نقد على رؤية «تحديد النسل وتنظيم عدد السُكّان» في حوار مع صحيفة «جوان»

۲۹ مهر ۱۳۹۳

۲۱:۳۸

۳۴

چکیده :
إنّ الحوار الآتي يأتي بصدد نقد القرار المتّخذ تحت عنوان «قانون تنظيم الاُسرة» الذي تمّت المصادقة عليه في مجلس الشورى في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة سنة 1372ش. ثمّ تبيّنت تبعاته بعد عقدين من الزمن، إلى الحدّ الذي قال معه سماحة السيّد قائد الثورة المعظّم بإمكان إعادة النظر في هذا القانون، وأقرّ الكثير من العلماء بعدم وجود أساس فقهي لهذا القانون.
نشست های علمی

نقد على رؤية «تحديد النسل وتنظيم عدد السُكّان» في حوار مع صحيفة «جوان»
محمد جواد الفاضل اللنکراني

إنّ الحوار الآتي يأتي بصدد نقد القرار المتّخذ تحت عنوان «قانون تنظيم الاُسرة» الذي تمّت المصادقة عليه في مجلس الشورى في الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة سنة 1372ش. ثمّ تبيّنت تبعاته بعد عقدين من الزمن، إلى الحدّ الذي قال معه سماحة السيّد قائد الثورة المعظّم بإمكان إعادة النظر في هذا القانون، وأقرّ الكثير من العلماء بعدم وجود أساس فقهي لهذا القانون.

وفي هذا الحوار عمد سماحة آية اللّه‏ الحاج الشيخ محمّدجواد الفاضل اللنكراني (دامت بركاته) إلى مناقشة هذه المقولة. مع تقديم فائق الشكر والتقدير إلى سماحته على إتاحته الوقت لنا لإقامة هذا الحوار ومراجعة نصّه بعد ذلك.

نتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحتكم على إتاحة فرصة اللقاء والمشاركة في هذا الحوار. كما تعلمون فإنّه في العقد الثاني من انتصار الثورة، وبما يتناسب ورؤية وسياسة المسؤولين في حينها كان يتمّ التشجيع والحثّ على مسألة تنظيم السُكّان كثيراً. وبطبيعة الحال، فقد صدر في حينها تشكيك من قبل بعض العلماء وكانوا يظهرون ذلك في آرائهم، سواء في أصل المسألة أو في لزوم التطبيق المرحلي والمؤقّت لها. وفي الآونة الأخيرة بالالتفات إلى التحذيرات الكثيرة في هذا الشأن، وصولاً إلى الكلام الأخير لسماحة قائد الثورة المعظّم، أخذ التشكيك بهذه المسألة يتّخذ طابعاً جاداً، بل وحتّى الخدشة فيها. نرجو من سماحتكم في البداية أن تبيّنوا لنا رأيكم في هذه المسألة، كي نتعرّض بعد ذلك إلى المسائل الاُخرى.

بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم
في البداية أودّ أن أشكر فضيلتكم وجميع الكادر المسؤول والمحترم في صحيفة «جوان» على الاهتمام بهذه المسألة الهامّة، التي هي ليست مسألة فقهيّة فحسب، بل وتنطوي كذلك على الكثير من الآثار الاجتماعية الهامّة أيضاً، ويجب التعرّض إلى هذه المسألة بشكل جادّ. وأرجو أن تتّضح جميع أبعاد هذا البحث إلى الجميع بشكل كامل، ولا سيّما بالنسبة إلى المسؤولين، والسلطة التشريعية على وجه التحديد حيث تقع على عاتقهم مسؤوليّة تشريع القوانين، ومن هنا يجب عليهم أن يتفهّموا أبعاد هذه المقولة بشكل أكبر، وأن يبحثوا في آثار وتداعيات القانون الذي يصادقون عليه في هذا الخصوص في مجلس الشورى، وما هي تبعاته على مستقبل البلد وحتّى على الدين أيضاً. وها نحن نرى بعد عشرين سنة الآثار والتداعيات التي ترتّبت على القانون الذي تمّت المصادقة عليه في عام 1372ش تحت عنوان تنظيم السُكّان، وما ترتّب على ذلك من الإضرار على مجموع الاُمّة الإسلاميّة وبلادنا، ولكن نرجو ـ بالالتفات إلى ما قاله سماحة قائد الثورة المعظّم ـ أن يتمّ العمل على إعادة النظر في هذا القانون، وأن يقوم المسؤولون والممثّلون المحترمون في مجلس الشورى ببيان هذه المسألة بشكل دقيق.

و كمقدّمة لهذا البحث لا بدّ من القول: ليس هناك فقيه لا يرى استحباب مسألة الإكثار من الأولاد بوصفها حكماً أوّلياً في الإسلام، بمعنى أنّ كلّ الفقهاء قد أفتوا ـ بالالتفات إلى الآيات والروايات ـ باستحباب هذه المسألة، بل أذهب شخصياً في هذا الشأن إلى استنباط الاستحباب المؤكّد من الروايات تحت عنوان الحكم الأوّلي. عندما نلاحظ الروايات الواردة في هذا الباب، سنجد أنّها تشتمل على الكثير من العناوين المختلفة، وأنّ نفس هذا الاختلاف في العناوين يبيّن لنا أبعاد هذه المسألة وهذا الحكم الأوّلي إلى حدّ كبير.

من ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما روي عن النبي الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)، أنّه قال:

تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في يوم القيامة[1].

بمعنى أنّه مجرّد أن تكون أمّة خاتم الأنبياء(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) اُمّة كثيرة، وأن تكون من هذه الناحية أكثر من سائر الاُمم الاُخرى، فإنّ الآثار المباركة المترتّبة على ذلك سوف تظهر في يوم القيامة.

