المعاطاة في النكاح

۲۶ خرداد ۱۳۹۴

۱۵:۴۹

۴۶

چکیده :
إذ ذهبت جماعة منهم إلى عدم ترتيب الآثار على المعاطاة، بينما طرح البعض منهم آراء اُخرى في هذا الشأن. وقلّما نجد اليوم فقيها لا يرتّب أثرا على المعاطاة في عقود المعاوضة، خلافا لعقد النكاح الذي لا يزال البحث فيه محتدما.
نشست های علمی

المعاطاة في النكاح
محمد جواد الفاضل اللنکراني

المدخل

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم
الحمد للّه‏ ربّ العالمين وصلّى اللّه‏ على محمّد وآله الطاهرين

لقد حظيت مسألة المعاطاة في العقود باهتمام الفقهاء منذ القدم، وصدرت منهم مختلف الآراء بشأنها؛ إذ ذهبت جماعة منهم إلى عدم ترتيب الآثار على المعاطاة، بينما طرح البعض منهم آراء اُخرى في هذا الشأن. وقلّما نجد اليوم فقيها لا يرتّب أثرا على المعاطاة في عقود المعاوضة، خلافا لعقد النكاح الذي لا يزال البحث فيه محتدما. والمشهور من الفقهاء يذهب إلى عدم ترتيب الأثر على المعاطاة في عقد النكاح، بل هناك ادّعاء إجماع في هذا الشأن.

إنّ هذه المسألة مذكورة في موضعين من الفقه، أحدهما: في أبواب البيع، عند البحث عن صيغة عقد البيع، ضمن تنبيه من تنبيهات المعاطاة. والآخر: في أبواب النكاح، ضمن البحث عن صيغة عقد النكاح.

لقد أدّى بيان نظرية صحّة النكاح المعاطاتي من قبل بعض المفكّرين الجدد إلى ظهور هذا مجدّداً؛ حيث بحثوا بشكل سطحي مستفيدين من أدلّة جريان المعاطاة في العقود؛ فقالوا بجريان المعاطاة في النكاح أيضا، من دون أيّ اهتمام بالأدلة الاجتهاديّة في هذا الشأن ودراسة هذه الأدلة، وقالوا بكفاية رضا الطرفين في النكاح، من دون حاجة إلى التلفّظ بالصيغة الخاصّة لعقد النكاح.

ومن هنا تأتي ضرورة البحث حول جذور هذه المسألة، ورأي فقهاء الشيعة فيها، ونقد أدلّة الموافقين والمخالفين لجريان المعاطاة في عقد النكاح في نهاية المطاف.

ومع الالتفات إلى أنّ هذه المسألة مذكورة في مواضع من الفقه ضمن مسائل مختلفة، وطرحت هنا بشكل مستقلّ مع بيان الآيات والروايات والأدلّة الاُخرى، وذهاب بعض من الفقهاء إلى جريان المعاطاة في النكاح، ولزوم تنقيح مرادهم وأنّهم يكتفون برضا الطرفين، أو يعتبرون قصد الإنشاء أيضاً؟ تمسّ الحاجة إلى تناول هذه المسألة بمزيد من البحث والتنقيب في أدلّتها وبيان حدودها وأبعادها، للوصول إلى حقيقة الأمر.

جذور التحقيق في المسألة

إنّ البحث والتحقيق في التراث الفقهي لدى الشيعة عبر التاريخ، يثبت أن لا مجال لنظريّة صحّة النكاح المعاطاتي في فقه الإماميّة، وأنّه لا يمكن العثور على فقيه بارز يقول بصحّة النكاح المعاطاتي. نعم، نسب صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) القول بصحّة النكاح بغير الألفاظ الخاصّة إلى الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره) وجماعة من الظاهريّة، وقال في ذلك:

نعم ربما ظهر من الكاشاني[1] وبعض الظاهريّة[2] من أصحابنا، الاكتفاء بحصول الرضا من الطرفين، ووقوع اللفظ الدالّ على النكاح والإنكاح.[3]

ومن العلماء المعاصرين ذهب سماحة السيّد الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله) في «كتاب البيع»،[4] والمحقّق السيّد أبو القاسم الخوئي(قدس‏‌‌سره) في كتاب «مصباح الفقاهة»،[5] إلى القول بأنّ إمكان الإنشاء الفعلي في إيقاع الزوجية موافق لما تقتضيه القواعد من الناحية الفنّية، إلاّ أنّه مردود عندهما بناءً على الأدلة الفقهيّة الأخرى.

المفاهيم

من المناسب قبل الدخول في صلب المسألة، أن نبحث في معاني بعض الألفاظ والمفردات المستعملة في هذا البحث، والتعرّف على مفاهيمها:

مفهوم العقد


إن العقد في اللغة العربيّة يطلق في الأصل على شدّ الحبل، ومن هنا يطلق العرب تسمية «العِقد» على ما تعقده المرأة حول رقبتها.[6] وفي قباله «الحل»، وعليه: فإنّ جملة «الحلّ والعقد» تعني الفتح والشدّ. ومن هنا ذهب أكثر اللغويين إلى القول بأنّ العقد ـ بمناسبة المعنى اللغوي ـ يعني العهد المحكم والموثّق والمشدّد.[7] وأمّا المفهوم الفقهي للعقد فهو قريب من مفهومه اللغوي؛ إذ يذهب الفقهاء إلى تعريف العقد بأنّه «التزام مرتبط بالتزام آخر»، أو «الربط بين التزامين»، أو «الربط بين قرارين» وما إلى ذلك من التعاريف الأخرى.[8] وعليه: يكون التوافق بين طرفين أو أكثر ضروريّا في صدق مفهوم العقد، وهذا هو الذي يميّزه من مفهوم الإيقاع.

مفهوم النكاح والعقد

ذهب جماعة من اللغويين إلى القول بأنّ النكاح لغة هو الوط‏ء والجماع واستعمل في معنى عقد النكاح مجازا.[9] وقال بعض آخر:

أصل النكاح للعقد، ثمّ استعير للجماع، ومُحالٌ أن يكون في الأصل للجماع، ثمّ استعير للعقد؛ لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات؛ لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه.[10]

وهناك من ذكر معنى «البُضع» في جملة معاني لفظ النكاح.[11] وهناك من احتمل أن تكون مفردة النكاح مشتركة بين معنى الوط‏ء والعقد.[12] وقد وردت هذه الاحتمالات في المصادر الفقهيّة أيضا.[13] ومن هنا فإنّ القول بإجماع اللغويين على أنّ النكاح حقيقة في الوط‏ء، وأنّ استعماله في عقد النكاح مجاز،[14] لا أساس له من الصحّة.

وعليه: بالنظر إلى ما تقدّم في بيان معنى كلمة النكاح والعقد، نقول في تعريف عقد النكاح: إنّ عقد النكاح توافق بين إرادتين لإيجاد علاقة الزوجية؛ وهو تعريف عامّ يشمل عقد النكاح بشقّيه: الدائم والمنقطع.

مفهوم المعاطاة

إنّ المعاطاة في اللغة، مصدر من باب المفاعلة، عاطى، يُعاطي، معاطاة، وهي من مادة «ع ط و».[15] ومن هنا يطلق على المال المبذول عطيّة، وجمعه عطايا. وبالالتفات إلى خصوصيّة باب المفاعلة التي تقع بين اثنين، فإنّ المعاطاة تعني تحقّق مبادلة وأخذ وعطاء بين شخصين. ويعمل الفقهاء عادة على تعريف المعاطاة في باب البيع فقط، ولكن لا يوجد فرق بين المعاطاة في البيع وسائر العقود الاُخرى.

وطبقا للرأي المختار، تكون المعاطاة عبارة عن معاملة من دون عقد مخصوص؛ بمعنى أن يقوم كلّ واحد من المتبايعين بالإتّفاق على معاملة، بإعطاء المال المطلوب إلى الطرف الآخر بإزاء العوض الذي قبضه منه، من دون إجراء عقد خاص. وطبقا لهذا التعريف يكفي أيّ إيجاب وقبول لفظي، ولا يجب التكلّم بألفاظ خاصّة. وعلى هذا الأساس لو بيّن الإيجاب والقبول بالألفاظ الفارسية، تتحقّق المعاملة على سبيل المعاطاة.[16]

المقال الأوّل نظريّة صحّة النكاح المعاطاتي


هناك من الفقهاء ـ ومن بينهم الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله)، في كتاب «الوافي» ـ من اعتقد بوجود رواية على جريان المعاطاة في النكاح، وتقوم فتوى الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله)في النكاح على كفاية الرضا من الطرفين، شريطة أن يجري لفظ دالّ على النكاح بينهما، بمعنى عدم كفاية مجرد الرضا القلبي البحت الخالي من أيّ لفظ دالّ على هذا العقد من النكاح. وعليه فإنّه(قدس‏‌‌سره) ـ طبقا لظاهر كلامه ـ لا يرى وجوب استعمال ألفاظ من قبيل: «زوّجتك»، و «متّعتك»، و«أنكحتك» في عقد النكاح[17].

الأدلة على صحّة النكاح المعاطاتي

هناك دليلان على إثبات صحّة جريان المعاطاة في النكاح، وهما:

الدليل الأوّل: رواية «نوح بن شعيب»

وهي الرواية التي استدل بها الكاشاني(قدس‏‌‌سره):

محمّد بن يعقوب، عن عَلِيّ بْن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُوحِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَتْ: إِنِّي زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي؛ فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه‏‌‌السلام)، فَقَالَ: كَيْفَ زَنَيْتِ؟ فَقَالَتْ: مَرَرْتُ بِالْبَادِيَةِ؛ فَأَصَابَنِي عَطَشٌ شَدِيدٌ فَاسْتَسْقَيْتُ أَعْرَابِيّا، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَنِي إِلاَّ أَنْ أُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِي. فَلَمَّا أَجْهَدَنِي الْعَطَشُ وَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي سَقَانِي؛ فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ(عليه‏‌‌السلام): تَزْوِيجٌ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.[18]

وهناك روايتان اُخريان بهذا المضمون أيضا. أحدهما: عن الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق[19]، وثانيتهما: عن كتاب الإرشاد للشيخ المفيد(قدس‏‌‌سره)[20].

مناقشة سند الرواية

إنّ أحد رواة هذا الحديث هو «نوح بن شعيب البغدادي»، وهو من أصحاب الإمام الجواد(عليه‏‌‌السلام)، وقال الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره) عنه:

نوح بن شعيب البغدادي، ذكر الفضل بن شاذان: أنّه كان فقيها عالما صالحا مرضيّا.[21]

والراوي الآخر: هو «نوح بن صالح البغدادي»، ويستظهر من كلام بعض علماء علم الرجال مثل الكشّي،[22] أنّه نفس «نوح بن شعيب البغدادي» المذكور آنفا؛ بمعنى أنّهما شخص واحد، وإلى ذلك أشار الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) بقوله عن «نوح بن شعيب»: «قيل: إنّه نوح بن صالح».[23] ولا يبعد أن يكون أصل العنوان: نوح بن شعيب بن صالح البغدادي، وقد ذكر مرّة بعنوان شعيب البغدادي، ومرّة اُخرى بعنوان صالح البغدادي.

ومن بين رواة هذا الحديث «عليّ بن حسّان»، وهناك راويان بهذا الاسم، أحدهما: «عليّ بن حسّان الهاشمي»، والآخر «عليّ بن حسّان الواسطي». وقال النجاشي(قدس‏‌‌سره) في حقّه:

عليّ بن حسّان بن كثير الهاشمي، مولى عبّاس بن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه‏ بن العبّاس، ضعيف جدّا، ذكره بعض أصحابنا في الغلاة، فاسد الاعتقاد، له كتاب تفسير الباطن، تخليط كلّه.[24]

كما نقل الكشي عن العيّاشي ما نصّه:

قال محمّد بن مسعود: سألت عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضال: عن عليّ بن حسّان، قال: عن أيّهما سألت؟ أمّا الواسطي فهو ثقة، وأمّا الذي عندنا، يروي عن عمّه عبد الرحمن بن كثير، فهو كذّاب، وهو واقفي أيضا، لم يدرك أبا الحسن موسى(عليه‏‌‌السلام).[25]

وأمّا «عليّ بن حسّان الواسطي» فهو موثّق، وقال عنه ابن الغضائري: «ومن أصحابنا عليّ بن حسّان الواسطي، ثقة ثقة».[26] فإذا ذكر «عليّ بن حسان» مجرّدا، فبما أنّه يروي عن «عبد الرحمن بن كثير» فهو «الهاشمي» الضعيف؛ لأنّ «عبد الرحمن بن كثير» عمّه، وهو ينقل الرواية عنه.

والراوي الآخر «عبد الرحمن بن كثير»، وقد ضعّفه النجاشي(قدس‏‌‌سره)، وقال عنه:

عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، مولى عبّاس بن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه‏ بن العباس، كان ضعيفا، غمز أصحابنا عليه، وقالوا: كان يضع الحديث[27].

