رسالة في اعتبار الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال

۲۶ مرداد ۱۴۰۰

۱۵:۲۸

۵۹

چکیده :
من المسائل المطروحة للبحث اليوم مسألة اعتبار، أو عدم اعتبار الأجهزة والوسائل الحديثة في رؤية الهلال، فمع ظهور هذه الأجهزة الجديدة من قبيل الناظور والتلسكوب طرح هذا البحث في مدى إمكانيّة الاجتزاء بها لرؤية الهلال، وجرى الكلام في أنّه هل تكفي مثل هذه الوسائل لإثبات الرؤية، كما تكفي فيها الرؤية بالعين المعبّر عنها بالرؤية غير المسلّحة، أو لا؟
نشست های علمی
رسالة في اعتبار
الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال

محمد جواد الفاضل اللنکراني
 
مقدّمة
من المسائل المطروحة للبحث اليوم مسألة اعتبار، أو عدم اعتبار الأجهزة والوسائل الحديثة في رؤية الهلال، فمع ظهور هذه الأجهزة الجديدة من قبيل الناظور والتلسكوب طرح هذا البحث في مدى إمكانيّة الاجتزاء بها لرؤية الهلال، وجرى الكلام في أنّه هل تكفي مثل هذه الوسائل لإثبات الرؤية، كما تكفي فيها الرؤية بالعين المعبّر عنها بالرؤية غير المسلّحة، أو لا؟ وبعبارة اُخرى: هل تجزئ الرؤية بالعين المسلّحة أم لا؟

وقد ورد استفتاء على سماحة آية اللّه‏ العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(قدس‏‌‌سره) في 24 رمضان 1425 بخصوص الاستفادة من الوسائل الفلكيّة ـ كالناظور والتلسكوب وغيرها ـ لرؤية الهلال، فكان جواب سماحته ما يلي:

لا فرق في رؤية الهلال بين كونها بالعين المسلّحة أو غير المسلّحة، فتكفي الرؤية بالتلسكوب، كما تكفي بالمنظار والنظّارات المستخدمة في الصيد ونحوه.

وقد تركت هذه الفتوى انعكاساً وصدى واسعاً في الخارج والداخل، سيّما بين العلماء والأكابر، ولعلّه يمكن أن يقال بأنّه لانجد نظيراً لهذه الفتوى بين المراجع العظام بهذه الصراحة والوضوح قبل هذا، وقد طلب منّي جمع من الأفاضل على إثر ذلك بيان وتوضيح هذه الفتوى.

وحالفني التوفيق ـ وللّه‏ الحمد ـ لبحث هذه المسألة التي هي في عداد المسائل المستحدثة بحثاً استدلاليّاً بحسب ما سنحت به الفرصة، وفي حدود الإمكان، راجياً من ذوي الرأي ملاحظتها بعين الإنصاف.

تحرير محلّ النزاع

قبل الخوض في الآراء واستعراض الأدلّة يلزم أوّلاً تحرير محلّ النزاع، فنقول:

إنّ للهلال من الناحية التكوينيّة والواقعيّة حالتين:

الاُولى: المقارنة، وهي عندما يكون الهلال واقعاً تحت ضوء الشمس بحيث لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة إطلاقاً.

الثانية: الولادة، وهي عندما يخرج القمر من المحاق ومن تحت ضوء الشمس، ويبدأ بذلك شهر جديد، وهو ما يعبّر عنه في اللغة والعرف بالهلال.

وبعبارة أخرى: إنّ أوّل زمان الولادة هو أوّل زمان الهلال.

والوارد في لسان الأخبار[1] كملاك للمسألة عبارة عن عنوان مركّب هو «رؤية الهلال»؛ وهو مكوّن من «الرؤية» و «الهلال»، ولابدّ من البحث في كلّ منهما، وسوف نتناول فيما يلي من البحث عند تعريف الرؤية كيفيّة أخذها في الأخبار، وأنّه هل بنحو الموضوعيّة، أو الطريقيّة؟ وهل إنّ لها إطلاقاً من جهة السبب أو لا؟ إنّما المهمّ الآن البحث عن تحديد معنى «الهلال» بمعنى «الشهر الجديد»؛ أي ولادة القمر وإن كان المستفاد من بعض العبائر[2] إمكانيّة أن يكون ثمّة فاصل زمنيّ يتخلّل بين زمان الولادة وتحقّق الهلال، ففي تحقّق الهلال لابدّ من مضيّ مدّة بعد ولادته؛ لشدّة ضعف نوره، ولكنّ الظاهر أنّه يتحقّق بداية الشهر بمجرّد ولادة الهلال.

تعريف الهلال

والهلال لغة هو الشهر الجديد وإن كان يطلق لليلتين أو إلى ثلاث ليال هلالاً أيضاً عند البعض[3]، أو إلى سبعة عند آخر[4].

قال في لسان العرب:

الهلال غرّة القمر حين يُهِلُّهُ الناس في غرّة الشهر. وقيل: يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر، ثمّ لا يسمّى به إلى أن يعود في الشهر الثاني. وقيل: يسمّى به ثلاث ليال، ثمّ يسمّى قمراً[5].

ويتّضح من هذا النصّ أنّ الهلال يصدق على الشهر من أوّل ليلة ومنذ الولادة؛ لأنّ ابن ليلتين يعني الليلة الاُولى والثانية، والنتيجة هي صدق الهلال عليه بخروجه من المحاق ولو لم يره الناس، والتعبير بـ «حين يهلّه الناس» ليس مقوّماً لمعناه، بل هو من آثاره الغالبة، والشاهد على ذلك ما ورد في القاموس المحيط من تفسيره الهلال بغرّة القمر[6]، ولم يتضمّن عبارة «حين يهلّه الناس».

ثمّ قال[7]:

قال أبو إسحاق: والذي عندي وما عليه الأكثر أن يسمّى هلالاً ابن ليلتين؛ فإنّه في الثالثة يتبيّن ضوؤه[8]. وعليه: فإنّ الهلال صادق على بداية ضوء القمر الضعيف، في حين أنّه لا يغلب على ظلمة السماء.

قال في صحاح اللغة: «الهلال أوّل ليلة والثانية والثالثة»، ثمّ هو قمر[9]، حيث اعتبر أوّل ليلة هلالاً ويصدق عليها عنوان الهلال، وليس فيها «حين يهلّه الناس».

وعلى هذا، فإنّ للهلال معنى لغويّاً بيّناً، وإن كان ثـمّة مقولة معروفة عن أبي العبّاس بأنّه قال: «وسمّي الهلال هلالاً لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه»[10]، إلاّ أنّه لا يمكن اعتبار مثل هذا في الهلال مورد البحث، أي الموضوع للحكم الشرعي، بعبارة اُخرى: لا يمكن عدّ ذلك ـ أي صيحة الناس ـ ملاكاً في الهلال، وإن كان هو الغالب فيه.

نعم، ورد في صحاح اللغة كما يلي:

ويقال أيضاً: استهلّ هو بمعنى تبيّن، ولا يقال: أهلّ[11].

حيث فسّر الاستهلال بمعنى التبيّن والظهور، والسبب في ذلك هو أنّه لو استهلّ شخص ولم ير الهلال فلا يصدق على ذلك الاستهلال.

والنقطة الجديرة بالإشارة هي: أنّ الاستهلال في الروايات ليس ملاكاً للحكم وأنّ الملاك هو نفس الهلال ورؤيتة.

النقطة الاُخرى الجديرة بالاهتمام هي: أنّه ولو فرضنا القبول بمدخليّة الظهور ورؤية الناس وصيحتهم لذلك في تحقّق الهلال، إلاّ أنّه قد ثبت في محلّه[12] أنّه لامدخليّة تامّة لوجه التسمية في صدق العنوان؛ بمعنى إمكانيّة أن يصدق العنوان في بعض الحالات من دون صدق وجه التسمية.

والنتيجة هي: أنّ الهلال يتحقّق بمجرّد ولادته، وقوله ـ تعالى ـ: «يَسْألونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» الآية[13] شامل أيضاً لمثل هذا الهلال قطعاً.

وللفلكيّين أن يسلكوا لتعيين ولادة الهلال طريق الحساب الدقيق كما سلكوه في المقارنة، إلاّ أنّ المشكلة عدم حجّية مثل هذه الحسابات بنفسها، ومع غضّ النظر عن إمكان إفادتها الاطمئنان وعدمه، هذا أوّلاً:

وثانياً: الأدلّة[14] نصّت على اعتبار أنّ الرؤية هي الملاك، ولذا لا يمكن الاعتماد على الحسابات الفلكيّة، فالملاك إذاً بحسب ظاهر الأدلّة هي رؤية الهلال.

وقد وقع البحث في أنّه لو كان الهلال ـ وهو ما كان في زمن الولادة ـ قابلاً للرؤية بالتلسكوب بنحو لا تستوجب الرؤية به تغييراً في الواقع، ولا تعكس إلاّ الهلال الواقعي، فهل مثل هذه الرؤية حجّة أم لا؟

والوارد في كلمات بعض الأعاظم ـ كالمحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) فيما يرتبط بالهلال محلّ البحث ـ هو:

أنّ تكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة[15].

فهو يشترط في تعريف الهلال ـ مضافاً إلى خروجه من تحت الشعاع ـ أن ينفصل قليلاً عن الشمس، وأن يخرج من تحت شعاعها حتّى يكون قابلاً للرؤية ولو في بعض المناطق.

ولكنّا لا نرى وجهاً لإضافة مثل هذا القيد في تعريف الهلال، بل يلزم على ذلك ألاّ تكون هناك ضابطة معيّنة، ولو أردنا تعريف الهلال كذلك؛ فإنّه يمكن اعتبار النزاع حينئذٍ لفظيّاً.

توضيح ذلك: أنّا لو التزمنا بهذا التعريف ـ أي خروج الهلال من تحت شعاع الشمس بحيث لا يكون قابلاً للرؤية بالعين الطبيعيّة فعلاً لشدّة ضعف نوره، ولكنّه قابل للرؤية من الناحية العلميّة، فيرى بالتلسكوب أو الكاميرات ـ فلابدّ أن يفتي الجميع في هذه الصورة بكفاية ذلك وصحّته.

وإن كان ظاهر الفتاوى[16] عدم كفاية ذلك في مثل الفرض ما لم تتحقّق الرؤية بالعين المجرّدة، إلاّ أنّ الواقع هو أنّه مع حصول الاطمئنان بخروج الهلال من تحت الشعاع لعدّة ساعات ـ بمعنى مضيّ ساعات على الهلال ـ تكون تلك الليلة هي أوّل ليلة للشهر القمري، ولا يكون مجال للتأمّل والتردّد فيه.

