التلقيح الصناعي
۲۷ آبان ۱۳۹۴
۱۷:۵۶
۳۷
چکیده :
نشست های علمی
-
تأمّلی در مفهوم عدالت جنسيّتی در احکام اسلامی
-
فقه اجتماعی، فقهی است که موضوعش جامعه است
-
ضابطه بیان و فهم دین
-
اندیشه امام خمینی (ره) در سیاست خارجی
-
انديشمندان بايد اعلاميه جهاني حقوق بشر را مورد نقد و بررسي قرار دهند
-
سيره اميرالمؤمنين(علیهالسلام) رسيدگی به فقراء، برطرف نمودن فقر و اختلاف طبقاتی در جامعه است
التلقيح الصناعي
محمد جواد الفاضل اللنکراني
مدخل
يعدّ التلقيح الصناعي من المواضيع التي تحظى باهتمام كبير هذه الأيّام حيث تمسّ الحاجة إليها من قبل الاُسَر والأفراد مثيرة الكثير من الأسئلة المختلفة، لا سيّما ممّن لا يقدرون على الإنجاب بشكل طبيعي لمرض أحد الزوجين أو كليهما، وأدّى انتشار مشكلة عدم الإنجاب في كثير من الاُسَر إلى تحويل الأنظار نحو هذا الموضوع والإنجاب عن طريقه، ما أضاف المزيد من الأسئلة حول الجوانب المختلفة الفقهية والحقوقية نظرا للتوسّع المتسارع في أساليب التلقيح الصناعي يوما بعد يوم.
ونظرا لحداثة هذا الموضوع فإنّ سابقة البحث الفقهي والقانوني حوله لا تتعدّى عدّة عقود، ومع ذلك فقد ظهر العديد من الكتابات والبحوث الفقهية والقانونية التي قامت بمقاربة هذا الموضوع كلّ حسب رؤيته ووجهة نظره.
من ناحية اُخرى ومع التطوّر المتسارع لعلم الطب واكتشاف طرق جديدة ومؤثّرة في التلقيح الصناعي حسب حاجات الأفراد وظروفهم، فقد دفع ذلك كلّه إلى طرح هذا الموضوع في المؤسّسات التشريعية والقانونية، حتّى إنّ مجلس الشورى الإسلامي في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة تعرّض لموضوع إجارة الرحم وسن قوانين في هذا المجال.
لقد تمّ وضع هذه الرسالة بالنظر ألى أهمّية الموضوع ولزوم الإجابة عن أسئلة الأفراد، وتلبية لحاجة المجامع العلمية والمؤسّسات الحقوقية والقانونية المختلفة حوله، وفي إطار تحديد الجوانب والحالات المختلفة للتلقيح الصناعي ودراسة مختلف جوانبه على أساس المعطيات الحديثة للعلوم التجريبية، فقد تمّ السعي إلى البحث في الجوانب والحالات المختلفة لهذا الموضوع باُسلوب استدلالي من خلال الاستعانة بالدراسة والدقّة العلميّة المبنيّة على الاجتهاد الحيوي مع الأخذ بعين الاعتبار للحاجات الزمانية والمكانية وبالاستناد على الاُصول والمباني الفقهيّة التقليدية، جاعلين العديد من النظريات الفقهية والحقوقية موضع النقد العلمي.
التلقيح الصناعي وأشكاله
استعمل التلقيح لغةً في معانٍ عديدة، منها إدخال نطفة الرجل في بويضة المرأة[1]، وله شكلان، طبيعي وصناعي،حيث يتمّ الأوّل في الظروف العادية عبر اتّحاد منيّ الرجل وبويضة المرأة في رحمها عن طريق المقاربة الجنسية بشكل طبيعي، بهدف الإنجاب، دون الحاجة إلى استخدام أداة أو وسيلة إضافية لإجراء هذه العملية، التي يطلق عليها «التلقيح الطبيعي».
وبسبب التقدّم الهائل الذي شهده علم الطب، أصبح بالإمكان إجراء التلقيح بين المنيّ والبويضة بطرق غير طبيعية، ما أفسح المجال لمن لا يريد أو يقدر على الحمل والإنجاب بشكل طبيعي، عبر طرق ووسائل مختلفة.
بناءً على ذلك، فـ «التلقيح الصناعي» عبارة عن اتّحاد منيّ الرجل ببويضة المرأة باستعمال أدوات طبّيّة أو أيّة وسيلة اُخرى بهدف الحمل والإنجاب، دون الحاجة إلى المقاربة الجنسية.
للتلقيح الصناعي شكلان:
1. كامل، عبر انعقاد ونمو المادّة المتشكلة من منيّ الرجل وبويضة المرأة داخل جهاز، ويدعى الجنين المتكوّن في هذه الحالة بطفل المختبر أو الأنبوب.
2. ناقص، فيتمّ عن طريق إقرار منيّ الرجل داخل الرحم بشكل صناعي، بحيث تتمّ كامل أو جزء مراحل تنمية الجنين في داخل الرحم.
في هذا الكتاب، نطلق اسم «التلقيح الصناعي» على كلّ شكل من أشكال التلقيح غير الطبيعي بين منيّ الرجل وبويضة المرأة لغاية الحمل، وكلّ ما عدا ذلك فهو خارج عن نطاق بحثنا، مثل تقوية منيّ الرجل أو بويضة المرأة بأدوية تؤخذ عبر الفم، أو الاستعمال الخارجي حتّى يتمّ التلقيح بينهما بشكل أفضل، لأنّ تقوية المنيّ أو البويضة بتناول الأدوية ليست موضع اختلاف الفقهاء، حيث صرّحوا جميعا بالجواز، بل إنّ محلّ بحثهم واختلافهم، هو إجراء التلقيح بشكل غير طبيعي، باتّحاد نطفة وبويضة الزوجين، أو الأجنبيين بعضهما ببعض، مؤدّيا إلى نشوء جنين، من الجدير ذكره، في هذا السياق ظهور أساليب طبّيّة حديثة تتمثّل بلجوء بعض النساء إلى عمليات جراحية مختلفة، مفتوحة أو داخلية، على الرحم، أو على الأعضاء التناسلية الاُخرى، أو عمليات جراحية اُخرى لتقوية قدرة الإنجاب في منيّ الرجل،إذ لا يشملها نطاق بحثنا في هذا الكتاب حول التلقيح الصناعي.
المحاور العامّة للبحث
المحور الأوّل: الحكم التكليفي للأقسام المختلفة للتلقيح الصناعي
بالبحث في الحكم الشرعي (الجواز والحرمة) للحالات المختلفة للتلقيح الصناعي، ومن جملة البحوث الفقهية والقانونية الهامّة المرتبطة بهذا المحور، من جوانب متعدّدة، موضوع إقرار الجنين المتشكّل في رحم امرأة اُخرى، من تلقيح نطفة الرجل وبويضة زوجته داخل رحمها أو خارجها، لعدم قدرة الزوجة على حفظ الجنين المتكوّن في رحمها.
المحور الثاني: الحكم الوضعي والآثار القانونية المترتّبة على التلقيح الصناعي
بالبحث في حكم الجنين المتكون بهذه الطريقة، بغضّ النظر عن القول بجواز أو عدم جواز أشكال التلقيح الصناعي المختلفة، بالإجابة عن الأسئلة التالية:
لمن ينتسب الجنين المتكوّن بهذه الطريقة ومن هما والداه؟ وممّن يرث؟...
من الجدير ذكره، أنّ القسم الأساسي لهذا الكتاب يدور حول المحور الأوّل، وسوف نبيّن حكم الجنين والطفل المتكوّن بهذه الطريقة، تبعا لتناسب المباحث والمواضيع.
ترسيم عامّ للأشكال المختلفة للتلقيح الصناعي
تتنوّع أسباب عدم الحمل وعدم قدرة الزوجين على الإنجاب، وتختلف وفقا لها أشكال التلقيح الصناعي كذلك، حيث بلغ علم الطب الحديث من القدرة العلمية التي قد تخوّله على رفع مشكلة عدم الإنجاب عن أيّة امرأة أو رجل، فظهرت طرق وأقسام مختلفة للتلقيح الصناعي، تتطلّع إلى أجوبة فقهية وقانونية.
يمكن تقسيم التلقيح الصناعي، تبعا لاختلاف المناحي والجهات.
بشكل عام، للتلقيح الصناعي قسمان:
1. التلقيح بنطفة أو منيّ الزوج.
2. التلقيح بنطفة أو منيّ الأجنبي.
ويمكن تقسيم التلقيح الصناعي، من الناحية القانونية والفقهية، إلى قسمين:
1. التلقيح الناتج عن النكاح بدون تدخّل لنطفة الأجنبي، وبدوره يمكن تقسيمه إلى أشكال مختلفة.
2. التلقيح الناشئ من غير النكاح بإدخال نطفة رجل أجنبي، وبدوره يمكن تقسيمه إلى عمدي وغير عمدي.
من الواضح، أنّ كلاًّ من تلك التقسيمات المذكورة أعلاه تطرح عندما يكون الرجل سبب عدم الإنجاب، أمّا إذا كانت المرأة سببا لذلك، لعدم وجود بويضة، فالأمر مختلف.
إذا جمعنا كلاًّ من الأقسام المذكورة أعلاه، آخذين بعين الاعتبار العوامل المختلفة لعدم الحمل والإنجاب من الرجل والمرأة، فسوف نحصل على حالات وفرضيات كثيرة نذكر أهمّها في الجدول التالي:
1. التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة زوجته الشرعية:
1 ـ 1. إجراء التلقيح داخل رحم تلك الزوجة ويبقى الجنين في رحمها حتّى الولادة.
2 ـ 1. إجراء التلقيح داخل رحم امرأة اُخرى، ونقل الجنين إلى رحم المرأة صاحبة البويضة.
3 ـ 1. إجراء التلقيح داخل رحم امرأة اُخرى وبقاء الجنين داخل رحمها حتّى الولادة.
4 ـ 1. إجراء التلقيح خارج الرحم ونقل الجنين إلى رحم زوجة الرجل.
5 ـ 1. إجراء التلقيح خارج الرحم ونقل الجنين إلى رحم امرأة اُخرى.
6 ـ 1. إجراء التلقيح خارج الرحم وبقاء الجنين فيه حتّى الولادة.
2. التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة زوجته الاُخرى، وإقرار ذلك في رحم زوجته الاُولى التي لا بويضة لها.
3. التلقيح بين نطفة الزوج وبويضة امرأة اُخرى (في حال عدم إباضة البويضة في رحم المرأة ممّا يجعلها غير قادرة على الإنجاب).
1 ـ 3. إجراء التلقيح بينهما في رحم زوجة الرجل.
2 ـ 3. إجراء التلقيح في رحم امرأة أجنبيّة، وهو بدوره ينقسم إلى فرضيتين:
1 ـ 2 ـ 3. بقاء الجنين في رحم المرأة الأجنبيّة حتّى لحظة الولادة.
2 ـ 2 ـ 3. نقل الجنين إلى رحم زوجة الرجل.
3 ـ 3. إجراء التلقيح خارج الرحم، وفيه ثلاث فرضيات:
1 ـ 3 ـ 3. نموّ الجنين في رحم زوجة الرجل.
2 ـ 3 ـ 3. نموّ الجنين في رحم المرأة الأجنبيّة.
3 ـ 3 ـ 3. نموّ الجنين خارج الرحم بشكل كامل.
4. التلقيح بين نطفة الرجل والمرأة التي لا يربطها بالرجل أيّة علاقة شرعية (التلقيح من غير نكاح)
1 ـ 4. أن تكون المرأة زوجة شرعية لرجل آخر، وسبب عدم الإنجاب من زوجها، وفي هذه الحالة فرضيتان:
1 ـ 1 ـ 4. أن تكون هويّة الرجل صاحب النطفة معلومةً.
2 ـ 1 ـ 4. أن تكون هويّة الرجل صاحب النطفة مجهولةً.
2 ـ 4. أن لا تكون المرأة التي تلقت النطفة زوجة لأيّ شخص:
1 ـ 2 ـ 4. أن يكون الرجل صاحب النطفة زوجا لامرأة اُخرى تكون سببا لعدم الإنجاب، (كما في الحالة رقم 3).
2 ـ 2 ـ 4. أن لا يكون الرجل والمرأة قد تزوّجا من أحد:
1 ـ 2 ـ 2 ـ 4. أن تكون هويّة كلّ من الرجل والمرأة معلومة.
2 ـ 2 ـ 2 ـ 4. أن تكون هويّة أحدهما معلومةً.
3 ـ 2 ـ 2 ـ 4. أن تكون هويّة كلّ منهما مجهولةً.
5. حالات نادرة الوقوع:
1 ـ 5. إجراء التلقيح بين نطفة حيوان وبويضة امرأة.
2 ـ 5. إجراء التلقيح بين نطفة رجل وبويضة حيوان.
3 ـ 5. إجراء التلقيح بين نطفة مستخرجة من النبات وبويضة امرأة.
و...
لا ريب أنّ الترسيم المذكور أعلاه لا يشمل كافّة فروع البحث وفرضيّاته، إذ يمكن لكلّ واحد من العناوين الأساسية فيه أن يحتوي فرضيّات اُخرى لم تذكر هنا.
فعلى سبيل المثال، قد اكتفينا في العنوان الأساسي رقم 1 (عندما يكون الرجل والمرأة زوجين شرعيين) بفرض كون زوج هذه المرأة على قيد الحياة أثناء التلقيح، لكن من الممكن أن يطرح هذا السؤال: ما حكم التلقيح بين نطفة الزوج بعد موته وبويضة زوجته، أثناء عدّتها؟
إذا فرضنا أنّ الزوج أخذ نطفته في حياته وأودعها في بنك المنيّ لحفظها في شروط خاصّة، ثمّ تمّ إقرار نطفته بعد وفاته في رحم زوجته أثناء عدّتها، فلا شكّ أنّ هذه المسألة مبنيّة على فرع فقهي آخر بأنّه: هل تلغى العلاقة الزوجية بوفاة الزوج، أو تبقى على حالها بعد وفاته ما دامت زوجته في عدّة الوفاة.
على أيّ حال، يمكن القول بأنّ ذلك الترسيم يشمل أهمّ وأكثر الحالات المطروحة في التلقيح الصناعي هذه الأيّام، لأنّ بعض الفرضيات غير المذكورة فيه، من الندرة بمكان، بحيث يمكن تصورها على مستوى المختبرات والبحوث العلمية فقط، وليس لها رواج عرفي بذلك الشكل الواسع.
وفي هذه الرسالة اهتممنا بالبحث الفقهي في المسائل التي تحظى بانتشار وأهمّية أكثر، آخذين بعين الاعتبار، في اختيارنا لمواضيع البحث، كون الحالة المدروسة من الحالات المحورية والأساسية التي يمكن أن يستفاد من البحث فيها في فرضيّات اُخرى تتفرع عنها.
المحور الأوّل: المسائل الفقهية للتلقيح الصناعي دراسة استدلالية للأشكال المختلفة للتلقيح الصناعي
الفصل الأوّل: ما هو الأصل العملي الأوّلي في هذه المباحث؟
كما ذكرنا سابقا، يعتبر التلقيح الصناعي من المواضيع المستحدثة التي لم تكن لها سابقة في زمن التشريع، أو في فقه المتقدّمين، ومن الممكن في مقام دراسة حكم كل من أقسام التلقيح الصناعي ألاّ نصل إلى حكم شرعي قاطع، استنادا إلى الأدلّة الفقهية (سواء بالقطع أو الظن الشرعي المعتبر)، لذا فنحن محكومون، مع وجود الشكّ في الحكم، باللجوء للاُصول العملية متّخذين أحدها مبنىً نعتمد عليه معيارا نستفيد منه في مقام العمل، متكئين في ذلك على المباني الفقهية والاُصولية ذات الصلة.
للوصول إلى حقيقة الأصل العملي وكيفيّة الرجوع إليه، لا بدّ لنا في البداية من الرجوع إلى علم الاُصول ومباحث الاُصول العملية، وبما أنّ الشارع المقدس قد أولى أهمّية خاصّة لباب النكاح والفروج، ونظرا لكون التلقيح الصناعي والمسائل المتعلّقة به مرتبطة بالتناسل والنكاح وحفظ الفروج، فمن المناسب، قبل طرح أيّ بحث فقهي، أن نوضح في فصل مستقل المبنى الذي نعتمد عليه ووجهة النظر التي نتبناها فيما يتعلّق بالأصل الأوّلي لهذه المباحث، ونجعلها مدخلاً للمباحث التالية، بل مفتاحا لحلّ كثير من المسائل العلمية القادمة.
بشكل عام، فيما يتعلّق بالأصل العملي في مسائل الفروج والتناسل، يوجد رأيان:
الرأي الأوّل: أصالة الاحتياط
يعتقد هذا الرأي بإعطاء الشارع المقدّس لباب النكاح والفروج، وكذلك الأنساب أهمّية خاصّة، لذا أمر بالتزام الاحتياط فيها درءا لاختلاط الأنساب الذي يؤدّي إلى تضعضع بنيان الاُسرة والمجتمع.
بناءً على هذا الرأي، في موارد الشكّ في حكم المسائل المتعلّقة بباب الفروج والنكاح، ومنها مجموعة مسائل التلقيح الصناعي، فإنّ الأصل الأوّلي هو أصالة الاحتياط، وعلى أساسه يلزم الاحتياط في موارد الشكّ بالحكم الشرعي، والتوقّف عن الحكم بالجواز.
الرأي الثاني: أصالة البراءة
إنّ الأصل الأوّلي في كافّة الشبهات الحكمية التحريمية سواء في باب النكاح أو سائر الأبواب الفقهية الاُخرى، على أساس هذا الرأي، هو البراءة، سواء كانت عقلية أو شرعية، ففي موارد الشكّ في حكم بعض أشكال التلقيح الصناعي، يلزم الحكم بالجواز، فعلى سبيل المثال، إذا لم نعتبر إقرار نطفة في رحم امرأة أجنبية مصداقا للزنا المحرّم، وشككنا في حرمته، ولم نجد دليلاً على الحرمة، عندئذ، يلزم التمسك بأصالة البراءة الشرعية والعقلية، والحكم بجواز هذا الفعل، ما يؤدّي إلى اتّساع دائرة هذا الموضوع إلى الحدّ الذي يمكن فيه الحكم بجواز إقرار نطفة أخ في رحم اُخته عبر أداة ما، لأنّ التمسك بالأصل الأوّلي للبراءة العقلية والنقلية، بلا ريب، يشمل مثل هذه الموارد.
للوصول إلى الرأي المقبول، نناقش أدلّة الرأيين ونتعرّض للإشكالات الواردة حولها حتّى نتوصّل إلى نتيجة نهائية.
أدلّة الرأي الأوّل (أصالة الاحتياط)
لأصحاب هذا الرأي القائم على إثبات لزوم إجراء أصل الاحتياط في مسائل باب النكاح والفروج، دليلان أساسيان هما:
الدليل الأوّل: المزاج الشرعي السائد في هذا الباب
عبّر بعض الفقهاء بأنّ المزاج الشرعي السائد في باب النكاح، التناسل، وطء الشبهة، وبشكل عام في باب الفروج قائم على الاحتياط، لذا يلزم اعتبار أصالة الاحتياط، الأصل الأوّلي في موارد الشكّ في حكم شرعي ما في هذا الباب، والعمل طبقا لذلك.
مناقشة الدليل الأوّل
إنّ هذا الدليل لا يخلو من ثلاثة إشكالات.
ـ الإشكال الأوّل: من غير المعلوم كون المزاج الشرعي السائد في هذا الباب قائما على لزوم الاحتياط أو ترجيحه، بعبارة اُخرى، اختلفت عبارات الفقهاء في هذا المورد، بحيث لم يُفهَم منها كون المزاج الشرعي قائما على لزوم الاحتياط ووجوبه أو ترجيحه، وبما أنّ المزاج الشرعي السائد في هذا المجال مجمل فيكفي هذا المقدار في الرّد.
ـ الإشكال الثاني: يظهر من أكثر كلمات الفقهاء ترجيح الاحتياط لا لزومه، ولا ريب أنّ الاحتياط راجح في جميع أبواب الفقه، ولكنّه أشدّ وأوكد في أبواب الفروج، والدماء، والنكاح، والأولاد، ولم يصرِّح أحد بالوجوب.
من البحوث المهمّة جدا، والتي لم تدرس بشكل مستقلّ، بل تمّ التعرّض لها في الفقه والاُصول بشكل متفرّق مع لزومه، هو البحث:
هل للاحتياط في أبواب النكاح، الفروج، الدماء والأموال جانب لزومي أو لا؟
بعبارة اُخرى، إنّ البحث يقع فيما يلي: هل يمكننا الرجوع إلى أصالة الحلّ وأصل البراءة العقلية والنقلية في جميع موارد الشبهات الحكمية والموضوعية؟ أو إنّ هذا الأصل، في مثل هذه الأبواب، ينقلب إلى أصالة الاحتياط، وكأنّ أصالة الحلّيّة تعرّضت للتخصيص، بإجماع أو رواية خاصّة؟ أو إنّ الاحتياط في هذه الأبواب أوكد وأشدّ من سائر الموارد، ولا عنوان وجوبيا أو لزوميا له، مع بقائه على نفس أصل المطلوبية والحسن؟
لفهم هذا الموضوع بشكل أفضل، يجب دراسة عبارات الفقهاء والروايات الواردة في هذا الخصوص:
أ) من صرّح بوجوب الاحتياط في باب الفروج
ـ الفاضل الآبي(رحمهالله) في كشف الرموز:
... طريقة الاحتياط تقتضي ألاّ يتهجّم على استباحة الفروج إلاّ بيقين..[2].
ـ العلاّمة الحلّي(رحمهالله) في تذكرة الفقهاء:
... والفروج تجب الاحتياط فيها...[3].
ـ فخر المحقّقين(رحمهالله) في إيضاح الفوائد:
... لأن إباحة الفروج مبنيّة على الاحتياط...[4].
ـ المحقّق الثاني(رحمهالله) في جامع المقاصد:
... وحكم الفروج مبني على كمال الاحتياط...[5].
... ولشدّة الاحتياط في الفروج...[6].
... مع أنّ الفروج مبنيّة على الاحتياط التامّ...[7].
... ولما كان النكاح موضع الاحتياط في نظر الشارع لما عُهد شرعا من كمال عناية الشارع بالاحتياط في الفروج...[8].
ـ المحقّق الثاني(رحمهالله) في الرسائل:
... فإنّ الفروج مبنية على الاحتياط التامّ...[9].
ـ الشهيد الثاني(رحمهالله) في الروضة البهيّة:
... ومراعاة الاحتياط في الفروج المبنيّة عليه...[10].
ـ الفاضل الهندي(رحمهالله) في كشف اللثام:
... لوجوب الاحتياط في الفروج...[11].
كما ذكر في موضع آخر من الكتاب:
...لكن الاحتياط في الفروج مطلوب...[12].
ـ المحدّث البحراني(رحمهالله) في الحدائق الناضرة:
... مع وجوب الاحتياط في الفروج، لأنّ حِلّ الفروج أمر توقيفي فيتوقّف على النصّ، وبدونه ينتفي لأصالة عدم الحِلّ، ولا تكفي في الخروج عدم القطع بالمحرّم، لأنّه مبنيّ على كمال الاحتياط...[13].
ـ السيّد محمّد جواد العاملي(رحمهالله) في مفتاح الكرامة:
... مع وجوب الاحتياط في الفروج...[14].
ـ السيّد علي الطباطبائي(رحمهالله) في رياض المسائل:
... والاحتياط في الفروج...[15].
ـ الشيخ الأنصاري قدسسره في كتاب النكاح:
... فيجب الاقتصار في الفروج، المبنيّ أمرها على الاحتياط بحكم العقل والنقل، على المتيقّن...[16]. ... لوجوب الاقتصار في الفروج، المبنيّ على الاحتياط، على المتيقّن...[17].
ـ السيّد محسن الحكيم(رحمهالله) في المستمسك:
... الإنباء على ما اشتهر من لزوم الاحتياط في الفروج...[18].
ـ المحقّق البجنوردي(رحمهالله) في القواعد الفقهية:
... ولذا جعل الشارع وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الفروج مثل وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية في باب الدماء، لكثرة الاهتمام بهذين البابين...[19]. ... إنّ الأصل الحكمي بحسب طبعه الأوّلي هي الحلّيّة، لو لم يكن مخصّصا بالإجماع على الاحتياط في باب الفروج في الشبهات المصداقيّة، والأصل الموضوعي حاكم عليه مطلقا...[20].
وقد ورد في دليل العروة الوثقى ما يلي:
... وربما يقال، كما عن المحقّق النائيني(رحمهالله): إنّ أصالة الحِلّ غير جارية في الأموال، بل اللازم هو الاحتياط، كالدماء والفروج، وقد قرّب ذلك بالقاعدة المعروفة عنه أنّ كلّ حكم ترخيصي علّق على أمر وجودي فمع عدم إحراز ذلك الأمر يلزم الحكم بالعدم...[21].
ـ المحقّق الخونساري(رحمهالله) في جامع المدارك:
... للزوم الاحتياط في أمر الفرج...[22].
ب) من ذكر الاحتياط في الفروج بنحو الرجحان والأولويّة
ـ الشهيد الأوّل(رحمهالله) في غاية المراد:
... بل الاحتياط في الفروج أولى...[23].
ـ المحقّق الثاني(رحمهالله) في جامع المقاصد: فقد ذكر في هذا الكتاب خلافا لما نقل عنه في ما سبق ما يلي: «... ولأنّ الاحتياط في الفروج هو المطلوب...»[24]، طبعا يمكن حمل كلمة (المطلوب) على الوجوب كذلك.
ـ الشهيد الثاني(رحمهالله) في روض الجنان:
... وينبغي مراعاة الاحتياط في مواضع الاشتباه حفظا لحرمة الفروج والأنساب...[25].
ـ الشهيد الثاني(رحمهالله) في مسالك الأفهام: «... وإن كان الاحتياط في الفروج أولى...»[26]، طبعا للشهيد الثاني في مسالك الأفهام عبارات اُخرى، يستظهر منها وجوب الاحتياط، كقوله: «... إنّ الفروج مبنية على الاحتياط...»[27].
ـ المحقّق الأردبيلي(رحمهالله) في مجمع الفائدة والبرهان:
... والاحتياط في الفروج مطلوب للشارع كما هو المشهور...[28].
ـ المحدّث البحراني(رحمهالله) في الحدائق الناضرة:
... وإن كان الاحتياط في الفروج أولى...[29].
... الاحتياط سيّما في الفروج مطلوب...[30].
ـ المحقّق النراقي(رحمهالله) في الرسائل والمسائل:
... ولكنّ الاحتياط في الأحكام والأخذ بما هو أقرب إلى النجاة في مسائل الحلال والحرام، سيّما في أحكام الفروج، أمر مطلوب عند الشارع...[31].
ـ المحقّق النجفي(رحمهالله) في جواهر الكلام:
... ضرورة كونه في الفروج والأنساب التي يطلب فيها الاحتياط...[32] وخصوصا في أمر الفروج المأمور بشدّة الاحتياط فيها...[33] وخصوصا في الفروج المطلوب فيها شدة الاحتياط...[34] المؤيّدة بالعمومات والاحتياط، خصوصا في الفروج...[35] وقاعدة الاحتياط في الفروج التي لا يجب مراعاتها أوّلاً...[36] إلاّ أنّك قد عرفت شدة رجحان الاحتياط في الفروج... لكن قد عرفت أنّ الاحتياط في الفروج ممّا لا ينبغي تركه...[37].
ـ الشيخ الأنصاري(رحمهالله) في المكاسب:
... بقي الكلام في وجه جعل الإمام(عليهالسلام)الاحتياط في النكاح هو إبقاؤه دون إبطاله، مستدلاً بأنّه يكون منه الولد، مع أنّ الأمر في الفروج، كالأموال، دائر بين المحذورين، ولا احتياط في البَيْن...[38].
