تغيير مقام النبيّ إبراهيم(عليه‌‌‏السلام)

۲۶ مهر ۱۳۹۳

۱۰:۴۱

۳۷

چکیده :
هل يجوز تغيير موضع مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)من هذا الموضع الراهن الذي يبعد عن البيت الحرام (الكعبة) مسافة ثلاثة عشر متراً ونصف المتر (ستّة وعشرين ذراعاً ونصف الذراع) أم لا يجوز ذلك؟
نشست های علمی

تغيير مقام النبيّ إبراهيم(عليه‌‌‏السلام)
محمد جواد الفاضل اللنکراني

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم
الحمد للّه‏ ربّ العالمين، وصلّى اللّه‏ على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين، ولعنة اللّه‏ على أعدائهم أجمعين

في مستهلّ كلامي أودّ أن أتقدّم بمباركة الذكرى الحادية والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية، وأيّام عشرة الفجر المباركة التي هي من النعم الإلهيّة الكبيرة على اُمّتنا الإسلاميّة وعلى شعبنا الإيرانيّ؛ أسأل اللّه‏ سبحانه وتعالى أن يديم فضله ولطفه على هذا الشعب المخلص، وأن يحفظ هذه الثورة عزيزة ومنيعة وقويّة، وأن تبقى هذه الثورة ثابتة على تحقيق الأهداف المقدّسة لسماحة الإمام الخميني (رضوان اللّه‏ تعالى عليه)، وهو ما لا يزال سماحة القائد آية اللّه‏ العظمى السيّد علي الخامنئي(دام ظلّه) يواصل العمل على تحقيقها بكلّ عزم وثبات.

كما أنّنا في هذه الأيّام نقترب من ذكرى ولادة السيّدة فاطمة الزهراء(عليهاالسلام)؛ فأسأل اللّه‏ تعالى أن يُتمّ بركة ذكرى ولادة هذه السيّدة على جميع المسلمين والبشرية جمعاء، كما أتمّها من قبل؛ وأن تحظى الحوزات العلمية، ولا سيّما الحوزة العلمية بقم المقدّسة، بمباركتها ومباركة خاصّة من كريمة أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام)السيّدة فاطمة المعصومة(عليهاالسلام).

إنّ السؤال المطروح في هذا البحث يقول: هل يجوز تغيير موضع مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)من هذا الموضع الراهن الذي يبعد عن البيت الحرام (الكعبة) مسافة ثلاثة عشر متراً ونصف المتر (ستّة وعشرين ذراعاً ونصف الذراع) أم لا يجوز ذلك؟

والبحث الهامّ يكمن في ناحيّة الحكم التكليفي، فهل يجوز تغيير موضع المقام شرعاً أم لا؟ فهل يمكن نقل مقام إبراهيم إلى الخلف مسافة عشرة أمتار، أم تحويله إلى مكان آخر؟ واذا كان هذا التغيير جائزاً، فما هي حدود هذا الجواز؟ فهل يقتصر الجواز على هذه الناحية من البيت حيث يقع مقام إبراهيم في الجهة الشرقية، أم لا فرق في ذلك، ويمكن نقله إلى الناحية الغربية، أو أيّ جهة اُخرى؟ وعلى فرض الجواز أيضاً، هل يمكن إدخال المقام إلى جوف الكعبة أم يجب أن يبقى خارجها؟

انّ بحثنا في هذه الجلسة سوف يقتصر على مجرّد الحديث حول هذا الحكم التكليفي؛ والذي يمكن النظر إليه وبحثه ومناقشته من زاويتين:

الزاوية الاُولى: ما الذي تقتضيه الأدلّة الأوّلية في هذه المسألة؟

الزاوية الثانية: ما هو مقتضى الأدلّة الثانوية، مثل: الحرج، والاضطرار، وازدحام الحشود، وما إلى ذلك في هذا الشأن؟

والمسألة الثانية هي الطواف؛ بمعني: لو تغيّر مكان مقام إبراهيم، هل سوف يتغيّر المطاف تبعاً لذلك أم لا؟ طبقاً للمشهور يجب أن يقع الطواف بين البيت والمقام، فاذا تمّ تغيير موضع المقام، هل سوف يتغيّر المَطاف أم لا؟

طبقاً للقول المشهور: إنّ المطاف يُقدّر بثلاثة عشر متراً ونصف المتر، سواء أكان المقام في موضعه أم تغيّر، كما يتمّ تحديد مساحة المطاف بهذا المقدار حتّى في الأماكن الاُخرى البعيدة عن المقام.

والمسألة الثالثة صلاة الطواف؛ فلو تمّ تغيير موضع المقام؛ فحيث يجب أن تؤدّى صلاة الطواف خلف مقام إبراهيم، فهل يبقى وجوب الإتيان بصلاة الطواف إلى جوار المقام، أو خلفه حيثما كان، أم الملاك على كلّ حال هو المسافة السابقة التي تقدّر بثلاثة عشر متراً ونصف المتر، حتّى وان تمّ نقل المقام إلى مكان آخر؟

هذه هي المسائل الثلاثة الهامّة، المطروحة بشأن تغيير مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، وبحثنا في هذه الجلسة يقوم الآن حول الحكم التكليفي لهذه المسألة؛ فهل يجوز نقل مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) من المواضع الراهن ووضعه في مكان آخر أم لا؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال يجب علينا أن نعمل على بيان وشرح مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام). فماذا يعني مقام إبراهيم؟ ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى بيان تاريخ هذا المقام.

