حكم قتل المرتد (شبهات و ردود)

۲۷ آبان ۱۳۹۰

۱۷:۵۴

۴۱

چکیده :

أصدر الإمام الخميني (رضوان اللّه‏ تعالى عليه) حكما يقضي بارتداد سلمان رشدي، ولزوم قتله وإهدار دمه، ثمّ أصدر مرجع الشيعة الكبير سماحة آية اللّه‏ العظمى الحاج الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني رحمه‏الله من بعده حكما يقضي بلزوم قتل رافق تقي وإهدار دمه؛ لصدق عنوان الارتداد وسبّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).
وقد وصلتني أخيرا مجموعة من الرسائل، جاء أحدها من أحد الأشخاص ممّن له تاريخ طويل وباع في الحوزة العلميّة، وله مؤلّفات عديدة أيضا، ورد فيها بعض النقاط العلميّة والإشكالات الفقهيّة حول حكم قتل المرتد، ولم تكن هذه اُمورا جديدة، بل هي إشكالات قديمة.
نشست های علمی

حكم قتل المرتد (شبهات وردود)
محمد جواد الفاضل اللنکراني


قال الإمام أمير المؤمنين علي(عليه‏‌‌السلام):
وقد ترون عهود اللّه‏ منقوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون[1].

أصدر الإمام الخميني (رضوان اللّه‏ تعالى عليه) حكما يقضي بارتداد سلمان رشدي، ولزوم قتله وإهدار دمه، ثمّ أصدر مرجع الشيعة الكبير سماحة آية اللّه‏ العظمى الحاج الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني رحمه‏الله من بعده حكما يقضي بلزوم قتل رافق تقي وإهدار دمه؛ لصدق عنوان الارتداد وسبّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وقد وصلتني أخيرا مجموعة من الرسائل، جاء أحدها من أحد الأشخاص ممّن له تاريخ طويل وباع في الحوزة العلميّة، وله مؤلّفات عديدة أيضا، ورد فيها بعض النقاط العلميّة والإشكالات الفقهيّة حول حكم قتل المرتد، ولم تكن هذه اُمورا جديدة، بل هي إشكالات قديمة.

لقد كنت أتوقّع من هذا الشخص أن يطرح نقاطا جديدة واُمورا مستحدثة في ميدان البحث والنقاش، لتكون أبحاثا جادّة.

كما أعتذر عن عدم الإجابة على أيّ من الرسائل الواردة بنحو مستقل، فارتأيت أن اُجيب بجواب عامّ وشامل، آملاً أن يكون لكلّ من له قلب أو سمع رهن الدين والمنطق والاستدلال ليعثروا على الحقيقة، ويذعنوا لها، فيسلّموا تسليما.

وأرى من اللازم هنا أن اُشير إلى هذه النكتة وهي: أنّ كلّ إنسان مؤمن أو مسلم لا يسرّ لانحراف إنسان آخر أو لسوء عاقبته، ولا يسرّ لقتل إنسان بما هو إنسان أبدا، بل إنّ ما يوجب السرور والفرح هو تطبيق أحكام اللّه‏، والطاعة لأوامره.

والنقطة الهامّة التي وردت في عبارات الأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام)، وخاصّة الإمام الحسين(عليه‏‌‌السلام) باعتبارها أحد أهمّ أهداف الدين وغاياته هي: إقامة الحدود الإلهيّة التي تمّ التأكيد عليها، ويستتبعها بركات مادّية ومعنوية عديدة.

روى القطب الراوندي رحمه‏الله في لبّ اللباب عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أنّه قال: «حدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة ستّين سنة»[2].

وأقول بكلّ صراحة لكلّ المسلمين والبشرية قبل بيان الجواب التفصيلي: بأنّ وجوب قتل المرتد هو من جملة الأحكام التي لم يتردّد فيها أحد من الفقهاء من المتقدّمين والمتأخّرين، وهي محلّ وفاق الشيعة والسنّة أيضا، وقد تردّد عدد قليل جدّا من العلماء في الأعوام الأخيرة، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ولا يمكن مقارنتهم بمئات الفقهاء العظماء من القدماء والمتأخّرين.

إنّ هذا الحكم الذي سنفصح عنه بالتوضيح حكم ضروري، وأهل الاجتهاد يعلمون أنّه لا سبيل للاجتهاد في الضروريات.

إنّنا نعلن للجميع وبصوت عال، وبكلّ اعتزاز وفخر أنّ الذي له قيمة وحقيقة هو قانون اللّه‏، ولا قيمة لأيّ قانون ومنشور أمامه، ولا يمتلك أيّ أحد أو جماعة صلاحية التشريع، بل اللّه‏ وحده هو القادر على سنّ القوانين للبشر، وعلى المسلمين في العالم أن يعلموا أنّ وجوب قتل المرتد قانون إلهي مسلّم، به تمّ تنفيذه في عصر الرسول(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وأمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) والعصور التي تلتهما.

وسنبيّن بشكل موجز هنا المحاور العلمية المختلفة في هذا البحث، ويمكن تصنيفها بشكل مضغوط إلى ستّة محاور، وهي كما يلي:

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن.

المحور الثاني: قتل المرتد المستفاد من الروايات.

المحور الثالث: قتل المرتد ومسألة إشاعة الفوضى.

المحور الرابع: هل أنّ حكم قتل المرتد موجب لوهن الدين؟

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟

المحور السادس: هل يتنافى وجوب قتل المرتد مع رحمة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)ورأفته؟

المحور الأوّل: قتل المرتد المستفاد من القرآن

1 . ظنّ البعض أنّ حكم قتل المرتد لا يستند إلى أيّ ثوابت ونصوص قرآنية، بل صرّحوا أكثر من ذلك وقالوا: أنّ هذا الحكم يتعارض مع روح القرآن، ويبدو أنّ هذا التصوّر كان قد نشأ في أوساط بعض أهل السنّة.

ونبيّن هنا مقدّمة وهي: صحيح أنّه لا يوجد آية في القرآن الكريم تصرّح بوجوب قتل المرتد، وإن أردنا الاستدلال بكتاب اللّه‏ وحده على وجوب قتل المرتد، وترك الروايات والإجماع بل الضرورة، فسيكون الاستدلال صعبا ومشكلاً، ولكن ينبغي التوجّه إلى عدّة مطالب:

المطلب الأوّل: ألم يستدلّ فقيه أو مفسّر في طول التاريخ لهذا الحكم بالقرآن الكريم؟ تشير عبارات المنكرين لحكم الارتداد لهذا المطلب، وهو أنّه لم يستدلّ أحد من أصحاب الرأي والنظر في طول التاريخ بالقرآن الكريم على وجوب قتل المرتد، وتنشأ هذه الذهنية من عدم الدقّة الكاملة في الآيات القرآنية من قبل بعض هؤلاء المخالفين، أو قلّة اطّلاع البعض، أو الضعف العلمي لآخرين منهم.

ولإيضاح هذا المطلب ينبغي القول:

الإيضاح الأوّل: يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة 54 من سورة البقرة استحقاق المرتد للقتل، قال تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ».

اتّجه كثير من بني إسرائيل بعد النجاة من جيش فرعون، والغلبة عليهم، وذهاب موسى إلى طور سيناء لأخذ الألواح، إلى عبادة عجل السامري، فخرجوا عن التوحيد، فقال لهم موسى(عليه‏‌‌السلام): يا قوم، إنّكم ظلمتم أنفسكم بسبب هذا الانحراف، فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم.

والمراد من هذا القتل ليس قتل النفس، ومحاربة النفس، والأهواء الشهوانية، بل المراد القتل الحقيقي الذي يعني إزهاق الروح، ومن الواضح أنّ مسألة القتل تمّ طرحها من قبل اللّه‏ تبارك وتعالى؛ وسبب ذلك هو ارتداد بني إسرائيل بعد مشاهدتهم كلّ تلك المعاجز والآيات الإلهية.

ويستفاد من الآية الشريفة:

أوّلاً: أنّ الارتداد بين اليهود موضوع للقتل، وعقوبة هذا الفعل هو القتل.

ثانيا: مع ملاحظة إجراء استصحاب أحكام الشرائع السابقة يمكن إثبات هذا الحكم في الشريعة الإسلامية أيضا، وترك مسألة النسخ. نعم، إن لم يرتض أحد هذا الاستصحاب فعليه الاكتفاء بالأمر الأوّل، وهذا المقدار كاف لتقريب المدّعى.

ذكر الآلوسي في تفسير روح المعاني:

توبتهم هو القتل، إمّا في حقّهم خاصّة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى(عليه‏‌‌السلام)[3].

وروي في ذيل الآية عن علي(عليه‏‌‌السلام): أنّ بني إسرائيل سألوا موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام، فقالوا:

يا موسى، ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضا، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفا، فأوحى اللّه‏ إلى موسى، مرهم فليرفعوا أيديهم، فقد غفرت لمن قتل، وتبت على من بقي[4].

أمّا النقطة المتبقّية هنا فهي أن نقول: إنّ هذه الآية الشريفة موردها عبادة العجل والارتداد الجماعي والفئوي، وعليه فلا يمكن استفادة حكم الارتداد الشخصي منها. نعم، يمكن بقرينة «فَتُوبُوا» استفادة أن تكون التوبة واجبة بنحو مستقل على كلّ أحد منهم ويكون حكم وجوب القتل لارتداد كلّ واحد منهم مستقلاً، والنتيجة أنّ ارتداد كلّ شخص هو موضوع لاستحقاق القتل.

الإيضاح الثاني: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير في ذيل الآية 217من سورة البقرة: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِى الدُّنْيا واْلآخِرَةِ وأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ»:

أمّا حبوط الأعمال في الدنيا فهو أنّه يقتل عند الظفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقّ من المؤمنين موالاة، ولا نصرا ولا ثناء حسنا، وتبين زوجته منه، ولا يستحقّ الميراث من المسلمين[5].

