإجمالي بالتحريف، لا يمكن نسبة أيّ واحد من آيات القرآن الكريم ـ سواء آيات الأحكام وغيرها ـ إلى اللّه‏ سبحانه وتعالى، سواء أكان الأثر العملي المترتّب عليها هو المؤاخذة والعقاب، أو لم يترتّب عليها أثر عملي. إذن فالكلام يدور حول إسناد آية من القرآن الكريم بعد العلم الإجمالي بالتحريف، وعدم إسنادها؛ والرأي الصحيح في ذلك هو عدم إمكان الإسناد. وعلى هذا الأساس لا يمكن قبول رأي المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله)أيضاً.

وبطبيعة الحال فإنّ هذا الإشكال مبنائي؛ ولذلك فإنّ كلام المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله)من منطلق رأيه حول «الحجيّة الاصطلاحية» ـ ما يصحّ الاحتجاج به في مقام الذمّ والعقاب ـ صحيح؛ إذ لا يترتّب العقاب على الآيات المرتبطة بالعقائد والقصص. وأمّا بناءً على المبنى المختار ـ القائل بأنّ الحجّية بمعنى صحّة إسناد الآيات إلى اللّه‏ ـ فلا يمكن القبول به.

ولكن حتّى على أساس رأي المحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) بالنسبة إلى معنى الحجّية الاصطلاحية، على فرض وجود العلم الإجمالي بالتحريف، يمكن نسبة آيات من قبيل: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَة اِلاَّ اللّه‏ُ لَفَسَدَتَا»[357] إلى اللّه‏ سبحانه وتعالى. وذلك لأنّ الآيات الاعتقادية خارجة عن دائرة ابتلاء المكلّف، ومن هنا لا يكون العلم الإجمالي بشأنها منجّزاً. ولكن بناءً على مبنى الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله)، والرأي المختار، فإنّه مع وجود العلم الإجمالي بتحريف القرآن الكريم، لا يمكن نسبة أيّ آية إلى اللّه‏ تعالى، سواء في ذلك آيات الأحكام وغيرها. وذلك لأنّ هذه الآيات تبقى في أطراف العلم الإجمالي بالتحريف.

كما لا يمكن القبول بدلالة الروايات الدالّة على التحريف أيضاً. لأنّ الروايات لا ترتبط بالمسائل الاعتقادية فقط، بل وتشمل آيات الأحكام أيضاً، من قبيل قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى فَانْكِحُوا»[358]، الواردة بشأن جواز النكاح والزواج من اليتامى، ولا صلة لها بالمسائل الاعتقادية.

وقد ذهب كبار العلماء من أمثال المحقّق البروجردي(رحمه‏‌‌الله)، إلى تأييد نقد وجواب الآخوند الخراساني(رحمه‏‌‌الله)[359]. بيد أنّ كبار العلماء من أمثال الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله)، والمحقّق النائيني(رحمه‏‌‌الله) في فوائد الاُصول، والمحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله)في مصباح الاُصول، لم يطرحوا الدليل السادس وانتقاداته. ومع ذلك فإنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) ذكر الدليل السادس في كتاب «البيان في تفسير القرآن» ـ الذي تعرّض إلى الأبحاث التمهيدية في التفسير ـ وبحث في إشكالاته أيضاً[360].

نقد المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) على العلم الإجمالي بتحريف القرآن

إنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) بعد بيان دليل العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم، قال في مقام نقده:

إنّ وقوع التحريف في القرآن، مانع من العمل بالظواهر، لاحتمال كون هذه الظواهر مقرونة بقرائن تدلّ على المراد، وقد سقطت بالتحريف[361].

إنّ هذا البيان يثبت أنّ سماحته لا يعتقد بوجود العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم. وذلك لأنّ هذا العلم يحول دون حجّية ظواهر القرآن.

ثمّ استطرد سماحته قائلاً إنّ خير دليل على عدم تحريف القرآن، هو روايات الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، وأمرهم فيها بالرجوع إلى القرآن الكريم، وقال في ذلك:

والجواب: منع وقوع التحريف في القرآن، وقد قدّمنا البحث عن ذلك، وذكرنا أنّ الروايات الآمرة بالرجوع إلى القرآن بأنفسها شاهدة على عدم التحريف، وإذا تنزّلنا عن ذلك، فانّ مقتضى تلك الروايات هو وجوب العمل بالقرآن، وإن فرض وقوع التحريف فيه. ونتيجة ما تقدّم أنّه لابدّ من العمل بظواهر القرآن، وأنّه الأساس للشريعة، وأنّ السنّة المحكية لا يعمل بها إذا كانت مخالفة له[362].

وعلى فرض القبول بالتحريف وعدم دلالة الروايات على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم، فإنّ الروايات المأثورة عن الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، والتي تأمر بالرجوع إلى القرآن والعمل به، تدلّ على نحو القطع واليقين على وجوب العمل بظواهر هذا القرآن. وذلك لأنّ أمر الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) بوصفه حجّة أقوى، مقدّم على العلم الإجمالي؛ بحيث أنّه لو لم تكن هناك مثل هذه الحجّية، كان العلم الإجمالي مانعاً من حجّية ظواهر القرآن الكريم[363].

تحليل رأي السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)

إنّ كلام السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) إنّما يكون صحيحاً، إذا قلنا بأنّ تحريف القرآن الكريم قد حدث في عصر الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، ولكن هذا غير صحيح. وذلك أوّلاً: إنّ التحريف في ذلك العصر مستبعد مع وجود الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام). وثانياً: إنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) قد أمروا النّاس بالرجوع إلى القرآن الكريم الذي كان عندهم في حياتهم.