وهناك نقطة تخصّ مفردة «المَقام»، و«المُقام»؛ إن المَقام ـ بفتح الميم ـ يُطلق على مكان القيام، وأمّا المُقام ـ بضمّ الميم ـ فيُطلق على مكان الإقامة، وهناك فرق بين الأمرين. طبقاً للقول المشهور والقريب من الإجماع: إنّه أثناء بناء الكعبة وعندما بلغ ارتفاع البيت مقدار قامة إبراهيم وإسماعيل(عليهماالسلام)، أنزل اللّه‏ تبارك وتعالى هذه الصخرة من الجنّة، فكان إبراهيم يقف عليها، وكان إسماعيل يناوله الحجارة ليصفّها النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) فوق بعضها؛ ومن هنا أطلق على هذا الموضع عنوان المقام. أو أنّ ذلك من باب أنّ النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) وقف على هذه الصخرة، واُمِرَ بابلاغ هذه الآية الكريمة: «وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يأْتُوكَ رِجَالاً...».[1] وهناك من احتمل أن يكون مقام إبراهيم هو المسجد الحرام. واحتمل آخرون أن يكون المقام هو عرفة والمزدلفة والمشعر والحرم، وهي احتمالات ضعيفة جدّاً، ولا يمكن الالتفات إليها.

وانّ المراد من مقام إبراهيم، في قوله تعالى: «فِيهِ آيَات بَيِّنَات مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»،[2] وقوله تعالى: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلى»[3] هو تلك الصخرة، وحتّى موضعها من ذلك المكان من المسجد الحرام ليس له عنوان مقام إبراهيم.

بعد اتّضاح المعنى المراد من المقام، نقول: هل يمكن نقل هذه الصخرة من موضعها الراهن إلى الوراء بمقدار عشرة أمتار، أو وضعها في مكان آخر من المسجد الحرام، أم لا؟

فيما يتعلّق بتاريخ موضع هذا المقام منذ عصر النّبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، هناك خمسة آراء في المصادر الروائية والتاريخية والتفسيرية والفقهيّة لدى أهل السنّة، وفي المقابل، هناك ستّة آراء في المصادر التاريخية والروائية عند الإماميّة، وانّ التعرّف على هذه الآراء يساعدنا كثيراً في الوصول إلى نتيجة هذا البحث.

آراء أهل السنّة في هذا الشأن

1 . قال الأزرقي في كتابه «تاريخ مكّة»:

كان موضع المقام في الجاهلية وفي عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وفي زمن خلافة الخليفة الأوّل في موضعه الراهن، حتّى جاء سيل في عصر الخليفة الثاني يُقال له «سيل اُمّ نهشل» وألصق المقام بجدار الكعبة؛ فسأل الخليفة الثاني شيوخ مكّة عمّا إذا كانوا يعرفون أين كان موضع المقام من البيت الحرام والكعبة المشرّفة؟ فقال بعضهم: عندنا خيوط كنّا نقيس بها المسافة بين البيت والمقام؛ فجاؤوا بتلك الخيوط والحبال؛ فأعاد الخليفة الثاني المقام إلى موضعه حيث كان في عصر الجاهلية وعصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والخليفة الأوّل، اعتماداً على تلك الحبال والخيوط[4].

2 . طبقاً لرواية سفيان بن عيينة[5]، قالوا: إنّ المقام ـ في عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وخلافة الخليفة الأوّل، وبداية خلافة الخليفة الثاني ـ كان قريباً ومُلحقاً بالبيت، وليس لصيقاً به، وربما كانت المسافة بينه وبين البيت بمقدار مجاز لشخص أو بهيمة. ثمّ كان الخليفة الثاني هو أوّل من عمد إلى نقل المقام إلى موضعه الراهن. وبعد حدوث سيل اُمّ نهشل قام الخليفة بنقل المقام من جوار الكعبة إلى موضعه الراهن مرّة ثانية.

3 . جاء في تاريخ الطبري:

كان المقام حتّى السنة الثامنة عشرة للهجرة ملاصقاً للبيت وقريباً منه، ثمّ عمد الخليفة الثاني إلى تغيير موضعه.

دون أن يؤتى على ذكر حادثه سيل اُمّ نهشل، أو غيره[6].

4 . كان المقام في العصر الجاهلي لصيقاً بالبيت، ثمّ أمر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)عند فتح مكّة بنقل المقام إلى موضعه الراهن[7].

وفي هذا القول الرابع لم يرد ذكر للسيل أيضاً، وانّما هناك مجرّد حديث عن وجود المقام داخل الكعبة في العصر الجاهلي. وهناك بعض النصوص التاريخية تقول إنّ النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) بعد بناء البيت وضع هذا المقام داخل الكعبة[8]. وتقول بعض التواريخ إنّه وضعه خارجه[9]. وعلى كلّ حال، فانّ الرأي الرابع يقول: إنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو من وضع المقام في موضعه الراهن بعد فتح مكّة.

5 . جاء في المدوّنة الكبرى:

إنّ المقام كان منذ عصر النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) إلى أواخر العصر الجاهلي في موضعه الراهن، ثمّ حدث في أواخر العصر الجاهلي وقبيل ظهور الإسلام لصقوه بالكعبة. وبقي لصيق الكعبة مدّة حياة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والخليفة الأوّل، ثمّ رأى الخليفة الثاني أن يعيده إلى موضعه الذي كان في عصر النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، وهو ذات الموضع الحالي[10].

وطبقاً لهذا الرأي، لم يكن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) ملتفتاً إلى هذه المسألة، وانّما الخليفة الثاني هو من اتّخذ هذا القرار على عاتقه.

هذه هي الأقوال الخمسة الموجودة في مصادر أهل السنّة؛ والمشهور عندهم يقول: إنّ الروايات الصحيحة عندنا تدلّ على أنّ المقام كان قريباً ولصيقاً بالبيت، وانّ الخليفة الثاني هو الذي قام بالتغيير الأوّل لمكان المقام حيث هو موضعه الحالي، وذلك في السنة الثامنة عشر للهجرة. ولم يكن السبب الذي دعاه إلى ذلك هو حادثة السيل، وانّما هو شدّة الزحام والحرج الذي كان يعاني منه الحجيج عند الطواف؛ فعمد إلى وضع المقام حيث هو الآن، تسهيلاً لحركة الطائفين.