من الواضح أنّ الفخر الرازي استفاد هذه الأحكام من إطلاق حبط الأعمال في الدنيا، ويشمل إطلاقه أيضا الشهادتين، والإسلام الذي كان يجعله سابقا في دائرة الطهارة والاحترام بما فيه احترام دمه، فبحبط الأعمال يسقط كلّ ما قام به ـ لفظا وعملاً ـ عن الاعتبار.

روي في بعض الروايات المعتبرة عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه‏، والتصديق برسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث[6].

مفهوم هذه الرواية هو أنّه مع عدم الشهادة لم تكن الدماء محقونة، وتنتفي المناكح والمواريث.

وقال المحقّق الخوئي رحمه‏الله في التنقيح:

ورد في غير واحد من الروايات من أنّ المناط في الإسلام، وحقن الدماء، والتوارث، وجواز النكاح، إنّما هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّ محمّدا رسوله، وهي التي عليها أكثر الناس[7].

ولعلّ الشيخ الطوسي رحمه‏الله من هذه الجهة أفتى بأنّ المسلم لو حجّ ثمّ ارتدّ فحجّه باطل، ولو كنّا نحن وإطلاق هذه الآية الشريفة فالحقّ مع الشيخ الطوسي رحمه‏الله.

وينبغي أن نجيب في هذا الاستدلال عن سؤالين:

السؤال الأوّل: لو قال أحد: إنّ معنى حبط الأعمال فقط هو بطلان الأعمال من حيث الأجر والثواب الاُخروي، ولا ملازمة له مع العقوبة والجزاء الدنيوي.

فنقول في الجواب: إنّ هذا بعيد عن الإنصاف؛ لأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى جعل كلّ الأعمال كالعبادات مثل الصلاة، والصوم، والنكاح أيضا، وسائر الاُمور التي لها صبغة دينية، وكذلك الشهادة على الإسلام والتوحيد والنبوّة جعلها باطلة ومنتفية بسبب الارتداد، وجعل بطلانها في الدنيا والآخرة معا، ولازم هذا المطلب أن نقول: إنّ حبط الأعمال في الدنيا بمعنى العقوبة والجزاء الدنيوي.

وبعبارة اُخرى: ليس المقصود من حبط الأعمال فقط إسقاط أعمال البرّ التي لها أجر اُخروي، لكي نقول: إنّ الحبط يعني عدم ترتّب الأجر الاُخروي على الأعمال، بل الحبط بمعنى أنّه لم يقم بأيّ عمل، وليس له أيّ شهادة، وأنّ ما كان سببا لاحترامه لحدّ الآن يمكن اعتباره كالعدم، وبانتفائه فلا يبقى له احترام، ونفس عدم الاحترام موضوع لاستحقاق العقوبة والجزاء في هذه الدنيا.

وبعبارة اُخرى: لو سلّمنا أنّ الآية الشريفة وإطلاق حبط الأعمال في الدنيا لا ظهور لهما في خصوص القتل، ولكن نعتقد أنّ أصل العقوبة والجزاء الدنيوي هو معنى مطابقي أو لازم عادي لها، فادّعاء المخالفين لوجوب قتل المرتد بأنّ القرآن الكريم لم يبيّن أيّ عقوبة وجزاء دنيوي للمرتد، ولا آية تدلّ بالصراحة أو بالظهور على هذا الأمر، مخدوش بهذا الاستدلال.

ورد في تفسير كنز الدقائق: «لبطلان ما تخيّلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية»[8]، فهو أيضا فهم فوات الفوائد الدنيوية من الآية، وهذه لها ملازمة عادية بالعقوبة والجزاء الدنيوي، يعني: حبط العمل في الدنيا والآخرة، فله هذا المعنى الواسع.

وبالنسبة لشرب الخمر والزنا وبعض المحرّمات الاُخرى ورد التعبير في الروايات بحبط العمل، أمّا التعبير بحبط العمل في الدنيا والآخرة فظاهرا لم يرد إلاّ في الارتداد، ويشمل إطلاقه مثل هذه الآثار.

السؤال الثاني: قيّدت هذه الآية المباركة بلفظ «الموت»، فقال جلّ وعلا: «فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ»، ولهذا القيد ظهور في أنّ حبط الأعمال في الدنيا والآخرة يكون عند ارتداد الشخص، وبقاء الارتداد حتّى وفاته، ومغادرة الدنيا وهو على حالة الكفر. فلا يستفاد من الآية الشريفة أنّ مجرّد الارتداد سبب لحبط الأعمال، وترتّب الآثار الدنيوية والاُخروية.

الجواب: أوّلاً: ذكر في بعض آيات القرآن الكريم أنّ مجرّد الشرك والارتداد بلا قيد الموت سبب لحبط الأعمال، كقوله تعالى: «وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ»[9]، وقوله تعالى: «وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاْلإيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ»[10]، وقد ثبت في محلّه من مباحث علم الاُصول: عدم سريان قاعدة حمل المطلق على المقيّد في الموارد التي يكون العنوانان مثبتين، وليس بينهما تناف، والنتيجة: أنّ الآية محلّ البحث تبيّن مصداقا من مصاديق المرتد، وأمّا عنوان الموت في حال الكفر فلا خصوصية له في مطلوب ومقصود اللّه‏ تعالى.

ثانيا: لو سلّمنا في هذا المورد بسريان قاعدة المطلق والمقيّد، فيكون هذا في حال ما لو كان القيد عنوانا احترازيا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ هذا القيد كناية عن عدم التوبة، يعني: شمول هذه الأحكام لمن ارتدّ ولم يتب بعد ذلك.

ثالثا: إذا أردنا وضع هذه الكلمات بعنوان القيد فلا يكون معنى لعنوان الحبط في الدنيا، مع أنّ للآية الشريفة ظهوراً في أنّ المرتد في هذه الدنيا مشمول لحبط الأعمال. فحتّى يكون لعنوان الحبط فعليّة، علينا أن نقول: إنّ تمام الملاك هو الارتداد وعدم التوبة، وإن قلنا: إنّه لا يمكن الحكم عليه إلى حين الموت ووصول الأجل، فلا معنى حينئذٍ لحبط الأعمال في الدنيا.

الإيضاح الثالث: قال شمس الدين السرخسي في كتابه المبسوط في باب المرتدين:

والأصل في وجوب قتل المرتدين قوله تعالى:«أَوْ يُسْلِمُونَ»، قيل: الآية في المرتدين[11].

فقد استدلّ بالآية 16من سورة الفتح على وجوب قتل المرتدين.

الإيضاح الرابع: ذكر الشهيد الثاني رحمه‏الله في مسالك الإفهام بعد عدّه الردّة من أفحش أقسام الكفر وأغلظها حكما، فأشار إلى آيتين يظهر منهما الاستدلال بذلك، هما قوله تعالى: «وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِى الدُّنْيا واْلآخِرَةِ»[12]، وقوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِى اْلآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ»[13]، ثمّ تمسّك بالنبويّ الشريف: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس»[14]،[15] والظاهر أنّه استفاد من الآيتين لزوم القتل وإن لم يصرّح بذلك.

الإيضاح الخامس: مضافا إلى إطلاق حبط الأعمال، يمكن استفادة المدّعى أيضا من قوله تعالى: «وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»[16]. وفي تفسير لفظ «الفتنة» الوارد في الآية قولان: فسّرها البعض بالكفر، والبعض الآخر بالارتداد، يعني: الفتنة هي ارتداد يتبعه الكفّار، يريدون به إرجاع المسلمين عن دينهم، وهي أشدّ بكثير من قتل ذلك الشخص (الحضرمي) الذي تشير إليه الآية الشريفة.

وعلى هذا، الفتنة اسم مصدر لا مصدر، فيكون الارتداد أسوأ وأشدّ وأقبح بكثير من القتل الاعتيادي. ألا يمكن استفادة جواز قتل المرتد من هذا التعبير؟ فإذا استتبع القتل الاعتيادي جواز قتل القاتل شرعا وعقلاً وعقلائيا بعنوان القصاص، فكيف بالارتداد الذي هو أشدّ بكثير منه لا يمكن أن يمتلك قابلية استتباعه هذا الجواز؟!

ولابدّ من الالتفات إلى أنّنا لا نريد استفادة فعليّة وجوب القتل من الآية الشريفة، بل إنّ هذا المقدار وهو أن يكون الارتداد له قابليّة أن يصبح موضوعا لاستحقاق القتل، فأيّ استبعاد في جواز قتل المرتد المستفاد من كلام النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أو الأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام) ـ كما سنشير إليه لاحقا ـ المتّخذ من هذه الآية الكريمة؟!

وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ كلّ ارتداد هو فتنة حسب هذه الآية، فلا ينبغي تصوّر أنّ بعض أنواع الارتداد فتنة، وبعضه ليس فتنة، وأنّ ما عبّرت به الآية الشريفة عن الارتداد بلفظ «الفتنة» إنّما هو حكاية عن عمق القبح في هذا الأمر.

الإيضاح السادس: مضافا إلى ما تقدّم، يمكن الاستدلال بآية اُخرى من القرآن، وهو قوله تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللّه‏َ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِى اْلأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا»[17].

قال الشيخ الطوسي في المبسوط:

وقال قوم: المراد بها المرتدون عن الإسلام إذا ظفر بهم الإمام عاقبهم بهذه العقوبة؛ لأنّ الآية نزلت في العرينيين؛ لأنّهم دخلوا المدينة فاستوخموها فانتفخت أجوافهم واصفرّت ألوانهم[18].