نعم الدليل على وثاقة «عبد الرحمن بن كثير» هو أنّ اسمه مذكور في عداد رواة كتاب «كامل الزيارات»،[28] و «تفسير القمي».[29]

وقد تقدّم أن هناك نقلين آخرين لهذه الرواية أيضا. وفي النقل الثاني الذي رواه الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره)، جاء سند الرواية مرسلاً. وأمّا في النقل الثالث الذي رواه الشيخ المفيد(قدس‏‌‌سره)، فقد وردت بلفظ «روَوا»، وذكرها الشيخ الحر العاملي(قدس‏‌‌سره) على النحو الآتي: «محمّد بن محمّد المفيد في الإرشاد، قال روى العامّة والخاصّة». وبذلك ـ أي الإسناد إلى نقل العامّة والخاصّة ـ يحصل الاطمئنان بصدور هذه الرواية، ولا يمكن الحكم بضعفها.

وعليه: لولا عبارة الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)، لعُدّت الرواية «ضعيفة السند»، بيد أنّ كلام الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)، يثبت قطعيّة صدور هذه الرواية بين العامّة والخاصّة، وهذا هو الذي يبعّدها عن الضعف.

تقريب دلالة الرواية واستدلال الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) بها

كما تقدّم آنفاً، هناك روايتان غير رواية «نوح بن شعيب»، وأنّ مضمون هذه الروايات الثلاثة في غاية الشبه، وعليه: من المستبعد أن تكون هذه الروايات الثلاثة تتحدّث عن ثلاث قضايا مختلفة، بل هي روايات مختلفة لواقعة واحدة، وأنّ هذه الواقعة الواحدة قد رويت على ثلاثة أشكال.

قال المولى الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره) في ذيل الرواية التي فيها عبارة «تزويج وربّ الكعبة»:

إنّما كان تزويجاً لحصول الرّضا من الطرفين، ووقوع اللّفظ الدالّ على النكاح والإنكاح فيه، وذكر المهر وتعيينه، والمرّة المستفادة من الإطلاق القائمة مقام ذكر الأجل[30].

وقال(قدس‏‌‌سره) في ذيل الرواية الثانية:

مفاده أنّه ليس ذلك بزنا ولا فجور مضطرّ إليه، بل هو نكاح حلال وتزويج صحيح، وذلك لحصول شرائط النكاح فيه، من خلوّها عن الزوج وعن ولاية أحد عليها، ورضا الطرفين ووقوع اللّفظ الدالّ على النكاح والإنكاح فيه، وذكر المهر وتعيينه؛ فهو تزويج متعة ونكاح انقطاع لا يحتاج إلى الطلاق، فإن قيل: يشترط في صحّة المتعة من ذكر الأجل، قلنا: قد ثبت [في علم الاُصول] أنّه يغني عنه ذكر المرّة والمرّتين، والإطلاق يقتضي المرّة، فيقوم مقام ذكر الأجل.[31]

إيراد صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) على استدلال الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره) وجوابه

وقد أورد صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) على استدلال الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره) بهذه الرواية، قائلاً:

وهو كما ترى؛ ضرورة اعتبار اللفظ المقصود به إنشاء ذلك، والفرض خلوّ هذا المذكور منه، فلابدّ حينئذٍ من حمله على إرادة كونه بحكم التزويج، باعتبار اضطرارها.[32]

ومقصوده(قدس‏‌‌سره) عدم وجود لفظ دالّ على أصل النكاح ولو بغير الألفاظ المخصوصة، وبعبارة اُخرى: الظاهر من الرواية عدم تبادل لفظ دالّ على الرضا بالنكاح بينهما.

إلاّ أنّ هذا الإشكال من صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) على الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) ليس واردا؛ بداهة أنّ المستفاد من ظاهر عبارته أنّه لا يرى ضرورة لفظ يقع به إنشاء النكاح بأيّ وجه من الوجوه، وإنّما يرى كفاية الرضا من الطرفين في النكاح، وأنّ رواية «نوح بن شعيب» تبيّن ضرورة وجود لفظ يدلّ على هذا الرضا، ولا تثبت أن يكون هنا لفظ ينعقد النكاح به. وعليه: فإنّ الفيض(رحمه‏‌‌الله) يقدّم بيانا، بينما يذكر صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره)هنا كلاما غير البيان الذي أفاده الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره).

إيرادنا على استدلال الفيض الكاشاني(قدس‏‌‌سره)

ويرد عليه أوّلاً: إنّ هذه الرواية لا تشتمل على أيّ لفظ يدلّ على الرضا بانكاح؛ إذ الوارد في الرواية هو أنّ المرأة كانت على وشك الموت، وأنّ الأعرابي سقاها الماء، وهي أمكنته من نفسها، دون أن يكون في البين استعمال لأيّ لفظ يدلّ على الرضا بالنكاح.

وثانياً: هو أنّ المرأة نفسها تقرّ بقولها: «إنّي زنيت» أو «إنّي فجرت»، ممّا يدلّ على عدم وجود نكاح في البين.

نعم يمكن توجيه هذا الكلام من المرأة، ببيان أنّ النكاح قد حصل، إلاّ أنّها تصوّرت بطلانه، وحيث يكون النكاح باطلاً، فيعبّر عنه بألفاظ من قبيل: «إنّي زنيت»، والحال أنّه كلام باطل؛ إذ أنّ ما وقع في الحقيقة لم يكن من الزنا.

ولا يخفى أنّ هذا التوجيه غير صحيح؛ لأنّه يخالف ظاهر الرواية؛ حيث تقول المرأة: «إنّي زنيت»، فظاهر الرواية هو تحقّق الزنا. وعليه: حيث لا يمكن حمل هذه الرواية على تحقّق أصل النكاح، فلا يمكن القول بعد ذلك: إنّ هذه الرواية تدلّ على تحقّق النكاح برضا الطرفين.

مراد أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) من قوله: «تزويج وربّ الكعبة»

أمّا السؤال الآخر الذي يبقى عالقا في الذهن، فهو أنّه ما هو مراد أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)من قوله في ختام الرواية: «تزويج وربّ الكعبة»؟ ربما أمكن تبرير ذلك بالقول: إنّ المرأة تصوّرت أنّها زنت، في حين أنّ الذي حصل في الواقع إنّما هو نوع من الزواج[33].

فذهب صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) إلى أنّ مراد الإمام علي(عليه‏‌‌السلام)من هذه العبارة هو أنّ هذا «الوط‏ء»، ليس من الوط‏ء الحرام، بل هو في حكم الزواج، وكما أنّ «الوط‏ء» في الزواج حلال، يكون الوط‏ء هنا حلالاً أيضا؛ لأنّ المرأة كانت مضطرّة إلى التمكين، ولم يكن أمامها من خيار غير التمكين، وأنّ هذا الاضطرار بالنسبة لها رافع للحرمة.

ثمّ ذكر بعد ذلك رواية اُخرى شبيهة بهذه الرواية؛ لإثبات بيانه؛ حيث يستعمل فيها الإمام(عليه‏‌‌السلام) ـ بدلاً من عبارة «تزويج وربّ الكعبة» ـ آية من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ»، وعقّب على ذلك بالقول: إنّ هذا المورد من مصاديق هذه الآية.

ونصّ عبارة صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) في توضيح كلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) كالآتي:

فلابدّ حينئذٍ من حمله على إرادة كونه بحكم التزويج باعتبار اضطرارها، كما يومئ إليه رواية الخبر المزبور بطريق آخر، قال فيه: إنّه لمّا بلغ منّي ـ أي العطش ـ أتيته فسقاني ووقع عليّ، فقال عليّ(عليه‏‌‌السلام): هذه التي قال اللّه‏: «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ»،[34] وهذه غير باغية ولاعادية، فخلّى عمر سبيلها، وقال: «لولا عليّ لهلك عمر»[35].[36]

تقييم الرواية

فيما يتعلّق برواية «نوح بن شعيب»، والروايتين الاُخريين الشبيهتين بها، يجب علينا الالتفات إلى نقطتين هامّتين، وهما:

النقطة الاُولى: لو قبلنا عبارة «تزويج وربّ الكعبة»، فإنّ الإشكال الذي يرد على توجيه صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) بشأن هذه الرواية؛ ـ حيث قال في توجيهها بالقول: إنّ هذا الوط‏ء حلال؛ لأنّ المرأة كانت مضطرّة إلى التمكين ـ هو أنّ هذا التوجيه مخالف لظاهر الرواية؛ إذ من المحتمل أن يكون المراد من عبارة «تزويج وربّ الكعبة»، كفاية الرضا الباطني من الطرفين في عقد النكاح، دون الحاجة إلى وجود لفظ يدلّ على النكاح.

كما أنّ رؤية الفيض الكاشاني(رحمه‏‌‌الله) ـ حيث استفاد من هذه الرواية ضرورة وجود لفظ دالّ على النكاح[37] ـ غير مقبولة أيضا، بل لو أنّ فقيها قال بكفاية الرضا بالنكاح في عقد النكاح، دون أن تكون هناك حاجة إلى اللفظ، أمكنه الاستدلال بهذه الرواية لإثبات كلامه.

النقطة الثانية: لقد نقلت هذه الرواية بثلاث صور، وورد في صورتين منها بتعبير «الاضطرار»، وفي صورة واحدة بتعبير «التزويج». فإذا رأى الفقيه أنّ هذه الرواية ضعيفة بجميع صورها الثلاثة، أمكنه تركها وعدم العمل بها. وأمّا على أساس الرأي المختار ـ حيث اكتفينا في اعتبارها بعبارة [الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)]: «روى العامّة والخاصّة» ـ تكون هذه الرواية معتبرة. والسؤال الذي يطرح هنا: أنّ مثل هذه الرواية التي قد رويت على عدّة صور، كيف يعمل بها؟

والجواب: يجب أخذ القدر المشترك بين جميع هذه الصور، وإهمال ما ذكر في بعض الصور دون الصور الأخرى. نعم، إذا لم يمكن أخذ المشترك بين صور الروايات المتعددة، وجب سلوك طريق آخر. فعلى سبيل المثال: في البحث عن المكاسب المحرّمة تارةً نقل الرواية بصورة: «إنّ اللّه‏ إذا حرّم شيئا، حرّم ثمنه»، واُخرى بصورة «إنّ اللّه‏ إذا حرّم أكل شيء، حرّم ثمنه». ومن هاتين الصورتين لا يمكن لنا الحصول على قدر مشترك، ومن هنا يطرح البحث في أنّ الأصل في نقل الروايات يقوم على «أصالة عدم الزيادة» أو يقوم على «أصالة عدم النقيصة»؟ فأيّ الأصلين يجري؟ وهل يجريان معا؟ أم يقع التعارض بينهما إذا لم نقل بأنّه من مصاديق اشتباه الحجّة باللاحجّة، فإنّه بناء عليه لا تصل النوبة إلى جريان أحكام التعارض، ولا مجال للرجوع إلى أصالة عدم الزيادة، أو أصالة عدم النقيصة، بل اللازم الرجوع في مسألة اشتباه الحجّة إلى قواعد العلم الإجمالي، كما قرّر في محلّه من علم الاُصول.

وأمّا هنا فتوجد رواية واحدة مرويّة بثلاث صور، ويمكن لنا أن نأخذ منها قدرا مشتركا. والقدر المشترك فيها أنّ ما قامت به المرأة لم يكن من الزنا. بل يمكن أن يكون من باب «الاضطرار» الذي لا ينطبق عليه عنوان الزنا؛ ولذلك قال الإمام(عليه‏‌‌السلام): يجب إخلاء سبيلها وعدم رجمها.

فتلخّص أنّ هذه الرواية لا تدلّ على صحّة المعاطاة في النكاح.

الدليل الثاني: صحيحة ابن بزيع

الرواية الاُخرى التي استدلّ بها بعض الفقهاء على إثبات صحّة النكاح المعاطاتي، رواية «محمّد بن إسماعيل بن بزيع» عن الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام) وهي ما رواه:

محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: سألت أبا الحسن(عليه‏‌‌السلام)[38] عن امرأة ابتليت بشرب النبيذ فسكرت؛ فزوّجت نفسها رجلاً في سكرها، ثمّ أفاقت فأنكرت ذلك، ثمّ ظنّت أنّه يلزمها ففزعت منه؛ فأقامت مع الرجل على ذلك التزويج، أحلال هو لها أم التزويج فاسد لمكان السكر ولا سبيل للزوج عليها؟ فقال: إذا أقامت معه بعد ما أفاقت فهو رضا منها، قلت: ويجوز ذلك التزويج عليها؟ فقال: نعم.[39]

سند الرواية

إنّ هذه الرواية من الأخبار الصحيحة الأعلائية، وحتّى صاحب المدارك(قدس‏‌‌سره)وتابعيه، من الفقهاء الذين لم يعملوا إلاّ بالروايات التي يكون سندها من الصحيح الأعلائي، قد أفتوا بها[40].