ولو لم يوافق على مثل هذه الدعوى، وقيل بأنّ هذه الصورة المفروضة داخلة في محلّ النزاع أيضاً، فلابدّ حينئذٍ من البحث بصورة أوسع بما يشمل صورتين:

الصورة الاُولى: أن يولد الهلال ولكن بنحو لا تمكن رؤيته ـ حسب الحسابات الفلكيّة ـ بالعين المجرّدة، وذلك حين خروجه في اللحظات الاُولى من تحت الشعاع.

الصورة الثانية: أن يخرج من تحت شعاع الشمس بمقدار تكون إمكانيّة الرؤية بالعين المجرّدة من حيث الحسابات الفلكيّة ضعيفة جدّاً، ولكن مع ذلك لا تستحيل الرؤية وإن كانت بالفعل غير متحقّقة. ففي هاتين الصورتين لم يفكّك بينهما من تعرّض لبحث المسألة، مع أنّ الصورة الثانية كما أسلفنا يمكن إخراجها عن محلّ النزاع، فحينئذٍ هل يمكن التعويل على الرؤية بالوسائل والتلسكوب، أم لا؟

نُسب إلى المشهور[17] من الفقهاء عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة، والحال أنّ المسألة هي من المسائل المستحدثة التي لا يرجع تاريخها إلى فترة قديمة، بل يمكن القول بشكل أدّق ـ كما ورد ذلك في بعض الكلمات ـ إنّ فترة الاستخدام المنضبط والمقنن لهذه الأجهزة والوسائل لرؤية الهلال لا تتجاوز بضعة عقود. وعليه: فلا يمكن دعوى الشهرة المعتبرة بين الفقهاء، والتي هي عبارة عن الشهرة بين المتقدّمين. نعم، الحكم مشهور بين المتأخرين، ولكنّ الشهرة بينهم ليست حجّة كما هو معلوم.

أدلّة الموافقين على الرؤية بالعين المسلّحة

وقد تمسّك القائلون[18] بكفاية الرؤية بالعين المسلّحة بأصالة الإطلاق في المقام، وأنّه لم يرد أيُّ دليل أو قرينة تقيّد الرؤية بغير العين المسلّحة، وإن كانت أصل الرؤية عندهم معتبرة، والحسابات الفلكيّة والاُمور الظنّية غير معتبرة عندهم، ولكنّهم يرون أنّ الرؤية لـمّا كانت مجزئة بالوسائل كالنظّارات مثلاً؛ فإنّها مجزئة أيضاً إذا كانت بوسائل أقوى وأفضل إذا لم تحدث تغييراً في الواقع المرئي، فالمهم من الناحية الصناعيّة هو صدق استناد الرؤية إلى الرائي، ومن يرى بالتلسكوب تُسند إليه الرؤية قطعاً، وهذا الاستناد حقيقيّ.

وبعبارة اُخرى: إنّ صدق الرؤية محرز ومسلّم في الرؤية بالتلسكوب، والشاهد على ذلك هو إمكانيّة الشهادة بالقتل إذا شوهد بالتلسكوب، وعلى القاضي ترتيب الأثر عليه، مع أنّه يشترط في باب الشهادات أن تكون مستندة إلى الرؤية أيضاً.

وشاهد آخر على هذا القول هو: أنّه يشترط في حليّة أكل السمك أن يكون ذا فلس، فقد اعتبرت النصوص[19] والفتاوى[20] الملاك في حلّية أكل السمك هو وجود الفلس، فلو تعذّرت رؤية الفلس في بعض أنواع السمك مثلاً بالعين المجرّدة، وأمكنت بمثل الناظور، أو لم يتمكّن عامّة الناس من تشخيصه الفلس، وتمكّن اُهل الخبرة من ذلك، فالظاهر كفاية هذا المقدار في حليّة أكله، ولا يمكن القول باشتراط كون الرؤية بالعين المجرّدة فقط.

وبعبارة اُخرى: إنّ جواز الأكل منوط بوجود الفلس واقعاً، وفيما نحن فيه وإن ذكرت الرؤية في الروايات، إلاّ أنّ المستفاد من الأدلّة هو الوجود الواقعي للهلال.

وبشكل عامّ فإنّه ـ مضافاً إلى هذين الشاهدين ـ يمكن إجمالاً استدلال هذا الفريق بثلاثة أدلّة ومؤيّد واحد:

1. إجراء أصالة الإطلاق بالنسبة لسبب الرؤية، وعدم وجود قرينة على الانصراف.

2. استناد الرؤية حقيقة إلى من يستخدم هذه الوسائل في الرؤية.

3. شمول لفظ الأهلّة في قوله ـ تعالى ـ : «يَسْألونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» الآية[21]، حيث يشمل بإطلاقه الهلال الذي يراه الناس بالعين غير المسلّحة، ولكنّهم يرونه بالعين المسلّحة.

ومن المؤيّدات لهذا الرأي بالإضافة إلى هذه الأدلّة الثلاثة هو: أنّه لو لم تمكن الرؤية العادية في الليلة الاُولى، وتـمّت رؤيته بالتلسكوب، فإذا لم نعتبر نهار تلك الليلة اليوم الأوّل من الشهر، واعتبرنا اليوم الذي بعده أوّل الشهر، فإذا كان ذلك الشهر ثمانية وعشرين يوماً؛ فإنّه يجب قضاء يوم واحد طبقاً لبعض الروايات[22] وفتوى جميع الفقهاء[23]، وهذا يكشف عن أنّ ذلك اليوم هو الأوّل للشهر ولو لم تتمّ فيه الرؤية بالعين الطبيعيّة.

وهذا خير شاهد على أنّه لا موضوعيّة للرؤية بالعين العادية.

إن قلت: إنّه في مثل الفرض المذكور نستكشف أنّ الرؤية بالعين المجرّدة في الليلة الاُولى كانت ممكنة، إلاّ أنّها تعذّرت لبعض الموانع.

وبعبارة اُخرى: إنّه قد يدّعى وجود ملازمة بين هذين الأمرين؛ أي بين رؤية الهلال في الليلة الثلاثين بالعين المجرّدة، وبين إمكانيّة رؤيته كذلك في الليلة الاُولى[24].

قلت: إنّه لم يقم أيُّ دليل لا من الناحية الفلكيّة، ولا غيرها من الطرق الاُخرى على وجود هذه الملازمة، بل أنّا لو لاحظنا حالات الرؤية لوجدنا في بعض الموارد منها أنّ الفلكيّين يدّعون فيها عدم قابليّة الرؤية في الليلة الاُولى بالعين المجرّدة، ثمّ يأتون ويدّعون بعد مضيّ تسعة وعشرين يوماً إمكانيّة رؤية الهلال الجديد بالعين المجرّدة، بل يمكن القول مع غضّ النظر عن هذا المطلب إنّه لا دليل أساساً في علم الفلك على وجود مثل هذا الأمر.

أدلّة المخالفين للرؤية بالعين المسلّحة

وأمّا من استدلّ على عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة فمجموع ما استدلّ به عبارة عن دعويين:

الدعوى الاُولى: دعوى انصراف الرؤية إلى الرؤية بالعين الطبيعيّة،
قال بعض الأعلام:
لا تكفي الرؤية بعين ذات البصر الحادّ، كما لا تكفي الرؤية بالآلات الرصديّة، وما هذا إلاّ للانصراف[25].

الدعوى الثانية: دعوى أخذ الرؤية بنحو الطريقيّة لا الموضوعيّة، على توضيح سيأتي.

الدعوى الاُولى: الانصراف

قال بعض الأعاظم:

عندما تطلق الرؤية، فالمنصرف هو الرؤية المتعارفة؛ وهي الرؤية بالعين غير المسلّحة؛ لأنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة[26].

ولكن ثـمّة اُمور جديرة بالملاحظة في هذا النصّ؛ وهي كما يلي:

أوّلاً: لابدّ من ملاحظة ما هو المنشأ في الانصراف؟ قد ثبت في علم الاُصول[27] صحّة الانصراف لو كان منشؤه غلبة الاستعمال، لا ما إذا كان من غلبة الوجود، وكما تستعمل الرؤية في الرؤية بالعين غير المسلّحة، فكذلك تستعمل ـ حقيقة ـ في الرؤية بالنظّارات أو المكبّرات أو المنظار.

وثانياً: أنّ ما ذكر دليلاً على هذا المدّعى حقيق بالتأمّل؛ لأنّ ما ذكر ـ من أنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع الأبواب الفقهيّة إلى المصاديق المتعارفة ـ على فرض صحّته هل يمكن اعتبار عمل الفقهاء دليلاً وحجّة في المقام؟ فإذا كان الفقهاء إلى ما قبل العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) يفتون بلزوم نزح المقدّرات في البئر، فهل يكون هذا حجّة على سائر الفقهاء؟! فإنّه من الواضح لزوم البحث في أدلّة الأقوال في مثل هذه المسألة، وكذا الأمر فيما نحن فيه.

من الواضح: أنّه كما يجب في أمثال هذا المورد البحث والفحص عن الدليل، فكذا يجب في هذا المورد الرجوع إلى أدلّة المسألة لكي يتمّ بحثها.

وثالثاً: عدم تماميّة مثل هذه النسبة إلى الفقهاء بمجرّد إحصاء موارد قليلة، حيث توجد ثـمّة موارد على خلاف ذلك ـ سنشير إليها[28] ـ تؤكّد عدم صحّة مثل هذه الدعوى على إطلاقها ونسبتها إلى جميع الفقهاء.

ولكن نشير قبل التعرّض للموارد ـ سواء قَبِلَ الفقهاء بالانصراف فيها، أو لم يقبلوا ـ إلى بعض النقاط التي ينبغي تدقيقها وتمحيصها من جهة صناعيّة:

النقطة الاُولى: من الواضح: أنّ أصالة الإطلاق من الاُصول اللفظيّة العقلائيّة، والأصل الأوّلي في الألفاظ هو الإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة ما لم يتوفّر دليل أو تقم قرينة على التقييد. وبعبارة اُخرى: إنّ رفع اليد عن الإطلاق ودعوى الانصراف بحاجة إلى قرينة دائماً، وبدونها لا يمكن دعوى الانصراف، بل لو أردنا حمل المطلقات في جميع الموارد على الفرد المتعارف لفقد الاجتهاد حيويّته وفاعليّته، فالاجتهاد حيٌ وفاعل ببركة هذه الإطلاقات والعمومات.

ولا توجد أيّة قرينة صارفة في الروايات الواردة في رؤية الهلال أو غيرها من الأدلّة، والرؤية مطلقة من جهة الأسباب: «إذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر»[29] أو «صم للرؤية وأفطر للرؤية»[30].

لقد وردت «الرؤية» في هذه الروايات إمّا بصيغة الخطاب، أو بغير صيغة الخطاب، والخطاب إمّا بصورة المفرد، أو بصورة الجمع، إلاّ أنّه لم يرد في جميع هذه الروايات الثمانية والعشرين في الباب الثالث من أبواب شهر رمضان أيّة قرينة دالّة على الانصراف، وبذلك نثبت الاكتفاء بالرؤية بكلّ طريقة؛ بمعنى: أنّ الملاك هو صدق الرؤية بأيّ طريق اتّفق.

