رسالة في نظريّة العدالة في الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه

۲۷ مرداد ۱۳۹۳

۱۷:۴۵

۳۰

چکیده :
قد ذهب بعض فقهاء الإماميّة إلى إثبات الحكومة الإسلاميّة و ولاية الفقيه عن طريق الحسبة، أو تحت عنوان الأمر بالمعروف؛ من جهة أنّ الحكومة الإسلاميّة أعلى وأسمى أشكال المعروف[3]، وذهب البعض الآخر إلى إثباتها عن طريق العقل، أو الدليل التلفيقي من العقل والنقل على أساس ضرورة وجود الحاكم لحفظ نظام المجتمع ومعيشة الناس، والقدر المتيقّن في سمات الحاكم أن يكون فقيهاً عارفاً بأحكام الإسلام وأبعاده المختلفة...
نشست های علمی

رسالة في نظريّة العدالة
في الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه
[1]
محمد جواد الفاضل اللنکراني

تمهيد

إنّ بالإمكان دراسة المشروعيّة[2] في لزوم إقامة الحكومة الإسلاميّة تحت زعامة الفقيه الجامع للشرائط من أبعاد مختلفة.

وقد ذهب بعض فقهاء الإماميّة إلى إثبات الحكومة الإسلاميّة و ولاية الفقيه عن طريق الحسبة، أو تحت عنوان الأمر بالمعروف؛ من جهة أنّ الحكومة الإسلاميّة أعلى وأسمى أشكال المعروف[3]، وذهب البعض الآخر إلى إثباتها عن طريق العقل، أو الدليل التلفيقي من العقل والنقل على أساس ضرورة وجود الحاكم لحفظ نظام المجتمع ومعيشة الناس، والقدر المتيقّن في سمات الحاكم أن يكون فقيهاً عارفاً بأحكام الإسلام وأبعاده المختلفة[4].

وفي هذا المقال تحرّكنا من زاوية اُخرى لإثبات مشروعيّة الحكومة الإسلاميّة إجمالاً. وبعبارة اُخرى: دراسة مشروعيّة، بل ضرورة ولاية الفقيه من منهج آخر على نحو الإجمال، رغم أنّ الدراسة الفقهيّة الدقيقة والمستوعبة بحاجة إلى مجال أوسع وتدبُّر أكثر. وقد تمّت الإشارة إلى هذا المنهج في كلمات الإمام الخميني (قدس‏‌‌سره)بنحو الإجمال[5].

وفي عمليّة إثبات مشروعيّة ولاية الفقيه بهذا المنهج، لا نجد أنفسنا بحاجة إلى الاستدلال بأدلّة الحسبة، أو أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو روايات بحث ولاية الفقيه من قبيل: العلماء ورثة الأنبياء[6]، أو العلماء اُمناء الرُّسل[7]. وليس من اللازم أيضاً التمسّك لإثبات أصل الولاية بهذا المنهج بمقبولة عمر بن حنظلة[8]، والتوقيع الشريف لإمام العصر(عليه‏‌‌السلام)[9]؛ لأنّ هذا المنهج يقوم على قاعدة متماسكة للكثير من محكمات القرآن الكريم، والروايات المعتبرة التي سوف يُشار إليها لاحقاً.

في هذا المنهج نلاحظ هامشيّة إلغاء مسألة لزوم بيعة الناس مع الفقيه، في حين أنّ المناهج الاُخر تأخذ بنظر الاعتبار الحاجة إلى البيعة في مسألة إثبات ولاية الفقيه.

ويتلخّص هذا المنهج في نقاط:

الاُولى: أنّ الهدف الأساسي لبيان الأحكام، وإيجاد الأديان، وإرسال الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)، وإنزال الكتب السماويّة، عبارة عن تحقّق العدالة بمعناها الأوسع، الذي سوف يأتي الحديث عنه.

وتحقّق العدالة واجب في دائرة العقل، والقرآن، والروايات.

الثانية: أنّ جعل الولاية للأنبياء والمرسلين(عليهم‏‌‌السلام) ليس من جهة أنّ الشارع المقدّس أراد إعطاء القدرة الظاهريّة لهم، بل من أجل تحقّق العدل بمعناه الواسع بين الناس[10]. فالشارع جعل الولاية للأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)، وخاصّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) من حيث ارتباطهم بمصدر الوحي النورانيّ، وصلتهم الوثيقة بالتعاليم السماويّة، فكانوا أوثق الناس، وأعرفهم بعمليّة تلقّي الوحي، وتطبيقه في حركة الواقع الاجتماعي، وإلاّ فمع قطع النظر عن هذه الجهة، لا يمكن تصوير وجه صحيح لهذا الأمر.

الثالثة: أنّه يستفاد من الروايات التي تقرّر بأنّ «العلماء ورثة الأنبياء»، و«اُمناء الرُّسل» أنّ هذا المنصب قد جعله اللّه‏ ـ تعالى ـ للفقهاء الجامعين للشرائط، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ تحقّق العدالة لا يختصّ بالأنبياء والأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، بل يشمل كلّ من له معرفة جيّدة بالعدالة من خلال الارتباط بالقرآن، والسنّة الشريفة، وبالتالي من وجوب تحقّق العدالة يتبيّن حينئذٍ لزوم ولاية هذه الفئة على الناس، وسيتمّ توضيح هذا المطلب أكثر فيما بعد.

الفقيه الجامع للشرائط يستطيع تحقيق العدالة بمعناها الواقعي في المجتمع، حيث نعتقد بأنّ أعرف الناس بحقيقة العدالة، وأبعادها، وجزئيّاتها، هم المتعمّقون في الدِّين، والمحقّقون في كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه الكريم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وهذا المعنى يتجسّد في الفقهاء.

الإمام الخميني (قدس‏‌‌سره) يقرّر هذا المعنى في خطبته بتاريخ 2 / 6 / 1365 ه . ش، المطابق لسنة 1406 ه. ق، بمناسبة عيد الغدير ويقول:

إنّ اللّه‏ ـ تبارك وتعالى ـ علم بأنّه لا أحد بعد رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بإمكانه تحقّق العدالة بما في الكلمة من معنى، وبالصورة المطلوبة، فأمر رسوله الكريم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بأن ينصب لذلك من يتمتّع بالقدرة الكافية لتحقيق العدالة بجميع معانيها في المجتمع، وتكون حكومته حكومة إلهيّة[11].

ويتبيّن من هذا المقطع من كلام الإمام أنّ فلسفة الغدير والغاية المهمّة من نصب الإمام(عليه‏‌‌السلام) هي إقامة العدل.

إنّ ما جعل أساس الإمامة ضروريّاً في الإسلام هو: أنّ الشخص الوحيد القادر على تحقيق العدالة بمعناها الواقعي في المجتمع هو الإمام(عليه‏‌‌السلام)؛ لأنّ العدالة في مفهومها وتعريفها هي وضع الشيء في موضعه، وهذا المفهوم الواسع للعدالة ـ الشامل لجميع الأبعاد الوجوديّة للإنسان، وجميع موجودات العالم، وارتباط الإنسان مع غيره ـ لا يعلمه سوى الإمام(عليه‏‌‌السلام).

إنّ الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) ومن خلال العلم الواسع الذي أودعه اللّه‏ ـ تعالى ـ فيه؛ يمكنه تبيين العدالة للمجتمع الإنساني، وبالتالي العمل على تحقيقها.

المراد من العدالة

إنّ المراد من العدالة في هذا البحث ليس هي الملَكة النفسانيّة التي تعدّ إحدى فضائل النفس، بل أكمل فضائلها، والتي تقع مورد البحث الفقهي، وتعتبر شرطاً في إمام الجماعة، أو الجمعة، أو الشاهد، وأمثال ذلك، كما أنّ المراد منها ليس هو المفهوم من العدالة في دائرة الصفات الإلهيّة؛ أنّه تعالى لا يظلم أحداً إطلاقاً في جميع الظروف، بل يجازي كلّ إنسان بعمله.

فالمراد من العدالة في هذا البحث هو معنى ثالث، ويمكن التعبير عنه بعنوان العدالة الاجتماعيّة بالمعنى الذي نطرحه فيما بعد.

قد يخطر إلى الذهن في البداية، المعنى المحدود لهذه الكلمة؛ وهو لزوم مراعاة العدالة الاقتصاديّة في طبقات المجتمع، حيث يقوم الحاكم أو القائد بتوزيع المنابع الماليّة، والقدرات الاقتصاديّة الموجودة في المجتمع على أفراده بشكل صحيح ومنطقيّ، لا أن تجتمع الثروات بيد فئة معيّنة أو شخص خاصّ.

ولكن بعد التأمّل والدقّة في مفهوم العدالة نجد أنّه بإمكاننا توسعة هذا المفهوم إلى اُفق أسمى لا يقتصر على المسائل الاقتصاديّة والماليّة في المجتمع، بل يستوعب جميع الأبعاد الموجودة في المجتمع البشري، وجميع العلاقات المرسومة بين أفراد البشر، بل بين الإنسان وغيره أيضاً؛ لأنّه بالعدل قامت السماوات والأرض[12].

إنّ العدالة الاجتماعيّة بهذا المعنى الشامل، تستوعب جميع الحقوق الفرديّة، والاجتماعيّة للإنسان، وجميع أشكال الحقوق المعتبرة للإنسان، فيدخل في هذه الدائرة حقوق الأديان، والمذاهب، والقوميّات، وجميع الحقوق التي للّه‏ ـ تعالى ـ على الإنسان، والمجتمع الإنساني. وكذلك تشمل جميع اُمور الإنسان بصورة كاملة؛ سواء في الاُمور العباديّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة وأمثال ذلك.

وبالجملة: أنّ العدالة الاجتماعيّة بمعناها الواسع عبارة عن رعاية جميع ماينبغي وما لا ينبغي في جميع أبعاد الإنسان، والمجتمع الإنساني، وحتّى خالق الإنسان، ومع تحقّق هذه العدالة يتحرّك جميع أفراد البشر في المسار الصحيح في دائرة العقيدة والممارسة إلى درجة أنّ كلّ فرد وكلّ موجود ينال نصيبه المقرّر له من الكمال.