دلالة الرواية

وردت في هذه الرواية عبارة «ذلك التزويج»، وهناك احتمالان فيها؛ الاحتمال الأوّل: أن يكون «ذلك» ـ بالنظر إلى كونه اسم إشارة للبعيد ـ مشيرا إلى التزويج الذي أجرت المرأة صيغة عقده حالة سكرها. والاحتمال الثاني: أن يكون المراد من هذه العبارة، نفس بقاء المرأة بعد الإفاقة من السكر مع الرجل؛ حيث سأل الراوي الإمام(عليه‏‌‌السلام)بعد ذلك مستغربا: «يجوز ذلك التزويج عليها؟». وأجابه الإمام(عليه‏‌‌السلام): «نعم».

وفي معرض تقييم هذين الاحتمالين لا بدّ من الالتفات إلى نقطةٍ، وهي اعتبار وجود القصد لصحّة العقد من كلا طرفي العقد، ومن هنا لو أخطأ الشخص، أو كان نائما أو ناسيا أو سكرانا، وأجرى العقد، لا يكون ذلك منه معتبرا.[41] فعلى سبيل المثال: لو أنّ امرأة كانت نائمة، وأجرت إيجاب صيغة عقد النكاح في نومها، وأجرى الرجل الآخر الذي كان نائما أيضاً قبول صيغة النكاح، لا يكون ذلك معتبرا.

وقد ذهب بعض الفقهاء مثل الشيخ الطوسي،[42] وابن البرّاج،[43] وصاحب المدارك(قدس‏‌‌سره)م،[44] إلى استثناء مورد من هذه الكبرى الكليّة، وقالوا بأنّ المرأة إذا أجرت صيغة العقد وهي في أثناء السكر، ثمّ رضيت بعد الإفاقة من سكرها بالعقد الذي أجرته، كان ذلك العقد صحيحا، من دون حاجة إلى إجراء عقد جديد، كما هو الحال في العقد الفضولي الذي لا يحتاج فيه إلى عقد جديد بعد الرضا.

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية على النكاح المعاطاتي، عبارة عن أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام)قد بيّن قانونا عاما بقوله: «إذا أقامت معه بعد الإفاقة؛ فذلك رضا منها». ومن عبارة «أقامت» الذي هو فعل كاشف عن الرضا بالنكاح، يُستفاد كفاية مجرّد الفعل الدالّ على الرضا بالنكاح[45]. سيّما على القول بالاحتمال الثاني بشأن عبارة: «تجوز ذلك التزويج عليها».

وعليه، هناك أمران في استدلال الفقهاء الذين يستدلّون بهذه الرواية؛ الأمر الأوّل: هو أنّ «الإقامة» فعل من الأفعال الدالة على الرضا. والأمر الثاني: أنّ عبارة «ذلك التزويج» يعود إلى «الإقامة بعد الإفاقة». وبالتالي: إذا قام كلّ من الرجل والمرأة بفعل دالّ على الرضا بالنكاح، لم يكن في ذلك إشكال، وكان ذلك الفعل بنفسه تزويجا صحيحا. وطبقا لهذا الاستدلال، لا يوجد «لفظ» في هذا القسم من الرواية؛ بمعنى أنّ إجراء العقد حالة السكر، لا دور له في هذا الاستدلال وتحقّق التزويج أصلاً.

ثلاث إشكالات على الاستدلال بالرواية

الأوّل: إعراض الفقهاء عنها، والظاهر ـ رغم ذهاب بعض الفقهاء إلى العمل بمضمونها ـ هو امتناع مشهور الفقهاء عن العمل بها. ولذا قال السيّد اليزدي(رحمه‏‌‌الله):

إنّ المشهور لم يعملوا بها، وحملوها على محامل.[46]

ولهذا ذهاب المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) إلى عدم ثبوت إعراض المشهور ليس صحيحا، وإعراض المشهور واضح، وإفتاء بعض الفقهاء على هذه الرواية لا يكون مانعا من إعراض المشهور. ولا بدّ من الالتفات هنا إلى أنّنا لم نقل بإعراض «جميع الأصحاب» عن هذه الرواية، وإنّما أقصى ما قيل: إنّ «إعراض الأصحاب» هنا واضح، وأنّ الذي يوجب وهن الرواية هو «إعراض الأصحاب» لا «إعراض جميع الأصحاب»، بمعنى أنّ مشهور الأصحاب قد أعرض عن هذه الرواية.

وقد مال الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) إلى قبول الرواية، ولكنّه قال بعدم ترك الاحتياط، والاحتياط هنا يكون بأن يجري الرجل صيغة الطلاق عند الافتراق، وإجراء صيغة العقد عند بقاء المرأة معه[47].

وربما أمكن القول: إنّ وجه الاحتياط الذي ذكره الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) في هذه المسألة بقوله: «لا يترك الاحتياط» يعود إلى ما تقدّم من إعراض الأصحاب؛ إذ لو كان سند الرواية صحيحا، ولم يُعرض الأصحاب عنها، لا يبقى هناك دليل على القول بالاحتياط في العمل بالرواية.

وبعض الفقهاء الآخرين، ومنهم سماحة الوالد المحقّق(قدس‏‌‌سره) وإن كان إعراض الأصحاب عن هذه الرواية عندهم مسلّماً، إلاّ أنّهم ذهبوا إلى الاحتياط؛ لأجل وجود الخلاف في قادحيّة إعراض المشهور وعدم قادحيته وبعبارة اُخرى: بما أنّ هذا الأمر يكون محلاًّ للخلاف، فذهب القائل بالقادحيّة أيضاً إلى الإحتياط، فتدبَّر.[48]

الإشكال الثاني: أنّ هناك احتمالين في المشار إليه بـ «ذلك التزويج» الوارد في ختام الرواية:

الاحتمال الأوّل: أن تعود عبارة «ذلك التزويج» إلى «الإقامة بعد الإفاقة»؛ بمعنى بقاء المرأة عند الرجل بعد الإفاقة من سكرها، وقوله(عليه‏‌‌السلام): «فهو رضا منها»؛ يعني رضا منها بالنكاح، ويكون الاستدلال بهذه الرواية تاما.

الاحتمال الثاني: أن يكون المشار إليه بعبارة «ذلك التزويج» هو العقد الذي أجرته المرأة حالة سكرها، وجواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) بقوله: «فهو رضا منها» لم يكن بمعنى رضا المرأة بالنكاح، بل بمعنى رضاها بعقد النكاح الذي أجرته حالة السكر، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاستدلال بهذه الرواية.

فما ذهب إليه المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) من أنّ الرواية واضحة الدلالة على صحّة النكاح المعاطاتي، إنّما يصحّ إذا بقينا نحن والاحتمال الأوّل، وأمّا مع وجود الاحتمال الثاني، فتصير الرواية مجملة، وليست واضحة الدلالة.

والخلاصة: أنّه بالالتفات إلى وجود هذين الاحتمالين ـ والبتة لا نريد القول هنا بأنّ الاحتمال الثاني أظهر من الأوّل ـ تبقى الرواية مجملة؛ إذ لا قرينة على ترجيح أيّ واحد من هذين الاحتمالين على الآخر. كما أنّ قوله(عليه‏‌‌السلام): «فهو رضا منها» يحتمل العودة إلى الرضا بالنكاح، كما يحتمل العودة إلى الرضا بالعقد الذي أجري حالة السكر أيضا.

الإشكال الثالث: أنّ الفقيه الذي يروم الاستدلال بهذه الرواية على النكاح المعاطاتي، عليه القبول بأنّ اللفظ الصادر من السكران هو مثل اللفظ الصادر من النائم، فكما أنّ الشخص النائم لا يقصد شيئا من الألفاظ التي ينطق بها أثناء النوم، كذلك السكران أيضا. وبالتالي: فإنّ العقد الذي أجرته المرأة في هذه الرواية، لا يترتّب عليه أيّ أثر، وأنّ فعل المرأة؛ أي إقامتها وبقاؤها عند الرجل، يعدّ نوعا من النكاح.

إلاّ أنّ هذا الكلام؛ يعني القول بأنّ السكران مثل النائم غير مقبول؛ لأنّ السكران يستعمل الألفاظ عن اختيار، غاية ما هنالك أنّه لا يميّز بين الحسن والقبيح، مثل الكثير من حكّام الجور الذين يصدرون الأحكام والفرامين السلطانية أثناء سكرهم، بل إنّهم رغم التفاتهم إلى كلامهم يصدرون الأوامر بقتل الأئمّة المعصومين عليهم‏السلاموهم سكارى، ولكنّهم لا يدركون المصالح والمفاسد المترتبة على هذه الأوامر.

وعليه: فإنّ الفقهاء الذين يستدلّون بهذه الرواية على مدّعاهم، يجب أن يثبتوا أنّ لفظ السكران ليس بلفظ، وأنّ العقد الذي أجري باطل؛ لأنّه ـ كالنائم ـ ليس له حين إجراء العقد قصد وتوجّه.

وهذا الكلام باطل أيضا، ولم يمكن إثباته، والشاهد على بطلان القول بأنّ السكران مثل النائم، هو أنّ المرأة بعد الإفاقة تتذكّر أنّها أجرت العقد حالة السكر، ولكنّها تقول في قرارة نفسها: حيث إنّ العقد قد جرى أثناء السكر، مع عدم الالتفات والانتباه جيّدا، قد يكون هذا العقد باطلاً، ولكنّها تقول على كلّ حال: إنّها أجرت العقد، ومن عبارة «ثمّ ظنّت أنّه يلزمها ففزعت منه» يستفاد أنّ المرأة كانت ملتفتة إلى إجراء العقد، غاية ما هنالك أنّها لم تأخذ المصلحة والمفسدة المترتّبة على هذا العقد بنظر الاعتبار، والآن تقول لنفسها: لقد أجريت العقد، ويجب عليّ الالتزام بمضمونه، ولو أنّ المرأة قالت بأنّها لم تجر مثل هذا العقد، لا يكون هناك معنى لبقائها مع الرجل.

وبذلك يتّضح أنّ ادّعاء القائل بأنّ الألفاظ الصادرة عن السكران مثل الألفاظ الصادرة عن «النائم» ادّعاء باطل، وعلى الفقيه الذي يعتزم الاستدلال بهذه الرواية على صحّة المعاطاة في النكاح، أن يثبت هذا المدّعى قبل أيّ شيء آخر.

رأي الفقهاء في هذه الرواية؛ رأي الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره) وابن البرّاج(قدس‏‌‌سره)

لقد ذكر الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في «النهاية»، وتبعه القاضي ابن البرّاج(رحمه‏‌‌الله)[49] في «المهذّب»، عبارة تدعو إلى شيء من التأمّل. فقد ذكر في هذا الشأن فرعين؛ إذ يقول:

إذا عقدت المرأة على نفسها وهي سكرى، كان العقد باطلاً. فإن أفاقت ورضيت بفعلها كان العقد ماضيا. وإن دخل بها الرجل في حال السكر ثمّ أفاقت الجارية، فأقرّته على ذلك، كان ذلك ماضيا.[50]

إنّ القسم الأوّل من هذا الكلام يحمل على مضمون الرواية القائل بأنّ المرأة بعد الإفاقة من السكر إذا رضيت بالعقد الذي أجرته حال السكر، كان ذلك منها إمضاء لذلك العقد.

والكلام في القسم الثاني من هذه العبارة حيث يقول: «إن دخل بها الرجل في حال السكر [بقصد النكاح] ثمّ أفاقت الجارية، فأقرّته على ذلك، كان ذلك ماضيا»، ويكون هذا العمل كافيا لتحقّق النكاح.

ويبدو من ظاهر كلمة «ذلك» في نهاية كلام الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره) هو أنّها تعود إلى القسم الثاني من كلامه؛ أي الدخول، لا إلى القسم الأوّل؛ أي العقد؛ لأنّه قد بيّن حكم القسم الأوّل بقوله:

إذا عقدت المرأة على نفسها وهي سكرى، [ثمّ] أفاقت ورضيت بفعلها كان العقد ماضيا.

فإذا عادت كلمة «ذلك» إلى العقد، سيؤدّي هذا إلى التكرار في كلامه. وعليه: لابدّ من إعادتها إلى «الدخول»، وفي الحقيقة فإنّ الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره) يريد أن يلحق الدخول حالة السكر بالعقد حالة السكر، غاية ما هنالك أنّ هذا الدخول يجب أن يكون بقصد النكاح. نعم، لا يوجد في كلامه ما يشير إلى الدخول بقصد النكاح، ولكن يجب إضافته إليه.

ولو اُشكل على الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره)، وقيل له بأنّ هذه الفتوى على خلاف الإجماع وارتكاز المتشرّعة، كان هذا إشكالاً آخر يجب الإجابة عنه بشكل مستقلّ، وعلى كلّ حال فإنّ هذا هو الذي يُفهم من عبارة الشيخ الطوسي(قدس‏‌‌سره).

