حكم أهل الجِدَة في وجوب الحجّ

۲۶ مرداد ۱۳۹۷

۱۵:۳۳

۳۴

چکیده :
أنَّ فريضة الحجّ لا تجب على المسلم المستطيع إلاّ مرّةً واحدةً في العمر، ومع ذلك هناك طائفة من الروايات تصرح بأنّ الحجّ على أهل الجِدة (يعني الأغنياء) واجب في كلّ سنة.
نشست های علمی

حكم أهل الجدة في وجوب الحجّ
محمد جواد الفاضل اللنکراني

من الأبواب الهامّة في فقه العبادات؛ كتاب الحجّ، الذي يحتوي على روايات كثيرة ومسائل وأحكام عديدة. ومن اُولى مسائله التي لا اختلاف فيها بينهم؛ بل ادّعي الإجماع وقامت عليها الضرورة بين المسلمين: أنَّ فريضة الحجّ لا تجب على المسلم المستطيع إلاّ مرّةً واحدةً في العمر، ومع ذلك هناك طائفة من الروايات تصرح بأنّ الحجّ على أهل الجِدة (يعني الأغنياء) واجب في كلّ سنة. والشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) أيضاً أفتى في كتاب علل الشرايع طبقاً لهذه الروايات، وقال بأنّ الحج على أهل الجدة في كلّ عام فريضة[1].

ومقالتنا هذه تبيّن رأي مشهور العلماء، ورأي الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، وأدلّة كلّ منهما، وفي الختام (الذي هو أهمّ مراحل هذه المقالة) تبيِّن كيفيّة الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات (التي طرحت في كلمات الفقهاء) وستبيّن الرأي المختار أيضاً.

أفتى المشهور بوجوب الحجّ مرّة واحدة طول العمر، منهم السيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله)، والسيّد الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله).

قال(رحمه‏‌‌الله) في كتاب تحرير الوسيلة:

لا يجب الحجّ طول العمر في أصل الشرع إلاّ مرّةً واحدةً.

والمراد «في أصل الشرع»، هو حجّة الإسلام التي تجب في الدين للآية «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»[2]، وأمّا الحجّ النذري والاستيجاري فلا يرتبط بحجّة الإسلام.

وفي ضوء ذلك نذكر أدلّة المشهور وهي الكتاب، والروايات، والأصل، والإجماع، والضرورة.

ألف: أدلّة المشهور

1. التمسّك بالأصل: وهو الدليل الأوّل، بتقريب أنّه: لو لم يكن في البين آية أو رواية والشارع يقول في القرآن: «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»، وعند الشكّ في الزائد من مرّة واحدة، فأصل البراءة يجري، لأنّ المسألة تكون من باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين.

2. الاجماع: الدليل الثاني هو الاجماع بقسميه، وإجماع قويّ من أهل السنّة أيضاً[3]. وببيان آخر يوجد هنا الاجماع الاصطلاحي وسيرة المسلمين كلاهما، بأنّ الحجّ واجب لمرّة واحدة طول العمر، لأنّه لولا ذلك لشوهد من مسلمي صدر الإسلام خلاف ذلك، والحال ليس كذلك.

الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) خالف هذا الاجماع ونقل في كتاب علل الشرائع رواية من محمّد بن سنان، عن الرضا(عليه‏‌‌السلام) بأنّ الحجّ لا يجب إلاّ مرّة واحدة فقط طول العمر. ثمّ إنّه بعد نقل هذه الرواية قال:

والذي أفتى به هو أنّ الحجّ لأهل الجدة في كلّ عام فريضة[4].

هنا سؤال: كيف يمكن أن يدّعى الإجماع، والحال أنّ مثل الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)يخالفه؟

يجب الالتفات إلى نكتتين:

1. على أساس قول المتأخّرين (الإجماع الكاشف عن قول المعصوم(عليه‏‌‌السلام) حجّة فقط)، هذه المخالفة لا تضرّ بالإجماع، لأنّه على طبق مبناهم، (الاجماع حجّة حدساً)، لا يمنع مخالفة شخص واحد من الحدس عن قول المعصوم(عليه‏‌‌السلام).

2. إنّ قول السيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله) في العروة بعد نقل كلام الصدوق(رحمه‏‌‌الله): «على فرض ثبوته»[5]، يكشف أنّ السيّد كان شاكّاً في هذه النسبة إلى الصدوق(رحمه‏‌‌الله).

والسيّد الحكيم(رحمه‏‌‌الله) قال أيضاً: «وقد سبق إلى ذلك العلاّمة في المنتهى»[6].

قال العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في المنتهى:

لا نعلم مخالفاً لذلك (يجب الحجّ مرّة واحدة في العمر)، نعم حكي عن بعض الناس أنّ الحجّ في كلّ عام فريضة، وهذا كلام لم يثبت[7].

ولا يخفى أنّ المراد من قوله: «بعض الناس»، هو أهل السنّة[8]؛ لأنّ هذه المخالفة في المسألة موجودة عند أهل السنّة أيضاً.

هذا، وقد يستفاد ممّا قال في كتابه «من لا يحضره الفقيه»، أنّ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) عدل عن قوله في كتابه علل الشرايع، وعلى ذلك لا يوجد مخالف عند الإمامية في هذه المسألة.

وبالنتيجة:

أوّلاً (الإشكال صغروياً): لم يثبت عند بعض الفقهاء مثل العلاّمة الحلّي، والسيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله)، أنّه صدر هذا القول من الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، مع أنّه عدل رحمه اللّه‏ عن كلامه في كتابه علل الشرائع.

ثانياً (الإشكال كبروياً): على فرض صدور مثل هذا القول من الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، لا يضرّ هذا القول بالاجماع الذي يطابق ما اعتقد به المتأخرون، فالإجماع محقّق على قولهم.

3. ضرورة الدين: في جنب الاجماع، يطرح مسألة السيرة، بل يوجد في كلام صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) أو بعض الفقهاء مسألة الضرورة، «ضرورةً من الدين»[9] وليس «ضرورةً من المذهب»، يعني إنّ واحداً من ضروريات الدين أو ضروريات الفقه، وليس فقهاً خاصّاً؛ هو أنّ الحجّ لا يجب إلاّ مرّة واحدة في طول العمر.

ولا يخفى أنّ الدليل المهمّ هنا هو الآية الشريفة والروايات.

4. «وَللّه‏ِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه‏ غَنِى عَنِ الْعالَمِينَ»[10].

من الأدلّة التي استدلّ بها على وجوب الحجّ مرّة واحدة، هي الآية الشريفة، بتقريب: إنّ متعلق وجوب الحجّ هو «طبيعة الحجّ»، وعلى ذلك يمتثل الوجوب بإتيان فرد واحد منه، فالآية تدلّ على أنّ الحجّ واجب مرّة واحدة طول العمر[11].

يمكن الاشكال على هذا الاستدلال:

أوّلاً: لماذا لم يقل أحد من الفقهاء بأنّ الصلاة واجبة مرّة واحدة طبقاً لما في الآية الشريفة: «أَقيِمُوا الصَّلاَةَ»؟

الجواب: نعم، هكذا كان في: «أَقيِمُوا الصَّلاَةَ»، ولكن يوجد دليل آخر بأنّها واجبة عدّة مرّات في يوم واحد، ولولا ذلك الدليل لقلنا بأنّها واجبة مرّة واحدة أيضاً.

والقاعدة الكلّية في هذا المجال، هي القول بأنّه إذا تعلّق التكليف بطبيعة، فبإتيان واحدة من تلك الطبيعة، تتحقّق نفس الطبيعة، لأنّ: «الطبيعة توجد بوجود فرد مّا».

ثانياً: يمكن القول إنّ واحداً من معاني الحجّ اللغوية عبارة عن «كثرة التردّد»؛ فالآية الشريفة تقول «وَللّه‏ِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»؛ يعني: «كثرة التردّد إلى البيت»، وعلى ذلك نستفيد من هذا المعنى أنّ الحجّ واجب ثلاثة مرّات، لأنّ أقلّ الجمع ثلاثة، فلا يجب لأهل الجدة إتيان الحجّ أكثر من ثلاثة مرّات؟

الجواب: أوّلاً: لا يمكن استفادة الحكم الوضعي من الآية، بمعنى أنّها دلّت على اشتغال الذمّة بوجوب تكرار الحجّ، لأنّ الآية الشريفة تكون في مقام بيان جعل أصل الوجوب للحجّ.

ثانياً: كلّ مكان كان مورداً للاهتمام، يكثر التردّد اليه طبعاً، كالمساجد والمزارات، ولكن هذه الكثرة ليست لشخص واحد، بل لأفراد متعدّدين؛ ولذا يقال هذا المكان كثير التردّد إليه.

وقد صرّح اللغويون بأنّ الكثرة تكون باعتبار الأفراد الذين يذهبون إلى ذلك المكان، لا تكرار العمل الذي يعمل شخص بمفرده؛ ويكون «حِجُّ البَيْتِ» مثل ذلك.

وقد ذكرنا أنّ الطبيعة توجد بوجود فردّ ما؛ فالآية تدلّ على أنّ الحجّ يكفي بإتيانه مرّة واحدة.

5. الروايات: إنّ الروايات هي العمدة في البحث، وهنا طائفتان من الروايات: طائفة منها تدلّ بالصراحة أو بالالتزام بأنّ الحجّ يجب مرّة واحدة طول العمر. وطائفة تدلّ بأنّ الحجّ فريضة في كلّ عام لأهل الجدة.

نذكر أوّلاً الطائفتين من الروايات ثمّ نبحث عن التعارض، ووجه الجمع بينهما، وما ذكره الفقهاء حول ذلك.

ولا يخفى إذا لم نستطع إختيار واحد من هذه الوجوه، تصل النوبة إلى مسألة التعارض وأدلّة الأخبار العلاجية ومرجّحات باب التعارض.

ذكر صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) في المجلد الحادي عشر من كتابه روايات تصرّح بأنّ الحجّ يجب مرّة واحدة طول العمر. وبما أنّه(رحمه‏‌‌الله) كان بصدد الجمع بين الطائفتين ابتداءً، حمل هذه الأخبار على الواجب العيني فنقل ثلاثة منها:

1. عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

ما كلّف اللّه‏ العباد إلاّ ما يطيقون انّما كلّفهم في اليوم واللَّيلة خمس صلوات إلى أن قال وكلّفهم حجّة واحدة وهم يطيقون أكثر من ذلك[12].

سند هذه الرواية معتبر كما أنّ متنها يدلّ بوضوح على أنّ الحجّ لا يجب أكثر من مرّة واحدة طول العمر، وأنّ الناس يطيقون أكثر منها.

2. عن الفضل بن شاذان، عن الرّضا(عليه‏‌‌السلام) قال:

إنَّما أمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك، لأنّ اللّه‏ وضع الفرائض على أدنى القوّة... فكان من تلك الفرائض الحجّ المفروض واحداً، ثمّ رغّب بعد أهل القوّة بقدر طاقتهم[13].

سند هذه الرواية معتبر أيضاً وأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال: أمروا بحجّة واحدة.

3. عن محمّد بن سنان أنّ أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا(عليه‏‌‌السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله قال:

علّة فرض الحجّ مرّة واحدة لأنّ اللّه‏ تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوّة فمن تلك الفرائض الحجّ المفروض واحداً، ثمّ رغّب أهل القوّة على قدر طاقتهم[14].

هذه الرواية نقلت بعدّة أسانيد، وسندها في كتاب علل الشرايع له إشكال، ولكن ذكر الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) سندين آخرين لها في مشيخة كتاب من لا يحضره الفقيه، فالسند الأوّل فيه إشكال بمحمّد بن سنان، وأمّا السند الثاني فهو معتبر[15].