ـ بحر العلوم(رحمهالله) في بُلغة الفقيه:
... مع ما دلّ على تأكّد الاحتياط في الفروج...[39] مع أولوية الفروج بالاحتياط من غيرها...[40].
ـ المحقّق الداماد(رحمهالله) في كتاب الصلاة:
... فعليه لابدّ من الرجوع إلى الأدلّة العامّة الدالّة على حلّيّة كلّ شيء عند عدم تماميّة ما يستدلّ به، للزوم الاحتياط في الفروج والأموال ونحوها...[41].
ويستفاد من كلمات المحقّق الوالد قدسسره[42] أنّ للاحتياط في باب الفروج شدّة الحسن، وفيما يلي بعض من عباراته(رحمهالله):
... ومن المحتمل أن يكون الوجه في اعتباره فيه هي شدّة حسن الاحتياط في الفروج... فالوجه فيه أنّ الفروج يكون المطلوب فيها شدّة الاحتياط....
يتّضح من تلك العبارات أنّ موضوع وجوب الاحتياط ولزومه في باب النكاح والفروج ليس بأمر إجماعي، ولا يمكن نسبتها إلى المشهور، إذ كما صرّح بعض الفقهاء بوجوب الاحتياط، فقد صرّح جمع آخر منهم بأولويّته أو تأكّده.
بناءً على ذلك، وبغضّ النظر عن الروايات التي سوف ندرسها لاحقا، لا يمكن القبول بانقلاب أصالة الحلّ، في مثل هذه الأبواب، إلى أصالة الاحتياط، بل يجب قبول ذلك الاحتياط الذي له الترجيح في سائر الموارد بنفس الشكل في مثل هذه الموارد أيضا، ولكن بشكل أوكد وأشدّ، ولهذا الادّعاء شواهد أيضا:
1. ورد في فتاوى الفقهاء أنّه لا يلزم على الرجل، عند إقدامه على الزواج من امرأة، أن يسألها هل هي خليّة أو لا؟
فإن كان الاحتياط في الفروج أمرا لزوميا، عندها لا يتناسب ذلك مع مثل هذه الفتوى.
2. أفتى الفقهاء في باب النكاح بصحّة نكاح الفضولي، مع أنّه لو كان للاحتياط جانب لزومي، لوجب الحكم ببطلان نكاح الفضولي.
وقد تفطّن صاحب بلغة الفقيه(رحمهالله) إلى هذا المعنى، وذكر في مقام توجيه ذلك ما يلي:
... فالضّيق والتوسعة في الأسباب لا مدخليّة لهما في الاحتياط وعدمه، فالتّوسعة والتخفيف في سبب النكاح لا ينافي الاحتياط المؤكّد فيه، بل لعلّ المناسب لحفظ الفروج من الزنا التوسعة في أسباب حلّيّتها حذرا من الوقوع فيه...[43].
فهو يجري الاحتياط في النكاح في موارد يشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، أو في الشّكّ في كون المرأة معقودا عليها أو لا، أمّا في الموارد التي تحرز فيها سببيّة شيء، ويُشكّ في كثرة الأجزاء والشروط أو قلّتها، عندها لا يقول بالاحتياط فيها.
لا يخفى أنّ هذا التوجيه غير مقبول وعليه إشكال واضح، بأنّه لا يوجد فرق بين هذين الموردين، فإن كان الاحتياط في باب الفروج والنكاح لازما، عندها لا فرق بين الشكّ في أصل سببيّة سبب ما، أو في خصوصيّة شرط ما.
نعم، في باب الدماء مثل: القصاص، القتل أو إجراء الحدّ، فالأمر منوط بإحراز بعض العناوين الوجودية، فما لم يتمّ إحراز تلك العناوين الوجودية، لا يمكن الحكم بجواز القتل أو القصاص.
أمّا في باب النكاح أو الفروج، فلا توجد مثل هذه الخصوصيّة، ولم يقل الفقهاء بوجوب إحراز الرجل عدم كون المرأة التي يقصد الزواج بها أخته من الرضاعة أو من النسب، بل يكفي ذلك القدر من عدم علمه بالخلاف.
الإشكال الثالث: عند ما تقولون بأنّ المزاج الشرعي السائد قائم على رجحان الاحتياط، أو لزومه في مثل هذه الموارد الثلاثة، فإنّكم تستندون إلى مجموعة من النصوص والروايات، فلا يمكن التعامل مع ذلك بوصفه دليلاً مستقلاًّ لوحده.
نعم، إذا قطعنا بالمزاج الشرعي، ففي هذه الحالة يمكننا اعتبار ذلك مستندا لحكم شرعي، كيقيننا بأنّ المزاج الشرعي قائم على أساس تحمل الشخص المسؤولية عن أي حكم أو قرار يصدر عنه.
الدليل الثاني: الروايات الواردة في هذا المقام
تمسّك بعض الفقهاء بعدّة روايات تأمر بالاحتياط في موارد الشبهة، للاستدلال على لزوم الاحتياط في الشبهات الحكمية المتعلّقة بباب الفروج.
وقد بني ذلك الاستدلال، على أساس أنّ الشارع المقدّس أوجب الاحتياط في باب الفروج وجوبا شرعيا مولويا لا إرشاديا ـ مع أنّه يمكننا القول بأنّ دلالة تلك الروايات لا تتعدّى الوجوب الإرشادي ـ .
على أيّ حال، سوف نذكر فيما يلي كلاً من تلك الروايات، وندرس ظاهر كلّ منها حتّى نتبيّن كون وجوبها مولويا أو إرشاديا.
الرواية الاُولى: معتبرة شعيب الحدّاد
عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن محمّد بن أبي حمزة، عن شعيب الحدّاد قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليهالسلام): رجل من مواليك يقرئك السلام، وقد أراد أن يتزوّج امرأة وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها، وقد كان لها زوج فطلّقها على غير السّنّة، وقد كره أن يُقدِم على تزويجها حتّى يستأمرك فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد اللّه(عليهالسلام):
هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط فلا يتزوّجها[44].
تقريب الاستدلال:
يقول المستدلّ بهذه الرواية: إنّنا نفهم من قول الإمام(عليهالسلام): «هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط فلا يتزوّجها» أنّ هذا الاحتياط واجبٌ وجوبا شرعيا مولويا، فيلزم، عندئذٍ، الاحتياط في كافّة الشبهات المتعلّقة بهذا الباب، ومنها الموضوع موضع البحث.
مناقشة الاستدلال:
برأينا، لا يستفاد هذا المعنى من هذه الرواية، وتوجد قرينة على ذلك من ثلاث جهات:
ـ الجهة الاُولى: لا يصرّح السائل بشكل واضح عدم معرفته حكم الزواج بهذه المرأة ـ هل هو جائز أو لا؟ ـ ، بل الظاهر أنّه كان من الموالين، ويعلم صحّة الزواج بتلك المرأة، لكن كان يخالطه شيء من الخشية والكراهة في هذا الموضوع، لذا استأمر الإمام(عليهالسلام) في إقدامه على الزواج بتلك المرأة أو عدمه، فهو يريد أن يحظى بيقين كامل حول رضى الإمام(عليهالسلام) بذلك، لمودّته التي يُكنّها له، لذا علّق أمر زواجه بتلك المرأة بأمر الإمام(عليهالسلام) ـ ونظير ذلك كثير بين الناس في توجيه أسئلتهم إلى الفقهاء، إذ أحيانا يسألونهم التماسا لمعرفة حكم شرعي، واُخرى يطلبون منهم المشورة ـ .
إذ توجد عندنا قاعدة فقهية بعنوان (قاعدة الإلزام)، ووفقا لها، إذا طلّق رجل من أهل السّنّة امرأته حسب مذهبه، يجوز، وفق فقه الإمامية، ترتيب آثار ذلك الطلاق، وبعد إتمام المرأة عدّتها يجوز الزواج منها.
ظاهر هذه الرواية، عِلمُ السائل ومعرفته بعدم وجود مانع من الزواج من تلك المرأة وفقا لفقه الشيعة، ولكن، باعتباره شخصا ملتزما ومتّقياً، أراد أن يحصل على أمر الإمام(عليهالسلام) وتوجيهه في ذلك، فأجابه الإمام(عليهالسلام) بقوله: «هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط فلا يتزوّجها».
ـ الجهة الثانية: إنّ ردّ الإمام(عليهالسلام) على ذلك الشخص بقوله: «وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد» قرينة اُخرى على أنّ الحكم بالاحتياط إرشادي لا مولوي، لأنّه(عليهالسلام) ذكر له تعليلاً غير تعبّدي يهتمّ به كافّة العقلاء، لذا فهو ليس في مقام بيان حكم تعبّدي، والشاهد على ذلك أيضا أنّ الإمام(عليهالسلام) ذكر في تتمّة كلامه ما يلي: «ونحن نحتاط» أي إنّنا نحتاط في مقام العمل.
نلاحظ عدم تصريح الإمام(عليهالسلام) بوجوب عمل ذلك الشخص بالاحتياط، بل نسب الاحتياط إلى نفسه(عليهالسلام) فحسب، لذلك فإنّ قوله: «ونحن نحتاط» قرينة واضحة جدّا على أنّ التوصية بالاحتياط إرشادية لا مولوية، وإلاّ لكان أمر(عليهالسلام)ذلك الشخص بالاحتياط بشكل صريح ولحذَّره من الزواج بمثل هذه المرأة.
ـ الجهة الثالثة: لم يصدر أيّ فقيه، بناءً على هذه الرواية، فتوى بوجوب الاجتناب عن الزواج من المرأة التي طُلِّقت طبقا للمذاهب الاُخرى، بل وأكثر من ذلك، حتّى ولو لم يستفد هذا الحكم من الرواية، فإنّه لم يلحظ تنافٍ وتعارض بين هذه الرواية وروايات قاعدة الإلزام، وفي هذا قرينةٌ واضحةٌ جدّا على أنّ الأمر بالاحتياط في هذه الرواية إرشادي لا مولوي، ولا يستفاد منه وجوب الاجتناب.
إبهامان ورفعهما
ـ الإبهام الأوّل:
لعلّ قائلاً يقول: لا معنى للاحتياط عند الأئمّة عليهمالسلام، فهو مختصّ بالأفراد الجاهلين بالحكم، في حين إنّهم عليهمالسلام عالمون بكافّة الاُمور ولا يواجهون أيّة شبهة أو إجمال فيها.
الجواب:
ليست هذه المسألة من قبيل الاُمور التي توجد فيها شبهة، أو علم إجمالي، أو جهل، حتّى نقول بأنّ احتياط الأئمّة عليهمالسلام ينافي علمهم بالاُمور، لأنّها، كما ذكرنا سابقا، واضحة بشكل كامل من حيث الموضوع، ولا إبهام فيها من حيث الموضوع الخارجي، وكذلك من حيث الحكم الشرعي فلا إبهام ولا إشكال عند الإمام(عليهالسلام)، أو حتّى عند الراوي، إذ عندما يقول الإمام(عليهالسلام): «ونحن نحتاط» لا بمعنى الاحتياط في أمر مجهول، بل الاحتياط بمعنى مطلوبية وأفضليّة وترجيح عدم الزواج من تلك المرأة، وهي قرينة واضحة جدّاً على كون هذا الاحتياط إرشاديا.
ـ الإبهام الثاني:
لقائل أن يقول: قد يكون السبب في عدم تصريح الإمام(عليهالسلام) بالأمر بترك الزواج والاكتفاء بالقول: «ونحن نحتاط» من باب التقية.
(قد يكون هذا القول، من جهة، جوابا على الإبهام الأوّل، حول شبهة علم الإمام(عليهالسلام)، ومنافاة ذلك مع الاحتياط).
الجواب:
لا وجود في هذه الرواية لأيّ احتمال للتقية، لأنّ الإمام(عليهالسلام) أجاب ذلك الشخص بقول مخالف لمذهب أهل السنّة: «هو الفرج، وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونحن نحتاط فلا يتزوّجها» وهو منافٍ تماما للتقيّة، لأنّه إذا كان الجواب مبنيّا على التقيّة، لاقتضى ذلك من الإمام(عليهالسلام) أن يقول: إنّ الطلاق صحيح، ويجوز الزواج من تلك المرأة.
على ذلك، مع هذا التوضيح وبالقرائن التي بين أيدينا من الإبهامين والجوابين، نستنتج أنّ الاحتياط في كلام الإمام(عليهالسلام) أمر إرشادي لا مولوي.
الرواية الثانية: صحيحة العلاء بن سيّابة
عن العلاء بن سيّابة قال: سألت أبا عبد اللّه(عليهالسلام) عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يزوّجها من رجل، فقبل الوكالة فأَشهَدَتْ له بذلك، فذهب الوكيل فزوّجها ثمّ إنّها أنكرت ذلك الوكيل، وزعمت أنّها عزلته عن الوكالة، فأقامت شاهدين أنّها عزلته، فقال:
ما يقول مَنْ قِبَلَكم في ذلك؟ قال: قلت: يقولون: ينظر في ذلك فإن كانت عزلته قبل أن يزوّج فالوكالة باطلة والتزويج باطل، وإن عزلته وقد زوّجها فالتزويج ثابت على ما زوّج الوكيل، وعلى ما اتّفق معها من الوكالة إذا لم يتعدّ شيئا ممّا أمرت به واشترطت عليه في الوكالة، قال: ثمّ قال: يعزلون الوكيل عن وكالتها ولم تُعلِمْه بالعزل؟ قلت: نعم يزعمون أنّها لو وكّلت رجلاً وأشهدت في الملأ، وقالت في الملأ: اشهدوا أنّي قد عزلته، أبطلت وكالته بلا أن يعلم في العزل، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصّةً، وفي غيره لا يبطلون الوكالة إلاّ أن يعلم الوكيل بالعزل، ويقولون: المال منه عِوَضٌ لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد، فقال(عليهالسلام): سبحان اللّه! ما أجْوَرَ هذا الحكم وأفسده! إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه وهو فرج، ومنه يكون الولد، إنّ عليّا(عليهالسلام) أتته امرأة استعدته على أخيها فقالت: يا أمير المؤمنين، إني وكّلت أخي هذا بأن يزوّجني رجلاً وأشهدت له ثمّ عزلته من ساعته تلك، فذهب فزوّجني ولي بيّنة أنّي قد عزلته قبل أن يزوّجني، فأقامت البيّنة، فقال الأخ: يا أمير المؤمنين، إنّها وكّلتني ولم تعلمني أنّها عزلتني عن الوكالة حتّى زوّجتها كما أمرتني، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: قد أعلمته يا أمير المؤمنين، فقال لها: ألك بيّنة بذلك؟ فقالت: هؤلاء شهودي يشهدون، قال لهم: ما تقولون؟ فقالوا: نشهد أنّها قالت: اشهدوا أنّي قد عزلت أخي فلانا عن الوكالة بتزويجي فلانا، وإنّي مالكة لأمري قبل أن يزوّجني، فقال: أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحضر؟ فقالوا: لا، فقال: تشهدون أنّها أعلمته بالعزل كما أعلمته الوكالة؟ قالوا: لا، قال: أرى الوكالة ثابتة، والنكاح واقعا، أين الزوج؟ فجاء، فقال: خذ بيدها بارك اللّه لك فيها، فقالت: يا أمير المؤمنين أحلِفْه أنّي لم أعلمه العزل، ولم يَعلَمْ بعزلي إيّاه قبل النكاح، قال: وتحلف؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فحلف فأثبت وكالته وأجاز النكاح[45].
تقريب الاستدلال بالرواية:
يقول المستدلّ بهذه الرواية: إنّها تدلّ على لزوم الاحتياط في المسائل المتعلّقة بالنكاح والفروج، والشاهد الأصلي في هذه الراوية حيث يقول الإمام(عليهالسلام): «إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه» ثمّ يضيف قائلاً: «وهو فرج، ومنه يكون الولد» يعني بذلك أنّ الفرق بين البيع والنكاح أنّ في البيع مالاً يباع، ولو فرضنا بطلان البيع، لانحصرت المشكلة بالمشتري أو البائع فقط، أمّا في النكاح ونظرا لوجود ولد في البين، فاللازم أن يؤخذ بالاحتياط أكثر، ويستفاد من قول الإمام(عليهالسلام)ذاك، أنّ للاحتياط وجوبا شرعيا مولويا، وبما أنّ الحكم الشرعي، في موارد مثل التلقيح الصناعي، لم يتمّ التوصّل إليه وتعيينه من الأدلّة القطعية والمعتبرة، فاللازم الاحتياط فيها.
الإشكال على الاستدلال:
في الردّ على المستدلّ بهذه الرواية نقول: إنّ قول الإمام(عليهالسلام): «أحرى أن يحتاط فيه» فيه إرشاد إلى حكم عقلي، لترتّب أثر مهمّ جدا على النكاح، وهو ذلك التوالد والتناسل، فالأحرى أخذ جانب الاحتياط فيه أكثر من الاُمور المتعلّقة بالمعاملات والتجارة، ولذلك فإنّ هذه العبارة المنقولة عن الإمام(عليهالسلام) لا تعبّر، بأيّ شكل من الأشكال، عن وجوب الاحتياط في باب الفروج.
ونبيّن ذلك كما يلي: إذا قام وكيل المرأة بتزويجها قبل اطّلاعه على عزله عن الوكالة، فهنا يتصوّر لهذه المسألة حكمان:
1. هذا التزويج صحيح، وفي هذه الحالة إذا لم تهتمّ المرأة بذلك، وقامت بالزواج من شخص آخر، عندها يصدق عليها عنوان الزواج بذات البعل، ومن جهة اُخرى، يجب على الرجل النفقة على تلك المرأة التي قام الوكيل بتزويجها له، ومنه يتّضح قول الإمام(عليهالسلام) «إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه وهو فرج ومنه يكون الولد».
2. إذا كانت هذه الوكالة باطلة، فالزواج ليس بصحيح، ولا يصل الأمر إلى أن يكون مصداقا للزواج بذات البعل.
يدور الأمر في باب النكاح بين الوجوب والحرمة، فإن كانت تلك المرأة زوجة لذلك الرجل فتجب عليه النفقة، وإن لم تكن كذلك فوطؤها حرام، فيصبح الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة، وعندها يطرح هذا السؤال كما يلي:
إذا كان الأمر دائرا بين الوجوب والحرمة، فكيف يمكن حينئذٍ أن يكون للاحتياط معنى؟
إذا وضحنا كما يلي:
إن قلنا بصحّة عقد الوكيل حسب الظاهر، ولو كان باطلاً في الواقع، فإنّ فساده أقلّ من حيث كونه باطلاً ظاهريا وصحيحا واقعيا، وتصبح عبارة «أحرى أن يحتاط» بمعنى أنّه حتّى لوكان قد عزل أيضا، فإنّ النكاح يتحوّل إلى نكاح فضولي، ويصبح الاحتياط في النكاح الفضولي بمعنى أن تأتي المرأة، وتجيزه حتّى تصحح المسألة وتتمّ، أي إذا أرادوا الاحتياط، فإنّه يتمّ بهذا الشكل بأن تقول المرأة: حتّى لو عزلت الوكيل وكانت الوكالة باطلة، ولكنّي حسب الاحتياط أجيز عقد الوكيل، وعليه، فإنّ عبارة «إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه». لا يمكن لنا أن نحملها على الوجوب الشرعي المولوي.
الرواية الثالثة: معتبرة أبي بصير
عن هشام بن سالم، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر(عليهالسلام) عن رجل تزوّج امرأة فقالت: أنا حبلى وأنا اُختك من الرضاعة وأنا على غير عدّة، قال: فقال:
إن كان دخل بها وواقعها لم يصدِّقها، وإن كان لم يدخل بها ولم يواقعها فليختبر وليسأل، إذا لم يكن عرفها قبل ذلك[46].
وقد جاء في التهذيب: (فليتحر وليسأل...).
وورد في الفقيه ما يلي: (فليحتط وليسأل...).
تقريب الاستدلال:
إنّ موضع الشاهد الأصلي للاستدلال بالرواية، هي الفقرة الثانية من جواب الإمام(عليهالسلام)، حيث يصرّح بعدم الجواز، بل يأمر بالتفحّص والتحقّق.
علينا أن نعلم أنّ هذه الرواية نقلت في ثلاثة كتب هي الكافي، والفقيه والتهذيب، وكلّ من هذه المصادر الثلاثة ذكر ألفاظ موضع الشاهد الأصلي للاستدلال بالرواية بطرق مختلفة، حيث إنّ لفظ الكافي هو: (فليختبر)، ولفظ الفقيه: (فليحتط)، ولفظ التهذيب: (فليتحرّ).
يقول المحدّث الكاشاني(رحمهالله) في توضيح معاني هذه الألفاظ الثلاثة ما يلي:
(فليختبر)، هكذا في الكافي، من الاختبار بمعنى الامتحان، أي يمتحن صدقها من كذبها، وفي التهذيب: فليتحرّ من التحرّي بمعنى الاجتهاد وحصيل الاعتقاد، وفي الفقيه: فليحتط، من الاحتياط، أي: لا يقربها حتّى يعلم كذبها[47].
يقول المستدلّ بهذه الرواية، بناءً على نسخة الفقيه وحتّى الكافي الذي ورد فيه لفظ الاختبار: إنّ نصّ هذه الرواية يدلّ على وجوب الاحتياط شرعا في موارد الشّكّ في جواز أو عدم جواز النكاح بالمرأة التي تدّعي وجود موانع للنكاح بها، وعدم التّعجل في الإقدام على الزواج منها، ويسري هذا الحكم على كافّة الموارد المشابهة في باب النكاح، التي يشكّ فيها في الموضوع الخارجي، بمعنى أنّه: هل تعتبر تلك المرأة من جملة النساء اللاتي يجوز الزواج بهنّ أو لا؟ لذا من اللازم والواجب الاحتياط وعدم الإقدام على الزواج قبل تحقّق اليقين بالجواز.
إذا قالت المرأة: أنا حُبلى، وشككنا أنّها حبلى أو لا؟ وخُلِّينا والاُصول العمليةَ، يجب عندها إجراء الاستصحاب العدمي، حسب القواعد، والحكم بعدم حبلها.
وإذا قالت المرأة: أنا اُختك من الرضاعة، حينها يحكم الاستصحاب العدمي بعدم كونها اُختا من الرضاعة.
إلاّ أنّ الكلام يقع فيما يلي: بوجود استصحاب موضوعي في مثل هذه الموارد، وكون الاستصحاب دليلاً معتبرا، فإنّ الإمام(عليهالسلام)،بالرغم من ذلك، يقول: (فليحتط).
من اللازم هنا التذكير بعدّة نقاط هي:
ـ النقطة الاُولى: ادّعاءات تلك المرأة من جملة الاُمور التي لا يُعرف إلاّ من قبلها فقط، مثل كونها اُختا من الرضاعة، أو كونها في عدّة شخص آخر، أو حبلها، إذ يعود تشخيص مثل هذه الاُمور بالدرجة الاُولى إلى المرأة نفسها، ومع ذلك نرى أنّ الإمام(عليهالسلام)، في مثل هذه الموارد، يحكم مباشرة بعدم تصديق المرأة، والاحتياط، وبالتالي، بناءً على ادّعاء المرأة، يتحقّق حكم ظاهري، وبناءً على أصل الاستصحاب يلزم أن نرفع أيدينا عن هذا الحكم الظاهري، عندها هل يمكننا القول: إنّ هذه المسألة من موارد تعارض الظاهر والأصل؟
ـ النقطة الثانية: تشمل هذه الرواية الموارد التي يكون منشأ الشكّ فيها المرأة وادّعاءاتها، دون أن تشمل الموارد التي يشكّ فيها الرجل نفسه، بعبارة اُخرى: إذا أراد رجل الزواج بامرأة، وشكّ الرجل نفسه بأنّها اُخته من الرضاعة أو لا؟ ولم تدّع المرأة مثل ذلك، عندئذٍ فإنّ الرواية لا تشمل مثل هذه الموارد.
ـ النقطة الثالثة: ما الفرق بين حالتي ما قبل الدخول وما بعده، حتّى يلزم الاحتياط إذا ادّعت المرأة أنّها اُخت الرجل من الرضاعة قبل الدخول بها، أمّا إذا ادّعت ذلك بعد الدخول بها، فلا يلزم الاحتياط حينئذٍ، هل يعني ذلك انتفاء كون المرأة أختا للرجل من الرضاعة بعد الدخول؟
الإشكال على الاستدلال بالرواية
في الاستدلال بتلك الرواية عدّة إشكالات:
1. الإشكال الأوّل ناشئ عن الاختلاف في عبارة الرواية، لا سيّما أنّ لفظ الكافي هو (فليختبر)، وهو مناسب ومتناسق أكثر مع سياق العبارة التي تليه، ولا يفهم من هذا التعبير الاحتياط بالمعنى المصطلح.
2. لم يأمر الإمام(عليهالسلام) مباشرة بعدم الزواج من مثل هذه المرأة التي تدّعي مثل هذه الاُمور، بل يحكم بالتفحّص والتحقّق حولها، وهي قرينة على أنّ المقصود من الاحتياط أو الاختبار هو الأمر الإرشادي، لا الوجوب المولوي الشرعي.
حتّى لو دلّت الرواية على الأمر المولوي، فإنّه تنشأ إشكالات اُخرى تالية كذلك.
3. لا تدلّ الرواية على لزوم الاحتياط في الشكّ البدوي، وإنّما تشمل فقط الموارد التي يكون منشأ الشكّ فيها ادّعاء المرأة فقط، وبناءً على ذلك فلا تشمل ادّعاء المستدلّ بشمول الشكّ البدوي لها.
4. إنّ مورد الرواية هو الشكّ في الموضوع الخارجي، لا الشكّ في الحكم الشرعي، في حين إنّ بحثنا في مورد الشكّ في الحكم الشرعي للمسائل المتعلّقة بباب الفروج والنكاح وما هو الأصل العملي الأوّلي فيها؟
5. يمكن القول: إنّ مفاد الرواية هو من باب إقرار العقلاء، باعتبار أنّ المرأة مدّعية على نفسها، وهنا تطرح عدّة قواعد، إحداها قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم» والثانية قاعدة «من ملك شيئا ملك الإقرار به»، فإن لم نقبل الإشكالين الثالث والرابع، فإنّ ادّعاء المرأة عندها، من وجهة نظر العقلاء، إمّا أن يترتّب عليه أثر أو لا يترتّب عليه أثر.
وفي الشرع كذلك حيث يقول الشارع: إذا تحقّق الدخول والمواقعة فلا ترتّبوا أثرا على مثل هذه الإقرارات، إذ إنّ العقلاء والشارع بشكل عامّ لا يرتّبون أثرا على مثل هذه الإقرارات، بل يهتمّون بملاحظة متى تحقّق هذا الادّعاء، أمّا إذا لم يتحقّق الدخول فيجب الاحتياط.
نظرا إلى الإشكالات المذكورة أعلاه، فإنّ دلالة هذه الراوية على وجوب الاحتياط في الاُمور المتعلّقة بالنكاح غير تامّة أيضا.
الرواية الرابعة: صحيحة مسعدة بن زياد
عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن آبائه عليهمالسلام أنّ النبيّ(صلى الله عليه و آله) قال:
«لا تجامعوا في النكاح على الشبهة (وقفوا عند الشبهة)»[48]، يقول: إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها وأنّها لك محرم وما أشبه ذلك، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة[49].
يقول المحدّث الكبير الملاّ محمّد باقر المجلسي(رحمهالله) في كتاب ملاذ الأخيار، في شرح هذه الرواية ما يلي:
صحيح على الظاهر، ويدلّ على رجحان الاحتياط في الفروج أكثر من غيرها.