رأي العلاّمة الحلّي(قدس‏‌‌سره) بشأن الرواية ونقده

ذهب(رحمه‏‌‌الله) إلى أنّ التحقيق أن نقول:

إن بلغ السكر بها إلى حدّ عدم التحصيل كان العقد باطلاً، ولا يتقرّر بإقرارها؛ لأنّ مناط صحّة العقود ـ وهو العقل ـ منفي هنا، وإن لم يبلغ السكر إلى ذلك الحدّ صحّ العقد مع تقريرها إيّاه، وعليه تحمل الرواية.[51]

فقسّم العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) السكر إلى نوعين، النوع الأوّل: السكر الذي يبلغ حدّ «عدم التحصيل»، وفي هذه الحالة إذا اُجري العقد وقع باطلاً، ولا يثبت النكاح فيه بإقرار المرأة. ومع ملاحظة عبارته اللاحقة يتّضح أنّ مراده من «عدم التحصيل» هو «عدم العقل»؛ لأنّ الملاك في صحّة العقود هو العقل، وهو منتفٍ فيما نحن فيه، وإنّ إجراء العقد من قبل هذا الشخص، كإجرائه من قبل المجنون، فإذا أجرى المجنون صيغة عقد، ثمّ أفاق من جنونه وأمضى ذلك العقد لا يكون لإمضائه أثر، ويكون عقده باطلاً.

وأمّا النوع الثاني، فهو أن لا يبلغ السكر حدّ «عدم التحصيل» وإزالة العقل، فيكون العقد عندها صحيحا، ولكنّه يتوقّف على إمضاء المرأة.

ثمّ أضاف العلاّمة الحلّي(قدس‏‌‌سره) بعد ذلك قائلاً: إنّ ما قاله الإمام(عليه‏‌‌السلام) من «أنّ المرأة إذا أجرت العقد حال السكر، وأمضته حال الإفاقة»، يجب حمله على النوع الثاني من السكر، بمعنى أن لا يبلغ سكر المرأة حدّ زوال العقل وعدم التحصيل كاملاً، وإنّما يجب أن يكون في حدود مجرّد عدم تشخيص المصلحة والمفسدة المترتّبة على ذلك العمل، كأن لا تدرك وجود مصلحة في زواجها من هذا الرجل أم لا، أو أنّ المهر كان قليلاً أم لا، ولكنّها لم تفقد عقلها بالكامل.

أمّا المثال على النوع الثاني في الشخص السكران إذا قتل شخصا؛ إذ أفتى الفقهاء بأنّ فعله هذا يعدّ من القتل العمد الذي يوجب القصاص؛ لأنّ السكران لا يكون «مسلوب العقل» تماما، بحيث يعدّ كالمجنون.

وقد أشكل الشهيد الثاني(قدس‏‌‌سره) على كلام العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) وقال: إنّ السكران إذا كان من القسم الأوّل؛ بمعنى زوال العقل كاملاً، فالعقد باطل رأساً؛ سواء أمضته أم لا، وأمّا إذا كان من القسم الثاني؛ بمعنى عدم سلب العقل، فالعقد يكون صحيحاً، ولا يتوقّف على الإمضاء، فلزوم الرضا مع السكر مطلقاً لا يجتمعان، فاللازم إمّا إطراح الرواية رأساً أو العمل بمضمونها، والفتوى بصحّة النكاح مع الرضا تعبّداً.

وإليك نصّ كلامه:

وفي المختلف نزلها على سكر لا يبلغ حدّ عدم التحصيل، فإنّه إذا كان كذلك صحّ العقد مع تقريرها إيّاه. وفيه نظر بيّن؛ لأنّه إذا لم يبلغ ذلك القدر فعقدها صحيح وإن لم تقرّره وترض به بعد ذلك، فالجمع بين اعتبار رضاها مع السكر مطلقا غير مستقيم، بل اللازم إمّا إطراح الرواية رأسا أو العمل بمضمونها، ولعلّ الأوّل أولى[52].

كلام صاحب الجواهر في توجيه بيان العلاّمة الحلّي

قال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) بعد التعرّض لكلام الشهيد الثاني(قدس‏‌‌سره):

لعلّ الأمر بالعكس [بأن يكون الثاني هو الأولى] لصحّة الخبر [سندا ]وعدم مهجوريّته، لعدم ثبوت سلب عبارة السكران وعدم كونه كالمجنون [أو النائم من الناحية الفقهيّة، فلا يكون مسلوب العبارة].[53]

ثمّ حاول صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) توجيه كلام العلاّمة(قدس‏‌‌سره) قائلاً: ويمكن أن يكون مراد العلاّمة بالتنزيل المزبور عدم بلوغ السكر إلى حدّ يصدر منه الكلام على وجه الهذيان كالنوم ونحوه، بل هو باق على قابليّة قصد العقد كما يؤمي اليه قوله: (فزوجت نفسها) إلاّ أنّه لمّا غطّى السكر عقله لم يفرّق بين ذي المصلحة والمفسدة، فهو حينئذٍ قاصد للعقد، إلاّ أنّه لم يؤثّر قصده، لعارض السكر الذى ذهب معه صفة الرشد، فإذا تعقبته الإجازة صحّ واندرج في آية «أَوْفُواْ بِالعُقُودِ»[54] وغيرها، بل لعلّه أولى من السفيه، بل والمكره في ذلك، فإنّه أيضا قاصد للعقد، لكنه غير راض به، فإذا ارتفع الإكراه وحصل الرضا كفى ذلك في الصحّة.

نعم، لو فرض سكره على وجه يصدر اللفظ كالهذيان، اتّجه حينئذٍ عدم الصحّة ولو تعقّبت الإجازة، لعدم القصد حال النطق. وكذا المكره الذي بلغ فيه الإكراه إلى زوال العقل حتّى صار يصدر اللفظ منه على وجه الهذيان، فإنّ الظاهر عدم الصحّة وإن تعقّبته الإجازة[55].

وعلى هذا الأساس، فإنّ صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) قد فسّر عبارة العلاّمة(قدس‏‌‌سره) التي يقول: «إلى حدّ عدم التحصيل» إلى حدّ الهذيان، كالنائم والمجنون؛ بمعنى أنّ الملاك ليس هو العقل وعدم العقل، بل الملاك هو تشخيص المصلحة أو عدمها.

وعليه: فإنّ خلاصة ما قاله العلاّمة(قدس‏‌‌سره) هو أنّه لو قيل: إنّ السكران لا عقل له، وجب أن يكون عقده باطلاً، وأمّا إذا لم يُسلب عقله ـ كما هو الحال بالنسبة إلى المجنون ـ ولا يكون عند إجراء العقد مسلوب العقل كان عقده ـ بعد الإمضاء والإجازة ـ صحيحا.

وأمّا صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره)فقد عمد في معرض الإجابة عن إشكال الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله)على العلاّمة(قدس‏‌‌سره)، إلى توجيه كلام العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) قائلاً: إنّ المرأة أثناء السكر قد قصدت الزواج، وعقلها أيضاً سليم، ولكنّها لا تستطيع أن تدرك المصلحة والمفسدة. وبذلك حمل كلام العلاّمة(قدس‏‌‌سره) على تشخيص المصلحة والمفسدة.

تقييم كلام صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله)

إنّ الإشكال الذي يرد على هذا الحمل من قبل صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) هو أنّه على خلاف الظاهر من عبارة العلاّمة(رحمه‏‌‌الله)؛ لأنّ الظاهر من عبارته أنّ الفارق هو العقل وعدم العقل؛ حيث يصرّح قائلاً: «إنّ له عقلاً أم لا». وأمّا الفارق في بيان صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) هو قصد المرأة وعدم قصدها، وأنّها عندما تكون قاصدة تستطيع تشخيص المصلحة والمفسدة أم لا، وهذا على خلاف الظاهر من كلام العلاّمة(قدس‏‌‌سره).

رأي المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) ونقده

قال المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) بشأن العمل بهذه الرواية:

بل هو [العمل بالرواية] متعيّن، وإن كان مضمونها مخالفا للقاعدة [والقاعدة تقتضي أنّ العقد يشترط فيه القصد، والسكران لا قصد له، وكلامه ليس بإرادته]؛ فإنّها من حيث السند صحيحة، ومن حيث الدلالة واضحة، ولم يثبت إعراض الأصحاب عنها كي يقال بأنّه موجب لطرحها، فقد عمل بها جماعة كما عرفت[56].

ويكمن الإشكال عليه بأنّ هذا الكلام يخالف رأيه في العمل بالرواية؛ إذ أنّه يرى أنّ إعراض الأصحاب عن رواية صحيحة، لا يوجب وهنها، ولكنّه يرى هنا أنّ عدم إعراض الأصحاب مؤيّد للعمل بالرواية.

ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال بجوابين:

الجواب الأوّل: إنّ التقريرات المطبوعة لسماحته لا تعكس جميع كلامه ومبانيه بشكل كامل، وأنّه لم يكتب تقريظا إلاّ على بعض تقريراته، من قبيل: كتاب «مصباح الاُصول»،[57] ولكن من الطبيعي أن لا يكون سماحته قد اطّلع على جميع موسوعته(قدس‏‌‌سره).

الجواب الثاني: ربما أمكن القول بأنّ مبنى المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) كان موافقا لمبنى المشهور قديماً، ولكنّه عدل عن ذلك لاحقا، كما هو الحال بالنسبة إلى التوثيقات العامّة بشأن كتاب «كامل الزيارات»، حيث كان في بداية الأمر يعتقد بأنّ ما ورد في رجال كتاب «كامل الزيارات» هو التوثيق العامّ، وهو مقبول مثل التوثيقات الخاصّة، ولكنّه في آخر حياته عدل عن هذا الرأي.

فيبقى الكلام في أنّ ادّعاء عدول المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) عن قوله بمانعيّة إعراض الأصحاب عن العمل بالرواية الصحيحة مطابق للواقع أم لا؟

الرأي المختار حول هذه الرواية

نتيجة ما تقدّم هي أنّ كلام صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره)بوصفه رأيا مستقلاًّ لا بوصف كونه توجيها لكلام العلاّمة الحلّي(رحمه‏‌‌الله) صحيح؛ بمعنى أنّ السكران له قصد، ولكنّه لا يدرك المصلحة والمفسدة. فعلى سبيل المثال قد يبذل السكران ألف سبيكة ذهبيّة مهرا لامرأة، مع أنّه لا يدرك أنّ بذل هذا المال ليس في مصلحته.

والنقطة الهامّة هي أنّه إذا قيل: إنّ معنى «السكر» غير واضح؛ إذ لم يعلم أنّ معنى السكر عبارة عن فقدان العقل، أم عبارة عن عدم التمييز بين المصلحة والمفسدة فقط؟ وبذلك تصير الرواية مجملة من هذه الناحية، ويضاف هذا الإجمال إلى الإشكالات المتقدّمة على الاستدلال بالرواية.

وعليه: فمن العجب أن يقول المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره): إنّ هذه الرواية واضحة الدلالة؛ إذ مع إضافة هذا الإشكال إلى الإشكالات المتقدّمة، يقتضى الإنصاف بأن يقال إنّ الفقيه لا يستطيع الاستدلال بهذه الرواية.

تنبيه

إنّ مسألة النكاح المعاطاتي واسعة الانتشار في البلدان الغربيّة. فإذا قلنا ببطلان النكاح المعاطاتي من الناحية الفقهيّة، فهل يمكن القول: إنّ لازم هذا الرأي الفقهي أن تكون جميع أنواع النكاح المعاطاتي ـ كأن يتزوّج الرجل من المرأة باعتقاد صحّة الزواج المعاطاتي ـ من الزنا أم لا؟

ونقول في جواب ذلك: كلاّ، فهذا الأمر ليس من الزنا، ولكن لا تترتّب عليه آثار الزواج من جهة اُخرى؛ إذ الإجماع قائم على عدم صحّة النكاح المعاطاتي. ومن هنا يجب القول: إنّ هذا الأمر يدخل في باب الوط‏ء بالشبهة، فإذا حصل الوط‏ء بين الرجل والمرأة ظنّا منهما بتحقّق علقة الزوجيّة بينهما، لا يقول فقيه إنّ الذي وقع بينهما هو من الزنا. ومن هذا القبيل المثال الآتي؛ وهو أنّه إذا ذهب فقيه إلى القول بلزوم إجراء صيغة عقد النكاح باللغة العربيّة، فلو أجريا العقد باللغة الفارسية ظنّا منهما صحّة ذلك، لا يقول فقيه بأنّ العلاقة بينهما تكون من الزنا.

وعليه: رغم أنّ هذا الفعل لا يعدّ نكاحا؛ بدليل الإجماع على بطلان النكاح المعاطاتي، إلاّ أنّ هذا لا يلزم منه القول بالزنا، ومن هنا نقول: إنّ هذا العمل لا هو من النكاح، ولا هو من الزنا، بل هو من الوط‏ء بالشبهة.

