مشروعية إقامة الحدود الإسلامية في زمان الغيبة

۲۷ آذر ۱۳۹۱

۱۷:۴۸

۵۹

چکیده :
من الخصائص الهامّة جدّا في الدين الإسلامي والتي تكون مؤثّرة في جامعيّة هذا الدين، هو بيان الجرائم والذنوب وعرض الحالات غير الطبيعية الشخصية والاجتماعية، مع ذكر الآثار الدنيوية والاُخروية لها.
ويترتّب على كلّ عمل قبيح في الإسلام، والذي يعدّ من مصاديق الذنوب آثار دنيوية هامّة وعقوبات اُخروية، ولبعض هذه الآثار الدنيوية حيثيّة وضعية، وبعبارة اُخرى: لها حيثيّة قهريّة وتكوينية، ولبعضها الآخر حيثيّة عقابية.
نشست های علمی

مشروعية إقامة الحدود الإسلامية في زمان الغيبة
محمد جواد الفاضل اللنکراني

من الخصائص الهامّة جدّا في الدين الإسلامي والتي تكون مؤثّرة في جامعيّة هذا الدين، هو بيان الجرائم والذنوب وعرض الحالات غير الطبيعية الشخصية والاجتماعية، مع ذكر الآثار الدنيوية والاُخروية لها.

ويترتّب على كلّ عمل قبيح في الإسلام، والذي يعدّ من مصاديق الذنوب آثار دنيوية هامّة وعقوبات اُخروية، ولبعض هذه الآثار الدنيوية حيثيّة وضعية، وبعبارة اُخرى: لها حيثيّة قهريّة وتكوينية، ولبعضها الآخر حيثيّة عقابية.

وكما وردت تأكيدات في الإسلام بضرورة اجتناب المعاصي، والتأكيد في كافّة المجالس والاجتماعات على التقوى والتديّن والخوف من اللّه‏، كذلك حدّدت لبعض الذنوب عقوبات يُطلق عليها في الفقه: الحدود والتعزيرات.

وفي هذه العقوبات أربع نقاط، نعبّر عنها «بالشاخص»:

1 . يعلم بقليل من التأمّل أنّ كافة الحدود تجري في موارد ليس شخص الإنسان بمفرده هو المقصود، بل الجريمة تتحقّق بالارتباط مع فعل إنسانٍ بالنسبة إلى مالٍ، أو شخصٍ، أو جمعٍ آخر.

فالمعاصي الشخصية من قبيل الكذب أو الغيبة التي فيها عمل فرد واحد فقط دون فعل، أو مال، أو عرض الآخر، فهي ليست موضوعا للحدود، وأمّا في موارد من قبيل الزنا، اللواط، السرقة والقذف، فيطرح فيها الحدود الإلهيّة.

هذا الموضوع يكشف عن أنّ الإرادة الأوّلية للشارع المقدّس ليست هي وضع عقوبات لكافّة القبائح والمحرّمات والذنوب، بل الجرائم التي لا تتحدّد ولا تنحصر في دائرة الفرد والمال والعرض، أو العقيدة الخاصّة لشخصٍ، فهي مشمولة لهذه الإرادة.

وحتّى في خصوص الارتداد، فإذا لم يظهره شخص وبقي في ذهنه، فليس عليه عقوبة دنيوية أو حدّ. وأمّا إذا أظهره ـ وهو نوع تحدّ ومواجهة للدين والمتديّنين، وتخريب وهدم لعقائدهم ـ فيطرح مسألة الحدّ.

2. ينبغي الالتفات إلى هذه النقطة الهامّة وهي أنّه طبقا لقانون «الدرء»، «وادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم»[1]، وطبقا لنقل الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله): قال رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): «ادرؤوا الحدود بالشبهات»[2]، فإنّ منهج الإسلام يقتضي نفي استحقاق الحدّ بالنسبة للأفراد قدر الإمكان، وليس لهذا الدين إصرار على إثبات الجرم، وبتبعه إقامة الحدود المترتّبة عليه. كما يرفض في موارد إثبات الجرم الطرق السهلة والبسيطة، حتّى أنّه في بعض الصور يرى لزوم شهادة أربعة رجال عدول.

3. الشاخص الآخر هو الموارد التي جُعلت بعنوان العفو في اختيار الحاكم الشرعي أو القاضي الجامع للشرائط.

4. الشاخص الآخر هو أنّه بناء على بعض الروايات ينتفي استحقاق الحدّ في حال الجهل بالحرمة أو الحكم، على سبيل المثال: روي في صحيحة الحلبي عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

لو أنّ رجلاً دخل في الإسلام وأقرّ به، ثمّ شرب الخمر وزنى وأكل الربا ولم يتبيّن له شيء من الحلال والحرام لم أقم عليه الحدّ إذا كان جاهلاً، إلاّ أن تقوم عليه البيّنة أنّه قرأ السورة التي فيها الزنا والخمر وأكل الربا، وإذا جهل ذلك أعلمته وأخبرته، فإن ركبه بعد ذلك جلدته وأقمت عليه الحدّ[3].

وما ورد أيضا في القاعدة العامّة: «أيّ رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه»[4]، وهي شاملة للشبهات الحكمية والموضوعية، وشاملة للجاهل القاصر والمقصّر.

من الواضح ـ بطبيعة الحال ـ أنّه ليس من الضروري علم المجرم بوجود الحدّ ومقداره، بل عليه أن يعلم فقط بأنّ هذا العمل حرام، وفي هذه الحال يستحقّ الحدّ وإن لم يعلم بوجود الحدّ الشرعي والعقوبة في مثل هذا الفعل الحرام.

وبناءً على هذه الشواخص الأربعة يتّضح أنّ استحقاق الحدّ لا يتحقّق بسهولة، بل هو ممكن بعد حصول شروط واُمور.

وبعبارة اُخرى: لم يكن بناء الشارع المقدّس في الدين الإسلامي على زيادة الحدود وإقامتها وإشاعتها في المجتمع، بل اكتفى بمقدار الضرورة وبالأقلّ اللازم.

وبعد اتّضاح هذه الخصوصيات ينبغي القول: بأنّ النزاع القائم في بحث إجراء الحدود هو أنّ إقامة الحدود هل هو من مختصّات عصر حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام) الذي ينبغي فيها استئذانه، أو أنّه يشمل زمان الغيبة أيضا؟

وهل هناك احتمال أنّه فيما لو كان إجراء الحدود من الأحكام الخاصّة بعصر حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام) أن نقول: إنّ الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) أذنوا إذنا عامّا للفقهاء جامعي الشرائط بأنّ لهم الولاية على هذا الأمر؟

كما أنّه من الممكن أن نعتقد بالنسبة لعصر الحضور أنّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) أذنوا بإقامة الحدود فيما يتعلّق بالآخرين.

وفي بحث القضاء صرّح الفقهاء بأنّ للقاضي الولاية على الحكم، وبعبارة اُخرى: القضاء ونفوذه من مصاديق الولاية. وعلى هذا، ففي إقامة الحدود ينبغي وجود جهة الولاية وبدونها لا يحقّ لأحد إقامتها، وحينئذٍ فالبحث في أنّه هل اُعطيت هكذا ولاية للفقهاء جامعي الشرائط في زمان الغيبة، أو أنّه مختصّ بالإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)ومن دون حضوره وإذنه لا يمكن إقامة هذه الحدود؟

بعد بيان محلّ النزاع، اتّضح أنّه في مقام الاستدلال يلزم إقامة الدليل على الاشتراط والاختصاص، فإن كان هناك دليل واضح يدلّ على اختصاص هذا الأمر بالإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) فنقول بالاختصاص، وإن لم يكن هناك دليل على هذا الاختصاص، فبعد إثبات الولاية المطلقة للفقيه الجامع للشرائط تكون أصالة عدم الاشتراط حاكمة في هذا المورد.

وهذا المطلب مسلّم أنّ إثبات الحدّ يجب أن يكون تحت نظر الحاكم الشرعي، ولكن البحث في أنّه في الموارد التي بحسب الظاهر أصل الجريمة مع الخصوصيات والشرائط ثابتة للأفراد العاديين هل لهؤلاء الأفراد الحقّ في الحكم وإجراء الحدّ؟

وبعبارة اُخرى: لا يمكن القبول بالملازمة بين مسألة الإثبات ومسألة إقامة الحدّ، يعني: لا ريب أنّه في مورد إثبات الحدّ يجب أن يكون هذا الأمر عند الحاكم المجتهد، ولكن لا ملازمة في أن يكون منفّذ الحدّ مجتهدا أيضا.

ملازمة مشروعية القضاء مع مشروعية التنفيذ

هل هناك ملازمة بين مشروعية القضاء في زمان الغيبة مع مشروعية تنفيذ الحدود؟

في عبارات الفقهاء المعتقدين بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة هكذا يأتي عادة: كما أنّ الحكم والقضاء من شؤون الفقاهة، فكذلك إجراء الحدود.

وكأنّ هذه الملازمة موجودة في ارتكاز الفقهاء، والظاهر أيضا هو وجود الملازمة الشرعية والعادية، والسبب هو أنّ القضاء إن كان مشروعا ولكن لم يكن تنفيذ الحدود مشروعا، لزم لغوية القضاء في بعض الموارد.

وببيان آخر: هناك إطلاق في أدلّة مشروعية القضاء حتّى بالنسبة إلى الموارد التي فيها حدود إلهيّة، فإن لم نعتقد بمشروعية تنفيذ الحدود في زمان الغيبة فيلزم منه إدخال التخصيص أو التقييد في هذه الأدلّة.

وبعبارة اُخرى: عدم مشروعية تنفيذ الحدود، إمّا يستلزم لغوية مشروعية القضاء في بعض الموارد أو أنّ علينا الالتزام بالتخصيص أو التقييد فيها، ولا يمكن الالتزام بكلا الأمرين، وعلى هذا فيمكن قبول الملازمة بينها. نعم، يمكن القول بعدم الملازمة بين مشروعية الإفتاء وتنفيذ الحدود.

الملازمة بين نظرية ولاية الفقيه ومشروعية تنفيذ الحدود

ورد في عبارات بعض[5]: أنّ المخالفة مع جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة لا يعني إنكار نظرية ولاية الفقيه؛ لوجود نسبة العموم والخصوص من وجه في اصطلاح المناطقة بين هذين البحثين.

فمن الممكن أنّ أشخاصا لا يقولون بنظرية ولاية الفقيه بالمعنى الرائج، ولكن يعتقدون أنّ الفقهاء الجامعين للشرائط يمكنهم القضاء وإقامة الحدود، وآية اللّه‏ الخوئي(رحمه‏‌‌الله) من هذه المجموعة.

ومن الممكن أن يقول شخص بولاية الفقيه ولكن لا يسري حدود اختيارات الفقيه إلى إقامة الحدود أو الجهاد مع الكفّار، كالمحقّق الكركي(رحمه‏‌‌الله).

ويمكن أن لا يقول بهما أحد، كالمرحوم آية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري وآية اللّه‏ الشيخ عبد الكريم الحائري.

ويمكن أن يقول البعض بكلا النظريتين، كالإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله) وعدد كثير من الفقهاء المعاصرين والقدماء.

وفي رأينا أنّ هذا الكلام قابل للنقاش؛ لأنّه يبتني على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وينبغي أن يُسأل هل هناك ملازمة بين هذه النظرية ومسألة تنفيذ الحدود أم لا؟

ونقول في الجواب: لا شكّ في وجود مثل هذه الملازمة، وإلاّ لزم خلاف الفرض، وزوال عنوان الإطلاق.

طبعا ينبغي القول هنا: إنّ خلطا قد حصل بين مطلبين:

الأوّل: هل أنّ لازم مسألة الولاية المطلقة هو جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة أم لا؟

الثاني: كم هو عدد أقوال كبار العلماء؟

الكاتب المحترم قد التفت إلى المطلب الثاني والحال أنّ البحث في الملازمة متعلّق بالمطلب الأوّل.

وهناك ملازمة واضحة بين قبول ولاية الفقيه المطلقة ومشروعية إقامة الحدود، إلاّ إذا اُقيم دليل خاصّ على عدم المشروعية في زمان الغيبة، وفي هذه الصورة، في الوقت الذي ينبغي قبول الولاية المطلقة من حيث الفتوى، ينبغي العمل أيضا بالدليل الخاصّ على فرض قبوله، ولكن مع قطع النظر عن وجود الدليل الخاص، فلا ترديد في هذه الملازمة.

وينبغي الالتفات إلى هذه النقطة وهي: أنّ عمومية وإطلاق ولاية الفقيه يشمل تنفيذ الحدود أيضا بشكل قاطع، ومن هذا المنظار تكون المسألة أعلى وأهمّ من عنوان الملازمة.

وبعبارة اُخرى: يعدّ تنفيذ الحدود أحد مصاديق العنوان العام لولاية الفقيه المطلقة، وفي هذه الصورة يكون التعبير بالملازمة تعبيرا مسامحيا.

الآراء الموجودة في المسألة

في هذا البحث بنحو عامّ يوجد أربعة آراء:

أ) الجواز مطلقا.

ب) عدم الجواز مطلقا.

ج) التفصيل في موارد الجواز، وسيأتي توضيحه.

د) الترديد والتوقف في المسألة.

والقائلون بالجواز والتفصيل هم على خمسة أقوال:

القول الأوّل: جواز إقامة الفقيه الجامع للشرائط الحدود مطلقا، وعدم جواز إقامة الحدود لغير الفقيه إلاّ المولى بالنسبة لمملوكه.

يستفاد هذا القول من كلمات الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله) في المسالك[6]، والروضة البهية[7].

القول الثاني: جواز إقامة الفقيه الحدود مطلقا، وعدم الجواز لغير الفقيه وإن كان مالكا، يستفاد هذا الرأي من كلمات المقنعة[8]، والمراسم[9]، وكتاب الكافي لأبي الصلاح الحلبي[10]، والعلاّمة (قدس‏‌‌سره) في المختلف[11].

القول الثالث: جواز إقامة الحدود للموالي فقط، وعدم الجواز لغيرهم مطلقا[12].

القول الرابع: هو نفس القول الثالث مع إضافة جواز إقامة الحدود للآباء والأزواج[13].

القول الخامس: جواز إقامة الحدود للفقيه والآباء والأزواج والموالي، وعدم الجواز لغيرهم[14].

ولدراسة هذه الأقوال بصورة أفضل يلزم التأمّل في بعض عبارات الفقهاء، فننقل في البداية العبارات الصريحة في جواز تنفيذ الحدود في زمان الغيبة، ثمّ نتناول بالتحليل عبارات الشيخ الطوسي، ابن إدريس والمحقّق الحلّي رحمهم‏الله.

دراسة عبارات الفقهاء في مسألة جواز تنفيذ الحدود في زمان الغيبة

بعض أهمّ الآراء المطروحة في هذا المضمار هي:

1 . الشيخ المفيد (قدس‏‌‌سره):

فأمّا إقامة الحدود: فهو إلى سلطان الإسلام والمنصوب من قبل اللّه‏ تعالى، وهم أئمّة الهدى من آل محمّد(عليهم‏‌‌السلام)، ومن نصبوه لذلك من الاُمراء والحكّام، وقد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان[15].

ويبدو أنّ الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) هو أوّل من صرّح بإمكان إقامة الفقهاء للحدود في زمان الغيبة.

2 . سلاّر (قدس‏‌‌سره): قال في كتاب المراسم:

فقد فوّضوا(عليهم‏‌‌السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدّوا واجبا... وقد روي أنّ للإنسان أن يقيم على ولده وعبده الحدود إذا كان فقيها ولم يخف من ذلك على نفسه، والأوّل أثبت[16].

ويستفاد من خلال التدقيق في كلمات سلاّر أنّ مراده هو أنّ القول الأوّل ـ يعني: جواز إقامة الحدود مطلقا ـ أثبت من حيث الأدلّة، وأنّ مستنده قويّ جدّا، ويرى القول الثاني ـ يعني: جواز إقامة الحدّ على الولد والعبد حتّى في زمان حضور الإمام(عليه‏‌‌السلام) ـ وإن كان مقتضى إطلاق الرواية غير أثبت، ودليله الاستناد إلى رواية لا يمكن الاعتماد عليها كثيرا. وسيأتي توضيح هذا القول بنحو أكثر تفصيلاً في كلمات بعض آخر من القدماء.