ولو قلنا بضعف السند، فمضمونه مساوق مع سائر الروايات الصحيحة، ولنثق بصدورها من المعصوم فنأخذ بها، فمضمون هذه الرواية مع الرواية الثانية واحد، وهذا كاف للوثاقة بصدورها.

وبالنتيجة: فأدلّة المشهور وخصوصاً الروايات الواردة تدلّ بوضوح على أنّ الحجّ واجب مرّة واحدة طول العمر.

ب: أدلّة غير المشهور

عقد صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) باباً تحت عنوان: «باب أنّه يجب الحجّ على الناس فى كل عامٍ وجوباً كفائيّاً»، وذكر فيه أخباراً تدلّ على أنّ الحجّ يجب في كلّ عام لأهل الجدة وجوباً كفائياً، نذكر أهمّها.

1. عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى عليهماالسلام قال:

إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام وذلك قوله عزّ وجلّ «وللّه‏ على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً» ومن كفر فانّ اللّه‏ غني عن العالمين قال قلت: فمن لم يحجّ منّا فقد كفر قال: لا ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر[16].

ذكر الشيخ الكليني والشيخ الطوسي سندين لهذه الرواية وكلاهما معتبر.

إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال في بداية الخبر: «إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام». ثمّ قال بعد ذلك: «وذلك قوله عزّ وجلّ»، يحتمل في «ذلك» ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»، يعني من استطاع في كلّ عام، وهذا خلاف الظاهر.

الاحتمال الثاني: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) كان في مقام الاستشهاد لا التفسير، ولذلك قال: «وذلك قوله عزّ وجلّ».

قلت: هذا الاحتمال ليس صحيحاً، لأنّه لم يكن في الآية الشريفة هذا العنوان: «في كلّ عام». وعلى ذلك فالاستشهاد يكون بعيداً كما كان التفسير بعيداً أيضاً.

الاحتمال الثالث: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) استشهد بالآية على أصل وجوب الحجّ، وليس كلام الإمام(عليه‏‌‌السلام) ناظراً إلى وجوبه في كلّ عام.

قلت: وهذا الاحتمال خلاف الظاهر أيضاً، لأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) ليس في مقام بيان حكم، ثمّ قراءة الآية. فالآية الشريفة: «وَللّه‏ِِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه‏َ غَنِى عَنِ الْعالَمِينَ»، ظاهرة فقط في أنّ الحجّ واجب على المستطيع، ولم يكن فيها هذا العنوان: «في كلّ عام». نعم، يحتمل في: «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه‏َ غَنِى عَنِ الْعالَمِينَ»، فإنّه ليس المراد من الكفر، الكفرَ الاصطلاحي، بل المراد هو كفران النعمة، مقابل شكرها. وهذا الاحتمال ليس بعيداً، فالآية الشريفة تقول: إنّ أهل الجدة إن لم يذهبوا إلى الحجّ، كان ذلك من مصاديق كفران النعمة أيضاً.

وعلى ذلك يرفع الاضطراب من الخبر، والإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام) لم يستشهد بصدر الخبر، بل يستشهد بذيله، وهو أنّ أهل الجدة لو لم يحجّوا كلّ سنة فهذا منهم كفران النعمة.

2. عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام[17].

متن هذا الخبر مثل الخبر الأوّل، وكان في سنده محمّد بن سنان وحذيفة بن منصور اللّذان ثبت توثيقهما عندنا، فليس في سنده إشكال.

3. عن أبي جرير القمّي، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

الحجّ فرض على أهل الجدة في كلّ عام[18].

دلالة هذا الخبر واضح مثل الخبرين الأوّلين، ولكنّ في سنده أبا جرير القمّي الذي كان محلّ كلام وبحث، أمّا عندنا فهو ثقة، والخبر معتبر أيضاً.

بحث حول كلام الصدوق(رحمه‏‌‌الله)

ذكر الصدوق(رحمه‏‌‌الله) أخبار أهل الجدة في كتاب العلل، ولم يذكرها في من لا يحضره الفقيه، مع أنّ هذا الأخير كتاب فتوى، وليس كتاب العلل كتاب فتوى الصدوق(رحمه‏‌‌الله)، وقال في مقدّمة كتاب من لا يحضره الفقيه:

ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه بل قصدت إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته[19].

وإنّه(رحمه‏‌‌الله) بعد هذه الشهادة المحكمة أتى بأخبار أهل الجدة في العلل فقط، ولم يأت بها في «من لا يحضر»، وهذا كاف بأن يقال: إنّ الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) لم يفت بوجوب الحجّ على أهل الجدة في كلّ سنة، مع أنّه صنّف كتاب «من لا يحضر» بعد كتاب علل الشرايع، وليس أخبار أهل الجدة في «من لا يحضر». وبالنتيجة، فإنّ الصدوق(رحمه‏‌‌الله)قائل بوجوب الحجّ مرّة واحدة وجوباً عينياً في طول العمر، وأمّا الوجوب الكفايي لأهل الجدة فمقيد بمقدار الكفاية طبعاً.

ملخص البحث

قد بيّن أنّ في البحث طائفتين من الروايات، فطائفة تقول بوجوب الحجّ مرّة واحدة طول العمر، واُخرى تقول فريضة لأهل الجدة في كلّ عام. والظاهر يحكي عن التعارض بينهما؛ ولكن الحقّ عدم وجود التعارض، وقد يوجد في كلمات الفقهاء وجوه من الجمع نذكر الأهمّ منها، ولا يخفى أنّ الجمع بينهما يكون بعد إثبات حجيّة الطائفتين من الروايات، وإلاّ فإن قلنا بعدم حجيّة أحدهما، فحينئذٍ لم يكن في البين موقعٌ لوجه الجمع كما قال المحقّق العراقي(رحمه‏‌‌الله)، فإنّه قال:

اعراض الفقهاء عن الطائفة الثانية يوجب الوهن في سندها أو دلالتها[20].

هذا، ثمّ في المرحلة الثانية إن قلنا بأنّ الفقهاء سكتوا ولم يتعرّضوا لذكر هذه الروايات فحينئذٍ تصل النوبة إلى وجوه الجمع الدلالي، نعرض ستّة منها، وفي النهاية نذكر مذهب الحقّ:

طرق الجمع بين الطائفتين

قلنا سابقاً بأنّ طائفة من الأخبار تدلّ بوجوب الحجّ مرّة واحدة طول العمر، وأمّا الطائفة الثانية منها تدلّ على وجوبه لأهل الجدة كلّ سنة، نذكر هنا ستّة من طرق الجمع التي توجد في كلمات العلماء:

1. طريق الجمع لصاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله)

الطائفة الاُولى (الحجّ واجب مرّة واحدة)، تحمل على الوجوب العيني؛ والطائفة الثانية (الحجّ واجب كلّ سنة لأهل الجدة)، تحمل على الوجوب الكفائي. وبالنتيجة إنّ لأهل الجدة وجوبين، عيني، وكفائي.

وقال في آخر كلامه: يمكن حمل كلام الصدوق(رحمه‏‌‌الله) على هذا الجمع[21].

وقد أيّد صاحب الحدائق(رحمه‏‌‌الله) هذا الجمع[22].

ثمّ أيّده السيّد في العروة بقوله: «لا يبعد»؛ ونقل روايات أهل الجدة وقال: يمكن حمل هذه الروايات على الواجب الكفائي، ولا يبعد القول بوجوب الحجّ كفائياً على أهل الجدة في كلّ سنة، إذا كانت الكعبة خالية من الحاجّ.

ثمّ قال السيّد اليزدي:

عندنا أخبار تقول: «على الإمام والحاكم والوالي أن يجبر الناس في أربعة مواقع: 1. الإجبار على إتيان الحجّ. 2. «والمقام في مكّة»، إذا كانت خالية من المسلمين. 3. زيارة رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). 4. الإقامة في المدينة المنوّرة. وعلى ذلك على الحاكم أن يعطي على المسلمين من بيت المال لأداء الحجّ وزيارة المدينة المنورة[23].

قلت: هل ترتبط هاتان الطائفتان: «تعطيل البيت عن الحاجّ لا يجوز»، «على الإمام والوالي أن يجبر الناس إلى الحجّ وزيارة المدينة المنوّرة»؛ بما نحن فيه «أخبار أهل الجدة» أم لا؟

هنا احتمالان:

الاحتمال ا لأوّل: لا ارتباط فيهما، لأنّنا نقول: ظاهر فتوى الصدوق(رحمه‏‌‌الله) وإطلاق أخبار أهل الجدة يدلاّن على وجوب الحجّ كلّ سنة لهم، سواء كانت الكعبة خالية أم لا.

لذلك كلّه، يجب علينا حلّ تلك المشكلة مع قطع النظر عن روايات التعطيل والإجبار، كما فعله صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله)[24].

الاحتمال الثاني: هاتان الطائفتان (أخبار تعطيل الحجّ وأخبار إجبار الوالي)، في الحقيقة يقيّدان إطلاق أخبار أهل الجدة، وهذا الطريق من الجمع قد ابتدأ من زمان صاحب الحدائق(رحمه‏‌‌الله)، وقد سلك السيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله) هذا المسلك أيضاً.

وعلى هذا، قبول هذا الاحتمال يؤيّد أنّ أخبار أهل الجدة ناظرة فيما كانت الكعبة خالية من الزائر، والوالي يجبر الناس على الحجّ، فحينئذٍ على أهل الجدة خصوصاً إتيان الحجّ فقط لا جميع الناس.

يجب علينا البحث أوّلاً هل بين أخبار أهل الجدة وأخبار الإجبار ربط أم لا؟ ثمّ البحث عن أخبار عدم جواز خلوّ البيت من الحاجّ.

ألف) أخبار عدم جواز تعطيل الكعبة: نقل صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) الأخبار الدالّة على عدم جواز تعطيل الكعبة وخلوّ البيت من الحاجّ في المجلّد الحادي عشر من كتابه:

الرواية الاُولى: وصيّة الإمام أميرالمؤمنين(عليه‏‌‌السلام)

عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) في وصيّته للحسن والحسين عليهماالسلام: اوصيكما بتقوى اللّه‏ إلى أن قال: واللّه‏ اللّه‏ في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا[25].

إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) يقول: عدم التوجّه إلى الكعبة، يوجب العذاب الإلهي، وهل بين هذا الخبر وروايات أهل الجدة ربط أم لا؟ وببيان آخر، هل يقيّد إطلاق أخبار أهل الجدة بأخبار عدم جواز تعطيل الكعبة؟ فهل نقول: إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام، إذا كانت الكعبة خالية أو لم يوجد حاجّ»، أو نقول: إنّ أخبار أهل الجدة تكون آبية عن التقييد، بل هما موضوعان متفرّقان؟

توضيح ذلك، أوّلاً: إنّ موضوع أخبار أهل الجدة هو نفس أهل الجدة فقط، وأمّا موضوع أخبار عدم جواز تعطيل البيت، نفس البيت.

يعني إذا أتى زمان لم يوجد عند المسلمين مال، فعليهم الاسقتراض، ولو من غير المسلمين، لأداء الحجّ وزيارة البيت، ولا ربط لهذا المعنى بمسألة أهل الجدة.

وثانياً: إنّ هذه الوصيّة من الإمام(عليه‏‌‌السلام) تكون ناظرة إلى وضع جغرافي سيّئ، يمكن لأهل مكّة أن يهاجروا منها، ولم يوجد في مكّة طائف للبيت الشريف؛ وأمّا مثل زماننا هذا، الذي كانت مكّة المكرّمة عامرة واسعة مملوءة، ولم تكن والحمد للّه‏ خالية من الطائفين والعاكفين والركّع السجود.