هذا هو القول المشهور بين أهل السنّة، وهو الذي اختاره صاحب كتاب «التاريخ القويم» أوّل الأمر، ثمّ عاد ليختار الرأي القائل بأنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو الذي وضع المقام في موضعه الحالي[11].

وعلى هذا الأساس، يمكن القول: إنّ من بين هذه الأقوال الخمسة هناك قولان لهما المحوريّة في البين؛ القول الأوّل: إنّ الخليفة الثاني هو الذي وضع المقام في موضعه الراهن. والقول الثاني: إنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو الذي قام بذلك.

وقد تمّ في الصفحة 315 من الجزء الثالث من كتاب «التاريخ القويم»، في مورد مكان المقام ذكر ثلاثة أزمنة؛ وأحد الأزمنة هو أنّ ذلك كان في عصر النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) نفسه، ويصل إلى نتيجة مفادها أنّ المتعارف هو أنّ النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) بعد إتمام بناء البيت، وضع هذا المقام داخل البيت، وبعد ذلك بما يقرب من ألفي عام من بقاء المقام داخل البيت، أخذ الطائفون يسألون عن المقام الذي كان يقف عليه النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، ويطلبون رؤية أثر قدم إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) عليه؛ فكانوا يُخرجون المقام، وكان الناس يمسحون عليه بأيديهم تبرّكاً وتشرّفاً، ثم يُعاد إلى موضعه داخل الكعبة.

وقال بعضهم: إنّ أثر أصابع قدم النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) كانت على المقام، ولم يعد الآن من أثر سوى للأقدام؛ حيث انمحت آثار الأصابع من فرط كثرة مسح الناس على الصخرة للتبرّك. وفي أواخر العصر الجاهلي تمّ إخراج المقام ووضعوه ملاصقاً لجدار الكعبة، ثمّ قالوا إنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أو الخليفة الثاني نقله من قرب الكعبة إلى موضعه الراهن.

قول الشيعة الإمامية

إنّ هذه المسألة تمثّل واحدة من النقاط الساطعة في روايات الإماميّة. حيث لا نرى في رواياتنا هذا التشتّت والفوضي الموجودة في روايات أهل السنّة بشأن تغيير موضع مقام النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)؛ الأمر الذي يُثبت مدى حرص الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)وأصحابهم الميامين، على حفظ الروايات. وأنّ أولئك الذين أخذوا يدّعون مؤخّراً أنّ أكثر روايات الشيعة عبارة عن إسرائيليات ـ للأسف الشديد ـ لا يمتلكون فهماً حقيقيّاً عن الفقه والروايات. لا يخفى على الخبير بالفقه والروايات مدى اهتمام أصحاب الأئمّة بالكلمات التي كانت تصدر عن الإمام(عليه‏‌‌السلام)؛ حيث كانوا يكتبون الرواية، ثمّ يعرضونها على الإمام(عليه‏‌‌السلام) ويقرأونها عليه ثانية[12]؛ فلم يكن الأمر بأن يقوم الأصحاب بعرض كتبهم على تلاميذهم، والقول لهم: هذه كتبنا، خذوها وانقلوا عنها ما شئتم! وانّما كان كلّ واحد منهم يقرأ الرواية على تلميذه، ويصبح شيخ روايته، مخافة أن يقرأ «واواً» على شكل «أو»، أو يُخطئ في قراءة كلمة. وعليه، كان يتمّ كلّ هذا التشدّد والاحتياط في نقل الأحاديث والروايات.

ومن ذلك ما نشاهده جليّاً فيما نحن فيه؛ حيث تدلّ رواياتنا على هذا المعنى. لقد كان هذا المقام في عصر إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) وفي العصر الجاهلي لصيقاً وقريباً من جدار البيت، وكان الكثير من الناس يمرّون أثناء الطواف بالحجر الأسود ليستلموه، كما كان الكثير من الحجيج يقفون أمام باب البيت، حيث هو محلّ إجابة الدعاء والتضرّع، وقد وردت فيه الكثير من الآداب. ثمّ كانوا يريدون بعد ذلك رؤية مقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)؛ فكانوا لذلك يتجمّعون هناك أيضاً.

وقد جاء في رواياتنا[13] أنّ قريشاً عمدت بعد ذلك إلى وضع المقام في موضعه الراهن. وبعد فتح مكّة حيث اطمأنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إلى استتباب الاُمور، أمر باعادة المقام إلى موضعه السابق ملاصقاً للبيت، وبقي المقام هكذا مدّة حياة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والخليفة الأوّل قريباً من جدار الكعبة، حتّى قال الخليفة الثاني في السنة الثامنة عشر للهجرة: أين كان موضع المقام في عصر جاهلية قريش؟ فقال بعض شيوخ مكّة: عندنا خيوط وحبال تحدّد موضعه من البيت. وعلى أساس ذلك، أمر بإعادة المقام إلى موضعه السابق.

وظاهر رواياتنا أنّه لم يكن للسيل أيّ دخل في هذا التغيير، بل كان الأمر مجرّد إحياء للسنّة الجاهليّة بل ويُستفاد من رواياتنا أنّه لم تكن في البيت حتّى مسألة اضطرار وضرورة، أو حرج؛ إذ لا يمكن أن تكون أعداد الحُجّاج قد تضاعفت إلى هذا المستوى من الكثرة منذ عصر النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والخليفة الأوّل إلى حين حلول السنة الثامنة عشر للهجرة، حتّى لا يعود بمقدورهم أداء الطواف، ويحتاجون معه إلى نقل المقام إلى موضع آخر؟! كما يُستفاد من رواياتنا أنّ عمر بن الخطاب كان يرى أنّ من حقّه بوصفه خليفة فعل ذلك، وقد قام بذلك من هذا المنطلق.