وبعد الشيخ المفيد يعدّ سلاّر(رحمه‏‌‌الله) الشخصية الثانية التي أفتى بمشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة.

3 . أبو الصلاح الحلبي (قدس‏‌‌سره): قال في الكافي:

تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)المختصّة بهم دون من عداهم ممّن لم يؤهلوه لذلك، فإن تعذّر تنفيذها بهم(عليهم‏‌‌السلام) وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم تولّي ذلك، ولا التحاكم إليه، ولا التوصّل بحكمه إلى الحقّ، ولا تقليده الحكم مع الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب في الحكم من شيعته... فمتى تكاملت هذه الشروط فقد أذن له في تقلّد الحكم وإن كان مقلّده ظالما متغلّبا، وعليه متى عرّض لذلك أن يتولاّه، لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، تعيّن فرضها بالتعريض للولاية عليه[17].

وبناءً على هذا الكلام فمن كانت له شرائط النيابة عن الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)يعدّ مأذونا من قبل الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) في تقلّد الحكم وتنفيذه وإقامته.

وينبغي الالتفات إلى أنّه في هذا الكلام عُبّر عن إقامة الأحكام بـ «التنفيذ».

كما أنّه يستفاد من مجموع كلماته أنّه يرى أنّ الولاية في القضاء والتنفيذ هما من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4. ابن زهرة (قدس‏‌‌سره): قد بيّن في البداية شرائط القاضي ثمّ أورد في النهاية:

ويجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير ذلك[18].

واشترط في متولّي القضاء عدّة شروط، هي:

1. أن يكون عالما بالحقّ في الحكم؛

2. عادلاً؛

3. كامل العقل؛

4. حسن الرأي؛

5. ذا حلم وورع؛

6. قوّة على القيام بما فوّض إليه.

ويمكن استفادة تنفيذ الحدود من الشرط السادس.

5. ابن سعيد (قدس‏‌‌سره): يقول ابن سعيد في الجامع للشرائع:

ويتولّي الحدود إمام الأصل، أو خليفته، أو من يأذنان له فيه[19].

ويستفاد من مجموع هذه العبارات بوضوح أنّ تنفيذ الحدود جائز ومشروع في زمان الغيبة.

6. الشيخ الطوسي (قدس‏‌‌سره): قال الشيخ الطوسي في النهاية:

أمّا إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها، إلاّ لسلطان الزمان المنصوب من قبل اللّه‏ تعالى أو من نصبه الإمام لإقامتها، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال، وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمّة الحقّ وتغلّب الظالمين أن يقيم الإنسان الحدّ على ولده وأهله ومماليكه، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين وأمن بوائقهم، فمتى لم يأمن ذلك لم يجز له التعرّض لذلك على حال.

ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال، ويعتقد أنّه إنّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك، مالم يتعدّ الحقّ في ذلك، وما هو مشروع في شريعة الإسلام، فإن تعدّى فيما جعل إليه الحقّ في ذلك، لم يجز له القيام به، ولا لأحد معونته على ذلك، اللهمّ إلاّ أن يخاف في ذلك على نفسه، فإنّه يجوز له حينئذ أن يفعل ذلك في حال التقيّة ما لم يبلغ قتل النفوس، فأمّا قتل النفوس فلا يجوز فيه التقيّة على حال.

وأمّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز ذلك أيضا إلاّ لمن أذن له السلطان الحقّ في ذلك، وقد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكّنون فيه من تولّيه بنفوسهم، فمن تمكّن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك، وله بذلك الأجر والثواب[20].

ويمكن تلخيص كلام المرحوم الشيخ بالشكل التالي:

1. إقامة الحدود الشرعية في زمان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام) تجوز فقط للإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) أو من نصبه الإمام نصبا خاصّا، ولا يجوز لسواهما إقامتها.

2. الترخيص في حال قصور أيدي أئمّة الحقّ المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) وتغلّب الظالمين، أن يقيم الإنسان الحدّ على ولده وأهله ومماليكه، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين وأمن بوائقهم.

3. من استخلفه سلطان ظالم على قوم، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال، ويعتقد أنّه إنّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك، مالم يتعدّ الحقّ في ذلك، وما هو مشروع في شريعة الإسلام، فإن تعدّى فيما جعل إليه الحقّ في ذلك، لم يجز له القيام به، ولا لأحد معونته على ذلك، اللهمّ إلاّ أن يخاف في ذلك على نفسه، فإنّه يجوز له حينئذ أن يفعل ذلك في حال التقيّة.

4. الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين، لا يجوز إلاّ لسلطان الحقّ، وقد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم، فمن تمكّن من الفقهاء من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك، وله بذلك الأجر والثواب.

فتكون النتيجة هي:

أوّلاً: يستفاد من كلام الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في النهاية أنّه لا يمكن للفقيه إقامة الحدود إبتداء، ولا يحقّ له إقامتها.

ثانيا: من استخلفه سلطان ظالم على قوم، جاز له أن يقيمها وإن لم يكن فقيها، مالم يتعدّ الحقّ في ذلك.

ثالثا: هنالك فرق بين القضاء وإقامة الحدود.

رابعا: يعتقد الشيخ(رحمه‏‌‌الله) أنّه رخّص الشارع للإنسان إقامة الحدّ على ولده وأهله ومماليكه.

والأمر الذي نؤكّد عليه هو أنّ كثيرا من الفقهاء نسبوا القول بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة إلى الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله)، فقد نسب ابن فهد الحلّي(رحمه‏‌‌الله)في كتابه المهذّب البارع هذا القول إلى الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في النهاية، وجزم العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في التذكرة والمنتهى بذلك، فقال: «وجزم به الشيخان»، ونسب الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله)في المسالك هذا القول إلى الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) وجماعة.

ولكن المستفاد من عبارة الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في النهاية أنّه لا يمكن نسبة القول بالجواز إلى الشيخ (قدس‏‌‌سره).

نعم، لو كانت كلمة «إنفاذ الحكم» بمعنى إجراء الحكم، فيمكن في هذه الحالة نسبة هذا القول إلى الشيخ(رحمه‏‌‌الله).

قال السيّد محمّد باقر الشفتي(رحمه‏‌‌الله) في رسالته:

إنّ المخالف بل المتوقّف في المسألة غير ظاهر، عدا ما يظهر من العبارة السالفة من شيخ الطائفة في النهاية...[21].

استفاد ابتداء من عبارة الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في النهاية المخالفة لجواز إقامة الحدود، ولكن بعد ذلك يكتب أنّه يستفاد من عبارة: «وقد فوّضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم» أنّ التنفيذ وكذا الحكم فوّض لفقهاء الشيعة.

و إنّما يصحّ هذا الكلام فيما لو أرجعنا المشار إليه «ذلك» إلى التنفيذ والحكم معا، والحال أنّ ظهوره الأوّلي هو الحكم والقضاء فقط ولا يشمل التنفيذ.

نعم، يمكن استفادة هذا القول بوضوح من عبارة الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في المبسوط، قال:

للسيّد أن يقيم الحدّ على ما ملكت يمينه بغير إذن الإمام(عليه‏‌‌السلام)... عندنا وعند جماعة... وأمّا الحدّ لشرب الخمر فله أيضا إقامته عليهم عندنا؛ لما رواه علي(عليه‏‌‌السلام) أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»، وهذا عامّ، وأمّا القطع بالسرقة فالأولى أن نقول: له ذلك، لعموم الأخبار... أمّا القتل بالردّة فله أيضا ذلك لما قدّمناه... ومن قال للسيّد إقامة الحدّ عليهم أجراه مجرى الحاكم والإمام وكلّ شيء للإمام أو الحاكم إقامة الحدّ به من إقرار وبيّنة وعلم فللسيّد مثله[22].

لقد صرّح الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في هذه العبارة أنّ كلّ شيء للحاكم الشرعي بالنسبة لإقامة الحدود فللسيّد مثله، وبعبارة اُخرى: جواز إقامة الحدود للمولى ليس استثناء، بل عدّ المولى بمنزلة الحاكم، وفي النتيجة، ينبغي أن يعتبر الشيخ(رحمه‏‌‌الله)هذه النسبة إلى نفس الحاكم من المسلّمات.

وكذلك عبارة الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في الخلاف حيث صرّح بجواز حكم الحاكم في كافّة الموارد بعلمه، في الأموال والحدود والقصاص، ثمّ كتب:

من فعل ما يجب به الحدّ في أرض العدوّ من المسلمين، وجب عليه الحدّ إلاّ أنّه لا يقام عليه الحدّ في أرض العدوّ، بل يؤخّر إلى أن يرجع إلى دار الإسلام[23].

يستفاد من هذه العبارة بوضوح جواز إقامة الحاكم للحدود.

والنتيجة: أنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في المبسوط والخلاف يعتقد بشكل واضح بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، وأمّا في كتاب النهاية فإنّه يمكن عدّه ـ بعد التوجيه ـ من مؤيدي هذه النظرية.

7. ابن إدريس (قدس‏‌‌سره): كتب ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله):

الأقوى عندي أنّه لا يجوز له أن يقيم الحدود إلاّ على عبده فحسب، دون ما عداه من الأهل والقرابات؛ لما قد ورد في العبد من الأخبار، واستفاض به النقل بين الخاصّ والعامّ[24].

هذا الكلام هو أوّل خلاف بين ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله)، وبين الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في هذا البحث، فإنّه يرى جواز إقامة الحدّ للمولى على العبيد فقط، وأمّا بالنسبة لبقيّة الموارد كالأهل والأقارب فلا يجوّز إقامة الحدود، على خلاف الشيخ(رحمه‏‌‌الله) الذي يرى جواز إقامة الحدود في الموارد الثلاثة.

ثمّ تابع ابن إدريس كلامه فقال:

وقد روي أنّ من استخلفه سلطان ظالم على قوم، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال. ويعتقد أنّه إنّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحقّ لا بإذن سلطان الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك، وما هو مشروع في شريعة الإسلام... قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب: والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته، وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب ـ أعني النهاية ـ في عدّة مواضع، وقلنا: إنّه يورده إيرادا من طريق الخبر، لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر[25].

يعتقد ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) أنّ الشيخ(رحمه‏‌‌الله) أورد هذا المطلب ـ أنّ من استخلفه سلطان ظالم على قوم، وجعل إليه إقامة الحدود، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال ـ من طريق الخبر لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر؛ لأنّ إجماع الأصحاب والمسلمين قائم على أنّه:

أوّلاً: لا يجوز إقامة الحدود.

ثانيا: المخاطب في آيات وأدلّة الحدود، هم الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) والحكّام الذين يعملون بإذنهم، ولا صلاحية لغيرهم للتعرّض لهذه الاُمور، ولا يرفع اليد عن الإجماع بالخبر الواحد.

ثمّ قَبِل ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في نهاية العبارة نظرية الشيخ(رحمه‏‌‌الله) بالنسبة للحكم والقضاء بين الناس.

وطبقا لكلام ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) فإنّ الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) لا يوافق على إقامة الحدود حتّى في مورد استخلاف السلطان الظالم لشخص، وابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) موافق للشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) إلاّ في إقامة الحدود على الأهل والقرابات.

واستنتج جماعة من الفقهاء من كلمات ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) أنّه لا يوافق على إقامة الحدود في زمان الغيبة، قَبِل هذا المطلب الصيمري(رحمه‏‌‌الله) في غاية المرام[26] وابن فهد(رحمه‏‌‌الله)في المهذّب البارع[27] والفاضل المقداد(رحمه‏‌‌الله) في التنقيح[28].

وأمّا السيّد محمّد باقر الشفتي فقد رفض في رسالته هذه النتيجة معتقدا بأنّ ما فهمه هؤلاء الفقهاء يطابق بعض عباراته، ولكن لو لاحظنا عباراته الاُخرى فسنصل إلى نتيجة اُخرى هي: أنّه من الموافقين لإقامة الحدود في زمان الغيبة، وحتّى أنّه يؤكّد ويصرّ على هذه النظرية أيضا.

وقد عقد ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في آخر السرائر فصلاً تحت عنوان «تنفيذ الأحكام»، وقال السيّد الشفتي: أنّه يستفاد من عبارة آخر السرائر وعبارة اُخرى له بوضوح أنّ ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) لا يخالف الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في مسألة جواز إجراء الأحكام، وأنّ نسبة المخالفة معه غير مطابقة للصواب والصحّة، وقال السيّد الشفتي:

وأنت إذا تأمّلت في العبارات المذكورة تعلم أنّ ما عزوه إلى ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) من منعه إقامة الحدود من الفقهاء في هذه الأزمنة غير مقرون بالصحّة، وأنّ الداعي لتلك النسبة الجمود ببعض كلماته من دون تأمّل في السابق عليه واللاحق به[29].

ثمّ نسب مطلبا أهمّ لابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) وقال:

بل الذي يظهر من مجموع كلماته التي أوردناها في المقام وغيرها أنّ إصراره في الجواز فوق كلام المجوّزين[30].

وأورد ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في آخر السرائر:

صحّة التنفيذ تفتقر إلى معرفة من يصحّ حكمه ويمضي تنفيذه، فإذا ثبت ذلك، فتنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام)، المختصّة بهم... فمتى تكاملت هذه الشروط (شروط النيابة عن الإمام) فقد أذن له في تقلّد الحكم، وإن كان مقلّده ظالما متغلّبا.      وعليه متى عرض لذلك أن يتولاّه لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، تعيّن غرضهما بالتعريض للولاية عليه... والتمكّن من أنفسهم لحدّ أو تأديب تعيّن عليهم، ولا يحلّ لهم الرغبة عنه[31].

وفي هذه العبارة عدّة شواهد واضحة على مدّعى السيّد الشفتي(رحمه‏‌‌الله):

1. تصريح ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في صدر العبارة أنّه إذا تعذّر تنفيذ الحكم من جانب المعصوم(عليه‏‌‌السلام) يجب الرجوع إلى شخص له شروط النيابة عن الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) ـ وهو العلم بالحقّ في الحكم الذي يرجع إليه ـ ومأذون في الحكم والتنفيذ.

2. أورد في ذيل العبارة: أنّ من استخلفه سلطان ظالم في الحكم والتنفيذ فهو في الحقيقة نائب عن وليّ الأمر(عليه‏‌‌السلام)، وهو قد أذن له «لثبوت الإذن منه ومن آبائه(عليهم‏‌‌السلام) لمن كان بصفته في ذلك»، بل يستفاد من عبارة: «ولا يحلّ له القعود عنه» أنّه لا يقول بالجواز فحسب، بل يعتقد بالوجوب أيضا.

3. جاء في ذيل العبارة أيضا:

فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر(عليهم‏‌‌السلام)، وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم وحمل حقوق الأموال إليه، والتمكّن من أنفسهم لحدّ أو تأديب[32].

في هذه العبارة: أوّلاً: بيان لصلاحية من له شروط النيابة للحكم والتنفيذ.

وثانيا: المؤمنون مأمورون بالرجوع إليه في المسائل والخصومات، فإذا رأى لزوم حدّ فعليهم أن يهيّئوا نفوسهم لهذا الحدّ أو التأديب.

وأوضح من هذه العبارة ما أورده في آخر كتاب السرائر في مقام الاستدلال على أنّ الحاكم يمكن أن يعتمد على علمه في كافّة الأشياء والاُمور، فقال:

فأمّا ما يوجب الحدود، فالصحيح من أقوال طائفتنا وذوي التحصيل من فقهاء عصابتنا أنّهم لا يفرّقون بين الحدود وغيرها من الأحكام الشرعيّات، في أنّ للحاكم النائب من قبل الإمام أن يحكم فيها بعلمه، كما أنّ للإمام ذلك، مثل ما سلف في الأحكام التي هي غير الحدود؛ لأنّ جميع ما دلّ هناك هو الدليل هاهنا، والمفرّق بين الأمرين مخالف مناقض في الأدلّة[33].

وكتب أنّه ذهب بعض أصحابنا إلى التفصيل بين الإمام وغير الإمام؛ لأنّ الإمام معصوم من الخطأ، وغيره ليس بمعصوم، وإقامة الحدود ليست واجبة على غير الإمام، بل هي من فروض الإمام المعصوم.