وهناك من الروايات ما يحثّ على الزواج طلباً لزيادة وكثرة الرزق. ففي تلك المرحلة كان هناك من يشكو إلى النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) أو الأئمّة الأطهار(عليهم‏‌‌السلام) من قلة الرزق، فكانوا(عليهم‏‌‌السلام) ينصحونه بالزواج[2].

ومن ناحية اُخرى فإنّ الإكثار من الولد يستوجب كثرة الرزق. فإنّ من سنن اللّه‏ تبارك وتعالى أنّ زيادة النسل تؤدّي إلى زيادة الرزق، وهذه نقطة في غاية الأهميّة ويجب الالتفات إليها جيّداً.

والتعبير الثالث الذي يمكن استنباطه من الروايات[3] هو أنّ كلّ مسلم يأتي إلى عالم الوجود ويبلغ حدّاً يمكن له أن ينطق معه بالشهادتين، فإنّه يحدث ثقلاً في الأرض، وبعبارة اُخرى: هناك فرق بين الإنسان المسلم والإنسان الكافر. إنّ الأرض لا تحمل أيّ تعهّد بالنسبة إلى الإنسان الكافر، وإنّ وجود الكافر بالنسبة إلى الأرض يُعدّ كالعدم، إلاّ أنّ الأرض تتفاعل مع الإنسان المؤمن، وإنّ وجوده يدعو الأرض إلى النشاط. لقد اشتملت الروايات على هذه التعابير، وإنّ الفائدة الاُولى التي نستفيدها من هذه التعابير هي أنّ هذا الحكم الأوّلي موجود بوصفه قضيّة حقيقيّة ثابتة ودائمة إلى يوم القيامة. بمعنى أنّه لو تمّ السؤال إلى يوم القيامة عن رأي الإسلام بشأن الإكثار من الولد؟ فإنّ الحكم الأوّلي ـ طبقاً لرأي جميع الفقهاء ـ هو الاستحباب، ومن وجهة نظرنا أنّ هذا الاستحباب مؤكّد، وليس من قبيل سائر المستحبّات.

إنّ هذه القضيّة قضيّة حقيقيّة وليست قضيّة خارجيّة. والمقصود من هذا الكلام هو أنّ البعض قد يتصوّر أنّ الحثّ على طلب الإكثار من الأولاد يعود إلى بداية ظهور الإسلام حيث كان عدد المسلمين قليلاً، وإنّ زيادة عدد المسلمين كان من شأنه أن يعمل على تقوية وتعزيز شوكة الإسلام، وبالتالي فإنّه بعد ارتفاع أعداد المسلمين وزيادة شوكتهم، يكون موضوع هذا الحكم منتفياً. وفي القضيّة الخارجيّة لا يكون الحكم باقياً إلى يوم القيامة، وإنّما هو رهن بالشرائط والظروف الزمانية الخاصّة.

بيد أنّي لا أرى هذا الكلام صحيحاً؛ إذ يتّضح من التعابير الواردة في هذه الروايات أنّ هذا الحكم إنّما هو مطروح على سبيل القضيّة الحقيقيّة، فعندما يوكل النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) هذه المسألة إلى يوم القيامة، وعندما يقول في بعض الروايات: «إنّي اُباهي بكم الاُمم يوم القيامة حتّى بالسقط»[4]. يمكن لنا أن نصل إلى هذه النتيجة؛ إذ لا شكّ في أنّ الجنين السقط لا شأن له في شوكة المسلمين. وعندما يرد في الروايات ذكر النطق بالشهادتين وكلمة التوحيد «لا إله إلا اللّه‏»، إنّما يكون الحديث عن كائن وشخص يمتلك قيمة واعتباراً. إنّ التعبير بـ «تثقل الأرض بلا إله إلا اللّه‏»[5]، لا يراد به الثقل الكمّي والوزن النوعي، بل هو تعبير كنائي عن قيمة الإنسان المسلم بالنسبة إلى الأرض، وإنّ هذا أمر ثابت ومستمرّ إلى يوم القيامة، ولا يمكن لنا أن نعتبر هذه القضيّة بوصفها قضيّة خارجيّة.

 كما تعلمون فإنّ بعض الحوزويّين في العقدين المنصرمين قد سعى في بعض رسائله ومكتوباته ـ على العكس منكم ـ إلى تقديم وجهة فقهيّة لتحديد النسل وتقليل عدد السُكّان، فمن المناسب في هذا الموضع من الحوار أن نقوم بجولة نقديّة على أدلّة هذه المجموعة أيضاً؟

 أجل، إنّ بعض الكبار من العلماء في العقدين الأخيرين قد ألفوا رسائل في هذه المسألة، وذهبوا فيها إلى الاعتقاد بأنّ الروايات التي أشرنا إليها، إنّما هي مذكورة على نحو القضيّة الخارجيّة. وعندما دقّقت في عباراتهم، وجدت أنّ كلامهم يشتمل في المجموع على خمسة مدّعيّات. واُريد هنا أن أطرح هذه المدّعيات على نحو الإجمال مع بيان الإشكالات التي ترد على الذهن حولها.

الادّعاء الأوّل يشير إلى هذه النقطة القائلة: 
صحيح أنّ هناك آيات وروايات تدلّ على رجحان كثرة الأولاد والذُرّيّة، إلاّ أنّ هذه الآيات والروايات مسوقة لبيان قضيّة خارجيّة وناظرة إلى المرحلة الزمنية التي كانت ترى في كثرة النسل دليلاً على القوّة والمنعة والشوكة، وكانت الجماعات والقبائل في تلك الحقبة التاريخية ترى في كثرة الأموال والأولاد ما يدعو إلى التفاخر على الأعداء والخصوم والمباهاة فيما بينهم. ذكر هؤلاء العلماء هذا الادّعاء وجاءوا عليه بعدد من الشواهد في كلماتهم.

من ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنّه قد ورد بعض الآيات أنّ الكفّار كانوا يقولون للأنبياء: «نحن أكثر أموالاً وأولاداً»[6]؛ ولذلك لا يستطيع اللّه‏ أن يعذّبنا! أو أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى في مقام تهديد المنافقين يقول في سورة التوبة: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً»[7]. حيث قال هؤلاء العلماء: إنّ هذه الآية صريحة في أنّ كثرة الأموال والأولاد لا توجب القوّة والشوكة، بل وتستوجب الضعف والفقر والجهل والأمراض، وعليه لا يعود بإمكاننا القول باستحباب الإكثار من الأولاد والذرّيّة. وقالوا أيضاً: لم يعدّ هناك اليوم ـ أي عند ما كانوا يكتبون تلك الرسائل ـ من يأتي ويتفاخر على الآخرين بكثرة الأولاد! ولذلك يفقد هذا المفهوم استحبابه.

ويمكن لنا على العجالة أن نورد أربعة إشكالات على هذا الادّعاء:

الإشكال الأوّل: إنّ الكفّار والمنافقين إذا كانوا يرون في كثرة الأولاد سبباً للتفاخر، لا يمكن لنا أن نتّخذ من ذلك دليلاً على القول بأنّ الآيات والروايات الدالّة على رجحان زيادة الأولاد ترتبط بدورها بمسألة الشوكة والقوّة؛ إذ لا يمكن القبول بأنّ المنافقين والكفّار حيث كانوا يرون في كثرة الأولاد وسيلة للتفاخر، إذن علينا أن نأتي ونعمل من الناحية العلمية والصناعية على تقييد الآيات والروايات بهذه القرينة، ونقول بأنّ هذه الآيات والروايات تتحدّث عن قضيّة خارجيّة. وبكلمة أوضح وأكثر عرفية: إنّ هذه المسألة لا يمكن أن تشكّل قرينة فيما نحن فيه أبداً. بمعنى أنّنا إذا أردنا أن نتّخذ من شيء قرينة، يجب أن تكون قرينيّته واضحة لدى العرف العامّ والمخاطبين من الناس.

إنّ المنافقين يرون في كثرة الأولاد ما يوجب التفاخر والشوكة، ونحن بدورنا نقتفي أثرهم ونقول: إنّ الإسلام إنّما حثّ على ذلك من هذه الناحية؟! واضح أنّ الأمر ليس كذلك، وعلى سبيل المثال: ما هي علاقة قول «لا إله إلا اللّه‏» بمسألة الشوكة؟ وما هي صلة المباهاة بالسقط[8] بقوّة وشوكة المسلمين؟ إنّ التعابير الواردة في الروايات لا تقبل الحمل على هذا المعنى، بل وتأبى عن الحمل على هذا المعنى.

الإشكال الثاني: لو سلّمنا القبول بهذا المعنى بوصفه قرينة، وقلنا بأنّ الإسلام إنّما حثّ على الإكثار من الأولاد والذُرّيّة؛ لكي يحصل المسلمون على قوّة وشوكة. إلاّ أنّ السؤال الذي يرد هنا هو: كيف يكون هذا التفسير دليلاً على اعتبار هذه الآيات والروايات بوصفها قضيّة خارجيّة؟ فحتّى هذا التفسير لا يستطيع أن يوصلنا إلى هذه النتيجة القائلة بحتميّة القول بأنّ هذه القضيّة قضيّة خارجيّة؛ إذ ليست هناك ملازمة بين هذا المعنى وبين أن تكون هذه القضيّة قضيّة خارجيّة. 

وذلك لأنّنا نقول إنّ الإسلام دعا إلى الإكثار من الذُرّيّة والأولاد، وقال بأنّ كثرة الأولاد تستوجب التفاخر إلى يوم القيامة. إنّ القضيّة الخارجيّة إنّما تكون حيث يتمّ تطبيقها والعمل بها في ظلّ شروط خاصّة، وينتهي العمل بها بانتهاء وقتها وظرفها. وعلى سبيل المثال، أنّه ورد في بعض الروايات أنّ النبيّ الأكرم(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) قد أمر أصحابه ذات مرّة بحرق الأشجار في موضع خاصّ[9]؛ نقول هنا إنّ هذا الأمر يرتبط بتلك الحالة الخاصّة، ولا يجب تكرارها. وأمّا إذا قلنا بحمل هذه الآيات والروايات على قوّة وشوكة المسلمين، مع ذلك لا تفقد حملها على كونها قضيّة حقيقيّة، ولا تكتسب عنوان القضيّة الخارجيّة.

الإشكال الثالث: إنّ صاحب هذا المدّعى قد قصر في الأساس كلّ التفاخر على قبيلة واحدة أو اُسرة أو جماعة واحدة تجاه جماعة اُخرى، ثمّ صرّح بعد ذلك بأنّ الاُسرة في عصرنا الراهن إذا كانت أكثر أولاداً من اُسرة اُخرى، لا يمكنها أن تجد في ذلك ما يدعو إلى تفاخرها عليها، في حين أنّنا لو دقّقنا في هذه الروايات، فسوف ندرك أنّ بحث التفاخر هنا يرتبط بقوّة ومنعة مجموع الإسلام؛ بمعنى أنّه لا ينبغي بنا أن نقصر رؤيتنا على عشر اُسَر بعينها، بل وحتّى مدينة أو بلد بأكمله، بل يجب أن تتّسع رؤيتنا ونجعل الأمر مرتبطاً بالاُمّة الإسلاميّة كلّها.