قلت: في باب الإطلاق والتقييد يلزم أن يكون الدليل المقيِّدُ مقيِّداً لدليل الإطلاق عرفاً، وليس هنا كذلك، لأنّ موضوع هذه الرواية يغاير موضوع روايات أهل الجدة، وبالنتيجة يستفاد من هذه الرواية الاطلاق، يعني يجب على كلّ مستطيع أن يحجّ في أشهر الحجّ، وفي غيرها على الإمام أن يجبرهم أيضاً، وفي هذه الصورة لم يشترط الاستطاعة حتّى إن لم يكن عند المسلمين مال لذلك، فعلى الإمام أن ينفق عليهم من بيت المال لأداء الحجّ، كما أنّ على أهل الجدة أداءه واجباً كفائياً.

الرواية الثانية: خبر حسين الاحمسيّ

عن الحسين الأحمسيّ، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

لو ترك النّاس الحجّ لما نوظروا العذاب أو قال لنزل عليهم العذاب.

الرواية الثالثة: صحيحة حمّاد بن عثمان

عن حمّاد، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

كان عليّ صلوات اللّه‏ عليه يقول لولده: يا بنيّ انظروا بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم فلا تناظروا[26].

هذه الصحيحة مضمونها مثل وصيّة الإمام أميرالمؤمنين(عليه‏‌‌السلام).

الرواية الرابعة: خبر أبي بصير

عن أبي بصير يعني المراديّ، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

لا يزال الدّين قائماً ما قامت الكعبة[27].

في هذا الخبر احتمالان كما قال العلاّمة محمّدتقي المجلسي في روضة المتقين:

الاحتمال الأوّل: إنّ المراد من قيام الكعبة، إقامة الحجّ والعمرة، لأنّهما من أعظم أركان الدين؛ وطبقاً لهذا الاحتمال «ما قامت الكعبة»؛ يعني أداء الحجّ والعمرة طول السنة لئلاّ يخلو البيت من الزائر، كما يجب على المسلمين مستطيعين كانوا أم لا، أن ينفقوا من بيت المال لأداء العمرة في غير أشهر الحجّ. الاحتمال الثاني: جاء في بعض الروايات: حينما يستشهد أو يرتحل الإمام‏المهدي(عليه‏‌‌السلام)، يعلو القرآن والكعبة، وعلامة إتمام الدين وقيام الساعة هذه[28].

قلت: إنّ الاحتمال الأوّل مناسب للمقام لا الاحتمال الثاني، فما دامت الكعبة قائمة ويقوم الناس لأداء الحجّ والعمرة، فدين الإسلام قائم أيضاً.

الرواية الخامسة: خبر سدير الصيرفي

عن حنّان بن سدير، عن أبيه قال:

ذكرت لأبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) البيت فقال:

لو عطّلوه سنة واحدة لم يناظروا[29].

سند هذا الخبر معتبر عندنا، ويفهم من «سنة واحدة»، تمام السنة لا أشهر الحجّ فقط، وبالنتيجة لهذا الخبر إطلاق، يعني إن ترك الحجّ والعمرة في سنة واحدة بكاملها، فالناس سوف يستحقّون العذاب على ذلك.

ومن هذا الخبر يستفاد الوجوب الكفائي للحجّ، يعني للحجّ حكمان: الوجوب العيني لمن يستطيع في أشهر الحجّ. الوجوب الكفائي لعدم خلوّ البيت من الزائر في أشهر الحجّ وفي غيرها.

كما يستفاد الوجوب الكفائي من صحيحة الفضلاء[30]، لمن يستطيع، وإلاّ على الإمام أن يعطيهم من بيت المال لأداء الحجّ.

ملخص بحث الروايات

إنّ في روايات عدم جواز الخلوّ احتمالين: 1. اختصاص هذه الأخبار بأيّام الحجّ أيضاً، يعني إن لم يذهب المستطيع إلى الحجّ... 2. عدم اختصاص هذه الأخبار بالمستطيع، بل الشارع المقدّس يطلب عدم خلوّ البيت من الزائر في طول السنة.

إنّ الجمع بين هذه الأخبار ينتج وجود حكمين: 1. الوجوب العيني للمستطيع في أشهر الحجّ. 2. الوجوب الكفائي للكلّ في تمام الأزمنة، يعني يجب على الناس أن يراقبوا حتّى لا يخلو البيت من الزائر، فهذا الواجب الكفائي للمستطيع أوّلاً، فإن لم يوجد مستطيع يجب على المسلمين التشرّف، ولو لم يجبرهم الإمام.

فإن أجبرهم فيجب عليه أن يعطيهم من بيت المال لأداء الحجّ والعمرة على نحو الواجب الكفائي، لأنّ متعلّقه القيام، «قيام الكعبة»، ولا يقع هذا القيام إلاّ بالحجّ والعمرة.

ولا يخفى أنّ مسألة الوجوب الكفائي في الحجّ، تختصّ بأن نستفيد أنّ الأخبار الحاكية بعدم جواز خلوّ البيت من الزائر كان في تمام الأشهر، وإلاّ إن قلنا أوّلاً إنّ روايات الإجبار وروايات «لو ترك الناس الحجّ»، تختصّ بالمستطيع، وثانياً رواية عدم جواز الخلوّ، تختصّ بأشهر الحجّ لا كلّ السنة، ينتج أنّه ليس في الحجّ إلاّ حكم واحد، وهو الوجوب العيني للمستطيع.

وأمّا معنى روايات إجبار الوالي هو أنّه إذا لم يذهب المستطيعون إلى الحجّ سنة، فعلى إمام المسلمين إجبارهم على ذلك.

أمّا إن استفدنا من أخبار عدم جواز الخلوّ تمام الأشهر، وقلنا إنّ أميرالمؤمنين(عليه‏‌‌السلام)أوصى بتمامها وكذلك خبر: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»، فينتج أنّ وجوباً كفائياً غير الوجوب العيني يكون في البين، ليصير البيت مملوءًا بالحاجّ، ولكن الاستطاعة المالية غير دخيلة، فيجب على الناس التشرّف ولو لم يكن هناك مستطيع في البين.

بحث حول اجبار الإمام لأداء الحجّ

ربط صاحب الحدائق والسيّد اليزدي روايات أهل الجدة بهذه الطائفة الثانية من الأخبار التي تدلّ على أنّ الوالي يجبر الناس على الحجّ، وإليك نصّها:

1. خبر عبداللّه‏ بن سنان

عن عبد اللّه‏ بن سنان، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام):

لو عطّل النّاس الحجّ (لوجب على الإمام) أن يجبرهم على الحجّ إن شاءوا وإن أبوا فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ[31].

فمضمون هذا الخبريحكيوجوب‏إجبارالناس على‏أداء الحجّ،لأنّه‏وضع هذا البيت للحجّ.

سند هذا الخبر معتبر، ومضمونه كما يستفاد منه حجّ البيت وأداء المناسك، يحكي وجوب إجبار الناس على أداء الحجّ؛ لأنّ هذا البيت وضع للحجّ وهو الموضوع المهمّ، وإلاّ فالناس يعيشون حول البيت ويطوفون به كلّ يوم.

قلت: إنّ «الحجّ» في «لو عطّل الناس الحجّ»، يكون نفس المفردة التي في الآية الشريفة: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، وليس إلاّ حجّة الإسلام المنوطة بالاستطاعة، وعلى ذلك إن كان الناس مستطيعين ولم يحجّوا، فعلى الإمام أن يجبرهم على أداء الحجّ، ولا يصحّ أن يقال إجبارهم على أدائه ولو لم يستطيعوا.

2. صحيحة الفضلاء

عن حفص بن البختريّ وهشام بن سالم ومعاوية بن عمّار وغيرهم عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) قال:

لو أنّ الناس تركوا الحجّ لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده ولو تركوا زيارة النّبي (لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين[32].

ونستفيد من هذين الخبرين:

1. عدم جواز خلوّ البيت من الحاجّ، وحينئذٍ يجب الحجّ على المسلمين، سواء أجبرهم الإمام على ذلك أم لا؟

2. لو رأى الإمام أنّ الناس عطّلوا الحجّ، فعليه إجبارهم على أدائه، لئلاّ يعطّل الحجّ.

ولو كنّا نحن وهذين الخبرين، فالموضوع هو جميع الناس، ان تركوا الحجّ جميعاً وليس المراد من «لو عطّل الناس الحجّ» إلاّ ذلك.

مجمل القول ونتيجته

1. عندنا دليل يقول: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»، بأنّ الحجّ واجب عيني، والاستطاعة معتبرة فيه.

2. تقول الأخبار بأنّ الحجّ لأهل الجدة فريضة في كلّ عام.

3. يحرم خلوّ البيت من الحجاجّ، ويجب على الناس زيارة البيت.

حينما ننظر إلى الآية الكريمة، وهذه الطوائف من الأخبار، يقتضي تناسب الحكم والموضوع فيها، أنّه لو بادر بعض الناس للطواف بالبيت، يتحقّق امتثال الواجب الكفائي، ولا يجب على سائر الناس طواف البيت. وحينما نقول: يحرم خلوّ البيت ويجب على الناس المبادرة حتّى لا يخلو البيت؛ ليس معناه مبادرة كلّ المسلمين للطواف، بل يكفي المبادرة بمقدار لا يخلو البيت، ولا تجب مبادرة كلّ الناس، وهذا كاف في امتثال الواجب الكفائي، وعلى ذلك فالاستطاعة ليست شرطاً فيه، يعني لو جاء زمان صار البيت خالياً من الزائر لا سمح اللّه‏ والناس غير مستطيعين للحجّ، فعليهم المبادرة له ولو استقراضاً.

هذا في المرحلة الاُولى، ثمّ في المرحلة الثانية إن رأى الإمام أو الوالي خلوّ البيت من الزائر والناس لم يبادروا لزيارته، فعليه إجبارهم على الحجّ حتّى لا يخلو. كلّ هذا مقتضى الأدلّة الموجودة في البين، كما هو مقتضى الوجوب الكفائي.

ومعنى ذلك عدم مبادرة الإمام لإجبار الناس ابتداءً، لأنّه إن عمل الناس بتكليفهم الشرعي فلا احتياج حينئذٍ إلى إجبارهم من ناحية الإمام، وأمّا إن لم يذهبوا فعلى الإمام إجبارهم.

ملخص آراء الفقهاء

قال صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله): تحمل روايات الطائفة الاُولى «وجوب الحجّ مرّةً واحدة» على الوجوب العيني؛ وروايات الطائفة الثانية «وجوب الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام»، على الوجوب الكفائي[33]؛ وتبعه صاحب الحدائق والسيد اليزدي(رحمه‏‌‌الله)، ويجب على المسلم نوعان من الحجّ: 1. على نحو الوجوب العيني، المشروط بالاستطاعة. 2. على نحو الوجوب الكفائي، الذي لا تشترط فيه الاستطاعة.

ثمّ انّ صاحب الحدائق والسيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله) أخذا لكلامهما شاهداً أخبار عدم جواز تعطيل الحجّ؛ ثمّ خبر سدير الذي ليس فيه كلام عن الحجّ، بل الكلام فيه عن البيت فقط؛ وفي هذا الخبر قال الإمام(عليه‏‌‌السلام): «لو عطّلوه سنة واحدة»[34]، فالكلام عن تعطيل البيت في سنة، ولم يدلّ على استحقاق العذاب إن لم يحجّوا سنة؛ إن اعتمروا في السنة! بل لهذا الخبر ظهور واضح على أن لا يخلو البيت من الزائر فقط.