ومن جهة اُخرى: فإنّ من الواضح أنّه في الموارد الاُخر حتّى في حالات كثيرة، بل في جميع موارد الإطلاق، عندما يتمّ الانصراف إلى الأفراد المتعارفة، لابدّ من القول بأنّ مقتضى القاعدة والصناعة توقّف دعوى الانصراف على وجود القرينة، وبدونها لا يمكن القبول بدعوى الانصراف البتّة.

تحليل الروايات

المستفاد من دراسة الروايات الواردة أنّ الرؤية طريق وكاشف عن ثبوت الهلال، لكنّها طريق إلى اليقين والاطمئنان بتحقّق الهلال في السماء بعد خروجه عن المقارنة.

إنّ الرؤية الواردة في الروايات قد وردت كمقدّمة لليقين، كما أنّ مفادها أيضاً أنّ شهر رمضان لا يكون بالرأي والتظنّي:

1 . محمّد بن الحسن بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن محمّد بن أبي عمير، عن أبي أيّوب وحمّاد، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) قال:

إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتّظنّي، ولكن بالرؤية، الحديث[31].

2. وعنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال:

صيام شهر رمضان بالرؤية، وليس بالظّن، الحديث[32].

3. وعنه، عن فضالة، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، أنّه قال:

في كتاب علي(عليه‏‌‌السلام) : صم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظنّ، الحديث[33].

4. وعنه، عن العبّاس بن موسى، عن يونس بن عبدالرحمن، عن أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزّاز، عن أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام) في حديث قال:

إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه‏، فلا تؤدّوا بالتظنّي[34].

والمستفاد بشكل واضح من هذه النصوص هو:

أوّلاً: أنّ المقصود بالرؤية في الروايات نفي الرأي والظنّ، والتأكيد على لزوم حصول اليقين بالهلال في وجوب الصوم.

ومن الواضح جدّاً: أنّ تحصيل هذا اليقين غير مختصّ بالرؤية المجرّدة، بل يحصل من طريق الوسائل والأجهزة أيضاً.

وثانياً: أنّ الملاك في شروع شهر رمضان هو نفس الهلال لا أصل وجود القمر، وإذا تيقّنا من الهلال فلابدّ من الصوم، ومع تجدّد الهلال يبدأ الشهر، ومع التيقّن من تحقّق الهلال يبدأ الشهر القمري.

5. روى محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الصباح. وعن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي جميعاً، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، أنّه سُئل عن الأهلّة؟ فقال:

هي أهلّة الشهور، فإذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر، الحديث[35].

المستفاد من هذا الحديث أنّ الملاك في بداية الشهر القمري هو الهلال، والرؤية طريق لليقين بحصول الهلال. ومن جهة اُخرى: فإنّ الهلال غير مشروط بالرؤية الطبيعيّة، وإلاّ لزم أن يكون هناك أهلّة متعدّدة بتعدّد الأفراد واختلاف البلاد، وهو واضح البطلان.

ومن الشواهد والمؤيّدات على اعتبار الرؤية طريقاً لليقين بحصول الهلال ماورد في بعض الروايات من أنّه لو استُهل صباحاً في جهة المشرق ولم ير الهلال، فهو هلال جديد في ليلة ذلك اليوم، سواء رُؤي أم لم ير:

محمّد بن الحسن بإسناده عن الصفّار عن إبراهيم بن هاشم عن زكريّا بن يحيى الكندي الرقّي، عن داود الرقّي، عن أبي عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

إذا طلب الهلال في المشرق غدوة فلم ير فهو ههنا هلال جديد رؤي أو لم ير[36].

وإن كان صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) قد حمل هذه الرواية على الغالب أو التقيّة، ولكن وجود ما يوافقها من الروايات يمنع من حملها على التقيّة. وبشكل عامّ فإنّ المستفاد أنّ الرؤية طريق لليقين بحصول الهلال، وأنّها لا موضوعيّة لها.

إنّ المستفاد من تحليل الروايات بطلان القول باحتمال أنّ الشارع الأقدس جعل الخروج عن المحاق بمقدار يراه الناس موضوعاً لوجوب الصوم، فلا شاهد ولا دليل على مثل هذا الاحتمال، بل الرؤية ـ مسلّحة كانت أو غير مسلّحة ـ طريق للعلم بثبوت الهلال. والمتلخّص هو: أنّه لا ترديد في أنّ الرؤية الواردة في الروايات لها دور الطريقيّة، ولا فرق بين أسباب حصول ذلك، بل الملاك هو اليقين بحصول الهلال وتحقّقه.

وقد ذكر بعض الأعاظم أنّ لرؤية الهلال موضوعيّة؛ بمعنى أنّه لا بدّ في احتساب بداية الشهر القمري من إمكانيّة الرؤية بالعين غير المسلّحة وإن كانت الرؤية متعذّرة بالفعل بسبب المانع[37].

ولكن يظهر ممّا تقدّم بطلان هذه الدعوى؛ وذلك لخلوّ الروايات من أيّة قرينة دالّة على الإمكان. نعم، قد يقال بعدم اعتبار الرؤية بالفعل إذا كان هناك ما يمنع منها، إلاّ أنّ هذا لا يلازم القول بأنّ لإمكانيّة الرؤية بالعين غير المسلّحة موضوعيّة في المقام.

بل المستفاد من الروايات بشكل واضح ـ كما أسلفنا ـ عدم اعتماد التظنّي في بداية الهلال، بل لا بدّ من حصول اليقين؛ فإنّ الطريق الوحيد في ذلك الزمان لحصول اليقين هو الرؤية فقط. وعليه: فإنّ للرؤية طريقيّة لإثبات الهلال، وهذا الطريق هو طريق لحصول اليقين، ولا تطرّق في الروايات للإمكان أو عدمه، بل إنّ المراد بالرؤية هي الرؤية الفعليّة، كما هو مقرّر في محلّه من أنّ العناوين ظاهرة في الفعليّة.

وليس من المستبعد استفادة هذا المطلب من مجموع الروايات الواردة في المقام، وهو: أنّ طريق تحصيل اليقين في الأزمنة السابقة كان ينحصر بالرؤية، ولم تكن الحسابات الفلكيّة موجبةً لحصول اليقين حتّى للفلكي نفسه فضلاً عن غيره، وقد نفت الروايات اعتماد الظنّ.

وأمّا في عصرنا الحاضر، فحيث إنّ الحسابات الفلكيّة الدقيقة تورث الاطمئنان والوثوق، فهي قابلة للاعتماد أكثر ممّا سبق، فإذا ثبت بالحسابات الفلكيّة الدقيقة في غروب يوم من الأيّام خروج الهلال من تحت الشعاع؛ فإنّه يمكن اعتبار تلك الليلة أوّل الشهر القمري؛ ولأجل هذا يقول الفقهاء[38] بكفاية الاطمئنان ببداية الشهر الجديد إذا كان من طريق الحسابات المفيدة لمثل هذا الاطمئنان.

وممّا يجدر ذكره أنّ الشارع لم يتعبّدنا البتّة بخصوص ثبوت الشهر القمري، بحيث يكون فرق بين الشهر القمري والشهر الشرعي، وإنّما اشترط شيئاً واحداً ـ طبعاً هذا في وجوب الصوم لا لبداية الشهر ـ وهو عدم الاعتماد على الظنّ والرأي، ولم يتعبّدنا بما سوى ذلك البتّة.

النقطة الثانية: ما هو المراد بالمتعارف؟ والمتعارف في أيّ زمان هو المقصود؟ نقل صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله)عن الشيخ البهائي(رحمه‏‌‌الله)[39] وعن اللّوامع[40] أنّه يلزم حمل المتعارف على ما كان متعارفاً في زمان النبيّ صلى‏الله‏عليه‏و‏آلهوإن لم يكن متعارفاً في زمان الأئـمّة عليهم‏السلام، ثمّ استدلّ قائلاً: «لأنّ أحكامهم متلقّاة منه»[41].

إذاً، لا يمكن دعوى الانصراف إلى المتعارف؛ لأنّ مسألة الرؤية بالعين المسلّحة لم تكن مطروحة للبحث أساساً في زمن صدور الأحاديث ، وإذا كان في الزمان الحالي ثـمّة عنوان غير متعارف فهذا لا يبرّر انصراف الروايات السابقة عن هذا المورد والعنوان، كما أنّه لا يمكن اعتبار الرؤية بالعين المسلّحة من الموارد غير المتعارفة. نعم، لمّا كانت مثل هذه الوسائل ليست في متناول أيدي الجميع، فلا يتيسّر الإفادة منها واستخدامها من قبل الجميع، ولكن هذا غير مسألة أنّها غير متعارفة.

وأمّا إذا كان المراد من غير المتعارف هو الندرة، كما هو كذلك في جميع الأزمنة، فيمكن أن يكون لذلك وجه مقبول. أمّا إذا كان نادراً في زماننا مثلاً، غير نادر في الأزمنة الآتية، فلا وجه حينئذٍ لذلك؛ لأنّ مثل هذا الانصراف سيستلزم انسداد باب الإطلاق في الفقه، وهدم كثير من الأحكام الفقهيّة.

النقطة الثالثة: إنّ حقيقة الإطلاق كما يقتضيه التحقيق هي رفض القيود لا جمعها، فإذا كان الإطلاق كذلك فلا وجه حينئذٍ لهذه الدعوى إطلاقاً. نعم، لو قلنا إنّه عبارة عن جمع القيود كان وجه لهذه الدعوى ثبوتاً، وأمّا إثباتاً فهي بحاجة إلى دليل أو قرينة تدلّ عليه.

توضيح ذلك أن يقال: إذا كان الإطلاق هو رفض القيود، فلابدّ من الالتزام بأنّ الشارع اعتبر تمام الملاك في الرؤية، دون أن يلحظ أيّ قيد آخر، بل لم يلتفت أساساً إلى الأفراد والمصاديق ليقال بالانصراف عن بعض، وعدم الانصراف عن الآخر. وأمّا إذا كان الإطلاق هو جمع القيود؛ فإنّه يمكن القول بأنّ الشارع أخذ جميع الأفراد والمصاديق والقيود بنظر الاعتبار، وقد أراد المعنى المطلق منها جميعاً، فهنا يمكن دعوى الانصراف بحقّ البعض منها.

وبعبارة اُخرى: إنّه بناءً على هذا المبنى لا يمكن دعوى الانصراف في أيّ مورد من الموارد، ولا يمكن أن ينصرف اللفظ المطلق بذاته إلى فرد خاصّ بعينه وإن كان يمكن تشخيص ذلك الفرد بقيام القرينة عليه، إلاّ أنّ هذا بحث آخر غير الانصراف.