يقول أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) في توضيح المراد من الآية الشريفة: «إِنَّ اللّه‏َ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاْءِحْسَانِ»[13] العدل: الإنصاف. والإحسان: التفضّل[14].

ويقول الفيلسوف الخواجة نصير الدِّين الطوسي في شرحه لكلام أرسطو:

إنّ الحكيم الأوّل (أرسطو) قسّم العدالة إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يكون مقتضى حقّ اللّه‏ ـ تعالى ـ على الناس باعتباره واهب الخيرات، ومفيض الكرامات، بل سبب الوجود، وسبب كلّ نعمة تلحق بالوجود، والعدالة في هذا القسم تقتضيأن يقوم العبد ببذل الجهد لرعاية حقّ المولى بقدر الوسع والطاقة.

الثاني: ما يكون مقتضى حقّ أبناء النوع على الإنسان من لزوم تعظيم الرؤساء، وأداء الأمانات، والإنصاف في المعاملات.

الثالث: العدالة في رعاية حقوق الأسلاف؛ من قبيل قضاء الديون، وإنفاذ الوصايا، وما عليهم من الحقوق[15].

و نلاحظ في هذا الصدد أنّ المنادين بحقوق الإنسان بإمكانهم درك المعنى المحدود للعدالة الاجتماعيّة، وبعد معرفة حدودها ومواردها في هذا الإطار المحدود يتحرّكون في دائرة ترجمتها على أرض الواقع العملي، إلاّ أنّهم لا يتمكّنون من درك العدالة الاجتماعيّة بالمعنى الصحيح والواسع إطلاقاً.

والحال أنّ هذا النحو من الإدراك والفهم لمتطلّبات العدالة يتوقّف قطعاً على الوحي الإلهي، والمعرفة الصحيحة لمفاهيم وعلوم القرآن والتعاليم الإلهيّة. فالعدالة الاجتماعيّة بمعناها الواسع لا يمكن معرفتها، وإدراك مدياتها القصّية إلاّ بمعونة الوحي.

هل يتسنّى لأحد معرفة حقوق الخالق ـ جلّ وعلا ـ على الإنسان، مع قطع النظر عن الوحي والتعاليم الإلهيّة؟!

هل يتمكّن الإنسان من التوصّل إلى معرفة حقوق المذاهب، والأقلّيات الدينيّة، ومعارف الأديان من دون الاتّصال بنور الوحي؟!

هل يستطيع أفراد البشر، وعلماء الحقوق والقانون إدراك العقوبات، والمقرّرات الجزائيّة المترتّبة على تخلّفات الإنسان في الدائرة الجزائيّة والقانونيّة، بدون الاستمداد من القرآن والسنّة؟!

والأهمّ من ذلك كلّه، هل يمكن معرفة حدود اختيارات الإنسان، والمساحات المسموحة لحريّته من دون الاسترفاد من هذا المنهل الإلهي الفيّاض؟!

هل يمكن معرفة حقوق الإنسان على أبناء نوعه، من خلال الفكر المحدود والعقل الناقص للإنسان؟!

الإنسان المعاصر عاجز حتّى عن بيان ومعرفة الحقوق الابتدائيّة للوالدين على الأبناء... .

فعلى هذا يتّضح أنّ المبيّن والمعرّف لهذه العدالة الاجتماعيّة ليس سوى الوحي فحسب، والمبيّن لهذه العدالة من أفراد البشر لابدّ أن يكون على صلة بالوحي، كالأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)، أو على معرفة دقيقة به كالأئمـّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

وجوب تحقّق العدالة

إنّ أوّل سؤال يخطر في الذهن بعد توضيح معنى العدالة، ويدعو الإنسان إلى التفكير والتأمّل هو: ما الدليل على وجوب تحقّق مثل هذه العدالة؟ وهل يجب إجراء العدالة بالمعنى الواسع في المجتمع؟

وبعبارة اُخرى: أنّه قد يتصوّر أنّ هذه العدالة بمعناها الواسع؛ هي أمر مثاليّ لايمكن ترجمته على أرض الواقع العملي، أو إذا أمكن ذلك، فيقتصر على الممارسات الفرديّة فقط، ويكون أمراً جيّداً ومحموداً، ولكن لا دليل على وجوب تحقّق هذه العدالة على مستوى المجتمع. وخاصّة في زمن الغيبة، حيث يكون المجتمع محروماً من حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؛ وهو العارف بالوحي واقعاً.

أدلّة وجوب تحقّق العدالة

على هذا الأساس لابدّ من ذكر أدلّة وجوب تحقّق العدالة بمعناها الواسع:

الدليل الأوّل: العقل، بمراجعة العقل السليم يتّضح أنّ العقل يرى ضرورة تحقّق مثل هذه العدالة مع توفّر المقدّمات والشروط؛ لأنّ التخلّف عنها، وعدم التحرّك من أجل تنفيذها في حركة الحياة يعتبر نوعاً من الظلم، والظلم قبيح بنظر العقل المستقلّ.

الدليل الثاني: القرآن، لقد تمّ التأكيد في موارد كثيرة من القرآن الكريم على لزوم إجراء العدالة، بل يستفاد من الآيات الشريفة أنّ الهدف من نصب الخلفاء(عليهم‏‌‌السلام)، وإرسال الرسل والأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) هو إجراء العدالة والحكم بالحقّ.

وفي هذا المجال نلفت النظر إلى عدّة آيات قرآنيّة تقرّر هذا المطلب:

1 . قوله ـ تعالى ـ: «إِنَّ اللّه‏َ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاْءِحْسَانِ»[16].

في هذه الآية الشريفة يأمر اللّه‏ ـ تعالى ـ بالعدالة بشكل مطلق وكلّي، ومن الواضح أنّ المقصود من العدل والعدالة هنا ليس هو المحدود في دائرة الاُمور الماليّة والاقتصاديّة، بل المقصود هو العدل في جميع الاُمور، فالعدل بمعناه الواسع هو المراد للّه‏ تعالى، ويستفاد الوجوب من كلمة «يأمر» بصورة جيّدة.

ذهب بعض العلماء في تفسير الآية الشريفة إلى أنّ المراد بالعدل هنا: أداء الواجبات، والمراد بالإحسان: هو الإتيان بالمستحبّات[17]، بينما ذهب آخرون إلى أنّ العدل: هو التوحيد، والإحسان: هو أداء الأعمال الواجبة[18]. وذهب فريق ثالث إلى أنّ العدل: هو تناغم الظاهر مع الباطن، والإحسان: هو أن يكون باطن الشخص أفضل من ظاهره[19].

ولكن بما أنّ الآية الشريفة لم تحدّد المراد من العدالة في أيّ من هذه المعاني المذكورة، فيستفاد أنّ مقصود الآية هي العدالة بمعناها الواسع كما تقدّم. والملاحظة التي تستدعي التدبّر في الآية الشريفة هي: هل المستفاد من كلمة «يأمر» هو الوجوب التكليفي، أو الوجوب الإرشادي؟

وبعبارة اُخرى: أنّ من المحتمل أن يكون الأمر الإلهي في هذه الآية الشريفة أمراً إرشاديّاً، وخاصّة إذا أخذنا بتفسير العدل على أساس أنّه أداء الواجبات، فمن الواضح: أنّ أداء الواجبات لا يمكن أن يكون أمراً تكليفيّاً، بل هو أمر إرشاديّ.

وفي الجواب عن ذلك يمكن القول: بأنّ الدقّة في كلمة «يأمر» تستدعي الوجوب التكليفيّ، ولا أقلّ من الوجوب بالمعنى الأعمّ من التكليفي والإرشادي؛ يعني أنّ أحد الواجبات الشرعيّة والإلهيّة، إيجاد العدالة وتحقّقها في المجتمع  البشري، والأشخاص القادرون على امتثال هذا الأمر الإلهي، وهم لا يذعنون له يستحقّون العقاب، ومجرّد درك العقل لوجوب إجراء العدالة لا يلازم كون الأمر بها إرشاديّاً.

والملاحظة الاُخرى في هذه الآية هي: أنّ الآية الشريفة تتضمّن تكليفاً مهمّـاً للأفراد والمجتمع، وليست في مقام الإخبار.

وبعبارة اُخرى: إنّ الجملة في الآية ليست جملة إخباريّة، بل هي في مقام الإنشاء، أمّا الاحتمال الذي طرحه البعض في حديث: الناس مسلّطون على أموالهم[20]؛ من أنّ هذه العبارة خبريّة، ولا دلالة لها إطلاقاً على الحكم[21]، لا يرد في هذه الآية الشريفة.

2 . قوله ـ تعالى ـ : «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»[22].

هذه الآية الشريفة التي ورد ذيلها بـ «فاء التفريعيّة» تقرّر أنّ الحكم بين الناس بالحقّ هو أحد آثار ونتائج خلافة داود(عليه‏‌‌السلام). ومن الواضح: أنّ المراد بالحقّ هنا لا يقتصر على مورد المنازعة والمخاصمة الجزئيّة، بل يشمل هداية المجتمع وأفراد البشر إلى الحقّ والكمال، وإيجاد الأرضيّة المساعدة لتعالي الإنسان ورشده المعنوي والأخلاقي، بواسطة القوانين الإلهيّة، وتبيين كافّة الحقوق للفرد والمجتمع.

3 . قوله ـ تعالى ـ : «إِنَّ اللّه‏َ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»[23].

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ الحكم بالعدل بين الناس واجب، كما هو الحال في وجوب ردّ الأمانة إلى أهلها، ويمكن أن يستشكل البعض بأنّ الحكم بالعدل في هذه الآية غير مطلق، بل مقيّد بحدوث المنازعة بين الناس.