وعلى هذا، إن لم يكن عندنا خبر سدير يصير مسار الاستدلال غير ذلك، فيدلّ الخبر على غضب الشارع في حالة كون البيت خالياً من الزائر سنةً. ونستفيد منه الوجوب الكفائي على الناس أن يحجّوا حتّى لا يخلو البيت من الزائر، فإذا لم يوجد مستطيع سنة، أو لم يكن ناذر أو مثله لأداء الحجّ؛ فعليهم أداء الحجّ على نحو الوجوب الكفائي، وحينئذٍ يسقط الوجوب عن غيرهم.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) ـ بعد نقل كلام صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) ـ خالفه وقال:

... ومن الغريب ما في الوسائل من حمل هذه النصوص على الوجوب كفاية وإن جعله بعض الأفاضل مؤيّداً له بما دلّ من النصوص التي فيها الصحيح وغيره على جبر الإمام الناس على الحجّ إذا تركوه، وإلاّ استحقّوا العقاب ولم ينظروا، إذ هو مخالف لاجماع المسلمين على الظاهر أيضاً، [كما قال المحقّق الحلّي(رحمه‏‌‌الله) في المعتبر]، فلابدّ من طرحها أو تنزيلها على ما عرفت ونحوه، ونصوص الجبر خـارجة عمّا نحن فيه، ضرورة عدم اختصاصها بأهل الجدة كما يومي إليه اشتمال الصحيح منها على أنّه إن لم يكن لهـم مال أنفق عليهم من بيت المال، بل اشتمل أيضاً على الجبر على المـقام عند البيت وعلى زيارة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والمقام عنده، ولعلّنا نقول به كما أومى إليه في الدروس، قال فيها: ويستحبّ للحاجّ وغيرهم زيارة رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بالمدينة استحباباً مؤكّداً، ويجبر الإمام الناس على ذلك لو تركوه، لما فيه من الجفاء المحرّم، كما يجبرون على الأذان، ومنع ابن إدريس ضعيف، لقوله(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من أتى مكّة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة فقد جفوته يوم القيامة، ومن أتاني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة. وفي المختلف: قال الشيخ: إذا ترك الناس الحج وجب على الإمام أن يجبرهم على ذلك، وكذلك إذا تركوا زيارة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)كان عليه إجبارهم عليها أيضاً، وقال ابن إدريس: لا يجب الإجبار، لأنّها غير واجبة، واحتجّ الشيخ(رحمه‏‌‌الله) بأنّه يستلزم الجفاء، وهو محرّم. وعلى كلّ حال فالوجوب بهذا المعنى خارج عمّا نحن فيه من الوجوب كفاية على خصوص أهل الجدة المستلزم لكون من يفعله من حجّ في السنة السابقة منهم مؤدّياً لواجب، ولو كان مع من لم يحجّ منهم، وقد صرحت النصوص بأنّ ما عدا المرّة تطوّع[35].

وبالنتيجة لقد استفاد صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) الوجوب الكفائي من أخبار عدم الخلوّ وإجبار الإمام، كما أفتى به الشيخ الطوسي والشهيد الأوّل والعلاّمة الحلّي(رحمهم‏ الله) في المختلف.

د: ما هو الرأي المختار؟

إنّ ههنا ثلاثة آراء:

الرأي الأوّل: ليس هاهنا شيءٌ باسم عدم خلوّ البيت من الزائر حتّى يكون الواجب كفائياً، بل الحكم هو وجوب الحجّ مرّة واحدة على المستطيع فقط.

الرأي الثاني: إنّ عندنا روايات يستفاد منها الوجوب الكفائي، وهذا الوجوب غير مرتبط بروايات أهل الجدة، كما قبله صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله)، وبالنتيجة يجب علينا طريق آخر للجمع بين أخبار أهل الجدة وبين أخبار وجوب الحجّ مرّة واحدة.

الرأي الثالث: يستفاد الوجوب الكفائي من أخبار عدم الخلوّ وإجبار الحاكم، وهذا الوجوب مرتبط بأخبار أهل الجدة؛ بيان ذلك: إنّ روايات أهل الجدة تقيّد صحيحة الفضلاء التي فيها: «إن لم يكن لهم مال»، وهذه العبارة قرينة واضحة للتقييد. وإن لم يقبله فقيه، فمع قطع النظر عن صحيحة الفضلاء، لو وضعنا أخبار أهل الجدة عند هذا الخبر: «اللّه‏ اللّه‏ في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم»، لأمكن لنا أن نقول: إنّ أهل الجدة لو تمكّنوا يجب عليهم الحجّ كفائياً، وإلاّ فلا.

وعلى هذا الرأي الأخير، وقع جمع آخر بين كلّ الروايات، وهذا الجمع تامّ بشرط أن تكون كلمة الحجّ في أنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجده «في كلّ عامٍ»، أعمّ من الحجّ والعمرة. وجملة «في كلّ عام» تعني: يجب على أهل الجدة، لئلاّ يخلو البيت، وليس شيء غير هذا.

والنتيجة طبقاً لهذه النظرية، أنّه لا يمكن لفقيه أن يقول: من له مال يجب عليه الحجّ في كلّ سنة، ولو لم يخلُ البيت.

وأمّا ظاهر فتوى الصدوق(رحمه‏‌‌الله) فهو الخروج إلى الحجّ في كلّ سنة، سواء أكان البيت خالياً أم لا؟ وحينما نضع أخبار الخلوّ مع أخبار أهل الجدة، تقيّد أخبار الخلوّ بها، ونقول حينئذ: «اللّه‏ اللّه‏ في بيت ربّكم»، يعني أهل الجدة.

وعلى ذلك، يوجد عندنا وجوب عيني، فللمستطيع أن يحجّ مرّة واحدة طول عمره؛ ووجوب كفائي، فملاكه عدم خلوّ البيت عن الحاجّ، ونحمل أخبار: «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام» على الوجوب الكفائي.

نتيجة اُخرى: ومع قطع النظر عن الروايات لا يستفاد من الآية الشريفة «للّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»[36] إلاّ وجوب عيني واحد، وهو: «مرّةً واحدة طول العمر»، ولكن هناك روايتان معتبرتان تُهيِّئان توسعتين:

التوسعة الاُولى: إنّ المراد من الآية الشريفة هو الأعمُّ من الحجّ والعمرة، لأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال: «الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان»[37]، ربما يكون الظهور الأوّلي لعموم الناس أنّهم فهموا من الآية الشريفة الحجّ فقط، والإمام(عليه‏‌‌السلام)، بما أنّه هو المفسّر الواقعي للقرآن، قال: كلاهما مراد، يعني: «وللّه‏ على الناس حِجُّ البيت»، «وللّه‏ على الناس العمرة».

التوسعة الثانية: وفي خبر موسى بن جعفر عليهماالسلام قال الإمام ابتداءً: «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام»، ثمّ قال: «وذلك قوله: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»»، فمع التأمّل في الروايات الاُخرى يبدو أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) كان في مقام التفسير لهذه الآية الشريفة، فيقول: اعلموا أنّ في الآية وجوبين، وجوباً عينيّاً، ووجوباً كفائيّاً لأهل الجدة، لا عينيّاً فقط، وسائر الروايات تقول: إذا كان البيت خالياً.

وبالنتيجة، هذا الجمع تامّ ولا إشكال فيه.

نعم، بقي على هذا الجمع إشكالان:

الإشكال الأوّل: أشكل صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) أنّ أخبار أهل الجدة تختصّ بأهل الجدة، ولا ترتبط أخبار الخلوّ بها؟

قلنا: إنّ أخبار أهل الجدة تقيّد تلك الأخبار.

الإشكال الثاني: إنّ الوجوب الكفائي يخالف رواية موسى بن جعفر عليهماالسلام، لأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) استدلّ بالآية، ونحن نوافق على أنّ الوجوب العيني يستفاد منها.

قلنا: نعم، كان الإجماع منعقداً لهذا الأمر (الوجوب العيني)، ولكن الإمام(عليه‏‌‌السلام) يقول: يستفاد وجوب آخر من الآية الشريفة (الوجوب الكفائي)، إضافة إلى الوجوب العيني.

وعلى ذلك، فأوّل الجمع بين الطائفتين من الروايات هو الطريق الذي سلكه صاحب الوسائل وصاحب الحدائق والسيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله)، بأن نقول: «مرّة واحدةً» خصّت بالوجوب العيني، و «يجب على أهل الجدة في كلّ عام» يخصّ بالوجوب الكفائي؛ وهذا الجمع مورد للقبول أيضاً، وللجمع طرق اُخر نبحثها إن شاء اللّه‏.

2. طريق الجمع للمحقق الخوئي(قدس‏‌‌سره)

الطريق الثاني للجمع بين الروايات هو الطريق الذي سلكه السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) حيث قال:

«أحسن المحامل» الأولى في توجيه هذه الروايات أن يقال: إنّها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهلية من عدم الإتيان بالحجّ في بعض السنين، لتداخل بعض السنين في بعض بالحساب الشمسي، فإنّ العرب كانت لا تحجّ في بعض الأعوام، وكانوا يعدون الأشهر بالحساب الشمسي، ومنه قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِى‏ءُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه‏ُ...»[38]، وربما لا تقع مناسك الحجّ في شهر ذي الحجّة، فأنزل اللّه‏ تعالى هذه الآية ردّاً عليهم، بأنّ الحجّ يجب في كلّ عام، وأنّه لا تخلو كلّ سنة عن الحجّ. وبالجملة كانوا يؤخرون الأشهر عما رتّبها اللّه‏ تعالى، فربما لا يحجّون في سنة، وقد أوجب اللّه‏ تعالى الحج لكلّ أحد من أهل الجدة والثروة في كلّ عام قمري، ولا يجوز تغييره وتأخيره عن شهر ذي الحجّة. فالمنظور في الروايات أنّ كلّ سنة قمرية لها حجّ، ولا يجوز خلوّها من الحجّ، لا أنّه يجب الحجّ على كلّ واحد في كلّ سنة. ولعلّ هذا الوجه الذي ذكرناه أحسن من المحامل المتقدمة ولم أر من تعرض إليه[39].

وعلى ذلك، فللمحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) ادّعاءان:

1) أخبار أهل الجدة ناظرة إلى العمل الذي ارتكبه أهل الجاهليّة (وهو تداخل الأعوام لكي لا يحجّوا في بعض الأعوام).

2) آية النسيء الشريفة: «إِنَّمَا النَّسِى‏ءُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ» ترتبط بعمل العرب في زمان الجاهلية أيضاً، ولذا نبحث هنا عن معنى الآية حتّى يتبيّن أنّها هل ترتبط بالحجّ أم لا؟

ألف: كلام حول «إِنَّمَا النَّسِى‏ءُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ»

لكلمة النسيء قراءات مختلفة:

1. «نسيّ»، مشدّداً. 2. «نسيء»، بالهمزة. 3. «نسي»، بدون همزة.

إنّ لهذه الكلمة في اللغة، كما ذكر فخر الرازي، معنيين: 1. التأخير، «نسأت الإبل عن الحوض، إذا أخّرتها»، «أنسأ اللّه‏ فلاناً أجله»، يعني أخّر أجله؛ والمشهور قبل هذا المعنى، و «إِنَّمَا النَّسِى‏ءُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ»، يعني: التأخير زيادة في الكفر. 2. «النسيء أصله من الزيادة، نسأ في الأجل إذا زاد فيه»؛ إذا قال المديون للدائن: زد المدّة؛ يقال: «نسأ»[40].

وبعد ملاحظة الروايات العامّة والخاصة، نجد أنّ أكثرها ظاهرة أوّلاً بأنّ المراد من «النسيء»، هو التأخير. وثانياً، هذا التأخير في التحريم كان في الأشهر الحُرُم، والقرآن الكريم يدلّ على هذا المعنى. وكذلك جاء في الأخبار أيضاً أنّ الأشهر الحُرُم: ذوالقعدة الحرام، ذوالحجّة الحرام، محرّم الحرام (هذه الأشهر الثلاثة متواليات)، وشهر رجب، فرأى العرب بأنّ الحرب قد تركت في هذه الأشهر الثلاثة وعلى إثر ذلك برز بعض المشاكل، لأنّهم يعيشون بسبب الغنائم ولم تصل إليهم.