وقال ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في ردّ هذه الجماعة:

فأمّا قوله: إقامة الحدود ليست من فروضه، فعين الخطأ المحض عند جميع الأمّة؛ لأنّ الحكّام جميعهم هم المعنيّون بقوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا»[34]، وله: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ»[35].[36]

وعلى ضوء هذه العبارة، ترى أنّ المخاطب في هذه الآيات الشريفة هم جميع الحكّام، المعصوم منهم وغير المعصوم، والنتيجة: يكون تنفيذ الحدود فريضة لجميع الحكّام.

8. العلاّمة الحلّي (قدس‏‌‌سره): وقال العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في التذكرة:

وهل يجوز للفقهاء إقامة الحدود في حال الغيبة؟ جزم به الشيخان؛ عملاً بهذه الرواية (إقامة الحدود إلى من بيده الحكم) ، كما يأتي أنّ للفقهاء الحكم بين الناس، فكان إليهم إقامة الحدود، ولما في تعطيل الحدود من الفساد[37].

ويستفاد من هذه العبارة أنّ العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) يقبل الرأي المنسوب إلى الشيخ(رحمه‏‌‌الله). وفي منتهى المطلب أيضا أورد ما ذكره في التذكرة، فهو ابتداء توقّف بالنسبة لفتوى الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) والشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله)، ثمّ قال بعد ذلك مباشرة: «وهو قويّ عندي»[38].

وذكر في التحرير نظير ما ذكره في المنتهي، فقال: «وهو قويّ عندي»[39].

وأورد في القواعد أيضا:

أمّا إقامة الحدود، فإنّها للإمام خاصّة أو من يأذن له، ولفقهاء الشيعة في حال الغيبة ذلك[40].

وجاء في إرشاد الأذهان:

وللفقيه الجامع لشرائط الإفتاء إقامتها، والحكم بين الناس[41].

وقال في تبصرة المتعلمين:

وللفقهاء إقامتها حال الغيبة مع الأمن، ويجب على الناس مساعدتهم[42].

في هذه العبارة مضافا إلى ماذكره أنّ الفقهاء لهم الولاية في إقامة الحدود طرح مسألة لزوم مساعدة الناس.

وقال في مختلف الشيعة:

والأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء... والعجب أنّ ابن إدريس ادّعى الإجماع في ذلك مع مخالفة مثل الشيخ(رحمه‏‌‌الله) وغيره من علمائنا[43].

9. الشهيد الأوّل (قدس‏‌‌سره): وقال الشهيد الأوّل(رحمه‏‌‌الله) في كتاب الدروس في بحث الأمر بالمعروف:

والحدود والتعزيرات إلى الإمام ونائبه ولو عموما، فيجوز في حال الغيبة للفقيه ـ الموصوف بما يأتي في القضاء ـ إقامتها مع المكنة، ويجب على العامّة تقويته[44].

فهو في هذه العبارة ـ كما أنّه يرى أنّ إقامة الحدود هي من اختيارات الفقيه في زمان الغيبة ـ يرى مسألة لزوم التقوية على عموم الناس أيضا.

10. المحقّق الثاني (قدس‏‌‌سره): قال المحقّق الثاني(رحمه‏‌‌الله) في حاشية الشرائع:

القول بالجواز ـ مع التمكّن من إقامتها على الوجه المعتبر والأمن من الضرر له ولغيره من المؤمنين ومن ثوران الفتنة ـ لا يخلو من قوّة[45].

11. الشهيد الثاني (قدس‏‌‌سره) : وقال الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله) في المسالك بعد قول صاحب الشرائع(رحمه‏‌‌الله) :

وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام»، يقول: «هذا القول مذهب الشيخين وجماعة من الأصحاب، وبه رواية عن الصادق(عليه‏‌‌السلام)في طريقها ضعف، ولكن رواية عمر بن حنظلة مؤيّدة لذلك، فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كلّية، ولطف في ترك المحارم، وحسم لانتشار المفاسد. وهو قويّ[46].

12. الفاضل المقداد (قدس‏‌‌سره): بعد أن نقل الفاضل المقداد(رحمه‏‌‌الله) عبارة النافع في التنقيح الرائع، وذكر أنّ القائل بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة هما الشيخان، قال:

واختار العلاّمة قول الشيخين محتجّا:

1) إنّ تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم، وانتشار المفاسد، وذلك مطلوب الترك في نظر الشارع.
2) ما رواه عمر بن حنظلة عن الصادق(عليه‏‌‌السلام) في حديث طويل يقول فيه: «ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا».
ثمّ قال: «وهذا يؤيده العمومات والنظر، أمّا العمومات فقوله(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): العلماء ورثة الأنبياء، ومعلوم أنّهم لم يرثوا من المال شيئا، فيكون وراثتهم العلم أو الحكم. والأوّل تعريف المعرّف فيكون المراد هو الثاني، وهو المطلوب.
وقوله(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل، ومعلوم أنّ أنبياء بني إسرائيل لهم إقامة الحدود.
وأمّا النظر فهو أنّ المقتضي لإقامة الحدّ قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعا، فتكون عائدة إلى مستحقّه أو إلى نوع المكلّفين، وعلى التقديرين لابدّ من إقامتها مطلقا[47].

و نقل الصيمري(رحمه‏‌‌الله) في غاية المرام وابن فهد (قدس‏‌‌سره) في المهذّب البارع القولين دون ترجيح لأحدهما.

وفي غاية المرام في ذيل عبارة الشرائع: «وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام»، وقال: «هذا قول الشيخ وابن الجنيد وسلاّر»[48].

وجاء في المهذّب البارع أيضا:

للفقهاء إقامة الحدود على العموم، وهو مذهب الشيخ وأبي يعلى[49].

وقال المحقّق(رحمه‏‌‌الله) في شرائع الإسلام في مورد النهي عن المنكر:

ولو افتقر إلى الجراح أو القتل، هل يجب؟ قيل: نعم، وقيل: لا، إلاّ بإذن الإمام، وهو الأظهر.           ولا يجوز لأحد إقامة الحدود إلاّ للإمام مع وجوده أو من نصبه لإقامتها، ومع عدمه، يجوز للمولى إقامة الحدّ على مملوكه.
وهل يقيم الرجل على ولده وزوجته؟ فيه تردّد...
وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام، كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك.
ولا يجوز أن يتعرّض لإقامة الحدود، ولا للحكم بين الناس إلاّ عارف بالأحكام، مطّلع على مآخذها، عارف بكيفيّة إيقاعها على الوجوه الشرعية[50].

وفي كتاب المختصر النافع يوجد نظير هذا المطلب أيضا، جاء فيه:

وكذا قيل: يقيم الفقهاء الحدود في زمان الغيبة إذا أمنوا، ويجب على الناس مساعدتهم[51].

وإن كان يستفاد من عبارة المحقّق(رحمه‏‌‌الله) في كتابيه المخالفة، ولكن لا يبعد أن نقول: بما أنّه ذكر قولهم بعنوان «قيل»، ولم يذكر ردّا، لذا من حيث المجموع نستفيد التوقّف من كلامه، وآية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري في جامع المدارك[52]، وآية اللّه‏ السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج[53] اعتبرا المحقّق؛ من المتوقّفين في هذه المسألة.

نعم، وإن كان قد تردّد وتوقّف في مباحث الأمر بالمعروف، إلاّ أنّه قال بالجواز في مباحث الحدود من الشرائع، فقال: «يجب على الحاكم إقامة حدود اللّه‏ تعالى بعلمه كحدّ الزنا»[54].

وقال في بحث حدّ اللواط: «ويحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصح»[55].

وهذه العبارة صريحة في أنّ غير الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) أيضا عليه أن يعمل بعلمه في القضاء.

ومن الفقهاء الذين توقّفوا في هذه المسألة صاحب كشف الرموز، فهو يقول:

أمّا الفقهاء فقد جزم الشيخان بأنّ في حال الغيبة ذلك مفوّض إليهم إذا كانوا متمكّنين، ولنا فيه نظر[56].

خلاصة ونتيجة الأقوال:

1. القائلين بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة هم: الشيخ المفيد، سلاّر، أبو الصلاح الحلبي، ابن زهرة، ابن سعيد، الشيخ الطوسي، فقد صرّح بذلك في كتاب المبسوط والخلاف وفي كتاب النهاية بتوجيه العبارة، وكذلك ابن إدريس بالنظر إلى مجموع كلماته، وخاصّة عباراته في آخر السرائر، وهو ظاهر عبارات العلاّمة في التذكرة، وصريحه في التحرير والقواعد والإرشاد والتبصرة والمختلف، والشهيد الأوّل في الدروس، والمحقّق الثاني في الحاشية على الشرائع، والشهيد الثاني في المسالك، والفاضل المقداد في التنقيح.

2. القائل بعدم الجواز هو آية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري.

3. المتوقّفون هم: الصيمري في غاية المرام، ابن فهد في المهذّب البارع، المحقّق في الشرائع، والمختصر النافع.

بعد وضوح الأقوال في هذه المسألة، من اللازم الالتفات إلى هذا المطلب في البداية وهو: هل أنّ إقامة الحدود في زمان الغيبة بحاجة إلى دليل؟ أم تخصيصه بحضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام) بحاجة إلى دليل؟

الظاهر بعد وجود الإطلاقات والعمومات الواردة في الحدود، وبعد قبول أصل نيابة الفقهاء عن الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، فإنّ ما هو بحاجة إلى دليل هو اختصاص هذا الأمر بالمعصوم(عليه‏‌‌السلام)، وإذا لم نعثر على دليل يدلّ على الاختصاص، فإنّ هذا المقدار ـ يعني: عدم الدليل على اختصاص إقامة الحدود بالإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) ـ كاف في مشروعية هذا الأمر في زمان الغيبة.

تحليل أدلّة القائلين بعدم الجواز

بعد ذكر الأقوال من اللازم تحليل أهمّ الأدلّة، ومن هنا في البداية نبحث عن أدلّة المانعين من إقامة الحدود في زمان الغيبة، وهي:

الدليل الأوّل: ادّعاء البعض الإجماع في هذه المسألة.

قال آية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) في جامع المدارك:

وأمّا إقامة الحدود في غير زمان الحضور وزمان الغيبة فالمعروف عدم جوازها، وادّعي الإجماع في كلام جماعة على عدم الجواز، إلاّ للإمام أو المنصوب من قبله[57].

الجواب: عدم صحّة هذا الدليل؛ لأنّه وكما ذكرنا عبارات القدماء في المباحث السابقة، فإنّ المستفاد بوضوح من كثير من العبارات، جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، وحتّى لو لم نستفد الجواز من عبارة الشيخ(رحمه‏‌‌الله) في النهاية، ولم يُقبل التوجيه الذي ذكرناه سابقا، ولكنّه صرّح في كتاب المبسوط والخلاف بالجواز.

نعم، يستفاد من كلمات ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) أيضا إجماع الأصحاب والمسلمين على عدم جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة.

ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) وإن اعتقد في بعض العبارات بعدم الجواز، ولكنّه أفتى بالجواز في عبارات أخرى من كتاب السرائر، وأصرّ على ذلك أيضا.

وقد أوضحنا هذا البحث جيّدا في تحليل كلمات ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله).

وبناء على هذا، يمكن أن يُستنتج أنّ الإجماع في الطرف الآخر من المسألة، يعني: إجماع الفقهاء على جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة.

الدليل الثاني: إذا كان إقامة الحدود من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الممكن قبول جوازه في زمان الغيبة، ولكنّه لا يعدّ من مصاديق هذا العنوان، بل هو عنوان مستقل كما أنّ عنوان إقامة صلاة الجمعة وعنوان القضاء والحكم بين الناس عنوان مستقل، ولا علاقة له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبعبارة اُخرى: إذا كان إقامة الحدود من مصاديق هذا العنوان، فإنّ إطلاقات أدلّة لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشمله أيضا في جميع الأزمنة، وأمّا إذا لم يكن من مصاديق هذا العنوان، فلا دليل عندنا على مشروعيته.

ومن الواضح احتياج هذا العمل إلى دليل شرعي، ولا يمكن لأحد أن يحتمل عدم احتياجه إلى دليل شرعي.

الجواب: هذا الدليل مخدوش أيضا؛ لأنّه:

أوّلاً: إنّنا سنوضّح عند ذكر أدلّة جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، أنّ لهذا الأمر أدلّة واضحة وعديدة، ويمكننا استفادة الجواز من تلك الأدلّة جيّدا، سواء كان هذا العمل من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو لا.

ثانيا: إذا صرفنا النظر عن هذه الأدلّة، واعتقدنا أنّها من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ مجرّد هذا الأمر لا يكفي في الجواز، ولربّما تقيّد إطلاقات أدلّة الأمر بالمعروف بأدلّة من قبيل الإجماع وغيره.

وبعبارة اُخرى: من الممكن أن يعدّ هذا العمل من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنّه في نفس الوقت لايعتقد بالجواز، ولا يرى هذا المصداق جائزا.

ثالثا: هناك فروق عديدة بين عنوان النهي عن المنكر وعنوان إقامة الحدود، وبعضها كالتالي:

1. يلزم في إقامة الحدود إحراز استحقاق الحدّ الشرعي عند القاضي الجامع للشرائط (يعني: المجتهد العادل)، وهذا الأمر مشكل ودقيق جدّا، بخلاف النهي عن المنكر فإنّه في تشخيص المنكر يكفي علم الناهي بأنّ هذا العمل حرام في الشريعة.

2. يمكن في النهي عن المنكر أن تكون مسألة احتمال التأثير في فاعل المنكر شرطا، أمّا في بعض الحدود، فإنّ تنفيذها يستلزم القضاء على من يجري عليه الحدّ، وحينئذ لا يبقى موضوع لاحتمال التأثير.

3. هناك تفاوت بين الآثار التي ذكرت في الروايات لإقامة الحدود، والآثار المذكورة للنهي عن المنكر، واختلاف الآثار كاشف عن اختلاف هذين الموضوعين.

الدليل الثالث: ورد في بعض كلمات الفقهاء أنّ الحدود ترافق الإيذاء والإيلام والقتل، وهذه الاُمور لا تجوز لغير النبيّ والإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، أو المنصوب بالنصب الخاصّ، ذكر هذا المطلب في كلمات آية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري(رحمه‏‌‌الله).

الجواب: أوّلاً: هذا الكلام أوّل النزاع والاختلاف، ونقول: لماذا هذه الاُمور غير جائزة لغير النبيّ والمعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟

ثانيا: لو سلّمنا أنّ هذه الاُمور وبشكل عامّ إقامة الحدود ممكن بالنصب الخاصّ، فعلينا أن نقبل أنّها ممكنة بالنصب العامّ أيضا.

وبعبارة اُخرى: إذا اعتقدنا بأنّ أصل مشروعية إقامة الحدود بحاجة إلى حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، وأثبتنا هذا الأمر بالدليل، فليس في هذه الصورة بحث أصلاً، أمّا إذا اعتقدنا كون مجرّد الإيذاء والإيلام مانعا من جواز إقامة الحدود، فنقول في الجواب: إذا اعتقدنا بإمكان النصب الخاصّ في هذا المورد في زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، فلازمه جواز وإمكان أصل مشروعيته في زمان الغيبة أيضا، وهذه العناوين لا يمكن أن تكون مانعة عن ذلك.

الدليل الرابع: المراد من الخطاب في آيات الحدود، هو النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

وقال القطب الراوندي(رحمه‏‌‌الله) في فقه القرآن في ذيل الآية: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ»[58]:

والخطاب بهذه الآية وإن كان متوجّها إلى الجماعة، فالمراد به الأئمّة بلا خلاف؛ لأنّ إقامة الحدود ليس لأحد إلاّ الإمام أو من نصبه الإمام(عليه‏‌‌السلام)[59].

وقال الطبرسي(رحمه‏‌‌الله) أيضا:

هذا خطاب للأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) ومن يكون منصوبا للأمر من جهتهم؛ لأنّه ليس لأحد أن يقيم الحدود إلاّ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) وولاتهم بلا خلاف[60].

وكتب الفاضل المقداد(رحمه‏‌‌الله) أيضا في كنز العرفان:

والخطاب هنا وفي قوله: «فَاجْلِدُوا» للأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) والحكّام[61].

وقال الفاضل الأسترآبادي في آيات الأحكام:

والخطاب لحكّام الشرع من النبيّ والأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) وولاتهم، فيجب عليهم إقامة الحدود على كلّ امرأة زنت ورجل زنى[62].