بعد اتّضاح المراد من «المقام» وجذوره التاريخية من الناحيّة الصناعية، يقع السؤال عمّا يقتضيه الأصل الأوّلي في هذه المسألة؟ وهذه واحدة من خصائص الاُسلوب والمنهج الاجتهادي للشيخ الأنصاري الذي تعلّمناه من كبار علماء الفقه والاُصول. وبطبيعة الحال، يمكن العثور على هذا المنهج في كلمات العلماء المتقدّمين على الشيخ الأنصاري، بيد أنّ الشيخ قد أكّد عليها، وأرسى قواعدها.

فما هو الأصل الأوّلي؟ إنّ الأصل يعني أنّنا ـ بغض النظر عن الآيات والروايات ـ لو شككنا في توقيفيّة المقام من الناحيّة الشرعيّة، ولم نعلم أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى هل حدّد مكاناً وموضعاً معيّناً لهذه الصخرة أم لا؟ إنّ الأصل هنا ـ من ناحيّة ـ هو عدم التعيّن، ولكن قد يتعارض هذا الأصل مع ظاهر، وهذا الظاهر يقول: هل يمكن الالتزام بأنّ  اللّه‏ تبارك وتعالى قد أنزل صخرة من الجنّة باسم مقام النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، دون أن يحدّد لها موضعاً، بحيث لم يكن موضعها محدّداً لا في زمن النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)ولا في زمن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)! إنّ ظاهر هذا البيت [الكعبة] وأعمال ومناسك الحجّ ووجود المقام هناك، أن يكون هناك موضع محدّد لهذا المقام.

ولذلك، فانّنا لو أردنا بيان مسألة الأصل؛ فإنّ الأصل يقتضي عدم التعيين، خلافاً للظاهر الذي يقتضي التعيين؛ كأن يقال ـ دون تشبيه ـ مثلاً: لو أنّ شخصاً بنى بيتاً ثمّ جلب جهازاً في غاية الأهميّة لهذا المبنى، دون أن يحدّد له موضعاً ومكاناً من ذلك البيت، سيكون هذا على خلاف الظاهر. فانّ الظاهر في مثل هذه الموارد هو أن يحدّد لذلك الجهاز موضعاً من البيت، لا سيّما إذا كان ذلك الشيء مقدّساً، وفي مسألة مثل الحجّ الذي هو من أركان المسلمين.

ولذلك، فإنّ التعارض يقع هنا بين الأصل والظاهر، والظاهر مقدّم على الأصل.

وقد يطرح أحد مسألة الدوران بين التعيين والتخيير؛ بأن يقول: نحن لا نعلم هل حدّد الشارع المقدس موضعاً للمقام أم لا؟ وأنّه ربّما أراد أن يترك الخيار لنا في تحديد موضوع المقام.

ينقسم العلماء في مسألة الدوران بين التعيين والتخيير، ما بين من يذهب إلى القول بأصالة البراءة، ومن يقول بأصالة الاشتغال؛ حيث يذهب القائلون بالبراءة إلى التخيير، بينما يذهب القائلون بالاشتغال إلى التعيين. غاية ما هنالك أنّ النقطة التي تُثار هنا، هي أنّ الدوران بين التعيين والتخيير إنّما يكون حيث يصدر إنشاء من الشارع؛ ويتردّد الشخص في ما إذا كان متعلّق الحكم أمراً معيّناً أو أمراً مخيّراً، في حين هناك تردّد في البين في أصل إنشاء المكان، فهل هناك‏إنشاء ـ على سبيل المثال ـ بالنسبة إلى نصب كسوة وبُردة الكعبة أم لا؟

حيث يتمّ  هناك طرح هذه المسألة أيضاً؛ إذ نقول: لا يوجد أصل إنشائي في البين، بل حتّى بالنسبة إلى لون كساء الكعبة؛ إذ لم يكن لونها أسود دائماً، وانّما كان يتمّ اختيار اللون بتغيّر الحكومات. ففي هذه الموارد لا يكون بحث الدوران بين التعيين والتخيير مطروحاً؛ إذ لا نعلم ما إذا كان لدى الشارع إنشاء بشأن مكان المقام أم لا؟ نعم، لو كان لدى الشارع إنشاء للمكان دون أن نعرف ما إذا كان متعلّقه معيّناً، أم أنّه ترك ذلك لاختيارنا، عندها سيرد بحث الدوران بين التعيين والتخيير.

وعليه: فالمطروح من الناحيّة الاُصولية هو مسألة التعارض بين الأصل والظاهر. فلو قبل شخص الظاهر، فانّ الظاهر هنا مقدّم على الأصل، وبحسب الظاهر يجب أن نقول هناك للمقام موضع  مُحدّد. وأمّا إذا لم يقبل الظاهر، فالنتيجة بناء على الأصل الأوّلي هي عدم وجود موضع معيّن للمقام.

والآن علينا أن نبحث هذه المسألة من ناحيّة فقه الإماميّة، والموازين الاجتهادية في فقه الإماميّة، كما نبحثها من ناحية الموازين الاجتهادية في فقه العامّة. وفي البداية سوف نتعرّض إلى فقه الإماميّة، وان بقي شيء من الوقت انتقلنا إلى بحث فقه العامّة.