وهم قوم أسلموا ثمّ مرضوا فلم يقدروا على البقاء في المدينة، فأمرهم النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أن يخرجوا إلى لقاح إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك فصحّوا، فقتلوا الراعي وارتدّوا، واستاقوا الإبل، فبعث النبيّ عشرين رجلاً في طلبهم، فأخذهم وقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وطرحهم في الحرة، حتّى ماتوا، وكان ذلك لأجل الارتداد.

ورد في حاشية كتاب التاج الجامع للاُصول الوارد في أحاديث النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بعد ذكر هذه القضية: أنّ شأن نزول هذه الآية هم المرتدون، وهذا نظر جمهور العلماء سلفا وخلفا[19].

الإيضاح السابع: الدليل الآخر حسب بعض الروايات الواردة عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) في استشهاده بالآية 137من سورة النساء لبيان حكم قتل المرتد، فقد ورد في كتاب دعائم الإسلام عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) عن آبائه الكرام(عليه‏م‌‌السلام) :

أنّ عليا(عليه‏‌‌السلام) كان لا يزيد المرتد على تركه ثلاثة أيّام يستتيبه، فإذا كان اليوم الرابع قتله من غير أن يستتاب، ثمّ يقرأ: «إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللّه‏ُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»[20].[21]

الاستشهاد بهذه الآية دليل واضح على استفادة الإمام(عليه‏‌‌السلام) وجوب قتل المرتد بنحو من الآية الشريفة. ويمكن أن لا يتّضح لنا كيفيّة الاستدلال، ولكن المعلوم هو أنّهم فهموا أصل وجوب القتل من الآية الشريفة. نعم، يحتمل استفادة ذلك من إطلاق عنواني عدم المغفرة الإلهيّة ـ يعني: لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ وعدم الهداية الإلهيّة.

وإذا قيل: إنّ الآية الشريفة تدلّ على عدم قبول توبة مثل هؤلاء الأشخاص فقط.

فنقول في الجواب: إنّ هناك ملازمة بين هذا العنوان، يعني: عدم قبول التوبة، ومسألة القتل؛ لأنّه ليس عندنا في الفقه مورد واحد لا يقبل فيه توبة المجرم، ومع ذلك يترك ذلك الشخص على حاله.

ونتيجة النقاط المذكورة: هو ادّعاء البعض ظهور آياتٍ من القرآن الكريم في لزوم معاقبة المرتد وقتله، وأنّ المنتقدين لهذا الحكم عندما يقولون: إنّ الآية إمّا أن تكون نصّا أو الخبر القطعي نصّا بعيد عن الفقاهة والاجتهاد.

وواضح لكافّة أهل النظر: أنّ من أهمّ مباحث علم الاُصول هو إثبات حجّية الظواهر الأعمّ من ظاهر القرآن الكريم والروايات.

وثبت أيضا لدي الاُصوليين: أنّ إطلاق الألفاظ هو أحد مصاديق الظواهر، ولم ير عالم لحدّ الآن لزوم النصّ في استنباط الأحكام.

وعلى كلّ حال، لا يمكن القطع بنفي الاستدلال بالقرآن الكريم على قتل المرتد، وإن كان الاستدلال بذلك وحده مشكلاً.

وبعبارة اُخرى: إن دلّت الروايات بوضوح على الحكم، فبإمكاننا استفادة التأييد من هذه الآيات على الأقلّ.

المطلب الثاني: الذين يدّعون عدم ملاءمة مثل هذا الحكم مع روح القرآن، فينبغي أن يجيبوا:

أوّلاً: كيف يكون لهم مثل هذه الدعوى الكلّية؟! فادّعاء معرفة روح القرآن أمر ثقيل وعسير جدّا، ومثل هذا المطلب خارج عن اُسلوب الاستدلال أصلاً.

وبعبارة اُخرى: أنّكم تمسّكتم بشيء لا يمكن الأخذ به، وفي المقابل يمكننا ادّعاء ملاءمة هذا الحكم مع روح القرآن، وعلى كلّ فإنّ التمسّك بروح دليل لا روح له لا ينفع ذلك أيّ طرف من الأطراف.

ثانيا: لو دقّقنا في الآثار المترتّبة على المرتد في القرآن الكريم، فسنفهم جيّدا استحقاق المرتد للعقوبة الدنيوية الشديدة، ففي القرآن الكريم ذكر ثمانية آثار للمرتد:

الأثر الأوّل: حبط الأعمال في الدنيا والآخرة.

الأثر الثاني: أنّه في الآخرة من الخاسرين، وليس أمامه طريق للخلاص.

الأثر الثالث: لن يغفر اللّه‏ له أبدا.

الأثر الرابع: سلب التوفيق الإلهي منه، قال تعالى: «كَيْفَ يَهْدِى اللّه‏ُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ»[22].

الأثر الخامس: دخوله في جهنّم.

الأثر السادس: خلوده في نار جهنّم.

الأثر السابع: الشيطان يزيّن لهم أفعالهم القبيحة والسيّئة، ويبتليهم بطول الأمل.

الأثر الثامن: على المرتد لعنة اللّه‏ والملائكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة، قال تعالى: «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه‏ِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ»[23].

وهذه الآثار تدلّ على كون الارتداد ذنبا في نظر القرآن الكريم، بل ذنب ومعصية كبيرة، وأنّه من أشدّ الكبائر أيضا.

وهل يمكن قبول أنّ استحقاق أشدّ العقوبة والجزاء الدنيوي للمرتد لا يلائم روح القرآن، مع وجود هذه الآثار الشديدة الاُخروية وبعضها الدنيوية؟! إنّ من يتحدّث عن الحرّية واحترام أيّ نوع من الأفكار وعقائد الآخرين، كيف يوجّه هذه الآثار الاُخروية الشديدة للارتداد؟!

وبعبارة اُخرى: بناءً على هذه الرؤية، ليس للارتداد قابلية أن يكون موضوعا للعقوبة والجزاء الدنيوي، ولا صلاحية له بأن يكون موضوعا للعقوبة والجزاء الاُخروي. وهؤلاء يطرحون الارتداد تحت عنوان حرّية الفكر، وأنّه حقّ بشري، وحينئذ فلا يمكن تصوّر أيّ قبح فيه، ومع عدم القبح لا يكون له قابلية العقوبة الدنيويّة ولا الاُخروية.

والنتيجة: عليهم أن ينكروا العقوبات الاُخروية للارتداد أيضا.

وإن قلتم: إنّنا نقبل القبح في نفسه، فحينئذ أيّ استيحاش لهم من العقوبة الدنيوية.

إذن يمكن أن يقال بوجود ملازمة قهرية وعادية بين الآثار الشديدة المذكورة للمرتد في القرآن الكريم، مع عقوبته ومجازاته الدنيوية، وما ورد عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام) في قتل المرتد مستفاد من هذه الملازمة، أي: أنّهم استفادوا هذه الملازمة من آيات الارتداد.

المطلب الثالث: ينبغي السؤال ممّن يرفع صوته عاليا ويطرح مسألة خلوّ القرآن الكريم من الجزاء الدنيوي بالنسبة إلى المرتد هل تقبلون الحدود الاُخرى التي صرّح بها القرآن الكريم؟ فهل تقبلون حدّ الزنا والسرقة والمحارب والمفسد في الأرض المصرّح به في القرآن الكريم؟ ومن المسلّم أنّ من يرفع شعار الحرّية ويتّخذ منشور حقوق الإنسان معلّما له، ويبدي رأيه في ذلك، فهؤلاء ينكرون مثل هذه الحدود أيضا. وإن لم ينكروها فعليهم أن يوضّحوا كيف يقبلونها وينكرونها في المرتد؟! مع أنّ الارتداد أقبح وأشنع بكثير من الزنا والسرقة.

المطلب الرابع: أوّلاً: حتّى لو قبلنا عدم إشارة القرآن الكريم لاستحقاق المرتد للعقوبة والجزاء الدنيوي، إلاّ أنّ هذا لا يوجّه أيّ ضربة لهذا الحكم؛ لأنّ كثيرا من الأحكام الفقهية لم ترد في القرآن الكريم، فهناك آلاف الأحكام في مسألة الصلاة والزكاة والحجّ و... لم ترد في القرآن الكريم.

ثانيا: لا يمكن تصوّر حقيقة للقرآن الكريم منفصلة عن كلام النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)والأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام)، فلا يمكن الوصول إلى حقيقة القرآن الكريم دون مراجعة سنّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة الطاهرين(عليه‏م‌‌السلام)، قال اللّه‏ تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»[24]، فينبغي أن يكون بيان القرآن من قبل النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وأهل البيت(عليه‏م‌‌السلام)، وقال اللّه‏ تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ»[25]. يعني: أنّ على المسلمين متابعة ما بيّنه النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بعنوان أنّه تفسير إلهيّ أو بأيّ عنوان آخر. وبناء على هذا لو قال النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)في حديث أو أحاديث بوجوب قتل المرتد، فإنّ العمل به في الحقيقة عمل بالقرآن، ويصدق هذا الأمر أيضا بالنسبة للأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام) الذين هم القرآن الناطق، والمفسّر الحقيقي للقرآن.

والالتفات إلى حديث الثقلين والتعبير بقوله: «لن يفترقا» يوضّح المطلب لأهل الفهم والنظر تماما، وحسب هذا التعبير لا انفصال بين القرآن الحقيقي والعترة، وليس له قابلية الانفكاك، كما أنّ العترة الحقيقية لا تنفصل عن القرآن، وليس لها قابلية الانفصال، وفي ضوء حديث الثقلين فالاستدلال بالقرآن دون التوجّه والالتفات إلى الروايات والأخبار وبالعكس، باطل ومردود.

المحور الثاني: قتل المرتد المستفاد من الروايات

بعد دراسة أدلّة لزوم قتل المرتد من منظار القرآن الكريم ينبغي دراسة هذا المطلب بإجمال من منظار الروايات.