والجواب: أوّلاً: ظاهر هذه الآيات الشريفة أنّها في مقام بيان أصل تنفيذ الحدود، وبيان مقدارها، وليست بصدد بيان المنفّذ لإقامة الحدود.

وثانيا: ظاهر الخطاب في الآية عامّ، ولا قرينة على أنّ المراد بذلك خصوص النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وأوصيائه(عليهم‏‌‌السلام).

قال ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في السرائر:

لأنّ الحكّام جميعهم هم المعنيّون بقوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...»[63].[64]

وكأنّ القطب الراوندي والطبرسي ومن خصّص هذا الخطاب بأشخاص محدّدين، قد سلّموا ابتداء بعدم جواز إقامة الحدود لغير هذه المجموعة، ثمّ فسّروا الخطاب بهذا التفسير، والحال أنّه في تفسير الآية الشريفة أو تحليل الخطاب لا يمكن العمل بهذا النحو، وعلى فرض أنّ هذا المطلب مسلّم، علينا أن نقيّد أو نخصّص إطلاق وعموم الخطاب.

ويستفاد من مجموع الأدلّة وقرينة مناسبة الحكم والموضوع أنّ الخطاب موجّه إلى من لهم صلاحية الحكم والقضاء، ومثل هذه المجموعة يمكنها إقامة الحدود أيضا.

وعلى هذا، فإنّ الآية مختصّة بمجموعة خاصّة، ولكن لا دليل عندنا على أنّ المجموعة المذكورة هي خصوص النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

ومن جهة اُخرى، لا يمكن القول بأنّ مخاطب الآية هم جميع الحكّام، ولو لم يكن لهم صلاحية الحكم، والنتيجة: لا يبدو ما اعتقده ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله)صحيحا.

ثالثا: يمكن أن يقال: إن كان مقصود اللّه‏ عزّ وجل حقيقة مجموعة خاصّة، فمن اللازم بيان ذلك، وعدم البيان وذكر الاختصاص بمجموعة وزمان خاصّ، هو بنفسه دليل واضح على لزوم إقامة الحدود في أوساط المسلمين في جميع الأزمنة إلى يوم القيامة.

ومن هذه الجهة، يمكن عدّ عموم الخطاب في هذه الآيات من أدلّة القائلين بجواز تنفيذ الحدود في زمان الغيبة، ويمكن استفادة لزوم معاضدة ومسايرة كافّة المسلمين في إقامة الحدود، وقد قلنا في المباحث المتقدّمة عند بيان الأقوال: إنّه كما يلزم هذا الأمر على المتصدّي لإقامة الحدود، يلزم على الناس أيضا مسايرته ومعاضدته في ذلك.

رابعا: على مبنى الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله) في مباحث الاُصول، علينا أن نفسّر هذه الخطابات على أنّها خطابات عامّة وقانونية، وفي النتيجة: لا يُنظر إلى مخاطب معيّن ومحدّد، ولا يكون الشارع المقدّس في مثل هذه الخطابات في مقام تقنين وتعيين الوظيفة لمخاطب أو لجماعة خاصّة[65].

والنتيجة: أنّ كافّة أدلّة المعتقدين بعدم الجواز مخدوشة.

وقد بيّنا في المباحث السابقة أنّه يكفي في جواز مشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة عدم العثور على دليل يدلّ على اختصاص الحكم بالمعصوم(عليه‏‌‌السلام)، لكن من جهة أنّه من المناسب أن يطمئنّ الفقيه أكثر، عليه أن يبحث ويدقّق في أدلّة القائلين بالجواز أيضا.

بيان أدلّة القائلين بالجواز

تمسّك القائلون بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة بأدلّة متعدّدة، مضافا إلى مؤيّدات ذكروها لمدّعاهم، فمن اللازم ذكرها وتحليلها جميعا.

قال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله):

فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك (أي: في جواز تنفيذ الحدود في زمان الغيبة) بل كأنّه ما ذاق من طعم الفقه شيئا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا... وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلّة[66].

ومع ذلك، استدلّ لهذه النظرية بعشرة أدلّة، سنتعرّض لها بالتحليل والدراسة.

الدليل الأوّل: الإجماع:

الشهرة بل إجماع الفقهاء على جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، وفي المطالب المتقدّمة بحثنا حول كلمات الفقهاء، وأوضحنا أنّ كثيرا منهم صرّحوا بالجواز، وإن كان يظهر من بعض عبارات الشيخ الطوسي وابن إدريس المخالفة، لكن يستفاد الجواز من البعض الآخر من كتب الشيخ(رحمه‏‌‌الله) وعبارات اُخرى لابن إدريس(رحمه‏‌‌الله). وعلى هذا، يمكن قبول إجماع القدماء على هذه النظرية.

وقال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله):

بل لا أجد فيه خلافا، إلاّ ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحقّقه، بل لعلّ المتحقّق خلافه، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما، الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكّام عنهم...كما أنّ ما في التنقيح من الحكاية عن سلاّر أنّه جوّز الإقامة مالم يكن قتلاً أو جرحا كذلك أيضا[67].

ويضاف إلى ذلك، أنّ كافة المعتقدين بجواز القضاء والحكم بين الناس في زمان الغيبة، عليهم أن يلتزموا بجواز إقامة الحدود، ونحن نعبّر عنه بالإجماع الضمني أو التقديري.

وبعبارة اُخرى: يوجد هكذا إجماع في الواقع وفي تقدير وفي ضمن الإجماع على جواز القضاء والحكم أيضا.

الدليل الثاني: مقبولة عمر بن حنظلة:

استدلّ صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) بهذا الدليل على جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، وعدّ إقامة الحدّ من مصاديق كلمة الحكم الموجود في هذه الرواية، وقال:

المراد من الحكم عليه، إنفاذ ما حكم به لا مجرّد الحكم من دون إنفاذ[68].

ذكر المشايخ الثلاثة (الكليني والصدوق والطوسي رحمهم‌‌‏الله) هذه الرواية في كتبهم.

فرواها الكليني(رحمه‏‌‌الله) في كتاب العقل والجهل في باب اختلاف الحديث[69]، وفي باب كراهيّة الارتفاع إلى قضاة الجور في كتاب القضاء في فروع الكافي[70]، ورواها الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) في باب الاتّفاق على العدلين في الحكومة في كتاب القضايا والأحكام في من لا يحضره الفقيه[71]، والشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في باب القضايا والأحكام[72].

وأمّا الحديث على ما رواه الكافي:

محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّا ثابتا؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر اللّه‏ أن يكفر به، قال اللّه‏ تعالى: «يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا»[73]، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حاكما، فإنّي قد جعلته عليكم حكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنّما استخف بحكم اللّه‏، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه‏، وهو على حدّ الشرك باللّه‏.

قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا في ما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضّل واحد منهما على الآخر، قال: فقال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

وأمّا سند الرواية فقد عدّ البعض هذه الرواية صحيحة، وآخرون موثّقة، وقسم آخر حسنة، وبعض حسنة كالموثوقة، وبعض آخر ضعيفة؛ لذا ينبغي تحليل سند هذه الرواية على نحو الإجمال.

«محمّد بن يحيى العطار ومحمّد بن الحسين» ثقتان، ولا بحث في وثاقتهما.

«صفوان بن يحيى» ثقة أيضا، وهو في الوثاقة والجلالة أهمّ من «صفوان بن مهران»؛ لكونه من أصحاب الإجماع.

وأمّا «محمّد بن عيسى» فإن كان المقصود «محمّد بن عيسى الأشعري»، فالذي يستفاد من عبارة النجاشي والعلاّمة أنّه ثقة، وقد صرّح كبار العلماء كالشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله) في المسالك بأنّه ثقة[74].

أمّا إذا كان المراد «محمّد بن عيسى بن عبيد بن يقطين»، فقد ضعّفه البعض كالشيخ الصدوق واُستاذه ابن الوليد والشيخ الطوسي والمحقّق الحلّي رحمهم‏الله. قال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في الفهرست: «محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ضعيف»[75].

وفي المقابل، وثّقه كبار علماء الرجال أيضا، كالكشّي(رحمه‏‌‌الله) في الرجال، والنجاشي(رحمه‏‌‌الله)، والعلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في الخلاصة وفي كتبه الفقهية أيضا، والميرداماد(رحمه‏‌‌الله) في الرواشح، والمجلسي(رحمه‏‌‌الله) في الوجيزة.

وأمّا منشأ تضعيف المضعّفين فهو ما جاء في كلام ابن الوليد، إلاّ أنّ هذا الكلام لا يدلّ على ضعفه[76]، بل يدلّ على أنّ ما ينقله محمّد بن عيسى بن عبيد من كتب يونس لا يمكن الاعتماد عليه؛ والسبب في ذلك هو: أنّ ابن الوليد يعتقد في إجازة الرواية أنّ على شيخ الإجازة أن يقرأ على تلميذه تمام الكتاب، ويفهمه التلميذ أيضا. وفي عصر يونس كان محمّد بن عيسى حديث السنّ؛ فلهذا لا اعتبار لإجازة يونس له.

وعلى كلّ حال، الموثِّقون هم أكثر وأعرف بالرجال، ولا اعتبار لكلام المضعّفين في قبالهم، سيّما مع التوضيح المتقدّم. وعليه فسواء كان «محمّد بن عيسى» هو الأشعري أو عبيد بن يقطين، فكلاهما ثقة.

وأمّا «داود بن الحصين»، فقد وثّقه النجاشي(رحمه‏‌‌الله)، وقال: «داود بن الحصين الأسدي، مولاهم، كوفي، ثقة»[77].

أمّا الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) فلم يمدحه ولم يقدحه في الرجال عند بيان أصحاب الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)، إلاّ أنّه صرّح عند ذكر أصحاب الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام) أنّه واقفي، فكتب: «داود بن الحصين واقفي»[78]، وكذلك توقّف العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) فيه في الخلاصة، فقال: «الأقوى عندي التوقّف في روايته»[79]. ومنشأ كلام العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) هو كلام الشيخ(رحمه‏‌‌الله)، وبما أنّه عند تقابل كلام الشيخ والنجاشي يقدّم كلام النجاشي، لذا ينبغي الأخذ بكلامه.

مضافا إلى أنّه لا منافاة بين الواقفية والوثاقة، فعلى هذا، الظاهر وثاقة «داود بن الحصين».

وأمّا «عمر بن حنظلة» فاعتبره الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في الرجال تارة من أصحاب الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام)، واُخرى من أصحاب الصادق(عليه‏‌‌السلام)، وأضاف إليه الواو عند ذكر اسمه، يعني: «عمرو»، ولم يذكر له مدحا أو ذمّا، ولم يذكر له النجاشي والعلاّمةاسما. والخلاصة: أنّه لم يذكر له توثيق في الاُصول الرجالية.

نعم، وثّقه الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله) في الرعاية، ويمكن استفادة توثيقه أيضا من بعض الروايات، منها:

1. في باب وقت صلاة الظهر والعصر في كتاب الكافي، روي عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)بالنسبة إلى عمر بن حنظلة: «إذن لا يكذب علينا»[80]. يدلّ هذا التعبير بوضوح على وثاقته. نعم، ورد في سند هذه الرواية «يزيد بن خليفة» وهو غير موثّق.

ونقل الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في كتاب منتقى الجمان عن والده:

و وجدت بخطّه(رحمه‏‌‌الله) في بعض مفردات فوائده ما صورته: عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح ولا تعديل، ولكن الأقوى عندي أنّه ثقة؛ لقول الصادق(عليه‏‌‌السلام)في حديث الوقت: إذن لا يكذب علينا. والحال أنّ الحديث الذي أشار إليه ضعيف الطريق، فتعلّقه به في هذا الحكم مع ما علم من انفراده به غريب[81].

نعم، لو اعتقدنا كفاية رواية صفوان ـ الذي هو من أصحاب الإجماع ـ عن يزيد بن خليفة في توثيقه، فبإمكاننا توثيقه أيضا.

2. وفي رواية اُخرى نقلت في التهذيب، أنّه(عليه‏‌‌السلام) قال له: «أنت رسولي إليهم»[82].

وتستفاد وثاقة عمر بن حنظلة من هذه الرواية بوضوح.

3. نقل الكليني(رحمه‏‌‌الله) في كتاب الكافي بسنده عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال لعمر بن حنظلة:

يا عمر، لا تحملوا على شيعتنا، وارفقوا بهم، فإنّ الناس لا يحتملون ما تحملون[83].

يستفاد من هذه الرواية المرتبة الاعتقادية لعمر بن حنظلة عند الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام).

مضافا إلى هذه الاُمور، فإنّ رواية الأجلاّء عنه، كزرارة وابن أبي عمير وأمثالهما، كافية في وثاقته.

قال الإمام الخميني (رضوان اللّه‏ عليه) في كتاب البيع:

مع أنّ الشواهد الكثيرة المذكورة في محلّها، لو لم تدلّ على وثاقته، فلا أقلّ من دلالتها على حسنه[84].

وعبّر صاحب مشارع الأحكام في تحقيق مسائل الحلال والحرام عن هذه الرواية بالحسنة أيضا.

والنتيجة: أنّ هذه الرواية معتبرة سندا، وهي تحمل عنوان الموثّقة أو الحسنة، وعبّر البعض عنها كصاحب الفوائد المدنية بالصحيحة[85].

وعلى كلّ حال، اعتبر الكثير من كبار العلماء هذه الرواية بأنّها مقبولة، كالشيخ الأنصاري والنائيني في المكاسب والبيع وفي منية الطالب، والمحقّق الإصفهاني(رحمه‏‌‌الله) في بحوث في الاُصول وحاشية المكاسب.

وقال المجلسي(رحمه‏‌‌الله) في روضة المتقين:

كما يفهم من مقبولة عمر بن حنظلة التي عليها مدار العلماء في الفتوى والحكم[86].

وقال المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) أيضا في مشارق الشموس:

ثمّ هذه الرواية معمول عليها بين الأصحاب عملاً ظاهرا، وقبول الخبر بين الأصحاب مع عدم الرادّ له يخرجه إلى كونه حجّة، فلا يعتدّ إذن بمخالف فيه[87].

وتمسّك الميرزا القمي(رحمه‏‌‌الله) في مسألة وجوب أخذ الجزية في زمان الغيبة بهذه المقبولة أيضا، وقال:

فهو أمّا الفقيه العادل النائب عنه بالأدلّة مثل مقبولة عمر بن حنظلة[88].

وبناءً على هذا، يمكن القول: إنّه عبّر الكثير من كبار العلماء عن هذه الرواية بالمقبولة.

نعم، تردّد المحقّق الخوئي (قدس‏‌‌سره) في بعض كتبه في كون الأصحاب تلقّوا هذه الرواية بالقبول.

ولكن كما ذكر، عمل المتقدّمون والمتأخّرون من فقهاء الإماميّة على طبق هذه الرواية، وحتّى في الكتاب المنسوب إلى الرضا(عليه‏‌‌السلام) المسمّى بفقه الرضا(عليه‏‌‌السلام) عبّر عن هذه الرواية بالمقبولة.

ومضافا إلى هذه الجهات، فإنّ مضمون الرواية يوجب الوثوق بالصدور.

بيان الاستدلال بالرواية:

استفاد البعض من هذا الحديث الشريف منصب ومشروعية القضاء في المرافعات والمنازعات وقبول شخص ليكون حَكما. وبعبارة اُخرى: استفاد مشروعية الحكم والقضاء عند المرافعة إلى الحاكم.

والمجموعة الثانية استفادت مشروعية القضاء والإفتاء بنحو عامّ، سواء كان هناك مرافعة أم لا.

والمجموعة الثالثة استفادت ـ مضافا إلى جعل منصب القضاء والإفتاء ـ من هذه الرواية جعل الولاية العامّة للفقهاء في زمان الغيبة.