وأمّا لو ادّعى شخص أنّ تحريف القرآن قد حصل بعد عصر الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)، فعندها لا يمكن الرجوع والعمل بالروايات الدالّة على وجوب العمل بالقرآن. وذلك لأنّ مراد الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) من ذلك هو الرجوع إلى القرآن الموجود في عصرهم، وليس القرآن الذي حصل ادّعاء وقوع التحريف فيه بعد عصر الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)، ومن هنا فإنّ هذه الروايات ساكتة عن وقوع التحريف بعد زمان الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، فجوابه:

أسباب تسلل روايات التحريف إلى المصادر الروائية

من الاُمور المذكورة في القرآن الكريم حول اليهود والنصارى، هي مسألة تحريف كتبهم (من التوراة والإنجيل) على أيديهم. ومن هنا كان اليهود والنصارى أبداً يسعون إلى التعريف بالقرآن الكريم بوصفه كتاباً محرّفاً أيضاً، وكانوا يعملون باستمرار على اتّهام المسلمين بتحريف القرآن. لا شكّ في أنّ تحريف القرآن الكريم في عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) لم يكن أمراً ممكناً. وذلك لأنّ النبيّ كان مطّلعاً ومحيطاً بجميع جزئياته. وأمّا بالنسبة إلى ما بعد عصر النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) فقد كان اليهود يصرّون على تحريف القرآن، وكانوا يعتبرون هذا الادّعاء واحداً من أساليب مواجهة الإسلام. ومن هنا تسللت الروايات الخاصّة بوقوع التحريف في القرآن الكريم إلى مصادر الشيعة والسنّة.

وهناك من يرى أنّ تحريف القرآن الكريم قد حدث بمرور الزمن، وبعد عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ وذلك لأنّ القرآن قد أملاه النبيّ في عصره، وكان الآخرون يكتبون ما يمليه عليهم النبيّ، وكان هناك آخرون يستنسخون ما كتبه الكتّاب بدورهم أيضاً، وكان الكثير من الصحابة في الوقت نفسه يحفظون ما ينزل على رسول اللّه‏ عن ظهر قلب. وعليه لم يكن هناك إمكان لتحريف القرآن في عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

تنافي العلم الإجمالي بالتحريف مع عدم ذكره من قبل الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)

أمّا النقد الأخير والأدّق من جميع الانتقادات السابقة على نظرية العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن الكريم، فهو القول بأنّه لو حدث تحريف في القرآن في عصر الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، لبيّنوه وذكروه. وحيث أن الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) لم يذكروا حتّى مورداً واحداً للتحريف، فإنّ هذا يتنافي مع القول بالعلم الإجمالي بتحريف القرآن الكريم. وبطبيعة الحال فإنّ ما ورد في بعض الروايات بمضمون: «أمّا الكتاب فحرّفوه، وأمّا السنّة فقتلوها»[364]؛ فالمراد منه هو التحريف المعنوي والتفسير بالرأي، على ما تقدّم بحثه، ومناقشته في الأبحاث السابقة بالتفصيل، وبطلانه مجمع عليه من قبل الفريقين (من الشيعة وأهل السنّة).

يذهب الإماميّة إلى الاعتقاد بعدم وقوع أيّ نوع من أنواع التحريف في القرآن الكريم، في عصر الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)، فلم يكن هناك تحريف حتّى بمقدار حذف «واو» أو «فاء». إذ لو وقع تحريف، لأشار إليه الأئمّة المعصومون(عليهم‏‌‌السلام) قطعاً. وعليه لم يقع التحريف في عصرهم، وكان القرآن الكريم محفوظاً بينهم من التحريف، لفترة تزيد على القرنين ونصف القرن من الزمن. بل ونعتقد أيضاً أنّ القرآن محفوظ من التحريف وسيبقى محفوظاً منه إلى يوم القيامة.

--------------------------
[1] سورة الحجّ 22: 11.

[2] الصحاح 4: 1342.

[3] المفردات في غريب القرآن: 121.

[4] سورة المائدة 5: 13.

[5] كتاب العين 1: 369؛ تهذيب اللغة 5: 12؛ لسان العرب 9: 43.

[6] سورة النساء 4: 46.

[7] سورة المائدة 5: 41.

[8] سورة البقرة 2: 75.

[9] المفردات في غريب القرآن: 121.

[10] منية المريد في أدب المفيد والمستفيد: 350.

[11] البيان في تفسير القرآن: 197.

[12] الكافي 8: 53.

[13] البيان في تفسير القرآن: 197 ـ 198.

[14] سورة النساء 4: 46.

[15] تاريخ القرآن: 155.

[16] سورة النساء 4: 46.

[17] البيان في تفسير القرآن: 197 ـ 198.

[18] سورة النساء 4: 29.

[19] كفاية الاُصول: 285؛ قال الآخوند الخراساني في هذا القسم: «ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى».

[20] البيان في تفسير القرآن: 123: «والمعروف عند الشيعة أنّها غير متواترة، بل القراءات بين ما هو اجتهاد من القارى وبين ما هو منقول بخبر الواحد، واختار هذا القول جماعة من المحقّقين من علماء أهل السنّة. وغير بعيد أن يكون هذا هو المشهور بينهم - كما ستعرف ذلك - وهذا القول هو الصحيح».

مدخل التفسير: 159؛ فرائد الاُصول 1: 157.

[21] البيان في تفسير القرآن: 198 ـ 199.

[22] مدخل التفسير: 199.

[23] مدخل التفسير: 199 ـ 200.