المخالفون لقتل المرتد لهم عدّة شبهات أو توهّمات بالنسبة للروايات:

التوهّم الأوّل: ندرة الروايات الدالة على وجوب قتل المرتد.

التوهّم الثاني: أنّ هذه الروايات معنونة بالخبر الواحد، وبما أنّ الدليل المهمّ لحجّية الخبر الواحد هو بناء العقلاء، فلو راجعنا بناءهم فلا نراهم يعملون في الاُمور المهمّة ـ  كالقتل ـ بالخبر الواحد.

أمّا الجواب عن التوهّم الأوّل:

ألف: ذكر بحث المرتد في الفقه والروايات في خمسة موارد:

كتاب الطهارة، كتاب النكاح، كتاب الصيد والذباحة، كتاب الإرث، وكتاب الحدود في حدّ المرتد، فلو راجع الإنسان بنحو الإجمال ما ورد من روايات في هذه الكتب المذكورة في مورد المرتد، لفهم بوضوح أنّ عدد الروايات الواردة في المرتد قد تجاوزت العشرين رواية.

فقد روى ثقّة الإسلام الكليني رحمه‏الله في كتاب الكافي (7: 256) باب حدّ المرتد، ثلاثا وعشرين رواية، وأكثر هذه الروايات صحيحة، واستدلّ بها الفقهاء في الأبواب الخمسة المذكورة، وهذه الروايات مضافا إلى صحّة سندها متحقّق فيها مبنى المحقّقين في حجيّة الخبر الواحد وهو الوثوق بالصدور، وبلغت إلى حدّ التواتر المعنوي والإجمالي.

وقد قبل الفقهاء العظام في موارد اُخرى في الفقه مع وجود عشر روايات على الأقل في موضوع واحد عنوان التواتر، فكيف الأمر إذا بلغت الروايات ثلاثا وعشرين رواية، وإذا وصلت الرواية حدّ التواتر فلا حاجة بعد ذلك إلى دراسة السند، وهذا أمر واضح ومسلّم به عند الفقهاء.

ب: لايمكن للفقيه في عملية الاستنباط والاستدلال بالروايات النظر إلى بعض الروايات، بل عليه تحليل ودراسة كافّة الطوائف المتعلّقة بالموضوع، فإذا درسنا موضوع المرتد في الروايات، فسنواجه عدّة طوائف:

الطائفة الاُولى: الروايات الدالّة على وجوب قتل المرتد صريحا:

ألف: صحيحة محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) عن المرتد، فقال:

من رغب عن الإسلام، وكفر بما أنزل اللّه‏ على محمّد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت منه امرأته، ويقسّم ما تركه على ولده[26].

ب: الحديث الخامس من هذا الباب، وهي صحيحة جميل بن درّاج عن أحدهما عليهماالسلام: في رجل رجع عن الإسلام، قال(عليه‏‌‌السلام): «يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل»[27]. صرّح في هذا الحديث بأصل استحقاق قتل المرتد.

ج: الحديث العاشر من هذا الباب، عن الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام) قال: سألته عن مسلم تنصّر، قال: «يقتل ولا يستتاب»[28].

د: الحديث الحادي عشر من هذا الباب، عن عمّار الساباطي قال: سمعت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) يقول:

كلّ مسلم بين المسلمين ارتدّ عن الإسلام، وجحد محمّدا نبوّته، وكذّبه، فإنّ دمه مباح لكلّ من سمع ذلك منه[29].

ه : عن عبد اللّه‏ بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): إنّ بزيعا يزعم أنّه نبي، فقال(عليه‏‌‌السلام): «إن سمعته يقول ذلك فاقتله»[30].

و: ما ورد في كتب أهل السنّة عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) في حكم وجوب قتل المرتد أيضا.

روى في كتاب التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول عن النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)أنّه قال:

لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ اللّه‏، وأنّي رسول اللّه‏، إلاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة[31].

ثمّ قال: روى البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي هذه الرواية.

وقد صرّحت هذه الرواية عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بجواز قتل الإنسان في ثلاثة موارد، منها: من فارق دينه وارتدّ.

ثمّ نقل عن عكرمة: أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام) قتل جماعة رجعوا عن الإسلام.

وروي في كافّة كتب حديث أهل السنّة عدا صحيح مسلم عن ابن عباس، عن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أنّه قال: «من بدّل دينه فاقتلوه»[32].

الطائفة الثانية: الروايات الواردة في خصوص المرأة المرتدة، وهي تدلّ على عدم جواز قتلها، وتؤكّد على عدم قتل المرأة إذا ارتدّت، وتدلّ هذه الروايات جيّدا على أنّ هذا استثناء من حكم المرتد، وأنّ أصل وجوب قتل المرتد أمر مسلّم به.

الطائفة الثالثة: الروايات الدالّة على الحكم بالقتل على أصحاب الكبائر إن تكرّر منهم صدور الكبيرة، ولا شكّ في أنّ الارتداد من الذنوب الكبيرة، بل هو من أشدّ الكبائر. واتّفق الفقهاء على أنّ المرتد إن لم يقتل في المرّة الاُولى فيجب قتله في المرّة الثالثة أو الرابعة، واستدلّوا في هذا المورد برواية عن الإمام الكاظم(عليه‏‌‌السلام)أنّه قال: «أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة»[33]. نعم، كما أنّ الزاني إن اُقيم عليه الحدّ ثلاث مرّات، فارتكب ذلك الفعل مرّة رابعة فينبغي قتله، كذلك الأمر في مسألة الارتداد، كما صرّح جميل بن دراج بذلك أيضا في الحديث الخامس من هذا الباب.

والمقصود هو أنّ على الفقيه أن يلتفت إلى هذه الجهة أيضا، فإذا لم يكن لدينا فرضا رواية تدلّ بصراحة على لزوم قتل المرتد، أمكننا التمسّك بهذا النوع من الروايات الدالّة على قتل المرتد، ولو في حال التكرار أيضا.

الطائفة الرابعة: الروايات الدالّة على أنّ الشهادة على التوحيد ونبوّة النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)توجب حقن الدماء وحفظها وصحّة النكاح والمواريث، والمفهوم من هذه الروايات هو أنّ عدم الشهادة مساوق لانتفاء حقن الدماء، قال المحقّق الخوئي رحمه‏الله في التنقيح:

ورد في غير واحد من الروايات من أنّ المناط في الإسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النكاح إنّما هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه‏ وأنّ محمّدا رسوله[34].

ونتيجة هذه الطائفة هو انتفاء سبب حقن الدماء عمّن ارتدّ.

الطائفة الخامسة: الروايات الدالّة على أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام)أجرى في موارد حكم المرتد على بعض الأشخاص.

الرواية الاُولى: عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام):

أنّه أتي بمستورد العجلي، وقد قيل: إنّه تنصّر وعلّق صليبا في عنقه، فقال له قبل أن يسأله، وقبل أن يشهد عليه: ويحك يا مستورد، إنّه قد رفع إليّ أنّك تنصّرت، ولعلّك أردت أن تتزوّج نصرانية، فنحن نزوّجك إيّاها، قال: قدوس قدوس، قال: فلعلّك ورثت ميراثا من نصراني، فظننت أنّا لا نورثك، فنحن نورثك؛ لأنّا نرثهم ولا يرثوننا، قال: قدوس قدوس، قال: فهل تنصّرت كما قيل؟ فقال: نعم، تنصّرت، فقال أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام): اللّه‏ أكبر، فقال المستورد: المسيح أكبر، فأخذ أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)بمجامع ثيابه، فأكبّه لوجهه، فقال: طؤوه عباد اللّه‏، فوطؤوه بأقدامهم حتّى مات[35].

الرواية الثانية: عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

اُتي قوم أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) فقالوا: السلام عليك ياربّنا، فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها نارا، وحفر حفيرة اُخرى إلى جانبها وأفضى بينهما، فلمّا لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى حتّى ماتوا[36].

فلينتبه إلى أنّ مثل هذا الغلوّ هو من مصاديق الارتداد.

الرواية الثالثة: روي عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام) أنّه قال:

أتي أمير المؤمنين صلوات اللّه‏ عليه برجل من بني ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه فشهدوا عليه، فقال له أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام): ما يقول هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا، وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال: أما إنّك لو كذّبت الشهود لضربت عنقك وقد قبلت منك فلا تعد، فإنّك إن رجعت لم أقبل منك رجوعا بعده[37].

الظاهر من هذه الروايات وقوع مثل هذه الموارد في زمن حكومة أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)، وقد أجرى الإمام(عليه‏‌‌السلام) الحدّ في موارد عديدة، ولا قرينة عندنا تدلّ على أنّ صدور الأحكام في مثل هذه القضايا هي قضايا خاصّة وخارجية، أو ما اصطلح عليه أنّها قضية في واقعة، بل إنّ ظاهر هذه الروايات يدلّ على كون أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام)في مقام تطبيق الحكم الكلّي على المصداق.

وروي في كتب أهل السنة أنّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أصدر حكما بقتل جماعة ارتدّوا عن الإسلام، وقد أشرنا سابقا إلى هذا في هذه الرسالة، وراجع أيضا التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول[38].

ألاّ يمكن الاستنتاج بوضوح من مجموع هذه الطوائف أنّ المرتد محكوم بالقتل في الإسلام؟ ثمّ ألاّ يمكن فهم مسألة وجوب قتل المرتد من الروايات الواردة في تقسيم أمواله بين ورثته، واعتداد زوجته عدّة الوفاة بمجرّد الارتداد؟

والظاهر أنّ من ينكر قتله ينكر هذه الأحكام أيضا، يعني: أوّلاً: أنّهم لا يعتبرون الإسلام سببا لحفظ الدماء وحرمتها.

ثانيا: إنكارهم بينونة زوجته.