ومن المجموعة الاُولى يمكن الإشارة إلى المحقّق الخوئي (قدس‏‌‌سره)، قال في المستند في شرح العروة الوثقى في كتاب الصوم:

وغير خفي أنّ المقبولة وإن كانت واضحة الدلالة على نصب القاضي ابتداء، ولزوم اتّباعه في قضائه، حيث إنّ قوله(عليه‏‌‌السلام): «فليرضوا به حكما» بعد قوله: «ينظران من كان منكم...» كالصريح في أنّهم ملزمون بالرضا به حكما، باعتبار أنّه(عليه‏‌‌السلام) قد جعله حاكما عليهم، بمقتضى قوله(عليه‏‌‌السلام): «فإنّي قد جعلته حاكما» الذي هو بمثابة التعليل للإلزام المذكور.
إلاّ أنّ النصب المزبور خاصّ بمورد التنازع والترافع المذكور في صدر الحديث، بلا فرق بين الهلال وغيره، كما لو استأجر دارا أو تمتّع بامرأة إلى شهر، فاختلفا في انقضاء الشهر برؤية الهلال وعدمه، فترافعا عند الحاكم وقضى بالهلال، فإنّ حكمه حينئذ نافذ بلا إشكال.
وأمّا نفوذ حكمه حتّى في غير مورد الترافع، كما لو شككنا أنّ هذه الليلة أوّل رمضان ليجب الصوم أو أوّل شوّال ليحرم من غير أيّ تنازع وتخاصم، فلا تدلّ المقبولة على نفوذ حكم الحاكم حينئذ إلاّ بعد ضمّ مقدّمة ثانية: وهي أنّ وظيفة القضاة لم تكن مقصورة على حسم المنازعات فحسب، بل كان المتعارف والمتداول لدى قضاة العامّة التدخّل في جميع الشؤون التي تبتلى بها العامّة، ومنها: التعرّض لأمر الهلال، حيث إنّهم كانوا يتدخّلون فيه بلا ريب، وكان الناس يعملون على طبق قضائهم في جميع البلدان الإسلامية. فإذا كان هذا من شؤون القضاء عند العامّة، وثبت أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) نصب شخصا قاضيا، فجميع تلك المناصب تثبت له بطبيعة الحال، فلهذا القاضي ما لقضاة العامّة، ومنه الحكم في الهلال، كما هو المتعارف في زماننا هذا تبعا للأزمنة السابقة، لما بين الأمرين من الملازمة الخارجية حسبما عرفت.  
ولكنّك خبير بأنّ هذه المقدّمة أيضا غير بيّنة ولا مبيّنة، لعدم كونها من الواضحات الوجدانيات، فإنّ مجرّد تصدّي قضاة العامّة لأمر الهلال خارجا لا يكشف عن كونه من وظائف القضاء في الشريعة المقدّسة، حتّى يدلّ نصب أحد قاضيا على كون حكمه في الهلال ماضيا بالدلالة الالتزامية، ولعلّهم ابتدعوا هذا المنصب لأنفسهم كسائر بدعهم، فلا يصحّ الاحتجاج بعملهم بوجه، بعد أن كانت الملازمة المزبورة خارجية محضة، ولم يثبت كونها شرعيّة.
وملخّص الكلام في المقام: أنّ إعطاء الإمام(عليه‏‌‌السلام) منصب القضاء للعلماء أو لغيرهم، لم يثبت بأيّ دليل لفظي معتبر ليتمسّك بإطلاقه[89].

واستمرّ في حديثه معتقدا أنّ القضاء واجب كفائي، ومن الاُمور التي يتوقّف عليها حفظ النظام، وجعل القدر المتيقّن من ذلك هو الفقيه والمجتهد.

الإشكال في هذه النظرية: إنّ المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله) وإن لم يستفد الولاية في القضاء بنحو مطلق، والولاية العامّة من مقبولة عمر بن حنظلة، ولكنّه قبل كلا العنوانين من جهة الاُمور الحسبية، وبقطع النظر عن هذا المطلب، فهذه النظرية قابلة للإشكال والمناقشة؛ لأنّه:

أوّلاً: من المسلّمات عند الفقهاء أنّ المورد لا يكون مخصّصا. وفي هذه الرواية، وإن كان مورد السؤال هو التنازع والمرافعة، ولكنّه في الجواب جعل منصب الحكم والقضاء بنحو عامّ، ولا يمكن أن يخصّص أو يقيّد مورد السؤال كلّية وعموم الجواب.

ثانيا: إنّ ما استنكره الإمام(عليه‏‌‌السلام) في جوابه بشدّة هو الحكم الصادر من قبل الطاغوت، فهو باطل ولا يجوز الأخذ به، بل يجب أخذ الحكم من أشخاص متّصفين بصفات مذكورة في الرواية، وفي هذا الأمر، ليس هناك أيّ خصوصية للتنازع والمرافعة.

ثالثا: يستفاد من جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) أنّ مورد السؤال من مصاديق لزوم الرجوع إلى من يعرف الحلال والحرام بنحو كامل، وله الفقاهة والاجتهاد، وفي الحقيقة ما ذكر في الرواية من صفات، هي كلّها من شرائط المجتهد والفقيه.

وقد استفاد الشهيد الأوّل(رحمه‏‌‌الله) من هذه الرواية في الذكرى[90] ثلاثة عشر شرطا، وهي:

1. الإيمان. التعبير بـ «من كان منكم» خطاب مرتبط بالشيعة الإمامية الإثنى عشرية، فلا يعمّ الزيدية أو الإسماعيلية وسائر الفرق أيضا، فهؤلاء لا يمكنهم أن يتصدّوا لمنصب القضاء.

2. العدالة.

3. العلم بالكتاب الإلهي، يعني: القرآن.

4. العلم بسنّة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، والأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام).

5. العلم بالإجماع.

6. العلم بالكلام.

7. العلم بالاُصول.

8. العلم باللغة، والنحو، والصرف، والمنطق.

9. العلم بالناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والظاهر والمؤوّل.

10. العلم بالجرح والتعديل، ويكفي في هذا الأمر شهادة الأوّلين والقدماء.

11. العلم بمقتضى اللفظ من حيث اللغة والعرف والشرع.

12. فهم المعنيّ، عند تجرّد اللفظ من القرينة، وعند اقتران اللفظ بالقرينة.

13. أن يكون حافظا، بمعنى: أنّ الحفظ أغلب عليه من النسيان.

هكذا شخص يمكن أن يكون مصدرا للقضاء والحكم، ولا خصوصية للمرافعة والتنازع.

رابعا: لا فرق في الاستخفاف بحكم اللّه‏ بين أن يكون هناك تنازع أو لا.

خامسا: يستفاد من هذا الحديث النهي عن الرجوع إلى حاكم طاغوت في جميع الأزمنة، كما يستفاد هذا المطلب من الآية الشريفة، فإذا حرم الرجوع إلى الطاغوت في جميع الأزمنة، لزم التفكير بالبديل المناسب الذي ليس فيه عنوان الطاغوت في جميع الأزمنة.

وعلى كلّ حال، لا شكّ أنّه يستفاد من التعابير الواردة في هذه الرواية، وكذا من مجموع الجواب عنوان العامّ، ولا خصوصيّة فيه للتنازع والمرافعة.

قال آية اللّه‏ الشيخ مرتضى الحائري(رحمه‏‌‌الله) في شرح العروة:

إنّ الإرجاع إلى العارفين بالأحكام وإن كان في مورد المخاصمة، إلاّ أنّ الظاهر أنّ المورد من باب الاحتياج إلى رأي العالم، وليس موجبا للاختصاص، وليس الحكم المفروض في هذه الروايات منحصرا بالاختلاف في الموضوعات، حتّى يقال بالاختصاص من تلك الجهة... إطلاق التعليل الوارد... مقتضاه جعل العارف بالأحكام قاضيا وحاكما مطلقا، من غير فرق بين صورة المخاصمة وغيرها[91].

فقد استفاد من هذه الرواية خلاف ما عليه المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله)، فالشخص العارف بالأحكام له عنوان القاضي والحاكم، ولا فرق بين التنازع والمرافعة إليه وغيره.

ومن المجموعة الثانية يمكن عدّ صاحب العناوين الفقهية، حيث قال:

وهذه الأخبار (مقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة) أيضا لا تقتضي الولاية إلاّ في الفتوى والقضاء، ولا تدلّ على كونه وليّا مطلقا له التصرّف كيف شاء. نعم، تدلاّن على اعتبار حكمهم وفتواهم كما استدلّ بهما الأصحاب، مع ما فيهما من البحث والإشكال[92].

فقد استفاد من رواية عمر بن حنظلة حجيّة الفتوى والقضاء فقط، سواء كانت مرافعة أو لا.

و ردّ كاشف الغطاء(رحمه‏‌‌الله) هذا المطلب، فقال:

لأنّ تسليم منصب القضاء والإفتاء ممّا يؤذن بتبعيّة المناصب بطريق أولى، وما ورد في نصب الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) بعض أصحابهم قيّما على أموال الأيتام دليل على جواز الولاية في غيرها؛ لأنّ وليّ المال يتولّى غيره... على أنّ مقبولة عمر عامّة للترافع وغيره؛ لقوله(عليه‏‌‌السلام): فاجعلوه حاكما[93].

فيعتقد كاشف الغطاء(رحمه‏‌‌الله) : أنّ الشارع المقدّس إذا جعل للفقيه منصب القضاء والإفتاء، فبطريق أولى يجب أن تكون له الولاية في الاُمور الاُخرى أيضا، يعني: بطريق أولى يجب أن يكون قادرا على التصرّف في الاُمور الاُخرى.

ويبدو أن لا أولويّة في ذلك، بل ينبغي النظر إلى أنّه هل التعليل والتعابير الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة، مضافا إلى جعل منصب القضاء يمكن استفادة الولاية العامّة والمطلقة للفقيه منها، بحيث يكون قادرا على التصرّف في جميع اُمور الناس أم لا؟

أشكل آية اللّه‏ الشيخ مرتضى الحائري(رحمه‏‌‌الله) في مباحث الخمس على استفادة الولاية المطلقة على جميع أمور المسلمين سواء القضائية وغيرها من رواية عمر بن حنظلة، وقال:

لا يستفاد قطعا من تلك الرواية الشريفة الولاية المطلقة لهم كولاية الناس على أموالهم وأنفسهم، فيكشف بتلك الولاية أنّ اللّه‏ تعالى والإمام راضيان بتصرّفاتهم على وفق ما يظنّون من المصلحة في الأموال كولاية الأب والجدّ على أموال الصغار، وهذا لأمرين:
أحدهما: قوله(عليه‏‌‌السلام): «فإذا حكم بحكمنا» فحرمة الردّ متوقّفة على أن يكون حكمه على طبق حكم الإمام(عليه‏‌‌السلام).
ثانيهما: إنّ موضوع جعل الحكومة هو معرفة حلالهم وحرامهم، لا عدالتهم وكفايتهم حتّى يصلح لجعل الحكومة[94].

فهو يعتقد أنّه لا تستفاد الولاية العامّة من هذه الرواية، وأقام قرينتين وشاهدين:

الاُولى: إنّ التعبير بـ«إذا حكم بحكمنا» قرينة على أنّه ليس له الولاية العامّة بأيّ صورة يريد أن يتصرّف بها، بل إذا حكم بحكمنا فردّه حرام. إذن، في الموارد التي لا يحكم بها طبقا لحكمنا، فردّه لا إشكال فيه.

الثانية: إنّ موضوع جعل الحكومة معرفة الحلال والحرام، ولا دور لعدالتهم وكفايتهم في هذا الأمر.

وينبغي أن يقال حول إشكال آية اللّه‏ الحائري (قدس‏‌‌سره) :

أوّلاً: كلامه هذا يخالف ما أورده في شرح العروة، والمطلب الصحيح هو ما ذكره في شرح العروة، المبني على أنّ تعليل «قد جعلته عليكم حاكما» يستفاد منه الولاية المطلقة.

ثانيا: لا يثبت أيّ من الشاهدين مدّعاه؛ لأنّ من يعتقد بوجود الولاية العامّة للفقيه دون اختصاصه بأمر القضاء، يعتقد أيضا أنّ حكم الفقيه في كلّ مورد هو حكم الإمام(عليه‏‌‌السلام)، بمعنى لزوم التبعية.

وبعبارة اُخرى: التعبيرات الموجودة في هذه الرواية تدلّ على أنّ الفقيه والحاكم إن حكم بحسب الظاهر طبقا لموازيننا فينبغي تبعيّته، وإن كانت النتيجة لا تنطبق مع نظر الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، ولكن بهذا المقدار لو حكم في طبقا لمعايير الأئمّة المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)، فينبغي التبعيّة لهذا الحكم.

وبعبارة ثالثة: لم يكن محطّ نظر الإمام(عليه‏‌‌السلام) في هذه الرواية الصحّة الواقعية لحكم وقضاء الفقيه، بل كان محطّ نظره هو الصحّة الظاهرية ولزوم التبعيّة، والقائلين بالولاية العامّة لا يدّعون الصحّة الواقعية أبدا.

و من المجموعة الثالثة يمكن ذكر كاشف الغطاء والإمام الخميني، قال الإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله) في كتاب الاجتهاد والتقليد في الاستدلال بمقبوله عمر بن حنظلة:

وممّا يدلّ على أنّ القضاء بل مطلق الحكومة للفقيه، مقبولة عمر بن حنظلة، وهي مع اشتهارها بين الأصحاب والتعويل عليها في مباحث القضاء مجبورة من حيث السند، ولا إشكال في دلالتها[95].

ثمّ تابع كلامه فاستفاد من ثلاثة تعبيرات وردت في الرواية شرط الفقاهة والاجتهاد للحاكم والوليّ، وقد اهتمّ اهتماما بالغا للآية المشار إليها في الرواية، فقال: المراد من الأمانات في الآية «إِنَّ اللّه‏َ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا»[96] الأمانة الخَلقية (أي: أموال الناس) وكذلك الأمانة الخالقية (أي: الأحكام الشرعية)، والمقصود من ردّ الأمانة هو تنفيذ الأحكام الإلهية كما هي عليه، وأيضا بالنسبة إلى الآية الشريفة «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ» قال: المراد بالحكم في هذه الآية ليس القضاء، بل المراد الحكومة، فالخطاب في الآية إلى من يمسك زمام اُمور الناس، وليس الخطاب للقضاة، والقضاء أحد أقسام الحكومة.

وفي ضوء هذه الآية الشريفة، ينبغي أن يبتني كلّ أمر من اُمور الحكومة على موازين القسط والعدل، وأن تكون كافّة شؤون الحكومة سواء القضاء أو جعل القوانين وتنفيذها، على أساس العدل.

والنتيجة هي استفادة الإطلاق والعموم من مقبولة عمر بن حنظلة، دون تخصيصها بمسألة القضاء، فتعمّ تنفيذ الأحكام أيضا.

تنبيه: من الضروري الالتفات إلى هذه النقطة وهي: أنّنا لو فرضنا أنّ المقبولة واردة في خصوص القضاء، ولا يستفاد منها الولاية العامّة، مع ذلك يمكن أن نقول: إنّ هذه الرواية يمكنها أن تكون دليلاً للقائلين بجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة؛ لأنّ القاضي إذا حكم، ولكن لم يكن له إقامة الحدود، فهذا سبب للاستخفاف بالقضاء والحكم؛ وقد ورد النهي الشديد في هذه الرواية عن مسألة الاستخفاف.

وبعبارة اُخرى: إذا رفض شخص فرضا الملازمة بين مشروعية القضاء وإقامة الحدود، يمكنه الاستناد إلى تعبير «الاستخفاف» الوارد في هذه الرواية، ويستفيد الجواز بل لزوم إقامة الحدود.

وبعبارة أوضح: يمكن القول بأنّ القضاء الذي ليس فيه ضمانة التنفيذ، أمر موهون وفاقد للفائدة.

إشكال: قد يتوهّم شخص[97] أنّ مقبولة عمر بن حنظلة تدلّ على جعل منصب القضاء في زمان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، يعني: تدلّ على أنّ الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)نصب من اتّصف بهذه الشرائط بالنسبة إلى زمانه.

الجواب: أوّلاً: مقتضى هذا الإشكال هو أنّ هذا الجعل مختصّ بزمان الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)، ولا يشمل زمان الأئمّة الآخرين(عليهم‏‌‌السلام) .

ثانيا: لازم هذا الإشكال هو أنّ حرمة التحاكم والرجوع إلى الطاغوت منحصر أيضا بزمن حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، ولا يشمل الأزمنة الاُخرى.

ثالثا: جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) وخاصّة مع التعليل الذي ذكر فيه، وأيضا مع الالتفات إلى خصوصيات الجواب والشرائط المهمّة المذكورة، قضية حقيقية شاملة لجميع الأزمنة إلى يوم القيامة.

والنتيجة النهائية هي: أنّه يستفاد بوضوح من المقبولة جواز تنفيذ الحدود من قبل الفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة.