خلاصة الكلام: إنّ الفقهاء الذين يريدون إثبات النكاح المعاطاتي بهذه الرواية، عليهم إثبات ثلاثة اُمور:

الأوّل: أن يثبتوا عدم إعراض مشهور الفقهاء عن هذه الرواية، والحال أنّهم قد أعرضوا عنها.

الأمر الثاني: تفسير عبارة «فهو رضى منها» على أنّه رضى منها بالنكاح، لا رضى منها بالعقد الذي اُجري حال السكر، وعليهم إرجاع عبارة «ذلك التزويج» إلى الإقامة بعد الإفاقة، لا إلى العقد الذي اُجري حال السكر، وحيث يوجد هذان الاحتمالان في الرواية، تكون الرواية مجملة.

الأمر الثالث: أن يثبت أنّ الألفاظ الصادرة من السكران، هي مثل الألفاظ الصادرة من النائم، في حين تقدّم أنّ السكران يستطيع أن يقصد الألفاظ بخلاف النائم.

وعليه: لا يمكن إثبات صحّة النكاح المعاطاتي بهذه الرواية.

المقال الثاني نظرية بطلان النكاح المعاطاتي

تحظى نظرية بطلان النكاح المعاطاتي باعتبار كبير في فقه الإماميّة. فإنّ الأغلبيّة من الفقهاء الذين تعرّضوا لبحث النكاح قد أكّدوا على لزوم إجراء اللفظ الدال على الإيجاب والقبول. فمنهم سماحة الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) في هذا الشأن؛ فإنّه قال بأنّ النكاح على قسمين: دائم ومنقطع، وكلاهما يحتاج إلى عقد مشتمل على الإيجاب والقبول اللفظي.[58]

وقد أكّد على عدم كفاية مجرّد الرضا القلبي بين الطرفين، وإنّ المعاطاة الجارية في أغلب المعاملات، لا تجري في عقد النكاح. ونشاهد هذا الكلام أو ما يشبهه في الكثير من المصادر الفقهيّة الاُخرى أيضا[59]. هذا من جانب، ومن جانب آخر تعرّض جمع من الفقهاء إلى البحث عن ألفاظ الإيجاب والقبول، دون أن يتعرّضوا إلى أصل البحث عن ضرورة لفظيّة الإيجاب والقبول، ولكن ذلك باعتبار أنّه من البداهة بحيث لا يحتاج إلى بحث[60].

وفيما يلي نبحث في أدلّة هذه النظريّة:

أدلّة عدم جريان المعاطاة في النكاح الدليل الأوّل: ملازمة المعاطاة في النكاح لضدّه (الزنا)

إنّ الدليل الأوّل على بطلان النكاح المعاطاتي هو الذي ذكره المحقّق النائيني(رحمه‏‌‌الله)في كتاب «منية الطالب»[61]. وهو من القائلين بعدم جريان المعاطاة في النكاح، مستدلاًّ بأنّ النكاح المعاطاتي يعني أن يطأ الرجل المرأة بقصد النكاح، في حين أنّ لهذا الوط‏ء عنوانا محرّما؛ من جهة أنّه لم يقع النكاح إلى زمان الوط‏ء، وحيث لم يقع نكاح يكون لهذا الوط‏ء عنوان الوط‏ء المحرّم، وبالتالي: فإنّ الفعل الذي جُعل أن يكون سببا لتحقّق النكاح ملازم لضدّه الذي هو الزنا.

فليس هناك فعل محقّق للنكاح، والفعل الموجود وهو الوط‏ء محقّق للزنا لا النكاح.

توضيح ذلك: إنّ المحقّق النائيني(قدس‏‌‌سره) قد أشار إلى هذا الأمر ضمن مقدّمة قال فيها: إذا أريد لفعل أن يحقّق معاملة، لابدّ أن يكون ذلك الفعل إمّا مصداقا لعنوان تلك المعاملة، أو مصداقا لملازم عنوان تلك المعاملة، وليس كّل فعل مصداقا لأيّ عنوان، فعلى سبيل المثال لو قال شخص: إذا رفعت يدي اليمنى فهذا يعني أنّي رهنت مالي، وإذا رفعت يدي اليسرى فهذا يعني أنّي أجّرت مالي، فإنّ هذا الشخص وإن أراد بذلك الرهن أو الإجارة، ولكن حيث لا يكون هذا الفعل مصداقا عرفاً لعنوان الرهن أو الإجارة، فإنّه لا يحقّق الرهن أو الإجارة.

ولو لم يكن الفعل مصداقا للعنوان، فلا أقلّ من أن يكون مصداقا لملازم هذا العنوان، وعلى سبيل المثال: أنّ لازم البيع هو السلطة والسلطنة، وإذا كان فعل مصداقاً للسلطة والسلطنة يمكن أن يكون ذلك الفعل محقِّقاً لعنوان البيع؛ لأنّه مصداق لملازم عنوان البيع، وأمّا إذا لم يكن الفعل مصداقا لعنوان المعاملة أو مصداقا لما يلازم عنوان المعاملة، فلا يمكنه أن يحقّق عنوان المعاملة.

وفي باب المعاطاة في النكاح، يكون الوط‏ء مصداقاً للزنا، وليس مصداقا للنكاح؛ بمعنى أنّ فعل الوط‏ء مصداق لضدّ عنوان النكاح الذي هو الزنا.

وعلى هذا الأساس، فإنّ المحقّق النائيني(قدس‏‌‌سره)ذهب إلى القول بعدم تحقّق النكاح بالوط‏ء، وبالتالي: عدم جريان المعاطاة في النكاح؛ وذلك إذ يقول:

وجه اعتبار كون الفعل مصداقا لها أو مصداقا لملازمها ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مجرّد قصد عنوان ووقوع الفعل عقيبه لا يؤثّر في تحقّق هذا العنوان إذا لم يكن الفعل آلة لإيجاده أو إيجاد ملازمه... نعم، ما لا يجري فيه المعاطاة اُمور... منها: ما لا يصحّ إنشاؤه بالفعل شرعا... (مثل النكاح)، فإنّ الفعل فيه ملازم لضدّه، وهو الزنا والسفاح، بل مصداق للضدّ حقيقة، فإنّ مقابل النكاح ليس إلاّ الفعل المجرّد عن الإنشاء القولي، وعمّا جعله الشارع سببا للحليّة.[62]

إشكالات الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) على الدليل الأوّل

الإشكال الأوّل: إنّ تحقّق النكاح المعاطاتي لا ينحصر بـ «الوط‏ء»، بل هناك طرق اُخرى لتحقّق المعاطاة في النكاح أيضا، مثلاً كما يمكن للمرأة أن تزوّج نفسها من الرجل بقولها: «زوّجتك نفسي»، يمكنها أن تقوم بذلك بفعل يعبّر عن الإيجاب من طرفها، كأن تقاولا وقصدا الزواج، ثمّ تحمل متاعها وأثاثها إلى بيت الرجل بنيّة أنّها تريد الارتباط معه برباط الزوجيّة، ويقوم الرجل بفتح باب بيته لها ولأثاثها، وبذلك يؤدّي القبول.

وعليه: فإنّ النكاح المعاطاتي يتحقّق بالفعل المباح أيضا، ولا ينحصر بالوط‏ء.

الإشكال الثاني: إذا كان الطريق إلى تحقّق النكاح المعاطاتي منحصرا بـ «الوط‏ء»، كان هذا العمل محرّما تكليفاً، ولكنّه يمكن أن يكون سببا لتحقّق النكاح المعاطاتي وضعاً.

توضيح ذلك: إنّ هناك عنوانين ينطبقان على الوط‏ء، أحدهما: الوط‏ء سبب للنكاح، والآخر: هذا الوط‏ء زنا ومحرّم. وبعبارة اُخرى: إنّ لهذا الوط‏ء عنوان السبب بما هو سبب، وعنوان الوط‏ء المحرّم. ولا دليل على عدم تحقّق النكاح بهذا الفعل المحرّم؛ إذ إيجاد الفعل الصحيح بالسبب الحرام ممكن. كأن يذهب الشخص إلى ميقات الحجّ بسيّارة مغصوبة، وعند بلوغه الميقات يتركها. فهذا الشخص رغم استفادته من الحرام، ولكنّه عند بلوغ الميقات قد حقّق الاستطاعة ويجب عليه الحجّ، ويكون حجّه صحيحا. وعلى هذا الأساس، رغم أنّ السبب حرام تكليفاً، ولكنّه يترتّب عليه الأثر الوضعي.

مثال آخر: أن يجعل الشخص مالاً محرّما في مهر المرأة، ففي هذه الصورة مع أنّ السبب حرام، ولكن نتيجة هذا الفعل المحرّم هي الصحّة؛ إذ لا ملازمة بين عنوان «الحرمة» و«البطلان»، حتّى يقال: حرمة السبب مساوق لبطلان المسبّب. ونظير ذلك ما قاله الاُصوليون في باب المعاملات من أنّ النهي في المعاملات لا يوجب الفساد، أمّا النهي في العبادات فهو موجب للفساد.

وعليه: فإنّ هذا «الوط‏ء» وإن كان عملاً محرّما، ولكن ينطبق عليه عنوانان، على غرار بحث اجتماع الأمر والنهي، حيث يجتمع عنوانان بالنسبة إلى الصلاة في الأرض المغصوبة ـ على سبيل المثال ـ أحدهما: عنوان الصلاة يكون متعلّقاً للأمر، والآخر: عنوان الغصب الذي يكون متعلّقا للنهي، من دون أن يكون لهذين العنوانين أيّ ارتباط. ومن هنا فإنّ القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي ـ ومنهم سماحة الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) ـ يقولون: قد اجتمع عنوانان، وهما وجوب الصلاة وحرمة الغصب في معنون واحد، وهو الصلاة.

وفي النكاح المعاطاتي الذي يتحقّق بالوط‏ء أيضاً عنوانان، أحدهما: عنوان الحرمة، والآخر: عنوان السببيّة للنكاح، وإنّ الشخص عند ارتكابه لعمل محرّم؛ فمن جهة أنّه لم تقع علقة الزوجيّة بين الطرفين بعد، عليه أن يتحمّل تبعاته وما يترتّب عليه من العقوبة، إلاّ أنّ هذا العمل المحرّم في الوقت نفسه ينطبق عليه عنوان آخر أيضا، وهو السببيّة لتحقّق النكاح المعاطاتي.

ثمّ أشار سماحة الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله) إلى رأي المحقّق النائيني(رحمه‏‌‌الله) في باب المعاملات؛ أي القول: إنّ الفعل المحقِّق للمعاملة يجب إمّا أن يكون مصداقا لذلك العنوان، أو مصداقا لملازم ذلك العنوان، ويقول: لا يمكن القول بأنّ الوط‏ء لا يحقّق النكاح إلاّ في حالة واحدة، وهي أن يقال بأنّ الوط‏ء المحرّم لم يكن محقّقا وسببا للنكاح من الناحية العرفيّة، وأنّ العرف لا يعتبر هذا الفعل من الأسباب المتعارفة للنكاح، وما دام الفعل لا يعدّ سببا عقلائيا لإيجاد المعاملة، لا يمكن تحقيقها به.

وإليك نص عبارة الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) في هذا الشأن:

«وأمّا النكاح»: فقد يتوهّم أنّه كذلك أيضا، بتوهّم أنّ الفعل فيه ملازم لضدّه، وهو الزنا والسفاح. وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ الزنا لدى العرف غير النكاح والزواج، سواء كان بالقول أو الفعل، فلو تقاول الزوجان وقصدا الزواج، ثمّ أنشأته المرأة بذهابها إلى بيت المرء بجهازها مثلاً وقبل المرء ذلك، بتمكينها في البيت لذلك، تحقّقت الزوجيّة المعاطاتيّة، وتترتّب عليها أحكامها من جواز النظر، والوط‏ء، ووجوب النفقة، وغيرها. نعم، لو قصدا حصوله بنفس الوط‏ء، يكون ذلك الوط‏ء محرّما، لكن لا مانع من ترتّب الزواج عليه، فإنّ السبب المحرّم يمكن أن يكون مؤثِّرا وضعا. مع إمكان أن يقال: إنّ الوط‏ء الخارجي منطبق عليه عنوان السبب خارجا، وعنوان الوط‏ء المحرّم، والمحرّم عنوان، والمحلّل عنوان السبب بما هو سبب، وهما منطبقان على الخارج، نظير باب اجتماع الأمر والنهي. ولو قيل: إنّ المبغوض لا يكون سببا ـ نظير ما يقال على الاجتماع: إنّ المبعّد والمبغوض لا يكون مقرّبا ـ فقد فرغنا عن جوابه في محلّه، من أنّ حيثيّة المبغوض بالذات غير المقرّب وغير السبب ههنا. نعم، ما يمكن أن يقال في المقام: إنّ الوط‏ء ليس من الأسباب العرفيّة والعقلائيّة للزواج، وما قلنا من أنّ القاعدة تقتضي أن تجري المعاطاة في مطلق المعاملات، ليس المراد منه أنّ كلّ فعل أو إشارة ونحوها يمكن أن يكون سببا، بل لا بدّ في الأسباب أن تكون عقلائيّة، ففي مثل الوصية للعتق بعد الموت، أو التمليك بعده وإن أمكن إفهامها بالإشارة ونحوها، لكن ليس مثل تلك الأفعال أسبابا عقلائيّة[63].