النقطة الرابعة: وهي التي في غاية الأهمّية؛ وهي عبارة عن أنّ الألفاظ يجب حملها على معانيها المتعارفة، لا على المعاني النادرة وغير المشهورة، ولكن ثـمّة فرق بين المعنى المتعارف، وبين المصداق المتعارف، وفي بحث رؤية الهلال ينطبق على الوسائل الجديدة أنّها من المصاديق غير المتعارفة، لا أنّها معنى غير متعارف، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى أمر واضح وصحيح، ولكنّ العلاقة بين اللفظ والفرد أو المصداق هو أنّه لا يمكن تعيين المصداق فيها من خلال الوضع واللغة؛ لأنّ المصداق والفرد يرتبطان بمقام التطبيق، والتطبيق أمر عقليّ لا علاقة له بالواضع أو العرف. وتأسيساً على ذلك فإنّ الخلط بين المعنى المتعارف والمصداق المتعارف هو الذي سبّب الخلط عند البعض.

ونشير فيما يلي إلى بعض النماذج في المقام:

النموذج الأوّل: قوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: «الطواف بالبيت صلاة»[42]؛ فإنّ المعنى المتعارف هو الصلاة الفعليّة، بينما معناها النادر هو الدعاء، ولذا لا يمكن القول بأنّ المراد بالصلاة هنا الدعاء، بل لابدّ من تنزيلها على معناها المتعارف. قال صاحب المدارك:

والألفاظ إنّما تُحمل على المعنى المتعارف، لا النادر غير المشهور[43].

النموذج الثاني: في وضوء ذي الوجه الطويل الخارج عن المتعارف، قال صاحب الجواهر:

ويجب عليه الغسل من القصاص إلى الذقن وإن طال وجهه بحيث خرج عن المتعارف؛ لصدق اسم الوجه[44].

فيعلم من ذلك أنّ الموارد التي تكون ذات معنى واضح لا تأثير للمصداق فيها، ولا توجب المصاديق غير المتعارفة تغييراً في معنى اللفظ. نعم، بالنسبة إلى معنى الوجه وأنّه هل المراد منه المتعارف يمكن أن يُدّعى ذلك؛ ولذا قال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) في شرح قول المحقّق(رحمه‏‌‌الله): «ولا عبرة بالأنزع، ولا بالأغمّ»[45]: أنّه يرجع كلّ منهما إلى الغالب في أكثر الناس[46]، لكن هذا من جهة أنّ المقصود بالوجه هو الوجه المتعارف، فيجب غسله ما دام يصدق عليه عنوان الوجه ولو لم يكن من المصاديق المتعارفة.

النموذج الثالث: ممّا يدلّ على أنّه إذا كان عامّ ومطلق لغويّ فجميع الأفراد يتساوون بالنسبة إليه، ولا فرق بين الأفراد الغالبة وغير الغالبة، ما تعرّض له صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) في غسل الوجه في الوضوء بعد أن ذكر عدم وجوب غسل المسترسل من اللحية ولا تخليله، ثمّ نقل كلاماً عن الشهيد(قدس‏‌‌سره)في الدروس قال فيه: يستحبّ التخليل وإن كثف الشعر[47]، ثمّ عقّب عليه معترضاً بأنّه لم أعثر له على دليل يقتضيه، بل قد يظهر من ملاحظة الأدلّة خلافه ـ إلى أن قال: ـ

وحيث اشتملت الرواية على العموم اللغوي التي يتساوى جميع الأفراد بالنسبة إليه، لم يختلف الحال في الموافق للغالب وعدمه، فالأغمّ مثلاً إن كان كثيف الشعر اجتزأ بغسله[48].

فيظهر من ذلك انتفاء الفرق بين الفرد الغالب وغير الغالب.

النقطة الخامسة: حتّى في صورة ما إذا كان الانصراف مع القرينة؛ فإنّ المستفاد مع ذلك من منهجيّة صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) عدم إمكان التعويل عليه لوحده لدى الفقيه، بل يجب ألاّ يكون معارضاً لفهم الأصحاب أوّلاً، وأن يُدعم بالمؤيّدات ثانياً، ونشير هنا إلى نموذجين:

النموذج الأوّل: مسألة التطهير بالماء القليل، وأنّه هل يشترط ورود الماء على النجاسة، أو لا؟ خلاف في ذلك. وقد عالج صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) المسألة من خلال الانصراف إلى المتعارف والمعهود بين الناس حيث يعتبرون ورود الماء مطهّراً، لكن قد أيّد قبل وبعد هذا الحكم بالإجماع والسيرة المستمرّة[49].

النموذج الثاني: ما ذكره أيضاً(قدس‏‌‌سره) في صورة تكبيرة الإحرام، حيث قال:

فصورتها أن يقول: اللّه‏ أكبر، وقد عدّ من أدلّتها أنّها هي المتعارفة والمعهودة من صاحب الشرع، لكن أورد شواهد اُخرى أيضاً[50].

والمتحصّل: أوّلاً: أنّه بعد أن اتّضح أنّ الرؤية بالآلات من مصاديق الرؤية عرفاً، وأنّه لا ترديد في صدق الرؤية عليها عرفاً، فلابدّ من‏القول بأنّ الرؤية الواردة في الروايات مطلقة من جهة السبب.

وثانياً: أنّه لا قرينة على الانصراف، وعليه: فلا يمكن التعويل عليه كدليل يعتمده الفقيه. وقد ذكر البعض: أنّ القرينة هي عبارة عن مناسبات الحكم والموضوع[51]. ولكنّ الصحيح عدم إمكان اعتبار ذلك قرينة؛ لأنّ الهلال كما يناسب رؤيته بالعين غير المسلّحة، يناسب أيضاً رؤيته بالعين المسلّحة.

موارد من عدم حمل الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف في الفقه

من خلال ملاحظة موارد عديدة من الحالات التي لم يحمل فيها الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف، ومع وجوده نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ الفقهاء لا يحملون المطلق على الفرد المتعارف في جميع الموارد ما لم تكن هناك قرينة في المقام:

1. قال صاحب الذخيرة في مسألة جواز تطهير المخرج من الغائط إذا تعدّى بالماء فقط، أو بالأحجار أيضاً:

ولا يخفى أنّ الأخبار[52] الدالّة على الاكتفاء بالأحجار مطلقة من غير تفصيل بالمتعدّي وغيره، ثمّ قال: فإن لم يكن إجماع على الحكم المذكور كان للتأمّل مجال[53].

فمع أنّ المتعارف هو موضع الغائط، حتّى أنّ بعض الفقهاء كصاحب الحدائق قد عللّه بقوله: لبناء الأحكام الشرعيّة على ما هو المتعارف المعتاد المتكرّر دون النادر[54]، إلاّ أنّ صاحب المدارك استند إلى الإطلاق[55]، فلو كان الحمل دائميّاً في جميع الموارد على المتعارف حتّى المصداق المتعارف لما كان ثـمّة مجال للنزاع إذاً!

2. نقل صاحب الجواهر في مسألة الوضوء للمرأة ذات اللحية، وأنّه لا يجب تخليلها، ونقل عن بعض العامّة حمله دليل غسل الشعر أو التخليل على الغالب المتعارف؛ وهو الرجل دون المرأة[56].

ولكنّه(قدس‏‌‌سره) ضعّف ذلك معلّلاً بقوله: لما عرفت من العموم اللغوي فيه[57]، وعليه: فمع وجود العموم اللغوي لا مجال للانصراف.

3. ذكر صاحب الجواهر في مسألة اشتراط كون المسح على الرأس باليد اليمنى كما هو المتعارف، أو لا؟ أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وبعض الفتاوى عدم ذلك، وإن كان الظاهر من حسنة زرارة الوجوب؛ لقوله(عليه‏‌‌السلام): وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك[58]، إلاّ أنّ تقييد تلك المطلقات من الكتاب والسنّة مع فتاوى الأصحاب بمجرّد هذه الرواية وإن كانت نقيّة السند لا يخلو من إشكال، خصوصاً مع ظهور إعراض الأصحاب عنها. ثمّ قال:

فاحتمال صرف إطلاق النصّ والفتوى إلى المسح باليد اليمنى لكونه الفرد المتعارف بعيد جدّاً[59].

إذاً لا يمكن في مثل هذه الموارد تقييد الإطلاق مع وجود الفرد المتعارف فيها.

4. اختلف الفقهاء في حكم خروج المني، وأنّ المراد هو الخروج من الموضع المتعارف، أو الملاك مطلق الخروج، ولا فرق بين الموضع المعتاد وغيره.

استظهر صاحب الجواهر من كلام المحقّق الحلّي(رحمه‏‌‌الله)[60] الإطلاق. والمشهور في الحدث الأصغر هو الخروج من الموضع المعتاد، وقد استبعد صاحب الجواهر تنزيل ما نحن فيه على الحدث الأصغر. قال العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في المنتهى:

لو خرج المنيّ من ثقبة في الإحليل غير المعتاد، أو في خصيتيه، أو في صلبه، فالأقرب وجوب الغسل[61].

وقال في التذكرة: «لو خرج المنيّ من ثقبة في الذكر، أو الاُنثيين، أو الصلب وجب الغسل»[62]. وثـمّة تردّد في وجود إطلاق شامل لما فوق الصُلب. قال المحقق الثاني: «لو خرج من غير الثلاثة المذكورة في المنتهى، فاعتبار الاعتياد حقيق بأن يكون مقطوعاً به»[63]. ثمّ قال صاحب الجواهر: «ولعلّ الوجه خلافه؛ وذلك لاشتراك الدليل بالنسبة للمجموع وهو الإطلاقات، كقوله صلى‏الله‏عليه‏و‏آله: إنّما الماء من الماء»[64]. ثمّ قوّى في النهاية القول الثاني القائل بالإطلاق، مستضعفاً دليل القول الأوّل؛ وهو انصراف المطلقات إلى المتعارف المعهود[65].

فهذا شاهد آخر على عدم إمكان رفع اليد عن العمومات والإطلاقات حتّى مع وجود الفرد المتعارف.

5. ذكر الفقهاء وجوهاً في مسألة وجوب الغسل لو كان الدخول في الدبر ولم يتحقّق الإنزال، منها: ما ذكره في الجواهر، قال:

إطلاق قولهم: إذا أدخله وأولجه، أو غيّب الحشفة فقد وجب الغسل الشامل للدبر.

ثمّ قال:

وما يقال: إنّ المطلق ينصرف إلى المتعارف، يدفعه ـ بعد تسليم كون ذلك من المتعارف الذي يكون سبباً لحمل اللّفظ عليه‏ـ أنّه كذلك ما لم يعارضه فهم الأصحاب؛ لانقلاب الظنّ حينئذٍ بخلافه[66].

