القتيل في الزحام عند الحنابلة

۲۷ آذر ۱۳۹۹

۱۷:۵۳

۵۳

چکیده :
من الأحكام الواضحة عند الشيعة الإمامية أنّ المقتول بسبب الزحام، تؤدّى ديته من بيت المال، والروايات عن المعصومين عليهم‏السلام متعدّدة في هذا الحكم.
والبحث في هذا المجال هو الفحص إجمالاً عن ثبوت هذا الحكم عند الحنابلة من أهل السنّة، وعدم ثبوته.
نشست های علمی

القتيل في الزحام عند الحنابلة
محمد جواد الفاضل اللنکراني
 
من الأحكام الواضحة عند الشيعة الإمامية أنّ المقتول بسبب الزحام، تؤدّى ديته من بيت المال، والروايات عن المعصومين عليهم‏السلام متعدّدة في هذا الحكم.

والبحث في هذا المجال هو الفحص إجمالاً عن ثبوت هذا الحكم عند الحنابلة من أهل السنّة، وعدم ثبوته.

فاعلم أنّ الظاهر أنّه أيضاً من المسلّم عندهم وذلك:

أوّلاً: ومن جهة وجود القاعدة المسلمة في فقههم التي تدلّ على حرمة دم المسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أنّ:

كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه[1].

وروى مسلم أيضاً أنّ:

من قال لا إله إلاّ اللّه‏ وكفر بما يعبد من دون اللّه‏ حرم ماله ودمه، وحسابه على اللّه‏[2].

وفي حديث البخاري عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله):

من صلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم الذي له ذمّة اللّه‏ وذمّة رسوله، فلا تخفروا اللّه‏ في ذمّته[3].

والظاهر بعد المراجعة إلى رواياتهم وصحاحهم، أن هذه القاعدة ثابتة عندهم، والمستفاد من هذه القاعدة مضافا إلى الحكم التكليفي والعقوبة على من لم يحترم دم المسلم ومن قتله عمدا، ثبوت الحكم الوضعي، وهو وجود العوض في قبال هذا الدم، بمعنى أنّه في صورة وجود القاتل المعيّن يثبت القصاص أو الدية عليه، وفي بعض الموارد تثبت الدية على العاقلة، ولكن مع عدم القاتل المعيّن، هل يصحّ أن يقال بعدم ثبوت الدية؟ وهل الدين والشرع يحكم بعدم وجود حرمة هذا الدم في هذا الفرض؟

كلاّ ثمّ كلاّ. بل اللازم دفع الدية إما من بيت المال أو منبع آخر، وبما أنّ الدولة الإسلامية ليس عندها منبع غير بيت المال، فيجب دفع الدية منه.

لا يقال: إنّ القاعدة ناظرة إلى العمل بين المسلمين بعضهم مع بعض آخر، بمعنى أنّها واردة في صورة وجود شخص معيّن لم يحترم دم شخص آخر، ويؤيّد ذلك ما ورد في هذه الروايات من «أنّ دم المسلم حرام على مسلم آخر»، بمعنى أنّ على كلّ إنسان أو كلّ مسلم أن يراقب ويحترم دم المسلم الآخر. فالقاعدة تدلّ على حرمة هذا العمل، ولزوم دفع العوض في قبال عدم الاحترام؛ وبالنتيجة ليست القاعدة شاملة لصورة القتيل في الزحام، كما أنّها ليست شاملة لمن ينتحر ويقتل نفسه، فكما أنّ الدم في هذه الصورة لا يعطى في قباله العوض أو الدية، فكذلك في الزحام.

لأنّا نقول: الظاهر أنّ الموضوع لهذه القاعدة عبارة عن إراقة الدم بسبب غير نفس صاحب الدم، وبعبارة اُخرى يكون الموضوع نفس الدم الذي لم يحترم من ناحية الغير، سواء كان الغير إنساناً آخر أو كان الزحام سببا للقتل. والدليل على ذلك هو الانصراف بما أنّ هذه الروايات منصرفة عن هذا المورد فيبقى الباقي. فكيف كان لا يستفاد من الروايات خصوصيّة لوجود المسلم الآخر في هذه القاعدة.

هذا كلّه مضافا إلى التصريح في روايات القاعدة بأنّ المسلم في ذمّة اللّه‏، وذمّة رسوله فما هو معنى لذلك؟ أ ليس المراد أنّ جميع شؤون المسلم ولا أقلّ دمه في ذمّة اللّه‏ وذمّة الرسول؟ فمن الواضح أنّ دم المسلم إذا كان في ذمّة اللّه‏ يجب دفع دية دمه، إمّا من ناحية القاتل المعيّن، أو من ناحية العاقلة، ومع عدمهما لا يصحّ الذهاب إلى كون دمه هدرا، بل اللازم دفع الدية من مال اللّه‏، أو مال الرسول، أو من بيت المال.

فتحصّل أنّ قاعدة إحترام دم المسلم تدلّ بوضوح على أنّ دية المقتول في الزحام تكون على بيت المال.

ثانياً: الروايات الخاصّة الواردة في الجوامع الروائية.

أ: ذكر ابن قدامة صاحب الشرح الكبير أنّ رجلاً قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله، فقال عليّ(عليه‏‌‌السلام) لعمر:

يا أميرالمؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم فأتِ ديته من بيت المال[4].

ب: قال في شرح منتهى الإرادات:

الثالث: أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد بينهم قتيل، فظاهر كلام أحمد أنّ هذا ليس بلوث، فإنّه قال فيمن مات من الزحام يوم الجمعة: فديته من بيت المال، وهذا قول إسحاق. وروي ذلك عن عمر وعليّ(عليه‏‌‌السلام)[5].