ثالثا: رفضهم تقسيم أمواله.

رابعا: اعتقادهم حلّية ذبيحته.

ويلزمهم أن ينكروا جميع الأحكام الثابتة للمرتد في الفقه، ولا يمكنهم أن ينكروا وجوب القتل فقط ويقبلون الباقي.

وفي رأينا لا يبقى مجال للشكّ ـ مع وجود هذه الطوائف المتعدّدة ـ في أنّ وجوب قتل المرتد هو من الأحكام المسلّم بها والقطعية في الدين الإسلامي. وينبغي الالتفات إلى أنّ هذه الروايات لم تنقل عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) وزمن حكومته فحسب أو خصوص زمن حكومة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، لكي يحتمل أنّ وجوب قتل المرتد هو حكم سياسي أو حكم مقيّد بزمن خاصّ، بل روي ذلك عن الأئمّة المعصومين(عليه‏م‌‌السلام) كالإمام الباقر والصادق والكاظم والرضا(عليه‏م‌‌السلام) أيضا.

ويكشف هذا الأمر عن أنّ حكم المرتد حكم دائمي ومستمرّ إلى يوم القيامة، وبيّنت هذه الروايات حكم المرتد على نحو القضية الحقيقية والقاعدة الكلّية.

أمّا الجواب عن التوهّم الثاني، وهو ما قيل: إنّ روايات قتل المرتد خبر واحد، ولا حجّية للخبر الواحد في الاُمور الخطيرة، فنقول:

أوّلاً: اتّضح أنّ روايات وجوب قتل المرتد هي في حدّ التواتر المعنوي، أو الإجمالي، وأنّها مفيدة للقطع.

ثانيا: على فرض كونها خبرا واحدا، فنقول في الجواب: لا فرق في حجّية الخبر الواحد بين الاُمور الخطيرة وغير الخطيرة، وهذا هو رأي كثير من فحول وأعاظم الفقهاء والاُصوليين، فقد عمل الفقهاء سواء المتقدّمين أو المتأخّرين من أوّل الفقه إلى آخره بالخبر الواحد الوارد في الدماء وغير الدماء، الأموال وغير الأموال، العبادات وغيرها، السياسات وغيرها، وتشهد كتبهم الفقهية بذلك. وقد بحثنا في أبحاث خارج الاُصول في بحث حجّية الخبر الواحد هذا المورد بالتفصيل، وهو موجود على موقعنا الإلكتروني[39].

ثالثا: صرّح الشيخ الطوسي رحمه‏الله في بحث وجوب قتل المرتد أنّ إجماع الاُمّة الإسلامية على ذلك[40]، يعني: ليس إجماع الشيعة والسنّة وحدهم، بل إجماع الاُمّة كلّها على ذلك، وهذا التعبير يجعل هذا الحكم في مرتبة الحكم الضروري، إذن ليس مستند هذا الحكم هو الخبر فقط، بل يضمّ إليه وجود مثل هذا الإجماع أيضا.

رابعا: ما هو ملاكنا في الفصل بين الاُمور الخطيرة عن غير الخطيرة؟ فقد استدلّ بأخبار الآحاد في مباحث الخمس والزكاة المتعلّقة بأموال الناس.

فهل أنّ تعيين تكليف هذا الحجم الكبير من الأموال لا يشمله عنوان الاُمور الخطيرة؟! ففي باب الزكاة الذي هو أمر قرآني مسلّم، لم تبيّن الشرائط والخصوصيات لدفع الزكاة في أيّ آية من القرآن، وأنّه في أيّ الموارد يعطي العشر؟ وأيّها يعطي الواحد من عشرين؟ فقد ثبت ذلك وحده بالخبر الواحد. ولم يثبت الذبح لمليوني حاجّ في منى إلاّ بالخبر الواحد «لا ذبح إلاّ في منى»، ولم يعمل الفقهاء بالخبر الثقة بعنوانه، بل هناك شروط اُخرى مطروحة، كعمل الفقهاء وخاصّة المتقدّمين منهم، وكذا عدم وجود المعارض، وبناءً على هذا أيّ إشكال في العمل بخبر الواحد الثقة في الاُمور المهمّة مع وجود مثل هذه الشروط؟! إذ مثل هذه الشروط متوفّرة في روايات قتل المرتد.

خامسا: ما تسمعوه في الفقه من احتياط الفقهاء في مورد الدماء والفروج والأموال فقد أثبتنا في محلّه أنّ كثيرا منهم لم يفتوا بوجوب الاحتياط، بل أفتوا بشدّة الرجحان والاستحباب الشديد[41].

سادسا: إذا لم يدلّ خبر من الأخبار، أو طوائف الروايات والآيات، أو الإجماع بصورة مستقلّة على المدّعى، فلا شكّ أنّها بمجموعها توجب اطمئنان الفقيه بالحكم.

المحور الثالث: هل قتل المرتد إشاعة للفوضى؟

استعرضت بعض البحوث والدراسات مسألة إشاعة الفوضى، أو تشجيع المؤمنين على نقض القوانين، وذكروا أنّ إثبات وتنفيذ أيّ حكم وخاصّة الأحكام التي تتعلّق بأرواح الناس إنّما هو مختصّ بالمحاكم الصالحة.

وهنا عدّة نقاط تخصّ هذا الموضوع، وهي:

النقطة الاُولى: إذا ثبت وأحرز ارتداد شخص في المحاكم الصالحة فهل يجوز قتله باعتقاد هؤلاء الكتّاب أم لا؟ الظاهر أنّ إشكال هؤلاء الأشخاص على أصل الحكم، فحتّى لو ثبت الموضوع في المحاكم الصالحة فهؤلاء لا يعتقدون بهذه العقوبات.

النقطة الثانية: لايوجد فقيه أو مرجع تقليد يحتفظ لنفسه بحقّ القول بمثل هذه النظرية قبل إحراز موضوع الارتداد بالنسبة لشخص معيّن، وإذا أصدر الإمام الخميني (رضوان اللّه‏ عليه) مثل هذا الحكم في حقّ المرتد «سلمان رشدي» فقد كان بعد إحراز الموضوع عنده تماما، وكذلك فتوى آية اللّه‏ العظمى الفاضل اللنكراني رحمه‏اللهبالنسبة إلى «رافق تقي» كانت بعد أن ترجمت مطالب هذا الشخص كرارا، وصدرت هذه الفتوى بعد إحراز الموضوع، فهل أنّ الفقيه الجامع للشرائط مع الشرائط العديدة المذكورة في محلّها لا يمكنه إحراز الموضوع؟! أليست فلسفة تشكيل المحاكم هي إحراز الموضوع؟! وهل أنّ المحكمة تشرّع حكما وقانونا، أم أنّها تنفّذ وتطبّق القانون؟! وهل أنّ المراحل الثلاث البدوية الاستئناف والمحكمة العليا لها خاصيّة اُخرى غير الإحراز الصحيح للموضوع؟!

النقطة الثالثة: السؤال الأصلي هو أنّه أيّ محكمة عندكم هي المحكمة الصالحة؟ هل لكونها لا تصدر أحكاما تتطابق مع الشعارات الخدّاعة لحقوق الإنسان تكون غير صالحة؟! وعليه فينبغي أن تخدشوا في أكثر الأحكام الإسلامية الصادرة عن هذه المحاكم! أم أنّ المحاكم الصالحة هي المحاكم الكفوءة التي تعمل على تطبيق القوانين الشرعية المعتبرة على المصاديق؟ يعني: المحاكم التي تعمل وتطبّق القرارات والضوابط الشرعية.

ومن الواضح أنّ تطبيق هذه الأحكام على يد الفقيه تكون بنحو أحسن وأدّق، فإنّ الفقيه يطبّق حكم اللّه‏ بالنسبة لمورده ومصداقه بدقّة كاملة وبشكل صحيح، وهذا أحد شؤون الفقاهة. والقضاء منصب مهمّ لرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) والأئمّة الطاهرين(عليه‏م‌‌السلام)والفقهاء جامعي الشرائط، بحيث يعتبر فيه توفّر شرط الاجتهاد، إذ لا يمكن لغير المجتهد أن يتصدّى لمنصب القضاء في الإسلام حسب الحكم الأوّلي.

النقطة الرابعة: هل أنّ نفس الحكم إشاعة للفوضى أم تنفيذه؟

وبعبارة اُخرى: هل أنّهم يشكلون على الحكم، أم على كيفيّة التنفيذ؟ أليس وجوب قتل المرتد قانونا إلهيا؟ ألاّ يعدّ الاعتماد على وثائق وموازين حقوق الإنسان الحالية نقضا حقيقيا للقانون، فيما لو استلزم نفيا لحكم اللّه‏ ومانعا من تنفيذه؟ وهل نترك أحكام اللّه‏ جانبا في عصرنا الراهن فنتوجّه إلى الشعارات الظاهرية ومعطيات حقوق الإنسان؟ أليس هذا هو أسوأ اُسلوب في نقض أهمّ وأقوى قانون، وأقبح اُسلوب لإيجاد الهرج والمرج؟! وهل ترغيبنا للبشر على تنفيذ أحكام دين اللّه‏ صحيح، أم ترغيبنا للمنشور العالمي لحقوق الإنسان؟! وهل أنّ المنشور العالمي لحقوق الإنسان الذي أهدى الحرّية للمثليين قادر على ضمان سعادة البشرية؟! وعلى كلّ حال فعلى المستشكلين إمّا قبول الإسلام، أو المنشور العالمي لحقوق الإنسان، والجمع بينهما مستحيل.

فإن قالوا: يجب علينا أن نفسّر الإسلام في العصر الراهن بما يتطابق وهذا المنشور. قلنا: وهذا في الحقيقة نفي للإسلام. والعجب مِن بعض مَن يقلق لنقض منشور حقوق الإنسان إلاّ أنّ الغيرة الدينية ليس فقط لاتغضبهم، بل تجعلهم يدافعون عن أشخاص هم أنفسهم يعترفون بأكاذيب هؤلاء!