ويرى الشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله) أنّ إقامة الحدود هي ضرب ومصداق من الحكم في «فإذا حكم بحكمنا»، وقال: «فإنّ إقامة الحدود ضرب من الحكم»[98].

وعليه، فما أورده المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) في جامع المدارك بأنّه لا ظهور للمقبولة في مسألة تنفيذ الحدود غير مقبول.

وقد استفاد صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) من قوله(عليه‏‌‌السلام): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» الولاية العامّة، فقال: كما أنّ للمنصوب الخاصّ ولاية عامّة بالنسبة لأطراف النزاع كافّة، فكذلك الفقيه والمجتهد له هذه الولاية أيضا. وهو كالشهيد الثاني(رحمه‏‌‌الله)يرى أنّ تنفيذ الحدّ من مصاديق «حكم بحكمنا»، وقال: «إنّ المراد من الحكم عليه إنفاذ ما حكم به، لا مجرّد الحكم من دون إنفاذ»[99].

الدليل الثالث: مقبولة أبي خديجة:

الدليل الثالث للقائلين بجواز تنفيذ الحدود في زمان الغيبة هي مشهورة أو مقبولة أبي خديجة.

نقل عن أبي خديجة روايتين، نذكر هنا ما رواه الصدوق(رحمه‏‌‌الله) في من لا يحضره الفقيه:

الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ بن حبيب الأحمسي البجلي الثقة عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال قال: قال أبو عبد اللّه‏ جعفر بن محمّد الصادق(عليه‏‌‌السلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه[100].

هذه الرواية صحيحة سندا، وسند الصدوق(رحمه‏‌‌الله) إلى أحمد بن عائذ صحيح أيضا.

استفاد صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) من هذه الرواية جواز ومشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة[101].

لكن آية اللّه‏ السيّد أحمد الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) قال:

النظر في هذه الرواية إلى المحاكمات، ولا يستفاد منها إقامة الحدود في عصر الغيبة[102].

ولكن كما ذكرنا في الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة، أنّنا إذا استفدنا أصل مشروعية القضاء من هذه الرواية، فلابدّ من استفادة مشروعية إقامة الحدود أيضا، بلحاظ أنّ إقامة الحدود من شؤون وفروع القضاء.

الدليل الرابع: التوقيع الشريف

ورد في التوقيع الشريف:

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه‏ عليكم[103].

قال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله):

هذه الرواية أشدّ ظهورا في إرادة كونه حجّة فيما أنا فيه حجّة اللّه‏ عليكم، ومنها إقامة الحدود، بل ما عن بعض الكتب «خليفتي عليكم» أشدّ ظهورا، ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفا[104].

وأشكل المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) في الاستدلال بهذه الرواية فقال:

لعدم معلومية المراد من الحوادث؛ لاحتمال كون اللام للعهد في كلام السائل، واستفادة الولاية العامّة من جهة التعبير بأنّهم «خليفتي عليكم» مشكلة؛ لاضطراب المتن في الرواية[105].

ويمكن المناقشة في كلامه، فإنّه لو تمّ التدقيق في تعبير: «فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه‏»، فلا يمكن القول: إنّ الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) له عنوان الحجّة في بعض الحوادث، وهذا العموم في التعليل، ينفي احتمال عهدية اللام؛ لعدم الحاجة في العهد إلى التمسّك بهذا الدليل بنحو عامّ.

وعليه، فظاهر هذا التعبير هو: أنّ كلّما كان الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) فيه حجّة، فالفقيه حجّة فيه أيضا.

فعلى هذا، يمكن الاستفادة من التعابير المذكورة في الجواب، أنّ احتمال كون اللام للعهد غير صحيح، ولا ينبغي الالتفات لهذا الاحتمال.

الدليل الخامس: رواية سليمان بن داود

روى سليمان بن داود المنقري عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم[106].

رواه الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) أيضا في موضعين من كتاب التهذيب[107].

أمّا سند الحديث: قال الصدوق(رحمه‏‌‌الله) في المشيخة: «وما كان فيه عن سليمان بن داود المنقري، فقد رويته عن أبي رضي اللّه‏ عنه عن سعد بن عبد اللّه‏ عن القاسم بن محمّد الأصبهاني عن سليمان بن داود المنقري»[108].

لا كلام في جلالة والد الشيخ الصدوق(رحمه‏‌‌الله) و«سعد بن عبداللّه‏».

أمّا «القاسم بن محمّد الأصبهاني» الذي هو «القاسم بن محمّد القمّي»، فقد قال النجاشي(رحمه‏‌‌الله) : «القاسم بن محمّد القمّي يعرف بـ «كاسولا» لم يكن بالمرضيّ، له كتاب نوادر»[109].

ونقل العلاّمة(رحمه‏‌‌الله) في الخلاصة عن ابن الغضائري: «حديثه يعرف تارة وينكر اُخرى، ويجوز أن يخرج شاهدا»[110].

ويستفاد من مجموع هذه التعابير: عدم الاعتماد على «القاسم بن محمّد»، وإن لم يستفد عدم عدالته أيضا.

أمّا «سليمان بن داود»، فقد ذكره العلاّمة وابن داود في القسم الثاني من كتبهما الرجالية ـ الذي هو في ذكر المجروحين ومن توقّفا فيه ـ وأيضا نقلا عن ابن الغضائري تضعيف هذا الشخص. قال العلاّمة في الخلاصة: «قال ابن الغضائري: إنّه ضعيف جدّا، لا يلتفت إليه، يوضع كثيرا على المهمّات»[111].

نعم، وثّقه النجاشي(رحمه‏‌‌الله)، والظاهر من عبارة الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في الفهرست أيضا عدم الضعف، بل يستفاد الاعتماد على كتابه.

أمّا «حفص بن غياث» فيرى كثير من علماء الرجال أنّه عامي المذهب، بل صرّح الكشي في الرجال[112]، والشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) في الرجال والفهرست بأنّه عامي المذهب.

لكن يستظهر من بعض الروايات في الكافي، في الاُصول والروضة خلاف هذا المطلب.

ولكن على كلّ حال، ادّعى الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله) إجماع الطائفة الإماميّة على العمل برواياته، والاعتماد على كتابه.

والنتيجة: أنّ هذه الرواية وإن كانت مورد إشكال وضعف من جهة بعض الرواة، إلاّ أنّ عمل الأصحاب بها، وتلقّيها بالقبول، يمكن عدّها معتبرة.

بيان كيفيّة الاستدلال بالرواية: يشمل عنوان «من إليه الحكم» المعصوم(عليه‏‌‌السلام)في زمان الحضور والفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة.

وعليه، فالرواية تدلّ بوضوح على جواز ومشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة.

وبعبارة اُخرى: يستفاد من جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) أنّ تنفيذ الحدود في زمان حكومة السلطان الجائر أو السلطان غير المشروع، ليس للسلطان، ولا للقاضي المنصوب من قِبله، بل لمن له أمر الحكم والقضاء، وذاك هو الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)في زمان الحضور والفقيه في زمان الغيبة.

وقد صرّح المحقّق الخوئي(رحمه‏‌‌الله): أنّ المراد من قوله(عليه‏‌‌السلام): «من إليه الحكم» في زمان الغيبة هم الفقهاء[113].

وفي مقابله المحقّق الخوانساري(رحمه‏‌‌الله) في جامع المدارك، فبالإضافة إلى الخدشة في سند هذا الحديث، قال: القاضي له عنوان «من له الحكم» لا عنوان «من إليه الحكم» فقال:

وأمّا خبر حفص... فيشكل التمسّك به؛ لأنّ القاضي له الحكم من طرف المعصوم، ولا يقال: إليه الحكم[114].

ويمكن المناقشة في هذا المطلب؛ لأنّه:

أوّلاً: الظاهر أنّه جعل الاستدلال مبنيّا على أنّ جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) ينطبق على عنوان القاضي الموجود في الرواية، وثمّ نقول: إنّ عنوان القاضي موجود أيضا في الفقيه، مع أنّنا بيّنا أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) في الحقيقة قال في الجواب: إنّ إقامة الحدود لا علاقة له بالسلطان، ولا بالقاضي المنصوب من قِبله، بل له علاقة بمن تعلّقت به مشروعية الحكومة، فمن ليس له صلاحية الحكومة، لا هم، ولا المنصوبين من قبلهم له صلاحية إقامة الحدود.

ثانيا: لو قبلنا أنّ عنوان الحكم في جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام) هو القضاء، فإنّ قوله: إنّ هناك فرقا بين عنوان: «من له الحكم»، و «من إليه الحكم»، يفتقر إلى الدليل، وفرق بلا فارق، فإنّ لقاضي الشرع أيضا عنوان «من له الحكم»، وكذلك عنوان «من إليه الحكم».

وبعبارة اُخرى: قاضي الشرع باعتباره له صلاحية إصدار الحكم، فهو «من له الحكم»، وباعتبار آخر، بما أنّه يرجع إليه في إصدار الحكم، فهو «من إليه الحكم».

فالاستدلال بهذه الرواية صحيح وتامّ، ولا ترديد في ظهوره في المقصود من حيث الدلالة.

الدليل السادس: عدم جواز تعطيل الحدود

يستفاد من روايات عديدة عدم جواز تعطيل الحدود مطلقا، ولا فرق في ذلك بين زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام) وغيره، والموارد التالية من جملة هذه الروايات:

1. روى في مستدرك الوسائل باب وجوب إقامتها بشروطها عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله):

أنّه نهى عن تعطيل الحدود، وقال:إنّما هلك بنو إسرائيل؛ لأنّهم كانوا يقيمون الحدود على الوضيع دون الشريف[115].

نهي في هذه الرواية عن تعطيل الحدود مطلقا.

ويعلم منه أنّه لا ينبغي ترك هذا الأمر في أيّ زمان من الأزمنة، وخاصّة في إشارته في ذيل الرواية إلى قوم بني إسرائيل، وهلاكهم؛ لأنّهم كانوا يقيمون الحدود على الناس الضعفاء من الناحية المالية والاعتبارية، دون إقامتها على الشرفاء.

ويعلم من هذا المطلب: أنّ إقامة الحدود على كلّ مرتكب للجريمة، وفي كلّ زمان وإن كان قبل الإسلام أمر مطلوب.

2. عن علي(عليه‏‌‌السلام) أنّه كتب إلى رفاعة: «أقم الحدود في القريب يجتنبها البعيد، لا تطلّ الدماء، ولا تعطّل الحدود»[116].

أمر(عليه‏‌‌السلام) في هذه الرواية بأحد الواجبات التي يجب إقامتها في كلّ زمان، وليس لنا أن نقول: إنّه(عليه‏‌‌السلام) بهذا الكلام أجاز بصورة خاصّة إقامة الحدود لرفاعة.

3. وعنه(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال: «من وجب عليه الحدّ أقيم، ليس في الحدود نظرة»[117].

ورد في هذه الرواية بصورة مطلقة وعامّة، أنّ الذي يلزم أن يُجرى عليه الحدّ فحتما يجب إقامة الحدّ عليه، وليس فيه أيّ قيد بالنسبة إلى إجازة المعصوم(عليه‏‌‌السلام) .

وبعبارة اُخرى: إذا ثبت لزوم الحدّ عند القاضي والحاكم، فلا يحقّ له تعطيل الحدّ أو تأخيره.

فالمستفاد من هذه الرواية بناءً على هذا هو: أنّ الشرط الوحيد والهامّ لإقامة الحدود هو إثباتها.

4. وعن رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): «أنّه نهى عن الشفاعة في الحدود، وقال: من شفع في حدّ من حدود اللّه‏ ليبطله، وسعى في إبطال حدود اللّه‏ تعالى، عذّبه اللّه‏ يوم القيامة»[118].

5. يستفاد من بعض الروايات: أنّه يجب إقامة الحدود الإلهية في حال ثبوتها، ولا يحقّ حتّى للمعصوم(عليه‏‌‌السلام) تأخيرها أو إبطالها.

عن علي(عليه‏‌‌السلام) أنّه أخذ رجلاً من بني أسد في حدّ وجب عليه ليقيمه عليه، فذهب بنو أسد إلى الحسين بن علي عليهماالسلام يستشفعون به، فأبى عليهم، فانطلقوا إلى علي(عليه‏‌‌السلام) فسألوه، فقال: لا تسألوني شيئا أملكه إلاّ أعطيتكموه، فخرجوا مسرورين، فمرّوا بالحسين(عليه‏‌‌السلام) فأخبروه بما قال، فقال: إن كان لكم بصاحبكم حاجة فانصرفوا، فلعلّ أمره قد قضى، فانصرفوا إليه، فوجدوه(عليه‏‌‌السلام) قد أقام عليه الحدّ، قالوا: ألم تعدنا يا أمير المؤمنين؟ قال: لقد وعدتكم بما أملكه، وهذا شيء للّه‏ لست أملكه[119].

6. روى الكليني(رحمه‏‌‌الله) في كتابه الشريف الكافي رواية صحيحة: عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن عليّ بن حمزة عن أبي بصير عن عمران بن ميثم أو صالح بن ميثم عن أبيه، قال:

أتت إمرأة مجحّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني طهّرك اللّه‏، فإنّ عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع، فقال لها: ممّا أطهّرك؟ فقالت: إنّي زنيت، فقال لها أو ذات بعل أنت أم غير ذلك؟ فقالت: بل ذات بعل، فقال لها: أفحاضرا كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم غائبا كان عنك؟ فقالت: بل حاضرا، فقال لها: انطلقي فضعي ما في بطنك، ثمّ ائتيني أطهّرك، فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه، قال: اللهمّ إنّها شهادة. فلم تلبث أن أتته، فقالت: قد وضعت فطهّرني، قال: فتجاهل عليها، فقال: أطهّرك يا أمة اللّه‏ مماذا؟ فقالت: إنّي زنيت فطهّرني، فقال: وذات بعل إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: وكان زوجك حاضرا أم غائبا؟ قالت: بل حاضرا، قال: فانطلقي وارضعيه حولين كاملين كما أمرك اللّه‏، قال: فانصرفت المرأة فلمّا صارت منه حيث لا تسمع كلامه، قال: اللهمّ إنّها شهادتان. قال: فلمّا مضى حولان، أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين، فطهّرني يا أمير المؤمنين، فتجاهل عليها وقال: أطهّرك مماذا؟ فقالت: إنّي زنيت فطهّرني، قال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ فقالت: نعم، قال: وبعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت أو حاضر؟ قالت: بل حاضر، قال: فانطلقي فاكفليه حتّى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ويتهوّر في بئر، قال: فانصرفت وهي تبكي، فلمّا ولّت فصارت إلى حيث لا تسمع كلامه، قال: اللهمّ إنّها ثلاث شهادات. قال: فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي، فقال لها: ما يبكيك يا أمة اللّه‏؟ وقد رأيتك تختلفين إلى عليّ تسألينه أن يطهّرك؟ فقالت: إنّي أتيت أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) فسألته أن يطهّرني، فقال: اكفلي ولدك حتّى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ولا يتهوّر في بئر، وقد خفت أن يأتيني الموت ولم يطهّرني، فقال لها عمرو بن حريث: ارجعي إليه فأنا أكفله، فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) بقول عمرو، فقال لها أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) وهو متجاهل عليها: ولم يكفل عمرو ولدك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّي زنيت فطهّرني، فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟ قالت: نعم، قال: أفغائبا عنك كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم حاضرا؟ فقالت: بل حاضرا، قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ إنّه قد ثبت لك عليها أربع شهادات، وإنّك قد قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد، من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني، وطلب بذلك مضادّتي، اللهمّ فإنّي غير معطّل حدودك، ولا طالب مضادّتك، ولا مضيّع لأحكامك...[120].

يستفاد من هذا الحديث أنّ تعطيل الحدود الإلهية، مضافا إلى أنّه من المحرمات الإلهية، بل من أشدّ المحرمات، فإنّه سبب للمخالفة والضدّية مع اللّه‏ تعالى، نظير ما ورد في حرمة الربا في أنّ مرتكبه يعلن الحرب مع اللّه‏ تعالى، فمن يريد تعطيل الحدود الإلهية، فهو يعلن عن معاندته ومضادّته للّه‏ تعالى.

ويستفاد من هذا الحديث سيّما مع التشديد الوارد في ترك إقامة الحدود، أنّ إقامة الحدود لا تختص بزمان الحضور، وقد أورد المرحوم صاحب الجواهر هذه الرواية، كمؤيد وشاهد على مدّعاه، فقال: «الظاهر في العموم لكلّ زمان»[121].