إنّ عدد المسلمين في عصرنا أقلّ بالقياس إلى سائر الأديان المعروفة في العالم، وهذا أمر في غاية الوضوح، وعليه فإنّنا حتّى إذا جعلنا مسألة القوّة والشوكة هي الملاك والمعيار، مع ذلك يجب لحاظ هذا الأمر بالنسبة إلى مجموع الاُمّة الإسلاميّة.

هناك رواية صحيحة مأثورة عن الإمام الصادق(عليه‏‌‌السلام)، يقول فيها:

لمّا لقى يوسف(عليه‏‌‌السلام) أخاه قال: يا أخي كيف استطعت أن تزوج النساء بعدي؟ فقال: إنّ أبي أمرني. فقال: إن استطعت أن تكون لك ذُريّة تثقل الأرض بالتسبيح فافعل[10].

فهذه الرواية ترتبط بمجموع الاُمّة الإسلاميّة وعموم الموحّدين. لقد صرّح هذا الكاتب قائلاً: إنّ زيادة السُكّان وعدد النفوس في الظروف الراهنة ـ يعني الفترة التي كتب فيها رسالته، وربما يعود هذا الأمر إلى ما قبل عشر سنوات أو خمس عشرة سنة ـ توجب الضعف والوهن والفقر والجهل والمرض والبطالة. وسؤالنا هنا: لو أنّ المسلمين اليوم يعانون من بعض المشاكل، وعجزت اُسرة بسبب كثرة أفرادها عن توفير الصحة والسلامة والمعاش لهم، هل يعود السبب في ذلك إلى كثرة أفراد هذه الاُسرة حقّاً، أم أنّ السبب يعود في ذلك إلى سوء الإدارة وعدم التدبير الصحيح؟ هل هو عجز الأب أو الاُمّ أو ربّ الاُسر عن إدارة اُسرته بشكل صحيح؟ أم أن رئيس الدولة لم يستطع أن يقدّم خطّة وبرنامجاً صحيحاً لإدارة المجتمع والدولة؟ أم أنّ الأمر يعود إلى عدم الاستفادة من الإمكانات؟ نحن لا نبحث عن الإجابة عن هذه الأسئلة، وكيف نستخرج النعم والثروات الإلهيّة وتوظيفها واستهلاكها بشكل صحيح. منذ عصر البهلوي كان الحديث يدور في بلدنا على الدوام عن الثروة النفطيّة، ويتمّ تخويفنا بأنّ النفط سوف ينضبّ قريباً! في حين أنّنا نشهد الآن ـ كلّما تقدّم الزمن ـ اكتشاف مصادر وحقول نفطية جديدة وهي أوسع بكثير من الحقول النفطية القديمة. وعليه، فإنّ هذه المسألة ودعوى أنّ زيادة عدد السُكّان تؤدّي إلى هذه التداعيات، إنّما تنشأ في الأصل من الدعة والركون إلى طلب الراحة. بمعنى أنّ الأشخاص بدلاً من العمل بشكل جاد وتشغيل أفكارهم وشحذ أذهانهم، والتشمير عن سواعدهم، أخذوا يميلون إلى الدعة وطلب الراحة.

إنّ علينا أن نأخذ الأحكام الإسلاميّة جنباً إلى جنب مع سائر الأحكام الاُخرى. فإذا كان الإسلام قد أكدّ على الإكثار من النفوس، فقد أكّد في الوقت نفسه على العمل وتحصيل الرزق الحلال بوصفه أمراً راجحاً، وأنّه على مستوى الجهاد في سبيل اللّه‏. إنّ الإسلام يذمّ الكسل والبطالة بشدّة، ويرى أنّ الذين يعيشون عالة على الآخرين هم من الملعونين[11]. ومن هنا يجب على الإنسان أن يبادر إلى العمل منذ أن يشتدّ عوده ويصبح قادراً على العمل، ولا يلقي بكَلّه على الآخرين. فلو أنّنا نظرنا إلى هذه الاُمور بأجمعها ودقّقنا فيها، وعملنا على مراعاتها، عندها لن نتفوّه بمثل هذا الكلام. وهناك إشكالات اُخرى على هذا الادّعاء، ولكنّنا سنكتفي هنا بهذا المقدار.

الإشكال الرابع: هو أنّ لكثرة الأولاد في الإسلام رجحاناً ذاتياً. وحتّى لو ذكرنا مفهوم القوّة والشوكة، فإنّ هذه الحيثيّة لن تكن حيثيّة تقييديّة بحسب مصطلحنا الاُصولي، حتّى يمكنها تغيير الموضوع. نحن نقول في علم الاُصول: إنّ بعض القيود ذات حيثيّة تقييديّة، بحيث لو زال القيد لتغيّر الموضوع أيضاً، وعندما يتغيّر الموضوع، يتغيّر الحكم ويزول بدوره أيضاً. إلاّ أنّ بعض القيود الاُخرى ذات حيثية تعليليّة، بمعنى أنّنا إذا قلنا بأنّ الإسلام يقول: إذا أردتم أن تكون لكم قوّة وشوكة فعليكم بزيادة النسل والذُرّيّة، تكون القوّة والشوكة حيثيّة تعليليّة، ويبقى هذا الحكم الاستحبابي على قوّته حتّى مع زوال هذه الحقيقيّة.