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ كلمة الحكم بالعدل مطلقة؛ أي كما أنّها شاملة لحكم القضاة، كذلك شاملة لحكم الولاة والحكّام أيضاً، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسِّرين صراحةً[24]. وعلى هذا ليس الحكم بالعدل مقيّداً بحدوث النزاع، بل هو عنوان كلّي لبيان أنّ مطلوب الشارع المقدّس هو الحكم بالعدل بين الناس في المجتمع الإسلامي، وبعبارة اُخرى: إنّ الحكم بالعدل في هذه الآية هو ما تقدّم في الآية السابقة من الحكم بالحقّ.

4 ـ قوله ـ تعالى ـ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه‏ِِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ»[25].

في هذه الآية الشريفة يأمر اللّه‏ ـ تعالى ـ المؤمنين بالقيام لتحقّق القسط والعدل.

كلمة «قوّامين» جمع «قوّام» (صيغة مبالغة) تدلّ على التأكيد؛ يعني قوموا كراراً لتحقّق هذا الأمر، أو تدلّ على أنّ الإتيان بهذه الفريضة مهمّ في كلّ عصر وزمان، وفي مختلف الظروف والأحوال.

وعلى هذا، فالآية الشريفة تدلّ بوضوح على أصل وجوب القيام بالقسط والعدل. ولكن هل أنّ القائم بذلك في البداية هم أفراد المجتمع، أو الأنبياء والأئـمّة(عليهم‏‌‌السلام)، والفقهاء (قدس‏‌‌سرهم)، بحيث يترتّب على بيان العدالة بواسطة الأفراد قيام المجتمع بالقسط؟ فذلك بحث آخر سيأتي توضيحه.

الدليل الثالث، الروايات: لقد ورد تقرير مسألة العدل بالمعنى المذكور والتأكيد عليه في الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام)، وفي نظرة سريعة يمكننا استخراج عناوين هامّة منها لتقرير هذا المطلب:

الأوّل: أنّ العدل وإقامة القسط يمثِّل أساس الدِّين إلى جانب التوحيد. و قد ورد بهذا المعنى أحاديث متعدّدة، منها: قوله(عليه‏‌‌السلام): إنّ أساس الدِّين التوحيد والعدل[26].

وعلى هذا الأساس لو لم تؤخذ العدالة بنظر الاعتبار، أو لم يتمّ إيجادها في المجتمع، فالدّين سوف يفقد رصيده على مستوى التواجد، والحضور في الساحة الاجتماعيّة، وتحقّق الدِّين وحضوره في المجتمع مبتنٍ على أساس التوحيد والعدل.

وهذا؛ يعني أنّ الحكومة الدينيّة إذا استطاعت إقامة العدل في المجتمع، أمكنها أن تدّعي أنّ الدِّين قائم ومتحقّق في المجتمع.

الثاني: أنّ الحكمة الأساسيّة للولاية والإمامة هي إيجاد العدل والقسط بين الناس، فقد ورد في بعض الروايات قوله(عليه‏‌‌السلام): إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله[27].

فهذا الحديث الشريف يحصر الهدف من الإمامة والولاية في إقامة القسط والعدل. ومن الواضح: أنّ المراد من العدل هذا هو جميع أبعاده، وإلاّ فإنّ إيجاد العدالة في موارد محدودة ممكن لغير الإمام(عليه‏‌‌السلام) أيضاً، أمّا ما لا يقدر عليه سوى الإمام(عليه‏‌‌السلام)، فهو تحقّق العدالة بالمعنى الواسع المذكور سابقاً.

الثالث: أنّ الأساس في ولاية الوالي العادل هي إقامة الحقّ وإبطال الباطل، حيث نقرأ في بعض الروايات قوله(عليه‏‌‌السلام): إنّ في ولاية والي العدل... إحياء كلّ حقّ وكلّ عدل[28].

وما هو جدير بالتأمّل في هذه العبارة هو جملة «إحياء كلّ حقّ» بصيغة القضيّة العامّة، حيث يتمّ إحياء كلّ حقّ وعدل ببركة  ولاية العادل.

ويمكن أن يتوهّم أنّ كلمة «في» في هذه الرواية تدلّ دلالة واضحة على أنّ إقامة الحقّ، وحراسة الحقوق لجميع الأفراد، وإيجاد العدل بجميع معانيه، هي إحدى شؤون الولاية والإمامة. وهذا ـ يعني إيجاد العدالة ـ لا يعتبر علّة تامّة لتحقّق ومشروعيّة الإمامة.

وفي مقام الجواب يجب القول أوّلاً: إنّه يحتمل قويّاً كون كلمة «في» الواردة في هذه الرواية بمعنى «الباء»؛ أي أنّ هذا الأمر يتحقّق ببركة ولاية والي العدل.

وثانياً: على فرض أنّ «في» تدلّ على الظرفيّة في هذه العبارة، إلاّ أنّه لاملازمة بين وجوب إجراء العدالة، وبين كونها واقعة في سلسلة المعاليل للإمامة. بل هي في سلسلة العلل للإمامة، والولاية تعتبر غاية لها.

الرابع: الفرق الأساسي بين الولاية المباحة، والولاية المحرّمة كامن في هذا الأمر، فنرى أنّ بعض الروايات تقرّر هذا المعنى بقوله(عليه‏‌‌السلام): فوجه الحلال من الولاية، ولاية الوالي العادل[29].

الخامس: أنّ المجتمع الذي يقع مورد رضا اللّه‏ ـ تعالى ـ هو المجتمع الذي تُقام فيه العدالة بقوله(عليه‏‌‌السلام): علامة رضا اللّه‏... عدل سلطانهم[30].

السادس: تفضيل ساعة واحدة من العدل على سبعين سنة عبادة بقوله(عليه‏‌‌السلام): عدل ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة[31].

وينبغي التدبّر لمعرفة الحكمة في كون ساعة واحدة من العدل أفضل من سبعين سنة من العبادة، ومن الواضح عدم وجود خصوصيّة لذكر رقم سبعين سوى دلالته على أهمّية المطلب وعظمة مرتبة العدالة. وتتّضح حقيقة وكُنه هذا المطلب أكثر فيما لو ضممنا إليه الروايات التي تدلّ على عدم قبول العبادة من دون الولاية، حيث ورد التصريح في قوله(عليه‏‌‌السلام): ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية[32].

وهناك إشارة في بعض الروايات إلى جهات اُخر من المسألة، حيث يمكن بيانها بشكل إجماليّ من قولهم(عليهم‏‌‌السلام): إنّ لمحمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) اثني عشر إماماً عدلاً[33].

فقد ورد في هذه الرواية وصف أوصياء النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بالعدالة، حيث يتّضح أنّ الهدف من وصايتهم(عليهم‏‌‌السلام)هو تحقّق العدالة في المجتمع.

وبعبارة اُخرى: إنّ من المعلوم أنّ المقصود من وصف الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) بالعدالة ليس بيان للملكة النفسانيّة؛ لأنّه مع وجود العصمة لا يبقى معنى لوصف العدالة، إذن فالمقصود من العدالة هو ذلك المعنى الواسع الذي ينحصر تحقّقه وإيجاده بهذه الفئة من الناس.

وهناك روايات كثيرة وردت في صدد ظهور الإمام المهدي(عليه‏‌‌السلام)، ولعلّه يمكن القول بالتواتر المعنوي، بل التواتر اللفظي فيها، حيث يمكن الاستفادة منها في موضوعنا من قولهم(عليهم‏‌‌السلام): يملأ اللّه‏ به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً[34].

وهذا ـ يعني أنّ الأساس في حكومة الإمام المهدي(عليه‏‌‌السلام) العالميّة ـ تتمثّل في تحقّق القسط والعدل في المجتمع البشري.

النتيجة هي: أنّ تحقّق العدالة في نظر العقل والقرآن والروايات، أمرٌ ضروريّ وواجب، ويستفاد من مجموع الروايات أنّ أساس الإمامة يقوم على مسألة إيجاد العدالة في المجتمع البشري، لا إيجاد الرابطة العاطفيّة والمحبّة بين الإمام(عليه‏‌‌السلام) وأفراد البشر، رغم أنّ هذه الغاية الأخيرة تمثِّل أحد الاُمور المطلوبة في الشريعة.

إنّ الاعتقاد بالإمامة بمعناه الدقيق؛ يعني الاعتقاد بوجود شخص قادر على القيام بالعدل بين الناس، وإنقاذ المجتمع من كلّ أشكال التلوّث والانحطاط.

وأنّ الاعتقاد بالإمامة بمعناه الصحيح لا ينحصر في الاعتقاد القلبي بوصيّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)بخلافة الإمام(عليه‏‌‌السلام)من بعده، وحبّه والبراءة من أعدائه.

إنّ أكثر الروايات التي ورد فيها لفظ «الإمام» وردت إلى جانبه كلمة «العدل» بعنوان صفة، وخصوصيّة مهمّة وأساسيّة وغاية قصوى للإمامة، ولذلك قال الإمام الخميني (قدس‏‌‌سره):

إنّ الهدف والغاية من الإمامة هي العدالة[35].

المنفِّذون للعدالة في المجتمع

يتّضح من مجمل المطالب السالفة أنّ تحقّق العدالة أمر واجب على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وأوصيائه(عليهم‏‌‌السلام). والإمامة بدون إجراء العدالة لم تكن يوماً مقصودة للشارع المقدّس.

أمّا ما نحن بصدد بحثه في هذا القسم، ولعلّه يمثِّل العمدة في هذا الموضوع هو: هل يختصّ وجوب إجراء العدالة بالنبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وأوصيائه المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، أو يمتدّ، ليشمل الفقيه الجامع للشرائط؟

يستفاد من الآيات الشريفة التي تمّ الاستدلال بها آنفاً أنّ وجوب إجراء العدالة لا يختصّ بالنبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أو أوصيائه(عليهم‏‌‌السلام)، بل يشمل أشخاصاً آخرين أيضاً، وهؤلاء الأشخاص ـ كما تقدّم سابقاً[36] ـ ليسوا سوى الفقهاء الجامعين للشرائط، حيث لا يوجد سواهم من لديه رابطة مع القرآن، وتعاليم النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)والأئـمّة(عليهم‏‌‌السلام) على أساس التخصّص في هذا الأمر.