قوله: (يقول) التفسير من الصادق(عليهالسلام) أو من الرواة.
(إذا بلغك) أي: بغير ثبوت شرعي، ولعلّه على الكراهة، وإن كان الأحوط العمل به[50].
تقريب الاستدلال:
يستفاد من عبارة «وقفوا عند الشبهة»، وباعتبار عمومية كلمة (الشبهة)، وشمولها للشبهات الحكمية والموضوعية، وجوب الاحتياط بأمر مولوي في الأحكام المتعلّقة بالنكاح والفروج، حتّى في الشبهات البدوية والحكمية.
الإشكال على الاستدلال:
في هذا الاستدلال إشكال من عدّة جهات:
1. (الشبهة) في العبارة المذكورة مطلقة، تشمل الشّكّ البدوي وكذلك الشكّ الناشئ من خبر الغير وادّعائه، لذا، بناءً على هذه العبارة، يجب الاحتياط في الموارد التي يشكّ فيها ابتداءً، كأن يشكّ بأنّ هذه المرأة اُخته من الرضاعة أم لا، والامتناع عن الزواج منها.
ولكن في نفس هذه الرواية فسِّرت الشبهة بالقول: إنّ الشبهة ليست بمعنى شكّك الابتدائي، بل الناشئة من إخبار الغير لك بأنّك ارتضعت من لبن هذه المرأة وأنّك أخ لها من الرضاعة، أو إخبار الغير بأنّك من محارمها، ففي هذه الموارد يجب عليك الاحتياط، أمّا إذا لم يكن لمثل هذه الأخبار وجود، وإنّما نشأ الشكّ من الرجل نفسه بكون هذه المرأة أخته من الرضاعة أو لا، أو شكّ بكون هذه المرأة تحلّ له أو لا، أو شكّ في الأصل بأنّ هذه المرأة اُخته أو لا، فإنّ هذه الموارد ليست من موارد الشبهة ولا يشملها الاحتياط.
بناءً على ذلك، إذا كانت عبارة «قف عند الشبهة» قد وردت في الرواية ولم تتبع بعبارة اُخرى، لأمكننا القول بإطلاق الشبهة وشمولها للشّكّ البدوي والشبهة الابتدائية كذلك، أمّا عندما نجد تفسير عبارة الشبهة في الرواية متبوعة بها، ففي هذه الحالة، فإنّها تخرج من موضوع البحث وادّعاء المستدلّ.
والشاهد، أنّه ورد في بعض الروايات الحكم بجواز الزواج في الموارد التي يحتمل فيها الرجل ابتداءً أنّ المرأة التي يريد الزواج منها أخته من الرضاعة[51].
سؤال: قد نقول: إنّ العبارة الواردة في ذيل الرواية لا تحمل عنوان التفسير والتوضيح، بل بيان لأحد مصاديق الشبهة، وعليه، فإنّ كلمة (الشبهة) تشمل الفرع الذي نقوم بالبحث فيه، كما تشمل سائر الشبهات البدوية الاُخرى، وبالتالي يجب القول: إنّ للرواية دلالة واضحة على الوجوب الشرعي للاحتياط عند الشبهة.
الجواب: في هذه العبارة، لم يُكتف ببيان نموذج واحد أو عدّة نماذج، حيث ذكر في ذيلها ما يلي: «وما أشبه ذلك»، وهذا يعني أنّه ليس المراد من الشبهة في هذه الرواية كلّ أنواع الشبهات، بل المراد الشبهات التي تشابه الموارد التي أشارت الرواية إليها.
2. إنّ عبارة «وقفوا عند الشبهة» لا توجد في النسخ الفعلية للتهذيب، وهذا الأمر يوجب الإجمال في عبارة الرواية، ويخدش الاستدلال بهذه الفقرة منها، وبالتالي لا دلالة لهذه الرواية على المدّعى أيضا.
نتيجة: يتّضح إلى هنا عدم إمكانية إثبات الوجوب الشرعي للاحتياط لا من الروايات الأربعة ولا من المزاج الشرعي السائد في هذا الباب.
الرأي الثاني (أصالة البراءة)
بعد ردّ أدّلة القائلين بوجوب إجراء أصل الاحتياط في المسائل المتعلّقة بباب النكاح، من الطبيعي أن نصل إلى النتيجة القائلة بأنّ الأصل الاُولى في باب النكاح هو أصالة البراءة العقلية والشرعية.
بناءً على ذلك، يمكننا التمسّك، في الفرضيات المتعلّقة بمسألة التلقيح الصناعي بهذا الأصل، والحكم بالجواز في كلّ مورد لم نجد دليلاً قاطعا ومعتبرا على المنع وعدم الجواز من آيات أو روايات.
لا ريب، أنّ من البديهي مطلوبية أصالة الاحتياط عقلاً وشرعا، أمّا أن يكون الاحتياط واجبا شرعيا فلم نجد دليلاً عليه.
الفصل الثاني: أقسام التلقيح الصناعي والبحث فيها فقهيا
بعد أن ثبّتنا أنّ الأصل الأوّلي في مثل هذه المسألة هو أصالة البراءة العقلية والنقلية، نصل الآن إلى الدراسة الفقهية والقانونية لأشكال التلقيح الصناعي المختلفة وأقسامها المتعدّدة.
من الجدير ذكره، أنّه توجد أشكال وأقسام وفرضيات متعدّدة ومتنوّعة في التلقيح الصناعي، لكنّنا، في هذا الفصل، سوف نقارب بالدراسة الفرضيات الأساسية العامّة والمهمّة منها، وممّا هي محل ابتلاء الأفراد وتساؤلاتهم.
الشكل الأوّل: تلقيح نطفة رجل في رحم زوجته الشرعية
أوّل أقسام التلقيح الصناعي، أن يتمّ إقرار نطفة رجل في مهبل أو رحم زوجته الشرعية بواسطة أداة طبية، لعدم إمكان التلقيح بشكل طبيعي بسبب عوامل تمنع المرأة عن الإنجاب، مثل اختلال الإباضة، أو ضعف منيّ الرجل، ما يُضطّر للّجوء إلى هذه الطريقة ضمن شروط معيّنة عبر أدوات ووسائل مخصوصة، حتّى يجري التلقيح الذي قد يجري خارج الرحم، ومن ثمّ توضع المادة الناتجة عن ذلك في رحم الزوجة لتنمو وتتحوّل إلى جنين.
والسؤال المطروح هنا: هل يجوز شرعا هذا الشكل من أشكال التلقيح أو لا؟
لدراسة هذا السؤال والوصول إلى إجابة عنه، سوف نبحث في مقامين:
ـ المقام الأوّل: الحكم الفقهي لهذا الشكل بحدّ ذاته، دون أيّ اعتبار آخر.
لم نجد في الآيات الكريمة أو الروايات الشريفة أيّ دليل نستند إليه يوجب إجراء التلقيح بين الرجل وزوجته بطريقة طبيعية فقط، لذا يمكننا إجراء أصالة البراءة العقلية والشرعية في هذا المقام، والحكم بالجواز.
و عليه،لا مانع شرعا من القيام بهذا العمل بحدّ ذاته وجوازه، سواءٌ تمّ زرع المنيّ بالبويضة في الرحم أو خارجه، ومن ثمّ أقرّ فيه.
ـ المقام الثاني: الحكم الفقهي لهذا الشكل، مع الأخذ بعين الاعتبار لموانع شرعية اُخرى.
في هذه الحالة لا تكون الموانع الشرعية متعلّقة بالتلقيح بحدّ ذاته، بل باُمور مقدّمة أو مقارنة له تكون مانعة شرعا عن القيام به، مثل: اللمس أو النظر إلى عورة المرأة من قبل الطبيب المعالج، وهو حرام شرعا، ولا فرق في حرمة النظر إلى عورة المرأة بين كون الطبيب المعالج رجلاً أو امرأة، لأنّ النظر إلى عورتها ليس جائزا، إلاّ لزوجها فقط.
هنا تطرح هذه المسألة:
إذا استلزم إقرار نطفة الرجل في رحم الزوجة نظر الطبيب المعالج أو لمسه، فهل يجوز مثل هذا الشكل من التلقيح أو لا؟ وهل يمكن أن تكون هذه المقدّمات مانعا شرعيا لإجراء التلقيح؟[52]
لا يخفى أنّه إذا كان الطبيب المعالج زوج المرأة، عندها ينتفي موضوع المانع، ويعود الأمر إلى ما ورد في المقام الأوّل، والحكم بالجواز عندها.
يمكن البحث في المقام الثاني بناء على فرضين:
ـ الفرض الأوّل: أن يؤدّي عدم إنجاب الزوجين إلى نوع من الاضطرار والحرج، يضع حياتهما الزوجية في معرض الانهيار، أو خلق مشكلات اُخرى، عندها، تقوم قاعدة «لا حرج» برفع هذا المانع، حيث أثبتنا في بحثنا عن هذه القاعدة، جريانها في جميع الأحكام الإلزامية، وليست مختصّة بالوجوبية منها، بل تجري في المحرّمات كذلك، مع مراعاة بعض النقاط والضوابط التي جئنا على ذكرها بالتفصيل في رسالتنا حول هذه القاعدة[53].
على هذا الأساس، عندما يرتفع المانع والحرمة الشرعية عن نظر الطبيب المعالج ولمسه للمرأة، يصبح التلقيح جائزا.
ـ الفرض الثاني: في حال عدم وجود أيّ من حالات الاضطرار والحرج، هل يجوز كذلك نظر الطبيب المعالج ولمسه للمرأة لإجراء التلقيح بغرض العلاج والمداواة فحسب؟
في هذا الفرض، توجد رغبة داخلية من الزوجين للإنجاب، لكن بدونه تستمرّ حياتهما الزوجية في حالة جيّدة، يمكنهما خلالها أن يمضيا حياتهما معا كسائر الأشخاص بعيدا عن أيّة مشاكل، دون أن يجدا نفسيهما مضطرّين للقيام بالتلقيح للإنجاب، بل لغرض العلاج فقط.
هل يجوز شرعا للزوجين، عندها، أن يقوما بالتلقيح الصناعي للعلاج لا للاضطرار والضرورة، ولو أدّى ذلك إلى اللمس والنظر المحرّمين؟
هذه الحالة تشابه حالة امرأة ذات أنف كبير، ترغب بتصغيره، لغرض التجميل فقط، ولا يوجد ما يضطرّها لذلك، كما هو شائع ورائج هذه الأيّام، فهل يجوز لها أن تضع نفسها تحت تصرّف طبيب لمجرّد العلاج غير الضروري، دون أن تبلغ حدّ الاضطرار؟
من الممكن القول: إنّ مجرّد التجميل لا ينطبق عليه عنوان العلاج كذلك، إذ تُطرح في حالات وجود عيوب أو آلام، وهناك بعض حالات العلاج تحمل عنوان الضرورة، كأن تعاني المرأة من مشاكل قلبية، مع وجود أطبّاء وطبيبات، ولكنّها تثق وتطمئنّ بالأطبّاء أكثر من نظرائهم من الطبيبات، وهذا يكفي في علاجها من قبل الطبيب.
أمّا في الحالات غير الاضطرارية التي يكون فيها المعيار مجرّد المعالجة، فهل يمكن الاستفادة من الأدّلة في جواز وضع المرأة نفسها تحت تصرّف طبيب أجنبي ليقوم بزرع نطفة زوجها في رحمها، مستلزما ذلك منه النظر واللمس المحرّمين؟
رواية حول علاج المرأة من قبل الطبيب:
في الرواية المعتبرة، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر(عليهالسلام) قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح النظر إليها؟ قال: «إذا اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت».
جاء الحكم الذي صدر عن الإمام(عليهالسلام) بأسلوب شرطي من مكان (إذا) في الجملة حيث قال: (إذا اضطرّت إليه)، بمعنى أنّه إذا احتاجت المرأة إلى طبيب للعلاج، ولم يكن لها طريق آخر، فلا إشكال في ذلك، وبناءً على رأي المشهور، في باب مفهوم الشرط، بأنّ للجملة الشرطية مفهوما، عندها يكون مفهوم قول الإمام(عليهالسلام): (من لا تضطرّ للعلاج عند الرجل، لا يحقّ لها أن تعرض نفسها للطبيب أو أيّ شخص أجنبي، أمّا إذا اضطرّت لذلك بحيث لا تتمكّن الطبيبة من علاجها، وانحصر العلاج السليم بالطبيب، عندها لا إشكال في علاجه لها).
بناءً على ذلك، لا دليل شرعيا تعبّديا لدينا على تجويز وضع المرأة نفسها تحت تصرّف طبيب أجنبي للعلاج، لرغبتها فقط بذلك دون أن تكون مضطرّة إليه[54].
نعم، لا يبعد أن نستفيد من هذه الرواية أنّ عنوان العلاج هو المعيار الأصلي، بمعنى أنّه في كلّ مورد يحرز فيه صدق عنوان العلاج، بحيث لا تتوفّر طبيبة في هذه الحالة، عندها يجوز لها مراجعة طبيب.
توضيح ذلك: إذا جعلنا عنوان الاضطرار معيارا، فلا يجوز للمرأة مراجعة الطبيب في الحالات التي لا توجد فيها ضرورة لمعالجتها بل لمجرّد زيادة التجميل أو زيادة السلامة.
أمّا إذا جعلنا المعيار عنوان المعالجة، عندها لا يلزم في تحقّق هذا العنوان وجود الاضطرار، بل يلزم تحقّق عنوان الاضطرار في مراجعة الرجل، ونظرا إلى مورد السؤال، فإنّ دائرة الاضطرار تكون محدودة بحالة كون الطبيب الرجل أصلح وأرفق بالمرأة من الطبيبة، بعبارة اُخرى ليس المراد من الاضطرار عدم وجود الطبيبة أصلاً.
تذكير ببعض النقاط الهامة وهي:
ـ النقطة الاُولى: إنّ أدلّة حرمة النظر إلى الأجنبيّة، وأدلّة حرمة لمسها، مطلقة تشمل كلّ الحالات التي لا يكون فيها حرج ومشقّة، من قبيل كون الشخص ذا ولدين ويريد ثالثا، ويسلتزم ذلك تلقيحا صناعيا، وبالطبع يؤدّي إلى نظر الأجنبيّ إلى زوجته، لذا يحكم عندها بعدم الجواز.
ـ النقطة الثانية: إنّ مورد هذه الرواية يختلف عن موضع بحثنا، إذ لم يطرح في الرواية موضوع النظر إلى فرج المرأة، لذا يفترض جواز علاج الطبيبة، سواءٌ في حال الاضطرار أو الاختيار، وإنّ عدم الإشكال في العلاج من قبل الطبيبة أمر مفروغ عنه عند الراوي.
لكن موضع بحثنا هو التلقيح الصناعي، الذي يسلتزم غالبا النظر إلى الفرج ولمسه، وكما ذكرنا في أوّل البحث، بأنّه لا فرق في ذلك بين الطبيبة والطبيب، لأنّ نظر المرأة إلى فرج المرأة الاُخرى غير جائز إلاّ في حال الضرورة، وعلى ذلك، وبناءً على هذه الرواية لا يمكننا القول بجواز التلقيح الصناعي مطلقا، إذا تمّ من قبل الطبيبة، ولو لم يوجد اضطرار وحرج في البَيْن.
وعليه، إذا كانت المرأة كذلك هي الطبيبة المعالجة، ولم يكن هناك اضطرار في البين فإنّ التلقيح الصناعي بشكله الأوّل غير جائز كذلك.
ـ النقطة الثالثة: هل تشمل أدلّة حرمة النظر إلى الأجنبيّة ولمسها النظر إلى ظاهر جسم المرأة فقط كالشعر والجسد، أو أنّها تشمل باطنها كذلك ؟
لنفرض أنّه أراد طبيب أن يجري عملية جراحية في بطن امرأة، ولم يصحبها أيّ لمس أو تماس بظاهر بدنها أو النظر إليه بأيّ شكل، بل قامت امرأة اُخرى بفتح بطنها، ومن ثمّ قام الطبيب، مثلاً، بإجراء الجراحة في قلبها أو أمعائها، فالسؤال هنا: هل يحرم، في هذه الحالة، النظر إلى باطن جسم المرأة أو لمس قلبها أو أمعائها؟
تتوقّف الإجابة عن هذا السؤال على دراسة أدلّة النظر واللمس مثل قوله تعالى في الآية الكريمة: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ»[55] في أنّه هل يستفاد منها ومن هذه الأدلّة حرمة النظر إلى ظاهر أجسامهنّ فقط؟
لا ريب أنّ تفصيل هذا البحث يجب أن يطرح في كتاب النكاح، أمّا تحقيق ذلك، بشكل مجمل، هو أنّ مورد هذه الآية النظر إلى ظاهر الفرج، بمعنى أنّ اللّه تعالى في هذه الآية حرّم على المؤمنين النظر إلى فروج المؤمنات وبالعكس، ولا دلالة فيها على النظر إلى سائر أجزاء البدن أو باطنه.
الشكل الثاني: التلقيح الصناعي بين الرجل والمرأة الأجنبيّة
يتمثّل أحد أقسام التلقيح الصناعي بإقرار نطفة رجل في رحم امرأة ليست بزوجة شرعية له، والتلقيح ببويضتها، ويمكن تصوّر هذا الشكل، بشكل عامّ، في حالتين:
ـ الحالة الاُولى: أن يكون الزوج سببا لعدم إنجاب الزوجة، بحيث لا يكون منيّه قادرا على الإنجاب بأيّ شكل من الأشكال، لذا يتمّ تلقيح بويضة الزوجة بنطفة رجل آخر.
ـ الحالة الثانية: أن تكون الزوجة سببا لعدم الإنجاب، إذ يتمّ في هذه الحالة تلقيح نطفة الزوج ببويضة امرأة اُخرى، وتنشأ من هذه الحالة فرضيات مختلفة يمكن الإشارة إلى ثلاث أساسية منها:
1. أن تكون المرأة التي تتلقّى المنيّ، زوجة لرجل آخر.
2. ألاّ تكون المرأة التي تتلقّى المنيّ زوجة لأحد.
3. أن تكون المرأة التي تتلقّى المنيّ زوجة اُخرى لزوج المرأة الاُولى أو جارية لها.
ويمكننا جعل الحالتين المذكورتين أعلاه مع جميع فرضياتهما تحت عنوان عامّ: «إجراء التلقيح بين نطفة رجل وبويضة امرأة لا تربطه بها أيّة علاقة زوجية شرعية»، وبما أنّ سبب عدم الإنجاب في كلّ واحدة من هاتين الحالتين يؤدّي إلى نشوء فرضيات مختلفة ومتنوّعة، فقد قمنا بدراستهما بشكل مستقل.
على هذا الأساس، سوف نبحث في الحالة الاُولى فحسب، ونجعل الثانية تحت عنوان (الشكل الثالث) ونقوم بالبحث والتحقيق فيه فقهيا.
من الجدير بالذكر أنّنا ذكرنا بالتفصيل في البندين الثالث والرابع من الترسيم الذي أوردناه في مقدّمة هذا الكتاب الحالتين المذكورتين أعلاه وكافّة الفروع الصادرة عنهما.
ما هو الحكم الفقهي للشكل الثاني؟
إنّ الوصول إلى الحكم الفقهي بجواز أو عدم جواز الشكل الثاني من التلقيح الصناعي يرجع إلى الإجابة عن السؤال الأساسي التالي: «هل يجوز إقرار نطفة رجل أجنبي في رحم امرأة أجنبية؟».
للإجابة عن هذا السؤال يوجد رأيان، نبحث في أدلّة كلّ منهما، وبيان الرأي الفقهي المقبول وأدلّته.
الرأي الأوّل: حرمة الشكل الثاني للتلقيح الصناعي
حيث استند على ثلاث طوائف من الأدلّة:
الطائفة الاُولى: الروايات
الرواية الاُولى: التي نقلها ثقة الإسلام الكليني(رحمهالله) في الكافي، والشيخ الصدوق(رحمهالله) في عقاب الأعمال، والمحدّث البرقي(رحمهالله) في المحاسن نذكر نصّها من الكافي:
عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن عليّ بن سالم، عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام) قال:
إن أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أقرَّ نطفته في رحم يحرم عليه[56].
وقد جاء في كتاب دعائم الإسلام عن رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) أنّه قال:
... وأشدّ الناس عذابا يوم القيامة من أقرّ نطفته في رحم محرّم عليه[57].
وفي كتاب الجعفريات ودعائم الإسلام ما نُقل عن أمير المؤمنين(عليهالسلام) عن رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) أنّه قال:
ما من ذنب عند اللّه تبارك وتعالى بعد الشرك من نطفة حرام وضعها في رحم لا تحلّ له[58].
كما نقلت في عوالي اللآلي رواية بهذا الخصوص[59].
إنّ حرمة الرحم الواردة في الروايات تعني عدم وجود أيّة علاقة شرعية بين الرجل والمرأة من ملك يمين أو علاقة زوجيّة، لذا فالرحم الجائز ما كان من الزوجيّة، أو ملك يمين.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار اتّحاد مضمون هذه الروايات، بل وحتّى تشابهها في التعبير، فإنّ ذلك مؤيّد على تأكيد صدور رواية الكافي، لذا سوف نبحث الاستدلال بهذه الرواية من جهتين:
1. سند الرواية:
لا إشكال في سند هذه الرواية، بل نذكر ما دار من كلام حول عليّ بن سالم فحسب، حيث يوجد في الرواة شخصان يحملان هذا الاسم: أحدهما عليّ بن سالم البطائني الواقفي المذهب[60]، والآخر عليّ بن سالم مجهول الحال[61]، ويذكر بعض الأكابر ما يلي: «بما أن عليّ بن سالم في هذه الرواية مجهول الحال، فإنّها تسقط عن الاعتبار»[62].
برأينا، يمكننا رفع الإشكال السندي لهذه الرواية من جهتين:
الاُولى: التوثيقات العامّة
تعتبر التوثيقات العامّة من طرق دراسة أسناد الروايات ومعرفة وثاقة رواتها، حيث أسهب القول فيها تفصيلاً في الكتب الرجالية، منها ما اعتمده الشيخ المفيد(رحمهالله)وغيره حول أصحاب الإمام الصادق(عليهالسلام)، من غير من صُرِّح بضعفه[63]، إذ على أساسه، يعتقد البعض أنّ كافّة أصحاب الإمام الصادق(عليهالسلام) ممّن ذكروا في رجال الشيخ الطوسي(رحمهالله)، ثقات، جاء في معجم رجال الحديث ما يلي:
قيل: إن جميع من ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق(عليهالسلام) ثقات، واستدلّوا على ذلك بما ذكره الشيخ المفيد في أحوال الصادق(عليهالسلام)، قال: (إن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه(عليهالسلام) من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف)[64].
وممّن قبل هذا التوثيق الشيخ الحرّ العاملي(رحمهالله) الذي ذكر في كتاب أمل الآمل في ترجمة «خليد بن أوفى» ما يلي:
ولو قيل بتوثيقه وتوثيق أصحاب الصادق(عليهالسلام) إلاّ من ثبت ضعفه لم يكن بعيدا، لأنّ المفيد في الإرشاد، وابن شهرآشوب في معالم العلماء، والطبرسي في إعلام الورى قد وثّقوا أربعة آلاف من أصحاب الصادق(عليهالسلام)، والموجود منهم في كتب الرجال والحديث لا يبلغون ثلاثة آلاف، وذكر العلاّمة وغيره أنّ ابن عقدة جمع الأربعة آلاف المذكورين في كتب الرجال[65].
على هذا الأساس فإنّ عليّ بن سالم، مع مجهولية حاله، ثقة بالتوثيقات العامّة التي اعتمدها الشيخ المفيد(رحمهالله)، وتصبح روايته معتبرة.
أمّا المحقّق الخوئي(رحمهالله)، وإن كان قد اعتبر التوثيقات العامّة حجّة في البداية، لكنّه رجع عن هذا المبنى في أواخر حياته، بالقول بعدم حجّيّة بعض التوثيقات، منها توثيق الشيخ المفيد(رحمهالله)، وبناءً على رأيه ذاك، فإن في سند هذه الرواية إشكالاً.
برأينا، فإنّ التوثيق العامّ للشيخ المفيد(رحمهالله) مع تلك الجلالة التي يحظى بها كافٍ في إثبات وثاقة كافّة أصحاب الإمام الصادق(عليهالسلام) إلاّ من صُرِّح بضعفه، وبالتالي فإنّ رواية عليّ بن سالم معتبرة.
الثانية: رواية ابن أبي عمير وغيره عنه
إن كان عليّ بن سالم هذا هو نفسه عليّ بن سالم الكوفي، فهو ممّن نقل الحديث عنه عدّة أجلاّء مثل: ابن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمن، وإحدى طرق الوصول إلى تحديد اعتبار الراوي، أن ينقل عنه الحديث الأجلاّء من رواته.
بناءً على ذلك، إن لم نستطع إثبات اعتبار الرواية عن طريق التوثيقات العامّة فإنّه يكفينا هذا الوجه في تشخيص اعتبار هذه الرواية من الكافي.
طبعا، يصحّ هذا إذا علمنا أنّ عليّ بن سالم الذي ورد اسمه في هذه الرواية هو نفسه عليّ بن سالم الكوفي.
النتيجة: برأينا، هذه الرواية معتبرة ولا يمكن الخدش فيها من حيث السند.
من الجدير ذكره أنّ المحدّث المجلسي قدسسره عبَّر عن هذه الرواية في روضة المتقين كما يلي: «الموثّق كالصحيح»[66].
2. دلالة الرواية:
لبيان كيفيّة الاستدلال بهذه الرواية على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، يلزم علينا في البداية أن نوضّح بعض التعابير التي وردت فيها.
أ) ما هي النطفة؟
ورد في صحاح الجوهري في المعنى اللغوي للنطفة ما يلي:
النطفة: الماء الصافي قلَّ أو كثر[67].
وفي لسان العرب شرح تلك الكلمة ومعناها اللغوي كما يلي:
النطفة: الماء القليل يبقى في الدلو، عن اللحياني أيضا، وقيل: هي الماء الصافي، قلّ أو كثر، والجمع نطفٌ ونطاف، وقد فرق الجوهري بين هذين اللّفظين في الجمع فقال: النطفة: الماء الصافي والجمع النطاف، والنطفة ماء الرجل، والجمع نطف[68].
وذكر الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات ما يلي:
النطفة: الماء الصافي، ويعبّر بها عن ماء الرجل[69].
نلاحظ، بناءً على قول الجوهري، إطلاق النطفة لغةً على الماء الصافي، وكذلك على ماء الرجل، لكن يدّعي البعض أنّ النطفة عبارة عن التركيب الناتج عن اتّحاد منيّ الرجل ببويضة المرأة.
وقد ذكر صاحب كتاب الكلمات السديدة ما يلي:
والظاهر أنّ المراد بالنطفة هي المركّبة من منيّ الرجل وبيضة المرأة، وهي أوّل ما يخلق من مبدأ نشوء الإنسان كما في موثّقة إسحاق بن عمّار الواردة في النهي عن شرب الدواء المسقط للحمل من قول أبي الحسن(عليهالسلام): إنّ أوّل ما يخلق النطفة[70].
برأينا، إنّ هذا المعنى للنطفة غير تامّ، والشاهد على هذا المدّعى يمكن أن يكون نفس الرواية أيضا، بنسبتها النطفة إلى الرجل «رجل أقرَّ نطفته» ولا يهمّ العرف من هذه العبارة كون المقصود من هذه النطفة هو التركيب الحاصل من منيّ الرجل وبيضة المرأة.