الادّعاء الثاني

يقال في الادّعاء الثاني: إنّ مسألة الكمّيّة إنّما كان لها دور في الأزمنة الغابرة، حيث كان الجيش الأكثر عدداً في ساحة القتال ـ على سبيل المثال ـ يغلب الجيش الأقلّ. وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى الزراعة والبناء وما إلى ذلك أيضاً. وأمّا الآن حيث التقدّم العلمي والتطوّر الصناعي والتكنولوجي، فقد فقدت الكمّيّة قيمتها، وحلّ محلّها التخصّص والتجربة والتطوّر العلمي والتقنية الحديثة. وأصبح بإمكان عشرة أشخاص أن يصنعوا قنبلة؛ فيتغلّبوا بها على عشرات الألوية العسكرية. وقد اتّخذ هؤلاء من هذه الحقيقة مؤيّداً لنظريّتهم؛ وبالتالي فقد استنتجوا أن علينا في الوقت الراهن أن نهتمّ بالجانب الكيفي، ولا نبالي بالجانب الكمّي.

وهناك جوابان هامّان عن هذه الدعوى.

الجواب الأوّل: لا شكّ في أنّ الأدوات المتقدّمة تلعب دوراً كبيراً في العصر الحاضر، ولكن عندما نرجع إلى المختصّين نجدهم لا يستطيعون تجاهل دور كثرة الأفراد أيضاً، بمعنى أنّ زيادة عديد الجيش لا تزال حتّى هذه اللحظة تمثّل عنصراً هامّاً في حسم المعركة. ثمّ إنّ الكثير من هذه الأدوات سوف تزداد فاعليتها وتطويرها بفعل كثرة العلماء والمفكّرين الذين يمكن أن يولدوا في المستقبل. بمعنى أنّه قد يكون بين الأشخاص الذين نمنع من ولادتهم من يُقدّر له أن يكون نابغة وعبقريّاً يستطيع أن يصنع أجهزة ومعدّات تفوق ما صنعه الأعداء بآلاف المرّات. ولو أنّنا منعنا من ولادتهم لن نصل إلى هذه النتيجة قطعاً.

الإشكال الثاني: إنّ هذا الاُسلوب من الاستنتاج لا يتناغم مع صنعة الاجتهاد. بمعنى أنّنا عندما نرى أنّ الآيات والروايات تشتمل على أمر بزيادة الأولاد والذُرّيّة، نجد أنّ هذا الأمر يحتوي على إطلاق، سواء زادت الكيفيّة أو لم تزد. فماذا نصنع بهذا الإطلاق؟ فإذا كان هذا المدّعي يزعم أنّ الكيفيّة لها الكلمة الاُولى حالياً في المجتمع، كيف يمكن لنا أن نرفع اليد عن هذا الإطلاق الموجود في الآيات والروايات؟ وعليه، لا يمكن القبول بهذا الادّعاء من الناحية الاجتهادية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ صاحب هذا الادّعاء القائل بأنّ التخصّص هو الذي يمتلك الكلمة الاُولى والأخيرة في هذا الشأن، قد استشهد لكلامه بالكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، مع أنّ إمكانات هذا الكيان وأعداد المستوطنين فيه أقلّ من السُكّان الأصليّين لأرض فلسطين. والسبب في ذلك يعود إلى امتلاك الصهاينة لناصية العلوم والصناعات والمعدّات العسكرية. وبالتالي يحدث هناك إنقلاب في موضوع الحكم، وعليه يحدث تبعاً لذاك إنقلاب في نفس الحكم أيضاً.

والجواب عن ذلك واضح؛ وكما قال سماحة السيّد الإمام الخميني قدس‏سره، لو قام المسلمون الآن بمواجهة إسرائيل بشكل صحيح ـ بما هم عليه من العدد حالياً ـ لن يبقى هناك أمل لهذا الكيان اللقيط بالبقاء. كما أنّ النجاح الذي حقّقته هذه الدويلة اللقيطة لا يعود إلى تفوّقها الكيفي، بل يعود السبب في ذلك إلى خيانة بعض قادة الدُوَل الإسلاميّة وبعض الفلسطينيين في الداخل من الذين وضعوا أيديهم في يد الكيان من تحت الطاولة، الأمر الذي مكّن هذا الكيان من البقاء حتّى الآن، ولنا أمل في أن يزول في القريب العاجل، إن شاء اللّه‏.

ثمّ إنّ هذا الكيان اللقيط الذي يمتلك أحدث المعدّات الحربيّة وأكثرها تطوّراً، لم يكتفِ يوماً بهذه المعدّات الحربية، وإنّما حرص ولا يزال على جمع أكبر عدد ممكن من اليهود من كافّة أنحاء العالم.

كما أنّ هذا الادّعاء ينطوي على تناقض في ذاته. إنّ الصهاينة لم يكتفوا بجمع اليهود من كافّة أقطار العالم فحسب، وإنّما شجّعوا المستوطنين على زيادة الإنجاب رغبة منهم في زيادة عدد المستوطنين وتكون لهم الأكثرية السُكّانية والديموغرافية.

وبغضّ النظر عن حكم الإسلام، فإنّ مسألة زيادة النسل هي في الأساس مسألة فطرية، وإنّ فطرة الإنسان تتّجه إلى هذه الناحية. بل نجد هذا الميل الفطري مركوز حتّى لدى الحيوانات أيضاً. فليس الأمر، وكأنّ الإسلام هو الذي أبدع هذه المسألة، وإنّما هو ينطلق فيها من منطلقات فطرية، ليستفيد منها بما هي أمر مركوز أودعه اللّه‏ في الفطرة.