[24] لقد استند السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) في إثبات وجهة نظره إلى «كتاب المصاحف» لأبي داود السجستاني، ولكن بالرجوع إلى هذا الكتاب، تتّضح لنا صحّة وجهة نظر آية اللّه‏ الشيخ الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره)؛ حيث جاء في الصفحة 175 من الجزء الأوّل من كتاب المصاحف ما يلي: «عن يزيد بن معاوية قال إنّي لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة وليس إذ ذاك حجزة ولا جلاوزة إذ هتف هاتف من كان يقرأ على قراءة أبى موسى فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة ومن كان يقرأ على قراءة عبد اللّه‏ بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبد اللّه‏ واختلفا في آية في سورة البقرة قرأ هذا وأتموا الحج والعمرة للبيت وقرأ هذا «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه‏ِِ» فغضب حذيفة واحمرت عيناه ثمّ قام وذلك في زمن عثمان فقال أمّا أن تركب إلى أمير المؤمنين وأمّا أن أركب فهكذا كان من قبلكم ثمّ أقبل فجلس فقال إنّ اللّه‏ بعث محمّدا فقاتل بمن أقبل من أدبر حتّى أظهر اللّه‏ دينه ثمّ إنّ اللّه‏ قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد ثمّ إنّ اللّه‏ استخلف أبا بكر وكان ما شاء اللّه‏ ثمّ إنّ اللّه‏ قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد ثمّ إنّ اللّه‏ استخلف عمر فنزل وسط الإسلام ثمّ إنّ اللّه‏ قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد ثمّ إنّ اللّه‏ استخلف عثمان وأيم اللّه‏ ليوشكن أن تطعنوا فيه طعنة تحلقونه كلّه» الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 1: 208.

وعليه بعد دراسة هذه الرواية والروايات الأخرى المنقولة في هذا الكتاب، يمكن لنا أن ندرك أنّ المراد هو الاختلاف في القراءات، وليس في زيادة ونقصان القرآن الكريم.

[25] البيان في تفسير القرآن: 199.

[26] البيان في تفسير القرآن: 200.

[27] البيان في تفسير القرآن: 200.

[28] القوانين المحكمة في الاُصول 2: 321، «الأوّل: أنّهم اختلفوا في وقوع التحريف والنقصان في القرآن وعدمه، فعن أكثر الأخباريين أنّه وقع فيه التحريف والزّيادة والنقصان، وهو الظاهر من الكليني وشيخه عليّ بن إبراهيم القمّي والشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي صاحب «الاحتجاج».

وعن السيّد والصّدوق والمحقّق الطبرسي وجمهور المجتهدين عدمه. وكلام الصّدوق في اعتقاداته يعرب عن أنّ المراد بما ورد في الأخبار الدالّة على أنّ في القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام كان زيادة لم تكن في غيره، أنّها كانت من باب الأحاديث القدسية لا القرآن، وهو بعيد».

[29] اعتقادات الإماميّة: 84.

[30] اعتقادات الإماميّة: 84.

[31] الفقيه 4: 26.

[32] الكافي 7: 177: «وباسناده، عن يونس، عن عبد اللّه‏ سنان، قال: قال أبو عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) : الرجم في القرآن قول اللّه‏ عزّ وجلّ: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتّة فإنّهما قضيا الشهوة».

[33] الفقيه 1: 2.

[34] مستمسك العروة الوثقى 1: 303: «الرابع: الميتة من كلّ ما له دم سائل».

[35] مباني تكملة المنهاج، موسوعة الإمام الخوئي 41: 238، المسألة رقم: 154.

[36] أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 81.

[37] تفسير القمي 2: 65.

[38] نهج البلاغة: 301.

[39] سورة طه 20: 114.

[40] جامع البيان في تفسير القرآن تفسير الطبري 16: 160.

[41] مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 52.

[42] أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 81.

[43] حكى عنه في مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 43.

[44] حكى عنه في مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 43.

[45] مدخل التفسير: 201.

[46] مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 43.

[47] لسان الميزان 4: 223.

[48] التبيان في تفسير القرآن 1: 3.

[49] مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 15.

[50] تهذيب الأحكام 8: 195: «الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، قال: إذا قذف الرجل امرأته فإنّه لا يلاعنها حتّى يقول رأيت بين رجليها رجلاً يزني بها، وقال: إذا قال الرجل لامرأته لم أجدك عذراء وليس له بيّنة يجلد الحدّ ويخلّى بينه وبين امرأته، وقال: كانت آية الرجم في القرآن والشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا الشهوة قال: وسألته عن الملاعنة التي يرميها زوجها وينتفي من ولدها ويلاعنها ويفارقها ثمّ يقول بعد ذلك الولد ولدي ويكذب نفسه قال: أمّا المرأة فلا ترجع إليه أبداً، وأمّا الولد فإنّي أرده إليه إذا ادّعاه ولا ادّع ولده ليس له ميراث، ويرث الابن الأب ولا يرث الأب الابن يكون ميراثه لأخواله وإن لم يدّعه أبوه، فإنّ أخواله يرثونه ولا يرثهم، وإنّ دعاه أحد يا بن الزانية جلد الحدّ».

[51] الخلاف 5: 366،.

[52] مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 15.

[53] أجوبة المسائل المهنائية: 121.

[54] نقلاً عن: شرح الوافية للشيخ محسن الأعرجي البغدادي.

[55] أنّه مخطوط في كتابخانه ملّي ايران.