يقول عليّ بن أبي طالب(عليه‏‌‌السلام):

وقد ترون عهود اللّه‏ منقوضة فلا تغضبون! وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون! وكانت اُمور اللّه‏ عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، فمكّنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمّتكم، وأسلمتم اُمور اللّه‏ في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات[42].

هذا ما قاله أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) في بيان أسباب سقوط الاُمّة الإسلامية وانحطاطها، وانحراف أصحاب رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، والعارفين بالدين عن مسير الحقّ، وفي الإشارة كفاية لأهله.

النقطة الخامسة: هناك ضوابط وشروط واضحة لتنفيذ الحدود حتّى بالنسبة للمنفّذ لها في الإسلام، ولا ينبغي الغفلة عن أنّ المصلحة تقتضي أحيانا أن يكون المنفّذ عموم الناس، يعني: أنّ الناس كافّة مكلّفون ومسؤولون عن تنفيذ حكم خاصّ، ففي مورد المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) خوطب كافّة المسلمين بهذا التكليف، وفلسفة هذا هو أن يعلم الجميع القبح الشديد للمرتد عند اللّه‏، واستحقاقه هذا الحكم منه، ليكون عبرة للجميع، وهناك نوع وقاية ودفاع مشروع عن كيان الإسلام في حكم المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، إذ لا يسمح الإسلام الذي تتطابق اُصوله وفروعه مع العقل والمنطق أن ينكر شخص الدين وأحقيّة الدين بعد إحرازه، أو يستهين بأقدس المقدّسات، وهو الوجود المبارك لرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

وليس المقصود في مثل هذا الحكم جذب الآخرين إلى الإسلام لكي نقول: إنّ هذا الحكم مانع من إقبال الآخرين على الإسلام، بل هو حصن حصين يحفظ كلّ المسلمين من التعرّض والإضرار بالدين بواسطة أنفسهم، وهذا الحكم يمنع الإنسان المسلم من تسريع الخروج عن الدين، ويدعوه إلى التفكير والتأمل فيه أكثر. ومن جهة اُخرى: لقد استفاد الكفّار في طول التاريخ من حربة الارتداد لضرب الإسلام، فسدّ اللّه‏ تعالى هذا الطريق أمامهم إلى الأبد.

النقطة السادسة: قالوا: من لوازم صدور فتوى القتل وحكم إعدام المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، تشويه صورة الإسلام والتشيّع والفقاهة بالعنف والقتل وعدم سعة الصدر... نعم، إذا أراد أحد تعريف الإسلام عن هذا الطريق فقط، دون ذكر خصوصيات وشرائط هذا الحكم، وبعبارة اُخرى: لو طرح ظاهرا منه وأغفل سائر الجزئيات، فربما يكون له مثل هذا اللازم. وأمّا إذا قيل للبشرية: إنّ المنطق والعقل هما الحاكمان في الإسلام، وإذا كان لشخص سؤال في بعض الموارد، وخاصّة في أوساط المسلمين، فعلى ضوء مدرسة أهل البيت(عليه‏م‌‌السلام)، هناك أشخاص وحجج منصبون من قبل اللّه‏ تعالى يمكن مراجعتهم وأخذ الإجابة على أسئلتهم، فإن لم يفعل ذلك وعاند فرأى نفسه فجأة من المعاندين وأظهر إنكاره بين الناس، فقد حدّدت له هكذا عقوبة.

والحقيقة أنّ الارتداد يعدّ نوعا من الفوضى في الدين، والذين يكتبون استنادا إلى الهرج والمرج، لِمَ لا ينتبهون إلى هذه الحقيقة؟! لقد كان حكم لزوم قتل المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) في صدر الإسلام إلى عصرنا الحاضر، ولم يكن في أيّ زمان من الأزمنة سببا لتشويه صورة الإسلام. نعم، منذ أن ادّعت البلدان المستعمرة حقوق الإنسان، وفي الواقع بدأت مخالفتها للإسلام، وصرخت بوجه هذا الحكم وقالت: ما هذا الحكم؟ انتهى هذا الاعتراض المرافق للأغراض والدواعي والتبليغات السيّئة وغير الصحيحة بالنسبة للدين، إلى أن تكون أحكام الإسلام معارضة مع حكم العقل والحرّية والكرامة.

فلماذا نكون نحن المسلمون سذّجاً ونخدع بهذه العناوين ببساطة؟! فيوم يقولون بعدم انسجام أحكام الإسلام مع العقل، ويوم آخر يقولون بأنّ الإسلام يتعارض مع الحرّية، ويوم ثالث يطرحون الكرامة الإنسانية وعدم رعايتها.

ومن الواضح أنّه لا ينبغي في الحكم والقضاء جعل حكم جزئيٍ، وذلك في جانبه الظاهري ملاكا للحسن والقبح، وبعبارة اُخرى: ليس من اللازم طرح مسألة الحسن والقبح في متعلّق حكم خاصّ، بل يلزم الأخذ بالملاك في المجموع وبالنسبة إلى النوع، فينبغي النظر إلى المجموع ثمّ الحكم والقضاء.

فلماذا تحترمون إنكار وعناد شخص ذاق حقائق الدين ولمسها، واُقيمت له الآيات والبيّنات، ولكن ترون أنّ استحقاق عقوبته اُسلوب عنيف وغير منطقي؟!

وهل من أنكر الشمس في رابعة النهار له قيمة عندكم؟! لماذا ترون الارتداد نوعا من الفكر، وتعدّون مخالفته ساحة لصراع الأفكار والرؤى؟! الارتداد إنكار لحقيقة غير قابلة للإنكار.

ذكروا لزوم الدخول في مجال الفكر بالمنطق والجدال بالتي هي أحسن، والاستدلال القوي، هذا أمر صحيح، إلاّ أنّ السؤال هنا هو لو أنكر شخص نفس هذا الاُسلوب فكيف تواجهونه؟

ولو أنكر شخص الواضحات، وكان إنكاره هذا خطرا على الآخرين، فما هو حكم العقل هنا؟

الإنسان المرتد مريض، ومرضه ـ يعني: إنكاره عن هوى وحبّ للدنيا ـ موجب لسرايته إلى الآخرين ومجموع الدين، فلابدّ من معاقبة هكذا إنسان.

وأشار المستشكلون إلى الآية الشريفة: «ادْعُ اِءلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وجادِلْهُمْ بِالَّتى هِىَ أَحْسَنُ...»[43]، فهل انصافا تشمل هذه الآية المرتد؟ وما هي نسبة هذه الآية إلى آيات الارتداد؟ ألم يلاحظوا قول اللّه‏ تعالى في آيات الارتداد: إنّ المرتد هو من لم تشمله الهداية والغفران الإلهي؟ فمن واجهه اللّه‏ بهذه الغلظة والشدّة أتشمله مثل هذه الآية الشريفة؟! إنّ من الواضح أنّ هذه الآية متعلّقة بمن لم يقع على الصراط المستقيم الإلهي، فينبغي وضعه على الصراط المستقيم، أمّا من كان في طريق اللّه‏ عزّ وجل، وأراد مخالفته عن هوى وعناد فلا يكون مشمولاً لهذه الآية الشريفة. فهل يمكن عدّ من ارتكب جريمة القتل مشمولاً للآية الشريفة، والقول بلزوم العمل مع القاتل بأحد هذه الطرق الثلاثة؟! لكنّي لا أرى عاقلاً يحتمل هذا المعنى، وهو أن يتعامل مع من سعى إلى قتل الناس، وقتل منهم مجموعة كبيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

لقد أوضحنا سابقا أنّ حكم المرتد ليس لجذب الآخرين إلى الإسلام، بل هو عقوبة متعلّقة بالمسلمين أنفسهم، وذلك لعدم سريان مؤامرات الكفّار إلى الآخرين.

لكن الأمر المهمّ هنا هو: أنّه لتعريف الإسلام ينبغي بيان جامعيّة الدين في كافّة الأبعاد، أي: ترويج العقل والعلم والأخلاق والتدخّل في الشؤون الاجتماعية والسياسيّة وتدبير المجتمع، هذه هي طرق تعريف الدين الإسلامي، لماذا لا تبيّنوا عدم شمولية مثل هذا الحكم ـ يعني: وجوب القتل ـ في مورد الكافر الأصلي الذي بقي من البداية إلى النهاية على كفره؟

المحور الرابع: هل هذا الحكم وهن للدين؟

قالوا: إنّ صدور مثل هذه الفتوى سبب لوهن الدين، والسؤال هو: ما هو ملاك الوهن في الدين؟ توجد هنا أربعة احتمالات ينبغي تحليل كلّ منها على حدة:

ألف: أن نقول: العمل الذي يرفضه عقلاء العالم في كافّة الأزمنة والأمكنة ولا يقبلونه هو مصداق الوهن، فنقول في هذا الفرض:

أوّلاً: العقلاء في كلّ زمان ومكان لا يرتضون إهانة أحد لمقدّسات مليار ونيف إنسان ويرونه مستحقّا للعقوبة، وكلّما كان المستهان به أو المنكر له أشدّ قداسة، فاستحقاقه للعقوبة يكون أشدّ، وإذا كانت إهانته سببا للانحراف أو استغلال العدوّ، وأراد تخريب أصل الدين أو إضعافه، يرون لزوم مواجهته بحزم وجدية.

ثانيا: لو فرض عدم استحقاق المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) للعقوبة في نظر العقلاء، فنقول: لقد خطّأهم الشارع في هذا المورد، واعتبر من أسلم ثمّ أراد الارتداد، أنّه يستحقّ العقاب الشديد، أمّا الكافر الأصلي الذي أراد البقاء على كفره فلا يرى استحقاقه للعقاب الدنيوي.