الادّعاء الثالث

أمّا الادّعاء الثالث الذي ذكروه، هو أنّه يستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ الخزائن والنعَم الإلهيّة موجودة عند اللّه‏، وقال اللّه‏ بأنّه ينزلها على قدر معلوم. قالوا: إنّ الإمكانات الطبيعية في البرّ والبحر محدودة، بل وقالوا بإمكان إحصائها بشكل دقيق؛ إذن يجب علينا التدبير عقلاً، والتدبير يكمن في التنظيم والسيطرة على التعداد السُكّاني، وأن لا نسمح بزيادة الولادات دون حساب وكتاب. كما قالوا أيضاً: إذا أردنا الحيلولة دون العسر والحرج في حياة المواطنين، وإذا أردنا للمجتمع أن يعيش رفاهاً نسبياً، يجب علينا أن نتّجه إلى تحديد النسل وتنظيم أعداد السكان. وعقّبوا على ذلك بالقول أيضاً: إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد وهب الإنسان عقلاً ودراية وقدرة على التدبير، ولازم العقل والدراية والتدبير أنّ الشخص إذا رأى أنه إذا رزق بولد فإنّ بإمكانه أن يُحسن تربيته، بخلاف ما لو رزق بولدين، وجب عليه الاكتفاء بولد واحد.

يمكن الجواب عن هذا الإدّعاء: إنّ النقطة الهامّة حيث يقول اللّه‏ تعالى: «وَاِنْ مِنْ شَىْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم»[12]، هو أنّ المعلوم هنا إنّما هو معلوم عند اللّه‏، وليس عند الناس. بمعنى أنّ مقداره معلوم عند اللّه‏، وأنّ اللّه‏ ينزل هذا المقدار المعلوم عنده في كلّ مورد بحسب حكمته. وعليه لا صلة لهذا الموضوع بمحلّ بحثنا، حتّى نقول: يجب علينا أن نتدبّر في مسألة زيادة السُكّان. إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى هو الرزّاق والحكيم. وأنّه يُوجِد كلّ موجود تتعلّق إرادته بإيجاده، ولولا إرادة اللّه‏ تبارك وتعالى لما كتب الوجود لموجود. ومن هنا فإنّ القول بأنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد خلق العالم وترك أمر تدبيره إلينا؛ ومن هنا يتعيّن علينا العمل على تحديد الزراعة والتناسل وما إلى ذلك، غير صحيح. بل يجب القول: «وَأَنْ لَيْسَ لِلاِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى»[13]، وليس هناك حدّ لـ «ما سعى». فمهما عمل الإنسان وسعى في هذه الأرض، يمكنه السعي إلى المزيد من الإنتاج والعمل.

وعليه ليست هذه المسألة مسألة فقيّهة، ولا يجب الوقوف عندها طويلاً. ومن بين هؤلاء من تمسّك في بعض كلماته بأنّ المؤمن يجب أن يعمل على تنظيم معاشه. وهذا بدوره لا ربط له بموضوع بحثنا؛ إذ ما هو تأثير تنظيم المعاش في عمل المؤمن على تحديد النسل وتنظيم السُكّان؟ إنّ المؤمن الذي يستطيع تربية ولد واحد بما حباه اللّه‏ من النعم، يمكنه بتدبيره أن يعمل على توظيف هذه النعم لتربية المزيد من الأولاد أيضاً. فإنّ التدبير في المعاش لا يعني التقليل من الأولاد، بل يعني التفكير بشكل صحيح والإنفاق بشكل معقول، والعمل من أجل الحصول على النعم الإلهيّة.

الإدّعاء الرابع

أمّا الادّعاء الرابع لهؤلاء فهو قولهم: إنّ شأن الفقه والفقهاء يكمن في استنباط الأحكام، وأمّا المسائل المرتبطة بالعرف أو التي تحتاج إلى متخصّصين، فلا ربط لها بالفقهاء! والجواب عن ذلك: إنّ هذا الأمر يتناقض مع ما ذكره في بداية المسألة. فلو ذكر شخص مسألة القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة، فلن يمكن لغير الفقيه أن يميّز بين القضيّة الحقيقة والقضيّة الخارجيّة. فإذا كانت المسألة مرتبطة بالعُرف، فلماذا تحدّث في بداية المسألة عن القضيّة الخارجيّة والقضيّة الحقيقيّة؟

ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أنّ لهذا البحث ناحيّتين؛ فمن ناحية هناك الجهة الفقهيّة إذ يقول الفقيه باستحباب زيادة الأولاد، ولكن هناك ناحية اُخرى وهي أنّ الرجل إذا أراد من زوجته أن تنجب له الكثير من الأولاد، وكان ذلك يؤدّي إلى الإضرار بها، وربما أدّى ذلك إلى موتها لا قدّر اللّه‏، أو يؤدّي إلى نقل الأمراض المزمنة إلى أولاده، فمن البديهي هنا أنّ الأمر لا يعود مستحباً. فهذه الاُمور تدخل في مجال أصحاب الاختصاص، حيث يجب أن يحدّدوا ما إذا كان هذا المرض ينتقل إلى الأولاد بالوراثة أو أنّ زيادة الإنجاب تضرّ بحال المرأة على المستوى الجسدي والنفسي. إلاّ أنّ أصل الناحية الفقهيّة من المسألة محفوظ، ويجب عدم الغفلة عنه. ولا ينبغي القول إنّ رأي الإسلام قد تمّ ذكره بوصفه قضيّة خارجيّة، وانتهى الأمر.

وفي الختام لا بدّ من التذكير بهذه الآية الكريمة من سورة هود: «وَمَا مِنْ دَابَّة فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّه‏ِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُل فِى كِتَاب مُبِين»[14].