نعم، إنّ ما ورد في هذه الروايات هو المعنى المجازي للنطفة باعتبار الدور المؤثّر لماء الرجل في التركيب الحاصل وتشكيله، لذا عبّر عن هذا التركيب الحاصل بالنطفة، من باب تسمية الكلّ باسم جزئه.
عليه، وبناءً على ما نقلناه من أهل اللغة، وكذلك على أساس ظاهر هذه الرواية، يتّضح: ليس المراد من «النطفة» التركيب الحاصل من المنيّ والبويضة، بل المراد منها ماء الرجل ومنيّه، إلاّ إذا وجدت قرينة تدلّ على الخلاف.
ب) ما المقصود من استقرار النطفة؟
يمكن النظر إلى العلاقة الجنسية بين الرجل الأجنبي والمرأة من ناحيتين:
الاُولى: مقاربتهما، إذ قد تتمّ بالزنا مترافقة مع إقرار النطفة في رحم المرأة، وأحيانا يكون مترافقا بالدخول فحسب، دون إقرار النطفة في رحم المرأة، وهو يعدّ زنا، سواءٌ أقرّ النطفة في رحم تلك المرأة أو لم يجعلها تستقرّ.
الثانية: إقرار المنيّ في رحم المرأة الأجنبية، حيث نأخذ بعين الاعتبار إقرار النطفة في رحم المرأة لا مقاربة الزاني، سواء تمّ ذلك بالدخول والمقاربة، أو بأيّة وسيلة اُخرى.
من الواضح وجود عموم وخصوص من وجه، بين الفرضين الأوّل والثاني، إذ من ناحية، يبعد إمكان إطلاق عنوان الزنا على إقرار النطفة في رحم المرأة بدون الدخول.
في الحقيقة، إذا أردنا أن نتكلّم حول حجم المعصية ومقدارها في إقرار النطفة في رحم امرأة أجنبيّة وإنجاب ولد من زنا، عندها لا فرق في أن يكون هذا الإقرار في رحم المرأة ناشئا عن المقاربة والدخول أو بدونهما، كأن يضع رجل منيّه بأيّة وسيلة في رحم امرأة أجنبيّة ممّا يوجب تكوين ولد من زنا في رحمها.
ليست هذه الرواية بصدد بيان الزنا والمقاربة من حرام، فمعصية الزنا واضحة ومبرهنة للجميع، وقد أمر اللّه تعالى في القرآن الكريم صراحة بعدم القرب منه[71]، بل إنّ الرواية تشير إلى الفرض الثاني، وهو غير مطلق الزنا بل أبعد منه، إذ إنّ الزاني بلغ درجة من العصيان والوقاحة والتمرّد، بحيث يقرّ نطفته في رحم امرأة أجنبيّة ممّا يؤدّي إلى تكوين جنين من الحرام، لذا توعّد هذا الشخص بأشدّ العذاب يوم القيامة.
بناءً على ذلك، إذا كان إقرار النطفة في رحم المرأة الأجنبيّة محكوما بهذا العذاب، فإنّ هذا الإقرار مطلق، لا فرق فيه بين أن يتمّ عن طريق المقاربة، أو بوسيلة اُخرى ليؤدّي إلى إنجاب طفل من حرام.
بتوضيح آخر، يمكننا أن نلغي خصوصية الزنا والمقاربة فيها، بالقول بأنّها جعلت الملاك في شمول هذا النوع من العذاب من أقرّ نطفته في رحم امرأة أجنبيّة، فإذا أمكننا القول: إنّه لا خصوصية ولا موضوعية في هذه الرواية للزنا والمقاربة، بل الملاك لمثل هذه المعصية إقرار النطفة في رحم امرأة أجنبيّة فحسب، في هذه الحالة إذا حصلت عملية التلقيح الصناعي بين نطفة هذا الرجل وبويضة المرأة الأجنبية عندها يتحقّق إقرار النطفة في رحم المرأة مع بقاء الحرمة.
مع هذا التوضيح، لإقرار النطفة في رحم المرأة الأجنبيّة موضوعية، وبالتالي يصبح مشمولاً لحكم أشدّ العقاب، ولو لم يتمّ عن طريق الزنا، بأن لا يحصل أصلاً الدخول والمقاربة بين الرجل المرأة الأجنبيّين، بل تمّ دخول نطفة الرجل إلى رحم المرأة من غير الطريق الطبيعي.
مناقشة الاستدلال بالرواية:
يلاحظ عدم استفادة مثل هذا الإطلاق من الرواية بل إنّه مشكل وغير تامّ، لما يلي:
أوّلاً: يظهر من كلام الإمام(عليهالسلام) نسبة الإقرار إلى الرجل نفسه، حيث يقول: «رجل أقرّ نطفته في رحم...»، بناءً على ذلك لا يشمل هذا الأمر جميع فرضيات الشكل الثاني للتلقيح الصناعي، حتّى ولو قبلنا الإطلاق المذكور ولم نقيّد ذلك الإقرار بالمباشرة والمقاربة، لأنّه إذا فرضنا تماميّة دلالة الرواية على شمولها للشخص الذي يقرّ نطفته في رحم امرأة أجنبيّة بأداة ما، فلا بدّ من وجود موارد خارجة عن هذه الرواية على الأقلّ، مثل:
1. إذا أقرّ الغير نطفة الرجل في رحم امرأة أجنبيّة، وكان على علم بهذا الأمر، فيبعد في هذه الحالة شمول إطلاق هذه الرواية لها.
2. إذا اعتبرنا المورد السابق مشمولاً للإطلاق، فإنّه لا أقلّ في الحالة التي لا يكون الرجل مطّلعا على إقرار نطفته في رحم امرأة أجنبيّة وعدم تشخيص هويّته فلا يمكننا بأيّ وجه أن نشمل إطلاق الرواية لهذه الحالة.
هل يمكن اعتبار الرجل الذي لا علم له بمن أقرّ نطفته في رحم تلك المرأة، وكذلك المرأة التي لا تعلم انتماء تلك النطفة لأيّ شخص مشمولين بـ (أشدّ الناس عذابا يوم القيامة)؟
إنّ المثال الواضح لتلك المسألة ما ورد في كتاب الحدود، حيث يقارب رجل امرأته، ثمّ تقوم تلك المرأة بمساحقة امرأة اُخرى، بحيث تستقرّ نطفة زوجها في رحم تلك المرأة، ففي هذه الحالة لا يمكننا أن نقول بأيّ وجه أنّ هذه المرأة المساحقة أو زوجها مشمولان بالحكم الوارد في الرواية (أشدّ الناس عذابا يوم القيامة).
2. بالإضافة إلى الإطلاق المذكور يوجد احتمال آخر أيضا، بأنّ الرواية تقول بخصوصية لاستقرار النطفة الناشئة عن المقاربة بحيث إنّ فرض المقاربة بين الرجل والمرأة في الرواية مفروغ عنه، لذا لم تتمّ الإشارة إليها.
بعبارة اُخرى، فإنّ الرواية ظاهرة، أو لا أقلّ فإنّنا نحتمل هذه الخصوصية لها بأنّ هناك موضوعية لمسألة المقاربة فيها، وأنّه بمجرّد أن يقرّ الرجل نطفته في رحم امرأة أجنبيّة ولو بدون مقاربة، فإنّه لن يكون مشمولاً بأشدّ العذاب.
من الواضح أنّه إذا زنى رجل بامرأة أجنبيّة، وأقرّ نطفته في رحمها، فإنّ الطفل الناتج عنهما يعدّ ولد زنا، أمّا إن لم تتمّ من المقاربة، وإنّما تمّ أخذ النطفة بأداة أو وسيلة معيّنة وتمّ إقرارها في رحم امرأة أجنبيّة، ولم يتمّ زنا، فإنّنا حتّى ولو قلنا بحرمة هذا العمل، ولكن الطفل المتولّد عنه لا يدعى ولد زنا، بل ولدا من حرام.
بناءً على ذلك، إذا كانت لمسألة المقاربة والزنا موضوعية، أو لا أقلّ احتملنا لها خصوصية، فإنّ هذا الاحتمال كافٍ لعدم إمكانية استنباط الإطلاق والملاك الكلّي منها.
نتيجة:
بالنظر إلى المناقشة التي قمنا بها في الاستدلال بالرواية، فإنّنا نستنتج ما يلي:
إنّ هذه الرواية لا تستطيع إثبات حرمة الشكل الثاني للتلقيح ـ أي التلقيح بين نطفة رجل أجنبيّ وامرأة أجنبيّة ـ خصوصا في حالة لم يتمّ هذا التلقيح بإرادة الرجل.
ـ الرواية الثانية: الرواية التي نقلها الشيخ الصدوق(رحمهالله) في موضعين من كتاب (من لا يحضره الفقيه)، وكذلك في (الخصال) ونصّها طبقا لما ورد في الخصال ما يلي:
حدّثنا محمّد بن الحسن رضىاللهعنه، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه عن القاسم بن محمّد، عن سليمان بن داود، قال: سمعت غير واحد من أصحابنا يروي عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام)أنّه قال:
قال النبيّ(صلى الله عليه و آله): لن يعمل ابن آدم عملاً أعظم عند اللّه تبارك وتعالى من رجل قتل نبيّا أو إماما أو هدم الكعبة التي جعلها اللّه عزّ وجلّ قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراما[72].
سندرس هذه الرواية من جهتين:
أ) سند الرواية:
كما ذكرنا فإنّ الصدوق(رحمهالله) نقل هذه الرواية في كتابيه، أي: في الفقيه والخصال، حيث نقل الاُولى مرسلة والثانية مسندة، والآن سنقوم بدراسة السند على أساس كلا النقلين.
1. دراسة سند الخصال:
يوجد إشكالان في السند الوارد في الخصال لهذه الرواية:
الإشكال الأوّل: وجود شخص باسم «قاسم بن محمّد الأصفهاني» في سند الرواية المعروف بـ «كاسام» أو «كاسولا»[73].
يقول عنه النجاشي:
القاسم بن محمّد القمي، يعرف بـ (كاسولا): لم يكن بالمرضيّ[74].
ويقول ابن الغضائري كذلك في صحّة وسقم الحديث الذي يرويه ذلك الشخص ما يلي:
القاسم بن محمّد الأصفهاني كاسولة أبو محمّد، حديثه يعرف تارة وينكر اُخرى، ويجوز أن يخرج شاهدا[75].
بالنتيجة، فإنّ توثيق قاسم بن محمّد ليس واضحا، والنقطة الوحيدة التي توجد حوله هي رواية مجموعة من الأجلاّء عنه، مثل: إبراهيم بن هاشم، أحمد بن محمّد البرقي، سعد بن عبد اللّه، عليّ بن محمّد القاساني، وآخرون[76]، ويمكن أن يكون هذا الأمر جابرا لعدم توثيقه.
الإشكال الثاني: ورد في سند الرواية ما يلي: «عن غير واحد من أصحابنا»، حيث يحتمل من هذه المجموعة من الأفراد ثلاث حالات ممكنة هي:
ـ أن يكون جميعهم موثّقين.
ـ أن يكون بعضهم موثّقا، والبعض الآخر غير ثقة.
ـ أن يكون جميعهم غير ثقات.
بناءً على الاحتمال الأوّل والثاني، لا إشكال في سند الرواية، أما بناءً على الاحتمال الثالث فلا اعتبار لسند الرواية.
2. سند الرواية في الفقيه:
نقل الصدوق(رحمهالله) هذه الرواية في كتاب (من لا يحضره الفقيه) مرسلاً بدون ذكر سند لها، حيث قال: «قال النبيّ(صلى الله عليه و آله)»، ومن ثمّ ذكر نصّ الرواية.
يوجد حول مراسيل الصدوق في كتاب الفقيه ثلاثة آراء هي:
ـ الرأي الأوّل: يتعامل بعض الفقهاء مع مراسيل الصدوق كما يتعاملون مع باقي المراسيل، أي: بمعنى عدم اعتبار هذه المراسيل وسقوطها عن الحجّية.
ـ الرأي الثاني: يعتقد كثير من المحدّثين والفقهاء أنّ مراسيل الصدوق كمسانيده في الاعتبار والاستدلال، وهذا الرأي كذلك مطروح حول مراسيل أشخاص مثل: ابن أبي عمير، والشيخ الطوسي.
بل إنّ البعض ذهب بعيدا في هذا بقوله: إنّ الروايات المرسلة التي ينقلها هؤلاء المحدّثون، هي أكثر اعتبارا من مسانيدهم، بمعنى أنّه عندما يقول الصدوق(رحمهالله): «قال رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) كذا»، عندها يتّضح لنا اعتراف الصدوق بهذه الرواية مئة في المئة، وهذا التعبير يحكي عن نقل الصدوق لهذه الرواية بإسناد قطعي عن رسول اللّه(صلى الله عليه و آله)، وإلاّ لم يكن يقول ذلك بهذا القطع بقوله: «قال النبيّ»، لكنّه عندما يذكر ما يلي: «حدّثني فلان عن فلان»، فإنّ ذلك ظاهر في عدم رغبة الصدوق(رحمهالله) في إسناد الحديث بشكل قطعي إلى المعصوم، بل يقول بأنّ فلانا من الناس نقل الحديث إليَّ، حتّى يرفع المسؤولية عن كاهله.
يعتبر الشيخ البهائي(رحمهالله) ممّن يقول باعتبار مراسيل الصدوق وحجّيّتها، حيث يذكر في كتاب (الحبل المتين)، أثناء دراسته لإحدى مراسيل الشيخ الصدوق ما يلي:
إنّ الرواية الاُولى من مراسيل الصدوق في كتاب (من لا يحضره الفقيه)، وقد ذكر رحمه اللّه أنّ ما أورده فيه، فهو حاكم بصحته معتقدا به حجّةً في ما بينه وبين اللّه تعالى، فينبغي ألاّ يقصر مراسيله عن مراسيل ابن أبي عمير، وأن تعامل معاملتها، ولا تطرح بمجرّد الإرسال[77].
وقد نقل أيضا عن جماعة من الاُصوليين ممّن يعتقد بترجيح مراسيل الصدوق على مسانيده[78].
ـ الرأي الثالث: من المتأخّرين علماء كبار مثل المحقّق النائيني[79]، والإمام الخميني[80]، ووالدنا المرحوم رحمهمالله[81] يقول بأنّ مراسيل الصدوق قسمان:
الأوّل منها، تلك التي يرد فيها الألفاظ التالية: (قيل، نُقل، روي)، حيث لا نستطيع في مثل هذه الموارد أن نعتمد عليها ونحتجّ بها.
أمّا القسم الثاني ما فيه إسناد قطعي من قبله ويقول فيها: (قال...)، حيث إنّ هذا القسم من الإسناد كاشف عن قطعية صدور هذا الحديث عن المعصوم عنده.
يقول والدنا المحقّق قدسسره في هذا الأمر:
إنّ الإرسال على قسمين: قسم يكون قول الإمام(عليهالسلام)، أو فعله، أو تقريره منسوبا إلى الرواية بقوله: روي كذا وكذا، وقسم يسند الراوي أحد هذه الاُمور إلى الإمام(عليهالسلام) مستقيما، فهذا القسم من الإرسال الذي هو لا يتحقّق إلاّ مع توثيق الرواة الواقعة في سند الرواية بأجمعها، يكون مشمولاً لأدلّة حجّيّة خبر الواحد ويكون حجّة[82].
ونحن كذلك نأخذ بهذا الرأي، ونعتقد أنّه إذا أردنا أن نطرح كافّة مراسيل الصدوق جانبا، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سقوط حوالي 2000 رواية عن الاعتبار، بناءً على ذلك، فإنّ المراسيل من قبيل الرواية التي نبحث فيها هي قابلة للاستناد والاجتماع، ولا إشكال فيها من حيث الإرسال.
نتيجة الدراسة السندية:
إذا لم نعتبر هذه الرواية بسبب الإشكال السندي في الخصال، فإنّ سندها في الفقيه، ولو كانت مرسلة، هي قابلة للاجتماع ومعتبرة، ونستطيع الاستدلال بها.
لذا، فإنّ هذه الرواية لا إشكال فيها من حيث السند ومعتبرة.
ب) تقريب الاستدلال بالرواية:
عدّ عدّة من الفقهاء هذه الرواية دليلاً على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، وفي مقام الاستدلال بذلك استندوا إلى الفقرة الرابعة منها حيث يقول فيها الإمام(عليهالسلام): «أو أفرغ ماءه في امرأة حراما».
فإنّ مفردة (حراما) ليست صفة للمرأة أو حالاً لها في هذه العبارة، بل هي صفة لمصدر مقدَّر[83]، بمعنى أنّ العبارة كانت بهذا الشكل: أفرغ إفراغا حراما.
ولكن هذا الإفراغ مطلق يشمل إدخال ماء الرجل إلى داخل رحم المرأة الأجنبيّة بأيّ شكل من الإشكال تمّ ذلك، سواء تمّ ذلك بالمقاربة أو بأداة وجهاز أو بالتلقيح الصناعي.
مناقشة الاستدلال بالرواية:
لا ريب أنّه إذا تمّ الإفراغ عن طريق الزنا والمقاربة، فإنّ هذا الإفراغ محرّم، أمّا إذا تمّ الإفراغ في رحم المرأة الأجنبيّة بواسطة جهاز، عندها يحصل الشكّ في كون ذلك من مصاديق الإفراغ المحرّم أو لا؟
وهنا تكون الشبهة في المصداق، وإذا أردنا إثبات حرمة هذا النوع من الإفراغ، فإنّنا نتمسّك بهذه الرواية، وهذا التمسّك من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، الذي لا يصحّ بناءً على مشهور الاُصوليين.
وعليه، لا دلالة لهذه الرواية على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي بواسطة الجهاز عبر إدخال منيّ الرجل إلى رحم المرأة الأجنبية.
ـ الرواية الثالثة: الرواية التي نقلها المشايخ الثلاثة، أي: الشيخ الصدوق، ثقة الإسلام الكليني، الشيخ الطوسي رحمهمالله، كلٌّ بسنده في كتب: علل الشرائع، من لا يحضره الفقيه، الكافي والتهذيب[84]، بحيث يوصلون سند تلك الرواية جميعا إلى الحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائني، عن أبي عبد اللّه المؤمن، عن إسحاق بن عمّار، مع اختلافهم في طريقهم إلى الحسن بن علي.
نصّ الرواية بناءً على نقل الكافي كما يلي:
عن إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد اللّه(عليهالسلام) الزنا أشرّ أو شرب الخمر، وكيف صار في الخمر ثمانية وفي الزنا مائة؟ فقال:
يا إسحاق الحدّ واحد، ولكن زِيدَ هذا لتضييعه النطفة ولوضعه إيّاها في غير موضعها الذي أمره اللّه عزّ وجلّ به[85].
تقريب الاستدلال بالرواية:
حول مدلول هذه الرواية يطرح مطلبان هما:
ـ المطلب الأوّل: هل ذيل هذه الرواية بصدد بيان محرّمين هما تضييع النطفة، ووضع النطفة في الموضع الحرام؟
في الجواب على هذا السؤال نقول: ظاهر الرواية أنّ عبارة (لوضعه...) توضيح لتضييع النطفة، بمعنى أنّ التضييع المحرّم للنطفة هو وضعها في غير موضعها المحلّل، والذي أمر اللّه تعالى به.
إنّ فتوى المتأخّرين من الفقهاء كذلك بأنّ تضييع النطفة ـ عن طريق العزل مثلاً ـ لا حرمة فيه، بناءً على هذا، إذا علمنا بغضّ النظر عن هذه الرواية بعدم حرمة العزل، عندها يمكن القول بهذه القرينة إنّ الرواية في مقام بيان ما يلي: إنّ إقرار أو وضع النطفة في غير موضعها الذي أمر اللّه تعالى بذلك، موجب لتشديد العقاب والحدّ والحرمة الشديدة.
ـ المطلب الثاني: ما معنى وضع النطفة في غير موضعها المحلّل؟
إنّ وضع النطفة مطلق، سواء تمّ بالزنا أو بجهاز وأداة وتلقيح صناعي، بحيث إنّه إذا تمّ وضع نطفة الرجل في رحم امرأة أجنبيّة بأيّ شكل من الأشكال فإنّه محرّم ومشمول بهذا الرواية.
بالنظر إلى ما ذكر في المطلبين السابقين، فإنّ الرواية المذكورة دالّة على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي وعدم جوازه.
مناقشة الاستدلال بالرواية:
في الجواب عن هذا الاستدلال نوضّح وجهين:
الوجه الأوّل: إنّ الرواية في مقام بيان مسألة حقوقية ووضعيّة من حيث شدّة الحدّ وضعفه، لا في بيان حكم تكليفي محض، وإن كان منشأ ازدياد الحدّ الشرعي وشدّته حرمة مضاعفة، وبما أنّ بحثنا في بيان الحكم التكليفي لحلّيّة التلقيح الصناعي أو حرمته، فعليه يتّضح عدم ارتباط الرواية المذكورة بمقام البحث.
الوجه الثاني: إن كانت هذه الرواية لا تحتوي على كلمات مثل (أقرَّ)، و (أفرغ)، بل عبّر عن ذلك بكلمة (وضع)، بقوله: (لوضعه إيّاها)، ولكن يجري في هذا المقام نفس التوضيح الذي أوردناه في الروايتين السابقتين حول موردي (أقرّ) و(أفرغ)، بمعنى أنّه إذا أقرّ نطفة الرجل في رحم امرأة اُخرى بجهاز، فلا نستطيع عندها القول: وضع الرجل ماءه في رحم امرأة محرّمة، بل قام آخرون أو قام جهاز بالقيام بهذا الأمر والفعل والعمل.
نظرا إلى ذينك الوجهين، فإنّ الاستدلال بهذه الرواية كذلك على حرمة الشكل الثاني للتلقيح الصناعي غير تامّ.
ـ الرواية الرابعة: إنّ عمدة الروايات التي استدلّ بها في هذا المقام كانت تلك الروايات الثلاث التي ذكرت سابقا، وكما لوحظ، فإن دلالتها على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي غير تامّة.
ولكن ذكر في بعض الآثار روايات اُخرى في إثبات الحرمة، منها الرواية التالية:
الحسين بن سعيد في كتاب الزهد، عن صفوان بن يحيى، عن أبي خالد، عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام) قال:
أتى النبيّ(صلى الله عليه و آله) أعرابيٌ فقال: يا رسول اللّه أوصني، فقال: احفظ ما بين رِجليك[86].
لقد ذكر في توضيح هذه الرواية الشريفة بأنّ المراد من الأمر بحفظ ما بين الرِجلين كناية عن المواظبة والمراقبة على عدم ارتكاب الحرام والزنا من هذا الطريق.
وقد استدلّ عدّة من كون الأمر بحفظ ما بين الرجلين مطلقا، على أنّه إذا قام شخص بإدخال نطفته بواسطة جهاز في رحم امرأة أجنبيّة، فإنّه لم يحفظ ما بين رِجليه.
في رأينا، إنّ الاستظهار من هذه الرواية فيه تكلّف شديد، لأنّ قوله «احفظ ما بين رِجليك» بمعنى حافظ وراقب نفسك عن ارتكاب الزنا، بل اسلك طريق الزواج والسبل الشرعية في ذلك.
ـ الرواية الخامسة: إنّ الرواية الاُخرى التي استدلّ بها لإثبات حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي هي معتبرة عمّار الساباطي ونصّها ما يلي:
عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام) في الرجل ينكح بهيمة أو يدلك، فقال:
كلّ ما أنزل به الرجل ماءه في هذا وشبهه فهو زنىً[87].
تقريب الاستدلال بالرواية:
يلزم في مقام الاستدلال بهذه الرواية على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، ذكر مطلبين:
ـ المطلب الأوّل: إنّ الإمام(عليهالسلام) في هذه الرواية في مقام بيان الحكم التكليفي لوطء البهيمة والاستمناء لا في مقام بيان الحكم الوضعي والقانوني لذلك، ومقدار الحدّ الشرعي الناجم عن القيام بمثل هذه الاُمور، لذا، فإنّ مقصوده اعتبار هذه الاُمور بمنزلة الزنا أنّها في حكم الزنا، لا أنّ فيها حدَّه.
ـ المطلب الثاني: هذه الرواية في مقام بيان حكم كلّيّ عامّ على حرمة إنزال الشخص من غير طريق المقاربة الجنسية، حيث تشمل مقام بحثنا كذلك، بمعنى أنّه إذا أنزل الرجل منيّه وقام بتحويله إلى مركز ما ليقوم ذلك بإقراره في رحم امرأة أجنبيّة، فإنّنا نعتبر ذلك الأمر كالزنا كذلك.
مناقشة الاستدلال بالرواية:
إذا تمّ إقرار منيّ رجل بواسطة جهاز داخل رحم امرأة اُخرى، بأيّ شكل تمّ ذلك الفصل لذلك المنيّ من الرجل، فهل لهذا الأمر كذلك حكم الزنا؟ مثلاً إذا احتلم رجل في نومه فأفاق في نفس تلك اللحظة وقام بإعطاء نطفته إلى هذا المركز، أو أنزل عن طريق المقاربة المحلّلة وأعطى نطفته إلى ذلك المركز، فهل يكون هذا الأمر مشمولاً بإطلاق الرواية؟
من الواضح أنّ استظهار مثل هذا الأمر من الرواية بعيد جدا.
إنّ عبارة (كلّ ما أنزل به الرجل ماءه في هذا وشبهه) في مقام بيان قاعدة عامّة في الإنزال، وهي أنّه يجب على الرجل أن يقوم بالإنزال بإرادته ومع حليلته، حتّى إنّه لا يحقّ له الاستمناء لوحده، أمّا إذا تمّ الإنزال مع مقاربة حليلته وتمّ إقرار نطفته في رحم امرأة اُخرى، فإنّ استظهار مثل هذا الأمر من هذه الرواية بعيد جدّا، بل إنّ الرواية في مقام بيان الإنزال فقط بدون سبب شرعي كوطء البهيمة، الاستمناء، اللواط و... ولا يشمل ما نحن فيه.
نتيجة دراسة الروايات:
إنّ أهمّ إشكال يرد على الاستدلال بهذه الروايات الواردة بشكل مختصر، هو أنّ هذه الروايات لا تشمل ما نحن فيه من محلّ البحث والنزاع، من إقرار نطفة ومنيّ رجل في رحم امرأة أجنبية بواسطة جهاز، بعبارة اُخرى، لا نستنبط من هذه الروايات مناطا وملاكا بحرمة إقرار النطفة في رحم أجنبية بأيّ طريقة كانت كما استفاد ذلك عدّة من الفقهاء.
وبما أنّنا لم نصل إلى مثل هذا الحكم، فإذا شككنا بأنّ هذا العمل محلّل أو لا، فإنّنا نجري في المقام ذلك الأصل الأوّلي ونحكم بالبراءة وحلّيّة التلقيح الصناعي من الشكل الثاني، إلاّ إذا استطعنا أن نثبت الحرمة بأدلّة اُخرى، حيث سنقوم بدراسة تلك الأدلّة في تتمّة بحوثنا.
الطائفة الثانية: الآيات القرآنية
إنّ الطائفة الاُخرى من الأدلّة التي تمسّكوا بها للاستدلال على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، هي بعض الآيات الكريمة، وفي هذه الآيات توجد بحوث مفيدة ودقيقة وقابلة للتأمّل، نتطرق إليها بشكل مختصر فيما يلي:
الآية الاُولى: الآية 31 من سورة النور
«وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»[88].
تقريب الاستدلال بالآية
إنّ الشاهد في هذه الآية هي عبارة «يََحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»، إذ لم يذكر فيها متعلّق (الحفظ)، ولذا على أساس الأصل الذي يحكم بدلالة حذف المتعلّق على العموم، يلزم منه حفظهنّ فروجهنّ من كلّ شيء، من النظر، اللمس، المقاربة بالأجنبي و...، لذا فإنّها تشمل المسألة التي نحن فيها أيضا، أي يجب على المرأة أن تحفظ فرجها من غير نطفة زوجها مطلقا، حتّى في الموارد التي يتمّ فيها إدخال النطفة بواسطة جهاز.