هناك في فقه الإماميّة كلام مأثور عن أمير  المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) وبضع روايات حول المقام. وهناك روايات بشأن ظهور المقام. ولتنقيح البحث يجب بحث ومناقشة جميع هذه الروايات. وقبل بيان الروايات يجب أن نرى ما الذي يُستفاد من الآيات الكريمة المرتبطة بمقام إبراهيم؟

هناك في القرآن الكريم آيتان في مورد مقام إبراهيم. إحداهما قوله تعالى: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلى»[14]. فهل تدلّ هذه الآية على أنّ لمقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)موضعاً معيّناً أم لا؟ إنّ اللّه‏ عزّ وجلّ يقول: يجب أن تكون صلاة الطواف بحيث يقوم مقام إبراهيم بينكم وبين البيت. وقد تمّ تفسير «من مقام إبراهيم»، بأن يُصلّى صلاة الطواف خلف مقام إبراهيم بينكم، وقد تقدّم أنّ المراد من مقام إبراهيم هو الصخرة نفسها، وليس موضعها.

وأمّا الآية الاُخرى، فهي قوله تعالى: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَات مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»[15]. فقد نزلت هذه الآية الكريمة على رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) حيث كان مقام إبراهيم قريباً وملصقاً بالبيت، حيث يبيّن اللّه‏ سبحانه وتعالى المساحة التي يمكن أداء صلاة فيها إلى جوار المقام أو خلفه؛ فلا يحقّ لشخص أن يصلّي في الجهة الغربية والجنوبية أو الشمالية من البيت. وعليه فإنّ شأن النزول ومدلول الآية لا دلالة فيه على تحديد موضع للمقام، كما لا دلالة فيه على عدم جواز تغيير موضعه.

إنّ قوله تعالى: «فِيهِ آيات بَينَات مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»، يعتبر مقام إبراهيم واحداً من مصاديق الآيات البيّنات، وليس في هذه الآية أيّ دلالة على تعيين موضوع ومكان المقام. إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يقول: إنّ مقام إبراهيم في هذا البيت من الآيات البيّنات؛ بمعنى أنّنا لو بقينا نحن وهذه الآية، فإنّه حتّى لو وضعنا مقام النّبي إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) خارج البيت كان ذلك صحيحاً؛ لأنّ مقام إبراهيم عنوان لذات هذه الصخرة؛ فحتّى لو تمّ نقل هذه الصخرة إلى تلك الجهة من العالَم، تبقي هي من الآيات البيّنات؛ لاحتوائها على أثر قدم النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) .

وعليه، لا يمكن لنا أن نستفيد من هاتين الآيتين ـ الواردتين حول مقام إبراهيم ـ أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد حدّد موضعاً لمقام إبراهيم؛ فالآية الاُولى التي تقول: اتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى حيثما كان، لا تقول: إنّ هذا هو موضعه الخاصّ الذي لا يجب نقله عنه. غاية ما هنالك إذا أراد شخص الاحتياط، نقول إنّ الشارع قد جعل مقام إبراهيم بوصف هذه الناحية التي يقع فيها ملاكاً، بمعنى أنّه يريد نفي الجهات الاُخرى، ونتيجة لذلك يمكن لجميع الجهة الشرقية أن تكون مقام إبراهيم، دون أن يكون هناك تحديد في إبقائه في موضعه الراهن، أو قريباً من البيت.

بل، ولا يمكن الاستفادة حتّى من مناسبة الحكم والموضوع، أنّ موضع المقام محدّد ومعيّن؛ لأنّ الشارع أراد إقامة الصلاة في الناحية الشرقية حيث الحجر الأسود وباب الكعبة ومقام إبراهيم، دون أن يكون لموضع المقام الملتصق بالبيت أو أبعد من ذلك بعشرة أمتار أو خمسة عشر متراً دخل في ذلك. كما أنّ الآية الثانية تذكر أنّ مقام إبراهيم من البيّنات، ولا صلة لها بتحديد موضع المقام.

وأمّا الروايات:

أوّل هذه الروايات كلام عن الإمام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)؛ مأثور في الكافي بسند الشيخ الكليني قدس‏سره على النحو الآتي: عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس الهلالي، وقد ضعّف الشيخ الطوسي أبان بن أبي عياش، وقال: «تابعي ضعيفٌ من أصحاب السجاد والباقر والصادق(عليهم‏‌‌السلام)»[16]، وقال ابن الغضائري: «ضعيفٌ لا يلتفت إليه». وأضاف قائلاً: إنّ أصحابنا يقولون إنّ مطالب كتاب سُليم بن قيس هي ذات أبان بن أبي عيّاش، حيث تبقى هذه الأبحاث السندية على حالها[17].

وأمّا نصّ هذه الرواية فهو كالآتي: بعد أن آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، قال:

قد عملت الولاة قبلي[18] أعمالاً خالفوا فيها رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته، ولو حملتُ الناس على تركها، وحوّلتها إلى مواضعها والى ما كانت في عهد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدتي. أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى المواضع  الذي وضعه فيه رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ ... إذن لتفرّقوا عنّي[19].

لو سرنا على المسلك المعروف القائل باعتبار السند، فإنّ في سلسلة سند هذا الحديث أبان بن أبي عيّاش، وهو ضعيف؛ إذن يجب التخلّي عن هذه الرواية. بيد أنّنا ذكرنا في أبحاث الفقه والاُصول: إنّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) لم يكونوا يؤكّدون في رواياتهم على الرجوع إلى الرجال. صحيح أنّه ورد في بعض الروايات السؤال عن الرواة، من قبيل: «يونس بن عبدالرحمن ثقة، آخذ عنه معالم ديني؟»[20]، بيد أنّ الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)أنفسهم عندما كانوا يُسألون عن اعتبار رواية ما، ويقال لهم: لو شككنا في رواية تردنا عنكم، ولا نعلم ما إذا كانت صادرة عنكم حقّاً أم لا، فما العمل؟[21] لم يقل الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام): عليكم النظر أوّلاً في رجالها؛ وانّما قالو: اعرضوها على كتاب اللّه‏ وسائر الأحاديث الاُخرى المأثورة عنّا، فإن طابقتها فهي صحيحة، وإلاّ فلا، حتّى إذا كان سندها صحيحاً.