وهنا لابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار الروايات التي تقرّر خلافة العلماء الأئـمّة المعصومين والأنبياء(عليهم‏‌‌السلام).

وهذه الروايات ـ من قبيل: «العلماء ورثة الأنبياء»[37]، أو «العلماء اُمناء الرُّسل»[38]، أو روايات اُخر في هذا الباب[39] ـ تدلّ دلالة واضحة على خلافة العلماء  للأئمّة المعصومين والأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)، إلاّ أنّ النقطة المهمّة هنا هي جهة التنزيل، فهل جهة التنزيل هي أنّ العلماء اُمناء الرسل في بيان أحكام الدِّين وتبليغ الرسالة، أو أنّ الوراثة والأمانة تتمثّل في الجهة الأصليّة والعمدة في المنزل عليه؟

من الواضح أنّ الاحتمال الأوّل غير مقبول إطلاقاً؛ لأنّ مجرّد بيان الأحكام وتبليغ الرسالة قد يتحقّق أحياناً من غير العلماء، فلا حاجة لتنزيل العلماء منزلة الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) من هذه الجهة، وعلى هذا الأساس فالاحتمال الثاني هو المتعيّن، وهو: أنّ التنزيل يقصد به تلك الجهة الأصليّة للأنبياء والمرسلين(عليهم‏‌‌السلام)، وهي إقامة العدل والقسط بمعناه الواسع والدقيق.

وفي هذا الصدد نذكر ما ورد عن رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، حيث قال:

اللّهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرّات ـ فقيل له: يا رسول اللّه‏ مَنْ خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي، ويروون عنّي أحاديثي وسنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي[40].

ومن الواضح: أنّ المراد من «خلفاء الرسول(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)» لا يتعيّن بالأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)؛ لأنّ شأنهم أعلى من كونهم «يروون عنّي أحاديثي»، فعلى هذا يستفاد من الرواية أنّ الفقهاء خلفاء النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ومنزّلون منزلة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، إلاّ أنّه لا ينبغي توهّم أنّ هذه الرواية تقرّر خلافة الفقهاء للنبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ من جهة بيان الأحاديث وسنّة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) فحسب. وبالتالي لا تدلّ على  ولايتهم؛ لأنّ التعبير بجملة «الذين يروون عنّي» لها حيثيّة تعليليّة للخلافة، لا حيثيّة تقييديّة، والخلط بين هاتين الجهتين هو السبب في هذا التوهّم.

وبعبارة اُخرى: إنّ مرجع هذا التعبير هو مرجع التعبير الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة في قوله(عليه‏‌‌السلام): ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا[41].

إنّ المعرفة بالأحكام، بل جميع الأحكام تختلف كثيراً عن عنوان المبيّن للأحكام، إلاّ أنّ الإنصاف أنّ المنظور من كلمة «الخلفاء» في هذه الرواية يقتصر على الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، ولا يشمل الفقهاء.

والشاهد على هذا المطلب أمران رغم وجود قرائن اُخر أيضاً:

الأوّل: كلمة «عنّي» تدلّ على أنّ الخلفاء هم الأشخاص الذين يروون الأحاديث عن النبيّ نفسه(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، في حين أنّ الفقهاء يفتقدون هذه السمة، كما هو واضح.

الثاني: نظراً لما ورد في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم‏‌‌السلام) بهذا المضمون: إنّ جميع ما نقوله هو عن آبائنا، عن أمير المؤمنين(عليهم‏‌‌السلام)، عن رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، يتّضح أنّ كلام النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) الوارد في الرواية ينحصر في الأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام). ونكتفي في هذا الصدد بذكر رواية عن اُصول الكافي:

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالوا: سمعنا أبا عبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام) يقول:

حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين(عليه‏‌‌السلام)، وحديث الحسين حديث الحسن عليهماالسلام، وحديث الحسن حديث أميرالمؤمنين عليهماالسلام، وحديث أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) حديث رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، وحديث رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قول اللّه‏ عزّوجلّ[42].

النتيجة هي: أنّ هذه الرواية بالرغم من أنّ الإمام الخميني (قدس‏‌‌سره)[43] يرى شموليّتها للفقهاء، إلاّ أنّه في نظري القاصر غير شاملة للفقهاء إطلاقاً، بل تختصّ بالأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

وفي هذا البحث لا نجد حاجة للتمسّك بإطلاق هذه الروايات ليرد إشكال أنّ هذه الروايات ليست في مقام البيان؛ من جهة أنّ الفقيه يمكنه تشكيل الحكومة كالإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، بل نتمسّك بهذه الروايات في أصل التنزيل فحسب.

ويستفاد جدّاً من هذه الروايات أنّ العلماء والفقهاء منزّلون منزلة الأنبياء والأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) في أصل المعرفة بالدِّين والأحكام الإلهيّة، ويكفي هذا الميزان في المقام؛ لأنّ هذه المسألة ـ وهي: كون إجراء العدالة واجباً على النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) ـ واضحة، كما ثبت من خلال هذه الروايات؛ أنّ الفقيه الجامع للشرائط بسبب ارتباطه بالقرآن والسنّة، ومعرفته بالعدالة ـ بمعناها الدقيق ـ خليفتهم، وحينئذٍ تكون النتيجة بأنّ إجراء العدالة واجب على الفقيه الجامع للشرائط.

وعلى هذا فلو تمكّن الفقيه الجامع للشرائط من إجراء العدالة على مستوى الواقع العملي من خلال تشكيل الحكومة، وجب عليه السعي لتشكيل الحكومة، وإلاّ وجب عليه القيام بالعدل والقسط بين الناس في إطار قدرته على ذلك.

الإجابة عن إشكالات ثلاثة

الإشكال الأوّل: إذا قيل: إنّ الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ»[44] تدلّ على أنّ وجوب القيام بالقسط غير منحصر بفئة خاصّة من الناس، كالأنبياء أو الأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، أو الفقهاء، بل يستوعب جميع المؤمنين، حيث يجب عليهم القيام بالقسط، وبالتالي، إذا استطاع بعض المؤمنين من نيل الزعامة الظاهريّة، والتصدّي للحكومة والقيام بالقسط بين الناس؛ فحكومتهم حينئذٍ تكون معتبرة ومشروعة، وليست غير إلهيّة، وعلى هذا الأساس لا تختصّ الحكومة والولاية بالفقيه في زمن غيبة المعصوم(عليه‏‌‌السلام).

وفي الجواب ينبغي أن يُقال:

أوّلاً: أنّ القيام بالقسط من قبل عموم الناس لا يتسنّى إلاّ في صورة بيان حدود وماهيّة القسط بصورة كاملة.

وبعبارة اُخرى: يجب على الناس القيام بالقسط بعد بيان معنى القسط والعدل بالنحو المعتبر والدليل الشرعيّ.

وثانياً: نحن نعلم بأنّ نوع البشر غير قادر على القيام بالقسط بالمعنى الواقعي للكلمة، بل يمكنهم الإتيان بهذه الوظيفة في حدود معيّنة، ولذلك طلب الشارع المقدّس من الناس في هذه الآية الشريفة، القيام بالقسط في تلك الدائرة المعيّنة الممكنة لهم، وهذا المعنى لا يتنافى مع وجوب القيام بالقسط بمعناه الواسع على من له معرفة حقيقيّة بالوحي.

وبعبارة اُخرى: إنّ إثبات وجوب القيام بالقسط على النوع من أفراد البشر لا يدلّ على نفي هذا التكليف عن الأنبياء وأوصيائهم(عليهم‏‌‌السلام).

الإشكال الثاني: قوله ـ تعالى ـ : «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»[45]. حيث يستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ القائم بالقسط هم الناس أنفسهم، وقد ذكر الدكتور مهدي الحائري (قدس‏‌‌سره)في ذيل الآية الشريفة أنّ الآية فوّضت إلى الناس القيام بالقسط، وتحقيق العدالة، والنظم الاجتماعي. ولم تر أنّ مسؤوليّة إجراء وتنفيذ هذا الأمر يتناسب مع شأن الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) و مقامهم الرفيع[46].

وفي مقام الجواب لابدّ من القول:

العجب من هذا المفكِّر أنّه توجّه إلى جملة «لِيَقُومَ النَّاسُ» ولم يتأمّل بما قبلها بصورة وافية، حيث تقرّر الآية أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب عبارة عن طريق ومقدّمة لقيام الناس بالقسط.

هل يتمكّن الناس مع قطع النظر عن الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام) والكتب السماويّة، من القيام بالقسط؟

إنّ مدّعى هذا العالم هو: أنّ الناس يجب عليهم تشكيل الحكومة والتصدّي للقيام بالقسط، في حين أنّ الناس طبقاً للآية الشريفة لا يتمكّنون من القيام بالقسط بدون الارتباط مع الأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)والكتب السماويّة. وحينئذٍ فمن باب كلّ ما بالعرض لابدّ أن يرجع إلى ما بالذات، يستفاد ضرورة أن يكون الأنبياء والأولياء الإلهيّين(عليهم‏‌‌السلام) هم السابقون للقيام بالقسط.

وفي مقام توضيح الجواب أكثر، نقول:

أساساً لا يصحّ أن نقول: بأنّ للفقيه من جهة مسؤوليّة بيان الأحكام وشأنيّة النظارة عليها، ومن جهة اُخرى نسلّم الحكومة بيد غير الفقيه ونرى مقام الفقيه في معزل عن الحكومة، ولا يوجد دليل على مستوى العقل أو النقل على ذلك.

لا يمكن أن نعتبر الفقيه منظِّراً، أو صاحب ايديولوجيّة فحسب، بينما يقوم غيره بالتصدّي لأمر الحكومة، بل يجب أن يكون الفقيه على رأس الحكومة الإسلاميّة، ويتمّ وضع جميع الاُمور في المجتمع تحت اختياره وتدبيره بعنوانه قائماً بالقسط.