إنّ رجلاً في الجاهلية كان يحكم «بالإنساء»، ويؤخّر الشهر الحرام إلى شهر صفر، ويحكم بحلّية الحرب في المحرّم! ويقول: اُحَرِّم الحرب في صفر وأحلّها في شهر محرّم!! وهذا هو المراد من «النسيء» في القرآن الكريم.

1. معاني «النسيء» والاحتمالات فيه[41]

1 ـ 1. الاحتمال الأوّل فيه «النسيء» هنا هو الفعل بمعنى المصدر، لا الفعل بمعنى المفعول، فإن كان بمعنى المفعول كان المعنى: إنّ نفس الشهر (زيادة في الكفر)، والحال ليس كذلك، بل المعنى: إنّ هذا التأخير (على صورة المعنى المصدري)، (زيادة في الكفر).

يقول العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله): قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِىُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ» إلى آخر الآية، يقال نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة ونسيئاً إذا أخّره تأخيراً، وقد يطلق النسيء على الشهر الذي أخّر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية، فإنّهم ربما كانوا يؤخّرون حرمة بعض الأشهر الحُرم إلى غيره، وأمّا كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل التاريخ.

والذي يظهر من خلال الكلام المذكور في الآية أنّه كانت لهم فيما بينهم سنة جاهلية في أمر الأشهر الحُرم، وهى المسمّاة بالنسيء، وهو يدلّ بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة التالية، وإنّهم إنّما كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أصلها، لإرادتهم بذلك أن يتحفّظوا على سنّة قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم(عليه‏‌‌السلام).

فكانوا لا يتركون أصل التحريم وإنّما يؤخّرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد، ليواطئوا عدّة ما حرم اللّه‏، وهى الأربعة، ثمّ يعودون ويعيدون الحرمة إلى مكانها الأوّل.

وهذا نوع تصرّف في الحكم الإلهي بعد كفرهم باللّه‏، باتّخاذ الأوثان شركاء له تعالى وتقدّس، ولذا عدّه اللّه‏ سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.

وقد ذكر اللّه‏ سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس، حيث قال: «فَلاَ تَظْلمُوا فِيهنَّ أَنفُسَكُم»، وأظهر مصاديقه القتال، كما أنّه المصداق الوحيد الذي استفتوا فيه النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) فحكاه اللّه‏ سبحانه بقوله: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتَالَ فِيهِ» الآية[42]... .

... فالظاهر أنّ النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنّما هو تأخير حرمة الشهر الحرام. للتوسل بذلك إلى قتال فيه، لا لتأخير الحجّ الذي هو عبادة دينية مختصّة ببعضها.

وهذا كلّه يؤيّد ما ذكروه: أنّ العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم، وكان ذلك ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم، إلى صفر فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم، فيمكثون بذلك زماناً، ثمّ يعود التحريم إلى المحرّم، ولا يفعلون ذلك أي انساء تحريمه المحرّم إلى صفر إلاّ في ذي الحجّة.

وأمّا ما ذكره بعضهم أنّ النسيء هو ما كانوا يؤخّرون الحجّ من شهر إلى شهر، فممّا لا ينطبق على لفظ الآية البتة.

فقوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِىُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ»، أي تأخير الحرمة التي شرعها اللّه‏ لهذه الأشهر الحرُم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر، لأنّه تصرّف في حكم اللّه‏ المشروع، وكفر بآياته بعد الكفر باللّه‏ من جهة الشرك، فهو زيادة في الكفر.

وقوله: «يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كفَرُوا»، أي ضلّوا فيه بإضلال غيرهم إيّاهم بذلك، وفي الكلام إشعار أو دلالة على أنّ هناك من يحكم بالنسيء، وقد ذكروا أنّ المتصدّي لذلك كان بعض بني كنانة.

وقوله: «يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه‏ُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّه‏»، في موضع التفسير للإنساء، والضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي وهم يحلّون الشهر الحرام الذي نسؤوه بتأخير حرمته عاماً ويحرّمونه عاماً، أي يحلّونه عاماً بتأخير حرمته إلى غيره، ويحرّمونه عاماً بإعادة حرمته إليه.

وإنّما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة والاثبات اُخرى ليواطئوا ويوافقوا عدّة ما حرّم اللّه‏، فيحلّوا ما حرم اللّه‏ في حال حفظهم أصل العدد أي إنّهم يريدون التحفّظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محلّ الحرمة ليتمكّنوا ممّا يريدونه من الحروب والغارات مع الاستنان بالحرمة.

2 ـ 1. الاحتمال الثاني في «النسيء»

جاء هذا الاحتمال في بعض روايات أهل السنّة والسيّد الطباطبايي(رحمه‏‌‌الله) ذكر هذا الاحتمال، وهو الرواية المذكورة في «الدرّ المنثور» وفيه أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: «إِنَّمَا النَّسِىُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ»، قال: فرض اللّه‏ الحجّ في ذي الحجّة، وكان المشركون يسمّون الأشهر ذا الحجّة والمحرّم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، ثمّ يحجّون فيه.

ثمّ يسكتون عن المحرّم فلا يذكرونه ثمّ يعودون فيسمّون صفر صفر، ثمّ يسمّون رجب جمادى الآخرة، ثمّ يسمّون شعبان رمضان ورمضان شوّال، ويسمّون ذا القعدة شوّال، ثمّ يسمّون ذا الحجّة ذا القعدة، ثمّ يسمّون المحرّم ذا الحجّة، ثمّ يحجّون فيه واسمه عندهم ذو الحجّة، جاء في التاريخ أنّ عرب الجاهلية حينما رأوا أنّ الشهر القمري «ذا الحجة»، يتغيّر مكانه في الفصول الأربعة (الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء)، وبما أنّ السنة القمرية أقلّ زماناً من السنة الشمسية بأحد عشر يوماً، لذلك وحفظاً لمصالحهم حسبوا سنة واحدة (12 شهراً)، بـ 13 شهراً! على رأس كلّ ثلاث سنوات؛ لتصير السنة القمرية كالسنة الشمسية، على مدار الفصول.

كلام آخر: كان عرب الجاهلية قد غيّروا وأخّروا شهر ذي الحجّة، فإن صادف الشهر في هذه السنة بالشتاء يسمّون الشهر التالي بذي الحجّة فيحجّون فيه؛ وفي السنة القادمة يعملون كذلك، لأنّهم يحجّون في زمان لم يكن الطقس بارداً ليكون عملهم في ذلك الحين قليلاً والربح كثيراً، ويسمّون ذلك الشهر بذي الحجّة!

وعلى ذلك، أوّلاً: يدخلون 11يوماً من السنة الشمسية إلى السنوات القمرية. ثانياً: كانوا يغيّرون شهر ذي الحجّة إلى شهر آخر حيث شاؤوا، ويسمّون ذلك الشهر بذي الحجّة، وهدفهم من ذلك هو أن يحجّوا مرتاحين حتّى لا توجد مشكلة من جهة الحرّ والبرد.

1 . التحقيق في الاحتمالات وبيان الرأي المختار

ما هو المراد من «النسيء» في الآية الشريفة: «إِنَّمَا النَّسِىُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ» وهل ترتبط هذه الآية بمسألة الحجّ وروايات أهل الجدة أم لا؟

هناك رأيان حول الآية الشريفة

الرأي الأوّل: إنّ «النسيء» لا ربط له بالحجّ، لأنّ معناه هو تأخير الحكم التحريمي من شهر إلى شهر آخر. (حرمة الحرب مثلاً من شهر محرّم الحرام يتأخّر إلى شهر صفر، وفي السنة القادمة يأتي شهر محرّم إلى مكانه الأصلي، يعني يبادرون في تأخير الحكم). وكثير من روايات الفريقين يحكي ذلك.

الرأي الثاني: إنّ «النسيء» مرتبط بالحجّ، فإنّ عرب الجاهلية يحجّون هكذا.

هنا مطلبان:
المطلب الأوّل: إنّ عرب الجاهلية زادوا السنة القمرية بـ : 13 شهراً بدلاً من 12 شهراً، وهذه الزيادة في كلّ ثلاث سنوات صارت 13 شهراً، وانجرّت هذه الزيادة بتداخل الأشهر، كما قاله السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، فلم يحجّ الناس في بعض السنوات، كما يحجّون مرّتين في سنة واحدة، لأنّ شهر ذي الحجّة الحرام صار شهرين في سنة واحدة!!

على أيّ حال، فإنّ عرب الجاهلية أضافوا إلى السنة القمرية كما يدلّ عليه بعض الأخبار، فصارت السنة القمرية 13 شهراً!

المطلب الثاني: إنّ عرب الجاهلية لم يزيدوا إلى السنة القمرية شيئاً، بل سمّوا شهر رجب شهر شعبان، وسمّى شهر شعبان برمضان! فبما أنّهم يريدون الطقس الجيّد والبارد، سمّوا شهر رجب بذي الحجّة، وإن كان بحسب الواقع شهر رجب، أو سمّوا شهر رمضان بذي الحجّة من دون أن يزيدوا شهراً.

أشكل العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) على هذا الرأي الثاني:

أوّلاً «النسيء» والتأخير ليس عمل عرب الجاهلية، بل غيّروا التركيب الأصلي للسنة، وليس عملهم تأخيراً.

وثانياً: هذا المعنى للنسيء يخالف الروايات والآثار المنقولة، والحال أنّ الدليل لهذا الرأي الثاني رواية مجاهد، ورواية عمرو بن شعيب فقط، وكلتاهما مضطربتان.

أقول (والكلام للسيّد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله))

... ومحصّله على ما فيه من التشويش والاضطراب أنّ العرب كانوا قبل الإسلام يحجّون البيت في ذي الحجّة غير أنّهم أرادوا أن يحجّوا كلّ عام في شهر، فكانوا يدورون بالحجّ الشهور، شهراً بعد شهر، وكلّ شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سمّوه ذا الحجّة وسكتوا عن اسمه الأصلي.

ولازم ذلك أن يتألف كلّ سنة فيها حجّة من ثلاثة عشر شهراً، وأن يتكرّر اسم بعض الشهور مرّتين، أو أزيد، كما تشعر به الرواية، ولذا ذكر الطبري أنّ العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهراً، وفي رواية اثني عشر شهراً وخمسة وعشرين يوماً.

ولازم ذلك أيضاً أن تتغيّر أسماء الشهور كلّها، وأن لا يواطى اسم الشهر نفس الشهر إلاّ في كل اثنتي عشرة سنة مرّة، إن كان التأخير على نظام محفوظ، وذلك على نحو الدوران.

ومثل هذا لا يقال له الإنساء والتأخير، فإنّ أخذ السنة ثلاثة عشر شهراً وتسمية آخرها ذا الحجّة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة. على أنّه مخالف لسائر الأخبار والآثار المنقولة، ولا مأخذ لذلك إلاّ هذه الرواية وما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال: كانت العرب يحلّون عاماً شهراً وعاماً شهرين، ولا يصيبون الحجّ، إلاّ في كلّ ستّة وعشرين سنة مرّة، وهو النسيء الذي ذكر اللّه‏ تعالى في كتابه، فلمّا كان عام الحجّ الأكبر، ثمّ حجّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلّة، فقال رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): «إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه‏ السماوات والأرض» وهو في الاضطراب كخبر مجاهد.

على أنّ الذي ذكره من حجّة أبي بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق أهل السنة أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) جعل أبا بكر أميراً للحجّ عام تسع، فحجّ بالناس، وقد ورد في بعض روايات أخر أيضاً أنّ الحجّة عامئذٍ كانت في ذي القعدة.

وهذه الحجّة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وإمضائه، ولا يأمر بشيء ولا يمضي أمراً إلاّ ما أمر به ربّه تعالى، وحاشا أن يأمر اللّه‏ سبحانه بحجّة في شهر نسيء، ثمّ يسمّيها زيادة في الكفر.