وهذه القاعدة العامّة وهي أنّ للشارع أن يخطّئ العقلاء في بعض الموارد أمر يعلمه كلّ مطلّع على الفقه والاُصول، ولا مخالف في ذلك. نعم، لا يمكن للشارع أن يخطّئ حكم العقل أبدا، وهذا هو أحد موارد افتراق العقل والعقلاء، الذي بحث بصورة مفصّلة في أبحاث خارج الاُصول.

ب: أن يكون ملاك الوهن هو العمل الذي لا يطابق طبع الإنسان، مع كراهيّته له، فنقول في هذا الفرض: لا يكره طبع أيّ إنسان مجازاة المرتد، وسابّ أشرف الكائنات وأطهرها، وهذا أمر واضح.

ج: أن نقول: إنّ معيار الوهن هو أيّ عمل أو قول لا يطابق رغبة غير المتديّنين، فتكون نتيجة هذا الفرض: أنّ أغلب أحكام الإسلام في العبادات والعقوبات والمعاملات والسياسات، بل بعض الأخلاقيات موهونة، وينبغي أن نعتقد بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخّل سافر في شؤون الآخرين وباعث للوهن، وأيضا بأنّ الجهاد والشهادة في سبيل اللّه‏ سبب للوهن.

د: ملاك الوهن كلّ عمل يفتقد التوجيه العقلي أو النقلي. ويبدو أنّ هذا الفرض هو المعنى الصحيح للوهن.

وقد أوضحنا في هذا البحث التوجيه العقلي البيّن لحكم قتل المرتد وسابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، والأدلّة النقلية أيضا دالّة على ذلك. ومن الناحية العقلية فإنّ إنكار الخالق والمالك الذي كلّ وجود الإنسان منه موضوع لاستحقاق العقاب الدنيوي، والعقل يدرك أنّ اللّه‏ تعالى يمكنه جعل هذا الحكم للإنسان الذي هو مخلوقه، وعلى فرض الجعل لا يرى أيّ قبح في ذلك.

وبعبارة اُخرى: السؤال الأصلي في هذا البحث هو: هل يمكن من الناحية العقلية أن يجعل اللّه‏ تعالى هذا الحكم؟

مال بعض منكري حكم الارتداد إلى القول بهذا المطلب، مع أنّنا لو سلّمنا بأنّ كافّة الملاكات في الأحكام العقلية ترجع إلى حسن العدل وقبح الظلم ـ وقد تأمّل الإمام الخميني رضوان اللّه‏ عليه في بعض أبحاثه الاُصولية في ذلك ـ ففي جعل حكم وجوب قتل المرتد أو سابّ النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) لا يرى العقل أيّ قبح أو ظلم، ويقبل بأنّ اللّه‏ تعالى باعتباره المالك الحقيقي للبشر، لو حكم بمثل هذا الحكم لم يكن ظلما من جهته، وهو حكم صحيح، والعقل يدرك هذا في مقام الثبوت، ويقبل أصل استحقاق العقاب فيما يخصّ مقام الإثبات، وبحسب الأدلّة النقلية قد بيّن الشارع نوع الحكم.

وأمّا النقطة المهمّة في عنوان الوهن الذي غفلوا عنه، فهو أنّ هذا العنوان عنوان ثانويّ كالحرج والاضطرار والتقيّة وأمثال ذلك، وقد ثبت في محلّه عدم اعتبار مثل هذه العناوين في كافّة الموارد والمصاديق، ففي التقيّة مثلاً لو كان فيها دم فلا اعتبار للتقيّة حينئذ، «إذا بلغت الدم فلا تقية».

وفي مورد الوهن لا موضوعية لهذا العنوان في بعض الموارد، فمثلاً في الموارد التي تطرح الشدّة والغلظة مع الكفّار، أو قتل المشركين والكفّار، لا يتفوّه فقيه بعدم وجوب قتل المشركين إذا أدّى إلى وهن الدين، ويصدّق هذا المطلب جيّدا كلّ مطّلع على الفقاهة، وكذلك الأمر في المرتد، فلا أثر لهذا العنوان أبدا. نعم، في مثل حدّ الرجم إن أوجب وهنا للدين، أمكن تعطيله بشكل مؤقت، أمّا الحكم الذي في ذاته وماهيّته فيه المواجهة الشديدة مع الكفّار والمنحرفين، ويأبى الكفّار والمشركون عنه، وهو موجب لتنفّرهم وابتعادهم، لا يمكن تحديده بهذا العنوان.

المحور الخامس: هل إقامة الحدود مشروط بحضور المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟

قالوا: يرى كثير من فحول الفقهاء أنّ تنفيذ الحدود والجهاد الابتدائي إنّما هو مشروط بحضور النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أو الإمام(عليه‏‌‌السلام).

وفي رأينا أنّ هذا المطلب بعيد عن التحقيق والواقع، والحقيقة عكس ذلك، فالمشهور من القدماء كالشيخ المفيد رحمه‏الله (المقنعة: 810)، وسلاّر رحمه‏الله (المراسم: 260)، وأبي الصلاح الحلبي رحمه‏الله (الكافي: 421)، وابن زهرة رحمه‏الله (غنية النزوع: 436)، وابن سعيد رحمه‏الله (الجامع للشرائع: 548)، والشيخ الطوسي رحمه‏الله صريح في كتاب المبسوط وبتوجيه قليل في كتاب النهاية (النهاية: 301)، وكذلك العلاّمة رحمه‏اللهصريح في التحرير (2: 242) والقواعد (1: 525) والإرشاد (1: 352) والتبصرة (90) والمختلف (4: 478)، والشهيد الأوّل رحمه‏الله في الدروس (2: 47)، والمحقّق الثاني رحمه‏اللهفي حاشية الشرائع، والشهيد الثاني رحمه‏الله في مسالك الأفهام، والفاضل المقداد رحمه‏الله في التنقيح الرائع: هو الاعتقاد بمشروعيّة ذلك، وجوازه في زمن الغيبة.

نعم، قد تستفاد المخالفة من بعض عبارات ابن إدريس رحمه‏الله في السرائر، وبعض الفقهاء كالصيمري رحمه‏الله في غاية المرام، وابن فهد رحمه‏الله في المهذّب البارع استفادا هذه المخالفة. ولكن أورد السيّد محمّد باقر الشفتي رحمه‏الله في رسالة إقامة الحدود في زمن الغيبة (ص144) أنّه يستفاد من عبارات آخر كتاب السرائر أنّ ابن إدريس رحمه‏اللهكالمشهور من الموافقين، ومن عباراته في آخر الكتاب لا يستفاد الجواز فحسب، بل إصراره على الموافقة أيضا.

والسؤال المطروح هنا هو: بأيّ دليل يدّعى أنّ كثيرا من الفحول اشترطوا في تنفيذ الحدود وجود الإمام المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟ المحقّق الحلّي رحمه‏الله في الشرائع والمختصر من جملة المتوقّفين لا المخالفين، وعدّ المحقّق الخوئي والمحقّق السيّد أحمد الخوانساري، والمحقّق الحلّي وابن إدريس من جملة المتوقّفين في هذا الحكم. فمن هؤلاء الفحول المدّعَون؟! قال صاحب الجواهر رحمه‏الله وهو محور الفقاهة:

لا أجد فيه خلافا إلاّ ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحقّقه، بل لعلّ المتحقّق خلافه[44].

المحور السادس: هل يتنافى وجوب قتل المرتد مع رحمة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) ورأفته؟

قالوا: أيّ تناسب في هكذا فتاوى مع موازين نبيّ الرحمة(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؟

أوّلاً: هذه التعابير والعبارات بعيدة كلّ البعد عن شأن الاجتهاد وصناعة الاستدلال الفقهي، فهي أشبه ما تكون بالشعار، مَثَلُ هذه الكلمات من قبيل أن نقول: إذا كان اللّه‏ أرحم الراحمين فلماذا خلق جهنّم، ويعذّب البعض يوم القيامة؟

وعليه فينبغي إنكار كافّة الحدود الإلهيّة في زمن الحضور، وزمن الغيبة.

وثانيا: ورد في التاريخ أنّ في زمن النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قد اُجري حكم الارتداد ـ أي: القتل ـ على بعض الأشخاص[45]، فكيف يوجّهون هذا العمل مع رحمة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)وكيف يفسّرون قول اللّه‏ تعالى: «أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ»[46]، فهل يرون أنّ المرتد بعد الارتداد داخل في المسلمين والمؤمنين؟ فمن الواضح أنّه ليس كذلك. أليس في ثقافة القرآن أنّ المرتد أسوأ من الكافر؟!

ثالثا: إنّ قتل المرتد سبب للرحمة لنوع المسلمين، وعدم معاقبته سبب لخسران مجتمع المسلمين، ولماذا يطرحون الرحمة بالنسبة إلى شخص خاصّ وفرد معيّن بصورة مستقلّة، مع غضّ النظر عن الآخرين وعن الدين نفسه؟ وبعبارة اُخرى: لم يفسّر هؤلاء نبيّ الرحمة تفسيرا صحيحا، فرسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)رحمة للبشرية ونوع الناس، وليس لكلّ فرد على حدة.

تنبيهات

الأوّل: عدم اختصاص حكم الارتداد بالإسلام، بل تعرّضت له سائر الأديان أيضا، يستفاد هذا المطلب من قوله تعالى: «وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وإلى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»[47].

وتدلّ الآية المباركة 54 من سورة البقرة على ذلك أيضا، وفي ضوء تصريح القرآن الكريم أنّ الارتداد في قوم موسى(عليه‏‌‌السلام) كان يستتبع استحقاق القتل، لذا فإنّ الأحكام الجزائية للارتداد لا تختصّ بالدين الإسلامي، بل في بعض الأديان والمذاهب الاُخرى كاليهودية والمسيحية حيث أنّ الذي يرجع عن دينه فهو كافر ومرتد وتجب مجازاته من وجهة نظر هاتين الديانتين أيضاً[48].