[56] طبع مجلّة «آفاق نور»، الوافي شرح الوافية: 81 الرقم 20، ولم نعثر على هذه الرسالة، ولم يشر إليها في آثاره المذكورة في حياة المحقّق الكركي وآثاره.

[57] مصائب النواصب 2: 115 ـ 116.

[58] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 26.

[59] الوافية في اُصول الفقه: 147 ـ 148.

[60] الصافي في تفسير القرآن 1: 40 ـ 51؛ الوافي 2: 273 ـ 274.

[61] الصافي في تفسير القرآن 1: 51.

[62] الصافي في تفسير القرآن: 52.

[63] الصافي في تفسير القرآن 1: 53.

[64] علم اليقين في اُصول الدين 1: 565.

[65] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 18.

[66] نقلاً عن: إظهار الحقّ 2: 208؛ الفصول المهمة: 166؛ حاشية الأنوار النعمانية 2: 357.

[67] الكافي 8: 312.

[68] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 49.

[69] فصل الخطاب: 25.

[70] فصل الخطاب: 25 ـ 32 نقلاً عن: موقف الرافضة من القرآن الكريم: 49 ـ 50.

[71] فصل الخطاب: 26 و31 ـ 33 نقلاً عن: موقف الرافضة من القرآن الكريم: 49 ـ 50.

[72] نهاية الأفكار: 537، نهاية الأصول: 537، البحث في الإجماع المنقول... : 534.

«وقد ظهر لك بما ذكرناه إلى هنا: إنّ الإجماعات المنقولة في كلمات القدماء من أصحابنا كالشيخين والسيّدين وغيرهما، ليست بمعنى أنّ ناقل الإجماع استكشف قول الإمام(عليه‏‌‌السلام) من اتّفاق جماعة هو داخل فيهم، أو إنّ أقوالهم أوجبت علمه بقول الإمام(عليه‏‌‌السلام) أو حدساً، بل قصدوا بالإجماع ما هو الملاك عندهم لحجّيته وهو نفس قول الإمام الواصل إليهم بالأدلّة المعتبرة».

[73] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 52، نقل عن: كتاب سليم بن قيس الهلالي 2: 581.

[74] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 52 ـ 53، نقل عن: كتاب سليم بن قيس الهلالي 2: 656؛ الاحتجاج على أهل اللجاج 1: 75.

[75] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 53.

[76] روى الحاكم النيشابوري في المستدرك 2: 316: «إنّ سورة الأحزاب كانت توازي سورة البقرة وكان فيها الشيخ والشيخة إذا زينا فراجموها»، النسبة ووافقه الذهبي على ذلك.

[77] رجال الكشّي 1: 32.

[78] معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 8: 230.

[79] رجال ابن الغضائري: 63.

[80] نفس المصدر: 63.

[81] رجال ابن الغضائري: 50.

[82] وسائل الشيعة 30: 386.

[83] نقد الرجال 2: 356 حاشية 2.

[84] تصحيح اعتقادات الإماميّة: 149.

[85] الغيبة للنعماني: 103.

[86] لقد وردت هذه المسائل ضمن مباحث درس خارج الأصول للعام الدراسي 1395 هـ ش، وفي بحث قاعدة اليد، حيث يمكن الوصول إليها ومشاهدتها على موقع سماحة الأستاذ آية اللّه‏ محمّد جواد الفاضل اللنكراني دام ظله على الرابط أدناه: www.fazellankarani.ir

[87] خلاصة الأقوال 1: 82.

[88] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 55 ـ 56.

[89] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 56.

[90] فصل الخطاب: 28 من الطبعة الحجرية.

[91] بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد 1: 384.

[92] بصائر الدرجات: 213.

[93] جامع الرواة وازاحة الاشتباهات عن الطرق والأسناد 2: 527. وقال النجاشي في رجاله: 421: «إنّه ضعيف فاسد الرواية».

[94] قاموس الرجال 10: 239.

[95] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 57؛ نقلاً عن بصائر الدرجات 1: 93.

[96] جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات 1: 347.

[97] رجال ابن الغضائري، كتاب الضعفاء: 65 ـ 66.

[98] رجال النجاشي: 191.

[99] رجال العلاّمة الحلي: 228: «السجستاني روى عنه ابنه محمّد لا يعرف وروى عنه غيره وهو ضعيف وأحاديثه مختلطة».

[100] مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 12: 523.

[101] بصائر الدرجات 1: 193.

[102] الكافي 1: 228: «محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) يقول: ما ادّعى أحد من النّاس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله اللّه‏ تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) والأئمّة من بعده(عليهم‏‌‌السلام)».

[103] معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 2: 329: «والجواب عن ذلك: أنّ توثيق هؤلاء، لا يحتمل أن يكون منشأه الحس، وإنّما هو اجتهاد، واستنباط، من كون الرجل من مشايخ الإجازة كما صرّح بذلك الشيخ البهائي، في مشرقه، ولذلك ترى أنّه ذكر في الحبل المتين، في بعض الروايات أنّها ضعيفة، لجهالة أحمد بن محمّد بن يحيى».

[104] لقد تحدّثنا حوله بالتفصيل في معرض البحث في حديث الرفع من مباحث خارج درس الاُصول، بحث البرائة، ج 43.

[105] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 58.

[106] سورة آل عمران 3: 33.

[107] تفسير فرات الكوفي: 146.

[108] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 59.

[109] قد ألّف السيّد بن طاووس كتاباً حول الموضوع سمّاه: اليقين بإمرة أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) وذكر فيه روايات عديدة من كتب أهل السنّة لإثبات هذه الموضوع وأثبت فيه بأنّ هذا اللقب مختصّ بعليّ بن أبي طالب، وعليه فلا إجماع في المقام.