والمتحصّل من هذه العبارة أوّلاً: أنّ كلّ فرد متعارف ومعهود لا يمكن أن يكون سبباً لحمل اللفظ عليه. وثانياً: أنّ المتعارف لو كان صالحاً للتقييد، فهو مشروط بعدم معارضته‏لفهم الأصحاب. وفي مقامنا بالرغم من دعوى وجود الفرد المتعارف، إلاّ أنّه(قدس‏‌‌سره) يرى الإطلاق هو المحكّم في المقام.

6. في بحث العصير العنبي وأفراده نجد أنّ صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) وإن كان قد ذهب في بداية البحث إلى تنزيل العموم على المتعارف وقال: إن لم نقل بتنزيل عموم الصحيح على المتعارف من أفراد العصير، إلاّ أنّه ذهب في الأخير إلى ترجيح العمل بالعموم، قال(قدس‏‌‌سره):

ومع ذا فهو ليس بأولى من حمله على إرادة العموم بالنظر إلى أفراد العنب وأقسامه، وإلى ما ظهر إسكاره أو اتّخذ له، وعدمه، وإلى ما اُخذمن‏كافرأو مسلم مستحلّ لما دون الثلثين وعدمه[67].

فيستنتج منه أن لا وجه لدعوى الانصراف مع وجود العموم اللغوي في البين.

7. قال(قدس‏‌‌سره) في بحث حرمة التغطية من محرّمات الإحرام:

ثمّ لا فرق بين جميع أفرادها، كالثوب والطين والدواء والحنّاء وحمل المتاع أو طبق ونحوه، كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافاً، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا[68]. نعم، في المدارك وهو غير واضح؛ لأنّ المنهيّ عنه في الروايات المعتبرة تخمير الرأس ووضع القناع عليه، والستر بالثوب، لا مطلق الستر، مع أنّ النهي لو تعلّق به لوجب حمله على ما هو المتعارف منه؛ وهو الستر بالمعتاد[69]، وتبعه في الذخيرة[70].

ثمّ ناقشه في الجواهر وقال:

مضافاً إلى قوله(عليه‏‌‌السلام): إحرام الرجل في رأسه[71] وغيره من الإطلاقات[72]، واستثناء عصام القربة وغير ذلك[73].

والنتيجة هي: أنّه قدّم العمل بالإطلاق وردّ الانصراف إلى المتعارف.

8. لا شك في أنّ من الأسباب المتعارفة والبيّنة للكسوف هو حيلولة القمر بين الأرض والشمس، أو حيلولة الأرض بين القمر والشمس، وهذا السبب موجب لصلاة الآيات، ولكنّ الخلاف فيما لو سبّبت بعض الكواكب للبعض الآخر كسوفاً، أو فيما لو حصل خسوف أو كسوف للشمس أو القمر بالنسبة إلى الكواكب الاُخرى، بحيث يكون ذلك سبباً غير متعارف وغير معهود، فهل تجب صلاة الآيات حينئذٍ؟

ذكر صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) أنّ الملاك في تحقّق وجوب صلاة الآيات هو تحقّق الكسوف، ولا موضوعيّة لأيّ سبب من قبيل حيلولة الأرض، واستدلّ لذلك بإطلاق النصوص والفتاوى، قال(قدس‏‌‌سره):

فالمدار في الوجوب تحقّق المصداق المزبور ـ أي الكسوف ـ من غير مدخليّة لسببه من حيلولة الأرض أو بعض الكواكب وغيرها؛ لإطلاق النصوص والفتاوى، وعدم مدخليّة شيء من ذلك في المفهوم لغةً وعرفاً وشرعاً. نعم، قد يتوقّف في غير المنساق منه عرفاً كانكساف الشمس ببعض الكواكب، الذي لم يظهر إلاّ لبعض الناس؛ لضعف الانطماس فيه، فالاُصول حينئذٍ بحالها، فما في كشف اللثام من أنّه لا إشكال في وجوب الصلاة لهما وإن كان لحيلولة بعض الكواكب، جيّد إن كان الحاصل والمتعارف ممّا يتحقّق به صدق اسم الانكساف عرفاً. لكن قال: فإنّ مناط وجوبها الإحساس بالانطماس، فمن أحسّ به كلاًّ أو بعضاً وجبت عليه الصلاة، أحسّ به غيره أو لا، كان الانطماس على قول أهل الهيئة لحيلولة كوكب أو الأرض أو لغير ذلك، وإذا حكم المنجّمون بالانطماس بكوكب أو غيره ولم يحسّ به لم تجب الصلاة؛ لعدم الوثوق بقولهم شرعاً، فإن أحسّ به بعض دون بعض، فإنّما تجب الصلاة على من أحسّ به، ومن يثبت عنده بالبيّنة دون غيره، من غير فرقٍ في جميع ذلك بين أسباب الانطماس. فلا وجه لما في التذكرة ونهاية الإحكام من الاستشكال في الكسف بشيء من الكواكب: من عدم التنصيص، وأصالة البراءة، وخفائه؛ لعدم دلالة الحسّ عليه، وإنّما يستند فيه إلى قول من لا يوثق به كالمنجّم، ومن كونه آية مخوفة[74]؛ وذلك لأنّ النصوص كلّها تشمله. والكلام في الوجوب لما يحسّ به، لا ما يستند فيه إلى قول من لا يوثق به، ولا لما في الذكرى من منع كونه مخوفاً؛ فإنّ المراد بالمخوف ما خافه العامّة غالباً وهم لا يشعرون بذلك[75]، وذلك لأنّ على صلاة الكسوفين الإجماع والنصوص من غير اشتراط بالخوف. نعم، قد يتّجه ما فيهما من الاستشكال في انكساف بعض الكواكب من غير ماذكر، والأقرب الوجوب فيه أيضاً؛ لكونه من الأخاويف لمن يحسّ به، والمخوف ما يخافه معظم من يحسّ به، لا معظم الناس مطلقاً[76]. وفي المدارك بعد نقل ذلك عنهما قال: والأجود إناطة الوجوب بما يحصل منه الخوف، كما تضمّنته الرواية[77].[78] ولا يخفى عليك محالّ النظر من ذلك كلّه، خصوصاً ما في كشف اللثام؛ لما عرفت من انصراف إطلاق أدلّة الكسوف إلى ما هو المتعارف منه كائناً ما كان سببه، أمّا غيره فلا يدخل تحت الإطلاق المزبور، بل ربما شكّ في صدق الاسم على بعض أفراده، فضلاً عن انصراف الإطلاق إليه[79].

والمتحصّل هو: أنّ صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) لا يرى انحصار سبب وجوب صلاة الآيات بسبب خاصّ وهو الحيلولة، بل إنّه يوسّع من دائرة ذلك إلى أسباب اُخرى في الكسوف بأنّها توجب صلاة الآيات إذا كانت أسباباً متعارفة، بل إنّ كاشف اللثام قد توسّع إلى الأسباب غير المتعارفة استناداً إلى الإطلاقات، فتجب صلاة الآيات مشترطاً استناد الرؤية إلى المكلّف نفسه.

ومن الملفت هنا هو: أنّ الملاك في الكسوف في الروايات والنصوص هو الرؤية أيضاً، كما هو الأمر في تحديد بداية الشهر القمري على ما بيّناه في تحرير محلّ النزاع[80]:

روي عن الصادقين(عليهماالسلام):

إنّ اللّه‏ إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى اللّه‏ بالصلاة[81].

وكذا في خبر محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن أبيه(عليهماالسلام) قال:

إنّ الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات‏الساعة، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكّروا قيام الساعة، وافزعوا إلى مساجدكم[82].

فالمستخلص من المورد الثامن هو: أنّه لو كان الانصراف إلى الفرد المتعارف أمراً متسالماً عليه بين الفقهاء، لما كان هذا الاختلاف بينهم في ذلك، ولكان الملاك في الكسوف ووجوب صلاة الآيات هو الحيلولة لا غير، والحال أنّ صاحب الجواهر وغيره من الأكابر لم يوافقوا على انصراف الإطلاق إلى الفرد المتعارف في المورد المذكور طبعاً. نعم، ثـمّة تردّد من جهة اُخرى في صدق عنوان الكسوف.

9. ما تمسّك به بعض الأعاظم ـ كالمحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره)[83] ـ من إطلاق قوله ـ تعالى ـ: «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»[84] لإثبات وجوب النفقة على الصغيرة مع وضوح انصرافه إلى الكبيرة؛ بمعنى أنّه لا اعتبار عندهم لهذا الانصراف.

10. التمسّك بقوله ـ تعالى ـ: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً»[85] لإثبات العدّة على الزوجة الصغيرة إذا مات عنها زوجها، مع أنّ الإطلاق في الأزواج منصرف إلى الكبيرة[86].

11. تمسّك الفقهاء بشكل جليّ بإطلاق قوله ـ تعالى ـ: «وَأَحَلَّ اللّه‏ُ الْبَيْعَ»[87] في موارد البيع كافّة حتى في المصاديق التي لم تكن في السابق، كإنشاء البيع بالتلفون والإنترنيت، فلم يدّع فقيه إلى الآن أنّ البيع ينصرف إلى خصوص البيع المتعارف الموجود بين غالب الناس، بل قد تمسّك البعض بإطلاقها لإثبات صدق البيع فيما يشك في صدقه[88].

12. من الواضح أنّه لم يتمسّك أحد بحمل قوله ـ عزّ وجلّ ـ: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الْأَرْضِ»[89] على الفرد المتعارف للضرب الذي هو بمعنى المشي المعروف، أو المشي مع الحيوانات كالخيل وإن كان هناك شبهات قد طرحت أخيراً في هذا المجال، إلاّ أنّ أكابر الفقهاء قد تمسّكوا بإطلاقها لكلّ أفراد الضرب وإن لم تكن من أفراده المتعارفة[90].

13. فسّر المشهور ـ ومنهم الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله)[91] ـ الباطل في قوله ـ تعالى ـ: «وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ»[92] بالباطل العرفي، وقد طبّق ذلك على مصاديق للباطل سيّما في عصرنا هذا استناداً إلى الآية الكريمة، كالمعاملات المعبرّ عنها بالمعاملات الهرميّة، فهي وإن كانت قد لا تُعدّ باطلاً بحسب الظاهر لدى العرف، ولكن حقيقتها باطلة، ولو كان العرف يقف على حقيقتها واقعاً لحكم بكونها باطلاً.

14. النظر للأجنبيّة حرام مطلقاً من غير تقييد بالعين مباشرة، ولم يذهب فقيه واحد إلى تقييده بذلك، فلو تمّ النظر إلى الأجنبيّة على بعد عدّة كيلومترات بواسطة الكاميرات القويّة لكان مصداقاً للنظر المحرّم.