ليس الإنسان هو الذي يرزق، إنّما الرازق والرزّاق هو اللّه‏ تبارك وتعالى. إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى يعلم مستقرّ هذه الدابّة ومستودعها، وفي صلب أيّ أب وفي رحم أيّ أمّ تكون، إنّ اللّه‏ يعلم جميع ذلك، وعلينا أن لا نتدخّل في شؤون الخالق. الذي اُريد قوله على العموم هو أنّ هذا الحكم الأوّلي قضيّة حقيقيّة ومسلّمة ودائمة وسوف تبقى إلى يوم القيامة، ولا ينبغي اعتبارها قضيّة خارجيّة. وفي موارد وقوع التزاحم بين الحكم الأوّلي وبعض الجهات الاُخرى، إذا كانت هناك مسألة أهمّ في البين من زيادة عدد الأولاد، أمكن للفقيه أن لا يشجّع على زيادة التناسل أو أن يحدّ من ذلك بشكل مؤقّت، ولكنّه في الوقت نفسه لا يمكنه الإحجام عن بيان الحكم الأوّلي.

وبالمناسبة يجب على الدولة الإسلامية أن تعمل على إشاعة الأحكام الأوّلية ونشرها بشكل صريح، ولا يمكنها تجاهل هذه المسألة، ولكن حيث يقع التزاحم، من قبيل أن يكون هناك مرض مزمن، أو عروض أضرار ومشاكل لجميع المسلمين، يمكن للدولة الإسلاميّة تعطيل هذا الحكم الأوّلي مؤقّتاً. وإنّ ما حدث في المؤسّسات الصحيّة على مدى العقدين المنصرمين في الجمهوريّة الإسلاميّة ـ  للأسف الشديد ـ ولا يزال قائماً، أمر مخالف للشرع، حيث يراجع بعض الأشخاص هذه المؤسّسات الصحيّة لكي يجعل نفسه عقيماً ـ فإن كان العقم دائماً، فهو حرام ومخالف للشرع ـ وحتّى إذا كان ذلك برغبة وإرادة من هؤلاء الأشخاص، يجب على الدولة الإسلاميّة أن لا تقوم بذلك؛ لما فيه من الإعانة على الحرام، ولذلك يجب تذكير الناس بهذه الاُمور، وتناول جميع أبعاد المسألة بشكل دقيق جدّاً. فإذا كانوا يريدون إعادة النظر في هذا القانون طبقاً لبيان سماحة قائد الثورة، يجب عليهم المصادقة على قانون صحيح يتطابق مع الفقه والشرع.

 كما تعلمون فإنّه منذ بداية العقد الثاني من انتصار الثورة، وبعد رحيل السيّد الإمام قدس‏سره، وفي دولة البناء، حيث ذهب الظنّ بالمتصدّين إلى الاُمور إلى الاعتقاد بأنّ إمكانات الدولة محدودة، ولا تستطيع الوفاء بزيادة عدد السُكّان، بدأوا يطرحون برنامج تحديد النسل وتنظيم الاُسرة، وقالوا بعدم وجود توازن وتناسب بين إمكانات الدولة والجيل الراهن، وكذلك الأجيال التي ستوجد بشكل متسارع. لقد أشرتم والكلّ يعرف في الأساس أنّ منشأ الإمكانات وزيادتها هو الجيل المفكّر والمتعلّم والذي تتمّ إدارته بشكل متقن ومدروس.

وعليه، لا يمكن لهذا الاستدلال أن يكون صحيحاً، ولكنّكم قد أشرتم في الوقت نفسه إلى أنّه يمكن القول ـ في بعض الأحيان تحت عنوان الحكم الثانوي وفي مقام التزاحم مع المشاكل الأهمّ ـ بتعطيل هذا الحكم بشكل مؤقّت. وعليه يمكن القول إنّ سماحتكم تصحّحون ما حدث طوال هذه المدّة تحت عنوان المصلحة والحكم الثانوي؟

 كلاّ، بل إنّ الإشكال الذي يبدو لي هو أنّ المسؤولين في حينها قد تسرّعوا في هذه المسألة. كما لا ينبغي بطبيعة الحال أن نغفل في هذا الشأن عن المخطّطات التي يقوم بها أعداؤنا ويدخلونها بشكل وآخر في برامج دولتنا إنّا لا نستطيع القول بأنّ ما تمّت المصادقة عليه لم يكن له صلة بسياسات أعدائنا، وإنّه لم يكن لهم تدخّل في هذا الشأن. إنّهم قد عملوا بنحو من الأنحاء على الترويج لهذا المفهوم في البلدان الإسلاميّة، وأنّ موجة هذه السياسة قد وصلت إلى بلادنا أيضاً، ولكن من ناحية اُخرى كان المسؤولون في قطرنا قد توصّلوا إلى نتيجة مفادها عدم وجود تناسب بين الإمكانات المتوفرة لدينا، وبين زيادة عدد السُكّان، ويجب العمل واتّخاذ التدابير من أجل السيطرة على هذه الظاهرة.

ولكن هل توصل هؤلاء إلى نتيجة صحيحة في هذا الشأن؟ كلاّ، حتّى في ذلك الوقت لم يكن هذا الاعتقاد صحيحاً. فلو لم يتمّ انتهاج سياسة تحديد النسل، ما هي النسبة المئويّة التي كان مقدّراً أن يبلغه عدد السُكّان في قطرنا؟ إنّ عدد السُكّان يبلغ حالياً 75 مليون نسمة، فلو قدر له أن يبلغ 100 مليون نسمة، ألم تكن الإمكانات المتوفّرة كافية لتغطية هذا العدد؟ بمعنى: ألم يكن بالإمكان أن نقوم بشيء لهم حقّاً؟ إنّ المسؤولين أنفسهم يقرّون بأنّ الإمكانات المتوفّرة لدينا تفي بتلبية حاجة ضعف السُكّان الموجودين حالياً. وقد كانت هذه الإمكانات موجودة حتّى في ذلك الزمن، بيد أنّ الحسابات لم تجرِ بشكل دقيق؛ بمعنى: أنّ الموضوع لم يتمّ التعرّف عليه بشكل صحيح.