تقييم رأي الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره)

أمّا الإشكال على كلام سماحة الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) في جواز اجتماع الأمر والنهي، فهو أنّ القائل باجتماع الأمر والنهي إنّما يمكنه القول باجتماع الأمر والنهي إذا كان التركيب بين العنوانين انضماميّا، وأمّا إذا كان التركيب بينهما اتحاديّا، فيجب القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.

وتوضيح ذلك: إنّ هناك نوعين من التركيب، وهما: التركيب الانضمامي، والتركيب الاتحادي. والتركيب الانضمامي يعني أن يكون لكلّ واحد من العنوانين «ما بإزاء خارجي» مستقلّ. وفي عنوان مثال الصلاة في الأرض المغصوبة، هناك لطبيعي الصلاة ـ بغضّ النظر عن الغصب ـ ما بإزاء خارجي، ولطبيعي الغصب ـ بغضّ النظر عن الصلاة ـ أيضاً ما بإزاء خارجي، وقد انضمّ هذان العنوانان في الصلاة في الأرض المغصوبة، وحصل بذلك التركيب الانضمامي.

وأمّا في التركيب الاتّحادي، فليس لكلّ من العنوانين ـ بغضّ النظر عن العنوان الآخر ـ ما بإزاء خارجي، وإنّما هناك ما بإزاء خارجي واحد فقط.

فعلى سبيل المثال: فيما يتعلّق بتحقّق النكاح بـ «الوط‏ء» هناك عنوانان؛ أحدهما: الوط‏ء المحرّم، والآخر: السببيّة للنكاح، إلاّ أنّ هذين العنوانين لا يوجد لهما أكثر من واحد من المطابق الخارجي؛ وهو الوط‏ء المحرّم، فلا يوجد في الخارج ما بإزاء مستقلّ للسببيّة إلى النكاح؛ إذ عندما يقال: «الفعل سبب للنكاح»، يكون ما بإزاء عنوان السبب هو الوط‏ء المحرّم نفسه.

والنتيجة: أنّ الأمر في التركيب الانضمامي قد تعلّق بعنوان، والنهي تعلّق بعنوان آخر. ومن هنا يمكن القول باجتماع الأمر والنهي ـ وعلى الرغم من أنّ الكلام هنا ليس في اجتماع الأمر والنهي، إلاّ أنّه يوجد هنا اجتماع عنوانين لجهتين أيضا ـ ، وأمّا إذا قلنا بالتركيب الاتّحادي، فلا يبقى هناك مجال للقول باجتماع الأمر والنهي. وبطبيعة الحال لابدّ من التدقيق في أنّ أصل التفصيل بين التركيب الانضمامي والاتّحادي هل هو مقبول أم لا؟

رأي الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله) بشأن الدليل الأوّل ونقده

قال الشيخ الأنصاري(قدس‏‌‌سره) في «كتاب النكاح»: إنّ الفرق بين الزنا والنكاح يكون باللّفظ وعدمه؛ لأنّ كلاًّ من النكاح والسفاح يتحقّقان غالبا بالرضا بين الطرفين، بمعنى أنّ الزنا والنكاح يشتركان من حيث التراضي بين الطرفين، وإنّ التراضي كما هو موجود في النكاح فهو موجود في السفاح أيضا. وبالتالي: فإنّ التفاوت بينهما يكمن في وجود وعدم وجود اللفظ، وإذا رفع هذا التفاوت، لا يبقى هناك أيّ فرق بينهما. وإليك نصّ عبارة الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله) في هذا الشأن:

أجمع علماء الإسلام ـ كما صرّح به غير واحد ـ على اعتبار أصل الصيغة في عقد النكاح، وأنّ الفروج لا تباح بالإباحة ولا بالمعاطاة، وبذلك يمتاز النكاح عن السفاح؛ لأنّ فيه التراضي أيضا غالبا[64].

إلاّ أنّ الإشكال الذي يرد على هذا هو أنّ الفارق الوحيد بين الزنا والنكاح لا يكمن في وجود وعدم وجود اللفظ فقط، كي يقال: إذا كان هناك لفظٌ كان النكاح متحقّقا، وإن لم يكن هناك لفظ فالمتحقّق هو الزنا. بل إنّ الاختلاف الرئيس في النكاح وعدمه يكمن في الالتزام بالزوجيّة من الطرفين وعدم التزامها، ففي النكاح هناك التزام بالزوجيّة من الطرفين، وأمّا في الزنا فلا التزام بالزوجيّة من قبل الطرفين؛ بمعنى أنّه لا يقصد أحد من الطرفين في الزنا تحقيق الزوجيّة بينهما.

ومن هنا فإنّه من العجيب جدّا أن يذهب الشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله) إلى حصر الفارق بين السفاح والنكاح بوجود أو عدم وجود اللّفظ فقط، في حين أنّ اللّفظ مجرّد وسيلة وعنوان مبرز لاعتبار الطرفين. وبهذا البيان فقد اتّضح وجود اعتبار الزوجيّة في النكاح المعاطاتي، ومبرزيّة «الفعل» لهذا الاعتبار.

رأي المحقّق الإصفهاني والمحقّق الخوئي بشأن الدليل الأوّل

إنّ النقطة التي أفادها المحقّق الإصفهاني(قدس‏‌‌سره)،[65] والمحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) هي أنّه إذا كان هناك دليل على حرمة هذا الوط‏ء، كما لو كان هذا الدليل يقول: لا ينعقد النكاح إلاّ باللّفظ المعيّن المخصوص، فحينئذٍ إذا تحقّق وط‏ء وتمتع من دون لفظ، كان حراما.

إلاّ أنّ الكلام هنا يكمن في أنّه ـ بغضّ النظر عن هذا الأمر، واشتراط وجود لفظ خاصّ ـ هل يكون المعتبر في عقد النكاح هو اللّفظ، أم أنّ النكاح يتحقّق بنفس الفعل؟ بمعنى أنّه لو قال شخص بأنّ النكاح يتحقّق بنفس الفعل، فليس من اللازم أن يتحقّق الوط‏ء كي يتحقّق النكاح، بل يتحقّق النكاح في أوّل لقاء بين الرجل والمرأة بالنظر أو الإشارة أو غيرهما، ولا احتياج إلى أكثر من ذلك، ولا يحمل الوط‏ء حينئذٍ عنوان المحرّم.

وإليك نصّ كلام السيّد الخوئي في هذا الشأن:

إنّ كون الفعل ضدّا للنكاح إنّما هو من ناحية أنّ الشارع قد اعتبر في عقد النكاح مبرزا خاصّا ـ وهو اللفظ ـ ولا ريب في أنّ مورد البحث في المقام إنّما هو مع قطع النظر عن ذلك. وعليه فالزوجيّة في نفسها ـ مع قطع النظر عن اعتبار الشارع فيها مبرزا خاصّا ـ قابلة للإنشاء بالفعل. وعليه: فيكون الفعل بنفسه مصداقا للنكاح بالحمل الشايع. ويضاف إلى ذلك: أنّا لو سلّمنا ما أفاده شيخنا الاُستاذ ولكنّه مختصّ بالفعل الخاصّ، ولا يعمّ كلّ فعل من إشارة ونحوها. فغاية الأمر: أنّه لا تحصل الزوجيّة في نظر الشارع فيما إذا اُنشئت بالفعل، لا أنّ الفعل لا يكون مصداقا للتزويج عرفا وفي نظر العقلاء[66].

والتحقيق أوّلاً: أنّ الوط‏ء في المقام وإن كان خاليا عن النكاح، ولكن من جهة أنّه مقدّمة وسبب للنكاح يكون خارجا عن موضوع الزنا، وبعبارة اُخرى: يمكن القول بأنّ هذا الوط‏ء ليس من مصاديق الزنا، وإن كان غير منطبق عليه عنوان النكاح، بل هو مقدّمة وسبب له.

وثانيا: أنّ البحث في باب العقود والإيقاعات ليس عن عنوان السبب والمسبّب، وإنّ التعبير بأنّ «اللفظ»، و «الفعل»، و«الإشارة» أسباب لتحقّق المعاملات، وأنّ مسبّباتها متأخّرة عنها، ليس تعبيرا صحيحا؛ إذ في بحث السبب والمسبّب، يتحقّق السبب أوّلاً، ثمّ يتحقّق المسبّب بعد ذلك، في حين أنّ «اللفظ» و«الفعل» و«الإشارة» في المعاملات والإنشاءات بشكل عامّ يمثّل «موضوعا» و«ظرفا» لتحقّق المعاملات. بمعنى أنّ الإنشاء يكشف النقاب عن المنشأ، أي: بتحقّق الإنشاء يتحقّق مدلول العقد أيضا، ويكون هو المنشأ أيضا، لا أن يتحقّق الإنشاء أوّلاً، ثمّ يتحقّق مدلول العقد في مرحلة لاحقة للإنشاء.

وفي هذا البحث عندما يتمّ الإنشاء ـ سواء في ذلك الإنشاء القولي أو الفعلي ـ يتحقّق النكاح، لا أن يتحقّق النكاح بعد تحقّق الإنشاء. وعلى هذا الأساس يكون القول بوجود النكاح المعاطاتي بمعنى أنّ النكاح يتحقّق منذ اللحظة الاُولى من اللقاء بين الرجل والمرأة، ولا يوجد هناك شيء ينطبق عليه عنوان الحرام.

وبالتالي: فإنّه بعد هذا الكلام الذي هو كلام صحيح، لا يبقى مجال لإشكال المحقّق النائيني(قدس‏‌‌سره)على جريان المعاطاة في النكاح.

نعم المطلب الوحيد الموجود في كلمات المحقّق النائيني(قدس‏‌‌سره)، والموجود في كلمات سائر الفقهاء أيضاً تبعا للمحقّق النائيني(رحمه‏‌‌الله)، وهو كلام صحيح: فهو أنّه لو قبلنا بشكل عام جريان المعاطاة في النكاح، فإنّ الفعل الذي يحقّق هذا النكاح يجب أن يكون فعلاً عقلائيا متعارفا، و«الوط‏ء» لا يمكنه أن يكون من مصاديق هذا الفعل إلاّ أن يقال: إنّ الوط‏ء ليس محقّقا للنكاح عند المتشرّعة وفي ارتكازهم لكن العقلاء يعدّونه من باب النكاح، فتأمّل.

الدليل الثاني: الإجماع

الدليل الثاني على عدم جريان المعاطاة في النكاح هو الإجماع، والإجماع هنا لا يقتصر على الشيعة، وإنّما هو إجماع المسلمين قاطبة، إذ اتّفقت كلمة الاُمّة الإسلامية بجميع طوائفها على أنّ النكاح يجب أن يكون بـ «اللفظ»، بل إنّه لا ينعقد إلاّ باللفظ الخاص، ولا ينعقد بالفعل.

وقد نقل هذا الإجماع بعض الفقهاء، من أمثال: الشهيد الثاني(قدس‏‌‌سره)،[67] والمحدّث البحراني(قدس‏‌‌سره)،[68] وصاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره)، حيث قال ـ بعد بيان أنّ الإيجاب والقبول اللفظيين في عقد النكاح من أركان العقد المؤقت ـ :

أمّا الصيغة فهي اللفظ الذي وضعه الشرع وعيّنه وصلةً إلى انعقاده، كغيره من العقود اللازمة، وهو؛ أي اللفظ المزبور إيجاب وقبول، فلا يحصل بدون ذلك قطعا، بل إجماعا بقسميه [المحصل والمنقول]، ونصوصا[69].

إلاّ أنّه لم يبيّن مراده من «النصوص» هنا.

وقد ذهب المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) إلى القول بأنّ وجوب العقد في النكاح إجماعي؛ إذ يقول:

وهو ممّا لا خلاف فيه، بل عليه إجماع علماء المسلمين على ما في كلمات بعضهم.

ثمّ استطرد بعد ذلك قائلاً:

نعم، يمكن الاستدلال عليه بجملة من النصوص الدالّة على اعتبار اللفظ في المتعة، بل يظهر من بعضها مفروغيّة اعتباره لدى السائل، وإنّما السؤال عن كيفيّاته وخصوصيّاته. فإنّه إذا كان اعتباره في المتعة معلوما ومفروغا عنه، فاعتباره في الدوام يكون بطريق أولى[70].

الإشكال على الدليل الثاني

إنّ الإشكال الوحيد الذي يمكن إيراده على هذا الإجماع هو أنّه إجماع مدركيّ؛ إذ يستظهر من بعض الروايات أنّ اللّفظ معتبر في خصوص عقد النكاح، فلعلّ هذا الإجماع مستند إلى هذه الروايات، وبذلك يكون إجماعا مدركيّا، ولا اعتبار بالإجماع المدركي.