فالحقّ أنّ النسيء هو ما تقدّم أنّهم كانوا يتحرجون من توالى شهور ثلاثة محرّمة فينسؤون حرمة المحرّم إلى صفر، ثمّ يعيدونها مكانها في العام المقبل.

وأمّا حجّهم في كلّ شهر سنة أو في كلّ شهر سنتين، أو في شهر سنة وفي شهر سنتين، فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، وليس من البعيد أن تكون عرب الجاهلية مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتّى وعشائر متفرّقة وكلّ متّبع لهوى نفسه غير أنّ الحجّ كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتهم إلى أمن لنفوسهم وحرمة لدمائهم، وما كانوا يتمكّنون من ذلك لو كان أحلّ الشهر بعضهم وحرّمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم، وهو ظاهر»[43].

وعلى ذلك فالحقّ هو نفس القول الذي قاله العلامة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) بأنّ العرب يصعب عليهم عدم الحرب ثلاثة أشهر متواليات، (لأنّهم كانوا قبل الإسلام أهل حرب وغارة)، إنّهم جعلوا الحرمة التي في الشهر الثالث في شهر صفر لكي يستطيعوا الحرب في شهر محرّم؛ وهذا هو «النسيء» ولا معنى له غير ذلك.

وملخّص القول أنّه بعد الفحص والتحقيق في التاريخ والتفاسير، توجد ههنا نظريتان حول «النسيء».

الاُولى منهما: أهل الجاهلية كانوا يقولون: إنّا لانحرّم شهر المحرّم في هذه السنة وننقل الحرمة إلى شهر صفر، و به قال أكثر المؤرّخين والمفسّرين، وتدلّ على هذه النظرية روايات كثيرة.

والثانية: في صقع الواقع فإنّ «النسيء» يكون في الحجّ والإشكالات الواردة للسيّد العلاّمة الطباطبائي(رحمه‏‌‌الله) واردة جدّاً على هذه النظرية.

ب: ارتباط آية «النسيء» مع روايات أهل الجدة

المطلب الثاني هو أنّه هل ترتبط هذه الآية الشريفة بالبحث (يعني أهل الجدة) أم لا؟

إنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) قال:

الأولى في توجيه هذه الروايات أن يقال: إنّها ناظرة إلى ما كان يصنعه أهل الجاهلية من عدم الإتيان بالحجّ في بعض السنين، لتداخل بعض السنين في بعض بالحساب الشمسي، فإنّ العرب كانت لا تحجّ في بعض الأعوام، وكانوا يعدّون الأشهر بالحساب الشمسي ومنه قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِى‏ءُ زِيَادَة فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّه‏ُ...»[44]، وربما لا تقع مناسك الحجّ في شهر ذي الحجّة، فأنزل اللّه‏ تعالى هذه الآية ردّاً عليهم بأنّ الحج يجب في كلّ عام، وأنّه لا تخلو كلّ سنة عن الحجّ. وبالجملة كانوا يؤخّرون الأشهر عمّا رتّبها اللّه‏ تعالى، فربما لا يحجّون في سنة وقد أوجب اللّه‏ تعالى الحجّ لكلّ أحد من أهل الجدة والثروة في كلّ عامّ قمري ولا يجوز تغييره، وتأخيره عن شهر ذي الحجّة. فالمنظور في الروايات أنّ كلّ سنة قمرية لها حجّ، ولا يجوز خلوّها عن الحجّ، لا أنّه يجب الحجّ على كلّ واحد في كلّ سنة. ولعلّ هذا الوجه الذي ذكرناه أحسن من المحامل المتقدّمة ولم أر من تعرّض إليه»[45].

ويرد على هذا القول (القول للسيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله))

أوّلاً: لا ترتبط آية «النسيء» بمسألة الحجّ، لأنّ زمان الأئمّة المعصومين عليهم‏السلاممتأخّر عن زمن قريش، والروايات الصادرة عنهم عليهم‏السلام لا تشمل النسيء القريشي. ثمّ إنّ هذه الروايات جاءت لتفسير آية الحجّ «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...»، ولذلك فالإشكال غير وارد.

وثانياً: إنّ المفروض في كلام المحقق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) أنّ أهل الجاهلية تركوا الحجّ في بعض السنين بسبب النسيء؛ ولكن لم يبيّن هذا الادّعاء من وجهة نظر التاريخ، بل الواقع ربما يكون عكس ذلك، لأنّهم أخذوا شهراً معيّناً للحجّ، يكون الطقس جيّداً فيه فيحجّون؛ وعلى ذلك لو قلنا بأنّهم لم يحجّوا فهذا لم يكن في كنه معنى النسيء، بل هم سمّوا المحرّم باسم ذي الحجّة فيحجّون في شهر المحرّم، فكيف يمكن القول بالملازمة بهذا المعنى، وأنّهم لم يحجّوا في بعض السنين؟

توضيح ذلك: إنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) قال: بما أنّ عرب الجاهلية أضافوا 11 يوماً بالسنة القمرية، ينتج أنّ في كلّ ثلاث سنوات توجد سنة تكون أشهرها 13 شهراً ولازم ذلك أن يحجّوا مرّة واحدة قهراً. وقد كان هذا المعنى غير «النسيء»، لأنّهم لم يحجّوا منذ 12 شهراً، والرواية التي تقول في كلّ عام»، ناظرة إلى ذلك؛ وهذه النظرية منوطة بأنّ العرب فعلوا ذلك والحال أنّهم لم يفعلوا. نعم، جاء في التاريخ أنّ الأعراب تعلّموا ذلك من اليهود المجاورين لهم، ولكن لم يثبت هذا المعنى كعادة للعرب.

وقال أيضاً: إنّ الحجّ يجب في كلّ عام وأنّه لا يخلو كلّ سنة عن الحجّ، وبالجملة: كانوا يؤخّرون الأشهر عمّا رتّبها اللّه‏ تعالى فربما لا يحجّون في سنة، فالمنظور في الروايات أنّ كلّ سنة قمرية لها حجّ، ولا يجوز خلوّها عن الحجّ، لا أنّه يجب الحجّ على كلّ أحد في كلّ سنة.

وقال الاُستاذ الوالد بعد نقل كلام السيّد الخوئي:

واللازم أوّلاً توجيه هذا الكلام بأنّ تركهم الحجّ في بعض الأعوام ليس لأجل عدّهم الأشهر بالحساب الشمسي، فإنّ الظاهر عدم كون هذا الحساب معروفاً عند الأعرب حتّى في زماننا هذا، بل لأجل ما وقع في تفسير الآية المسبوقة بما يدلّ على أنّ عدّة الشهور عند اللّه‏ اثنا عشر شهراً منها: أربعة حرُم[46]، من أنّ العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة، وذلك ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا أصحاب غارات وحروب، فربما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها...[47].

إن قلت: جاء في كتاب «المفصّل في تاريخ العرب»، أنّ العرب أضافوا 11 يوماً من السنة الشمسية إلى السنة القمرية، ولذلك صار بعض الأعوام القمرية 13 شهراً.

قلت: ليس هذا العمل ملاكاً للحجّ، فإنّهم فعلوا ذلك في بعض الأحيان، ولكن سمّوا بعض الأشهر القمرية بذي الحجّة لأهداف اُخرى.

جاء في التاريخ أنّ شخصاً معيّناً كان مسؤولاً «للإنساء»، وكان يجيء الناس إليه ويطلبون منه الإنساء؛ وهذه العملية مخصوصة بأشهر الحُرُم لا إنساء الحجّ.

ولذلك قال المحقّق الوالد(رحمه‏‌‌الله): عدم كون هذا الحساب معروفاً عند العرب حتّى في زماننا هذا.

وحينئذٍ يكون أهمّ إشكال على قول المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) هو أنّ «النسيء» كان في تاريخ العرب (تبديل عنوان الشهور)، وهم رأوا أنّ أيّ شهر يكون طقسه جيّداً لعملية الحجّ فسمّوا ذلك الشهر بذي الحجّة، وقد يسمّون بعد مضي سنتين شهراً واحداً بذي الحجّة، وقد يكون ذلك عند ثلاث سنوات، ولكن ليس هذا مستلزماً بأن يصير سنة قمرية 13شهراً.

نعم، إنّ العرب كانوا على دراية بالحساب الشمسي، وليس هذا ملاكاً لإنساء الحجّ.

وبالنتيجة، هذا الطريق الثاني لوجه الجمع ليس جيّداً، بما فيه من الإشكال.

3 . الوجه الثالث للجمع للشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله)

هذا الطريق الثالث، قد سلكه المحقّق الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في الاستبصار، والمحقّق الحلّي(رحمه‏‌‌الله)في المعتبر، وكذلك صاحب المدارك(رحمه‏‌‌الله)، وصاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله)، وصاحب المستمسك(رحمه‏‌‌الله) وقال السيّد الحكيم(رحمه‏‌‌الله) صاحب المستمسك بأنّه أقرب الوجوه[48]. ويحمل روايات «مرّة واحدة» على الوجوب، وروايات «أهل الجدة» على الاستحباب، بأنّ روايات «مرّة واحدة» وجوبه عيني، وروايات «أهل الجدة» تقول: إنّ أهل الجدة يستحبّ أن يحجّوا كلّ عام؛ ولا ينتهي ذلك الاستحباب بأداء حجّ واحد، بل الاستحباب باق طول العمر.

يقول هؤلاء الفقهاء(قدّس اللّه‏ أسرارهم) لتوجيه هذا الجمع بأنّ روايات «مرّة واحدة» نصّ في الوجوب، وأمّا روايات «أهل الجدة» لها ظهور في الوجوب، لأنّه جاءت في روايات أهل الجدة كلمة «فرضَ» وهذه الكلمة ليست نصّاً في الوجوب بل لها ظهور فيه، وأمّا في روايات «مرّة واحدة» جاءت هذه العبارة «كلّفهم مرّةً واحدة» وكانت نصّاً في الوجوب، وعند التعارض بين النصّ والظهور نتصرّف في روايات الظهور وتحمل على الاستحباب.

معنى كلمة «الفرض» في القرآن والروايات

قبل التحقيق حول هذا الجمع لابد وأن نبحث في معنى كلمة «فرضَ»، وأين تستعمل هذه الكلمة؟ هل يتغيّر معنى «فرضَ» في مكان دون مكان أم لا؟ حتى يتبيّن معناه[49].

قد تستعمل كلمة الفريضة «ما فرضه اللّه‏ في مقابل كلمة السنّة» ما فرضه النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله)، ما شرّعه النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله) وهذا نوع اصطلاح، ولذلك جاءت في روايات القرعة «القرعة سنّة»، وليس بمعنى الاستحباب، بل تكون هذه العبارة بمعنى «ما شرّعه الرسول في مقابل «ما شرّعه اللّه‏».

بعد الرجوع إلى اللغة تبيّن لنا أنّ المعنى الحقيقي لـ «فرضَ»، ليس الوجوب التكليفي، بل تكون كلمة «فرضَ» بمعنى «ثبت»، «بيّن»، «قدَّرَ» فقد تكون كلمة «قدَّرَ» بعنوان اللزوم تكون واجباً، وكلمة: «قدَّرَ» بعنوان الاستحباب تكون مستحبّاً، وعلى ذلك نبحث عن القرينة فإن وجدت قرينة على الوجوب، نحملها عليه. وإن وجدت قرينة على الاستحباب، نحملها على الاستحباب. وتكون هذه النظرية أقرب إلى الواقع بمقدارمّا.

ففي ما نحن فيه توجد قرينة على أنّ روايات: «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة»، تحمل على الاستحباب، وقرينتها هي «كلّفهم مرّة واحدة»، وهي نصّ على الوجوب، ونتصرّف بها في روايات الظهور، ونحملها على الاستحباب.