15. لقد ورد في بعض الروايات في نفس مقامنا ـ أي مسألة الهلال ـ أنّه لو رُؤي الهلال قبل الزوال نهاراً فذاك هو أوّل شوّال، وإن كان بعده فهو من رمضان[93]، مع أنّ القائلين بالانصراف ينبغي أن يصرفوا الرؤية للرؤية ليلاً، والحال أنّ الرؤية نهاراً قد اعتبرت جزءاً من الرؤية أيضاً.

قال في الجواهر:

قد يستدلّ[94] على حرمة النظر إلى الطفل المميّز بمثل قوله(عليه‏‌‌السلام): عورة المؤمن على المؤمن حرام[95]،[96] ولم يصرفوا الأحاديث إلى خصوص البالغ.

فالمتحصّل من جميع هذه الموارد عدم صحّة ما ذكره البعض؛ من أنّا لا يمكننا الأخذ بالأفراد المتعارفة في سائر المطلقات في الفقه، ولكن عندما نصل إلى رؤية الهلال نرجع إلى الأفراد غير المتعارفة[97].

ولعلّ المتتبّع يظفر بالمزيد من الموارد الاُخرى التي لم يرتّب فيها الفقهاء الحكم على الفرد المتعارف.

وقد ورد في رسالة «چند نكته مهم در باره رؤيت هلال» بعض الموارد التي حمل فيها الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف، إلاّ أنّ العجيب أنّ في بعض تلك الموارد ما لا علاقة له بالمطلوب إطلاقاً. فمثلاً جاء في المورد الرابع: أنّ الكثير من الفقهاء يجعلون الملاك في المناطق القطبيّة أو القريبة من القطب التي يكون فيها الليل أو النهار قصيراً جدّاً وخارجاً عن المتعارف هو المناطق المتعارفة[98].

ولكن أيّة علاقة لهذا المورد بالمدّعى؟ فهل أنّ كلمة «المتعارف» كلّما وردت في الفقه فهي ترتبط بمحلّ الكلام؟ وهل ثمّـة إطلاق في هذا المورد حتّى يحمل على الفرد المتعارف؟

ومن الواضح: أنّ المراد بالمتعارف هنا هو ما كان جهة اشتراك المكلّفين في أصل التكليف في أيّة منطقة ومكان كانوا، فلابدّ أن يأتوا بأعمالهم العباديّة كسائر المكلّفين، فالمناسب أداء أعمالهم في الأوقات الخمسة كالمناطق المتعارفة الاُخرى، وإلاّ لم يلتزم فقيه بأنّ قوله ـ تعالى ـ: «أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»[99] يجب حمله على الطلوع أو الغروب المتعارف للشمس!

وهكذا الكلام فيما ذكره في المورد السادس، حيث ذكر أنّ المتعارف في موارد الجلد بالسوط المتعارف منه[100]؛ إذ من الواضح عدم استفادة ذلك من الإطلاق، بل من القرائن المتوفّرة الدالّة على الفرد المتعارف.

نتائج البحث

أوّلاً: أنّ الأصل الأوّلي هو أصالة الإطلاق، فيجب التمسّك بها.

وثانياً: أنّ الانصراف إلى فرد معيّن بحاجة إلى قرينة خاصّة، وقد لوحظ أنّ الفقهاء يتمسّكون في موارد عديدة من الفقه بالإطلاق فيما لو فُقدت هذه القرينة، ولا قرينة فيما نحن فيه على الانصراف، ومناسبات الحكم والموضوع لا تصلح للقرينيّة هنا.

وثالثاً: عدم كفاية القرينة الدالّة على الانصراف لو كانت لوحدها، بل لابدّ من توفّر القرائن والشواهد الاُخرى التي يمكن أن يستند إليها الفقيه.

ورابعاً: أنّه لو كان الشارع الأقدس يعتبر الرؤية بالعين غير المسلّحة لوحدها شرطاً في ثبوت الهلال، لأكّد ذلك ببيان أوضح وأجلى ممّا هو عليه. وبعبارة اُخرى: إنّه لا يمكن الالتزام بأنّ الشارع قد اكتفى بالانصراف في مثل هذا الأمر المهمّ الذي هو مورد ابتلاء المسلمين في كلّ سنة، بل وفي كلّ شهر من الشهور القمريّة.

وخامساً: أنّه لو قلنا بالانصراف لوجب الالتزام بأنّ الرؤية المعتبرة هي خصوص ما كان على سطح الأرض المستوي دون ما كان منه على رأس جبل أو بناية شاهقة، مع أنّه ممّا لا يمكن الالتزام به. نعم، قد ورد النهي في بعض الروايات[101] من الصعود على الجبل لرؤية غروب الشمس، إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه؛ لاختلاف الموضوع بين المقامين.

وعليه: فإنّه يمكن المصير إلى جواز رؤية الهلال بالعين المسلّحة كالعين غير المسلّحة تماماً، والأدلّة والضوابط الشرعيّة تساعد على إثبات ذلك.

الدعوى الثانية: الطريقيّة والموضوعيّة

طرح البعض[102] في بعض بحوثه حول هذه المسألة مسألة الطريقيّة والموضوعيّة وأنّ الرؤية في باب الهلال ذات عنوان طريقيّ، وفي باب النظر للأجنبيّة ذات عنوان موضوعيّ، ولذا حاولوا حلّ الإشكال عن هذا الطريق؛ أي بما أنّ الرؤية في باب النظر إلى الأجنبيّة مأخوذة على نحو الموضوعيّة، فلذا لا فرق حينئذٍ بين أقسامها وأسبابها.

وهذا الكلام في غاية الإشكال، حيث يرد عليه أوّلاً: لا شكّ أنّ الرؤية في أوّل الشهر القمري قد اُخذت على نحو الطريقيّة، وأنّ البيّنة أو العلم الشخصي يمكن أن تقوم مقامها، إلاّ أنّ نزاعنا ليس في أنّ الرؤية مأخوذة بنحو الطريقيّة أو الموضوعيّة؛ لأنّه يمكن بناء النزاع على كلا القولين: الطريقيّة والموضوعيّة، بل النزاع في أنّه هل مطلق الرؤية طريق، أو الطريق هو خصوص الرؤية الاعتياديّة؟ وهل أنّ مطلق الرؤية مأخوذة على نحو الموضوعيّة، أو خصوص الرؤية الاعتياديّة.

وثانياً: أنّه لا يمكن إثبات انحصار الرؤية بالاعتياديّة من خلال نفي الموضوعيّة. فما ورد في بعض المقالات[103] من أنّه بناءً على التفريق بين موارد الطريقيّة والموضوعيّة يمكن القول بأنّ الملاك ليس هو إلاّ الرؤية الاعتياديّة في غاية الغرابة؛ إذ كيف يمكن للتمييز بين الموضوعيّة والطريقيّة أن ينتج القول بأنّ مجرّد نفي الموضوعيّة يثبت أصالة الطريقيّة، وأنّ مجرّد نفي الطريقيّة يثبت أصالة الموضوعيّة. وأمّا الإطلاق وعدم الإطلاق، فلا ربط لأحدهما بالآخر؟!

وذهب بعض آخر في بعض المقالات[104] إلى أنّه كلّما ورد السمع أو النظر في الروايات في تحديد شيء معيّن فإنّهما مأخوذان على نحو الطريقيّة، ولا يمكن أن يقوم مقامهما شيء آخر حتى لو كان النظر والسمع حادّين وخارقين للعادة، لاخصوص الرؤية والسماع بالوسائل والأجهزة الحديثة.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ الطريقيّة لا تعني عدم قيام شيء مقامها، بل يراد بها العكس؛ أي إمكانيّة قيام شيء مقامها.

وثانياً: أنّ التأمّل فيما تقدّم من البحث يكشف وقوع خلط بين أن يؤخذ عنوان ما طريقاً، وبين أن يؤخذ ملاكاً وموضوعاً للحكم. ومن الممكن القول في مثل هذه الموارد أنّ رؤية الموضوع وسماعه إنّما هو للتحديد، وقرينيّة مناسبات الحكم والموضوع تقتضي عدم إمكانيّة أن يقوم مقامهما أيُّ بديل آخر، بل الذي يقوم هو خصوص ما كان متناسباً مع التحديد دون ما كان منافياً له.

ثالثاً ـ ذكر كاتب المقال أنّ رؤية الهلال تشبه مسألة حدّ الترخّص، فكما أنّ الشارع في حدّ الترخّص هو في مقام التحديد، فكذلك هنا.

إلاّ أنّ هذه مجرّد دعوى لا دليل عليها؛ وذلك أنّا لا نجيز استعمال الوسائل بدل الرؤية في حدّ الترخّص؛ لتوفّر قرينيّة مناسبات الحكم والموضوع؛ وذلك باعتبار أنّ الملاك هو الابتعاد عن البلد بحيث لا يسمع أذانه، في حين أنّ مقامنا هو في قيام الوسائل مقام الرؤية الاعتياديّة، وذلك لا ينافي بداية الشهر القمري وتحديده.

وأخيراً، فالمهمّ عند من يناقش في كفاية الرؤية بالوسائل هو دفع جميع الأقوال المقابلة حتى القول بأنّ بداية الشهر هي بخروج الهلال من المحاق، فهل يمكن أن ندّعي في قبال من يرى أنّ بداية الشهر بالخروج من المحاق، أنّ هذا الرأي يتنافى مع كون المسألة في مقام التحديد؟ وإذا أجابكم صاحب هذا القول بأنّ الرؤية المأخوذة في النصوص هي على نحو الطريقيّة لإثبات خروج الهلال من المحاق، لا لإثبات إمكانيّة الرؤية الاعتياديّة، فما هو الجواب على ذلك؟!

إنّ دعوى كون الرؤية هي خصوص الرؤية الاعتياديّة ليس إلاّ مصادرة واضحة على المطلوب، حيث أخذ القائل بذلك في ذهنه مسبقاً هذا المعنى ثمّ حمل الرؤية الواردة في الأخبار عليها بما يشبه أن تكون قضيّة ضروريّة بشرط المحمول.

وبعبارة أوضح: إنّ لمسألة حدّ الترخّص خصوصيّات، وهي عبارة عن:

1. إنّ العرف يرى أنّ ثـمّة حدّ معيّن يسمّى بحدّ الترخّص، وما ذكره الشارع يمكن أن يكون طريقاً لإحراز ذلك الحدّ العرفي ليس إلاّ.

2. إنّ كلّ شيء يراد له أن يكون طريقاً إلى حدّ الترخّص لابّد أن يكون موائماً ومنسجماً مع عنوان التحديد. وأمّا في مقامنا، فالتحديد تكوينيّ وواقعيّ، فالشهر له بداية ونهاية محدّدة تستغرق فترة من 29 إلى 30 يوماً، وهذا أمر تكوينيّ وليس عنواناً عرفيّاً، فالحدّ إذن في مسألة حدّ الترخّص له عنوان عرفيّ، بينما في مقامنا له عنوان واقعيّ.