نقد ودراسة للاستدلال بهذه الآية
نستطيع الرّدّ على هذا الاستدلال من خمسة وجوه وهي:
الوجه الأوّل
إنّ قولهم: حذف المتعلّق فيه دلالة على العموم، لا مستند أو مدرك له، وهي من المشهورات التي لا أصل أو جذر لها، وهو نوع من الادّعاء بلا دليل، إذ توجد موارد عديدة في استعمالات العرب تنقضه.
الوجه الثاني
في الموارد التي يذكر فيها حكم كلّيّ، ويحذف فيها متعلّقه، يجب أن نبحث عبر طريق قرينة مناسبة الحكم والموضوع، عن ماهية المتعلّق، وما تقتضيه المناسبات الكلامية والقرائن العرفية.
فعلى سبيل المثال، تقتضي القرائن في الآية الكريمة: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»[89] أن نقدّر الشرب فيها، ونقول إنّ الأمر في الآية بالاجتناب عن شرب الخمر.
وهنا تقتضي قرينة تناسب الحكم والموضوع أنّ المراد من حفظ الفرج هو حفظه عن اللمس والنظر والوطء عن غير الزوج، لا إفادة العموم بشمول كلّ أنواع الحفظ بسبب حذف متعلّق الحفظ في قوله: «يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»، بناءً على هذا أو استنادا إلى قرينة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على حفظ الفرج من اللمس والنظر والوطء وأمثال ذلك، ولا دلالة على إطلاق الحفظ.
الوجه الثالث
لو فرضنا دلالة هذه الآية على العموم يصبح إثبات وجوب حفظ الفروج لمقام بحثنا الذي نحن فيه بهذا الطريق، تمسّكا بالعامّ في الشبهة المصداقية، لأنّه عندما نشكّ في أنّه هل يلزم على المرأة أن تحفظ فرجها من نطفة الغير، وتمسّكنا بعموم هذه الآية، فإنّه يلزم التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، الذي ثبت بطلانه في علم الاُصول.
الوجه الرابع
كذلك إذا فرضنا استظهار عموم الحفظ من الآية الشريفة، فإنّنا نفهم من قرينة سياق الآية والفقرة التي تسبقها، حيث يقول تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ» أنّها ظاهرة في حفظ الفرج عن الغير، أي يجب حفظ الفرج في العلاقة مع الغير، وهذا الحفظ عامّ بالنسبة إلى النظر إلى الغير والمقاربة غير المشروعة معه، لكن في الموارد التي تقوم فيها المرأة بعمل ما لفرجها بنفسها، فإنّ الآية ساكتة عن ذلك، فمثلاً إن ظاهر الآية لا يشمل إدخال المرأة نفسها نطفة رجل أجنبي في فرجها.
الوجه الخامس
لقد حدّد الإمام(عليهالسلام) المقصود من الفرج في هذه الآية، ضمن روايات وردت في تفسير هذه الآية، وذكر أنّ المقصود من لفظة الفرج في كلّ آية ترد في القرآن هو الزنا، إلاّ هذه الآية التي يقصد منها النظر.
في هذه الحالة، فإنّ هذه الآية تحرّم على المرأة الزنا كذلك بالأولوية القطعية، ولكن ليس معلوما لدينا أن يكون المقام الذي نبحث فيه من مصاديق هذه الآية.
للبحث أكثر حول هذا الموضوع فإنّنا سوف نقوم بدراسة الروايات الواردة في تفسير هذه الآية، وهي ذكرت في ثلاثة مواضع هي:
ـ الرواية الاُولى: مرسلة الشيخ الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه، وهي:
سئل الصادق(عليهالسلام) عن قول اللّه عزّ وجلّ: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ»، فقال(عليهالسلام):
كلّ ما كان في كتاب اللّه تعالى من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا، إلاّ في هذا الموضع، فإنّه للحفظ من أن ينظر إليه[90].
بموجب هذه الرواية، فإنّ المراد من حفظ الفرج في هذه الآية الكريمة هو حفظ المرأة فرجها عن نظر الغير.
وإن كانت هذه الرواية مرسلة، ولكن بالتوضيح الذي ذكرناه سابقا، بأنّ مراسيل الصدوق التي تأتي بصورة (قال) تحكي قطعه عن أنّ الإمام الصادق(عليهالسلام)ذكر ذلك الموضوع، كلّ ذلك يدلّ على حجّيتها[91].
ـ الرواية الثانية: ما ذكره ثقة الإسلام الكليني(رحمهالله) في الكافي، ونورد قسما منها، والذي يرتبط بموضوعنا، وهو:
...فقال تبارك وتعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»، أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ويحفظ فرجه أن ينظر إليه، وقال: «قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ»من أن تنظر إحداهنّ إلى فرج اُختها وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها، وقال: كلّ شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا، إلاّ هذه الآية، فإنّها من النظر[92].
وقد نقل الكليني(رحمهالله) هذه الرواية بالسند التالي:
«عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بكر بن صالح، عن القاسم بن بريد، قال: حدثنا أبو عمر الزبيري، عن أبي عبد اللّه»، يوجد في هذا السند «بكر بن صالح» الذي يعدّ من الضعفاء، و «أبو عمر الزبيري» وهو مجهول، ولذا فإنّ هذه الرواية ضعيفة من حيث السند بناءً على المشهور[93].
ـ الرواية الثالثة: معتبرة أبي بصير الذي وردت في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي في ذيل الآية الشريفة: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ»، ونصّها: حدّثني أبي، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام) قال:
كلّ آية في القرآن في ذكر الفروج فهو من الزنا، إلاّ هذه الآية، فإنّها من النظر، فلا يحلّ لرجل مؤمن أن ينظر إلى فرج أخيه ولا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج اُختها[94].
وقد جاء القسم الأخير من هذه الرواية في بحار الأنوار كما يلي:
ولا يحلّ للرجل أن ينظر إلى فرج اُخته، ولا يحلّ للمرأة أن تنظر إلى فرج اُختها[95].
يطرح حول تفسير عليّ بن إبراهيم هذا الإشكال من أنّه لم يجمع هذا التفسير بل قام بعض تلاميذه بجمعه، ولم تذكر أسماؤهم في الكتب الرجالية كذلك.
نتيجة دراسة الروايات الثلاث
حتّى ولو لم نقبل رواية الكافي وتفسير عليّ بن إبراهيم لضعف السند، ولكن رواية الفقيه كافية في الاستدلال على المطلوب.
وعليه تصبح النتيجة من كلّ ذلك ما يلي:
إنّ المراد من عبارة «يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» في الآية الشريفة هو النظر، الذي يشمل الزنا كذلك بالأولوية القطعية، ولكن لا يمكننا الاستدلال بالأولوية القطعية لهذه الآية على حرمة محلّ بحثنا في إقرار نطفة الغير في الرحم.
الآية الثانية: آيات سورتي المؤمنون والمعارج
هناك ثلاث آيات في سورتين من القرآن الكريم جاءت بشكل مشابه هي الآيات من سورتي (المؤمنون) و(المعارج) وهي:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»[96].
تتألّف هذه الآيات من قسمين: صدر وذيل، يمكن الاستدلال بكليهما لإثبات حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي.
1. الاستدلال بصدر الآية: يقول تعالى في القسم الأوّل من هذه الآيات، (أي الآيتين 5 ـ 6) وبقطع النظر عن الاستثناء الوارد فيها ما يلي: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ»، أي إنّهم لا يسمحون بنظر المرأة الأجنبية إلى فروجهم أو لمسها لها، أو أن تكون لهم مقاربة غير مشروعة مع المرأة الأجنبية، إذ تعتبر هذه الآية كلّ ذلك مخالفا للإيمان.
وهنا لم يذكر متعلّق حفظ الفرج، لذا، وبناءً على التوضيح الذي ذكر في الآية السابقة[97]، فإنّنا نستطيع أن نستفيد العموم من جهة حذف المتعلّق، وبالتالي يجب على الرجل تجنّب كلّ شيء في هذا المجال حتّى إقرار نطفته في رحم امرأة بواسطة جهاز.
2. الاستدلال بذيل الآية: قال تعالى في الآية الثالثة من تلك الآيات ما يلي:
«فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».
في الاستدلال بهذا القسم من الآية، لا حاجة إلى الاستفادة من قاعدة حذف المتعلّق واستفادة العموم من ذلك، خلافا للاستدلال بالآيات السابقة التي كانت بحاجة إلى ضمّ هذه القاعدة الكلّيّة، وهذا ما يشكّل الاختلاف الأساسي بين الاستدلال بصدر الآية والاستدلال بذيلها.
طبقا لذيل الآية يصبح معناها ما يلي: من يبتغ ذلك من غير طريق الزواج وملك اليمين، فهو من الظالمين العادين، إنّ النقطة الهامّة والأساسية في الاستدلال بهذه الآية الكريمة هي الإطلاق الموجود في عبارة «وَرَاء ذَلِكَ»، بمعنى أنّه إذا لم يحفظ الرجال فروجهم من غير هذين الطريقين مطلقا، فإنّهم يعدّون من العادين.
من البديهي أنّ إحدى مصاديق قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ» هو إقرار الرجل نطفته في رحم امرأة أجنبية، وهناك نقطة اُخرى موجودة في هذه الآية هي: إنّنا نستطيع أن نصل إلى قانون عامّ من هذه الآية حول الفروج وهو: تنحصر في الإسلام حلّيّة فرج الرجل لزوجته وجاريته فحسب، وكلّ ما عدا ذلك حرام.
على هذا الأساس، يمكن استخراج واستنباط حرمة موارد من هذه الآية: اللواط، الزنا، المساحقة، الاستمناء، نظر الغير إلى عورة الشخص و... .
وعليه، فإنّ الشكل الثاني من التلقيح الصناعي مشمول كذلك في هذه الآية، ويثبت حرمة إقرار النطفة تحت تصرّف أشخاص يريدون إدخالها في رحم امرأة أجنبية.
مناقشة وإشكال في الاستدلال بالآية الثانية
في الرّدّ على الاستدلال بهذه الآيات تتمّ المناقشة من جهتين:
ـ الجهة الاُولى: إنّ الإشكالات التي ذكرناها في الآيات السابقة نذكرها هنا، وذلك بأنّه إذا فرضنا إجراء التلقيح من الشكل الثاني بهذه الطريقة: أن يتمّ إقرار نطفة رجل أجنبي بدون علمه داخل رحم امرأة أجنبية كأن يكون ذلك الرجل قد جعل نطفته في مكان ما، لغرض الاختبار في مختبر مثلاً، لكن بعد ذلك وبدون علمه تمّ إدخال تلك النطفة في رحم امرأة أجنبية، في هذه الحالة يجب القول إنّه لا يصدق عدم حفظ الفرج على ذلك الرجل، وبالتالي لا تشمله الآية الكريمة، وعليه يلزم من ذلك جواز هذا الفرض، في حين إنّ المستدلّ بهذه الآية لا يقبل هذا التفصيل، وبالتالي فإنّ ذيل الآية لا يشمل ذلك المورد الذي لم يخرج الرجل فيه منيّه لغرض إدخاله في رحم امرأة أجنبية بل تمّت الاستفادة من قبل الغير من منيّه لهذا الغرض بدون إرادته أو معرفته.
ـ الجهة الثانية: يمكننا وبالاستناد إلى دليلين وقرينة، القول بأنّ المراد من حفظ الفرج في هذه الآية، هو حفظه من الزنا، وتشير عبارة «مَا وَرَاءَ ذَلِك» كذلك إلى الاستخدام غير المشروع منه عن طريق المقاربة الجنسية مع غير الزوجة والجارية.
الدليل الأوّل: القرينة الداخلية الموجودة في الآية، أي باستثناء الزوجة والجارية، لأنّ ارتباط الرجل مع هؤلاء يتمّ عن طريق المقاربة واللمس، وبالتالي فإنّه يجب أن يكون المراد من «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ» هو المقاربة غير المشروعة كذلك.
الدليل الثاني: بملاحظة الروايات التي ذكرناها في ذيل الآية الاُولى، يصبح المقصود من حفظ الفرج في هذه الآية هو حفظه من الزنا، لأنّ مفاد تلك الروايات يذكر أنّ المراد من الحفظ في كلّ مورد يرد في القرآن هو الحفظ من الزنا، إلاّ الآية (31) من سورة النور.
الردّ على الاستدلال بالآية
هنا نذكر نقطتين لغرض تحكيم الاستدلال بذيل الآية والرّدّ على الإشكالين المذكورين:
ـ النقطة الاُولى: لقد أثبتنا حتّى الآن، الحرمة على الرجل، استنادا إلى ذيل الآية، ولكن ماذا عن المرأة؟
هل يدلّ هذا القسم من الآية على حرمة إقرار المرأة منيّ رجل أجنبي في رحمها كذلك؟
إنّ الجواب عن ذلك، كما يلي:
بناءً على أساس قاعدة اشتراك التكاليف بين الرجل والمرأة، يحدّد هذا القسم من الآية حكم المرأة في هذا المجال، بتوضيح أنّ المرأة مسموح لها أن تجعل فرجها تحت تصرّف زوجها، فإن قامت بعمل آخر وراء ذلك، فقد ارتكبت الحرام، وبالتالي، بما أنّ موضع بحثنا هو تلقيح النطفة في رحم امرأة أجنبية، فإنّ الحكم يشمله، عندها، يحرم على المرأة أن تسمح بإدخال نطفة غير زوجها في رحمها.
وعليه، إذا قام الرجل، في الشكل الثاني من التلقيح، بجعل نطفته تحت تصرّف امرأة أجنبية، من غير طريق الزنا، فقد ارتكب محرّمين، أحدهما فيما يتعلّق به كرجل، والآخر فيما يتعلّق بالمرأة.
إنّ الشاهد على اشتراك التكاليف بين الرجل والمرأة، هو آية اُخرى في سورة الأحزاب، حيث يقول تعالى: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ»[98]، حيث ذكر حفظ الفرج على الرجل والمرأة على حدّ سواء.
ولكن، إذا لم يقبل بقاعدة الاشتراك، بحجّة اختصاص الآية بالرجال، فإنّنا بالتوضيح الذي قدّمناه في تقريب الاستدلال بالآية، وأنّه يمكن الاستفادة من الآية، لنقول أنّه يحرم على الرجل جعل نطفته بتصرّف امرأة أجنية لإجراء التلقيح.
ـ النقطة الثانية: في بعض الروايات، يُسأل الإمام(عليهالسلام) عن المورد الذي استفدتموه في القرآن على حرمة الاستمناء؟ فيجيب الإمام(عليهالسلام) بهذه الآية: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».
وإحدى نصوص هذه الروايات كما يلي:
أحمد بن عيسى في نوادره، عن أبيه، قال: سئل الصادق(عليهالسلام) عن الخضخضة، فقال:
إثم عظيم قد نهى اللّه عنه في كتابه، وفاعله كناكح نفسه، ولو علمت بما يفعله ما أكلت معه، فقال السائل: فبيّن لي يا ابن رسول اللّه من كتاب اللّه فيه، فقال: قول اللّه: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» وهو ممّا وراء ذلك، فقال الرجل: أيّما أكبر الزنا أو هي؟ فقال: هو ذنب عظيم، قد قال القائل: بعض الذنب أهون من بعضها، والذنوب كلّها عظيم عند اللّه، لأنّها معاصي، وأنّ اللّه لا يحبّ من العباد العصيان، وقد نهانا اللّه عن ذلك لأنّها من عمل الشيطان، وقد قال: «لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ»[99]، «إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ» ...[100].
حتّى نهاية الرواية[101]، مما لا ربط لها ببحثنا.
إنّ محلّ شاهدنا هو صدر الرواية، حيث استفسر الراوي بحذقه من الإمام(عليهالسلام)بعد قوله: «إثم عظيم قد نهى اللّه عنه في كتابه...» عن تبيين ذلك من كتاب اللّه، فأشار(عليهالسلام)إلى الآية التي نحن بصدد البحث فيها، جاعلاً الاستمناء من مصاديق استعمال الرجل فرجه من غير طريق زوجته أو جاريته.
عليه، وبناءً على المناط الذي حدّده الإمام(عليهالسلام) في الرواية، يعدّ اللواط والتفخيذ وأمثاله من مصاديق قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ»، وبناءً على قاعدة الاشتراك، تكون المساحقة كذلك.
حتّى هنا، يمكننا القول، بناءً على ذلك التوضيح الذي ذكرناه حول قاعدة الاشتراك، فإن الآية شاملة لمحل بحثنا كذلك، بمعنى السماح للمرأة بإدخال نطفة غير زوجها في رحمها.
نقاط اُخرى حول هذه الرواية:
1. سند الرواية: وردت هذه الرواية، بالإضافة إلى نوادر أحمد بن محمّد، في فقه الرضا كذلك، حيث نقلها العلاّمة المجلسي(رحمهالله) في البحار والمحدّث النوري(رحمهالله)في المستدرك، من فقه الرضا(عليهالسلام)، بنفس المضمون ونفس العبارات[102]، وجاء سند الرواية في النوادر كما يلي: «أحمد بن محمّد عن أبيه، قال: سئل الصادق(عليهالسلام)»، ولا كلام في هذا السند بالنسبة إلى أحمد بن محمّد بن عيسى وأبيه، ولكن الإشكال يكمن في عدم ذكر سند الرواية بين محمّد بن عيسى والإمام الصادق(عليهالسلام)، لأنّ محمّد بن عيسى يعدّ من أصحاب الإمامين الثامن والتاسع عليهماالسلام، ولا يمكن أن يكون قد أدرك الإمام الصادق(عليهالسلام)، لذا تعدّ الرواية مرفوعة، ولو لم يصرّح في رفعها[103]، وبالنسبة إلى اعتبارها، فإنّه يطرح نفس الكلام الذي ذكر حول الحديث المرسل من حيث الحجّيّة وعدمها في الحديث المرفوع كذلك.
طبعا، يمكن القول، وبناءً على قرينة كون أحمد بن محمّد من أصحاب الرضا(عليهالسلام)وورود هذه الرواية بعينها في فقه الرضا(عليهالسلام) بأنّه نقل هذه الرواية من أصل أو كتاب، بغير المشافهة، ويمكن أن يكون ذلك الأصل أو الكتاب فقه الرضا(عليهالسلام)، بناءً على ذلك، يرتفع إشكال الرفع عن هذه الرواية إلى حدٍّ ما.
على أي حال، فإنّ هذا المشكل السندي يضعف الاستدلال بهذه الرواية إلى حدٍّ ما.
2. ما المقصود بتمسك الإمام(عليهالسلام) بإطلاق الآية؟
هل يعتبر تمسّك الإمام(عليهالسلام) تعبّديا أو كاشفا عن إطلاقها؟ يلاحظ عدم كون استدلال الإمام(عليهالسلام) بإطلاق الآية تعبّديا، بغضّ النظر عن الإشكال الوارد في الرواية من حيث الرفع الموجود فيه سندها، حتّى يحتاج الاستفادة منها إلى صحّة السند، بعبارة اُخرى، إذا لم يكن الإمام(عليهالسلام) قد ذكر هذه الجملة والاستدلال، فإنّه يتّضح وجود مثل هذا الإطلاق في ذهن نوع المخاطبين، وعلى أيّ حال، فإنّ الاستدلال بالآية كاشف عن إطلاقها، بمعنى أنّ الإمام(عليهالسلام) يريد أن يقول: حتّى ولو لم أذكر ذلك، لو لم توجد هذه الرواية كذلك، وقمتم بالتدقيق لاستطعتم الاستدلال بإطلاقها على حرمة الاستمناء، أي: عبارة «مَا وَرَاءَ ذَلِك» تصبح بمعنى أنّه إذا قام رجل بالاستفادة من غير زوجته الشرعية، أو قامت امرأة بجعل فرجها تحت تصرّف غير زوجها الشرعي، بأيّ شكل من الأشكال، فقد ارتكب أو ارتكبت محرّما.
بناءً عليه، يمكننا الاستفادة من إطلاق قوله تعالى: «مَا وَرَاءَ ذَلِك»، أنّه إذا قامت امرأة بإدخال آلة مصنوعة في فرجها، وأرضت نفسها جنسيا، فإنّ هذا الفعل حرام، كالاستمناء والخضخضة.
وسنذكر في الفصول القادمة، أنّ مسألة تأجير الرحم الذي يطرح في عصرنا، وكذلك جعل المرأة رحمها في تصرّف آخرين بغرض تنمية جنين الغير فيها، من مصاديق هذه الآية، وتعدّ من المحرّمات[104].
3. هل المقصود من «مَا وَرَاءَ ذَلِك» تمتّع الطرفين أو لا؟
قد يقال: بملاحظة صدر الآية، نفهم أنّ المراد من «مَا وَرَاءَ ذَلِك» لا يتحقّق إلاّ بتمتّع الطرفين من الفرج، ولا تشمل الموارد التي يقوم الرجل أو المرأة بشيء لنفسه بنفسه.
في الجواب عن ذلك نقول: إنّ هذا الفهم والدرك صحيح، لكن إذا لاحظتم أنّ الرجل أو المرأة أثناء الملاعبة بالفرج، يتصرّف بحيث يتخيّل بشكل مجازي وجود امرأة أو رجل مقابله، وبالتالي فالمرأة التي تلاعب فرجها عبر آلة مصنوعة خاصّة، فإنّها في الحقيقة تقوم بمقاربة يكون فيها طرفان، لكن بشكل مجازي افتراضي، والشاهد على ذلك ما ذكره الإمام(عليهالسلام) في الرواية وغيرها، في وصف المستمني بالناكح نفسه.
في هذا المجال، ورد في رواية من كتاب الكافي ما يلي: «سألته عن الدلك، قال: ناكح نفسه، لا شيء عليه»[105].
نتيجة: حتّى لو كان سند الرواية مرفوعا وضعيفا، فإنّنا لو خلّينا والآيات الشريفة، فإنّ لذيلها إطلاقا، وكما أثبت في اُصول الفقه، فإنّ أصالة الإطلاق إحدى مصاديق أصالة الظهور، وحجّيتها عقلائية، وليس في الشارع كذلك في محاوراته غير بناء العقلاء، لذا يمكننا أن نستدلّ بهذا الإطلاق فيما نحن فيه من بحث.
خلاصة الاستدلال بالآية الثانية: «لا إشكال في ذيل الآية من حيث إثبات حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، والاستدلال بها تامّ».
الآية الثالثة: آية 23 من سورة النساء
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَتِى فِى حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلاَ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورا رَحِيما»[106].
إنّ هذه الآية تحدّد مجموعة من النساء اللاتي يحرمن على الرجل.
تقريب الاستدلال بالآية
كما قلنا فإنّ اللّه عزّ وجلّ في هذه الآية الشريفة يذكر طوائف من النساء اللاتي يحرمن على الرجل، ونعلم تعلّق التكليف دائما بالفعل، ولا معنى أن تحرم ذوات تلك النساء، لذا يجب أن يكون هناك فعل مقدّر، وبما أنّ الآية لم تذكر فعلاً معينا، فإنّنا واستنادا إلى قاعدة: «حذف المتعلّق يدلّ على العموم» نقول بحرمة كلّ فعل معهنّ، ولذا يحرم الشكل الثاني من التلقيح الصناعي أي إدخال نطفة الرجل في رحم امرأة ليست بزوجة شرعية له، مثل: اُمّه واُخته و...، بعبارة اُخرى عندما تذكر الآية ما يلي: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» فإنّ إحدى الأفعال المحرّمة التي يمكن أن ترتكب بحقّ الاُمّ هي إقرار النطفة في رحمها.
و يتبيّن من كلام من يقول بجواز الشكل الثاني من التلقيح، أنّه لا فرق بين أقسام المرأة الأجنبيّة، ولا يفصّل في ذلك، ولذا يمكن لكلّ امرأة ليست زوجة للرجل أن تقبل نطفته، سواء كانت ذات بعل أو لا، وسواء كانت من محارمه النسبية أو لا.
في المقابل، فإنّ من يحكم بعدم الجواز يقول بأنّه إذا قلنا بجواز التلقيح الصناعي من هذا الشكل، عندها يجب أن نقول بجواز إقرار النطفة في رحم الاُمّ والاُخت كذلك، في حين أنّ إطلاق هذه الآية يعتبر ذلك حراما.
مناقشة الاستدلال بالآية
يمكن الإشكال على الاستدلال بهذه الآية في حرمة الشكل الثاني من التلقيح، من جهتين:
الإشكال الأوّل: هو نفسه الذي ذكرناه سابقا بأنّ دلالة حذف المتعلّق على العموم، وإن كان مشهورا، إلاّ أن لا أصل علميا له، ولا يمكننا الاستناد عليه.
ومع عدم قبول عموميّة الحرمة في الآية الكريمة، فإنّنا نفهم من قرينة تناسب الحكم والموضوع أنّ متعلّق الحرمة عبارة عن النكاح، لا سيّما وأنّ الآية الكريمة نهت عن الجمع بين الاُختين في ذيلها «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ» وهي قرينة مناسبة على هذا المعنى، ويعلم أنّ المراد من الحرمة الواردة في صدر الآية، هي حرمة النكاح بهؤلاء النساء.
الإشكال الثاني: إنّ الآيات التي تسبق هذه الآية، والتي تليها، فيها ظهور واضح جدا على أنّ المراد من الحرمة في هذه الآية هو خصوص النكاح، إذ تقرأ في الآية 24من هذه السورة ما يلي:
«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيما».
لقد حرّمت هذه الآية الكريمة النكاح بالنساء ذوات البعل، وذكرت حلّيّة النكاح من غيرهن، ولذا فإنّ الحرمة والحلّيّة في هذه الآية تدور حول النكاح.
الآية الرابعة: آية 35 من سورة الأحزاب
«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيرا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرا عَظِيما»[107].
تقريب الاستدلال بالآية
ما ذكرناه في الآية الثانية، يصدق في هذه الآية كذلك، بأنّ في الآية إطلاقا بما يلي: يجب على الرجل والمرأة حفظ فرجيهما من كلّ شيء، إلاّ ما أجزنا بإباحته، وهو بالنسبة إلى الرجل زوجته وجاريته، وبالنسبة للمرأة زوجها فحسب.
وقد أشار الجصّاص في أحكام القرآن[108]، وابن كثير في تفسيره إلى هذه النقطة[109]، وورد ما يشبه ذلك في كلام الشيخ الطوسي(رحمهالله) في التبيان[110].
النتيجة من ذلك: إنّ إطلاق الآية يشمل المورد الذي يراد فيه إقرار نطفة رجل في رحم امرأة اُخرى غير زوجته.
مناقشة الاستدلال بالآية
إنّ ما ذكر من استدلال بالإطلاق في هذه الآية صحيح، لو لم توجد تلك الروايات[111] التي تذكر بأنّ المقصود من حفظ الفرج في جميع الآيات هو الزنا، ونظرا إلى وجود تلك الروايات التي ذكرناها سابقا، فإنّنا لا نستطيع أن نعمّم مثل هذا الإطلاق إلى محلّ بحثنا مستفيدين من هذه الآية.
نتيجة دراسة الآيات والروايات
يمكن أن نلخّص نتيجة المباحث السابقة في ما يلي:
1. لم نستطع بأيّ شكل من الأشكال أن نستفيد من الروايات الواردة للاستدلال على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي.
2. من بين الآيات الأربع المذكورة، يمكن الاستدلال على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي من الآية السابقة من سورة (المؤمنون): «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ».