[110] رجال النجاشي: 350 ـ 351.

[111] الفهرست: 396.

[112] راجع: معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 18: 243.

[113] تفسير العيّاشي 1: 12.

[114] معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 1: 240؛ جامع الرواة وازاحة الاشتباهات عن الطرق والأسناد 1: 29.

[115] تفسير العيّاشي 1: 13.

[116] البيان في تفسير القرآن: 231، نقلاً عن: الكافي 1: 286.

[117] ومنهم سمرة بن جندب فإنّه أخذ من معاوية مبلغاً كثيراً لتحريف الآيات النازلة في أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام).

[118] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 61.

[119] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 62؛ نقلاً عن: تفسير القمّي 1: 10.

[120] سورة النحل 16: 120.

[121] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 63؛ نقلاً عن: فصل الخطاب: 25 الطبعة الحجرية.

[122] فرائد الاُصول 1: 109. «وقال صاحب كتاب وسائل الشيعة في الصفحة السابعة من الجزء الأوّل من هذا الكتاب: «ولم اقتصر فيه على كتب الحديث الأربعة، وإن كانت أشهر ممّا سواها بين العلماء، لوجود كتب كثيرة معتمدة، من مؤلفات الثقات الأجلاء، وكلّها متواترة النسبة إلى مؤلّفيها، لا يختلف العلماء ولا يشكّ الفضلاء فيها».

[123] مفاتيح الاُصول: 331: «وربما حملته على الخطاء وبالجملة دعوى قطعيّة ما في الكتب الأربعة ممّا لا ريب في فسادها نعم يمكن أن يدّعى أنّ الأصل فيما تضمّنه كتاب الكافي من الأحاديث الصحّة ووجوب العمل به ولو كان ضعيف السند بالاصطلاح المشهور بين الاُصوليين».

[124] معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 1: 36: «ثمّ إنّ في الكافي ـ ولا سيّما في الروضة ـ روايات لا يسعنا التصديق بصدورها عن المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، ولابدّ من ردّ علمها إليهم(عليهم‏‌‌السلام) والتعرّض لها يوجب الخروج عن وضع الكتاب، لكنّنا نتعرّض لواحدة منها ونحيل الباقي إلى الباحثين. فقد روى محمّد بن يعقوب بإسناده عن أبيبصير عن أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام) في قول اللّه‏ عزّ وجلّ: وإنّه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون».

[125] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 1: 14.

[126] الكافي 1: 228، باب انّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) وأنّهم يعلمون علمه كلّه.

[127] الكافي 1: 228، باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) وأنّهم يعلمون علمه كلّه.

[128] سورة الحجر 15: 9.

[129] سورة الحجر 15: 6 ـ 8.

[130] الميزان في تفسير القرآن 12: 101.

[131] الميزان في تفسير القرآن 12: 101.

[132] سورة الطلاق 65: 10 ـ 11.

[133] سورة الحجر 15: 6.

[134] فصل الخطاب: 336.

[135] مدخل التفسير: 215.

[136] سورة الطلاق 65: 10.

[137] القوانين المحكمة في الاُصول 2: 327.

[138] مدخل التفسير: 217.

[139] البيان في تفسير القرآن: 208.

[140] مدخل التفسير: 218.

[141] سورة الأنبياء 21: 22.

[142] الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي(رحمه‏‌‌الله)، هو غير الشيخ محمّد حسين الإصفهاني المعروف بـ «الكمباني». وهو والد المحقّق القدير آية اللّه‏ الشيخ محمّد رضا الإصفهاني صاحب كتاب «وقاية الأذهان»، حيث ارتضى نظرية السكّاكي حول المجاز، واتّبعه سماحة الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله)في هذه المسألة أيضاً.

[143] مجد البيان في تفسير القرآن: 127.

[144] البيان في تفسير القرآن: 208.

[145] البيان في تفسير القرآن: 208 .

[146] البيان في تفسير القرآن: 209.

[147] فصل الخطاب: 336.

[148] مدخل التفسير: 218.

[149] فصل الخطاب: 337.

[150] البيان في تفسير القرآن: 209.

[151] مدخل التفسير: 220.

[152] مدخل التفسير: 220.

[153] مدخل التفسير: 221.

[154] نزاهت قرآن از تحريف صيانة القرآن من التحريف: 95 ـ 96.

[155] المحيط في اللغة 1: 82؛ المفردات في غريب القرآن: 564.

[156] كتاب العين 1: 76؛ معجم مقاييس اللغة 4: 38؛ لسان العرب 5: 376.

[157] لسان العرب 5: 374.

[158] المفردات في غريب القرآن: 564.

[159] لسان العرب 5: 375.

[160] الميزان في تفسير القرآن 17: 398.

[161] سورة الحجر 15: 9.

[162] الميزان في تفسير القرآن 17: 398.

[163] تفسير القمّي 2: 266.

[164] مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 23.

[165] مدخل التفسير: 222 ـ 223.

[166] مدخل التفسير: 223.

[167] مدخل التفسير: 223.

[168] فصل الخطاب: 337.

[169] فصل الخطاب: 338.

[170] التبيان في تفسير القرآن 9: 132.

[171] مدخل التفسير: 225.

[172] سورة الحجر 15: 9.

[173] التبيان في تفسير القرآن 6: 320.

[174] مفاتيح الغيب 27: 568.

[175] فصل الخطاب، الباب الثاني، ذكر أدلّة القائلين بعدم تطّرق التغيير مطلقاً. الثاني: 336.

[176] البيان في تفسير القرآن: 210.