وعليه: فبعد أن اعتبر الشارع الرؤية طريقاً يُطرح التساؤل في أنّه طريق لأيّ شيء؟ إذا قلنا: إنّه طريق للهلال في حال خروجه من المحاق، حيث لا تتيسّر رؤيته بالعين الاعتياديّة، فهذا إضافة إلى بعده، فهو عين المدّعى.

موضوع الرؤية

وعليه: فما يقتضيه البحث العلمي ليس التركيز على كون الرؤية بنحو الطريقيّة، أو لا، بل لابدّ من البحث عن نفس الشيء الذي تقع الرؤية موضوعاً له، فهل هو صرف الخروج من المحاق؟ ليُجاب بما أنّ الخروج من المحاق أمر عقليّ دقيق خارج عن الفهم العرفي، فلا يمكن أن يكون هو الملاك، هذا الاحتمال الأوّل.

الاحتمال الثاني: هو أن يخرج من المحاق بمقدار معيّن، وأن يخرج من تحت شعاع الشمس، ولا تمكن رؤيته إلاّ بالعين المسلّحة.

الاحتمال الثالث: هو أن يخرج وتمكن رؤيته بالعين الاعتياديّة.

ويقع البحث في الصحيح من هذين الاحتمالين: الثاني أو الثالث، وفي الدليل على ذلك، وصرف الادّعاء بأنّ الرؤية مأخذوة بنحو الطريقيّة لا يعيّن الصحيح منهما. وبعبارة اُخرى: الطريقيّة تنسجم مع كلا الاحتمالين. نعم، يمكن إثبات أحدهما أو نفيه بواسطة الإطلاق وعدمه.

والحاصل من مجموع ما تقدّم: عدم صحّة شيء من هاتين الدعويين في عدم حجّية الرؤية بالعين المسلّحة، فنستنتج أنّ الملاك لـمّا كان هو ثبوت الهلال، والرؤية ليست إلاّ طريقاً مؤدّياً إليه لتحصيل اليقين بثبوته ـ وأيضاً ليس الملاك في بداية الشهر ووجوب الصيام إلاّ اليقين بثبوت الهلال، وقد سبقت الإشارة إلى أنّ الهلال أمر واقعيّ تكوينيّ يتعلّق بالليلة الاُولى من الشهر ـ فالرؤية بالوسائل والأجهزة الحديثة هي معتبرة شرعاً ومجزئة في ثبوت الهلال.

إيرادات وتوهّمات

الإيراد الأوّل: أنّه لو كانت الرؤية بالوسائل الحديثة حجّة معتبرة شرعاً، للزم ثبوت النجاسة والطهارة بالميكروسكوب؛ بمعنى وجوب غسل الثوب من الذرّات التي يمكن مشاهدتها بالميكروسكوب، مع أنّه يشكل الالتزام بذلك فقهيّاً، بل هو غير صحيح[105].

والجواب على ذلك واضح جدّاً، وهو: أنّ المعيار في باب النجاسات ولزوم تطهيرها ـ كما في الأخبار ـ هو اليقين بالنجاسة؛ أي يجب التطهير في صورة التيقّن بالنجاسة، كما قال(عليه‏‌‌السلام):

إن كان استبان من أثره شيء فاغسله، وإلاّ لا بأس[106].

طبعاً هذه الروايات واردة في مقام الشكّ، فالشارع لا يوجب التفحّص عن الواقع في حالات الشكّ، بل يجب الاجتناب والتطهير عند تيقّن النجاسة. وبعبارة اُخرى: إنّه لو كان التفحّص عن النجاسة هو الأصل لقلنا بأنّ من طرق ثبوتها هو النظر بالميكروسكوب أو المكبّرة، ولكنّ الشارع لمّا وسّع على المكلّفين في ذلك نستنتج عدم وجوب الفحص، بل لو حصل القطع بالنجاسة بشكل عاديّ لوجب التطهير.

وقد يطرح التساؤل التالي: إنّه وإن لم يجب الفحص ولو بالآلات والوسائل، ولكن لو اتّفق ذلك صدفة وتمّ رؤية ذرّات النجاسة بالمكبّرة أو الميكروسكوب على الثوب فما حكم ذلك؟

يمكن القول بأنّ هذا من مصاديق الاستبانة استناداً إلى الإطلاقات، وبما أنّه حصل اليقين بالنجاسة فيشترك هذا المورد مع سائر الموارد في الحكم.

ولكن من المحتمل أيضاً أن يستفاد من مجموع الأدلّة الواردة في باب الطهارة والنجاسة أنّ الشارع لم يجعل هذا المقدار موضوعاً للحكم، وأنّه قد تلقّى ذلك بمنزلة العدم، ولكن هذا لا يعني إسناد ذلك إلى الانصراف.

الإيراد الثاني: قيل في حدّ الترخّص: إنّه المكان الذي يتوارى فيه الجدران ويخفى فيه الأذان، فلو قلنا: إنّ المعيار هو مطلق الرؤية ومطلق السماع، لكان اللازم اعتبار المكان الذي يبعد عشرين كيلو متراً حدّاً للترخّص فيما لو كان يُرى منه الجُدران بواسطة التسلكوب مثلاً، والحال أنّ الفقهاء اعتبروا المعيار هو الحالة العاديّة[107].

الجواب: من الواضح أنّ حدّ الترخّص لا يختلف باختلاف الأفراد، بل هو أمر عرفيّ، وتحديد الشرع له ليس تحديداً تعبّدياً محضاً، بل هو كاشف عن ضابطة عرفيّة، فالعرف يعتبر الرؤية والسماع الطبيعيّين هما المقياس، ولا يقيم اعتباراً للأجهزة والوسائل؛ وذلك لأنّه لو اُخذ مثل هذه الوسائل بنظر الاعتبار لاختلف حدّ الترخّص باختلاف هذه الوسائل، ولخرج عن حقيقة الحدّ. وبعبارة اُخرى: إنّ الملاك لحدّ الترخّص هو الابتعاد عن البلد بحيث تخفى الجدران ولا يسمع الأذان، وهذا الابتعاد نفسه هو أفضل قرينة على وجود حدّ معيّن له في الواقع.

الإيراد الثالث: قيل: إنّه لو شهد اثنان حادّي البصر لا تكفي شهادتهم، فتلحق الرؤية بالوسائل بذلك في عدم الاعتبار[108].

والجواب أوّلاً: أن حدّة البصر في نفسها يحتمل معها قويّاً وقوع الخطأ فيه، في حين أنّ مثل هذا الخطأ في التلسكوب إمّا معدوم أو ضعيف.

وثانياً: إمكانيّة الرؤية بالتلسكوب أو المكبّرات لكلّ أحد، وهذا بعكس هؤلاء ذوي البصر الحادّ، فإنّ ذلك خاصّ بهم، ولذا لا يمكن قياس النظر بالتلسكوب على حادّ النظر.

وثالثاً: أنّ هذا الاستدلال لا يعدو أن يكون قياساً، فلا يمكن أن يقال مثلاً في باب النجاسات: إنّه لو رأى النجاسة شخص حادّ البصر بما لا يراها غيره لم يجب عليه الاجتناب، بل يجب عليه الاجتناب عند التيقّن بالنجاسة وإن لم يجب على الآخرين الاجتناب.

ورابعاً: المستفاد من هذه الفتوى عدم حجّية مثل‏هذه الشهادة للغير، لكن هي حجّة في حقّهم ويجب عليهم ترتيب آثارها.

الإيراد الرابع: أنّ لازم اعتبار الشارع للرؤية بالعين المسلّحة معناه تخطئة المسلمين لأكثر من ألف سنة، حيث إنّ هذه الوسائل لم تكن في السابق، فمعناه أنّ الشهر كان يتأخّر عندهم إمّا دائماً أو غالباً[109].

الجواب أوّلاً: أنّ القول بهذا الإشكال ينحصر بصورة منع الشارع الناس من هذه الوسائل، والحال أنّه لم يمنع منها.

وثانياً: أنّ تماميّة هذا الإشكال تتوقّف على أن تكون الرؤية بالعين المسلّحة هي المتعيّنة والمعيار الحقيقي، مع أنّه قد تقدّم أنّ القائلين بها يذهبون إليها على نحو مانعة الخلوّ.

وثالثاً: أنّه إذا تمّـت رؤيته في منطقة ما بالعين غير المسلّحة، فهذا لا يعني أبداً عدم إمكانيّة رؤيته في الليلة السابقة، وعليه: فلا يمكن مناقشة هذا الرأي من خلال الإيراد المذكور.

وبعبارة اُخرى: إنّ اعتبار الرؤية بالعين المسلّحة كافية أو غير كافية لا يؤثّر في الواقع شيئاً، كما هو الحال في الرؤية بالعين غير المسلّحة.

الإيراد الخامس: أنّ القول بحجّية الرؤية بالعين المسلّحة يستتبع إشكاليات عديدة، وهو قابل للنقض ببرهان الخلف. بيان ذلك: أنّ حجّية هذا القول تستلزم القول بأنّ الأحكام الشرعيّة والمصالح والمفاسد هي تابعة لتطوّر الحياة والأجهزة الحديثة، فإذا تمّ اختراع التلسكوب مثلاً، وأمكن من خلاله رؤية الهلال الذي لم يكن يُرى بدونه، فهذا معناه أن تتقدّم ليلة القدر وأن تعجّل الملائكة بنزولها في تلك الليلة التي شوهد فيها الهلال[110].

الجواب أوّلاً: أنّ هذه الإشكاليات يمكن أن تكون مشتركة؛ بمعنى أنّه حتّى لو كان المعيار هو الرؤية بالعين الاعتياديّة؛ فإنّ مثل هذه الإشكالات موجودة أيضاً في البلاد التي لم يُر فيها الهلال وليست قريبة الاُفق. وبعبارة أخرى: إنّ هذه الاشكالات ليست ناشئة من استعمال الوسائل الحديثة.

وثانياً: أنّنا ندّعي أساساً أنّ اعتماد الرؤية بالعين غير المسلّحة تحول دون وقوع مثل هذه الإشكالات، فهذا الطريق أسلم من الرؤية بالعين الطبيعيّة.

وثالثاً: وهو العمدة في الجواب، وحاصله: أنّه قد ثبت في علم الاُصول أنّ الأحكام الواقعيّة والظاهريّة هي التابعة للمصالح والمفاسد. وأمّا الأحكام الفعليّة التي تحمل العنوان الظاهري فلها ملاكاتها الخاصّة بها المذكورة في علم الاُصول[111].