الثاني: يستفاد من مجموع الأدلّة أنّ الارتداد الباطني ليس موضوعا لوجوب القتل إن لم يظهر. نعم، إن أظهر ارتداده، وأعلن عن إنكاره حكم عليه بالقتل.

الثالث: يستفاد من القرآن الكريم أنّ الأحكام الدنيويّة والاُخرويّة للمرتد تكون في حالة معرفة وعلم الشخص بالإسلام، ثمّ إنكاره «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ»[49]، فالشاكّ في الدين أو المنكر له بسبب الإعلام السيّئ وتحريك الآخرين مستثنى من هذا الحكم. طبعا في هذه الموارد لبعض الفقهاء تأمّل ينبغي دراسته مفصّلاً في محلّه، قال آية اللّه‏ العظمى الفاضل اللنكراني رحمه‏الله في جواب استفتاء: لا يمكن تنفيذ حكم المرتد على من بلغ وصدق عليه عنوان الشاكّ في الإسلام، بل ينبغي إمهالهم.

الرابع: هل لتوبة المرتد أثر في رفع الآثار الدنيويّة له أم لا؟ بحث مفصّل مذكور في كتب الفقه والتفسير.

إنّ فرضنا في هذه الرسالة هو إذا ارتدّ شخص ولم يتب عن ارتداده فهو يستحقّ القتل، يعني: عرضنا البحث في القدر المتيقّن.

الخامس: لزوم قتل المرتد من الناحية الفقهيّة والأوليّة لايحتاج إلى فتوى وحكم من مرجع التقليد، فلو تلاقى مسلم مع مرتد أمكن للمسلم إجراء هذا الحكم بالنظر الأولي الشرعي. روي عن عمّار الساباطي أنّه قال: سمعت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) يقول: «فإنّ دمه مباح لمن سمع ذلك»[50]. نعم، الاحتياط يقتضي أن يكون بنظر المجتهد الجامع للشرائط.

السادس: ينبغي الانتباه إلى هذا الأمر وهو: ما الفرق بين المرتد ومن بقي على كفره الأصلي؟ ولماذا لم تذكر للكافر المستمرّ في كفره عقوبة القتل في الإسلام؟ السرّ في هذا المطلب يكمن في أنّ من ارتدى ثوب الإسلام، ووضع نفسه في دائرة المسلمين، فمع إظهار ارتداده يكون قد أعلن حربه على الإسلام، ومن الطبيعي هنا مواجهته بشدّة، على خلاف الكافر المستمرّ في الكفر.

السابع: لأجل الخدشة في وجوب قتل المرتد ورد في بعض الكلمات: أنّ العلماء اختلفوا في تعريف ضروري الدين.

فنقول في الجواب: أوّلاً: ضروري الدين هو كلّ ما يكون محلّ وفاق بين الشيعة والسنّة، دون حاجة إلى الاستدلال حتّى بالإجماع على صحّة ذلك.

ثانيا: على فرض الاختلاف في معنى الضروري، إلاّ أنّ هناك موردين قد بُيّنا في الروايات بوضوح في موضوع المرتد، وهما:

ألف: الخروج عن الإسلام، وإنكار نبوّة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله).

ب: تكذيب المعاد، ورد في بعض الروايات أنّه جيء بزنديق إلى أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) قد كذّب القيامة، فأمر(عليه‏‌‌السلام) بقتله.

إنّ إنكار نبوّة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وكذا المعاد من أسباب الارتداد، فينبغي عليهم أن يقبلوا ـ على الأقلّ ـ في هذه الموارد حكم المرتد.

وبعبارة اُخرى: ليس لعنوان الضروري موضوعية بنفسه، بل هو طريق للوصول إلى المصاديق، فلو أحرزت بعض المصاديق من خلال الروايات، فلا شكّ حينئذٍ في لزوم تنفيذ حكم القتل في ذلك المورد، سواء صدق عنوان الضروري على هذه المصاديق أم لم يصدق.

الثامن: يظهر من بعض الشبهات أنّ هناك انتقادا للاُسلوب الاجتهادي الشائع في الحوزات العلمية، وينبغي بناءً على بعض مباني معرفة الإنسان، والنظرة الكونية، وعلم تفسير المتون أن يؤسّس لطريقة جديدة في الاجتهاد. هل هذا الادّعاء صحيح أم لا؟ يتطلّب مجالاً مستقلاًّ وبحثا آخر.

إنّ ما تعرّضنا لبيانه في هذه الرسالة كان على طبق الاُسلوب الاجتهادي المألوف للفقهاء منذ ألف عام، وفي ضوئه لا إشكال في حكم وجوب قتل المرتد، وأنّ هذا الحكم ليس مؤقتا، ولا سياسيا محضا، وإن صحّ أن تكون فيه هذه الحيثية أيضا. والاُسلوب المقترح من قبل البعض مستلزم لتغيير كثير من أحكام الدين، وليس نتيجة ذلك سوى اضمحلال الدين، واللجوء إلى القوانين المشرّعة من قِبل البشر، وبعبارة اُخرى: يستتبع ذلك اندراس تراث أهل البيت وفقه الأئمّة الطاهرين(عليه‏م‌‌السلام).

التاسع: وفي الخاتمة نرى أنّ هذا البحث مفتوح، فإذا رأى الفقيه الجامع للشرائط المصلحة في تأخير تنفيذ حكم اللّه‏ تعالى في المرتد، أو عدم تنفيذه، أو كان في موارد لهذا العنوان مصاديق كثيرة ـ فلو كان اُجري مثل هذا الحكم منذ البداية لما تحقّق هذا الفرض ـ فهل له أن يأمر بوقف تنفيذ هذا الحكم أم لا؟ ورد في بعض روايات تنفيذ الحدود عن أمير المؤمنين(عليه‏‌‌السلام) أنّه: «لا يبطل حدّا من حدود اللّه‏ عزّ وجل»[51]، وعلى كلّ حال يحتاج هذا البحث إلى تأمّل ودقّة أكثر.

وأغتنم هذه الفرصة هنا وأعلن بأنّ المركز الفقهي للأئمّة الأطهار(عليه‏م‌‌السلام) الذي هو مركز تخصّصي في المسائل الفقهية مستعد للبحث والمناظرة في هذا الموضوع، وبإمكان الباحثين في المجال الديني والفقهي، الراغبين في المشاركة بعيدا عن الضجيج السياسي والميول الغربية، متابعة هذا الموضوع من خلال هذا الطريق.

وما ورد في هذه الرسالة كان بحثا موجزا في الدفاع عن حكم المرتد، ومن الواضح أنّ بحثه التفصيلي بحاجة إلى مجال أوسع.

وفّق اللّه‏ الجميع لفهم الحقيقة والعمل بها، وفهم الدين والعمل به إن شاء اللّه‏.

 -------------------------------------
[1] نهج البلاغة، الخطبة: 106.

[2] مستدرك الوسائل 18: 9ح 10نقلاً عن لبّ اللباب.

[3] روح المعاني 1: 260.

[4] الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4: 305.

[5] التفسير الكبير 6: 40.

[6] الكافي 2: 25، ح1.

[7] التنقيح في شرح العروة الوثقى 3: 78.

[8] كنز الدقائق 2: 321.

[9] سورة الأنعام 8: 88 .

[10] سورة المائدة 5: 5.

[11] المبسوط 10: 98.

[12] سورة البقرة 2: 217.

[13] سورة آل عمران 3: 85.

[14] سنن أبي داود 2: 366 ح4502.

[15] مسالك الأفهام 15: 22.

[16] سورة البقرة 2: 17.

[17] سورة المائدة 5: 33.

[18] المبسوط 8: 47.

[19] التاج الجامع للأصول 3: 19.

[20] سورة النساء 4: 137.

[21] دعائم الإسلام 2: 479، ح1716.

[22] سورة آل عمران 3: 86.

[23] سورة آل عمران 3: 87.

[24] سورة النحل 16: 44.

[25] سورة الحشر 59: 7.

[26] الكافي 7: 256، ح1.

[27] الكافي 7: 256 ح5.

[28] الكافي 7: 257 ح10.

[29] الكافي 7: 258، ح11.

[30] الكافي 7: 258 ح13.

[31] التاج الجامع للأصول 3: 17 ـ 18.

[32] مجمع الزوائد 6: 261.

[33] عوالي اللآلي 2: 356، ح33.

[34] التنقيح في شرح العروة الوثقى 3: 78.

[35] مستدرك الوسائل 18: 163، ح22396.

[36] الكافي 7: 257، ح8.

[37] الكافي 7: 257 ح9.

[38] التاج الجامع للأصول 3: 17 ـ 18.

[39] دروس خارج الاُصول للعام الدراسي 88 ـ 87، الدرس 77، بتاريخ 16/1/1387ش.

[40] الخلاف 5: 353 ـ 354 مسألة 3، والمبسوط 5: 322.

[41] راجع التلقيح الصناعي للمؤلّف.

[42] نهج البلاغة، الخطبة: 106.

[43] سورة النحل 16: 125.

[44] جواهر الكلام 21: 394.

[45] راجع كتاب التاج الجامع للاُصول في أحاديث الرسول 3: 19 ـ 18، وبعض المصادر التاريخية الاُخرى.

[46] سورة الفتح 48: 29.

[47] سورة الزمر 39: 65.

[48] راجع العهد القديم، سفر التثنية، الفصل 13والعهد الجديد، رسالة إلى المسيحيين اليهود من أصل عبري، الإصحاح 10، الفقرة 32 ـ 26.

[49] سورة محمّد 47: 25.

[50] الكافي 6: 174، ح1.

[51] الكافي 7: 176، ح13.

برچسب ها :