هذا، مضافاً إلى أنّه لا يتنافى مع شأن الفقيه؛ بل سلبه منه يقلّل من شأنه ومنزلته. وفي هذا الصدد يجب الانتباه إلى وجود فرق بين القائم بالقسط، والمباشر له، فلاينبغي الخلط بينهما.

الإشكال الثالث: إذا قيل: ما الملازمة بين وجوب إجراء العدالة ومسألة الولاية؟ ألا يمكن القول بأنّ القادر على إجراء العدالة يجب عليه هذا العمل، وفي نفس الوقت ليس له ولاية إطلاقاً؟

وفي مقام الجواب، لابدّ من التحقيق في أقسام وموارد إجراء العدالة:

أ) إجراء العدالة في دائرة العلاقة الزوجيّة، فلو كانت له عدّة زوجات، وجب عليه العدل بينهنّ في مقام العمل والسلوك، إلاّ أنّ هذاالنحو من إجراء العدالة لا يلازم وجود الولاية بأيّ شكل من الأشكال، ولا يمكن القول بأنّ للزوج ولاية على زوجاته.

ب) وجوب إجراء العدالة من قبل الوالدين تجاه أبنائهم، وفي هذا المورد لاملازمة أيضاً بين وجوب العدالة والولاية، رغم أنّه مع قطع النظر عن العدالة أنّ‏للأب ولاية على أبنائه.

ج) وجوب إجراء العدالة في توزيع الثروات والإمكانات من قبل الحكومة بين أفراد وطبقات المجتمع، وفي هذا المورد أيضاً لا ملازمة بين هذا الأمر والولاية.

د) هذا القسم الذي يختصّ بمورد إجراء العدالة في أحكام الدِّين وتحقّقه في المجتمع، له ملازمة واضحة مع الولاية؛ لأنّ هذا القسم من أقسام تحقيق العدالة؛ يعني استيفاء كلّ شخص جميع حقوقه، ويتوقّف هذا الأمر على قبول نظر الحاكم ولزوم التبعيّة له، وهو معنى الولاية، حيث إنّ حقيقة الولاية ليست أكثر من لزوم تبعيّة الحاكم وطاعته.

وبعبارة اُخرى: إنّ الولاية تقوم على ركنين:

أحدهما: اعتبار ونفوذ رأي الحاكم ونظره.

ثانيهما: لزوم إطاعة الآخرين له.

وهذان الأمران متوفّران بوضوح في وجوب إجراء العدالة في هذا القسم.

العدالة، وعلاقتها بمسألة الحسن والقبح العقليّين

في هذا البحث يمكن أن يدور في الذهن هذا المطلب، وهو: أنّه مع التسليم بكون الحسن والقبح عقليّين، وأنّ حسن العدل من المستقلاّت العقليّة، فأيّ حاجة بعد ذلك لفهم العدالة وبيان حدودها وماهيّتها بالنسبة إلى الأنبياء أو الأئـمّة(عليهم‏‌‌السلام) أو غيرهم، فقضيّة «العدل حسن» من القضايا المشهورة والآراء المحمودة، أو بتعبير ابن سينا: من التأديبات الصلاحيّة[47] التي وقعت مورد اتّفاق جميع أفراد البشر لوجود ملاك المصلحة العامّة فيها.

وعليه: فمع غضّ النظر عن الشريعة وأصحابها والعارفين بها يمكن فهم ومعرفة العدالة بالعقل.

وللإجابة على هذا المطلب لابدّ من بيان اُمور:

الأوّل: بالرغم من أنّ مبنى الإماميّة في بحث الحسن والقبح هو: أنّ العقل يدرك حسن وقبح الأشياء بالاستقلال، إلاّ أنّ ذلك لا يعني كفاية العقل في الرجوع إليه في تبيين المعنى الواسع للعدل.

فقد أصبح واضحاً في بحث الحسن والقبح أنّ العقل لا يستقلّ بإدراك الحسن والقبح في جميع الأفعال والاُمور، وطبعاً فالعقول الكاملة ـ حسب نظر الآخوند الخراساني (قدس‏‌‌سره)[48] ـ المحيطة بجميع جهات الأفعال، تكون محيطة كذلك بحسن وقبح هذه الأفعال، ولا يخرج أيّ فعل عن دائرة حكمها بالحسن والقبح، ولكن من الواضح أنّ هذه العقول لا تكون كاملة من دون الارتباط بالوحي.

الثاني: إنّ المقصود من بحث العدالة هو كيفيّة إجرائها في المجتمع البشري بالطرق الصحيحة والمشروعة، والحال أنّ مجرّد قبول التحسين والتقبيح العقليّين لا يكون موجباً للبعث والزجر، وإنّما إذا صدر فعل من شخص اتّفاقاً، يدرك العقل حسنه أو قبحه، ولذلك لابدّ من توفّر دواعٍ اُخر للبعث والزجر، ويتحقّق هذا الأمر بإرسال الرسل وتبيين‏المعنى الدقيق لمفهوم العدالة من قبل الشارع والشريعة.

وقال المحقق الاصفهاني رحمه‏الله تبعاً لاُستاذه الآخوند (قدس‏‌‌سره):

إنّ شأن القوّة العاقلة هو التعقّل فقط، لا البعث والزجر[49].

الثالث: إنّ قضيّة حسن العدل رغم كونها من القضايا المشهورة، إلاّ أنّ المجتمع البشري بحاجة إلى إضافة المدح والذمّ والحكم باستحقاق المثوبة والعقوبة، في حين أنّ استحقاق المدح والذمّ ليس من القضايا المشهورة؛ لأنّ القضايا المشهورة من سنخ القضايا البرهانيّة التي تتجلّى في أحد أشكال القضايا الستّ: الأوّليات، الحسيّات، الفطريّات، التجربيّات، المتواترات، الحدسيّات.

الرابع: إنّ ما يلزم لإجراء العدالة في المجتمع بعد درك حدود وماهيّة العدالة، هو: تشخيص مصاديق العدالة والظلم. وطبعاً فقد قرّر في محلّه مفصّلاً أنّ تشخيص المصاديق و تطبيق المفاهيم الكلّي عليها مختصّ بالعقل ـ كأن يحكم في الموارد الجزئيّة بأنّ هذا الفعل من مصاديق العدل أو الظلم، كما قال به الآخوند الخراساني وجمع من تلامذته (قدس‏‌‌سره)م[50] ـ أو أنّ للعرف أيضاً دخلاً فيه، كما قال به المحقّق النراقي والإمام الخميني[51].

ولا ترديد في أنّه لو قلنا بأنّ تطبيق و تشخيص المصاديق بالعقل، أو به وبالعرف، فحينئذٍ نقول: بما أنّ الموارد التي لا يقدر العقل والعرف تطبيق تلك المصاديق بالعدل والظلم، أو الحسن والقبح ممّا لا تحصى، لابدّ في تشخيصها من مراجعة الشرع الذي هو الناظر لتمام الاُمور والآثار والأمر والنهي.

حاجة البشر إلى الوليّ، وانحصار الولاية بالذات في اللّه‏ تعالى

المشهور في أوساط المحقّقين وأرباب النظر أنّ البشر والمجتمع البشري بحاجة إلى حاكم وأمير لنظم اُمور المجتمع وتدبير شؤونه.

هذا المطلب وإن كان من البداهة والوضوح بمكان، إلاّ أنّه بالنظر الدقيق ندرك جيّداً أنّ البشر بحاجة إلى وليّ من حيث وقوع الإنسان تحت ولاية الحقّ تعالى، وأساساً لا يمكن للمخلوق أن يخرج يوماً من دائرة ولاية الخالق جلّ وعلا.

وفي هذا الصدد يمكن دعوى أنّ البشريّة يجب أن تكون تحت ولاية الحقّ وإن‏تحقّق ذلك بواسطة نصب اللّه‏ تعالى وأمره بولاية بعض الأفراد.

وبعبارة اُخرى: بما أنّ البشر يحتاج إلى ولاية الحقّ، فلابدّ أن يكون تحت ولاية من اختارهم اللّه‏ ـ تعالى ـ للولاية من قبيل الأنبياء العظام والأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام). وبذلك يمكن الإدّعاء بأنّ الأشخاص المرتبطين من قريب بمعارف الأنبياء والأئـمّة(عليهم‏‌‌السلام)، وبكلمة اُخرى: من كان أعلم الناس بأحكام الدِّين وعلومه وغاياته، فله تلك الولاية على الناس في زمن عدم حضورهم؛ أي في صورة عدم التوصّل إلى المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، فالبشر بحاجة إلى الولي، ولابدّ من حلّ مسألة الولاية من هذا السبيل.

وحينئذٍ يمكن القول بأنّ اللّه‏ ـ تعالى ـ قد خلق الإنسان والمجتمع البشري بشكل يحتاج فيه إلى الولاية والإمامة، وهذا الأمر لا يختصّ بالمجتمع، بل حسب ما ورد في بعض الروايات: لو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة(عليه‏‌‌السلام)[52]. إنّ الإنسان خلق بشكل يحتاج إلى ولاية والٍ وحاكم من نوعه في ظلّ ولاية اللّه‏ ـ عزّ وجّل ـ وبإذنه.

فالولاية في المرتبة الاُولى وبالأصل والذات للّه‏ تعالى، فله سبحانه الولاية على البشر من حيث خالقيّته لهم، وتتّسع دائرة ولايته إلى أنّ له الحقّ في نصب بعض الأشخاص للولاية على الآخرين، وما لم تنته الولاية إلى الشارع المقدّس فلا اعتبار لها أصلاً وإن اختار الناس أحدهم لهذا المنصب، مثلاً لو اتّفق الناس على أن يجعلوا شخصاً معيّناً للولاية، فلا دليل لدينا على مشروعيّته، فالناس بمجرّد اتّفاقهم وانتخابهم لأحد الأشخاص لا يتمكّنون من جعل الولاية له على أعناقهم، وما أكثر ما أدّى الخلط بين هذين الأمرين إلى تباين الآراء وتزييف في الأفكار والكلمات.