7. ورد في بعض الروايات النهي عن إبطال الحدود الإلهيّة بين الناس: روى يزيد الكنّاسي عن الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

ولا تبطل حدود اللّه‏ في خلقه، ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم[122].

ورد في هذا الحديث بنحو مطلق وعامّ عدم جواز إبطال أو تعطيل الحدود الإلهيّة في الخلق، كما أنّه لا تبطل حقوق المسلمين بينهم.

ومن الواضح أنّ خلق اللّه‏ غير منحصر بالخلق في خصوص زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام).

الدليل السابع: الحكمة في إقامة الحدود:

قال صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله):

المقتضى لإقامة الحدّ قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة إلى مقيمه قطعا، فتكون عائدة إلى مستحقّه أو إلى نوع من المكلّفين، وعلى التقديرين، لا بدّ من إقامته مطلقا بثبوت النيابة لهم في كثير من المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب، فإنّ كتبهم مملوة بالرجوع إلى الحاكم، المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع[123].

بيّن(رحمه‏‌‌الله) في هذه العبارة عدّة نقاط هامّة:

الاُولى: المقتضي لإقامة الحدود موجود في زمان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)وفي غيبته.

الثانية: ليست الحكمة في إقامة الحدود عائدة إلى مقيمها قطعا، بل عائدة إلى مستحقّها أو إلى نوع المكلّفين.

الثالثة: يستفاد من كلمات الفقهاء في كثير من الموارد عدم الفرق بين مناصب الإمام(عليه‏‌‌السلام) أجمع، وهذا الأمر مفروغ عنه بين الأصحاب، فإنّ كتبهم مملوة بالرجوع إلى الحاكم، والمراد به نائب الإمام(عليه‏‌‌السلام).

فهو في الحقيقة استفاد العموم عن طريق بيان الحكمة في تنفيذ الحدود.

ذكر السيّد الخوئي(رحمه‏‌‌الله) نظير هذا المطلب على أنّه دليل، فقال:

إنّ إقامة الحدود إنّما شرّعت للمصلحة العامّة، ودفعا للفساد وانتشار الفجور والطغيان بين الناس، وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان، وليس لحضور الإمام(عليه‏‌‌السلام)دخل في ذلك قطعا، فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود، تقضي بإقامتها في زمان الغيبة كما تقضي بها في زمان الحضور[124].

إشكال المحقّق الخوانساري:

فقد أشكل على هذا الدليل، فقال:

لازم ما ذكر وجوب إقامة الحدود في كلّ عصر من دون حاجة إلى نصب المعصوم، بل اللازم تصدّي عدول المؤمنين بل فسّاقهم مع عدم التمكّن للمجتهدين[125].

وبعبارة اُخرى: يجب أن يكون إقامة الحدود واجبا مستقلاً وغير مشروط، وحتّى في فرض عدم التمكّن من المجتهدين واجدي الشرائط وعدول المؤمنين، يمكن للفسّاق أيضا التصدّي لإقامة الحدود الشرعية، كحفظ القصّر والغيّب.

الجواب: هنا عدّة إشكالات على ما تفضّل به:

أوّلاً: المفروض في محلّ النزاع هو: أنّ تنفيذ الحدود الشرعية يكون بعد التشخيص الصحيح لها، وهذا مختصّ بالعارفين بالأحكام الشرعية والحدود الإلهية.

وبعبارة اُخرى: أن يكون لهم القدرة على الاستنباط، وعلى هذا، لا يقتضي هذا الدليل أبدا أنّ غير العارفين بهذا الأمر لهم إقامة الحدود.

ثانيا: قياس إقامة الحدود على مسألة حفظ أموال الغائبين أو الولاية على المحجورين غير صحيح؛ لأنّ حفظ الأموال والولاية على المحجورين لا يحتاج إلى شخص عارف بالأحكام الإلهيّة.

ومن جهة اُخرى: إن لم تؤدّ هذه الاُمور بشكل صحيح، فليس فيه مفسدة مهمّة، خلافا للحدود الإلهيّة، فإن اُقيمت على يد غير العارف بها، فيلزم من ذلك مفسدة مهمّة، ويمكن في هذا الفرض أن نقول: إنّه يلزم نقض الغرض، لذا لأجل تحقّق الغرض من إقامة الحدود يجب أن يقيم الحدود من كان عارفا بالحلال والحرام والأحكام الإلهيّة.

ثالثا: إنّ ما ذكر في الدليل السابع، هوعدم دخالة حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام) في تحقّق الغرض من إقامة الحدود، وهذا لا يعني تصدّي كلّ أحد لذلك، وهذا كما لو قلنا: بعدم شرطيّة الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام) في إقامة صلاة الجماعة، فهذا لا يعني أن يتصدّى كلّ أحد لصلاة الجماعة.

والنتيجة: لا شكّ في أنّ إقامة الحدود يجب أن تكون بيد جماعة خاصّة؛ لأنّه في غير هذه الحالة، يلزم الهرج والمرج، ونقض الغرض، ويلزم من وجوده عدمه.

فالبحث كلّه هو في أنّ هذه الفئة الخاصّة هل هي خصوص الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)والمنصوبين من قِبله، أم يعمّ المنصوبين بالنصب العامّ أيضا؟

الدليل الثامن: انتشار المفاسد في حال تعطيل الحدود

تعطيل الحدود يؤدّي إلى ارتكاب المحرّمات الإلهيّة وانتشار الفساد، وترك مثل هذا الأمر مطلوب للشارع، وانتشاره مبغوض له.

ذكر صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) هذا المطلب كمؤيّد مستقلّ، لكن يمكن عدّه مكمّلاً للدليل المتقدّم.

إشكال: يمكن أن يقال: إنّ لتحقّق الغرض من إقامة الحدود، أو الحدّ من انتشار الفساد واتّساع الجريمة، طرقا عقلائية اُخرى، يمكن من خلالها اتّخاذ عقوبات خاصّة لها في كلّ زمان، فلا يتوقّف مثل هذا الغرض الهامّ على إقامة الحدود.

الجواب: ينبغي في الجواب الالتفات إلى عدّة نقاط:

أوّلاً: إنّ بعض الاُمور التي في الشريعة هي موضوع للحدود الإلهيّة، قد لا يعتبرها العقلاء في بعض الأزمنة جرما، كما يشاهد حاليا في بعض البلدان أنّ بعض المفاسد الشنيعة كالزنا واللواط، قد اتّخذت طابعا قانونيا ورسميا، ولا تعتبر جرما إلاّ في بعض الموارد.

ثانيا: ادّعاؤنا الهامّ هو لزوم الاعتماد على الحدود الشرعية، وتنفيذ الموارد التي فرض لها الشارع عقوبة معيّنة.

وبعبارة اُخرى: إنّ للشارع غرضا لا يتحقّق من دون تحقّق الحدود الإلهيّة.

الدليل التاسع: الروايات الدالة على الترغيب بإقامة الحدود

يظهر من بعض الأحاديث الترغيب على أصل إقامة الحدود، ونشير هنا إلى نموذجين منها:

1. في الحديث الموثّق، يروي حنان بن سدير عن أبيه أنّ الإمام الباقر(عليه‏‌‌السلام)قال:

حدّ يقام في الأرض أزكي فيها من مطر أربعين ليلة وأيّامها[126].

2. روى السكوني عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

قال رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله): إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحا[127].

وقد ورد مثل هذه التعابير في بعض الروايات الاُخرى:

لإقامة الحدّ للّه‏ أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا[128].

يستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ لإقامة الحدّ آثارا وضعيّة هامّة فيما يخصّ الناس والمجتمع، بحيث يكون خيرا من مطر أربعين ليلة وأيّامها، فكيف نقول: إنّ مثل هذا الأمر ـ  مع هذه الفوائد الجمّة للمجتمع ـ مختصّ بزمان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟!

الدليل العاشر: بعض المؤيّدات

مضافا إلى ما ذكر من الأدلّة، يمكن أن نذكر هذا المطلب باعتباره مؤيّدا وشاهدا، فإنّه كما ورد في بعض الروايات ـ وقد أفتوا في ضوئها أيضا ـ أنّه من رأى رجلاً يزني بزوجته، يجوز له قتلهما معا، هذا المطلب يؤيّد عدم اشتراط حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، ولا يمكن قبول أنّه مستثنى عن شرطية حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام).

وإن تجاوزنا هذه الأدلّة جميعا، فمن الواضح أنّه لو كان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)شرطا في إقامة الحدود، كان من اللازم في هذا الأمر العظيم أن يصرّح بشرطيّته، وكان بحاجة إلى بيان.

وبعبارة اُخرى: بعد أن كان للأدلّة إطلاق واضح بالنسبة لإقامة الحدود، فلو كان هذا القيد منذ البداية، كان من اللازم التصريح به.

ويستفاد من مجموع هذه الأدلّة بوضوح الاطمئنان بأنّ إقامة الحدود لا يختصّ بحضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، بل يعمّ جميع الأزمنة، وإن كان يجب أن يكون مقيمها عارفا بالأحكام والحلال والحرام، يعني: مجتهدا جامعا للشرائط.

نقد مقالة (نظرية إقامة الحدود)

نشير في الخاتمة إلى بعض الملاحظات حول مقالة «نظرية إقامة الحدود» للدكتور السيّد مصطفى المحقّق الداماد(دامت تأييداته) في كتاب قواعد الفقه، القسم الجنائي.

توضيح رأي الكاتب

ذكر الكاتب في الصفحة 292 من هذا الكتاب في البند الثالث، ما ملخّصه:

1 . الإسلام مجموعة ذات أبعاد تربويّة، أخلاقية، إجتماعية، إداريّة، بل أبعد من ذلك، هو ذو نظام شرعي وحقوقي يسمّى بـ «الشريعة».

2 . هناك انسجام وترابط كامل بين هذه الأبعاد، وهناك طرق متعدّدة لتربية البشر وتعاليمهم، وإلى جانب ذلك، هناك عقوبات وضعت للمخالفين الذين تمّت الحجّة على تربيتهم.

3 . لأجل تنفيذ كافّة الأبعاد ينبغي تحقّق جميع الشرائط، ومن أهمّها في المعتقد الشيعي الإمامي الاثنى عشري الحقّ هو: وجود الإنسان الكامل على رأس إدارة النظام والمجتمع.

ونتيجة الاُمور الثلاثة هي أنّه بافتقاد الشرط الثالث ـ يعني: وجود الإنسان الكامل ـ ستواجه إقامة الحدود الشرعية ترديدا؛ لأنّ هذه العقوبات يكون لها معنى في الحالات التي يستقبل مرتكبي الجرائم أذى المجازاة الحاصل من القرارات الصادرة برضا كامل دون أدنى ترديد.

والشاهد على هذا المطلب، التعبير بـ «طهّرني طهّرك اللّه‏» الذي ورد في بعض الروايات، فهل يمكن لمن ارتكب عملاً شنيعا أن يرضي نفسه لأجل تجنّبه العذاب الإلهيّ أن يقرّ عند من لا يعرفه، ولا يعلم ما هو عمله، وكيف يقضي ليله إلى الصباح؟!

ومع وجود هذا الاحتمال، وهو أن يكون المرجع القضائي الجالس على دفّة القضاء، على الرغم من اختصاصه العلمي ومعرفته الفنّية مصابا بفساد الأعمال، وبعد أيّام يُحكم عليه لنفس هذا الجرم، أو نظائره.

وذكر في معرض كلامه الحديث المفصّل عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) الذي أشرنا إليه، واستفدنا نقطتين منه:

الاُولى: أنّ المعصوم(عليه‏‌‌السلام) وحده قادر على تشخيص الشرائط الزمانية الخاصّة، وأمّا الفقهاء العاديّون، فهم عاجزون عن تشخيص مثل ذلك، مثلاً: ألا يكون إقامة الحدّ الشرعي في زماننا على الزوجة التي تعصي من أجل إشباع أبنائها، بسبب سجن زوجها، دفعا لهذه الاُسرة نحو الفساد والضياع؟! ألاّ ندفع في هذه الحالة الفاسد بالأفسد؟!

لقد قرّر الإمام علي(عليه‏‌‌السلام) في هذا الخصوص، بعدم إقامة الحدّ حفاظا على الطفل الرضيع، فهل أنّ الفقهاء العادّيين مجازون أن يتّخذوا قرارا خاصّا في هذه الموارد؟

الثانية: جاء في هذه الرواية: «أن لا يقيم الحدّ من للّه‏ عليه حدّ»، وبموجب هذا الأصل الشرعي، انصرف الجميع، فهل أنّ شرائط زماننا أفضل أم شرائط زمان علي(عليه‏‌‌السلام)؟!

وأجاب في الخاتمة عن هذا السؤال، وهو إذا عطّلت الحدود، فماذا يصنع بمرتكبي الجرائم؟ هل يطلق سراحهم؟

فأجاب: كلاّ، بل ينبغي استبدال عقوبة الحدّ بعقوبة التعزير، يعني: قيام الحكومة الإسلامية بتعزيره مع رعاية مصالح الزمان، والمكان، والشخص المرتكب للمعصية، وسائر الجوانب الاجتماعية.

ومن الواضح أنّ العقوبات التعزيرية أوّلاً: تتغيّر بحسب الزمان، والمكان، والأوضاع، والأحوال الاجتماعية.

وثانيا: العقوبات الحدّية كالإعدام، والرجم، وقطع اليد، وأمثالها، لها تبعات ثقيلة خلافا للتعزير.

هذه خلاصة كلامه في «نظرية إقامة الحدود».

نقد وتحليل

في نقد الرأي المطروح ينبغي ذكر عدّة نقاط:

1. يتّضح من كافّة ما ذكره المؤلّف المحترم أنّه كان يسعى منذ البداية أن يطوي طريقا يزيل به مائدة الحدود الإلهيّة تماما، ويوسّع من اُسلوب آخر ينسجم مع ما شاع عن حقوق الإنسان، والحال أنّ الاستنباط الفقهي والاجتهاد الصحيح المطابق لموازين الاستدلال، لا يمكّن الفقيه قبل تناول الأدلّة أن يجعل النتيجة في ذهنه مفروغا عنها ومسلّم بها، ومن ثمّ يستنتج النظرية من الأدلّة، ويشاهد هذا المطلب بوضوح في اُسلوب ومنهج الاجتهاد الجواهري وفقاهة الفقهاء الكبار، كالشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والسيّد اليزدي وأمثالهم رحمهم‏الله.

2. قد صرّح في بداية كلامه أنّ هذه النقطة ليس لها جنبة فقاهيّة.

والسؤال هو: لماذا تريدون أن تصلوا من نقطة غير فقاهيّة إلى نتيجة فقهيّة؟ وهل مثل هذا الأمر ممكن؟!

3. لا شكّ في أنّ للدين الإسلامي أبعادا مختلفة، ونظاما منسجما ومترابطا، ولا شكّ أيضا في أنّ حضور الإنسان الكامل في رأس هذا الهرم، سبب في التحقّق الصحيح لجميع هذه الأبعاد.

ولكن كيف يمكن إثبات هذا المطلب وهو إذا لم يكن الإنسان الكامل حاضرا فينبغي التوقّف، أو التردّد في إقامة الأحكام الإسلامية؟

وإذا أردنا أن نسير في هذا الطريق، فلازمه تعطيل الكثير من الشؤون والأحكام الإسلامية، ومن جملتها، أن نتردّد أيضا في منصب القضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتشكيل الحكومة الإسلامية، وأن نضع بالمرّة كافّة الأحكام الإسلامية الاجتماعية والسياسيّة جانبا!

4. في العبارة المذكور أورد المؤلّف المحترم: تقبّل مرتكبي الجرائم أذى المجازاة الحاصل من القرارات الصادرة برضا كامل دون أدنى ترديد.

هذا المطلب غير صحيح بوجه من الوجوه؛ لعدم وجود أيّ دليل وشاهد على هذا المعني، وحتّى في زمان المعصومين(عليهم‏‌‌السلام) لا يوجد أيّ قرينة وشاهد على هذا المدّعى، وليس كلّ من نُفّذت بحقّهم الحدود الإلهيّة، قد تحمّلوها برضا كامل.