جوابان عن الإشكال

هناك جوابان عن هذا الإشكال:

الأوّل: قد بيّنا في مباحث علم الاُصول أنّ الإجماع المدركي ـ طبقا للرأي المختار ـ لا إشكال فيه، واتّضح أنّ اعتقاد جمع كثير من الفقهاء بعدم حجّية الإجماع المدركي غير صحيح، وأنّ مدركيّة الإجماع لا تضرّ بملاك حجّية الإجماع.

الجواب الثاني: إنّ هذا الإجماع ليس مدركيّا؛ إذ ذهب الكثير من الفقهاء إلى القول باعتبار الإيجاب والقبول اللفظي في عقد النكاح، دون أن يستدلّوا لذلك بأيّة رواية. وإنّ أكثر الفقهاء الذين استدلّوا بالروايات، هم من الفقهاء المتأخّرين. بل لم يستدلّوا حتّى برواية «إنّما يحلّل الكلام، ويحرّم الكلام»[71]. ومن هنا لا يمكن إهمال هذا الإجماع بحجّة أنّه مدركيّ، لا سيّما وأنّه إجماع لا يختص بفقهاء الشيعة، بل هو إجماع من قبل المسلمين كافّة؛ إذ «الإجماع» أو «ارتكاز المتشرّعة» ـ على حدّ تعبير الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) ـ كان قائما منذ عصر الأئمّة عليهم‏السلامعلى أن تكون جميع عقود النكاح باللّفظ، واستمرّ ارتكاز المتشرّعة هذا بعد عصر الأئمّة المعصومين عليهم‏السلامعلى ما كان عليه.

والنقطة الملفتة للانتباه أنّه لا يمكن القول: هناك مدرك لارتكاز المتشرّعة؛ إذ لا معنى للمدرك في ارتكاز المتشرّعة، والمدرك إنّما يكون له معنى في فتوى الفقيه، فعندما يفتي الفقيه يستند إلى مدرك، إلاّ إذا قيل: إنّ ارتكاز المتشرّعة متفرّع عن فتوى الفقهاء، وفي مثل هذه الحالة يكون الإشكال واردا، بمعنى أنّ فتوى الفقيه إذا كانت مدركيّة، سيكون ارتكاز المتشرّعة مدركيّا أيضا.

بيد أنّ السؤال الذي يطرح هنا: هل جميع ارتكازات المتشرّعة منبثقة في الواقع من فتوى الفقهاء؟

الجواب: كلاّ، ليست جميع الارتكازات مستندة إلى فتوى الفقهاء، بل كما في باب حلق اللحية لا حاجة إلى الإجماع أو الرواية الواردة عن الإمام الرضا(عليه‏‌‌السلام)على حرمة حلق اللحية،[72] بل يكفي ارتكاز المتشرّعة ـ على فرض ثبوته ـ على حرمة حلق اللحية؛ فإنّ المتشرّعة منذ عصر المعصومين عليهم‏السلامقد توارثوا هذا الحكم ـ اعتبار اللفظ الخاصّ في النكاح ـ عبر الأجيال، دون أن يستندوا في ذلك إلى فتوى فقيه بعينه.

وعلى هذا الأساس، يقوى احتمال وجود الإجماع هنا، وهو إجماع غير مدركيّ، ووجود ارتكاز للمتشرّعة أيضاً لا يجيز للفقيه أن يحكم بجريان المعاطاة في النكاح، فالمعاطاة في النكاح باطلة.

الدليل الثالث: الروايات الدالة على اعتبار وجود اللّفظ

هناك روايات يستدلّ بها على وجوب الاستفادة من اللفظ في عقد النكاح، وعدم جريان المعاطاة فيه، وقد أشار إليها المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) أيضا.

الرواية الأولى، رواية أبان بن تغلب

محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، عن إبراهيم بن الفضل، عن أبان بن تغلب وعن عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران ومحمّد بن أسلم، عن إبراهيم بن الفضل، عن أبان بن تغلب، قال: قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال:

تَقُولُ: أَتَزَوَّجُكِ مُتْعَةً عَلَى كِتَابِ اللّه‏ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لاَ وَارِثَةً وَلاَ مَوْرُوثَةً كَذَا وَكَذَا يَوْما، وَإِنْ شِئْتَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً بِكَذَا وَكَذَا دِرْهَما، وَتُسَمِّي مِنَ الْأَجْرِ مَا تَرَاضَيْتُمَا عَلَيْهِ قَلِيلاً كَانَ أَمْ كَثِيرا، فَإِذَا قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَدْ رَضِيَتْ؛ فَهِيَ امْرَأَتُكَ وَأَنْتَ أَوْلَى النَّاسِ بِهَا[73].

إنّ هذه الرواية لها سندان ينتهيان كلاهما إلى «إبراهيم بن الفضل، عن أبان بن تغلب». وقد صرّح العلاّمة المجلسي في مرآة العقول[74] بجهل الأوّل وضعف الثاني من جهة أنّ إبراهيم بن الفضل مجهول ومحمّد بن أسلم كان غالياً فاسد الحديث.

رأي المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) في الاستدلال بهذه الرواية

لقد بيّن المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) الاستدلال بهذه الرواية، بتقريب أنّ السائل يقول: «كيف أقول»، والإمام(عليه‏‌‌السلام)يجيبه: «تقول»، وهذا يعني أنّ اعتبار اللفظ أمر بديهيّ عند السائل، ثمّ قال الإمام(عليه‏‌‌السلام): «إذا قالت: نعم، فقد رضيت». وعليه: فإنّ معنى عبارة «إذا قالت» هو أنّ «القول» معتبر في عقد النكاح المنقطع، وأنّه لا يتحقّق بـ «الفعل». وإليك نصّ عبارة المحقّق الخوئي في هذا الشأن:

يمكن الاستدلال عليه بجملة من النصوص الدالّة على اعتبار اللفظ في المتعة، بل يظهر من بعضها مفروغية اعتباره لدى السائل، وإنّما السؤال عن كيفيّاته وخصوصيّاته. فإنّه إذا كان اعتباره في المتعة معلوما ومفروغا عنه، فاعتباره في الدوام يكون بطريق أولى. على أنّ في بعض هذه النصوص أنّها: «إذا قالت: نعم، فقد رضيت، وهي امرأتك، وأنت أولى الناس بها» وهو ظاهر الدلالة في عدم كفاية الرضا الباطني، واعتبار اللفظ؛ بحيث لولا قولها: «نعم»، لما تحقّقت الزوجيّة، ولما كان الرجل أولى الناس بها.[75]

ثلاث اشكالات على استدلال المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) بالرواية

الأوّل: يرد على هذا الكلام إشكال نقضي؛ إذ هناك في روايات المزارعة رواية تقول:

قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه‏ِ(عليه‏‌‌السلام) عَنِ الرَّجُلِ يَزْرَعُ أَرْضَ آخَرَ فَيَشْتَرِطُ لِلْبَذْرِ ثُلُثا وَلِلْبَقَرِ ثُلُثا؟ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ بَذْرا وَلاَ بَقَرا؛ فَإِنَّمَا يُحَرِّمُ الْكَلاَمُ[76].

والإشكال الذي يرد على المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) هنا هو أنّه هل أنّه يفتي على طبق ظاهر هذه الرواية، ويقول: إنّ اللفظ معتبر في المزارعة أيضا؟! والحال أنّ جميع الفقهاء يقولون بجريان المعاطاة في باب المزارعة. وهناك روايات اُخرى مثل هذه الرواية ورد فيها التعبير بـ «القول».

وعليه: لا يمكن الاستدلال على اعتبار «اللفظ» في عقد النكاح لمجرّد ورود عبارة «تقول»، و«أقول» أو «قالت» في الرواية.

الإشكال الثاني: إنّ المعاطاة لم تكن شائعة في عصر الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام؛ إذ كانت أكثر العقود ـ من قبيل: البيع، والإجارة، والرهن، والمزارعة ـ لفظيّة. ومن هنا، فإنّ هذه الرواية تحمل على المورد الغالب، حيث يسأل الراوي عن كيفيّة إجراء صيغة عقد النكاح، من دون أن يكون لديه أدنى التفات إلى إمكان أن يجري النكاح بغير اللفظ أيضا أم لا.

الإشكال الثالث: فإنّه يرد على الأولويّة التي يدّعيها المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره). بيان ذلك: أنّه رغم قبول اعتبار وجود اللّفظ في النكاح المنقطع، ولكنّه ربما يكون ذلك من باب أنّ النكاح المنقطع يحتاج فيه الطرفان إلى تحديد المدّة ومقدار المهر، وهي أمور لا تفهم بغير اللّفظ، وإنّ أفضل الطرق لتحديد المدّة والمهر هو اللّفظ، وأمّا في النكاح الدائم فلا معنى لتحديد المدّة، كما أنّ المهر في النكاح الدائم ليس ركنا من أركان العقد حتّى من دون المهر.

وعليه: فإنّ الأولويّة التي يدّعيها المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) هنا غير صحيحة.

تنبيه: لقد وردت صيغة عقد النكاح المنقطع في جميع روايات أبواب المتعة من كتاب «وسائل الشيعة» بصيغة المضارع، من قبيل: «أتزوّجك». وكذلك ورد الإيجاب من قبل الرجل؛ إذ يقول: «أتزوّجك على كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه»، وتقول المرأة: «نعم». فاضطرّ الفقهاء إلى توجيه هذه الروايات، وقالوا بأنّ هذه الكلمات من المقاولة قبل العقد، وإلاّ فإنّ هذا النوع من الكلام لا يوجب وقوع العقد في حين أنّ السائل في هذه الروايات يقول: «كيف أقول لها؟»، وظاهرها إجراء صيغة العقد بالفعل المضارع. والصحيح أنّه يستفاد من هذه الروايات أنّ الماضوية ليست شرطا في عقد النكاح أيضا. ولكن يمكن ادّعاء الإجماع على ماضويّة صيغة النكاح، فيجب بحثه في باب النكاح.

والنتيجة: أنّ هذه الرواية لا يستفاد منها اعتبار وجود اللّفظ في النكاح المنقطع، والدليل الوحيد ـ الذي أثبتناه حتّى الآن ـ على اعتبار اللّفظ هو ارتكاز المتشرّعة.

الرواية الثانية، رواية أيّوب بن بريد

أشار المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) في معرض استدلاله بالروايات على وجوب «اللفظ» في عقد النكاح، إلى هذه الرواية:

عنه [محمّد بن يحيى العطّار]، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن أبي أيّوب، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) عن قول اللّه‏ عزّ وجلّ: «وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقا غَلِيظا»[77] قال:

الْمِيثَاقُ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي عُقِدَ بِهَا النِّكَاحُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: غَلِيظا فَهُوَ مَاءُ الرَّجُلِ يُفْضِيهِ إِلَى امْرَأَتِهِ[78].

هذه الرواية صحيحة من ناحية السند، وهي تعرف بـ «صحيحة بريد العجلي»، عن الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام). وقد علّق عليها المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره) بقوله:

إنّها واضحة الدلالة على اعتبار اللّفظ، وعدم كفاية مجرّد الرضا الباطني، بل وإظهاره بغير اللّفظ المعيّن. وكيف كان، فاعتبار الصيغة في إنشاء النكاح وعدم كفاية المعاطاة مما لا خلاف فيه بينهم ولا إشكال[79].

إشكالان على الاستدلال بهذه الرواية

الأوّل: يمكن أن يكون الإمام(عليه‏‌‌السلام) قد بيّن بعبارة «هي الكلمة» واحدا من مصاديق النكاح، بمعنى أنّ أحد مصاديق النكاح، هو النكاح «اللفظي».

الإشكال الثاني: من العجيب منه(قدس‏‌‌سره) أنّه لم يدقّق في الرواية الاُخرى الواردة أيضا في ذيل هذه الآية الكريمة، عن الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام)، إذ يقول فيها:

الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان[80].

فالمراد من «الميثاق الغليظ» في هذه الرواية هو «العهد»، و«العهد» أعمّ من أن يكون باللّفظ أو بغيره.

وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن نستفيد من عبارة «الكلمة» الواردة في الرواية الثانية، أنّ لللّفظ خصوصيّة وموضوعيّة في عقد النكاح.

خلاصة الكلام: أنّ القاعدة الأوليّة تقتضي جريان المعاطاة في جميع العقود والإيقاعات، إلاّ إذا دلّ دليل على خروج العقد أو الإيقاع الخاصّ من هذه القاعدة.

والدليل الوحيد على عدم جريان المعاطاة في عقد النكاح هو الإجماع وارتكاز المتشرّعة.

وبطبيعة الحال فقد استدلّ المحقّق الخوئي(قدس‏‌‌سره)، وصاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره)[81] وغيرهما من الفقهاء ببعض الروايات، ولكن قد ظهر أنّ استدلالهم لم يكن تامّا.