وبعبارة اُخرى: إنّ الناس لهم الحقّ في اختيار أحدهم بعنوان النائب أو الوكيل عنهم في إدارة اُمورهم، ولكنّهم لا يستطيعون انتخابه بعنوان الوليّ، فانتخاب الوليّ يجب أن يكون من قبل الشارع المقدّس.

وعلى أساس هذا البيان، فالتعبير بالمشروعيّة الإلهيّة العرفيّة ـ كما ورد في كلمات البعض[53] لغرض إسناد المشروعيّة لولاية الفقيه على أساس هذا المبنى ـ ليس له نصيب من الدقّة والاعتبار، فالمشروعيّة السياسيّة في أمر الولاية منحصرة باللّه‏ تعالى، ولا صلاحيّة للناس في إعطاء المشروعيّة السياسيّة للولي ـ بمعنى حقّانيّة الولاية ـ إطلاقاً وإن كان لهم دور هامّ في إطار التحقّق العملي للولاية في حركة الواقع الاجتماعي.

العدالة، ومسألة خلافة الإنسان

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المطلب الهامّ في عدّة موارد[54]، وهو: أنّ اللّه‏ ـ تعالى ـ قد جعل الإنسان خليفته في الأرض، وربما يخطر على الذهن أنّ خلافة الإنسان للّه‏ ـ تعالى ـ تعني تسليم مقاليد الاُمور في دائرة إدارة المجتمع الإنساني ـ التي هي من شؤون خلافة اللّه‏ تعالى ـ إلى هذا الإنسان، ولذلك كان الإنسان خليفة اللّه‏ ونائبه في تدبير جميع اُموره.

وبعبارة اُخرى: إنّ خلافة الإنسان هي السبب وراء تسليم مفاتيح إجراء العدالة والقيام بالقسط إليه.

وهذا البيان لا يخلو من ضعف وعدم إتقان؛ إذ أوّلاً: أنّ الآيات الشريفة الدالّة على خلافة الإنسان، لم تكن أبداً في مقام بيان تقرير مصيره وتدبير اُمور المجتمع بيده، بل إنّ هذه الآيات تقرّر هذا المطلب؛ وهو: أنّ الإنسان مظهر صفات اللّه‏ وأسمائه الحسنى في مقابل الموجودات الاُخر الفاقدة لهذه السمة من الظهور والتجلّي.

وعلى فرض أنّ اللّه‏ ـ تعالى ـ لم يخلق سوى إنسان واحد على الأرض، كان هذا الإنسان خليفة اللّه‏ أيضاً من دون الأخذ بنظر الاعتبار تفويض تدبير الاُمور إليه.

وثانياً: أنّ هذه الآيات وردت في مقام تقرير الشرف الذاتي والواقعي للإنسان، الأعمّ من الصغير والكبير، المسلم وغير المسلم، الرجل والمرأة، فكلّ هذه الموارد في هذه الجهة سواء حتّى الوليد في يومه الأوّل؛ فإنّه يحمل معه عنوان خليفة اللّه‏، في حين أنّه لا أحد يتوهّم أنّ لهذا الطفل الصغير عنوان الولاية على نفسه أو على الغير.

النتيجة هي أنّ الآيات الشريفة الدالّة على خلافة الإنسان للّه‏ ـ تعالى ـ لا تدلّ أبداً على ولايته على نفسه أو على الآخرين في إطار تدبير اُمور المجتمع.

العدالة والشورى

من المعلوم أنّ الدِّين الإسلاميّ قد اهتمّ في تعاليمه وإرشاداته بأمر الشورى والمشورة، ومن البداهة أنّ هذا الأمر يفقد كلّ اعتبار وقيمة في صورة ما إذا ورد أمر صريح من قبل الشارع المقدّس، فالقدر المتيقّن من اعتبار الشورى هو مايكون في الموارد التي لم يرد فيها دستور خاصّ من الشارع.

نحن نعتقد أنّه لو توقّف تشخيص أمر من الاُمور على الشورى، فلابدّ من الاستفادة من هذا المنهج، وترك المشورة في مثل هذه الموارد يفضي إلى عدم إجراء العدالة في المورد المذكور.

وعليه: فإنّ مجلس الشورى الإسلامي يمكنه أن يحتلّ موقعاً متميّزاً في نظام ولاية الفقيه في مثل هذه الموارد، وطبقاً لمبنى العدالة؛ فإنّ الفقيه الحاكم إذا كان له في مورد من الموارد نظر اجتهاديّ معيّن، فلا يمكن القول بلزوم العمل وفقاً لهذه الرؤيا فقط، فالعدالة في مثل هذه الموارد تقتضي أن يعمل الحاكم وفقاً للفتوى التي تتناغم وتنسجم أكثر مع مصلحة المجتمع في إطار حفظ النظام وتسهيل الاُمور المعيشيّة للناس.

مثلاً إذا كان الحاكم يرى من الناحية الفقهيّة لزوم الخمس ووجوبه في مورد خاصّ من الموارد الاجتماعيّة المهمّة، ولكن هناك نظريّة اُخرى في فتاوى الفقهاءترى عدم وجوب الخمس في ذلك المورد، فلو كانت النظريّة الثانية متوافقة مع مصلحة المجتمع، فعلى الحاكم في مقام إعمال حكومته العمل بها وصرف النظر عن فتواه ونظره.

مثال آخر في مورد الضرائب التي تقرّرها الدولة غير الوجوه الشرعيّة المقرّرة في الفقه، فلو كانت هذه الضرائب مشروعة لدى فقيه، وغير مشروعة لدى آخر، فعلى الحاكم في مقام العمل اختيار الفتوى المطابقة للمصالح الكلّية للدِّين والمجتمع، والعدالة في هذه الموارد تقتضي ذلك، وبهذا لا يبقى محلّ وموقع للاستبداد.

وهكذا فيما لو رأى الفقيه لزوم المشورة مع أرباب النظر أو الفقهاء الآخرين في تشخيص العدالة وتنفيذها في أمر من الاُمور، وجب عليه ذلك، فلو أقدم على عمل من هذا القبيل بدون مشورة، فقد خرج من جادّة العدالة.

العدالة، وتعدّد الفقهاء

بعد أن ثبت أنّ حقيقة العدالة أمر لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال الارتباط بالوحي والتعرّف على القرآن والسنّة، يمكن لشخص أن يتساءل أنّه مع تعدّد الفقهاء ووجود اختلاف الرأي والنظر بينهم، بحيث يمكن أن يكون عمل معيّن مصداق العدل في نظر البعض، ومصداق للظلم في نظر الآخر، فما هو الحلّ؟

ألا يوجب ذلك أن يكون حقّ تعيين الحاكم بيد العقلاء والناس لتكون المشروعيّة في الحكم بيد من يختاره الناس حاكماً عليهم؟

وفي الجواب لابدّ من القول أوّلاً: إنّ مجرّد اختلاف الفقهاء لا يوجب أن يكون انتخاب الحاكم بيد الناس، بل كما ذكرنا سابقاً أنّ الحاكم لا يتمكّن من الحكم على وفق رأيه ونظره وإن كان أعلم من الآخرين، بل لابدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار في الموارد الخلافيّة مصلحة المجتمع ويعمل برأي من يكون نظره أقرب إلى تحقيق مصلحة الناس.

وعليه: ففي الموارد الخلافيّة في دائرة مصاديق العدل والظلم، تكون المشورة مع الفقهاء الآخرين هي المتعيّنة.

وثانياً: إنّ مثل هذا الاختلاف الفرضي إمّا أن لا يقع في أرض الواقع الخارجي، أو يكون وقوعه نادراً جدّاً؛ لأنّ ملاك الظلم والعدل واضح تماماً، وفي مورد الاختلاف لو تحقّق فلابدّ من التدبّر والدقّة أكثر للوصول إلى اتّفاق في الرأي والنظر.

الرابطة بين الحاكم وأفراد المجتمع

ومن المسائل الأساسيّة التي ينبغي دراستها والتدقيق فيها مسألة تصوير العلاقة بين الحاكم وأفراد المجتمع، وكذلك علاقة الناس بالحاكم من الجهة الاُخرى.

ثمّ إنّه على أساس مبنى العدالة هل هناك قيمة واعتبار للناس في النظام الإسلامي، أم لا؟

لقد اتّضح ممّا سبق أنّ الحاكم الإسلامي في المرتبة الاُولى يجب أن يكون أعلم الناس بحقيقة العدالة، فيجب أن يكون محيطاً بجميع أبعاد وتفاصيل العدالة التي يحتاج إليها المجتمع البشري ليتسنّى له توظيفها في مرتبة العمل والتطبيق.

وأحد الأبعاد المهمّة في العدالة هي الحقوق الاجتماعيّة لأفراد المجتمع فيما بينهم حتّى حقوق الجماعات والفئات في المجتمع الواحد، فعلى الحاكم الإسلامي بعد اكتسابه معرفة صحيحة بهذه الحقوق ـ وباعتقادنا أنّ تشخيص وجود حقّ معيّن وعدمه لا يمكن إلاّ بميزان الفقه وملاكاته، والحاكم يستطيع بقدرته الفقهيّة تبيين وتشخيص الحقوق بالنسبة للأفراد والجماعات ـ أن يتحرّك نحو تطبيقها على أرض الواقع الاجتماعي.

وعلى هذا الأساس فلو كان هناك حقّ للمجتمع في اختيار أفراد لتولّي المهامّ السياسيّة، فالحاكم موظّف في تهيئة الأرضيّة اللازمة لتحقيق هذا الأمر على المستوى العملي.

إذن فعلى مبنى العدالة يتّضح أنّ الناس في المجتمع الإسلامي يمكنهم استيفاء جميع حقوقهم المشروعة في ظلّ هذا النظام.

ومن جهة اُخرى نشاهد نوعاً من الولاية ذات الطرفين في بعض الاُمور بين الحاكم والناس في المجتمع الإسلامي.

وطبقاً للآية الشريفة: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ»[55] أنّ كلّ مؤمن له ولاية على المؤمن الآخر.