أجل، لم يتمّ التعريف بالموضوع على نحو دقيق. وقد كان هناك في حينها تسرّع في هذا الشأن. لست أشكّ في أنّ المسؤولين في ذلك الوقت قد أحسنوا النيّة، ولكنّي أرى أنّهم قد ارتكبوا خطيئة كبيرة، وقد شهدنا اليوم نتائجها المشؤومة؛ حيث نواجه الآن شيخوخة في مجموع السُكّان. بمعنى أنّ الطاقة الإنسانيّة في قطرنا لم تعدّ تمتلك تلك الفاعلية اللازمة، وأخذ وجودها يصبح مثل العدم. إنّ كلّ قيمة البلد تكمن في طاقاته الشبابيّة الحيويّة والنشيطة والمفكّرة. وعندما يصاب المجتمع بالشيخوخة، لن يعود الوطن على تلك القوّة والمنعة، ولن تكون له تلك القيمة ولا ذلك الإبداع والحيويّة.

وقد كان القبول بهذا الأمر منذ البداية خطأ، ولم يتمّ التعريف بالموضوع بشكل دقيق. كما أنّ بعض الرسائل التي كتبت في حينها قد تأثّرت ـ للأسف الشديد ـ بالأجواء والضوضاء التي أثيرت آنذاك حول هذه المسألة وما رافق ذلك من التهويل والضخّ الإعلامي، ولذلك لا نستطيع أن نعتبرها رسائل اجتهادية محكمة ومتقنة. لقد تركت هذه الرؤية بتأثيرها على بعض الكتّاب وحملة الأقلام ودفعتهم إلى الكتابة في هذا الموضوع. وهذا خطأ وقع في العقدين المنصرمين.

وأمّا الآن فيجب على المسؤولين أن يتمتّعوا بروح الشجاعة، وأن يصارحوا الناس بأنّهم قد أخطأوا في حينها. لا يمكن لشعار: «كلّما قلّ الأولاد، كلّما تحسّنت الحياة»، أن يكون شعاراً دينياً أو إنسانيّاً. وحيث إنّهم من خلال الترويج لهذا الشعار قد أسّسوا لثقافة خاطئة في هذا الوطن، فإنّهم يتحمّلون مسؤولية ذلك، ويجب عليهم حلّ المشكلة التي تسبّبوا بها، ولا يمكن القضاء على هذه الثقافة الخاطئة بمحاضرة واحدة أو بضع مقالات فقط. وعلى الإذاعة والتلفزة أن تقيم الندوات والبرامج التثقيفيّة في هذا الشأن، وعلى المتخصّصين أن يشاركوا في هذه الندوات ويدلوا بدلائهم، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفقهاء والنوّاب والممثّلين في مجلس الشورى الإسلامي، على الجميع أن يشاركوا في دراسة هذه المقولة وحلّ هذه المعضلة برؤية ثاقبة.

وأرى من الواجب عليّ أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى مركز الأبحاث والتحقيقات في مجلس الشورى؛ حيث كتبوا قبل شهر أو شهرين رسالة إلى مركزنا الفقهي (مركز فقه الأئمّة الأطهار عليهم‏السلام)، وطلبوا منّا أن نكتب تحقيقاً في هذا الشأن. وقد استجبنا لهم وعقدنا اجتماعاً، وأعددنا مقالات، وأرسلنا لهم رؤية المنظّرين وأصحاب الاختصاص في هذا الشأن، وكان ذلك قبل البيانات الأخيرة لسماحة السيّد القائد. وعندما استمعنا إلى بيانات سماحته اغتبطنا كثيراً، وأسعدنا أن يكون هذا هو رأي سماحته أيضاً. إنّ العالم الإسلامي يعاني حالياً من هذه المعضلة، ولو كتب لها أن تستمرّ، لن تقتصر مشكلة قلّة السُكّان على إيران فقط، بل سوف تعمّ العالم الإسلامي برمّته. لنا أمل ورجاء في أن تتمّ متابعة هذه المشكلة، والعمل على حلّها بشكل صحيح ودقيق.

في الختام نشكر لكم لطفكم وتفضلكم.

-------------------------------
[1] الفقيه 3: 241 ح1139، معاني الأخبار: 291 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 20: 14، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب1 ح2.

[2] وسائل الشيعة 20: 42 ـ 44، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب10 و 11.

[3] راجع وسائل الشيعة 20: 42 ـ 44، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب1 ح3، و ص53 ب15 ح1.

[4] الكافي 5: 334 ح1، وعنه وسائل الشيعة 20: 55، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب17 ح2.

[5] تقدّم في الصفحة السابقة، هامشة 3.

[6] سورة سبأ 34: 35.

[7] سورة التوبة 9: 69.

[8] كما تقدّم في ص 446.

[9] السنن الكبرى للبيهقي 13: 369 ـ 374 باب قطع الشجر وحرق المنازل، صحيح البخاري 3: 94 ح2326، سنن ابن ماجة 3: 387 ح2844 و 2845، المبسوط 1: 546، منتهى المطلب 14: 88 .

[10] الكافي 5: 329 ح4، وعنه وسائل الشيعة 20: 16، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب1، ح9.

[11] الكافي 5: 73 ح7، تهذيب الأحكام 6: 327 ح902، وعنهما وسائل الشيعة 17: 32، كتاب التجارة، أبواب مقدماتها ب6 ح10.

[12] سورة الحجر 15: 21.

[13] سورة النجم 53: 39.

[14] سورة هود 11: 6.


برچسب ها :