وبطبيعة الحال، فإنّي أستفيد هذا الترقّي [بالقول: حتّى إذا كان سندها صحيحاً] من إطلاق الرواية، وهي رواية معروفة ترد في بحث التعارض بين الأخبار عن الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا(عليه‏‌‌السلام)، قال: «فقس على كتاب  اللّه‏ وسائر أحاديثنا»[22]. وعلى أساس هذه الضابطة فالإنصاف هو القول بأنّ هذا الكلام من أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) موافق لسائر أحاديث الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام)؛ فهناك الكثير من الروايات المأثورة عن الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) تقول إنّ الخلفاء قبل أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) قد بدلّوا الكثير من سنن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، حتّى قال الإمام الحسين(عليه‏‌‌السلام): «فإنّ السنّة قد اُميتت، وإنّ البدعة قد اُحييت»[23]. إنّ رواياتنا مشحونة بذكر مخالفات الخلفاء الثلاثة للقرآن الكريم وسُنّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، ومن هنا فإنّ الإشكال في السند لا يضرّ بصحّة متن هذه الرواية؛ فهو نصّ محكم، ومتطابق مع الروايات الاُخرى. بيد أنّ البحث الذي يرد هنا هو: هل كان ما قام به النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بعد فتح مكّة أمراً مُلزماً؟

وقع بحث بين علماء أهل السنّة في زمن الملك فيصل [بن عبد العزيز]، حول ما إذا كان تغيير موضع المقام جائزاً أم لا؟ وكان المقام في حينها محفوظاً داخل حجرة، وكان الناس يصلّون فيها، فصدر الأمر بإزالة جميع الزوائد من حول المقام، ووضع الحجر ضمن صندوق زجاجي لا يزال موجوداً إلى اليوم، بيد أنّهم قالوا بعدم جواز تغيير موضع المقام، وبعد ذلك بعقد ونصف من الزمن تقريباً صدرت فتوى عن رابطة العالم الإسلامي بجواز تغيير المقام، وقد انقسم العلماء في هذا الشأن إلى طائفتين، ومال كثير منهم إلى القول بجواز تغيير موضع المقام، وقال آخرون بعدم جواز ذلك، واستند القائلون بعدم الجواز إلى أنّ موضع المقام الراهن هو من تشريع النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وأنّ تغيير المقام كان من قبل النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)نفسه، وأنّه شيء يمثّل تشريعاً قام به النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) نفسه.

وبالمناسبة، فإنّ هذا الدليل يمثّل شاهداً على ما نذهب إليه من المبنى؛ إذ نعتقد كما أنّ اللّه‏ مشرّع، يمكن للرّسول(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أن يُشرّع أيضاً. وإنّ هذه الطائفة من علماء السنّة يؤمنون بتشريع الرسول أيضاً، ويُسمّون ما يشرّعه الرسول سُنّة، وما يُشرّعه اللّه‏ فريضة.

وهنا يكمن مفتاح حلّ البحث؛ فحيث لم نستطع استفادة التعيين من الأصل الأوّلي؛ إذ كان هناك ترديد في الظاهر أيضاً، والآيات بدورها لم تكن تشتمل على ما يدلّ على التعيين، يجب أن ننظر الآن في ما يقتضيه فعل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بعد فتح مكّة. فلو قلنا إنّ فعل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يشتمل على ما هو أوسع من الوجوب والاستحباب، ربما أراد النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) الحفاظ على تلك الجهات التي أرادها النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) من إلصاق المقام بالبيت، دون أن يكون ذلك متعيّناً.

كما أنّ كلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) حيث قال: «لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللّه‏[24] [بالقرب من جدار الكعبة]»، إنّما هو لإحياء آثار النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام).

والاحتمال الآخر أن يكون النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قام بتغيير موضع مقام إبراهيم من منطق التشريع؛ فلم يكن لهذا المقام في زمن النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) موضعاً خاصّاً لا داخل البيت ولا خارجه بما يحاذيه، ولكن عندما بُعث النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) كان يجب أن يحدّد موضع المقام بوصفه خاتم النبيين. لا يمكن القول بضرس قاطع إنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)قام بهذا الفعل لجهة إحياء آثار النبيّ إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) وأهمل تحديد موضع المقام. و عليه، فإنّ هذا الفعل من رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يدلّ على أنّ هذا الموضع هو الموضع الأصلي لمقام إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)، ولا يحقّ لأحد أن يغيّره.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الحكم بجواز تغيير موضع مقام إبراهيم أو عدم تغييره، رهن بدقّة نظر الفقيه، وما يستظهره من هذه العبارات. فلو شككنا في أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قام بهذا الفعل على نحو الوجوب، كان الأصل هو عدم الوجوب، كما يمكن القول بأنّ لهذا الفعل ظهوراً في الوجوب؛ لأنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) كان مشرّعاً أيضاً. فحتّى إذا لم يكن اللّه‏ تبارك وتعالى قد بيّن موضعاً محدّداً لمقام إبراهيم، بيد أنّه مثل سائر التشريعات التي لم يتحدّث عنها، وقام النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بتشريعها، وقد عيّن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) موضعاً لمقام إبراهيم.

وعليه، فإنّنا نقبل متن الرواية على أساس المبنى الذي نختاره في سند الرواية، ولن يخدش فيها، حتّى وإن كان في سندها أبان بن أبي عيّاش الضعيف.