وعليه: فكما أنّه يجب على الحاكم في صورة مشاهدته للمنكر في المجتمع التصدّي له ومنعه، فكذلك يجب على المؤمنين في صورة اللزوم النصيحة للحاكم وتحذيره وتقديم الاقتراحات البنّاءة له، وهذا هو معنى: «النصيحة لأئـمّة المسلمين»[56].

العدالة، وعدم الفرق بين زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام) وغير المعصوم

على مبنى العدالة لا يوجد هناك فرق على مستوى المشروعيّة السياسيّة للحكومة الإسلاميّة بين زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام) وغير المعصوم.

فمن أجل تحقّق العدالة في زمن المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، فالحاكم المطلق والوليّ الواقعي هو شخص المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، أمّا في زمان الغيبة وعدم الوصول إلى المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؛ فإنّ مشروعيّة الحكومة الإسلاميّة تبقى ذات مشروعيّة إلهيّة.

على مبنى العدالة، فالحكومة الإسلاميّة في نظر الشارع هي الحكومة التي تُقيم العدل والقسط بين الناس. والحاكم يجب أن يكون أعرف الناس بمعنى حقيقة العدالة.

نتائج بحث نظريّة العدالة

1 . إنّ تحقيق العدالة هو من الاُمور الأساسيّة للدِّين، ويمثِّل الهدف الأصلي لإرسال الرسل والأنبياء(عليهم‏‌‌السلام)، والواجب على النبيّ والأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)تحقّق العدالة في المجتمع البشري بمعناها الواسع.

2 . طبقاً للآيات القرآنيّة[57] الشريفة أنّ وجوب تحقّق العدالة لا يختصّ بالنبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ووصيّه(عليه‏‌‌السلام).

3 . طبقاً للروايات المعتبرة[58] أنّ العلماء والفقهاء الجامعين للشرائط هم خلفاء النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)والأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)ومنزّلون منزلتهم، وهذا التنزيل يقوم قطعاً على أساس أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) و الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) على علم دقيق بالعدالة الواقعيّة بسبب اتّصالهم وارتباطهم بالوحي، فكذلك العلماء الذين يستلهمون علومهم من تعاليم النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئـمّة(عليهم‏‌‌السلام) و إرشاداتهم، هم أعلم الناس بحقيقة العدالة ومواردها، ولهذا السبب فلو أمكنهم إقامة العدالة بواسطة تشكيل الحكومة الإسلاميّة لوجب عليهم القيام بذلك.

ولا يخفى أنّ هذا المنهج لا يحتاج إلى التمسّك بالروايات وعمليّة التنزيل؛ لأنّ الفقهاء بما أنّهم أعلم الناس بالحقوق وفروعاتها، لذلك يجب عليهم إجراء العدالة في المجتمع؛ لأنّ حقيقة العدالة وإيجادها فرع وجود الحقّ، وتشخيص هذا الأمر لا يتسنّى إلاّ من الفقهاء. وعليه: فإنّ روايات التنزيل تكون مؤيّدة لهذا المعنى، ويمكن الاستفادة منها كشاهد لا بعنوان الاستدلال.

4 . إذا فرضنا أنّ مبنى مشروعيّة ولاية الفقيه هو القيام بالقسط وإقامة العدل. فحينئذٍ لا تتحدّد منطقة نفوذه في إطار ما يقع تحت سيطرته، بل يمتدّ ليستوعب كلّ منطقة يستطيع فيها الحاكم القيام بالقسط.

5 . في هذا المنهج نلاحظ وجود رابطة وانسجام ذاتيّ وواقعيّ بين الولاية الشرعيّة وحقوق الناس؛ لأنّ ماهيّة العدالة بما أنّها من العناوين ذات الإضافة لا تتحقّق بدون الأخذ بنظر الاعتبار حقوق جميع الأشخاص والمجتمع.

إنّ إيجاد العدالة لا يتيسّر على مستوى الممارسة والتطبيق إلاّ إذا راعى الحاكم حقوق جميع الأفراد في المجتمع؛ سواء الحقوق التي قرّرها الشارع للأفراد أو أمضاها العقل وحكم بصحّتها.

وعلى هذا الأساس، فالولاية التي تكون من موقع العدالة لا تعني إطلاقاً أنّ المولّى عليهم محجورون، بل تمثِّل إعزاز وعظمة المولّى عليهم.

وعلى أساس هذه النظريّة لا تكون النسبة بين الحاكم وأفراد الشعب كالنسبة بين الوالي والرعيّة، المخدوم والخادم، المالك والمملوك، بل أنّ الحاكم إنّما يكون حاكماً إذا كان أشدّ الناس أمانة في إجراء العدالة.

ليس الحاكم في النظريّة الإسلاميّة بعنوان وكيل الناس أو الوالي المستبدّ، بل يمارس عمله بعنوانه أميناً لدين ودنيا الناس. وقد اُشير إلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضاً. ففي الرواية المعتبرة عن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا(عليه‏‌‌السلام) في علّة جعل اُولي الأمر ووجوب طاعتهم، قال(عليه‏‌‌السلام):

إنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود، واُمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يأخذهم بالوقف عند ما اُبيح لهم، ويمنعهم من التعدّي والدخول فيما خطر عليهم.

وفي جانب آخر من الرواية يقول(عليه‏‌‌السلام):

إنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً، لدرست الملّة، وذهب الدِّين وغيّرت السنّة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبّهوا ذلك على المسلمين ـ إلى أن قال: ـ فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيّنا، وغيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين[59].

6 . لا يوجد شيء لإعطاء حقوق جميع الأشخاص في المجتمع أقوى من العدالة، وهنا يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي: أنّ مجرّد انتخاب الناس للحاكم وتوفّر الحرّية في ذلك الانتخاب لا يكون دليلاً على صحّة ذلك الانتخاب وحقّانيّته. فما أكثر ما أدّى الانتخاب إلى وقوع المفسدة في المجتمع.

فلو قيل: إنّ المشروعيّة السياسيّة للحاكم تتحقّق من خلال انتخاب الناس له؛ فإنّ ذلك لا يكون بمعنى إعزاز الناس وإكرامهم، بل إنّ العزّة الواقعيّة والإكرام الحقيقي يتمّ فيما لو تمّت الاستفادة من معايير وركائز دقيقة وثابتة من قبيل معيار العدل والقيام بالقسط.

7 . على أساس هذه النظريّة، فإنّ ولاية الحاكم الواجد للشرائط تكون أمراً إسلاميّاً، لا شيعيّاً، في حين أنّ النظريّات الاُخر في إثبات ولاية الفقيه منحصرة في المذهب الشيعي تماماً.

8 . طبقاً لهذه النظريّة لا فرق بين الولاية والحكومة ـ بمعنى: أنّ الحاكم له الولاية  ـ بالرغم من وجود الفرق بينهما على المستوى اللغوي، ففي اللغة يكون بين هذين العنوانين عموم وخصوص من وجه.

ولكن طبقاً لنظريّة العدالة؛ فأنّ من له الولاية، له حقّ الحكومة.

وببيان أوضح: أنّ البعض يرى بأنّ الحكومة هي فنّ تدبير اُمور الدولة، والتفكير في إدارة اُمور المجتمع الداخليّة والخارجيّة، ولذا فهي من فروع الحكمة العمليّة. أمّا الولاية، فتأتي بمعنى القيوميّة، وبالتالي ذهبوا إلى التفريق بين هذين العنوانين.

ولكنّنا ندّعي بأنّه رغم أنّ المعنى اللغوي يؤيّد ما ذكر آنفاً، إلاّ أنّ المعنى الاصطلاحي يقوم على أساس أنّ من كان مجرياً للعدالة وقد تصدّى للحكومة لهذا الغرض، فله الولاية بمعنى إعمال النظر ونفوذ التصرّفات.

9 . لا حاجة في هذا البحث إلى التمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة أو الروايات الاُخر[60] في هذا الباب.

10 . بما أنّ وجوب إجراء العدالة غير مشروط برغبة الناس واختيارهم، إذن لا حاجة للبيعة من قبل الناس، بل إنّ الفقيه الجامع للشرائط يجب عليه القيام بالقسط، وطبعاً فإنّ البيعة يمكنها أن تكون مؤكّدة لطاعة الناس للفقيه. ولكن لاأثر لها في تحقّق المشروعيّة، أي ليس لها إثبات حقّانية هذا العمل.

وبعبارة اُخرى: أنّ ولاية الحاكم على المجتمع والناس هي نظير ولاية الأب على الابن، كما أنّ الأب الذي يتمتّع باللياقة الكافية له ولاية على ابنه، وليس للابن أيّ دور في جعل هذه الولاية، فكذلك الحاكم الفقيه، إذا توفّرت فيه شروط معيّنة، له هذا الحقّ والشأن بجعل من قبل الشارع المقدّس، ولا دور للناس في أصل هذه الولاية والحقّانيّة.

نعم، تكون بيعة الناس له بمثابة إعلان الطاعة له، وبها تتمّ الحجّة على الحاكم من قبل الناس، وكذلك على الناس من قبل الحاكم.

وهذه النتيجة هي من روافد نظريّة العدالة، وإن كان من اللازم دراسة مسألة نظر الدِّين تجاه الناس للخروج بنظريّة نهائيّة في هذا المورد في بحث مستقلّ.

11 . بهذا البيان لا يمكن النظر إلى الدِّين من الزاوية الفرديّة حينئذٍ؛ لأنّه إذا كان أساس الدِّين هو القيام بالعدل وإقامة القسط، فالتعبير عن الدِّين بكونه «عبارة عن مقرّرات ودستورات فرديّة ومتعلّقة بالأشخاص فحسب» يكون كلاماً سخيفاً وفارغاً من أيّ دقّة وتتبّع، فالدِّين هو المتصدّي لجميع الاُمور الفرديّة والاجتماعيّة.

12 . في هذا المنهج لأجل إثبات المشروعيّة لولاية الفقيه، لا تكون ولايته بعنوان القدر المتيقّن، بل بعنوان أنّ الفقيه هو الشخص الوحيد العارف باُمور الدِّين ومفاهيم القرآن الكريم، وبالتالي من له القدرة على تحقّق العدالة بمعناها الدقيق.