والعجب هو أنّه قد تخيّل أنّه لو قالت: امرأة، أو شخص في بعض الموارد «طهّرني»، ففي جميع الموارد كان كذلك! وأساسا يطرح هنا سؤال وهو: كيف يكون اعتقاد من نفّذ في حقّه العقوبة دخيلاً في صحّة ومشروعية إقامة الحدود؟! هذا المطلب لا شاهد له من الشرع ولا مؤيّد له من العقل والعقلاء.

وأيضا الكلام الذي يقول: كيف يمكن لمن ارتكب عملاً شنيعا أن يُرضي نفسه لأجل تجنّبه العذاب الإلهي أن يقرّ عند من لا يعرفه، ولا يعلم ما هو عمله، وكيف يقضي ليله إلى الصباح؟ في غاية التعجّب.

فهل أنّ الشروط المقرّرة للقاضي كالعدالة والاجتهاد غير كافية ظاهرا؟ وفي التعزيرات التي قبلها أخيرا كيف يحلّ هذا الإشكال؟ ونفس هذا الإشكال جار في موارد التعزيرات أيضا.

5. أشار واستشهد في معرض بيان مطالبه إلى كلام أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، حيث قال(عليه‏‌‌السلام): «لا يقيم الحدّ من للّه‏ عليه حدّ، فمن كان للّه‏ حدّ عليه مثل ما له عليها، فلا يقيم عليها الحدّ». 
وينبغي القول بالنسبة لهذا المطلب:

أوّلاً: كان من المناسب له أن ينظر إلى صدر هذه الرواية، حيث إنّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) طرح مسألة حرمة تعطيل الحدود، وجعل نفسه من الذين لا يعطّلون الحدود الإلهيّة.

ثانيا: هناك اختلاف في أنّ من للّه‏ عليه حدّ هل يمكنه أن يقيم الحدّ أو لا.

فقد ذكر المحقّق(رحمه‏‌‌الله) في الشرائع القول بعدم الجواز بعنوان «قيل».

والقول الثاني وهو الكراهة، قد نسبه صاحب الرياض(رحمه‏‌‌الله) إلى ظاهر الأكثر، بل إلى المشهور، وادّعى في أثناء الكلام الاتّفاق على ذلك[129].

ونسبه الفاضل الهندي(رحمه‏‌‌الله) أيضا في كشف اللثام إلى ظاهر جميع الفقهاء[130].

مضافا إلى وجود روايات مختلفة في المسألة، ولا يمكن الاكتفاء برواية أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام).

نعم، هناك من يعتقد من الفقهاء وكبار العلماء بهذا الرأي بنحو الفتوى أو الاحتياط، قال الوالد المحقّق آية اللّه‏ العظمي الحاج الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني (رضوان اللّه‏ عليه) بعد ذكر الروايات:

فالأحوط بملاحظة ما ذكرنا ـ لو لم يكن أقوى ـ هو عدم إقامة الحدّ ممّن كان عليه حدّ مطلقا أو خصوص الحدّ المماثل[131].

ثالثا: حتّى لو سلّم مثل هذا الشرط، فعدم وجوده ليس موجبا لعدم مشروعية أصل إقامة الحدّ في زمان الغيبة.

وبعبارة اُخرى: على المؤلّف المحترم إقامة الدليل على عدم مشروعية إقامة الحدّ زمان الغيبة. وأمّا المطلب الذي ذكره، فلا يثبت هذا المدّعى، كما لو فرضنا عدم وجود المجتهد المطلق في زمانٍ، واشترطنا في القضاء الاجتهاد المطلق، فلا يعني هذا الأمر عدم مشروعية القضاء في زمان الغيبة.

وبعبارة فنّية: حتّى لو قبلنا هذا الشرط، فليس هو شرط المشروعية، بل شرط لتحقّق العمل في الخارج، نظير الفرق المذكور بين شرط الوجوب والواجب.

فيكون المعنى هو مشروعية إقامة الحدود الإلهيّة في زمان الغيبة، وعدم اختصاصه بالإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، ولكن مقيم الحدّ، ينبغي أن يتّصف بعدم استحقاقه الحدّ.

6. قال المؤلّف بعد ذكر الحديث: فمن غير المعصومين(عليهم‏‌‌السلام)يمكنه تشخيص المصالح الشخصية والشرائط الزمانية الخاصّة؟ ثمّ أشار إلى أنّ الإمام علي(عليه‏‌‌السلام)قرّر في هذا الخصوص، بعدم إقامة الحدّ حفاظا على الطفل الرضيع.

وينبغي القول بالنسبة لهذا المطلب:

أوّلاً: لم يكن قرار الإمام(عليه‏‌‌السلام) هو لحفظ الطفل الرضيع فقط، بل كان بصدد أن لا تثبت هذه الجريمة شرعا، ولا تتحقّق الإقرارات الأربعة.

وبعبارة اُخرى: وإن كانت مسألة الطفل الرضيع في الرواية ذريعة للتأخير، والآن أيضا يمكن للفقهاء أن يفتوا بذلك، ولكن هذا لا يعني أنّه(عليه‏‌‌السلام) امتنع عن إقامة الحدّ بسبب هذا الأمر، بل عمل كذلك لأنّ جهات إثبات الجريمة لم تكتمل شرعا، وعندما اكتملت الإقرارات الأربعة، لم يتأخّر في إقامة الحدّ.

ولو كان زعم المؤلّف صحيحا، فقد تكفّل عمرو بن حريث بحضانة هذا الولد في هذه الرواية، مع عدم الشكّ لدى كلّ عاقل في أنّ الاُمّ هي الاُولى في حضانة وتربية وليدها من غيرها، ولو كان الإمام(عليه‏‌‌السلام) مراعيا للمصالح والشرائط الزمانية والمكانية الخاصّة، فينبغي رعاية هذه الجهة أيضا.

ثانيا: لو كانت مسألة إقامة الحدود بالالتفات إلى شرائط الزمان والمكان ورعاية مصالح الأشخاص مطروحة، فعليكم أن تلتزموا أنّه في زمان حضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)أيضا كانوا يعملون بهذا الأصل فهل تلتزمون أنّه إذا ثبت الحدّ واستحقاقه في زمان المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، كان للأئمّة(عليهم‏‌‌السلام) تعطيل أو تغيير ذلك؟

الجواب واضح تماما من الناحية الفقهية والروائية.

ذكرنا في هذا البحث، في الدليل السادس لجواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، أنّ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) قال: «لقد وعدتكم بما أملكه، وهذا شيء للّه‏ لست أملكه».

7. ذكر في تلخيص المطلب: أنّ كلا نظريتي «الموافقين والمخالفين لإقامة الحدود في زمان الغيبة» مستندة إلى استدلالات فقهيّة، ولم يتّضح أيّهما في الأكثرية، أو الأقلية.

مع أنّنا أثبتنا في هذه الرسالة أنّ رأي أكثر المتقدّمين والمتأخّرين يقوم على أساس إقامة الحدود، حتّى أنّه صرّح صاحب الجواهر(رحمه‏‌‌الله) بأنّ هذه المسألة إجماعيّة.

8. وذكر أيضا: أنّ لنظرية التعطيل توجيها اجتماعيا. ويمكن القول هنا:

أوّلاً: أنّنا لسنا ملزمين بالتوجيه الاجتماعي، ففي الفقه أحكام ليس لها توجيه اجتماعي واضح بحسب الظاهر، كنجاسة الكافر والمشرك.

ثانيا: من أين شخّصتم أنّ لتعطيل الحدود في جميع الأزمنة والأمكنة توجيها اجتماعيا صحيحا؟!

وقال: إنّه في فرض عدم إقامة الحدود، تحلّ التعزيرات الشرعية محلّها، ويرتبط كمّها وكيفها بقرار الحاكم.

ويبدو أنّ كثيرا من الإشكالات التي هي في ذهن المؤلّف فيما يتعلّق بالحدود، هي أيضا موجودة فيما يتعلّق بالتعزيرات، وكأنّ المؤلّف كان اهتمامه في نفي حدودٍ من قبيل الإعدام والرجم، مع أنّ بعض المراكز الغربية توصّلت اليوم إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الإعدام ضروري للمجتمع في بعض الموارد.

وبناءً على الإشكالات التي ذُكرت، لا يمكن قبول مطالبه. نعم، ينبغي الالتفات إلى هذه النقطة، وهي: أنّه بعد إثبات أصل مشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة، فلو واجه بعضها مشاكل، وكانت الشرائط بنحو يترتّب على إجرائها مفاسد أهمّ، فعلى الفقيه في هذه الحالة، العمل على طبق قاعدة «الأهمّ فالأهمّ» أو «دفع الأفسد بالفاسد»، كما يعمل في سائر موارد التزاحم بهذه القواعد، ولكن هذا لا يعني عدم مشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة بنحو مطلق.

وبعبارة اُخرى: مسألة مشروعية إقامة الحدود في زمان الغيبة هي حكم أوّلي، ولكن بالالتفات إلى العناوين الثانوية يمكن بل يلزم تغييرها، والعمل على طبقها.

--------------------------------
[1] سنن الترمذي 2: 438، ح.1447

[2] الفقيه 4: 74، ح5146.

[3] وسائل الشيعة 28: 32، ح .34141

[4] وسائل الشيعة 8: 248 ح10558.

[5] السيّد مصطفى المحقّق الداماد، قواعد الفقه، القسم الجزائي: 291.

[6] مسالك الأفهام 3: 105.

[7] الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 2: 419.

[8] المقنعة: 810.

[9] المراسم العلوية في الأحكام النبوية: 263.

[10] الكافي في الفقه: 421.

[11] مختلف الشيعة في أحكام الشريعة4: 463.

[12] قبل هذا القول المرحوم ابن إدريس في بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصفحة 24 من المجلّد الثاني لكتاب السرائر.

[13] قبل هذا الرأي الشيخ الطوسي في بحث الأمر بالمعروف من كتاب النهاية.

[14] نسب هذا القول للكثير من الفقهاء، ومضافا إلى المشروعية والولاية في إقامة الحدود، في بعض كلمات الفقهاء طرحت مسألة لزوم مساعدة الناس أيضا.

[15] المقنعة: 810.

[16] المراسم العلوية: 263.

[17] الكافي في الفقه: 421 ـ 423.

[18] غنية النزوع: 436.

[19] الجامع للشرائع: 548.

[20] النهاية: 301 ـ 300.

[21] إقامة الحدود في هذه الأعصار: 135.

[22] المبسوط 8: 11 ـ 12.

[23] الخلاف 5: 522، المسألة 9.

[24] السرائر 2: 25.

[25] السرائر 2: 25 ـ 24.

[26] غاية المرام 1: 547.

[27] المهذّب البارع 2: 329.

[28] التنقيح الرائع 1: 596.

[29] إقامة الحدود في هذه الأعصار: 144.

[30] إقامة الحدود في هذه الأعصار: 144.

[31] السرائر 3: 539 ـ 537.

[32] السرائر 3: 539 ـ 537.

[33] السرائر 3: 545.

[34] سورة المائدة 5: 38.

[35] سورة النور 24: 2.

[36] السرائر 3: 546.

[37] تذكرة الفقهاء 9: 445.

[38] منتهى المطلب 2: 995.

[39] تحرير الأحكام 2: 242.

[40] قواعد الأحكام 1: 525.

[41] إرشاد الأذهان 1: 353.

[42] تبصرة المتعلمين: 90.

[43] مختلف الشيعة 4: 464 ـ 463.

[44] الدروس الشرعية 2: 47.

[45] حياة المحقّق الكركي وآثاره 11: 212.

[46] مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 3: 108 ـ 107.

[47] التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 597 ـ 596.

[48] غاية المرام في شرح شرائع الإسلام 1: 547.

[49] المهذّب البارع في شرح المختصر النافع 2: 329.

[50] شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 1: 260 ـ 259.

[51] المختصر النافع في فقه الإمامية: 115.

[52] جامع المدارك 5: 411 ـ 413، وج7: 57 ـ 61.

[53] موسوعة الإمام الخوئي، مباني تكملة المنهاج 1: 273.

[54] شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4: 940.

[55] المصدر نفسه: 941.

[56] كشف الرموز 1: 434.

[57] جامع المدارك 5: 411.

[58] سورة النور 24: 2.

[59] فقه القرآن 2: 372.

[60] مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 219.

[61] كنز العرفان 2: 341.

[62] سورة النور، ذيل الآية2، نقلاً عن السيّد محمّدباقر الشفتي، إقامة الحدود في هذه الأعصار: 55.

[63] السرائر 3: 546.

[64] سورة المائدة 5: 38.

[65] للتحقيق في بحث الخطابات القانونية والعامّة التي تعتبر من أهمّ الإبداعات الاُصولية للإمام الخميني(رحمه‏‌‌الله)، ومؤثّرة في كافّة الأبحاث الفقهية من البداية وحتّى النهاية. راجع: أبحاث خارج الفقه للمؤلّف، للعام الدراسي 89 ـ 90 من العدد 93 إلى 106 الموجودة في موقع المعلومات للمؤلّف أيضا.

[66] جواهر الكلام 21: 397.

[67] جواهر الكلام 21: 394.

[68]  جواهر الكلام 21: 395.

[69] الكافي 1: 67، ح10.

[70] الكافي 7: 412، ح5.

[71] الفقيه 3: 8، ح3233.

[72] تهذيب الأحكام 6: 301، ح52.

[73]  سورة النساء 4: 60.

[74] مسالك الأفهام 12: 31.

[75] الفهرست: 216 رقم 611.

[76] في ما يخص وثاقة وعدم وثاقة «محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني»، هناك تحقيق مفصّل للمؤلّف في المجلس 73 من درس خارج الفقه بتاريخ 11/12/1389، على الراغبين مراجعة موقع المعلومات www.Fazeilankarani.ir للحصول عليه.

[77] رجال النجاشي: 159 رقم 421.

[78] رجال الطوسي: 336 رقم 5007.

[79] خلاصة الأقوال: 345 رقم 1.

[80] الكافي 3: 275، ح1.

[81] منتقى الجمان 1: 19.

[82] تهذيب الأحكام 3: 16، ح57.

[83] الكافي 8: 334، ح522.

[84] كتاب البيع 2: 638.

[85] الفوائد المدنية: 303.

[86] روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه 1: 20.

[87] مشارق الشموس 3: 210.

[88] رسائل الميرزا القمي 1: 258.

[89] المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم موسوعة الإمام الخوئي 22: 86 ـ 85.

[90] ذكرى الشيعة 1: 43 ـ 42.

[91] شرح العروة الوثقى 1: 43.

[92] العناوين الفقهية 2: 570.

[93] أنوار الفقاهة، كتاب النكاح: 26.

[94] كتاب الخمس: 835.

[95] الرسائل، الاجتهاد والتقليد 2: 104.

[96] سورة النساء 4: 58.

[97] روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 771.

[98] مسالك الأفهام 3: 108.

[99] جواهر الكلام 21: 395.

[100] الفقيه 3: 2، ح3216.

[101] جواهر الكلام 21: 396.

[102] جامع المدارك 5: 412.

[103] الاحتجاج 2: 470.

[104] جواهر الكلام 21: 395.

[105] جامع المدارك 5: 412.

[106] الفقيه 4: 71، ح5135.

[107] تهذيب الأحكام 6: 314 ح 78 و155 ح52.

[108] الفقيه 4: 467.

[109] رجال النجاشي: 315 رقم 863.

[110] الخلاصة: 389.

[111] الخلاصة: 352رجال ابن داود: 459.

[112] اختيار معرفة الرجال 2: 688 رقم 733.

[113] مباني تكملة المنهاج 1: 226.

[114] جامع المدارك 5: 411.

[115] مستدرك الوسائل 18: 7، ح2.

[116] دعائم الإسلام 2: 442، ح1541.

[117] المصدر نفسه 2: 443، ح1545.

[118] دعائم الإسلام، ح.1546

[119] المصدر نفسه، ح.1547

[120] الكافي 7: 185، ح1.

[121] جواهر الكلام 21: 396.

[122] وسائل الشيعة 28: 20، ح1.

[123] جواهر الكلام 21: 396.

[124] مباني تكملة المنهاج 1: 224.

[125] جامع المدارك 5: 412.

[126] الكافي 7: 174، ح1.

[127] الكافي 7: 74، ح3.

[128] الكافي 7: 74، ح2.

[129] رياض المسائل 10: 76.

[130] كشف اللثام 2: 404.

[131] تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 245.


برچسب ها :