والذي نستفيده من الروايات هو أنّ إعمال كلّ هذا التدقيق في رجال الحديث، والغفلة عن كلّ هذه الروايات يمثّل ـ في حقيقة الأمر ـ جفاءً بحقّ الروايات[25]؛ وهذا هو كلام أئمّتنا(عليهم‏‌‌السلام) ماثل أمامنا يقول: «إذا وصلتكم رواية عنّا فاعرضوها على كتاب اللّه‏ وسائر أحاديثنا؛ فان وافقها فخذوا به، وان لم يوافقها فاتركوه». وبالتالي فإنّنا حتّى إذا اتّبعنا الرجال في الجملة أيضاً، فلا يمكن لنا أن نغفل عن هذا المعيار الصادر عن الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام). صحيح أنّ ابن الغضائري والشيخ قالا بأنّ أبان بن أبي عيّاش ضعيف[26]، ولكنّنا نرى أنّ متن الرواية متن محكم وموافق للروايات الاُخرى؛ أفلم يقل الخليفة الثاني: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه‏، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحجّ[27].

إنّ هذه الرواية متّفق عليها من قبل الفريقين، غاية ما هنالك أنّ أهل السنة يقولون إنّ هذا كان اجتهاداً من قبل الخليفة الثاني، ويمكن للخليفة أن يجتهد! ولكنّنا نقول إنّ هذا اجتهاد في قبال النصّ، وهو يمثّل مخالفة صريحة للرسول الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). لو أنّنا تأمّلنا الآن في ما قام به رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) في هذا الشأن، وقلنا: هل كان هذا الفعل على نحو الوجوب، أو أنّه لأجل الحفاظ على سنّة إبراهيم(عليهم‏‌‌السلام)؛ فيكون في النهاية مستحبّاً أو عملاً راجحاً، لا يكون في ذلك مخالفة للنبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، خلافاً لما قال به الخليفة؛ فهو اجتهاد من عنده؛ حيث وضع المقام في موضعه الحالي.

ويوجد هناك في هذا المسألة ما يقرب من ستّ روايات اُخرى في فقه الإماميّة، وفي الرواية الثانية منها ـ وهي رواية هامّة ـ يسأل فيها زرارة من الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام): قد أدركت الحسين(عليه‏‌‌السلام)، قال:

نعم، أذكر وأنا معه في المسجد الحرام، وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام، يخرج الخارج يقول قد ذهب به السيل، ويخرج منه الخارج فيقول هو مكانه ... قال فقال لي: يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك اللّه‏ يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام[28].

وهناك احتمالان في عبارة: «قال فقال»؛ الاحتمال الأوّل أن يكون الإمام الحسين(عليه‏‌‌السلام)هو الذي سأل الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) ما يقوله الناس بشأن المقام؟ فقلت: «يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام». فقال الإمام الحسين(عليه‏‌‌السلام) لحفيده الباقر: «اذهب وأبلغ الناس ...». والاحتمال الآخر أن يكون الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) هو الذي قال لزرارة وأمره أن يذهب لكي يُعلن للناس بأنّ اللّه‏ قد جعل هذا المقام علَماً، ولا يمكن للسيل أن يذهب به.

وهذا من نقاط الافتراق بين رواياتنا و روايات أهل السنّة؛ فإنّهم يقولون بأنّ السيل قد غيّر موضع المقام، بل وقد ورد في بعض مصادر أهل السنّة أنّهم وجدوا المقام أسفل مكّة، وقال بعض آخر إنّ السيل ألصق المقام بجدار الكعبة[29]. إلاّ أنّ رواياتنا تقول: «قد جعله اللّه‏ علَماً لم يكن ليذهب به فاستقرّوا»[30]. وقد ورد هنا في رواية الإماميّة أنّ موضع المقام كان أبداً إلى جوار حائط الكعبة:

فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلما فتح النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) مكّة، ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم(عليه‏‌‌السلام) ... فلم يزل هناك إلى أن ولّي عمر بن الخطاب فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد كنت أخذت مقداره بنِسع فهو عندي[31].

والنِسع هو الحبل الذي يشدّ فيه حمل البعير. فأعاد عَمر المقام إلى هذا الموضع ثانية. إنّ استفادة تشريع النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من هذه الرواية والروايات الاُخرى صعب للغاية، وإن كان النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هو الوحيد الذي يحقّ له التشريع، حيث كان له حقّ الحكم، فلم تكن مسألة الحكم مطروحة في أيّ دين من الأديان السابقة، فهو من خصائص الإسلام وامتيازه من سائر الأديان. ولكن هل كان هذا التغيير تشريعاً؟ من الصعب استفادة ذلك من فعل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). فإن فعل النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هذا لا يُشكّل دليلاً على أنّ موضع المقام توقيفيّ ومعيّن وغير قابل للتغيير. وحتّى في هذه الرواية ورد التعبير بأنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قد «ردّه [أي المقام ]إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم(عليه‏‌‌السلام)». ولكنّه لم يقل إنّ هذا الموضع المتعيّن للمقام.

فقه أهل السنّة

لقد نظرت في جميع روايات أهل السنّة وأقوالهم في هذا الشأن، فوجدتهم للإنصاف متقدّمين على الشيعة في تحقيق هذا الموضوع؛ فقد كتبوا الكثير من الرسائل. من ذلك تجد أنّ أحدهم كتب رسالة، وقام آخر بنقضها في رسالة اُخرى بعنوان «نقص المباني»، ثمّ جاء ثالث ليُشكل على نقص المباني. ولكن على الرغم من ذلك لم يعمل أيّ واحد منها على بحث الحكم الأوّلي لتغيير موضع المقام بشكل صحيح. ويمكن اختزال جميع كلماتهم ضمن الموارد الآتية:

أوّلاً: اجتهاد عمر، وأنّ بمقدوره أن يجتهد بوصفه خليفة، حتّى وإن كان هناك تشريع من قبل النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله). ولكنّنا نشكل على ذلك ونقول: إنّه اجتهاد في قبال النصّ.

ثانياً: يستند أغلب علمائهم ـ من أمثال القرضاوي ـ إلى قاعدة «لا حرج».