13 . طبقاً لهذه النظريّة؛ فإنّ تشكيل الحكومة الظاهريّة من قبل الفقيه يكون وجوباً غيريّاً ومقدّميّاً، ولا تكون الحكومة واجباً نفسيّاً وأصليّاً إطلاقاً. ولذلك إذا لم نعتبر الوجوب الأوّليّ والثانويّ مختصّاً بالأحكام النفسيّة، أمكننا القول بأنّ الحكومة من الأحكام الأوّليّة المقدّمية أو الغيريّة.

14 . طبقاً لهذه النظريّة؛ فإنّ من شؤون النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) الأساسيّة هي إقامة العدل والقسط، ولا يمكن الادّعاء بصورة جازمة أنّ تشكيل الحكومة هو من وظائفه الأوّليّة، بل إنّ ما قام به من تشكيل الحكومة في المدينة المنوّرة من أجل نشر الدِّين، وتحقّق القسط والعدل كان بوصفه مقدّمة ضروريّة لذلك.

15 . طبقاً لهذه النظريّة؛ فإنّ مساحة نفوذ ولاية الفقيه تتحدّد بميزان قدرته على إجراء العدالة، وعليه: فلا يمكن الحكم بكونها مطلقة أو مقيّدة بشكل كلّي، بل من جهة أنّ إجراء العدالة يتقوّم بمعرفة الحقوق في كلّ مورد. فإذا لم يتمكّن الفقيه من تشخيص الحقّ في أحد الموارد، فلا تكون له القدرة على إقامة العدل في ذلك المورد، وبالتالي لا تكون له الولاية في ذلك المورد بالخصوص.

ومن جهة اُخرى: فإنّ إجراء العدالة لا يختصّ بالقاصرين والغائبين وأمثالهم، بل يشمل جميع الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة للحكومة.

وطبعاً فإنّ الأئـمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) لكونهم عالمين بجميع الاُمور ومدركين للواقع، يمكن القول بأنّ ولايتهم مطلقة وتشمل جميع الاُمور، ولكن بالنسبة إلى الفقهاء يختلف الحال، فقد لا يستطيعون تشخيص الحقّ في بعض الموارد حتّى بحسب الظاهر، فيمكن القول بأنّ ولايتهم ساقطة في ذلك المورد.

وعليه: فولاية الفقهاء محدودة بالموارد التي يمكنهم تشخيص الحقّ فيها، وتكون لديهم معرفة بكيفيّة إجراء العدالة كذلك.

16 . كما أنّ الإمام الخميني (قدس‏‌‌سره) يرى أنّ ولاية الفقيه أمر بديهيّ ولا يحتاج إلى دليل وبرهان[61]، فقد اتّضح من خلال ما تقدّم في نظريّة العدالة أنّ ولاية الفقيه لاتحتاج إلى برهان ودليل سوى ما ذكر في أصل وجوب القيام بالعدل وإجرائه.

و بعبارة اُخرى: بمجرّد تصوّر وجوب إجراء العدالة يمكننا التصديق بولاية الفقيه والإذعان بحقّانيّتها.

إنّ ما تقدّم في هذه المقالة يعتبر بيان لنظريّة حول إثبات مشروعيّة وحقّانيّة ولاية وحكومة الفقيه بواسطة العدالة، وتكميل هذا البحث والتحقيق في مدى ارتباط هذا المبنى مع سائر المباني في ولاية الفقيه، يحتاج إلى دراسة أدقّ وأوسع وأكثر تخصّصاً، ولعلّنا نوفّق لذلك في المستقبل إن شاء اللّه‏.

-----------------------------
[1] كانت هذه الرسالة باللغة الفارسيّة بقلم المؤلّف حفظه اللّه‏ وقد نُقلت إلى اللغة العربيّة.

[2] المقصود من المشروعيّة في هذه المقالة، هو المعنى الخاصّ لها؛ أي الحقّانيّة. وليس المراد منها هو المعنى العامّ المستخدم في العلوم السياسيّة أعمّ من الحقّانيّة وعدمها.

[3] المكاسب تراث الشيخ الأعظم 3: 553 وما بعدها.

[4] كتاب البيع للإمام الخميني (قدس‏‌‌سره) 2: 623 وما بعدها.

[5] كتاب البيع للإمام الخميني (قدس‏‌‌سره) 2: 617 وما بعدها.

[6] الكافي 1: 32 ح2، وعنه وسائل الشيعة 27: 78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح2.

[7] كنز العمّال 10: 183 ح28952 وص204 ح29083، الكافي 1: 46 ح5، وفيه: «الفقهاء اُمناء الرسل»، وكذا في نوادر الراوندي: 156 ح226، وعنه مستدرك الوسائل 13: 124، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح8.

[8] الكافي 1: 67 ح10، تهذيب الأحكام 6: 218 ح514 وص301 ح845، الاحتجاج 2: 260، الرقم 232، وعنها وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب11 ح1.

[9] وهو: قوله(عليه‏‌‌السلام): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا». كمال الدِّين: 484 ح4، الغيبة للطوسي: 291 قطعة من ح247، الاحتجاج 2: 543 قطعة من الرقم 344، وعنها وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب9 ح9.

[10]) كما في قوله ـ تعالى ـ: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (سورة الحديد 57: 25).

[11] صحيفه امام رحمه‏الله 20: 112.

[12] عوالي اللآلي 4: 103 ملحق ح 150، تفسير الصافي 5: 107، التفسير الكبير للفخر الرازي 7: 261.

[13] سورة النحل 16: 90.

[14] نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح: 509 ، الحكمة 231، الدر المنثور 5: 141، روح المعاني 14: 610.

[15] اخلاق ناصري: 137ـ 138.

[16] سورة النحل 16: 90.

[17] التبيان في تفسير القرآن 2: 418، روض الجِنان وروح الجَنان 12: 84.

[18] جامع البيان 14 : 198، الدر المنثور 5: 140، روح المعاني 14: 609 ـ 610، مجمع البيان 6: 180.

[19] مجمع البيان 6: 180، روح المعاني 14: 609 ـ 610، تفسير نمونة 11: 368.

[20] الخلاف 3: 176 مسألة 290، عوالي اللآلي 1: 222 ح99 وص457 ح198 وج3: 208 ح49، بحار الأنوار 2: 272 ح7.

[21] لم نجده عاجلاً.

[22] سورة ص 38: 26.

[23] سورة النساء 4: 58.

[24] الميزان في تفسير القرآن 4 : 378.

[25] سورة النساء 4: 135.

[26] التوحيد: 96 ح1، معاني الأخبار: 11 ح2، وعنهما بحار الأنوار 4: 264 ح13 وج5: 17 ح23.

[27] الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة: 37، وعنه بحار الأنوار 10: 351 ح11.

[28] تحف العقول: 332، وعنه بحار الأنوار 75: 347 ح49.

[29] تحف العقول: 332، وعنه بحار الأنوار 75: 347 ح49.

[30] تحف العقول: 40، وعنه بحار الأنوار 77: 145 ح36.

[31] جامع الأخبار: 327 ح918، وعنه بحار الأنوار 75: 352 ح61.

[32] المحاسن 1: 445 ح1033، الكافي 2: 18 ح1، وص21 ح8، وعنهما وسائل الشيعة 1: 18، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات ب1 ح10.

[33] مقتضب الأثر: 16، وعنه بحار الأنوار 36: 221 ح20 وعوالم العلوم والمعارف والأحوال 15 / 3: 83 ب3 قطعة من ح1.

[34] بحار الأنوار 36: 203 ـ 416 عدّة أحاديث، وج51: 66 ـ 161 ب1 ـ 10.

[35] راجع صحيفه امام رحمه‏الله 12: 280 و ج14: 472.

[36] في ص213 .

[37] تقدّمتا في ص 90.

[38]

[39] وسائل الشيعة 27: 77 ـ 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 8.

[40] عيون أخبار الرضا(عليه‏‌‌السلام) 2: 37 ح94، معاني الأخبار: 374 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 27: 92 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح53.

[41] تقدّمت في ص 90.

[42] الكافي 1: 53 ح14، وعنه وسائل الشيعة 27: 83، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح26.

[43] كتاب البيع للإمام الخميني (قدس‏‌‌سره) 2: 629.

[44] سورة النساء 4: 135.

[45] سورة الحديد 57: 25.

[46] حكمت وحكومت: 140.

[47] الإشارات والتنبيهات 1: 220.

[48] فوائد الاُصول للآخوند الخراساني: 124 ـ 125.

[49] كفاية الاُصول: 368 ـ 369، نهاية الدراية 3: 195، 287 و 333.

[50] كفاية الاُصول: 77، أجود التقريرات 1: 126، نهاية الأفكار 1: 129 ـ 131، نهاية الدراية 1: 240.

[51] مستند الشيعة 12: 70، تهذيب الاُصول 1: 180.

[52] بصائر الدرجات: 487 ـ 488 ب11، الغيبة للنعماني: 139 ـ 140 ب9، بحار الأنوار 23: 52 ح107ـ 110.

[53] راجع ولايت فقيه حكومت صالحان: 46 و 73 و...  .

[54] مثل سورة البقرة 2: 30، سورة يونس 10: 14، وسورة ص 38: 26.

[55] سورة التوبة 9: 71.

[56] الكافي 1: 403 ـ 404 ح1 و 2، أمالي المفيد: 187 ح13، أمالي الصدوق: 432 ح569، الخصال 1: 150 ح182، بحار الأنوار 2: 148 ح22 وج 27: 68 ح3.

[57] مثل سورة الحديد 57: 25 ، وسورة النحل 16: 90 ، وسورة النساء 4: 58 و 135.

[58] وسائل الشيعة 27: 77 ـ 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8.

[59] علل الشرائع: 253 ـ 254 ح9، عيون أخبار الرضا(عليه‏‌‌السلام) 2: 100 ـ 101، وعنهما بحار الأنوار 23: 32 ح52.

[60] تقدّمت في ص 90.

[61] كتاب البيع 2: 627.




برچسب ها :