الرأي المختار فيما يتعلّق بجريان المعاطاة في النكاح

تقوم القاعدة الأوّليّة على جريان المعاطاة في جميع العقود والإيقاعات، إلاّ إذا قام دليل على عدم جريانها في عقد من العقود. وهناك دليلان على هذه القاعدة. الدليل الأوّل هو عمومات وإطلاقات أدلّة المعاطاة. والدليل الثاني ـ وهو الأهمّ ـ أنّه لا توجد أيّ خصوصيّة لللّفظ لا في صحّة المعاملة ولا في لزومها.

وإنّ هذا الرأي الذي كان مشهورا بين الفقهاء المتقدّمين وبعض المتأخّرين من القول بأنّ العقود اللازمة تتوقّف على اللّفظ غير مقبول. والنتيجة المترتّبة على هذين الدليلين هي جريان المعاطاة في كلّ عقد وإيقاع، إلاّ إذا قام دليل خاص على عدم جريانها.

وعلى أساس هذه القاعدة يجب أن تجري المعاطاة في عقد النكاح أيضا، إلاّ أنّ الإجماع وارتكاز المتشرّعة دليلان مهمّان يمنعان من جريان المعاطاة في باب النكاح.

ومن هنا نقول بعدم جريان المعاطاة في عقد النكاح، واللّه‏ العالم والحمد للّه‏ ربّ العالمين.

 
-------------------------------
[1] الوافي 21: 342 ذح11.

[2] الحدائق الناضرة 24: 124.

[3] جواهر الكلام 31: 270.

[4] كتاب البيع 1: 267.

[5] مصباح الفقاهة 2: 191 ـ 192.

[6] الصحاح 1: 432، العين: 662، لسان العرب 4: 386.

[7] النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 270.

[8] عوائد الأيام: 11، حاشية كتاب المكاسب للاصفهاني 1: 143، وج4: 24 ـ 25، مصباح الفقاهة 3: 13.

[9] الصحاح 1: 363، لسان العرب 6: 253، العين: 985، تهذيب اللغة 4: 3659، القاموس المحيط 1: 349، مجمع البحرين 3: 1831.

[10] مفردات ألفاظ القرآن: 823.

[11] لسان العرب 6: 253، العين: 985.

[12] مجمع البحرين 3: 1831.

[13] رياض المسائل 10: 35، كتاب النكاح تراث الشيخ الأعظم: 25، تفصيل الشريعة، كتاب النكاح: 8.

[14] مختلف الشيعة 7: 55 ـ 56 مسألة 15، نموذج في الفقه الجعفري: 534.

[15] عطو في اللغة بمعنى التناول والبذل والعطاء. لسان العرب 4: 368 ـ 369، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 259، مجمع البحرين 2: 1234.

[16] وقال بعض في تعريف البيع المعاطاتي: هي إعطاء كلّ واحد من المتبايعين ما يريده من المال عوضا عما يأخذه من الآخر باتفاقهما على ذلك بغير العقد المخصوص. كما في الروضة البهيّة 3: 222، ورياض المسائل 8: 111، ومجمع البحرين 2: 1234.

[17] الوافي 21: 342 ذح11، كما تقدّم نقله عن صاحب الجواهر(قدس‏‌‌سره) في ص11 ـ 12.

[18] الكافي 5: 467، ح 8، وعنه وسائل الشيعة 21: 50، كتاب النكاح، أبواب المتعة ب21 ح8.

[19] بإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن عليّ بن السندي، عن محمّد بن عمرو بن سعيد، عن بعض أصحابنا، قال: أتت امرأة إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي فجرت؛ فأقم فيّ حدّ الله، فأمر برجمها، وكان عليّ(عليه‏‌‌السلام)حاضرا، فقال له: سلها كيف فجرت؟ قالت: كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة، فأتيتها فأصبت فيها رجلاً أعرابيّا، فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلاّ أن أمكّنه من نفسي، فولّيت منه هاربة، فاشتدَّ بي العطش، حتّى غارت عيناي وذهب لساني، فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني، ووقع عليّ، فقال له عليّ(عليه‏‌‌السلام): هذه الّتي قال اللّه‏ عزّ وجلّ: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» هذه غير باغية ولا عادية إليه؛ فخلّى سبيلها، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. تهذيب الأحكام 10: 49 ح186، الفقيه 4: 25، ح60، وعنهما وسائل الشيعة 28: 112، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ الزنا ب18 ح7.

[20] محمّد بن محمّد المفيد في الإرشاد قال: روى العامة والخاصة أنّ امرأة شهد عليها الشهود، أنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطؤها، وليس ببعل لها، فأمر عمر برجمها، وكانت ذات بعل، فقالت: اللهم إنّك تعلم أنّى بريئة، فغضب عمر، وقال: وتجرح الشهود أيضا؟! فقال: أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام): ردّوها واسألوها، فلعلّ لها عذرا، فردّت وسئلت عن حالها، فقالت: كان لأهلي إبل فخرجت مع إبل أهلي وحملت معي ماء، ولم يكن في إبلي لبن، وخرج معي خليطنا وكان في إبل، فنفد مائي فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتّى أمكّنه من نفسي فأبيت، فلما كادت نفسي أن تخرج أمكنته من نفسي كرها، فقال أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام): اللّه‏ أكبر «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ»، فلما سمع عمر ذلك خلّى سبيلها). الإرشاد للمفيد 1: 206 ـ 207، وعنه وسائل الشيعة 28: 112، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا ب18 ح8 .

[21] رجال الطوسى: 379، رقم 5619.

[22] اختيار معرفة الرجال: 558، رقم 1056.

[23] رجال الطوسى: 379، رقم 5619.

[24] رجال النجاشي: 251، الرقم 660.

[25] اختيار معرفة الرجال: 451 ـ 452، الرقم 851.

[26] رجال ابن الغضائري: 77، رقم 88.

[27] رجال النجاشي: 234 ـ 235، الرقم 621.

[28] كامل الزيارات: 74، ب8 ح11، وص212 ب34 ح1، وص237 ب43 ح5.

[29] ورد اسم (عبد الرحمن بن كثير) في أحد عشر حديثا في تفسير (عليّ بن إبراهيم القمّي).

[30] الوافي 21: 341 ذح11.

[31] الوافي 15: 528.

[32] جواهر الكلام 31: 269.

[33] كما هو الحال بالنسبة إلى الشيعة، إذ يعتبرون النكاح المنقطع ـ استنادا إلى الآيات والروايات، ومن بينها: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً»، النساء: 24، وآية أخرى يرى العلاّمة الطباطبائي ـ الميزان 4: 304 ـ أنّها أقوى في دلالتها على النكاح المنقطع من الآية المتقدمة ـ صحيحا، في حين يذهب أهل السنة إلى القول بأنّه من الزنا، وعليه من الممكن أن يكون العمل في الواقع نكاحا، ومع ذلك يذهب الآخرون بسبب جهلهم إلى اعتباره من الزنا.

[34] سورة البقرة 2: 173، وسورة الأنعام 6: 145، وسورة النحل 16: 115.

[35] جواهر الكلام 31: 269.

[36] تقدّمت الرواية في ص 375، هامشة 2.

[37] كما تقدّم كلامه في ص 378.

[38] تنبيه: كلّما ورد التعبير عن أبي الحسن في رواية بشكل مطلق، كان المراد منه هو الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام).

[39] تهذيب الأحكام 7: 392، ح1571، الفقيه 3: 259، ح259 عيون أخبار الرضا(عليه‏‌‌السلام) 2: 19، ح44، وسائل الشيعة 20: 294، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح و... ب14 ح1.

[40] وقال الشيخ التبريزي: ومن هنا يتجه الإشكال على المقتصرين على الأخبار الصحيحة الأعلائية كصاحب المعالم والمدارك والشهيد الثاني). أوثق الوسائل: 177 س17. وقد اُشير إلى هذا المطلب في كثير من الكتب الفقهية والأصولية، من قبيل: مقدّمة معالم الدين وملاذ المجتهدين قسم الفقه 1: 39، وموسوعة الإمام الخوئي 23: 303، نهاية التقرير 3: 373، إيضاح الفرائد 2: 610، دراسات في علم الأصول 3: 186.

وقال السيّد الخوانساري(قدس‏‌‌سره) وحكي عن الصدوق بل مال إليه غير واحد من متأخري المتأخرين ولا مانع من العمل بالرواية مع عدم بلوغ السكر إلى حد الجنون، فإنّ المجنون لا ينسب إليه التزويج. جامع المدارك 4: 125. وجاء في كتاب (نهاية المرام): وليس فيها ما يخالف الأدلّة القطعيّة؛ فيتجه العمل بها. نهاية المرام 1: 30.

[41] كما قال الإمام الخميني(قدس‏‌‌سره) لا اعتبار بعقد الساهي والغالط والسكران وأشباههم. تحرير الوسيلة 2: 237، مسألة 11.

[42] النهاية: 468.

[43] المهذّب 2: 196.

[44] نهاية المرام 1: 29 ـ 30.

[45] والسؤال هنا: هل يمكن لفقيه أن يتمسك بهذه الرواية على صيَغ الزواج الشائعة حاليا في البلدان الغربية أم لا؟ (حيث لا تقوم بعض النساء وكذلك الرجال بالذهاب إلى الكنيسة لإجراء صيغة العقد على يد القس، بل عندما يريد كلّ واحد منهما الاقتران بالآخر، يكفي أن تقصد المرأة شقته وتشاطره السكن فيها بوصفها شريكة له في الحياة).

[46] العروة الوثقى 5: 603 مسألة 13.

[47] فلا اعتبار بعقد الساهي والغالط والسكران وأشباههم، نعم في خصوص عقد السكران إذا عقبه الإجازة بعد إفاقتها لا يترك الاحتياط بتجديد العقد أو الطلاق. تحرير الوسيلة 2: 237 مسألة 11

[48] تفصيل الشريعة، كتاب النكاح: 71 ـ 73.

[49] المهذّب 2: 196.

[50] النهاية: 468.

[51] مختلف الشيعة 7: 131، مسألة 64.

[52] مسالك الأفهام 7: 99.

[53] جواهر الكلام 30: 258.

[54] سورة المائدة 5: 1.

[55] جواهر الكلام 30: 258.

[56] موسوعة الإمام الخوئي 33: 155.

[57] كتاب مصباح الأصول تأليف (السيّد محمّد سرور واعظ الحسيني البهسودي). وقد نقل أحد الأستاذة أنّه بعد كتابته عرضه على المحقّق الخوئي، وطلب منه أن ينظر فيه. فقال له المحقّق الخوئى: إنّه لا يمتلك فائضا من الوقت غير ساعة واحدة قبل صلاة الفجر. فرأى المحقّق الخوئي كتاب (مصباح الأصول) في ساعة واحدة قبل أذان الفجر وكتب عليه تقريظا.

[58] تحرير الوسيلة 2: 234.

[59] تحرير الأحكام 3: 427، الرقم 4915، الروضة البهيّة 5: 108، رياض المسائل 10: 37، الحدائق الناضرة 23: 157، جواهر الكلام 30: 234، العروة الوثقى 5: 596.

[60] المبسوط 3: 429، السرائر 2: 574، شرائع الإسلام 2: 272.

[61] منية الطالب 1: 186 ـ 189.

[62] منية الطالب 1: 186 ـ 189.

[63] كتاب البيع 1: 267 ـ 268.

[64] كتاب النكاح تراث الشيخ الأعظم: 77.

[65] حاشية المكاسب 1: 183 ـ 184.

[66] مصباح الفقاهة 2: 192.

[67] مسالك الأفهام 7: 97.

[68] الحدائق الناضرة 23: 156.

[69] جواهر الكلام 31: 268.

[70] موسوعة الإمام الخوئي، النكاح 33: 128.

[71] الكافي 5: 201 ح6.

[72] مستطرفات السرائر: 56 ح14، مسائل عليّ بن جعفر: 139 ح153، قرب الاسناد: 296 ح1169، وعنها وسائل الشيعة 2: 111 ـ 112، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمام ب63 ح5.

[73] الكافي 5: 455 ح3، تهذيب الأحكام 7: 265، ح 1145، الاستبصار 3: 150 ح551، وسائل الشيعة 21: 43، كتاب النكاح، أبواب المتعة ب18 ح1.

[74] مرآة العقول 20: 237.

[75] موسوعة الإمام الخوئي، النكاح 33: 129.

[76] الكافي 5: 267، ح5، تهذيب الأحكام 7: 197، ح873، وعنهما وسائل الشيعة 19: 41، كتاب المزارعة والمساقاة ب8 ح6. والرواية صحيحة على ما صرّح به المجلسي في مرآة العقول 19: 346.

[77] سورة النساء 4: 21.

[78] الكافي 5: 560 ح19، وعنه وسائل الشيعة 20: 262، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب1 ح4.

[79] موسوعة الإمام الخوئي، النكاح 33: 129 ـ 130.

[80] مجمع البيان 3: 47.

[81] جواهر الكلام 31: 268.


برچسب ها :