الطائفة الثالثة: الروايات الواردة في باب علل الأحكام
من الأدلّة التي استند إليها في الاستدلال على حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي روايات ذكرت الزنا علّة لها، منها: الرواية التي نقلها الشيخ الصدوق(رحمهالله)في الفقيه مرسلة، حيث يجيب فيها الإمام الرضا(عليهالسلام) عن أسئلة متنوّعة طرحت عليه من قبل محمّد بن سنان.
والقسم الذي يهمّ محل بحثنا من الرواية ما يلي:
وحرّم اللّه تعالى الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس، وذهاب الأنساب، وترك التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد[112].
لعلّ المراد من «قتل النفس» الواردة في الرواية كون الزنا يوجب عدم استخدام نطفة الرجل لتوليد النسل، وذهابها هدرا، أو أن يكون المراد باحتمال أن يؤدّي إلى حمل، فيقدم من أصيب به على إسقاط الجنين وقتل النفس.
المراد من «ذهاب الأنساب» أيضا أنّ الزنا وعدم ارتباط المرأة بزوج واحد محدّد، يؤدّي إلى مجهولية الأب الحقيقي لذلك الطفل، ويوجب ذهاب الأنساب.
تقريب الاستدلال بالرواية
إنّ المفاسد والمشاكل التي ذكرت في الرواية للزنا، توجد كذلك بالنسبة إلى التلقيح الصناعي من الشكل الثاني كذلك، لا سيّما إذا لاحظنا بنوك المنيّ الموجودة في العصر الحاضر في بعض الدول، حيث لن يعلم أصلاً بوالد الطفل المتولّد من ذلك، فتذهب الأنساب، ولا يكترث لأحكام المواريث، وغيرها من المفاسد الكثيرة التي تؤدّي إلى انهيار بنيان الاُسرة ونقض الكثير من القوانين الإلهيّة.
بناءً على ذلك، فإنّ الشكل الثاني من التلقيح الصناعي محرّم كذلك استنادا إلى هذه الرواية والتي صرّحت بالزنا كعلّة للحكم.
مناقشة الاستدلال بالرواية
سوف نبحث في هذا الخصوص في مقامين:
1. دراسة سند الرواية: سند الرواية في الفقيه مرسل، وجاء في المشيخة ما يلي:
وما كان فيه عن محمّد بن سنان، فقد رويته عن محمّد بن علي ماجيلويه، عن عمّه محمّد بن أبي القاسم، عن محمّد بن علي الكوفي، عن محمّد بن سنان...، ورويته عن أبي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمّد بن سنان[113].
الطريق الأوّل ضعيف من جهة «محمّد بن علي الكوفي أبي سمينة الصيرفي»، والطريق الثاني صحيح.
ولكن سند الرواية في العلل جاء كما يلي:
حدّثنا عليّ بن أحمد، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللّه، عن محمّد بن إسماعيل بن عليّ بن العبّاس، عن القاسم بن الربيع الصحاف، عن محمّد بن سنان.
ويوجد احتمالان حول سند الفقيه:
الاحتمال الأوّل: أن يكون نفس سند العلل.
الاحتمال الثاني: أن يكون أحد السندين المذكورين في المشيخة.
على أيّ حال، فإنّ سند الرواية بناءً على الاحتمالين، يشتمل على أفراد غير موثوقين وضعفاء، إلاّ السند الثاني للمشيخة الذي نقله عن عليّ بن إبراهيم.
بل أبعد من ذلك، فإنّه توجد أقوال مختلفة وكثيرة في توثيق وتعديل «محمّد بن سنان» نفسه، لذا سوف نكتفي بدراسة محمّد بن سنان فقط في البحث السندي.
إذ محمّد بن سنان، من الأفراد الذين حظوا بالجرح والتعديل معا، حيث عدّه الكشّي والنجاشي والعلاّمة رحمهمالله من الضعفاء[114].
يقول الشيخ الطوسي(رحمهالله): «وقد طُعن عليه وضُعِّف»[115].
ولكن وردت دلائل على توثيقه أيضا:
الدليل الأوّل: الرواية المنقولة بسند صحيح عن الإمام الباقر(عليهالسلام) حيث يقول:
جزى اللّه صفوان بن يحيى ومحمّد بن سنان وزكريا بن آدم عنّي خيرا، فقد وفوا لي[116].
الدليل الثاني: نقل عدول وثقات الرواية عنه مثل، حسين بن سعيد الأهوازي وأخوه حسن، والفضل بن شاذان، وأيّوب بن نوح ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري.
الدليل الثالث: عدّه الشيخ(رحمهالله) في كتاب الغيبة من الممدوحين، وإن كان قد ضعّفه في الفهرست والرجال وكتابيه الروائيين.
الدليل الرابع: ما ذكره الشيخ المفيد(رحمهالله) في الإرشاد حوله، حيث استظهر البعض من ذلك توثيقه، يذكر الشيخ المفيد(رحمهالله) في الإرشاد ما يلي:
فمّمن روى النصّ عن الرضا عليّ بن موسى(عليهالسلام) بالإمامة من أبيه، والإشارة إليه منه بذلك من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه، من شيعته داود بن كثير الرقي ومحمّد بن إسحاق بن عمّار وعليّ بن يقطين نعيم القابوسي والحسين بن المختار وزياد بن مروان والمخزومي وداود بن سليمان ونصر بن قابوس وداود بن زربي ويزيد بن سليط ومحمّد بن سنان[117].
وممّا يدلّ على توثيق محمّد بن سنان: نقل ابن قولويه(رحمهالله) في كامل الزيارات[118] رواية عنه، وتوثيقه من قبل الشيخ الحرّ العاملي(رحمهالله) صاحب وسائل الشيعة والسيّد ابن طاووس(رحمهالله)[119].
ينتج من ذلك أنّ محمّد بن سنان شخص فيه جرح، وعليه تعديل.
في مثل هذه الحالة التي يجتمع فيها الجرح والتعديل في راوٍ واحد، توجد خمسة آراء مطروحة بين علماء الدراية، وما يطابق التحقيق منها أنّ هذا الجرح والتعديل يتعارضان مع بعضهما بعضا، ويسقطان كلاهما عن الاعتبار، ولذا يصبح الراوي مثل الشخص الذي لم يرد في حقّه أيّ جرح أو تعديل، ولذا بناءً على المشهور، فإنّ سند الرواية التي يكون فيها الراوي كذلك، ضعيف، وممّا يجدر ذكره هنا أنّه لا يمكن القول بالتسامح في أدلّة السنن، في روايات علل الأحكام، إذ ربّما نريد استخراج حكم كلّيّ منها، والذي لا يتناسب مع التسامح.
2. دراسة مدلول الرواية: يطرح حول مدلول الرواية إشكالان يتمّ فيهما السعي إلى ردّ الاستدلال بها في إثبات حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي.
ـ الإشكال الأوّل: بقطع النظر عن سند الرواية، وعلى فرض أنّ هذه الرواية صحيحة، فهل هذه الرواية بصدد بيان علّة حرمة الزنا أو حكمتها؟
من الممكن القول إنّ ما جاء في الرواية، أتى بعنوان ذكر الحكمة من حرمة الزنا لا العلّة، ولذا لا يمكن اعتبارها مفيدة لتعميم الحكم على سائر الموضوعات، فيلزم البحث في الفرق بين العلّة والحكمة في الأحكام.
الفرق بين علّة الأحكام وحكمتها
العلّة ما كان الحكم موجودا بوجودها، وغير موجود بعدمها، إذ في الحقيقة إنّ وجود الحكم وعدمه متعلّق بوجود العلّة وعدمها.
أمّا الحكمة فليست كذلك، إذ إنّها تدلّ على شأنية الحكم واقتضائه، لكنّها لا توجب إنشاء حكم، ولذا ينشأ المقتضي للوجوب أو الحرمة بواسطة الحكمة، وهو ليس كافيا في إثبات الحكم، ويجب وجود خصوصيات اُخرى.
بعبارة اُخرى، تؤخذ العلّة في موضوع الحكم، أما الحكمة فلا تؤخذ في الموضوع.
فعلى سبيل المثال: إذا اعتبرنا الإسكار علّة في «الخمر حرام لأنّه مسكر»، عندها يصبح (الخمر المسكر حرام) ويلحظ الإسكار كجزء من الموضوع، أما في المثال الآخر عند القول: «الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» فلا يمكننا جعل عنوان النهي عن الفحشاء والمنكر علّة وجزءا للموضوع، لأن موضوع الوجوب يعود إلى عنوان «الصلاة» فحسب، لا إلى عنوان «الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر».
بناءً على ذلك، عندما يأخذ شيء ما عنوان علّة الحكم، يمكننا أن نخلص إلى نتيجة مفادها أنّه كلما وردت تلك العلّة، وجد ذلك الحكم، ويمكن الذهاب في ذلك أبعد من حدود ذلك الموضوع، أمّا إذا أخذ شيء عنوان الحكمة، فلا يمكن سريان الحكم إلى موضوع آخر فيه تلك الحكمة.
ويمكن القول في هذا البحث، بأنّ هذه العناوين لبيان حكمة حرمة الزنا، لا علتها، ولذا لا يمكن تعميم حكم الحرمة إلى التلقيح الصناعي، ولو كانت تلك العناوين والمفاسد موجودة كذلك فيها.
جواب: من الواضح وجود فارق بين العلّة والحكمة للحكم، ولكن يلزم ملاحظة هذه النقطة وهي: بالنسبة إلى العلّة، إذا وجدت يوجد الحكم، وإن لم توجد لا يوجد.
أمّا بالنسبة للحكمة، فلا يمكن القول بأنّه لم توجد حكمة في مورد ما، فلا يوجد حكم، إذ في الحقيقة، بالنسبة للحكمة، لا ملازمة بين عدم وجود الحكمة ونفي الحكم، إذ من الممكن وجود الحكم دون أن توجد حكمة، ولكن إذا وجدت حكمة في مورد ما فيجب أن يوجد حكم قطعا.
و هنا، نقول مستدلّين بذلك ما يلي: إنّ حكمة حرمة الزنا ضياع الأنساب والمواريث، وهي موجودة في باب التلقيح الصناعي كذلك، لذا يمكننا القول إنّه إذا وجدت في مورد ما مثل هذه الحِكَم، فهي بنفسها منشأ ودليل على الحرمة.
ـ الإشكال الثاني: إنّ العناوين المذكورة في الرواية متعدّدة، لذا لا يمكن أن تكون علّة، لأنّ العلّة لا يمكن أن تتعدّد، بدليل استحالة تعدّد العلل لمعلول واحد.
ولذا، فإنّ ما ورد في الرواية حكمة، ويجب إجراء قانون الحكمة في موردها.
جواب: يمكن تصوّر مقدار جامع بين هذه العناوين، وهو عنوان «الفساد»، وبعبارة اُخرى، تصبح المسألة وكأنّها ما يلي: حرّم اللّه الزنا لما فيه من الفساد، وهذا الفساد هو الفساد في اُمور الاُسرة والنسل، بقرينة تناسب الحكم والموضوع، ولها مصاديق كثيرة، أحدها ضياع الأنساب، والآخر فساد المواريث، والشاهد على ذلك موجود في نفس الرواية، سواء في صدرها حيث يقول(عليهالسلام): «حرم اللّه تعالى الزنا لما فيه من الفساد»، أو في ذيلها حيث يقول الإمام(عليهالسلام) بشكل عامّ، بعد أن تحدّد مصاديق لها ما يلي: «وما أشبه ذلك من وجوه الفساد».
لذا من الممكن عدّ مصاديق أخرى للفساد، غير ما ذكر في الرواية.
بناءً على هذا، نستفيد من هذه الرواية العلّيّة لا الحكمة، إذ علّة حرمة الزنا هو الفساد في الاُسرة وأحكامها.
ونلاحظ هذه العلّة في الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، لذا يمكن الحكم على حرمته كذلك.
الرأي الثاني: جواز الشكل الثاني من التلقيح الصناعي
في مقابل الرأي الأوّل في حرمة الشكل الثاني للتلقيح الصناعي والذي اخترناه، يوجد رأي آخر على أساس جواز هذا الشكل من التلقيح الصناعي، وأهمّ مستند لهذا الرأي روايتان نقوم بدراستهما والبحث حولهما.
ونستبق ذلك، بلزوم التذكير بهذه النقطة: إنّ هذه الروايات وردت في كتاب وسائل الشيعة، الجزء الثاني، الباب الثالث، من أبواب حدّ السحق والقيادة، حيث توجد في هذا الباب خمس روايات، ولكن إذا قمنا بدراسة مضمونها وسندها، يتّضح أنّ الروايات الثانية والرابعة والخامسة، منها تشكّل حديثا واحدا، كما أنّ الحديثين الأوّل والثاني يشكّلان حديثا واحدا، لذا سنذكر مستند هذا الرأي في قالب حديثين:
ـ الرواية الاُولى: الرواية التي نقلها الشيخ الطوسي(رحمهالله) في التهذيب، كما نقلها ثقة الإسلام الكليني(رحمهالله) في الكافي، والشيخ الصدوق(رحمهالله) في الفقيه، مع اختلاف في السند والألفاظ، ولكن بمضمون واحد.
ونصّها على أساس نقل التهذيب ما يلي:
محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن العباس بن موسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن عمّار، عن المعلى بن خنيس، قال:
سألت أبا عبد اللّه(عليهالسلام) عن رجل وطئ امرأته فنقلت ماءه إلى جارية بكر فحبلت، فقال(عليهالسلام): «الولد للرجل، وعلى المرأة الرجم، وعلى الجارية الحدّ»[120].
1. سند الرواية: هذه الرواية معتبرة من حيث السند، إذ لا إشكال في إسحاق بن عمّار، ويونس بن عبد الرحمن، وعباس بن موسى، ولكن اختلفت الأقوال في المعلّى بن خنيس، والروايات التي وردت في مدحه أكثر، واعتبره أغلب أصحاب الرجال من الثقات، وإن ضعّفه عدّة مثل النجاشي(رحمهالله)[121].
2. تقريب الاستدلال بالرواية: ذكر الإمام(عليهالسلام) في الرواية جميع الأحكام المتعلّقة بهذه المسألة، ولكنّه لم يذكر شيئا حول حكم إدخال النطفة في رحم الأجنبية، ومنه نفهم أنّه لو كان إدخال النطفة في رحم الأجنبية حراما لوجب تعزيرها، علاوة على رجمها، في حين أنّ الإمام(عليهالسلام) سكت في هذا المورد.
بعبارة أدقّ، يريد المستدلّون بالرواية أن يستفيدوا من الإطلاق المقامي لهذه الرواية، لإثبات رأيهم، بمعنى أنّه عندما يطرح الراوي المسألة على الإمام الصادق(عليهالسلام)، فإنّه يطرح ما يلزم في هذا الخصوص في قالب من ثلاثة مطالب: الولد للرجل، وعلى المرأة الرجم، وعلى الجارية الحدّ.
فإذا كان أصل إدخال النطفة في رحم الأجنبيّة حراما أيضا، لوجب على الإمام(عليهالسلام) الحكم بتعزير تلك المرأة أولاً، ومن ثمّ رجمها، بسبب ذلك الفعل.
بناءً على هذا، فإنّنا نستنتج فيما يتعلّق بموضوع بحثنا، أي الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، عدم حرمة إدخال نطفة الرجل في رحم امرأة أجنبية، وجواز هذا الشكل من التلقيح الصناعي.
الجواب على الاستدلال بالرواية: يمكن الردّ على الاستدلال بهذه الرواية من عدّة وجوه:
الوجه الأوّل: يتحقّق التعزير عندما يقوم شخص بفعل ما يوجبه عالما عامدا، وفي هذه الرواية، فإنّ المساحقة أمر اختياري، لذا حكم الإمام(عليهالسلام)برجم المرأة، وإجراء الحدّ على الجارية، ولكن انتقال النطفة لم يكن أمرا اختيارا حتّى يوجب التعزير.
الوجه الثاني: حسبما ورد في باب الحدود والتعزيرات، فقد حكم عدّة فقهاء بما يلي: يحكم بالتعزيز في الموارد التي يرتكب فيها الإنسان كبيرة، وإلاّ فلا يجري التعزير عندما يرتكب الإنسان صغيرة، غير عالمٍ بكون إدخال النطفة من الكبائر، علما أنّه تمّ بدون اختيار، وبدون كون الغرض من ذلك المساحقة.
الوجه الثالث: لم يصرّح في هذه الرواية، بكون الجارية للرجل أوّلاً، ولكن لا يبعد كونها متعلّقة بزوج تلك المرأة، حيث لا يفرق في هذه الحالة، بين رحم هذه المرأة والجارية، وبالتالي لم تدخل النطفة رحم جارية أجنبية.
وأحد أشكال التلقيح الصناعي، التي ستأتي لاحقا، تلقيح نطفة الرجل ببويضة زوجته، ومن ثمّ إدخال ذلك الناتج في رحم جارية ذلك الرجل، وبالتالي لا تتعلّق هذه الرواية بالشكل الثاني من التلقيح الصناعي.
طبعا، لا توجد قرينة كافية ليعلم كون الجارية لزوج تلك المرأة.
النتيجة: نظرا للوجوه التي ذكرت، فإن الاستدلال بهذه الرواية غير تام وليس بصحيح.
ـ الرواية الثانية: وردت هذه الرواية، كرواية ثالثة من الباب الثالث من أبواب حد السحق والقيادة، وكما قلنا سابقا أيضا، فإنّها متّحدة المضمون مع الرواية الاُولى.
من اللازم توضيح أنّ الرواية الاُولى في هذا الباب نقلها الكليني(رحمهالله) في الكافي بالسند التالي:
محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عمرو بن عثمان، وعن أبيه جميعا، عن هارون بن الجهم، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر(عليهالسلام) وأبا عبد اللّه(عليهالسلام) يقولان...[122].
وجاءت الرواية الثالثة، نقلاً عن التهذيب بالسند التالي:
وبإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن الحسين، عن إبراهيم بن عقبة، عن عمرو بن عثمان عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام)[123].
وكما يلاحظ، فإنّه بالرغم من اتّحاد مضمون الروايتين، لكنّهما مختلفتان سندا، حيث ننقل الرواية بناءً على نقل الشيخ(رحمهالله) في التهذيب:
قال: أتى أمير المؤمنين(عليهالسلام) قوم يستفتونه، فلم يصيبوه، فقال لهم الحسن(عليهالسلام): هاتوا فتياكم، فإن أصبت فمن اللّه ومن أمير المؤمنين(عليهالسلام)، وإن أخطأت فإنّ أمير المؤمنين(عليهالسلام) من ورائكم، فقالوا: امرأة جامعها زوجها فقامت بحرارة جماعه فساحقت جارية بكرا فألقت عليها النطفة فحملت، فقال(عليهالسلام) في العاجل: تؤخذ هذه المرأة بصداق هذه البكر، لأنّ الولد لا يخرج حتّى يذهب بالعذرة وينتظر بها حتّى تلد، ويقام عليها الحدّ، ويلحق الولد بصاحب النطفة، وترجم المرأة ذات الزوج، فانصرفوا فلقوا أمير المؤمنين(عليهالسلام) فقالوا: قلنا للحسن وقال لنا الحسن، فقال: واللّه لو أنّ أبا الحسن لقيتم ما كان عنده إلاّ ما قال الحسن[124].
مناقشة الاستدلال بالرواية
إنّ ما طرحناه من ردود ثلاثة في الرواية السابقة نطرحها في مورد هذه الرواية.
على هذا، تسقط أدلّة من أجاز هذا الشكل من التلقيح الصناعي عن الاعتبار.
الشكل الثالث من التلقيح الصناعي: التلقيح بين رجل وامرأة أجنبيّين:
تطرح هذه الفرضية في الحالات التي يعود سبب عدم الإنجاب فيها إلى المرأة، إذ لا تكون قادرة على الإباضة، لذا يتمّ اللجوء إلى تلقيح نطفة زوجها ببويضة امرأة أخرى.
الفرق بين هذا الشكل من التلقيح والشكل الثاني منه
كما أشرنا في بداية الشكل الثاني، فإنّ هذا الشكل يشترك إلى حدّ ما والشكل الثاني من حيث حصول التلقيح بين منيّ الرجل وبويضة المرأة الأجنبية، ولكن ما دعا إلى ذكر هذا الشكل مستقلاً ودراسة حكمه كذلك، وجهان:
الوجه الأوّل: علّة عدم الإنجاب
كما ذكرنا: إن علّة وسبب عدم الإنجاب والتلقيح في الشكل الثاني هو الزوج (الرجل)، ولكن تكون العلّة في الشكل الثالث هي الزوجة (المرأة)، وبالنتيجة يمكن القول: إنّ الطفل المتكوّن من التلقيح في الشكل الثاني يعود إلى المرأة، أمّا الطفل المتكوّن من الشكل الثالث يعود إلى صاحب النطفة، ولذا فإنّ لهذا الأمر آثارا حقوقية متعدّدة، ستطرح في محلها.
الوجه الثاني: اختلاف الفرضيات المتصوّرة لهذين الشكلين
يتصوّر لهذا الشكل من التلقيح الصناعي فرضيات مختلفة، لا تندرج بأيّ شكل من الأشكال تحت عنوان الشكل الثاني، نظرا إلى علّة عدم الإنجاب، لذا فإنّنا وإن كنا قد ذكرنا تفصيل هذه الفرضيات في بداية الكتاب، ولكن سنعيدها مرّة اُخرى هنا بشكل كلّيّ.
الفرضيات المختلفة للشكل الثالث
الفرض الأوّل: أن يتمّ التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة الأجنبية في رحم زوجة الرجل.
الفرض الثاني: أن يتمّ التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة الأجنبية في رحم نفس تلك المرأة الأجنبية.
الفرض الثالث: أن يتمّ التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة الأجنبية في خارج الرحم، لا في رحم زوجة الرجل أو المرأة الأجنبية.
من الواضح، بناءً على الفرض الثاني، تشابه حكم هذا الشكل والشكل الثاني من التلقيح الصناعي، ولكن بناءً على الفرضين الأوّل والثالث، فإنّهما مختلفان، وسوف نجعل بحثنا في الشكل الثالث، مبنيا على الفرضين الأوّل والثالث.
الدراسة الفقهية للفرض الأوّل
يقوم الفرض الأوّل على أساس عدم توليد المرأة للبويضة،و بالتالي تؤخذ بويضة امرأة اُخرى، وتقرّ في رحم هذه المرأة، ومن ثمّ يقوم زوجها بمقاربتها حتّى تحبل منه.
هذا الفرض أعمّ من كون المرأة المعطية للبويضة زوجة اُخرى للرجل أو جارية له، أو عدم وجود أيّ نوع من العلاقة الزوجية بينها والرجل.
وهنا يطرح هذا السؤال: هل يجوز مثل هذا النوع من التلقيح فقهيا أو لا؟
الأقوال في المسألة
تطرح في هذه المسألة أقوال هي:
1. القول بالجواز مطلقا: يقول عدّة بجواز هذا الشكل من التلقيح الصناعي مطلقا، سواء كانت المعطية للبويضة زوجة اُخرى للرجل، أو لا توجد أيّ رابطة زوجية بينهما.
وهؤلاء القائلون بالجواز، مجموعتان:
المجموعة الاُولى: من يجوّز الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، فإنّهم يجوّزون هذا الشكل أيضا.
المجموعة الثانية: بعض من اعتبر الشكل الثاني من التلقيح الصناعي محرّما، فإنّهم في هذه الحالة يقولون بعدم بعد القول بالجواز.
2. القول بالجواز في حال كون المرأة المعطية للبويضة زوجة اُخرى للرجل.
3. القول بالحرمة مطلقا، وقد اخترنا هذا القول بناءً على الأدلّة والمدارك التي ستأتي.
دليل القول بالحرمة
ذكرنا في تبيين دليل حرمة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، بأنّ هذا العمل مشمول لحكم الآية الكريمة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»، والشكل الثالث كذلك مشمول لحكم هذه الآية كذلك.
حيث ذكرنا هناك أنّه بناءً على إطلاق الآية الكريمة، إنّ فرجي المرأة وزوجها محلّلان أحدهما للآخر فحسب، فكما أنّه لا يحقّ للرجل أن يقرّ نطفته في رحم امرأة أجنبية ولو بالتلقيح الصناعي، فإنّه لا يحقّ للمرأة كذلك أن تقرّ في رحمها نطفة رجل أجنبي، ومن ناحية اُخرى فلا يحقّ للمرأة أن تقرّ كذلك بويضة امرأة أجنبيّة في رحمها.
دليل القول بالتفصيل
وهذا القول عبارة عن جواز التلقيح في حال كانت المعطية للبويضة زوجة الرجل.
كما ذكرنا، فإنّ إحدى فرضيات الشكل الثالث من التلقيح الصناعي هو كون زوج المرأتين، أي المرأة التي لا تنجب والمرأة التي تعطي بويضتها، نفس الشخص، في هذا الفرض، فقد احتمل بعض الفقهاء الجواز، ولم يعتبروا مثل هذا التلقيح حراما.
إنّ الدليل الأساس لهذا القول، يكمن في التمسّك بروايات مثل: «من أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه» لإثبات التحريم من الشكل الثاني، وعندها نقول بناءً على هذه الروايات إنّ التلقيح الذي يتمّ بين نطفة رجل وبويضة امرأة لا توجد بينهما أيّة رابطة زوجية حرام، ولكن هذا الاستدلال لا يجري في الحالة التي يتمّ فيها التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة زوجته، في رحم زوجته الاُخرى، بناءً على هذا، فإنّه إذا أقرّت بويضة تلك الزوجة الثانية في رحم هذه الزوجة، عندها لا يصدق على ذلك ما ورد من «رحم يحرم عليه».
على هذا الأساس، بما أنّهم حصروا دليل الحرمة في مثل هذا النوع من الروايات، فمن الطبيعي عندما لا يجري الاستدلال بها على حرمة هذا الفرض، أن يجري أصل البراءة، واختيار القول بالجواز.
الردّ على القول بالتفصيل
كما جاء في بيان أدلّة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، بعدم انحصار دليل الحرمة في هذه الروايات، حتّى لو أسقطنا دلالة هذه الروايات على إثبات الحرمة للشكل الثاني من التلقيح الصناعي، وانحصر الدليل أساسا على ما ورد في الآيات من 5 إلى 7 في سورة (المؤمنون) خصوصا الآية السابعة منها: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ».
فإنّه في هذا الفرض كذلك، وبناءً على هذه الآية الكريمة، يكون حكم الحرمة جارٍ كذلك، وإطلاقها لا يجيز إقرار بويضة تلك المرأة في رحم ضرّتها.
بعبارة اُخرى: إذا دقّقنا في إطلاق الآية الكريمة، فإنّها لا تفرّق بين كون المرأتين لزوج واحد أو لا، صحيح أنّ فرج المرأة المعطية لبويضتها محلّل على زوجها، ولكن فرجهما على بعضهما بعضا (هي وضرّتها) حرام، وكونهما لزوج واحد لا يوجب حلّية فرج إحديهما على الاُخرى.
الدراسة الفقهية للفرض الثالث
عند ما يتمّ التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة الأجنبية في خارج الرحم، فإنّه سوف يتمركز البحث في هذا الفرض على محورين:
المحور الأوّل: هل يحلّ هذا التلقيح أو لا؟
المحور الثاني: هل يجوز بعد التلقيح أن يتمّ زرع ناتج ذلك في رحم زوجة هذا الرجل أو لا؟
بالنسبة إلى المحور الأوّل: يقول البعض بعدم الإشكال، لأنّ الروايات الواردة في هذا المجال مثل: «من أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه» لا يشمل هذه الحالة، لأنّ التلقيح بين منيّ الرجل والبويضة تمّ في الخارج، ولا يصدق قوله: «رحم يحرم عليه» عليه.