ورابعاً: الوارد في الروايات[112] والفتاوى[113] أنّه لو رأى شخص الهلال لوحده دون سواه، واطمأنّ إلى رؤيته من غير شكّ فيها وجب عليه الصوم وحده. وأمّا إذا كان شاكّاً صام مع سائر الناس. وعلى كلّ حال، فإنّ وظيفته تختلف عن غيره، فهل تلتزمون في مثل هذه الصورة بالإشكالات المذكورة؟ أم أنّ العلاج هو طرق الجمع المذكورة في محلّها بين الحكم الواقعي والظاهري؟

فالنتيجة هي عدم ترتّب شيء من هذه التوالي الفاسدة على الرأي المختار القاضي بجواز استعمال الأجهزة الحديثة لرؤية الهلال.
 
--------------------------------
[1] وسائل الشيعة 10: 252، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3.

[2] لعلّ المراد هو عبارة أقرب الموارد ولسان العرب الآتيين.

[3] ، 3) منتهى الإرب 4: 1370، أقرب الموارد 2: 1399، لسان العرب 6: 349، القاموس المحيط 3: 641.

[4]

[5] لسان العرب 6: 349.

[6] القاموس المحيط 3: 641.

[7] أي في لسان العرب.

[8] لسان العرب 6: 349.

[9] الصحاح 2: 1375.

[10] لسان العرب 6: 349.

[11] الصحاح 2: 1375.

[12] لم نجده عاجلاً.

[13] سورة البقرة 2: 189.

[14] وسائل الشيعة 10: 252، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3.

[15] المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 118.

[16] المقنع: 182، النهاية: 150، شرائع الإسلام 1: 199، العروة الوثقى 3: 628، المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 122 ـ 123، توضيح المسائل مراجع 1: 997.

[17] الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء 2: 144، رؤيت هلال 2: 1189، فقه أهل بيت عليهم‏السلام: سال 11، شماره 43: 168.

[18] المسائل الفقهيّة للسيّد محمّد حسين فضل اللّه‏ 1: 116 مسألة 3 و 6، رؤيت هلال 2: 1188ـ 1191، 1479.

[19] وسائل الشيعة 24: 127، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب8.

[20] المقنع: 423، النهاية: 576، جواهر الكلام 36: 243 ط ـ ق، وسيلة النجاة: 614 مسألة 2، تحرير الوسيلة 2: 147 مسألة 2.

[21] سورة البقرة 2: 189.

[22] تهذيب الأحكام 4: 158 ح444، وعنه وسائل الشيعة 10: 296، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب14 ح1.

[23] المهذّب 1: 190، السرائر 1: 384، جواهر الكلام 16: 376 ط ـ ق، العروة الوثقى 3: 630 مسألة 2، مستمسك العروة الوثقى 8: 468، المستند في شرح العروة الوثقى 22: 112، رؤيت هلال 2: 1189.

[24] راجع مجلّة فقه دفتر تبليغات، شماره 50 سال 1385: 118.

[25] الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء 2: 144.

[26] فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 169 مصدر فارسي.

[27] كفاية الاُصول: 289، نهاية الأفكار 2: 575 ـ 577، منتقى الاُصول 1: 380، مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 251.

[28] في ص 157 ـ 168.

[29] وسائل الشيعة 10: 252 ، 253 و 260، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح1، 3 و27.

[30] وسائل الشيعة 10: 255 و 257، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح11 و 19.

[31] تهذيب الأحكام 4: 156 ح433، الاستبصار 2: 63 ح203، الكافي 4: 77 ح6، الفقيه 2: 76 ح334، المقنعة: 296، وعنها وسائل الشيعة 10: 252، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح2.

[32] تهذيب الأحكام 4: 156 ح432، الاستبصار 2: 63 ح202، وعنهما وسائل الشيعة 10: 253، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح6.

[33] تهذيب الأحكام 4: 158 ح441، الاستبصار 2: 64 ح208، وعنهما وسائل الشيعة 10: 255، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح11.

[34] تهذيب الأحكام 4: 160 ح451، وعنه وسائل الشيعة 10: 256، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح16.

[35] تهذيب الأحكام 4: 156 ح434، الاستبصار 2: 63 ح204، وعنهما وسائل الشيعة 10: 254، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح7.

[36] تهذيب الأحكام 4: 333 ح1047، وعنه وسائل الشيعة 10: 282، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب9 ح4.

[37] فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 170.

[38] توضيح المسائل مراجع 1: 998 مسألة 1732، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصوم: 248ـ 249.

[39] الحبل المتين 2: 180.

[40] لوامع صاحبقراني 1: 534 ـ 536.

[41] جواهر الكلام 6: 184.

[42] يأتي تخريجه في ص 240.

[43] مدارك الأحكام 1: 71 .

[44] جواهر الكلام 2: 261.

[45] شرائع الإسلام 1: 21.

[46] جواهر الكلام 2: 261.

[47] الدروس الشرعيّة 1: 91.

[48] جواهر الكلام 2: 282 ـ 283.

[49] جواهر الكلام 6: 249 ـ 255.

[50] جواهر الكلام 9: 332.

[51] لم نجده عاجلاً.

[52] وسائل الشيعة 1: 354، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب34.

[53] ذخيرة المعاد : 17 .

[54] الحدائق الناضرة 2: 27.

[55] مدارك الأحكام 1: 166.

[56] المغني لابن قدامة 1: 99 ـ 100، المجموع 1: 439.

[57] جواهر الكلام 2: 283.

[58] الكافي 3: 25 ح4، الفقيه 1: 24 ح74، وعنهما وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب15 ح2.

[59] جواهر الكلام 2: 330 ـ 332.

[60] شرائع الإسلام 1: 26.

[61] منتهى المطلب 2: 180 ـ 181.

[62] تذكرة الفقهاء 1: 222.

[63] جامع المقاصد 1: 277.

[64] المسند لأحمد 4: 59 ح11243، وج9: 138 ح23590، صحيح مسلم 1: 225 ح343، سنن ابن ماجه 1: 329 ح607، السنن الكبرى للبيهقي 1: 282 ح809، كنز العمّال 9: 379 ح26545.

[65] جواهر الكلام 3: 13 ـ 15.

[66] جواهر الكلام 3: 56 ـ 57.

[67] جواهر الكلام 6: 43.

[68] تذكرة الفقهاء 7: 331 مسألة 251.

[69] مدارك الأحكام 7: 354.

[70] ذخيرة المعاد: 599 .

[71] الكافي 4: 345 ح7، الفقيه 2: 219 ح1009، وعنهما وسائل الشيعة 12: 505، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب55 ح2.

[72] وسائل الشيعة 12: 505، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب55.

[73] جواهر الكلام 18: 384 ط، ق.

[74] تذكرة الفقهاء 4: 195 مسألة 498، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 2: 76.

[75] ذكرى الشيعة 4: 228.

[76] كشف اللثام 4: 364 ـ 365.

[77] تهذيب الأحكام 3: 155 ح330، الكافي 3: 464 ح3، الفقيه 1: 346 ح1529، وعنها وسائل الشيعة 7: 486، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب2 ح1.

[78] مدارك الأحكام 4: 128.

[79] جواهر الكلام 11: 691 ـ 694.

[80] في ص 138 ـ 139.

[81] المقنعة: 208، وعنه وسائل الشيعة 7: 484، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب1 ح5.

[82] أمالي الصدوق: 551 ح735، وعنه وسائل الشيعة 7: 487، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب2 ح4.

[83] منهاج الصالحين 2: 287 مسألة 1400، موسوعة أحكام الأطفال وأدلّتها 2: 83.

[84] سورة البقرة 2: 233.

[85] سورة البقرة 2: 234.

[86] موسوعة أحكام الأطفال وأدلّتها 2: 106.

[87] سورة البقرة 2: 275.

[88] كتاب المكاسب تراث الشيخ الأعظم 3: 20، 40 التنقيح في شرح المكاسب 1: 197ـ 198، 208،212، 220، 225، وج2: 27، كتاب البيع، للإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) 2: 124، 536، جامع المسائل، الاستفتاءات 2: 305 مسألة 971.

[89] سورة النساء 4: 101.

[90] رساله استفتاءات 2: 139 مسألة 1356 و 1357، نماز مسافر با وسائل امروزى: 3 وما بعدها، نكرشى جديد بر نماز و روزه مسافران: 5 وما بعدها، مصباح الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، صلاة المسافر: 13ـ 18.

[91] المكاسب تراث الشيخ الأعظم 1: 239، و ج3: 54 ـ 55، وج5: 20، حاشية المكاسب للايرواني 3: 20، حاشية المكاسب للاصفهاني 4: 40، كتاب البيع للإمام الخميني 1: 101، 171، 200، ولكن خالفهم في ذلك السيّد الخوئي في التنقيح، في شرح المكاسب 3: 33 ـ 34.

[92] سورة النساء 4: 29.

[93] تهذيب الأحكام 4: 176 ح489، الاستبصار 2: 74 ح226، وعنهما وسائل الشيعة 10: 279، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب8 ح5.

[94] كالنراقي في مستند الشيعة 16: 34.

[95] تهذيب الأحكام 1: 375 ح1152 و 1153، معاني الأخبار: 255 ح3 و2، وعنهما وسائل الشيعة 2: 37، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب 8 ح1 و 2، وفي بحار الأنوار 75: 214 ح9 عن المعاني.

[96] جواهر الكلام 2: 7 ـ 8 .

[97] فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 170.

[98] فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 169.

[99] سورة الإسراء 17: 78.

[100] فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 170.

[101] وسائل الشيعة 4: 198، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب20.

[102] بررسى حكم شرعى رؤيت هلال با چشم مسلّح، محمّد سميعى.

[103] بررسى حكم شرعى رؤيت هلال با چشم مسلّح، محمّد سميعى.

[104] رؤيت هلال 1: نود و نه ـ يك صد و يك.

[105] فقه اهل بيت(عليهم‌‌‏السلام)، السنة 11، العدد 43: 170.

[106] تهذيب الأحكام 1: 424 ح1347، قرب الإسناد: 193 ح729، وعنهما وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح3.

[107] رؤيت هلال 1: يك صد و چهار، فقه اهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 169.

[108] لم نجده عاجلاً.

[109] رؤيت هلال 2: 1335 ـ 1336، مجله فقه، دفتر تبليغات، العدد 50: 99 ـ 100، فقه أهل بيت عليهم‏السلام، السنة 11، العدد 43: 170 ـ 171.

[110] بررسى حكم شرعى رؤيت هلال باچشم مسلّح، محمّد سميعى.

[111] راجع أجود التقريرات 3: 66 ـ 67، فوائد الاُصول 3: 57 ـ 62، 89 ـ 96، محاضرات في اُصول الفقه 2: 361، وج3: 2 ـ 3، مصباح الاُصول 2: 21 ـ 22، 55 .

[112] وسائل الشيعة 10: 260، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب4.

[113] النهاية: 150، شرائع الإسلام 1: 199، العروة الوثقى 3: 628، وسيلة النجاة: 250، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصوم: 231.


برچسب ها :