[177] سورة النور 24: 31.

[178] سورة التوبة 9: 32.

[179] سورة المائدة 5: 15.

[180] سورة النور 24: 35.

[181] مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 38.

[182] الجامع لأحكام القرآن 8: 121.

[183] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل 2: 265.

[184] الميزان في تفسير القرآن 12: 104.

[185] الميزان في تفسير القرآن 12: 104 ـ 105.

[186] الميزان في تفسير القرآن 12: 105.

[187] سورة النساء 4: 82.

[188] الميزان في تفسير القرآن 12: 105.

[189] سورة الإسراء 17: 88.

[190] سورة الطارق 86: 14.

[191] الميزان في تفسير القرآن 12: 105.

[192] الميزان في تفسير القرآن 12: 105.

[193] الميزان في تفسير القرآن 12: 105 ـ 106.

[194] الميزان في تفسير القرآن 12: 106.

[195] الميزان في تفسير القرآن 12: 106؛ «الفصل الأوّل: الاستدلال على نفي التحريف بالقرآن».

[196] الميزان في تفسير القرآن 12: 107.

[197] مدخل التفسير: 228.

[198] نزاهت قرآن از تحريف صيانة القرآن من التحريف: 86.

[199] نزاهت قرآن از تحريف صيانة القرآن من التحريف: 82.

[200] سورة النساء 4: 82.

[201] سورة الأنبياء 21: 105.

[202] معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة 1: 31.

[203] تهذيب الأحكام 4: 169.

[204] الكافي 1: 412.

[205] الكافي باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية.

[206] الكافي 1: 413.

[207] الكافي 1: 413.

[208] الكافي 1: 413.

[209] الكافي 1: 414.

[210] الكافي 1: 418.

[211] الكافي 1: 426.

[212] الكافي 1: 430.

[213] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 64.

[214] الكافي 1: 417، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية.

[215] النساء: 69.

[216] التفسير القرآني للقرآن 14: 771.

[217] موقف الرافضة من القرآن الكريم: 66؛ نقلاً عن: فصل الخطاب: 25 الطبعة الحجرية.

[218] بحار الأنوار 75: 359؛ الكافي 1: 122، ح16.

[219] سورة الأحزاب 33: 72.

[220] مرآة العقول 1: 22: «قد فصّلنا القول في ذلك في المجلّد الآخر من كتاب بحار الأنوار، وخلاصة القول في ذلك والحقّ عندي فيه: أنّ وجود الخبر في أمثال تلك الاُصول المعتبرة ممّا يورث جواز العمل به، لكن لابدّ من الرجوع إلى الأسانيد لترجيح تبعضها على بعض عند التعارض، فإنّ كون جميعها معتبراً لا ينافي كون بعضها أقوى، وأمّا جزم بعض المجازفين بكون جميع الكافي معروضاً على القائمعج لكونه في بلدة السفراء فلا يخفى ما فيه على ذي لبّ».

[221] سورة الحجر 15: 9.

[222] سورة فصّلت 41: 42.

[223] الاحتجاج على أهل اللجاج 1: 82.

[224] إعتقادات الإماميّة: 86.

[225] أوائل المقالات في المذاهب والمختارات: 81.

[226] سورة طه 20: 114.

[227] الصافي في تفسير القرآن 1: 52.

[228] بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) 1: 413 ـ 414.

[229] الميزان في تفسير القرآن 12: 116.

[230] الميزان في تفسير القرآن 12: 116.

[231] قضية التأويل بين الشيعة وأهل السنّة: 430.

[232] قضية التأويل بين الشيعة وأهل السنّة: 431.

[233] الكافي 1: كتاب الحجّة، الأبواب: 97 و100 و103 و102 و105 و111؛ بصائر الدرجات 1: 437 و208 و618 و519 و524 و533.

[234] الكافي 1: 240.

[235] مرآة العقول 3: 54، قال: صحيح.

[236] المصدر أعلاه: «لعلّ رفع الستر لإيهام أنّهم(عليهم‏‌‌السلام) لا يعلمون ما في خلف الستر والجدران، إلاّ بالاستعلام لنوع من المصلحة، أو تكون أحوالهم مختلفة، وفي بعض الأحوال يحتاجون إلى ذلك، لأنّه لم يكن جميع العلوم حاضرة عندهم، بل يحتاجون إلى مراجعة إلى بعض الكتب، أو إلى روح القدس».

[237] الكافي 1: 240.

[238] يضاف إلى ذلك أنّ قضية الوحي إلى أمّ موسى(عليه‏‌‌السلام)، وإرسال روح القدس إلى السيّدة مريم عليهاالسلامقد ورد في القرآن الكريم صراحة. وعليه يجب القول: إنّ الوحي ونزول الملائكة ليس مختصّاً بالأنبياء، وإنّه كان يوحى للمؤمنين والمؤمنات أيضاً، وإنّ الملائكة كانت تنزّل عليهم أيضاً.

[239] الكافي 1: 240.

[240] الكافي 1: 242.

[241] الكافي 1: 242 ح8.

[242] الكافي 1: 242.

[243] مرآة العقول 3: 161.

[244] الكافي 1: 240.

[245] رجال الكشّي: 210.

[246] كان الحكم من فقهاء العامّة... وقيل: إنّه كان مرجئاً. رجال الكشّي: 209 ولكنّه في نفس المصدر: 233 عدّة من البُتريّة، وهم يرون الخروج مع بطون ولد عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام)... وهذا قريب من عقائد الزيديّة، ولكنّه ما صرّح بأنّه من فقهاء الزيديّة.