ولكن مع ما ذكرناه، وما سنذكر لاحقا حول هذه الروايات، فإنّه لا خصوصية للرحم فيها، بل إنّ الملاك تلقيح ماء الرجل وبويضة المرأة التي يحرم عليه، وبناءً على هذا الملاك والضابطة، فإنّ ما يستفاد من هذه الروايات أنّ هذا الفرض من التلقيح حرام.
أمّا إذا جعلنا مبنى التحريم ومستنده الآية الكريمة، فلا يمكن عندها استفادة الحرمة، لأنّه لا تصدق في هذه الحالة: «ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ»، لأنّ المرأة لم تقم بجعل رحمها في تصرّف الغير، بل تمّ إخراج البويضة من داخل رحمها، وتمّ تلقيحها بمنيّ رجل أجنبي في خارج الرحم، وبالتالي لا يثبت في هذه الحالة إطلاق آية الحرمة عليها.
أمّا بالنسبة إلى المحور الثاني: إذا تمّ التلقيح في الخارج، فهل يمكن جعل ذلك في رحم زوجة هذا الرجل أو رحم امرأة اُخرى؟
بناءً على المبنى الذي اخترناه، فإن هذه الحالة مشمولة بإطلاق الآية، فلا يجوز إدخال هذه المادة المتكونة عن التلقيح في رحم امرأة اُخرى، سواءً كانت تحلّ للرجل أو تحرم عليه، وتصبح مشمولة بقوله: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ».
الشكل الرابع من التلقيح الصناعي: وهو التلقيح بين نطفة امرأة وزوجها خارج الرحم؛
يقوم هذا الشكل على كون المنيّ والبويضة متعلّقين بالمرأة وزوجها، وإجراء عملية التلقيح خارج الرحم، ولكن تطرح فرضيات مختلفة بناءً على محلّ تكوّن ذلك الجنين.
الفرضيات المختلفة للشكل الرابع
الفرض الأوّل: أن يتمّ تشكيل الجنين وتكوّنه خارج الرحم، وأن لا يتمّ نقله إلى رحم آخر.
الفرض الثاني: أن يتمّ نقل الجنين إلى رحم زوجة الرجل، أي المرأة التي أعطت بويضتها.
بناءً على القواعد والضوابط التي أشرنا إليها حتّى الآن، فإنّه لا إشكال في هذين الفرضين وهما جائزان، ولكن الإشكال الوحيد الذي يمكن أن ينشأ من بعض الاُمور المقارنة والملازمة لهذا العمل مثل: اللمس والنظر، والتي تعتبر من الاُمور الكلّية والخارجة عن موضوع التلقيح، ولعلّها تجري في جميع أشكال التلقيح.
الفرض الثالث: أن يتمّ نقل الجنين إلى رحم الزوجة الاُخرى أو جارية صاحب النطفة.
الفرض الرابع: أن يتمّ نقل الجنين إلى رحم امرأة أجنبيّة.
في هذين الفرضين كذلك لا إشكال من حيث التلقيح الخارجي، لأنّ المنيّ يعود إلى الزوج والبويضة تعود إلى زوجته، حيث يتمّ التلقيح بينهما في خارج الرحم، من هنا لا إشكال أو حرمة فيها.
إنّ السؤال الذي يطرح هنا أنّه عندما يتمّ نقل الجنين إلى رحم اُخرى سواء كانت للزوجة الاُخرى للرجل أو امرأة أجنبيّة، هل يعدّ مثل هذا الإجراء جائزا فقهيا وشرعيا أو لا؟
إنّ البحث في جواز أو عدم جواز الفرض الرابع، فرع عن القول بجواز الفرض الثالث، لذا سوف نركز دراستنا الفقهية في البداية على الفرض الثالث وندرسه من حيث الروايات والآيات.
الحكم الفقهي للفرض الثالث
أ) الاستدلال بالروايات: بالنسبة إلى الروايات التي وردت فيها عبارة: «من أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه»، فإننا سنطرح نقاطا حول الفرض الثالث، على الشكل التالي:
1. بالنسبة إلى حالة جواز أو حرمة التلقيح طبقا للفرض الثالث، يمكن القول بعدم حرمة رحم الزوجة الثانية على الزوج، وبالتالي فإنّ هذه الروايات لا تشمل هذا الفرض، لأنّها تنهى عن الرحم التي تحرم على الرجل.
2. من الممكن لقائل أن يقول بأنّنا نلغي خصوصية عنوان «رحم يحرم عليه» عن هذه الروايات، ونقول: يستنبط من هذه الروايات أنّه يجب إقرار نطفة الرجل في رحم امرأة يحلّ شرعا مقاربته لها فقط، أو أنّه يجب أن يتمّ التلقيح ببويضة امرأة يحلّ شرعا مقاربته لها فقط، من البديهي أنّه إذا بنينا القول على هذا الأساس من الاستنباط فإنّ الفرض الأوّل سوف يكون كذلك موضع إشكال أيضا، لأنّه في ذلك الفرض لم يتمّ تلقيح نطفة الرجل ببويضة زوجته عن طريق المقاربة، من الواضح أنّه لا وجه لمثل هذا الإلغاء للخصوصية، ولم يقل أحد من الفقهاء بحرمة الفرض الأوّل.
3. من الممكن أن يدّعي شخص انصراف هذه الروايات إلى الحالة التي تكون البويضة الملقّحة متعلّقة بنفس تلك الرحم، التي تمّ إقرار المادة بعد اللقاح فيها، وعلى هذا الأساس، فإنّه سوف يخلق إشكالاً ولكن مثل هذا الانصراف ليس صحيحا بأيّ شكل من الأشكال ولا دليل عليه، بجانب هذه الروايات، توجد روايات اُخرى قد تعقّد قليلاً هذا الأمر، وهي الرواية التي سئل فيها الإمام(عليهالسلام)عن أيّ الأمر أشدّ، الخمر أو الزنا؟ ولماذا جعل حدّ الزنا مئة جلدة وحدّ الخمر 80 جلدة؟ فأجاب الإمام(عليهالسلام) قائلاً:
لتضييعه النطفة ولوضعهإيّاهافيغيرالموضعالذي أمر اللّه عزّوجلّ به[125].
إنّ مدلول هذه الرواية أنّه لا يجوز وضع النطفة في غير الموضع الذي أمر اللّه به، عندها يمكن القول بأنّه في الفرضين الثالث والرابع عندما توضع النطفة بعد التلقيح في رحم امرأة اُخرى، يصدق عنوان: «في غير الموضع الذي أمر اللّه به»، ونثبت الحرمة على هذا الأساس.
من الممكن القول في الردّ على ذلك ما يلي: إنّ معنى «الموضع الذي أمر اللّه به» هو الرحم الذي يحلّ للرجل، وفي الفرض الثالث فإنّ رحم الزوجة الاُخرى أو الجارية محلّل للرجل، وبالتالي لا إشكال من هذه الجهة.
يقول المستدلّ في الردّ ما يلي: لعلّ إرادة اللّه عزّ وجلّ متعلّقة بأن يتمّ تلقيح نطفة الرجل ببويضة رحم تلك المرأة، والأمر ليس كذلك في الفرض الثالث.
على أيّ حال، فإنّه لا دليل على ادّعاء الانصراف هذا سواء على أساس هذه الرواية أو التي بعدها، ولا فرق برأينا من هذه الناحية بين قوله: «في غير الموضع الذي أمره اللّه به» وبين قوله: «في رحم يحرم عليه».
بناءً على هذا، إذا أردنا تركيز الاستدلال على الروايات فإنّ الفرض الثالث من الشكل الرابع للتلقيح الصناعي، عندما يتمّ إقرار النطفة الملقّحة في رحم الزوجة الاُخرى للرجل، جائز ولا إشكال فيها من حيث الروايات.
ب) الاستدلال بالآيات: بناءً على المبنى الذي اخترناه في المباحث السابقة لاسيما أثناء دراسة الشكل الثاني من التلقيح الصناعي، وحصرنا طريق الحرمة بالآية الكريمة «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ»[126]، فإنّ النتيجة المتحصلة من الروايات سوف تختلف عمّا يصل إليه الاستدلال الفقهي، بمعنى: بناءً على هذه الآية الكريمة، فإنّ أحد مصاديق قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ» هو أن تسمح المرأة بإقرار بويضة ضرّتها في رحمها سواء أقرّت البويضة فحسب، كما مرّ في الشكل الثالث، أو أقرّت البويضة الملقحة بنطفة زوجها، كما بني الفرض الثالث عليه، في جميع هذه الحالات، فإنّ الشارع المقدس لا يجيز إدخال بويضة اُخرى في رحمها، بل يريد أن تكون رحم الزوجة لنطفة زوجها فقط لا لشيء آخر.
إشكال: اعتبر بعض الفقهاء هذا الشكل من التلقيح مشابها للفرض الأوّل الذي يتمّ فيه تلقيح نطفة الرجل ببويضة الزوجة خارج الرحم، وتنمية الجنين المتشكّل من ذلك حتّى لحظة ولادته في جهاز للتنمية، وعلى هذا الأساس من المناظرة والمشابهة، حكموا بجواز هذا الفرض، وقالوا بعدم إشكال إقرار الجنين في رحم امرأة اُخرى.
طبعا يقوم هؤلاء العلماء بضمّ عدم دلالة الروايات مع هذه المشابهة كذلك، ويستنتجون من ذلك القول بالجواز.
الجواب: إنّ دليل الحرمة في هذا الفرض هو الآية الكريمة نفسها، وبعبارة اُخرى: إنّ هذا الفرض مشمول بالآية الكريمة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ»، ولكنّه لا يصدق على حالة الرحم الصناعية، إذ من ناحية لا دليل على حرمة إقرار الجنين في الرحم الصناعية، بالتالي فإنّ الحكم في هذين مختلف.
نتيجة: لا يمكن إصدار الحكم بالجواز في الفرض الثالث من الفرضيات الأربعة للشكل الرابع، وبالطبع فإنّ للفرض الرابع هذا الحكم كذلك.
دليل آخر على جواز الفرض الثالث والردّ عليه:
استدلّ بعض الفقهاء على جواز إقرار التركيب الحاصل من اللقاح في رحم امرأة غير صاحبة البويضة، بعدم جواز إسقاط الجنين الناشئ من الزنا، وذلك بهذا التوضيح: كما أنّه لا يجوز إسقاط الجنين في الزنا بعد حصول التلقيح بين المنيّ والبويضة، فهنا كذلك لا يجوز القضاء على هذا التركيب الحاصل بعد التلقيح، ويلزم إقراره في رحم اُخرى، وهنا تعمل الرحم مثل الجهاز في المحافظة على الجنين المتكوّن بعد التلقيح.
جواب: من الواضح أنّ هنالك مغالطة واضحة في هذه الحالة، تتمثّل في أنّ موضع بحثنا يدور حول النطفة الملقّحة التي يتمّ إقرارها في الرحم، ولو تركت على حالها لقضي عليها ولا توجد شروط استمرار حياتها بشكل طبيعي، ولكن موضوع إسقاط الجنين في الزنا هو النطفة الملقّحة التي استقرت في الرحم، ولو تركت لحالها، فإنّه توجد الشروط الملائمة لنموها بشكل طبيعي، وتحويلها إلى جنين وطفل.
بالنسبة إلى التركيب الحاصل عن التلقيح والذي لم يقرّ في الرحم، ما الدليل الموجود الذي يجعلنا نقول بوجوب إقرارها في الرحم، بحيث إذا لم يتمّ ذلك يتحقّق عنوان القتل؟ بشكل عامّ لا ملازمة بين إسقاط الجنين وقتله من ناحية، وحفظه من ناحية اُخرى، حتّى ولو قبلنا بوجود مثل هذه الملازمة ووجوب حفظ الجنين، فإنّ ذلك أيضا خارج عن موضوع بحثنا، إذ موضوعنا هو الحالة التي يتمّ فيها تلقيح النطفة بالبويضة، وتمّ تشكّل الخلية الجنينية، ولم تأخذ تلك الخلية في هذه المرحلة عنوان النفس المحترمة، لأنّها لا تعدّ نفسا محترمةً إلاّ عندما تستقر في الرحم وتتحوّل إلى جنين.
نقطة علمية: في المباحث السابقة لم نعتبر دلالة روايات «من أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه» تامّة على حرمة التلقيح الصناعي، وقلنا بأنّه لا يمكن الوصول إلى ضابطة من هذه الروايات، وأثبتنا حرمة التلقيح.
فإذا استفاد شخص من هذه الروايات هذه الضابطة التي تقوم على عدم وجود خصوصية للاستقرار في الرحم بل إنّ الخصوصية تكمن في التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة، سواء تمّ التلقيح داخل الرحم أو خارجه، وكلاهما مشمول للعقوبات الواردة في الرواية، ومن ناحية فإنّه إذا لم يتمّ التلقيح ولو كان قد أدخل الرجل نطفته إلى رحم المرأة فإنّ هذه الروايات لا تشملها.
وبالتالي، فلا خصوصية للرحم بل إنّ الخصوصية تكمن في تلقيح نطفة هذا الرجل ببويضة المرأة الأجنبية، بحيث يتحوّل هذا التلقيح إلى مادة لتكوين هذا الجنين.
تصبح نتيجة هذا الإطلاق أنّ الملاك والضابطة في حرمة التلقيح هو عندما يتمّ التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة الأجنبية، سواء تمّ ذلك داخل الرحم أو خارجها، وفي غير هذه الحالة لا توجد أيّة حرمة، وهي حلال مطلقا، بناءً على هذا فلا توجد حرمة في جميع فرضيات الشكل الرابع بالنسبة إلى الشخص، سواء تمّ إقرار النطفة والبويضة الملقّحة في رحم تلك المرأة التي أخذت منها البويضة، أو في رحم الزوجة الاُخرى لهذا الرجل، أو في رحم جاريته، أو في رحم المرأة التي ليست زوجة له، أو في جهاز، وهذا إطلاق يستفاد من الروايات.
بجانب ذلك، إذا دقّقنا في الآية الكريمة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» فإنّنا نستفيد إطلاقا آخر، للرحم فيه خصوصيّة، على خلاف الروايات، وضابطة حرمتها أنّ المرأة التي تجعل رحمها في تصرّف غير ماء زوجها، سواء كان ماء رجل آخر، أو ماء نفس الرجل ولكن ملقّحا ببويضة امرأة اُخرى، فإنّها تكون مشمولة في جميع هذه الموارد بالآية الكريمة، وبالتالي تكون قد ارتكبت محرّما.
بحفظ هذه المقدّمة فإنّه يطرح هذا السؤال: ألاّ يوجد تعارض بين الإطلاقين؟ بعبارة اُخرى، بناءً على مبنى من اعتبر دلالة الروايات تامّة، وفي الحال عينه يقبل إطلاق الآية كذلك، ألا يوجد تعارض في هذا الإطلاق والضابطة مع بعضها بعضا؟
إنّ الجواب هو نعم، يوجد تعارض بينهما، ويجب إجراء قواعد باب التعارض في هذه الحالة وهذا التعارض موجود خصوصا في محلّ كلامنا أي: الفرضين الثالث والرابع من الشكل الرابع، لأنّ إطلاق الروايات يحكم بالجواز، وإطلاق الآية يحكم بالحرمة.
على أيّ حال، كانت تلك نقطة علمية كان من اللازم الإشارة إليها هنا، وإن كانت دلالة الروايات على حرمة التلقيح الصناعي، بناءً على ما ذكر بيانه بالتفصيل سابقا غير تامّة، وبالتالي لا يصل الدور إلى التمسك بالإطلاق وتعارضه مع إطلاق الآية.
الرحم المؤجرة
من هنا يتّضح حكم الرحم المؤجرة، إذ إنّ الرحم المؤجرة في الحقيقة هي نفس الفرضين الثالث والرابع، حيث يتمّ فيها إقرار الجنين المتشكّل من تلقيح منيّ وبويضة الرجل وزوجته في رحم امرأة اُخرى، ويتمّ حفظه فيها حتّى تتمّ ولادة الطفل.
بناءً على ما ذكرنا حتّى الآن في دراسة الشكل الرابع من التلقيح الصناعي، فإنّه يحرم جعل الرحم بتصرّف شخص آخر سواء بصورة إجارة أو غيرها من العناوين.
أمّا إذا ارتكب مثل هذا المحرّم فإلى من يتعلّق الطفل المولود عن هذه الحالة من الناحية الحقوقية؟ وهذا بحث مستقلّ نأتي على ذكره في المباحث التالية.
الشكل الخامس: بعض الحالات النادرة الوقوع من التلقيح الصناعي
لقد درسنا بالتفصيل في المباحث السابقة كثيرا من أشكال التلقيح الصناعي التي كانت رائجة في العالم حتّى يومنا هذا، ويمكن إجراؤها من الناحية العرفية والعلمية.
بالإضافة إلى ما سبق، توجد أشكال اُخرى يمكن تصوّرها أيضا، ولعلّها لا تتخطّى الإطار النظري في العصر الحاضر بناءً على الإمكانات الطبّية المتاحة والتطوّرات الحالية في علم الطبّ، أو أن يكون إجراؤها محصورا على مستوى المختبرات فحسب، ومع ذلك فإنّنا سوف ندرس ونحلّل فقهيا بعضا من هذه الحالات بهدف تكميل هذه المباحث.
الحالة الاُولى: تلقيح منيّ رجل وبويضة حيوان
لهذه الحالة فرضيات مختلفة منها:
الفرض الأوّل: إقرار مادة التلقيح في رحم إنسان آخر.
الفرض الثاني: إقرار مادة التلقيح في رحم حيوان.
سنقوم بدراسة حكم هذه الحالة على أساس الروايات والآيات ذات الصلة.
دراسة الدلالة روائيا
إنّ الروايات المطروحة في التلقيح الصناعي تدور كلّها حول تلقيح بويضة إنسان، ولا يوجد فيها أيّ مورد حول بويضة حيوان في التلقيح.
فعلى سبيل المثال: إنّ رواية: «من أقرّ نطفته في رحم يحرم عليه» فيها ظهور واضح جدّا في المورد الذي يكون طرفا التلقيح فيها من جنس الإنسان (المني والبويضة لإنسانين).
بناءً على ذلك، فإنّ من يحصر دليل حرمة التلقيح في مثل هذه الروايات، فإنّه يحكم بجواز التلقيح في هذه الحالة، بالقول بأنّ موردها خارج عن مورد الروايات، وبالتالي نعود إلى الأصل الاُولى في ذلك، عبر إجراء أصالة البراءة فيها.
دراسة الدلالة من حيث الآيات
بناءً على التوضيحات المفصّلة التي ذكرناها في المباحث السابقة، فإنّ إطلاق الآية الكريمة: «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» يشمل هذه الحالة كذلك، وعليه يمكن من هذا الطريق من الاستدلال الحكم بحرمة هذه الحالة من التلقيح الصناعي.
يقول تعالى قبل هذه الآية ما يلي: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ»[127].
إنّ السؤال الذي يطرح هنا لماذا لم ينه المسألة في هذا الموضع؟
إنّ ذلك يعود إلى أنّه مع (الفاء) التفريعية التي ذكرت في الآية مرّتين ما يعطينا ضابطة كلّية، بمعنى أنّه وراء هذا الارتباط بين الزوج وزوجته، يتصوّر كلّ أنواع الروابط الاُخرى، سواء من ناحية ارتباط الرجل الأجنبي، أو إقرار بويضة امرأة اُخرى في رحم هذه المرأة، حيث يشمل جميعا إطلاق الآية منها شمول هذا المورد الذي يتمّ فيه إقرار بويضة حيوان في رحم هذه المرأة.
الحالة الثانية: كون أحد طرفي التلقيح نباتا
تشهد التحقيقات والدراسات الحديثة في علم الطب أنّه قد يمكن الحصول على خلايا من النبات لتوليد المثل في الإنسان، سواء كانت خلايا مذكّرة أو خلايا مؤنّثة.
في مثل هذه الحالة، وبناءً على مباني من حصر دليل الحرمة في الروايات، لا يوجد إشكال في الاستفادة من الخلايا النباتية وتلقيحها بمنيّ أو بويضة إنسان وإقرار ذلك في الرحم، ومع عدم استظهار الحرمة من الروايات، تجري أصالة البراءة والحكم بالجواز.
أمّا بناءً على مبانينا وإطلاق الآية الكريمة، فإنّ هذه الحالة تدخل في إطلاق الآية كذلك، ويمكن الحكم بحرمتها.
الاستدلال بمقاصد الشريعة
لأهل السنة مبحث بعنوان مقاصد الشريعة، يبحثون من خلاله في كشف ومعرفة الهدف الذي جعله اللّه عزّ وجلّ من تشريع هذه القوانين والبحث عن غايتها، وعلى هذا الأساس يقومون بالاستنباط والاجتهاد مستفيدين من ذلك الهدف والغاية.
فعلى سبيل المثال يقولون بأنّ أحد أهداف الشارع من تشريع قوانين وأحكام النكاح هو حفظ النسل بهذا الشكل الإنساني، بحيث يكون والدا الإنسان محدّدين، وأن يكون سيره تكامليا ويتحوّل حلاله من جنين كامل، إلى الولادة، بذلك الشكل الذي أشار إليه اللّه عزّ وجلّ في سورة المؤمنون (الآية 14)، وعلى ذلك يستفاد بأنّ كلّ طريق مخالف لذلك ولو كان ممكنا من الناحية العلمية مخالف لغاية الشريعة ومقاصدها، لأنّ الشارع المقدّس خلق الإنسان في أحسن تقويم، وغايته أن يولد الإنسان من هذا السبيل بأحسن تقويم.
إنّ البعض كذلك جمّد على هذا الموضع إلى الحدّ الذي يقولون: إنّ اللقاح بين الرجل وزوجته جائز من الطريق الطبيعي فحسب، ولا يجوز من غير الطرق الطبيعية، عبر التلقيح الصناعي بالشكل الأوّل.
على أيّ حال، في الحالة المذكورة، إذا أردنا الحصول على جنين إنسان بواسطة بويضة حيوان أو نبات، عندها لا يتناسب هذا الأمر مع غرض الشارع ومقصده وأهدافه.
طبعا، إنّنا لا نقبل هذه المسألة بوصفها دليلاً مستقلاًّ، بل يمكن اعتبارها فتح باب لدراسات أكثر حول هذا النوع من الأدلّة الفقهية.
المحور الثاني: المسائل الحقوقية للتلقيح الصناعي
تحدّثنا في المباحث السابقة بالتفصيل حول الجوانب الفقهية للتلقيح الصناعي، وجواز أو حرمة الأشكال المختلفة له، وفيما يلي يأتي الدور للبحث حول بعض من أهمّ المباحث الحقوقية للتلقيح، لا سيّما فيما يتعلّق بوضع الطفل المتولّد عن طريق التلقيح الصناعي، وانتسابه، وهويّة والديه.
من الواضح أنّ أهمّية هذا القسم لا تقل عن أهمّية القسم السابق، وكم من مسائل تطرح من قبل الاُسر المعرّضة لمثلها في هذا المجال، لا سيّما في التلقيح في حالة الرحم المؤجرة، لذا، سوف يكون أساس بحثنا متمركزا بهذا الشكل من التلقيح الصناعي، بالتوازي مع البحث في الأشكال الاُخرى له.
الفصل الأوّل: حقيقة النسب ومفهومه
إنّ كثيرا من الأسئلة الفقهيّة والحقوقية فيما يتعلّق بتحديد والديّ الطفل المتولّد عن طريق التلقيح الصناعي، ترجع إلى تحديد حقيقة النسب في الشرع الإسلامي، والإجابة عن السؤال التالي:
هل للنسب معنى اصطلاحي شرعي، وهل يعدّ حقيقة شرعية أو لا؟
انطلاقا من هذا، سوف نبدأ بدراسة هذا الموضوع، ومنه يتّضح موقفنا فيما يتعلّق بالأشكال المختلفة للتلقيح الصناعي، في أنّه هل للنسب معنى شرعي خاصّ؟
فيما يتعلّق بهذا الأمر يوجد رأيان:
الرأي الأوّل: ويقوم على أساس عدم وجود مفهوم خاصّ ومعنى اصطلاحي للنسب في الإسلام، بل يجب الرجوع إلى العرف في تحديد النسب، وهو فقط من يعيّن ملاكا ومعيارا له.
لإثبات هذا المطلب، يكفي أن يقول العرف ويعطي عنوان الأب لصاحب النطفة، وعنوان الاُمّ لصاحبة البويضة.
الرأي الثاني: ويقوم على أساس أنّ للنسب حقيقة شرعية واصطلاحا خاصّا، ويقول أصحابه، بأنّ للنسب في الإسلام مفهوما خاصّا بناءً على بعض المستندات والأدلّة، ويجب البحث عن رأي الشرع في تحديد النسب وتعيينه، ولذا لا يمكن جعل نظر العرف ورأيه ملاكا ومعيارا لتحديد النسب في أبحاث مثل التلقيح الصناعي.
مستند الرأي الثاني (وجود الحقيقة الشرعيّة للنسب)
وتدور المستندات والأدلّة الأساسية لهذا الرأي حول محورين هما:
أ) نفي النسب عن ولد الزنا
إنّ إحدى مسلّمات الفقه الشيعي عدم اعتبار الشارع المقدّس ولد الزنا منتسبا لأيّ من أبيه أو اُمّه، وبمعنى آخر، فإنّه نفى نسبه.
ويذكر المحقّق النجفي(رحمهالله) في هذا الإطار ما يلي:
وكيف كان، فلا يثبت النسب مع الزنا إجماعا بقسميه، بل يمكن دعوى ضروريته، فضلاً عن دعوى معلوميته من النصوص أو تواترها فيه[128].
إنّ إحدى آثار نفي نسب ولد الزنا عدم إرثه من الزاني والزانية، بناءً على رأي مشهور الفقهاء، نعم، في مقابل الرأي المشهور قال بعض قدماء الفقهاء مثل الشيخ الصدوق ويونس بن عبد الرحمن، بأنّ ولد الزنا يرث من أبيه أو اُمّه[129]، مستدلّين ببعض الروايات الواردة في هذا المجال.
فإذا استدلّ القائلون بوجود مفهوم شرعيّ للنسب، بنفي النسب عن ولد الزنا وحرمانه من الإرث، والذي يعني كون تحديد الأب والاُمّ بيد الشارع، إذا حكم بأبوّة أو اُمومة الشخص عندها يمكن إثبات النسب، وإلاّ فلا يمكن النسبة إلى الاُمّ أو الأب على أساس رأي العرف.
نقد الاستدلال بنفي النسب عن ولد الزنا
بملاحظة ما قُدّم من أدلّة ومدارك في هذا الرأي، عندها يطرح هذا السؤال بأنّه يمكن استنتاج عدم وجود أيّة نسبة بين شخصين، إذا حكم الشارع بعدم توارثهما؟ وهل يستفاد من نفي الإرث عدم وجود نسب أصلاً من وجهة نظر الشارع؟ أو أنّ الشارع يقبل أصل وجود النسب بين الزاني وبين ولد الزنا هذا، ولكنّه في مورد الإرث أخرجه من ذلك حكما وخصّصه عن الحكم؟
دوران الأمر بين التخصيص والتخصص
كما ذكرنا، فإنّ ولد الزنا لا يرث بناءً على رأي مشهور الفقهاء، ولكن يطرح هنا سؤال وهو: هل خرج هذا الأمر من القواعد العامّة للإرث بعنوان الاستثناء والتخصيص، أو الخروج بنحو الموضوع أو ما يصطلح عليه بالخروج تخصّصا؟
إذا تمّ ذلك الخروج تخصيصا، فإنّ ذلك يعني أنّ ولد الزنا كان ممّن يرثون، وكان جزءا من عمومات الإرث، أي أنّه ولد لهذا الرجل والمرأة، ولكنّه حرم من الإرث بسبب مخصّص خارجي، وخرج من تحت العمومات به.