فإنّ سعيداً روى في سننه عن إبراهيم قال:

قتل رجل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على من قتله. فقال علي(عليه‏‌‌السلام): «يا أمير المؤمنين لا تطل (لا يعطل ـ لا تبطل ن خ) دم امرئ مسلم إن علمت قاتله، وإلاّ فأعط ديته من بيت المال»[6].

والظاهر أنّ هذه الرواية نفس الرواية التي ذكرها ابن قدامة، وليست رواية اُخرى، والمستفاد من الرواية عدم جواز المماطلة أو عدم صحّة التعطيل في دم المسلم. ففي صورة عدم كون القاتل مشخصا، يلزم دفع الدية من بيت المال، ففي صورة كون الزحام سبب لقتل مسلم يجب دفع الدية من بيت المال، كما أنّ في صورة كون القاتل مجهولاً بمعنى أنّه قَتل ثمّ فَرَّ من موضع القتل، يجب دفع الدية من بيت المال. فلزوم أخذ الدية من القاتل إنّما هو في فرض كونه معيّنا مشخصا، سواء كان واحدا أو كونه متعدّدا.

نعم، الظاهر عدم شمول الروايات صورة كون الإنسان قاتلاً لنفسه، فهذا الفرض خارج عن الروايات، كما أنّه خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها.

لا يقال: المستفاد من الروايات حرمة دم المسلم فيما إذا لم يكن بنفسه سببا لتحقّق القتل، ففي مورد يعلم المسلم بقتله إذا وقع في معركة أو جماعة فلا دية له.

وبعبارة اُخرى: إذا علم المسلم أنّ الحضور في جمعة أو جماعة يكون موجباً لقتله فحضر ثمّ قتل، فلا دية له على بيت المال، من جهة أنّه أقدم على الضرر، والإقدام على الضرر رافع للضمان.

نقول: نعم، هذا صحيح، ولكن هذا منحصر بصورة العلم، ولا يشمل صورة الاحتمال في كلّ جماعة كثيرة ضخمة عزيزة، كما أنّ الحضور في عرفة الذي هو من مظانّ تحقّق الجرح أو القتل هو مورد الرواية المذكورة، فتدلّ الرواية على خروج صورة العلم.

هذا، والصحيح أن يقال بأنّ الرواية مطلقة شاملة لصورة العلم أيضا، ولكن صورة العلم تخرج بالأدلّة الدالّة على عدم وجود الضمان في صورة الإقدام على الضرر، فتدبّر.

ثالثاً: قد ورد في كلمات فقهائهم أنّ المسلمين يرثون من لا وارث له[7]، فيمكن أن يدّعى وجود الملازمة العرفية بأنّه كما أنّهم يرثون من لا وارث له فكذلك أنّ عليهم دية المقتول الذي لا يوجد له قاتل معيّن، كالمقتول في الزحام، فذلك من جهة القاعدة العقلائية الدالّة على أنّ من له الغُنم فعليه الغرم.

رابعاً: لنا أن ندّعي أنّ اللازم على كلّ دولة، حفظ النفوس والمراقبة عنهم، وإعطاء العوض في صورة تحقّق الجرح أو القتل، بمعنى وجود التزام عقلائي من ناحيّة كلّ دولة تعطي التأشيرة إلى أجنبيّ على تعهّدهم بحفظ تلك النفوس والالتزام بأمنهم واحترامهم، ومقتضى ذلك دفع الغرامة في قبال تلفهم، فهذا الأمر نظير عقد التأمين بين الدولة والمسافرين إلى مملكته.

خامساً: إنّ الحنابلة في ضوء مبانيهم في اُصول الفقه، يعتبرون المصلحة من مصادر الاستنباط والإجتهاد، والمصادر الفقهية عندهم عبارة عن القرآن والحديث المتصل إلى النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وفتاوى الأصحاب والحديث المرسل والضعيف والقياس والإستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرايع[8].

كما أنّهم يقدمون المصلحة على النصّ المعتبر الشرعي في المعاملات فيقولون: إذا كان الجمع بين الأدلّة النقلية القطعية والمصلحة متعذّر، فتقدّم المصلحة[9].

وبناء على ذلك فقد صرّحوا بالرجوع إلى بيت المال في موارد متعدّدة، وعلّلوه بوجود المصلحة؛ فقد ورد في الشرح الكبير[10] لابن قدامة، نقلاً عن بعض أنّه يدفع من بيت المال، لأنّه من المصالح.

ولا شكّ أن دفع الدية من بيت المال بالنسبة إلى المقتولين في منى من أوضح موارد المصلحة، فيجب على الدولة السعودية أن تدفع الدية من أجل وجود المصلحة.

فثبت من مجموع ذلك أنّ المقتولين في حادثة منى في السنة السابقة تكون ديتهم على الدولة السعودية على حسب مبانيهم الفقهية.

------------------------------
[1] صحيح مسلم 4: 1577 ح 2564، سنن ابن ماجة 4: 359 ح3933، ولم نعثر عليه في صحيح البخاري.

[2] صحيح مسلم 1: 58 ح23.

[3] صحيح البخاري 1: 118 ح391.

[4] الشرح الكبير 9: 649.

[5] لم نعثر عليه لا في منتهى الإرادات، ولا في شرحه، بل العبارة بعينها مذكورة في الشرح الكبير لابن قدامة 10: 11.

[6] حكى عنه في الشرح الكبير لابن قدامة 10: 11، ولكن لم نعثر عليه في سنن سعيد بن منصور.

[7] الشرح الكبير لابن قدامة 9: 649 ـ 650.

[8] معجم مصطلحات أصول الفقه: 412 ـ 415.

[9]  راجع أثر المصلحة في التشريعات: 175 وما بعدها.

[10] الشرح الكبير لابن قدامة 4: 494.


برچسب ها :