[247] رجال الطوسي: 184: «قال الشيخ الطوسي: الكوفي الكندي مولى زيدي»، وقال العلاّمة في رجاله 2: 449: «زيدي بُتري».

[248] الكافي 1: 176.

[249] الكافي 1: 176.

[250] الكافي 1: 268.

[251] الكافي 1: 177.

[252] مرآة العقول 3: 156: «موضع العلماء، أي: علماء أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام) ، والتشبيه في عدم كونهم أنبياء مع وفور علمهم، ووجوب طاعتهم، وإن كان في المشبّه أقوى.

والمراد بصاحب موسى، إمّا يوشع(عليه‏‌‌السلام) كما صرّح به في بعض الأخبار، أو الخضر(عليه‏‌‌السلام) كما يدلّ عليه بعضها، فيدلّ على عدم نبوّة واحد منهما، ويمكن أن يكون المراد عدم نبوته في تلك الحال، فلا ينافي نبوّته بعد في الأوّل، وقيل في الثاني، ويحتمل أن يكون التشبيه في محض متابعة نبيّ آخر، وسماع الوحي، لكن التخصيص يأبى ذلك، كما لا يخفى».

[253] بحار الأنوار 26: 69، نقلاً عن: بصائر الدرجات 1: 324 ح13.

[254] الكافي 1: 268، باب: في أنّ الأئمّة بمن يُشبهون ممّن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوّة.

[255] الكافي 1: 269؛ باب: في أنّ الأئمّة بمن يُشبهون ممّن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوّة؛ مرآة العقول 3: 157.

[256] الكافي 1: 269، باب: في أنّ الأئمّة بمن يُشبهون ممّن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوّة.

[257] تفسير القمّي 2: 41: «وسئل أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) عن ذي القرنين نبيّاً كان، أم ملكاً، فقال: لا نبيّ ولا ملك، بل إنّما هو عبد أحبّ اللّه‏ فأحبّه، ونصح للّه‏ فنصح له، فبعثه اللّه‏ إلى قومه، فضربوه على قرنه الأيمن، فغاب عنهم ما شاء اللّه‏ أن يغيب، ثمّ بعثه الثانية، فضربوه على قرنه الأيسر، فغاب عنهم ما شاء اللّه‏ أن يغيب، ثمّ بعثه ثالثة، فمكن اللّه‏ له في الأرض وفيكم مثله يعني نفسه».

[258] الكافي 1: 269.

[259] سورة الزخرف 43: 83.

[260] سورة المؤمنون 23: 51.

[261] الكافي 1: 269.

[262] الكافي 1: 270.

[263] سورة الشورى 42: 52.

[264] الكافي 1: 273.

[265] الكافي 1: 273.

[266] الكافي 1: 274.

[267] البيان في تفسير القرآن: 201.

[268] مدخل التفسير: 210.

[269] الميزان في تفسير القرآن 12: 115 ـ 116.

[270] البيان في تفسير القرآن: 202، نقلاً عن: صحيح البخاري 8: 26، وصحيح مسلم 5: 116.

[271] البيان في تفسير القرآن: 202، نقلاً عن: صحيح البخاري 8: 26، وصحيح مسلم 5: 116، والإتقان في علوم القرآن 1: 163.

[272] مسند أحمد 35: 134.

[273] سنن النسائي 4: 270.

[274] مسند أحمد 35: 472.

[275] البيان في تفسير القرآن: 202.

[276] البيان في تفسير القرآن: 203.

[277] الإتقان في علوم القرآن 1: 190.

[278] المعجم الأوسط 6: 361.

[279] البيان في تفسير القرآن: 203، نقلاً عن: مسند أحمد 1: 47.

[280] البيان في تفسير القرآن: 203، نقلاً عن: الإتقان في علوم القرآن 2: 66.

[281] البيان في تفسير القرآن: 203.

[282] الإتقان في علوم القرآن 2: 67.

[283] البيان في تفسير القرآن: 204.

[284] الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1: 105.

[285] محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 4: 168.

[286] المستدرك على الصحيحين 2: 35.

[287] نقلاً عن: مجمع البيان 1: 303.

[288] مسند أحمد 8: 41، ح21264.

[289] كتاب الدعاء: 238، ح750.

[290] البيان في تفسير القرآن: 204، نقلاً عن: كنز العمّال 2: 567.

[291] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 5: 179.

[292] الإتقان في علوم القرآن 2: 66.

[293] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 3: 208.

[294] البيان في تفسير القرآن: 205.

[295] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 421.

[296] مذاهب التفسير الإسلامي: 294.

[297] فصل الخطاب: 338.

[298] المسند لأحمد 5: 129.

[299] المسند لأحمد 5: 130.

[300] سورة النساء 4: 24.

[301] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 140.

[302] المستدرك على الصحيحين 2: 305.

[303] مفاتيح الغيب 10: 51.

[304] الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 1: 498.

[305] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 298.

[306] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 21.

[307] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 21.

[308] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 22.

[309] سورة النور 24: 2.

[310] آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 22.

[311] المسند لأحمد 5: 183؛ المستدرك على الصحيحين 4: 360؛ السنن الكبرى 4: 270.

[312] كتاب الأم 7: 190؛ المسند لأحمد 1: 93 و107؛ المستدرك على الصحيحين 4: 365؛ السنن الكبرى8: 220؛ عوالي اللآلي 2: 153.

[313] البيان في تفسير القرآن: 275 ـ 276.

[314] البيان في تفسير القرآن: 275 ـ 276.

[315] البيان في تفسير القرآن: 206؛ الموافقات 3: 106.

[316] البيان في تفسير القرآن: 206.