إشكال المحقّق الوالد(رحمه‏‌‌الله) على هذا الجمع

بقي إشكال على هذا الطريق الثالث للجمع، وهو أنّ في صحيحة عليّ بن جعفر عن الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام): «إنّ اللّه‏ فرض الحج على أهل الجدة في كلّ عام» يقول الإمام: وذلك قوله تعالى: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ». فإن حمل الفرض على الاستحباب فلا معنى للاستشهاد بالآية أو التفسير.

توضيح ذلك: من المسلّم أنّ الآية الشريفة تدلّ صريحاً على الوجوب، وهذا واضح لا شكّ فيه، فكيف يمكن حمل هذه الجملة «إنّ اللّه‏ فرضَ» على الاستحباب، والحال أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) استشهد بالآية الشريفة؟[50]

وبالنتيجة، هذا الطريق الثالث كالطريق الثاني لوجه الجمع ليس جيداً، بما فيه من الإشكال، ولا نقبله.

4 . الوجه الرابع للجمع: الوجوب البدلي

الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) سلك هذا الطريق الرابع للجمع في التهذيب[51]، واستحسنه العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) في التذكرة، وهو حمل روايات أهل الجدة (الطائفة الثانية) على الوجوب البدلي، يعني إن حججت فبها، وإلاّ فاذهب السنة القادمة، وإلاّ السنة الثالثة، وإلاّ السنة الرابعة.

لأنّه يمكن أن يقول شخص: إنّي كنت مستطيعاً ولم أحجّ فعصيت، وأثر ذلك سقط عنّي التكليف، (لأنّ التكليف يسقط بسبب العصيان كما يسقط بسبب الامتثال).

ولا يخفى أنّ هذه الروايات جاءت لدفع هذا التوهّم، فإن عصيت ولم تذهب إلى الحجّ فاذهب السنة القادمة.

وعلى ذلك، فأهل الجدة هم الذين قالت لهم الآية الشريفة: «... مَنِ اسْتَطَاعَ...»، ولكن «في كلّ عامّ على سبيل البدلية»، إن وفّقت هذه السّنة فبها، وإلاّ إن عصيت ولم تذهب إلى الحجّ ففي السنة القادمة، وهكذا حتّى تحجّ.

إشكال المحقق الخوئي والوالد المعظم على الطريق الرابع للجمع

أشكل المحقق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) على هذا الطريق في كتاب المعتمد طبقاً لمبناه الاُصولي وقال:

إنّ الوجوب البدلي بهذا المعنى ممّا يقتضيه طبع كلّ واجب، ولا يحتاج إلى أن يبيّنه الإمام(عليه‏‌‌السلام)فإنّ الواجب يجب الإتيان به متى أمكن، فإن عصى ولم يأت به في الآن الأوّل يجب امتثاله في الآن الثاني، وهكذا، والعصيان في الزمان الأوّل لا يوجب سقوط الوجوب ولزوم الإتيان به في الزمان الثاني[52].

وقال:
... ولا يخفى بُعده، لأنّه خلاف ظاهر قوله: «فرض اللّه‏ الحجّ على أهل الجدة»، أو صريحه خصوصاً بعد استشهاده(عليه‏‌‌السلام) بالآية الكريمة. وقد جوّز حملها على إرادة الوجوب على البدل، بمعنى أنّه يجب عليه الحجّ في السنة الاُولى، وإذا تركه يجب عليه في الثانية، وهكذا. وهذا بعيد أيضاً، فإنّ الوجوب البدلي بهذا المعنى من طبع كلّ واجب، فانّ الواجب يجب الإتيان به متى أمكن، ويجب تفريغ الذمّة عنه، ولا يسقط الواجب بالعصيان[53].

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال غير تامّ، لأنّه مبنائي، ولذلك قال بعض الفقهاء والاُصوليّين بأنّه كما يسقط التكليف بالإمتثال يسقط بالعصيان أيضاً، ويقولون: إن عصى المستطيع ولم يحجّ ثمّ سقطت عنه الاستطاعة، لا يجب عليه الحجّ حينئذٍ طبقاً للقاعدة، إلاّ إذا وجد الاستطاعة ثانية فيجب عليه الحجّ بالتكليف الجديد، فلا وجه أن نقول بأنّ الحجّ واجب عليه.

والوالد المعظّم(رحمه‏‌‌الله) أشكل أيضاً على هذا الطريق وقال:

إنّ المراد من «كلّ عامّ» في الرواية التي أشير إليها أنّ فرض الحجّ على أهل الجدة إنّما يكون على سبيل القضية الحقيقية لا القضية الخارجية بمعنى أنّ وجوب الحجّ لا يختصّ بزمان نزول الآية بل هو حكم ثابت الى يوم القيامة على المستطيع، فليس المراد أنّ المستطيع يجب عليه الحجّ في كلّ عام، بل المراد ثبوت الحكم إلى يوم القيامة، ويؤيّد هذا الوجه بل يدلّ عليه التأمّل في الرواية المزبورة، فإنّه قد وقع فيها الاستشهاد لفرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام بقوله تعالى: «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، مع أنّ مقتضى الاستشهاد الاستناد إلى ظاهر الآية وما كان يفهمه أهل العرف منها، لأنّه لا معنى للاستشهاد بتفسير الآية الذي يكون على خلاف ظاهرها، ومن المعلوم عدم دلالة الآية على الوجوب في كلّ عام بمعناه الظاهر الذي ينسبق إلى الذهن ابتداءً، فالجمع بين التعرّض لهذه الجهة وبين عدم دلالة الآية بالظهور على ذلك يقتضي الحمل على معنى يستفاد من ظاهر الآية، وهو ليس إلاّ ما ذكرنا من كون المراد به هي القضية الحقيقية التي هي ظاهر الآية أيضاً فتدبر جيداً[54].

الإشكال على الطريق الرابع للجمع (الوجوب البدلي): ان عصى المكلّف ولم يحجّ فيجب عليه الحجّ في السنة القادمة، والعصيان ليس مسقطاً للتكليف، بمعنى أنّه إن فقد المال والاستطاعة للحجّ (لزم عليه بيع داره ان كان له دار)، فيجب عليه أن يحجّ. وهذا هو الإشكال الأصلي.

ولا يخفى أنّه ليس فيما نحن فيه مكان للوجوب البدلي، لأنّ المكلّف إن استطاع في هذا العامّ يجب عليه الحجّ، فان لم يحجّ فقد عصى، ويجب عليه الحجّ في العام القابل إن بقيت الاستطاعة، وأمّا إذا لم تبق الاستطاعة فلا معنى للوجوب البدلي؛ لأنّه كان ذلك الواجب على سبيل البدلية.

ببيان آخر: إذا حملنا جملة «في كلّ عام» الموجودة في الروايات «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام»[55]، على الحجّ البدلي، وجب عليهم الحجّ في كلّ عام وإن لم يكونوا من أهل الجدة (يعني لم يكونوا مستطيعين!). والروايات ظاهرة في أنّ الحجّ وجب عليهم إذا كانوا مستطيعين.

توضيح ذلك: إنّ لأهل الجدة موضوعية في الروايات، لأنّنا نعلم أنّ الشارع طلب الحجّ من شخص مستطيع ومن أهل الجدة، ولم يطلب الحجّ بدلياً أو كفائياً. فمن قال بالحجّ البدلي هكذا يقول إذا كان المكلّف مستطيعاً ولم يحجّ، ففي السنة القادمة وجب عليه الحجّ وإن لم يكن مستطيعاً!

وعلى ذلك فإنّ لأهل الجدة عنواناً موضوعياً في الروايات، فمن أراد الجمع لا يصحّ له أن يقول بأنّ الحجّ ههنا صلاة أو زكاة (لأنّه لم يقبله العرف). ويحفظ هذا العنوان ويتصرّف في «كلّ عام»؛ لأنّ من قال بالحجّ البدلي لابدّ وأن يقول: إذا كان المكلف مستطيعاً ولم يحجّ، ففي السنة القادمة وجب عليه الحجّ وإن لم يكن مستطيعاً!

اللهمّ إلاّ أن يقال: انّ الفقهاء لم يفتوا بالحجّ الخيالي البدلي، كما لم يفت الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) والعلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) ، بل توجد هناك فتوى مسلّمة أنّه إذا كان المكلّف مستطيعاً ولم يحجّ، ففي السنة القادمة وجب عليه الحجّ وإن لم يكن مستطيعاً، وهذا خلاف الفرض، فالاستطاعة إن كانت موجودة في السنة الثانية يترتّب وجوب جديد، وإلاّ فالطريق الوحيد هو الوجوب البدلي.

والملخّص: أنّ هذا الطريق (الوجوب البدلي) تحميل على الروايات، فلزم حفظ عنوان «أهل الجدة»، كما يلزم حفظ عنوان «الحجّ»، وحفظ هذين العنوانين لا يتلائم مع الوجوب البدلي.

قلت: هذا الإشكال من أهمّ الإشكالات على الوجوب البدلي، وأمّا إشكال المحقق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) فمبنائي، لأنّه يقول بأنّ العصيان غير مسقط للتكليف، وكثير من الفقهاء قائلون بأنّه مسقط.

وأمّا إشكال الوالد المعظّم(رحمه‏‌‌الله)، فهو جيّد؛ لأنّ الجمع بين شيئين يلزم أن يكون مقبولاً عند العقلاء والوجوب البدلي غير مقبول عندهم، لأنّه يحتاج إلى مؤونة زائدة خاصّة[56].

5. الوجه الخامس للجمع: طريق المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله)

سلك المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) طريقاً آخر للجمع وقال:

نعم، يظهر من بعض الأخبار وجوبه على أهل الجدة في كلّ عام، كخبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهماالسلام: «إنّ اللّه‏ تعالى فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام وذلك قول اللّه‏ عزّ وجلّ: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَاِنَّ اللّه‏َ غَنِى عَنِ الْعَالَمِينَ»، قال: قلت: من لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر»[57]. وقد حمل على الوجوب على البدل بمعنى أنّ من وجب عليه الحجّ فلم يفعل في السنة الاُولى وجب عليه في الثانية، وهكذا في كلّ عام، أو الندب أو تأكّده، ولا يبعد أن يكون نظير «فَاغْسِلوُا وُجُوهَكُمْ»[58]، من باب تلاقي الجمع بالجمع، فلا يجب على كلّ أحد من أهل الجدة الحجّ في كلّ عام، كما لا يجب على كلّ واحد غير غسل وجهه للوضوء[59].

فالمحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) يقول بأنّ روايات أهل الجدة تكون من قبيل تلاقي الجمع بالجمع، فمعنى: «إنّ اللّه‏ فرضَ الحجَّ على أهل الجدة» يعنى: «على كلّ مستطيعٍ في كلّ عام، فلايكون معناه أنّ لكلّ مستطيع أن يحجَّ كلّ عام. وبالنتيجة يرفع إشكال التعارض بين روايات أهل الجدة و روايات «مرّةً واحدة».

التحقيق في كلام المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله)

والذي يخطر بالبال أنّ كلامه(رحمه‏‌‌الله) غير تامّ، لأنّ نتيجة تلاقي الجمع بالجمع هي وجوب الحجّ على المستطيعين في عام استطاعتهم، فالحجّ غير واجب لشخص حينما وجب الحجّ على شخص آخر من المستطيعين ولا يفهم من ذلك «مرّة واحدة» قطعاً، وعلى قول المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) فلو استطاع شخص عشر سنوات فيجب عليه الحجّ عشر مرّات طبق هذا القول؛ كما أنّ غسل الوجه لشخص آخر في الوضوء غير مرتبط بمن يتوضّأ ويغسل وجه نفسه، فالإشكال باقٍ، ولم يرفع ذلك بسبب هذا الطريق من الجمع.