ثالثاً: من خلال توظيف مقاصد الشريعة يذكرون في هذه المسألة خمسة محاور، دون النظر إلى تشريع النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، واجتهاد عمر، أو قاعدة لا حرج. ويقولون في المحور الأوّل: نحن الآن يتعيّن علينا تغيير موضع مقام إبراهيم من أجل الحفاظ على أرواح الطائفين. وفي المحور الثاني يتمسّكون بقاعدة «جئتكم بالشريعة السهلة السمحة». والإشكال الذي يرد على هذا المحور هو أنّ الدين يُخبر عن أنّ ما جاء في الشريعة سهل وسمح.

وعليه، لا يمكن القول: حيث أنّ الشريعة سهلة وسمحة، إذن يجب إلغاء وجوب صلاة الصبح؛ لأنّ في الاستيقاظ في الصباح الباكر مشّقة بالنسبة إلى بعض المسلمين! إنّ هذا التعبير من النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) إنّما هو إخبار عن سهولة ويُسر الشريعة، ولذك يقول بعض علماء أهل السنّة من المخالفين لتغيير موضع المقام: لقد كان هذا المقام في موضعه منذ 1400 عام، دون أن يترتّب أيّ إشكال على  ذلك؛ نعم، قد يكون هناك بعض المشقّة بالنسبة إلى بعض  الطائفين وعلى من يُصرّ من المسلمين على إقامة الصلاة في هذا الموضع، ولكن الحجّ حتّى الآن قد سار على هذه الطريقة، وعليه لا حرج من ناحيّة الموضوع.

وقد تمسّك آخرون بقوله تعالى: «أَنْ طَهِّرَا بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ»[32]، وبيان ذلك يحتاج إلى ذكر خمس مقدّمات.

هذه هي أبعاد البحث، وكان غرضنا منه هو مجرّد فتح اُفق أمام أذهان السادة. ولذلك يتعيّن علينا بحث ومناقشة الأصل الأوّلي مجدّداً، ولا بدّ من بحث آيات القرآن الكريم، ولا سيّما منها قوله تعالى: «أَنْ طَهِّرَا بَيْتِى لِلطَّائِفِينَ» حيث يؤكّد عليها علماء أهل السنّة كثيراً. ولابدّ من بحث روايات الفريقين في هذا الشأن، لنرى ما الذي يكشفه اللّه‏ سبحانه وتعالى لأذهانكم.

وصلّى اللّه‏ على محمّد وآله الطاهرين.

------------------------------
[1] سورة الحجّ 22: 27.

[2] سورة آل عمران 3: 97.

[3] سورة البقرة 2: 125.

[4] أخبار مكّة 1: 536 ح641.

[5] راجع أخبار مكّة 1: 539- 540 ح 645-648، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 170.

[6] تاريخ الطبري 4: 101.

[7] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 171.

[8] شفاء الغرام 1: 334، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 170 و 516، التاريخ القويم 3: 316، فضل الحجر الأسود ومقام ابراهيم7: 130.

[9] شفاء الغرام 1: 334، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1: 170 و 516، التاريخ القويم 3: 316، فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم7: 130.

[10] المدوّنة الكبرى 1: 452.

[11] التاريخ القويم 3: 313-315.

[12] مثل ما حكاه في رجال النجاشي: 217، الرقم 565، بالنسبة إلى كتاب عبداللّه‏ بن سعيد، وفي ص231، الرقم 612 بالنسبة إلى كتاب عبيداللّه‏ بن علي، وفي ص444، الرقم 1308، بالنسبة إلى كتاب يونس بن عبدالرحمن.

[13] كما في علل الشرائع: 423 ب 160 ح1، وعنه بحار الأنوار 96: 232 ح1، وأصل عاصم بن حميد: 22، وعنه مستدرك الوسائل 9: 431 ب 63 ح11271، والاستغاثة: 45، وعنه مستدرك الوسائل 9: 432 ح11272، والكافي 4: 423 ح4، تهذيب الأحكام 5: 137 ح، وعنهما وسائل الشيعة 13: 422، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب 71 ح1، والكافي 4: 413 ح1، تهذيب الأحكام 5: 108 ح351، الفقيه 2: 249 ح1200، وعنها وسائل الشيعة 13: 350، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب28 ح1، وغيرها.

[14] البقرة 2: 125.

[15] سورة آل عمران 3: 97.

[16] رجال الطوسي: 109 الرقم 1067، وص126، الرقم 1264.

[17] رجال ابن الغضائري: 50، الرقم 1.

[18] الخلفاء الثلاثة الأوائل.

[19] الكافي 8: 58 ح21، وعنه بحار الأنوار 34: 172 ح978.

[20] رجال الكشي: 490 ح935، وعنه وسائل الشيعة 27: 147، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح33.

[21] وسائل الشيعة 27: 106-123، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و ... ب 9.

[22] الإحتجاج 2: 264 ح233، وعنه وسائل الشيعة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و ... ب 9 ح40.

[23] وقعة الطف: 128.

[24] تقدم في الصفحتين السابقين.

[25] وسائل الشيعة 27: 109-123، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب9 ح10-48.

[26] تقدم في ص 295.

[27] بداية المجتهد 1: 346، السنن الكبرى للبيهقي 10: 490 ح14506، شرح نهج البلاغة 1: 182، الإيضاح لابن شاذان: 199، وعنه مستدرك الوسائل 14: 483، كتاب النكاح، أبواب المتعة ب32 ح12 و 13.

[28] الكافي 4: 223 ح2.

[29] كما تقدم بعضها في ص 286.

[30] الكافي 4: 223 ح2.

[31] الكافي 4: 233 ح2، الفقيه 2: 158 ح681.

[32] سورة البقرة 2: 125.


برچسب ها :