[317] المسند لأحمد: 220؛ صحيح مسلم 4: 167، سنن أبي داود 1: 458؛ سنن النسائي 6: 100.

[318] سورة الحاقة 69: 44 ـ 45.

[319] سورة الأنعام 6: 116.

[320] سورة الإسراء 17: 12.

[321] مفاتيح الغيب 3: 639.

[322] لم نعثر على عين العبارة، ولكن راجع في ظلال القرآن 1: 102، والكشّاف 1: 176.

[323] فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 167.

[324] الجامع لأحكام القرآن 2: 61.

[325] البحر المحيط في التفسير 1: 547.

[326] سورة البقرة 2: 252؛ سورة آل عمران 3: 108؛ سورة الجاثية 45: 4.

[327] سورة البقرة 2: 107.

[328] إنّ لسماحة الاُستاذ المعظم في بحث «استصحاب الشرائع السابقة» في بحث خارج الاُصول، تحقيقاً هامّاً في هذا الشأن، وهو موجود في موقع سماحته على الشبكة العنكبوتية، ويمكن للقاري الكريم أن يجده من خلال الرابط أدناه:www.fazellankarani.ir

[329] الميزان في تفسير القرآن 1: 250.

[330] الميزان في تفسير القرآن 12: 345.

[331] الجامع لأحكام القرآن 10: 176.

[332] تفسير السمرقندي 2: 291.

[333] الميزان في تفسير القرآن 12: 117.

[334] الميزان في تفسير القرآن 12: 117.

[335] الميزان في تفسير القرآن 12: 117.

[336] سورة البقرة 2: 238.

[337] صحيح مسلم 2: 113.

[338] سورة البقرة 2: 238.

[339] صحيح البخاري 4: 35.

[340] صحيح البخاري 5: 44؛ عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: 176.

[341] المسند لأحمد 3: 270.

[342] صحيح مسلم 6: 45.

[343] فتح المنان في نسخ القرآن: 223 ـ 230.

[344] اُصول الفقه الإسلامي: 554.

[345] كفاية الاُصول: 248: «ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو: إمّا بإسقاط، أو تصحيف، وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار، إلاّ أنّه لا يمنع عن حجّية ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلاً».

[346] المسند لأحمد 8: 14.

[347] صحيح مسلم 4: 1492.

[348] الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

[349] سورة النساء 4: 3.

[350] الاحتجاج على أهل اللجاج 1: 254.

[351] مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 11.

[352] كفاية الاُصول بحاشية المشكيني 3: 212.

[353] إنّ المراد بالرشتي في الفقرة أعلاه، ليس هو المرحوم الملا حبيب اللّه‏ الرشتي ـ الذي كان أحد تلاميذ الشيخ الأنصاري البارزين ـ وإنّما هو آية اللّه‏ الشيخ عبد الحسين الفقيهي، نجل الشيخ شعبان بن مهدي بن عبد الوهاب الكيلاني النجفي، وسبط العلاّمة القاضي الأنصاري.

وقد ولد في النجف الأشرف في الثاني من شعبان سنة 1321 للهجرة. وفي عام 1352 للهجرة انتقل إلى قم المقدسة، ليدرس في البداية عند الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري، وحضر بعد ذلك درس المرحوم آية اللّه‏ السيّد حسين البروجردي لسنوات طويلة. والملفت للانتباه في سيرة هذا الرجل أنّه كان معتمد السيّد البروجردي في موسم الحج على مدى ثلاثة عقود تقريباً، حيث كان يمكث عدّة أشهر متنقلاً ما بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة في الموسم، يبيّن الأحكام الفقهية ويجبي الحقوق الشرعية. وبذلك يكون هو المؤسس لما يعرف حالياً بمنصب بعثة الحج. وقد توفّي(رحمه‏‌‌الله) في مدينة قم المقدسة، بتاريخ: الثامن عشر من ربيع الآخر سنة 1410ق. انظر: شرح كفاية الاُصول 2: 58.

[354] نهاية الدراية في شرح الكفاية 3: 177: «ولا معنى لذلك إلاّ فيما يشتمل على التكليف، والآيات المتضمّنة للقصص وشبهها، لا حجّية لظهورها، بل الآيات المتضمّنة للعقائد والمعارف لا حجّية لظهورها أيضاً، وإن كانت متضمّنة للتكليف بالاُصول، إذ المطلوب فيها الاعتقاد، لا التعبّد والعمل...».

[355] فرائد الاُصول 2: 265.

[356] كفاية الاُصول 1: 285.

[357] سورة الأنبياء 21: 22.

[358] سورة النساء 4: 3.

[359] نهاية الاُصول: 482: «وبالجملة، فآيات الأحكام ليست طرفاً للعلم الإجمالي بوقوع التحريف، ولو سلّم فلا يضرّ بحجّيتها أيضاً، لعدم تصوّر الحجّية بمعنى جواز الاحتجاج به، بين المولى والعبد في غير آيات الأحكام، فلا يكون أصالة الحجّية فيها معارضة بغيرها».

[360] البيان في تفسير القرآن: 271.

[361] البيان في تفسير القرآن: 271.

[362] البيان في تفسير القرآن: 271.

[363] البيان في تفسير القرآن: 271.

[364] البرهان في تفسير القرآن 1: 20: ثمّ قال أبو جعفر(عليه‏‌‌السلام): «أمّا الكتاب فحرّفوا، وأمّا الكعبة فهدموا، وأمّا العترة فقتلوا، وكلّ ودائع اللّه‏ نبذوا، ومنها فقد تبرؤا».


برچسب ها :