أمّا الخروج التخصّصي لولد الزنا، فيعني أنّ ولد الزنا ليس ولدا للرجل والمرأة أصلاً، وأنّه في الحقيقة خارج من دائرة موضوع الوارثين ابتداءً، وبالتالي فإنّ خروجه تخصّصي.
فإن ثبت التخصّص عندها يمكن القول إنّ للشارع مفهوما خاصّا للنسب، ونفى انتساب ولد الزنا إلى الشخصين ابتداءً، فلا يرثهما.
ولكن لا دليل لدينا على هذا، وبالتالي نصل إلى الدوران بين التخصيص والتخصّص.
لقد طرح في علم الاُصول، في بحث العامّ والخاصّ، الكلام حول الدوران بين التخصّص والتخصيص، في أنّه هل يمكننا نفي التخصيص متمسّكين بأصالة العموم، ونصل إلى التخصّص؟
يرى بعض الاُصوليين إمكان التمسّك بأصالة العموم، والقول مثلاً بأنّ عموم «أكرم العلماء» غير مخصّص، وعليه نصل إلى التخصّص بنفي التخصيص، فنقول إنّ زيدا خارج تخصّصا من «أكرم العلماء».
في مقابل هذا الرأي، توقّف الآخوند الخراساني قدسسره. والتحقيق أيضا في هذا، بأنّه لا يمكننا في مثل هذه الموارد أن نأخذ بالتخصص عن طريق أصالة العموم، بالقول إنّ الفرد الذي لا يجب إكرامه ليس عالما حتما بناءً على أصالة العموم، وقد وردت إشكالات على هذا الرأي وذكر التحقيق فيه في علم الاُصول، بشكل عامّ، فإنّ الدليل في ذلك كما يلي:
إنّ الاُصول اللفظية، مثل أصالة العموم أو أصالة الإطلاق وأمثالها، هي لبيان مراد المتكلّم، ولكن أن نصل إلى نتيجة أنّ زيدا غير عالم بناءً على أصالة العموم متصرّفين في الحقيقة ونفس الأمر، هو خطأ بحكم العقلاء، ولا يمكن استفادة مثل ذلك من الاُصول اللفظية.
فإذا لم تجر أصالة العموم، فإنّنا نصل إلى القول بأنّ الشارع المقدّس استثنى ولد الزنا، فخرج تخصيصا من الورثة كما جعل له أحكاما اُخرى مثل عدم إمكان كونه إماما للجماعة، أو مرجعا للتقليد...
لذا يجب الاكتفاء بهذا المقدار، ولا يمكن الوصول أو القول بقطع العلاقة النسبيّة بشكل عامّ بين ولد الزنا وهذا الرجل والمرأة، وأنّه لا توجد أيّة علاقة بينهما، لأنّه إذا رجعنا إلى الفرق، فإنّه يعتبر ولد الزنا ولدا للزاني، ولا ينسبه إلى شخص آخر.
ملاحظة: إنّ ادّعاء صاحب الجواهر قدسسره في نفي النسب عن ولد الزنا بناءً على الإجماع والضرورة، مبنيّ على روايات واضحة، موجودة في هذا الباب، ومرادهم وغيرهم من الفقهاء من نفي النسب، ليس بالمعنى التخصّصي، حتّى نستنتج من ذلك نفي الأحكام المربوطة بالنسب، مثل المحرميّة وغيرها، والقول بعدم تحريم ولد الزنا على اُمّه.
ب) قاعدة الولد للفراش
توجد في الفقه قاعدة بعنوان: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر»، ولها علاقة ببحثنا من ناحيتين، إذ من ناحية، من حيث اعتبارها دليلاً لمن لم يقل بالمفهوم الشرعي للنسب، ومن ناحية اُخرى، جعلت دليلاً لتحديد الأب في بعض أشكال التلقيح الصناعي، وهنا سندرس مفهوم القاعدة ومفادها ابتداءً بشكل مجمل، ومن ثمّ سنبحث في هاتين الناحيتين، حسب ما يناسبها.
أدلّة قاعدة الولد للفراش
تعدّ قاعدة (الولد للفراش) من القواعد الفقهيّة التي ذكرت في كتب الفريقين ـ الشيعة والسنّة ـ واتّفق على كلّياتها من جميع الفرق الإسلامية، وأدلّتها بلغت من الكثرة بحيث يمكن الاطمئنان إلى تواترها، لذا، وللوصول إلى مفهومها ومفادها بشكل أفضل، سنذكر بعض الروايات المتعلّقة بهذه القاعدة.
الرواية الاُولى: ما أجاب به الإمام أمير المؤمنين(عليهالسلام) في اعتراض معاوية عليه في سبب نفي الأب عن زياد:
وأمّا ما ذكرت من نفي زياد فإنّي لم أنفه، بل نفاه رسول اللّه(صلى الله عليه و آله)، إذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر[130].
ولا يخفى المعنى اللغوي للفراش، ولكنّه جاء هنا كناية عمّن قارب اُمّ ذلك الولد وزوجها، بمعنى أنّ الولد لصاحب الفراش.
أمّا العاهر فهي الزانية، وبناءً على هذه الرواية، ليس للعاهر أيّ شيء من هذا الولد ومحجور عليها منه، إذا قرأناه بالكسر (الحِجر)، أمّا إذا كان بالفتح (الحَجر) فيصبح بمعنى وجوب إبعادها عنه بالحجر.
الرواية الثانية: ما نقله الحسن بن صيقل عن الصادق(عليهالسلام): قال:
سمعته يقول: وسئل عن رجل اشترى جارية ثمّ وقع عليها، قبل أن يستبرئ رحمها؟ قال: بئس ما صنع يستغفر اللّه ولا يعود، قلت: فإنّه باعها من آخر ولم يستبرئ رحمها ثمّ باعها الثاني من رجل آخر، فوقع عليها ولم يستبرئ رحمها فاستبان حملها عند الثالث، فقال أبو عبد اللّه(عليهالسلام): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»[131].
الرواية الثالثة: وهي مثل الرواية الثانية، مع اختلاف بقول الإمام الصادق(عليهالسلام)في ذيلها: أنّه قال:
قال أبو عبد اللّه(عليهالسلام): الولد للذي عنده الجارية وليصبر لقول رسول اللّه(صلى الله عليه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر[132].
الرواية الرابعة: ما نقله سعيد الأعرج عن الإمام الصادق(عليهالسلام) كما يلي: عن أبي عبد اللّه(عليهالسلام) قال:
سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال: للذي عنده لقول رسول اللّه(صلى الله عليه و آله): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»[133].
في هذه الرواية، جامع هذان الرجلان في فترة قصيرة متقاربة جاريةً، واستقرّت نطفتاهما في رحمها، فاعتبر الإمام(عليهالسلام) أيضا متمسّكا بهذه القاعدة الولد لمالك الجارية.
الرواية الخامسة: ما نقله الحلبي في رواية صحيحة عن الإمام الصادق(عليهالسلام):
أيّما رجل وقع على وليدة قوم حراما، ثمّ اشتراها ثمّ ادّعى ولدها، فإنّه لا يورث منه شيء، فإنّ رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) قال: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»....
رواية من مصادر أهل السنّة:
إحدى الروايات المشهورة التي وردت في صحاح أهل السنّة، حول هذا الأمر، ما يلي:
عن عائشة، قالت: كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقّاص أنّ ابن وليد زمعة منّي فأقبضه، قالت: فلمّا كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقّاص، وقال: ابن أخي قد عهد إليّ فيه، فقام عبد بن زعمة، فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبيّ(صلى الله عليه و آله) فقال سعد: يا رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) ابن أخي كان قد عهد إليّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه و آله): «هو لك يا عبد بن زمعة»، ثمّ قال النبيّ(صلى الله عليه و آله): «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، ثمّ قال(صلى الله عليه و آله) لسودة بنت زمعة زوج النبيّ(صلى الله عليه و آله): «احتجبي منه لمّا رأى من شبهه بعتبة»، فما رآها حتّى لقي اللّه تعالى[134].
علاقة القاعدة بمفهوم النسب
أراد البعض الاستفادة من هذه القاعدة بأنّ للنسب مفهوما خاصّا في الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ(صلى الله عليه و آله) نسب الولد، في الروايات، إلى زوج المرأة أو مالك الجارية، ونفاه عن الشخص الآخر، لذا فإنّ أمر النسب بيد الشارع.
ونقول في الجواب: إنّ مورد القاعدة هو الموضع الذي نشكّ فيه في لحوق الولد، وعدم تحديد نسبه، ومن المعلوم أنّه يجب أن يكون للشارع المقدّس حكم من الناحية الحقوقية في مثل هذه الموارد، ولا يمكنه عدم إلحاق الولد بأيّ عنوان أو صفة، ولكن لا يمكن الوصول إلى نتيجة كون حقيقة الأمر كذلك أيضا، إذ لعلّها لا تكون كذلك، كما أمر رسول اللّه(صلى الله عليه و آله) زوجته بالاحتجاب عن ذلك الولد مراعاة للاحتياط، لشبهه بعتبة، لذا فإنّ مراد الإسلام من هذه القاعدة تحديد الحكم الفعلي والظاهري للولد، لا النسب الحقيقي.
معنى جريان القاعدة
إنّ التأمّل والتدقيق في مفاد هذه القاعدة يوصلنا إلى فهم مطلبين منها:
الأوّل: إنّ مورد هذه القاعدة، عند تحقّق الزنا، بقرينة «وللعاهر الحجر»، وعدم علمنا لمن تعود هذه النطفة، هل للزاني أو للزوج أو مالك الجارية؟ بعبارة اُخرى: فإنّ «الولد للفراش» تكون بعنوان أمارة شرعية، وموردها عند وقوع الزنا.
الثاني: إنّ هذه القاعدة متعلّقة بالمورد الذي يوجد فيه إمكان لحوق الولد بزوج هذه المرأة، ولكنّها لا تجري في المورد الذي يوجد فيه يقين بتعلّق النطفة بشخص آخر.
تلك كانت إشارات سريعة إلى مضمون هذه القاعدة، والذي يلزم البحث فيها في رسالة مستقلّة وبشكل مبسوط، إن شاء اللّه.
الفصل الثاني: نسب الولد في الأشكال المختلفة للتلقيح الصناعي
سندرس في هذا الفصل نسب الولد في الأشكال المختلفة للتلقيح الصناعي، حيث مرّ الحكم الفقهي لها في القسم الأوّل.
الشكل الأوّل للتلقيح الصناعي: حيث يتمّ التلقيح بين نطفة الزوج وبويضة الزوجة، فلا شكّ في أنّ والده صاحب النطفة، ووالدته صاحبة البويضة.
الشكلان الثاني والثالث: لقد كان أحد أشكال التلقيح الصناعي، إقرار نطفة رجل أجنبيّ في رحم امرأة أجنبيّة، وفي هذا الشكل عدّة فروض:
في الموارد التي يتمّ التلقيح بين النطفة والبويضة خارج الرحم، ويولد الطفل من ذلك، عندها لا بحث في كون الأب نفس صاحب النطفة، وكذلك الأمر في المورد الذي يتمّ إقرار النطفة في رحم امرأة ليست بذات بعل، كما أنّ الأمر نفسه عندما تؤخذ النطفة وتوضع في رحم امرأة لا زوج لها.
ولكن إذا فرضنا كون هذه المرأة الأجنبيّة ذات بعل كذلك، وبعد أن توضع النطفة في رحمها، قام زوجها بمجامعتها، وأقرّ منيّه في رحمها، واحتملنا أنّ التلقيح تمّ من منيّ الزوج، عندها يطرح السؤال: من هو والد هذا الولد؟
هنا، يحكم بناءً على قاعدة الولد للفراش، بأنّ أباه زوج تلك المرأة، لا من هو صاحب النطفة، فحسب ما قلنا بعدم اختصاص قاعدة الفراش بباب الزنا، بل في كلّ مورد يمكن إلحاق الولد بالزوج أو بالمالك، عندها تجري هذه القاعدة.
الشكل الرابع: الرحم المؤجرة: إذا تمّ تلقيح نطفة الزوج في الخارج ببويضة زوجته، وتمّ إقرار ذلك في رحم امرأة أخرى، عندها يطرح السؤال، من هي اُمّ هذا الولد؟ هل هي من أعطت البويضة، أو من أقرّ الولد في رحمها؟
هنا، لا تطرح قاعدة الولد للفراش، لأنّ صاحب النطفة معلوم.
بناءً على هذا، وعلى ما ذكرنا في الفصل السابق، نرجع إلى العرف في تعيين اُمّ هذا الولد، حيث يعتبر صاحبة البويضة اُمّا له، لا من تكوّن الجنين في رحمها.
رأي المحقّق الخوئي(رحمهالله) في تعيين الاُمّ
للمحقّق الخوئي(رحمهالله) رأي مختلف في هذا المورد، إذ يحكم بكون الاُمّ من تولّد منها، استنادا إلى الآية الثانية من سورة المجادلة، التي تقول:
«الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَ اللاَئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورا وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ»[135].
حيث ذكره(رحمهالله) ما يلي:
المرأة المذكورة التي زرع المنيّ في رحمها اُمّ للولد شرعا، فإنّ الاُمّ التي تلد الولد، كما هو مقتضى قوله تعالى: «الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ...»[136] إلى آخر الآية.
وتوضيح الاستدلال في هذه الآية الكريمة، أنّه تعالى عرّف اُمّ المظاهر بأنّها من تولّد الولد منه، وبالتالي نستنتج أن كلّ من تولّد منها الولد، تعدّ اُمّه.
بناءً على ذلك، في مسألة التلقيح الصناعي أيضا، إذا تمّ إقرار بويضة امرأة اُخرى في رحم هذه المرأة، وقام زوجها بمضاجعة هذه المرأة وحبلت منه، فإذا ولد ذلك الولد من هذه المرأة، فإنّها تعدّ اُمّه.
نقد رأي المحقّق الخوئي(رحمهالله)
وننقده في جوابين:
الجواب الأوّل: لقد جرت العادة في الجاهلية، على أنّه إذا أراد الرجل أن ينفصل عن زوجته، كان يقول لها: «ظهرك كظهر اُمّي»، وكان ذلك اُسلوبهم في المتاركة والانفصال عن الزوجة، بجعلها بمثابة أمّه التي يحرم عليه النكاح بها، و «الظَهر» في التعبير كناية عن النكاح والمواقعة.
ولذا وردت هذه الآية الكريمة في مقام النهي عن مثل هذا السلوك، بمعنى أنّه لا تستطيعون أن تُجروا حكم اُمّهاتكم على زوجاتكم لتنفصلوا عنهنّ، وإقامة علاقة التحريم معهنّ مثل اُمّهاتكم.
لذا، فإنّ الآية ليست في مقام تعريف الاُمّ، بل في مقام تصحيح الفكر الخاطئ لأهل الجاهليّة، حتّى لا يُجروا حكم الاُمّ على الآخرين.
الجواب الثاني: إذا ماتت اُمّ وفي بطنها طفل، فأخرجوه حيّا بعد شقّ بطنها، عندها لا يمكن اعتبار اُمّ الطفل قد ولدته إلى الحياة، إذ لا ولادة في هذه الحالة، وقد جاء في اللغة ما يلي: «ولدت المرأة ولادا وولادة وأولدت: حان ولادها»[137]، والولادة الخروج من الموضع الطبيعي، فإن لم يتمّ الخروج من الموضع الطبيعي، فلا معنى للولادة حينئذٍ، في حين أنّ العرف يعتبر تلك المرأة اُمّ الطفل، لذا ينتقض هذا الرأي بأمثال ذلك.
احتمال وجود اُمّين للولد الناشئ من التلقيح
وهنا يوجد احتمال آخر أيضا، بالقول: إنّ للولد اُميّن، كما يمكن للشخص أن يكون له اُمّ من الرضاعة أيضا، ولذا بناءً على تنقيح المناط، ربما يمكن الحكم، بأنّ الجنين الذي تغذى ونما في بطن هذه المرأة تسعة أشهر، وتولّد منها، يعتبر ولدها طبعا، لا ريب أنّ اُمّه النسبيّة هي صاحبة البويضة، تعامل معاملة الاُمّ الرضاعية له.
وآخر دعوانا أنّ الحمد للّه رب العالمين
24/ 11/ 1384ش
24/ 11/ 1384ش
--------------------------------
[1] راجع المعاجم اللغوية في هذا الباب.
[2] كشف الرموز 2: 173.
[3] تذكرة الفقهاء، طبعة قديمة: 597.
[4] إيضاح الفوائد 3: 165.
[5] جامع المقاصد 1: 326.
[6] جامع المقاصد 4: 303.
[7] جامع المقاصد 6: 128.
[8] جامع المقاصد 13: 12.
[9] رسائل المحقّق الكركي 1: 219.
[10] الروضة البهية 5: 335.
[11] كشف اللثام 7: 116.
[12] كشف اللثام 8: 130.
[13] الحدائق الناضرة 2: 326.
[14] مفتاح الكرامة 7: 331.
[15] رياض المسائل 11: 17.
[16] كتاب النكاح: 78.
[17] كتاب النكاح: 250.
[18] مستمسك العروة الوثقى 14: 223.
[19] القواعد الفقهيّة 3: 36.
[20] القواعد الفقهيّة 4: 337.
[21] دليل العروة الوثقى 1: 203.
[22] جامع المدارك 3: 123.
[23] غاية المرام 3: 41.
[24] جامع المقاصد 12: 340.
[25] روض الجنان 1: 208.
[26] مسالك الأفهام 7: 403.
[27] مسالك الأفهام 9: 288.
[28] مجمع الفائدة والبرهان 1: 144.
[29] الحدائق الناضرة 24: 63.
[30] نفس المصدر 24: 156.
[31] الرسائل والمسائل 2: 115.
[32] جواهر الكلام 22: 277.
[33] جواهر الكلام 24: 207.
[34] جواهر الكلام 29: 135.
[35] جواهر الكلام 29: 278.
[36] جواهر الكلام 30: 178.
[37] جواهر الكلام 30: 300.
[38] كتاب المكاسب 3: 357.
[39] بلغة الفقيه 2: 209.
[40] بلغة الفقيه 3: 271.
[41] كتاب الصلاة 2: 61.
[42] في الاجتهاد والتقليد صفحة200، والطلاق والمواريث صفحة190، والنكاح صفحة 61من موسوعة تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة للإمام الخمينيقده وكذلك في القواعد الفقهية صفحة.481
[43] بلغة الفقيه 2: 211.
[44] وسائل الشيعة 20: 258.
[45] تهذيب الأحكام 6: 214، باب الوكالات، حديث 5، وسائل الشيعة 13: 286، كتاب الوكالة، باب 2، حديث2.
[46] الكافي 5: 526، كتاب النكاح، باب النوادر، حديث 20، الفقيه 3: 470، كتاب النكاح، باب النوادر، حديث 4640، تهذيب الأحكام 7: 433، باب التدليس في النكاح، حديث 37، وسائل الشيعة20: 296، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح،باب 18، حديث 1.
[47] الوافي 21: 259.
[48] لم ترد هذه العبارة في التهذيب، بل وردت في وسائل الشيعة.
[49] تهذيب الأحكام 7: 474 الزيادات في فقه النكاح، حديث 112، وسائل الشيعة 20: 258، أبواب مقدّمات النكاح، باب وجوب الاحتياط في النكاح، حديث 2.
[50] ملاذ الأخيار 12: 485.
[51] كرواية مسعدة بن صدقة، الكافي 5: 313، باب النوادر، حديث 40، وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 4، حديث 4.
[52] من الجدير ذكره أن هذا البحث ليس مرتبطا بمسألة التلقيح فحسب، بل يطرح في كثير من الأمور المتعلّقة بالمسائل الطبية.
[53] راجع كتاب قاعدة لا حرج للمؤلف.
[54] استثنى بعض الفقهاء الوجه والكفين من النظر إلى الأجنبية، وقد اخترنا كذلك في مباحثنا المفصّلة حول آيات الحجاب هذا الرأي بعد بحوث استدلالية مفصّلة.
[55] سورة النور 24: 30.
[56] الكافي 5: 541، باب الزاني، حديث 1، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 310، المحاسن 1: 192، كتاب عقاب الأعمال، باب 46، وسائل الشيعة 20: 317، أبواب النكاح المحرّم، باب4، حديث 1.
[57] دعائم الإسلام 2: 447، فصل ذكر حدّ الزاني والزانية.
[58] الجعفريات: 99، باب مقدار عذاب الزاني، دعائم الإسلام2: 448، باب ذكر حدّ الزاني والزانية.
[59] عوالي اللآلي1: 259، الفصل العاشر.
[60] خلاصة الأقوال: 363 ـ 364 الرقم 1426.
[61] رجال الطوسي: 242، الرقم 312 و244، الرقم 347، معجم رجال الحديث 10: 82.
[62] كلمات سديدة: 82.
[63] الإرشاد 3: 179.
[64] معجم رجال الحديث 1: 55.
[65] أمل الآمل 1: 83، باب الخاء.
[66] روضة المتقين 9: 441.
[67] الصحاح3: 1186، طبع دار النفائس.
[68] لسان العرب 9: 334 نطف.
[69] المفردات: 496.
[70] كلمات سديدة: 84.
[71] سورة الإسراء 17: 32.
[72] الخصال 1: 120، ح109، الفقيه 3: 559، ح4921، الفقيه 4: 20، ح4977.
[73] الفهرست: 576/127، رجال النجاشي:863/315، الخلاصة:5/248، رجال ابن داود: 402/267وقد ورد في.رجال الشيخ الطوسى: 7/490، كاسام بدلاً من كاسولا.
[74] رجال النجاشي: 315.
[75] رجال ابن الغضائري 5: 50.
[76] معجم رجال الحديث15: 47 ـ 48.
[77] الحبل المتين في أحكام الدين: 11.
[78] الحاشية على من لا يحضره الفقيه: 317.
[79] كتاب الصلاة2: 262.
[80] كتاب البيع 2: 628.
[81] تفصيل الشريعة، الحدود: 103.
[82] تفصيل الشريعة، الحدود: 103.
[83] نائب مفعول مطلق.
[84] الكافي7: 262، باب النوادر، حديث12، الفقيه 6: 38، باب ما يجب به التعزير والحد...، حديث 5033، علل الشرائع 2: 543، التهذيب 10: 99، باب الحد في السكر...، حديث 40، وسائل الشيعة 28: 98، أبواب حد الزنا، باب 13، حديث 1.
[85] ورد تخريج هذه الرواية فيما سبق.
[86] وسائل الشيعة20: 356، أبواب النكاح المحرم، باب وجوب العفة و...، حديث.3
[87] الكافي 5: 541، باب الخضخضة، حديث3، وسائل الشيعة 20: 349، أبواب النكاح المحرّم، باب26، حديث 1.
[88] سورة النور 24: 31.
[89] سورة المائدة 5: 90.
[90] الفقيه1: 114، باب غسل الجمعة، حديث235، وسائل الشيعة1: 300، أبواب أحكام الخلوة، باب1، حديث.3
[91] مرّ تفصيل ذلك سابقا.
[92] الكافي2: 35، باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلّها، حديث1، وسائل الشيعة15، 165، أبواب جهاد النفس، باب2، حديث.1
[93] مرآة العقول 7: 213.
[94] تفسير عليّ بن إبراهيم2: 101.
[95] بحار الأنوار 101: 33 باب 34 من يحلّ النظر إليه ومن لا يحلّ... .
[96] سورة المؤمنون 23: 5 ـ 7، سورة المعارج 70: 29 ـ 31.
[97] مرّ تفصيل ذلك سابقا.
[98] سورة الأنبياء 21: 83.
[99] سورة يس 36: 60.
[100] سورة فاطر 35: 6.
[101] وسائل الشيعة 28: 364، أبواب نكاح البهائم و...، باب3، حديث 4.
[102] بحار الأنوار 101: 30، تتمة أبواب النكاح، باب33،حديث1، مستدرك الوسائل14: 355، أبواب النكاح المحرم، باب 23، حديث 1.
[103] في اصطلاح علم الدراية، للرواية المرفوعة معنيان: أ) إذا حُذف من سندها أو من أول السند أو من آخره شخص أو عدة أشخاص، وصُرّح برفعها، مثال: عليّ بن إبراهيم عن أبيه رفعه إلى أبي عبد اللّه(عليهالسلام).
ب) الحديث الذي يُسند إلى الإمام(عليهالسلام) مباشرة ويُحذف منه الوسائط أو الواسطة، دون أن يُصرّح بالرّفع.
[104] مرّ تفصيل ذلك سابقا.
[105] الكافي5: 560، باب الخضخضة، حديث 2.
[106] سورة النساء 4: 23.
[107] سورة الأحزاب 33: 35.
[108] أحكام القرآن3: 47.
[109] تفسير القرآن العظيم3: 296.
[110] التبيان 8: 341 ـ 342.
[111] مرت هذه الروايات سابقا.
[112] الفقيه 3: 565، باب معرفة الكبائر، حديث 4934، علل الشرائع 2: 479، باب229، حديث1، وسائل الشيعة 20: 311، أبواب النكاح المحرّم، باب 1، حديث 15.
[113] الفقيه 4 المشيخة: 523.
[114] اختيار معرفة الرجال: 326، رقم729، رجال النجاشي: 328، رقم888، خلاصة الأقوال: 251، رقم 17.
[115] الفهرست: 143، رقم 609.
[116] رجال العلاّمة: 189، رقم 22.
[117] الإرشاد2: 247.
[118] كامل الزيارات:11، الباب الأول.
[119] منتهى المقال 6: 65.
[120] التهذيب10: 59، باب حد السحق، حديث6، وسائل الشيعة28: 169، أبواب حدّ السحق والقيادة، باب3، حديث.4
[121] رجال النجاشي: 417، رقم 1114.
[122] الكافي7: 202، باب آخر منه.
[123] التهذيب10: 58، باب الحد في السحق.
[124] التهذيب 10: 58، باب الحدّ في السحق، حديث 4، وسائل الشيعة 28: 169، أبواب حدّ السحق والقيادة، باب 3، ح3.
[125] الكافي 7: 262، باب النوادر، حديث12، الفقيه 4: 38، باب ما يجب به التعزير والحد...، حديث 5033، التهذيب 7: 99، باب الحدّ في السكر و...، حديث 40، وسائل الشيعة 28: 98، أبواب حدّ الزنا، باب 13، حديث 1.
[126] سورة المؤمنون 23: 7.
[127] سورة المؤمنون 23: 6.
[128] جواهر الكلام29: 256.
[129] اقرأ تفصيل هذا القول في جواهر الكلام39: 275.
[130] الخصال 1: 213، بحار الأنوار 44: 115، كتاب تاريخ فاطمة والحسن والحسين، باب21، حديث 10.
[131] الكافي5: 491، باب الرجل يكون لها جارية...، حديث2، الفقيه3: 450، باب أحكام المماليك...، حديث 4557، التهذيب 8: 168، باب لحوق الأولاد بالآباء...، حديث11، وسائل الشيعة21: 173، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب58، حديث 2.
[132] التهذيب 8: 169، باب لحوق الأولاد بالآباء...، حديث 12، وسائل الشيعة 21: 173، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب 58، حديث 3.
[133] الكافي 5: 491، باب الرجل يكون لها جارية...، حديث 3، وسائل الشيعة 21: 174، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد والإماء، باب 58، حديث 4.
[134] صحيح البخاري3: 70، باب تفسير المشبهات، صحيح مسلم2: 1080، كتاب الرضاع، باب الولد للفراش، حديث 36، سنن ابن ماجة1: 646، باب الولد للفراش، حديث 2004.
[135] سورة المجادلة 58: 2.
[136] صراط النجاة للخوئي مع حواشي التبريزي1: 363.
[137] لسان العرب 15: 393، ولد.