6. الوجه السادس للجمع: طريق الوالد المعظّم(رحمه‏‌‌الله)

سلك الاُستاذ الوالد المعظّم(رحمه‏‌‌الله) طريقاً سادساً وهو:

إنّ المراد من «كلّ عام» في الرواية التي أشير إليها أنّ فرض الحجّ على أهل الجدة إنّما يكون على سبيل القضية الحقيقية لا القضية الخارجية، بمعنى أنّ وجوب الحجّ لا يختص بزمان نزول الآية، بل هو حكم ثابت إلى يوم القيامة على المستطيع، فليس المراد أنّ المستطيع يجب عليه الحجّ في كلّ عام، بل المراد ثبوت الحكم إلى يوم القيامة ويؤيّد هذا الوجه بل يدلّ عليه التأمّل في الرواية المزبورة فإنّه قد وقع فيها الاستشهاد لفرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام بقوله تعالى : «وللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...»، مع أنّ مقتضى الاستشهاد الإستناد الى ظاهر الآية، وما كان يفهمه أهل العرف منها لأنّه لا معنى للاستشهاد بتفسير الآية الذي يكون على خلاف ظاهرها، ومن المعلوم عدم دلالة الآية على الوجوب في كلّ عام بمعناه الظاهر الذي ينسبق إلى الذهن ابتداءً، فالجمع بين التعرّض لهذه الجهة وبين عدم دلالة الآية بالظهور على ذلك يقتضي الحمل على معنى يستفاد من ظاهر الآية، وهو ليس إلاّ ما ذكرنا من كون المراد به هي القضية الحقيقية التي هي ظاهر الآية أيضاً، فتدبّر جيّداً[60].

إنّه(رحمه‏‌‌الله) ذكر شاهدين ومؤيّدين على قوله: المؤيد الأوّل: إنّ الإمام(رحمه‏‌‌الله) تمسّك بالآية الشريفة «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...»، وجعل «في كلّ عام»، تفسيراً لها، واستشهد بها بأنّ العرف يفهم أنّ هذا الحكم باق إلى يوم القيامة.

المؤيّد الثاني: جاء في بعض الروايات حينما حجّ رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قال له سراقة بن مالك بن خثعم الكناني: يا رسول اللّه‏ علمنا ديننا، كأنّما خلقنا اليوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟ فقال له رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) «بل هو للأبد إلى يوم القيامة. ثم شبّك أصابعه بعضها إلى بعض، وقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة»[61].

التحقيق في الطريق السادس للجمع

لهذا الجمع يوجد مبعّد واحد فقط وهو: إنّ الناس قد علموا في زمان الإمامين الصادق والكاظم(رحمه‏‌‌الله) بأنّ الحجّ واجب إلى يوم القيامة؛ نعم ربما لم يعلم ذلك في عصر رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ولذا سئل سراقة بن مالك عنه(رحمه‏‌‌الله)، ولكن لم يكن هذا التوهّم في زمانهما عليهماالسلام .

فإن أجيب عن هذا الإشكال، يمكن قبول هذا الجمع بين الطائفتين من الروايات، وإلاّ فلا.

خاتمة

قلت: قد بينّا ستة طرق للجمع بين الطائفتين من الروايات، (وجوب الحجّ مرّةً واحدة، ووجوبه لأهل الجدة في كلّ عام). وقد وردت إشكالات على الطريق الأوّل (الواجب الكفائي)، يمكن الدفاع عنه، وقد أيّد صاحب الوسائل، وكذلك صاحب الحدائق والسيد اليزدي رحمهم‏الله هذا الجمع، ونحن نؤيّده أيضاً.

وعلى ذلك لكلّ مستطيع وجوب عيني طول عمره، ووجوب كفائي للحجّ أيضاً كان ملاكه عدم خلوّ البيت من الحاجّ، وتحمل روايات: «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام» على هذا الوجوب الكفائي.

ثمّ ينتج بأنّه لا يستفاد من الآية الشريفة «وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...»[62]، إلاّ وجوب عيني واحد، مع قطع النظر عن روايات: «مرّةً واحدة طول العمر». ولكن مع التوجّه إلى خبرين معتبرين لابدّ وأن نقول بتوسعتين هنا:

التوسعة الاُولى: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال: «الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان»[63]، وللآية ظهور في الحجّ فقط، وقد بيّن الإمام(عليه‏‌‌السلام) لجميع الناس كمفسّر للآية الشريفة أنّ الحجّ والعمرة كليهما مفروضان.

التوسعة الثانية: في خبر موسى بن جعفر عليهماالسلام أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قد قال ابتداءً: «إنّ اللّه‏ فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام»، ثمّ قال: وذلك قوله: «وَللّه‏ِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...». فمع التأمّل في أخبار الباب يبدو أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) في مقام التفسير يقول: انتبهوا إلى أنّ في الآية وجوبين، وجوب عينيٌ ووجوب كفائيٌ لأهل الجدة، وتقول الروايات الاُخرى بأنّه يشترط لهذا الوجوب الكفائي خلوّ البيت.

وبالنتيجة، هذا الطريق للجمع تامّ لا غبار عليه و أمّا الإشكالان:

1. إشكال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) بأنّ أخبار أهل الجدة مختصّة لهم، وأخبار خلوّ البيت غير مرتبط لأهل الجدة.

فقلنا بتقييد أخبار أهل الجدة في جواب هذا الإشكال.

2. وأمّا الإشكال الثاني: إنّ الوجوب الكفائي لا يساعد مع خبر موسى بن جعفر عليهماالسلام، لأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) استشهد بالآية: «وَللّه‏ِِ عَلىَ النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...»، واستدلّ بها على الوجوب العيني للحجّ وكان الإجماع عليه.

فقد أجبنا نعم، يستفاد الوجوب العيني منها اجماعاً، ولكنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال بالوجوب الكفائي أيضاً إضافة إلى الوجوب العيني.

وعلى ذلك، فالجمع الأوّل بين الطائفتين من الأخبار هو الطريق الذي سلكه صاحب الوسائل(رحمه‏‌‌الله) وتبعه صاحب الحدائق(رحمه‏‌‌الله) والسيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله) أيضاً، بأنّ «مرّة واحدة» مربوط بالوجوب العيني، و«يجب على أهل الجدة في كلّ عام» مربوط بالوجوب الكفائي، ونحن نويّد ذلك أيضاً.

 ---------------------------------
[1] علل الشرائع 2: 405 ب141 ذح5.

[2] سورة آل عمران 3: 97.

[3] جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام 17: 220.

[4] «جاء هذا الحديث هكذا والذي اعتمده وأفتي به أنّ الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام فريضة» علل الشرائع 2: 404 ـ 405، ح5.

[5] العروة الوثقى 2: 419.

[6] مستمسك العروة الوثقى 10: 5.

[7] منتهى المطلب في تحقيق المذهب 10: 17.

[8] المجموع 7: 9.

[9] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 17: 220.

[10] سورة آل عمران 3: 97.

[11] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 14.

[12] المحاسن: 296، ح 465؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 19، ح14135.

[13] علل الشرائع: 273؛ عيون أخبار الرضا(عليه‏‌‌السلام) 2: 90؛ وعنهما وسائل الشيعة 11: 20، ح14136 ـ 2.

[14] علل الشرائع: 405؛ عيون أخبار الرضا(عليه‏‌‌السلام) 2: 120؛ وعنهما وسائل الشيعة 11: 20، ح14137 ـ 2.

[15] الفقيه 4: 523.

[16] الكافي 4: 265 ح5؛ التهذيب 5: 16 ح 48؛ الاستبصار 2: 149 ح488؛ عنها وسائل الشيعة 11: 16، ح14128 ـ 1.

[17] الكافي 4: 266 ح9؛ عنه وسائل الشيعة 11: 17، ح 14129 ـ 2.

[18] الكافي 4: 266 ح8، والتهذيب 5: 16 ح47، والاستبصار 2: 148، ح487؛ وعنها وسائل الشيعة 17: 11، ح14131 ـ 4.

[19] الفقيه 1: 3 ـ 2.

[20] العروة الوثقى 4: 343.

[21] وسائل الشيعة 11: 20.

[22] الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 14: 22.

[23] العروة الوثقى 2: 419.

[24] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 17: 222.

[25] نهج البلاغة: 362، رسالة رقم 47؛ عنه وسائل الشيعة 11: 23، ح14147 ـ 10.

[26] الكافي 4: 270، ح3؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 21، ح 14139 ـ 2.

[27] الكافي 4: 271، ح4؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 21، ح 14142 ـ 5.

[28] روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه 4: 132.

[29] الكافي 4: 271، ح2؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 21، ح 14140 ـ 3.

[30] الفقيه 2: 259 ح1259، الكافي 4: 272 ح1، تهذيب الأحكام 5: 441 ح1532، وعنها وسائل الشيعة 11: 24 ح14149 ـ 2.

[31] الكافي 4: 272، ح2؛ وعنه وسائل الشيعة 11 :24، ح 14148 ـ 1.

[32] الفقيه 2: 420، ح2861؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 24، ح 14149 ـ 2.

[33] وسائل الشيعة 11: 16 و19، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه، عنوان باب 2 و 3.

[34] الكافي 4: 271، ح 2؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 21، ح 14140 ـ 3.

[35] جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 17: 222.

[36] سورة آل عمران 3: 97.

[37] الكافي 4: 265، ح1.

[38] سورة التوبة 9: 37.

[39] معتمد العروة الوثقى 1: 16.

[40] التفسير الرازي 16: 44.

[41] إنّ «النسيء» هنا هو الفعل بمعنى المصدر، لا الفعل بمعنى المفعول، فإن كان بمعنى المفعول يصير المعنى: إنّ نفس الشهر زيادة في الكفر، والحال ليس كذلك، بل المعنى: إنّ هذا التأخير (على صورة المعنى المصدري)، (زيادة في الكفر).

[42] سورة البقرة 2: 217.

[43] تفسير الميزان 9: 275 ـ 277.

[44] سورة التوبة 9: 37.

[45] معتمد العروة الوثقى 1: 16.

[46] «إنّ عِدَّةَ الشُّهُور عِنْدَ اللّه‏ِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كِتَابِ اللّه‏ِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أرْبَعَة حُرُمٌ...» سورة التوبة 9: 36.

[47] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 19 ـ 20.

[48] المستمسك في شرح العروة 10: 8.

[49] نكتة: يحمل «فرضَ» في الروايات بالمستحبّ المؤكد يعني هذا العمل الاستحبابي كان مهماً عند الشارع؛ قال المحقق في المعتبر: «ومعنى فرض: قدّر و بيّنَ لا بمعنى أوجبَ».

[50] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 18.

[51] تهذيب الأحكام 5: 16 ـ 17.

[52] المعتمد في شرح المناسك 3: 12.

[53] معتمد العروة الوثقى 1: 15.

[54] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 19.

[55] الكافي 4: 265، ح5؛ عنه وسائل الشيعة 11: 16، ح 14128 ـ 1.

[56] قلت: إذا كان التكليف مقيّداً بزمان، فالعصيان مسقط للتكليف. مثلاً؛ ان نذرت أن تصوم يوم الاثنين، فجاء ذلك اليوم ولم تصم، لم يقل فقيه بأن تصوم في الأسبوع القادم يوم الاثنين؛ لأنه سقط التكليف بالعصيان. وأما في باب الحج فنفس وجوب الحج مطلب، والمطلب الآخر وجوب الحجّ في هذه السنة. فان قلنا إنّ الحجّ واجب «في سنة الاستطاعة»، فمن استطاع ولم يحج، سقط عنه الحجّ، وفي السنة القادمة فإن استطاع جديداً وجب الحجّ عليه، فإن لم يستطع فمع العصيان يسقط عنه الحجّ».

[57] الكافي 4: 265، ح5؛ وعنه وسائل الشيعة 11: 16، ح14128 ـ 1.

[58] سورة المائدة 5: 6.

[59] جامع المدارك 2 : 254.

[60] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 19.

[61] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 20 ـ 21.

[62] سورة آل عمران 3: 97.

[63] الكافي 4: 265، ح1.


برچسب ها :