نقل الروايات باللفظ أو بالمعنى ؟

۱۹ شهریور ۱۳۹۵

۲۱:۵۵

۱۰۵

چکیده :
من أهمّ ما يجب أن يبحث عنه في علم الحديث، هو البحث عن كيفيّة نقل الأحاديث؛ بمعنى أنّ الروايات الموجودة بين أيدينا هل هي منقولة باللفظ، أم هي بالمعنى؟ وبعبارة اُخرى: هل يجوز نقل الروايات بالمعنى أم لا؟
نشست های علمی
نقل الروايات باللفظ أو بالمعنى ؟
 محمد جواد الفاضل اللنکراني

مقدّمة

من أهمّ ما يجب أن يبحث عنه في علم الحديث، هو البحث عن كيفيّة نقل الأحاديث؛ بمعنى أنّ الروايات الموجودة بين أيدينا هل هي منقولة باللفظ، أم هي بالمعنى؟ وبعبارة اُخرى: هل يجوز نقل الروايات بالمعنى أم لا؟

وقد تصدّى شيخنا الاُستاذ آية اللّه‏ الشيخ محمّد جواد الفاضل اللنكراني(دام ظلّه) عن البحث حول هذا الموضوع المهمّ ـ خلال بحثه عن مسألة بيع الصبيّ من كتاب البيع ـ ؛ وحيث إنّ الأصحاب لم يتعرّضوا لهذا البحث كما هو حقّه، وكذا لأهميّة هذا البحث رأينا أن نجمع ونقرّر ما أفاده دام ظلّه. 

وقبل الورود بالبحث نشير إلى اُمور:

الامر الأوّل: تعريف النقل بالمعنى، والنقل باللفظ.

المراد من النقل باللفظ هو أن ينقل عين الألفاظ التي سمعها من الإمام(عليه‏‌‌السلام) من دون تغيير في اللفظ والترتيب.

وأمّا النقل بالمعنى؛ فهو بمعنى أنّ الراوي ينقل معنى ما سمعه من الامام(عليه‏‌‌السلام)لكن بعبارات وكلمات ليست هي عين كلمات الإمام(عليه‏‌‌السلام)، بل هي ألفاظ تفيد مقصود الإمام(عليه‏‌‌السلام)مع أنّها ليست مخلّة بمراد الإمام(عليه‏‌‌السلام) ولايخفى أنّ إتيان الألفاظ المترادفة لا يخرجها عن النقل باللفظ، ولايدخلها في النقل بالمعنى. وبعبارة اُخرى: المقصود من النقل بالمعنى، نقل ما هوالمراد من كلمات الإمام(عليه‏‌‌السلام) إذا أصاب.

و كذا مجرّد الاختلاف في النقل بين الرواة ليس من مصاديق النقل بالمعنى، فمثلاً إذا روي أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال: «إنّ اللّه‏ إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه»، ويذكر الراوي الآخر أنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) قال: «إنّ اللّه‏ إذا حرّم بيع شيء حرّم ثمنه»، لم يكن ذلك من موارد النقل بالمعنى؛ فإنّ في كلّ واحد منها يكون الراوي في مقام ذكر الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه‏‌‌السلام)، فتدبّر.

الأمر الثاني: إنّ البحث عن جواز النقل بالمعنى وعدمه إنّما هو مرتبط بما قبل تدوين الجوامع الحديثيّة والمصنّفات، قال المجلسي(رحمه‏‌‌الله):

قال بعض الأفاضل: نقل المعنى إنّما جوّزوه في غير المصنّفات. أمّا المصنّفات، فقد قال أكثر الأصحاب: لا يجوز حكايتها ونقلها بالمعنى، ولا تغيير شيء منها على ما هو المتعارف[1].

والمراد من المصنّفات هنا، الكتب والجوامع الحديثيّة التي صنّفها الأصحاب (رضوان اللّه‏ عليهم).

الأمر الثالث: قد ادّعى الإجماع على جواز النقل بالمعنى بعض الأصحاب، كصاحب المعالم(رحمه‏‌‌الله)[2] والشيخ الأنصاري(رحمه‏‌‌الله)[3]. ولكن هذا الإجماع مضافا إلى عدم ثبوته، لا يضرّ بما ذهب إليه الاُستاذ(دام ظلّه) من أنّ أكثر الروايات منقولة باللفظ، وأنّ الأصل هو كون الروايات منقولة باللفظ؛ ضرورة أنّ هذا الإجماع إنّما دلّ على أصل جواز النقل، ولا يثبت كون الروايات الموجودة منقولة بالمعنى، فتدبَّر.

الأمر الرابع: الظاهر، كما صرّح به في مقباس الهداية، أنّه لايجوز نقل الأدعية والأذكار الصادرة من المعصومين (عليهم‏‌‌السلام) بالمعنى، وكذا تغييرها؛ وذلك لأنّها تعبّديّة توقيفيّة[4].

الأمر الخامس: قد أكدّ الاُستاذ (دام ظلّه) أنّ البحث في هذه الرسالة إنّما هو حول ما هو الموجود من الروايات، وأنّها هل هي منقولة بالألفاظ فقط، أو يكون بعضها منقولة بالمعنى، وبعضها الآخر باللفظ. والمدّعى أنّ في الروايات الموجودة يكون بناء الرواة أن ينقلها بعين الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه‏‌‌السلام) إلاّ في قليل من الموارد، وليس البحث عن جواز النقل بالمعنى وعدمه فقط؛ فإنّ من الواضح: أنّ جواز النقل بالمعنى لايلازم وقوعها كثيرا في الروايات، كما ادّعاه جمع.

الأمر السادس:
ما أفاده (دام ظلّه) خلال بحثه، من ثبوت الفرق بين كلام اللّه‏ تعالى وكلام النبي(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وأهل بيته (عليهم‏‌‌السلام) من جانب، وبين كلام الناس ومحاوراتهم من جانب آخر؛ فإنّ اللّه‏ تعالى والرسول(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يلاحظون في كلامهم معنى وسيعا يمكن أن لا يفهم المخاطب في ذلك الزمان تمام المعنى ؛ فمثلاً يجيب الإمام(عليه‏‌‌السلام) عن سؤال السائل بكلام يفهم السائل منه معنى جزئيّا، ولكن لا دليل على انحصار معنى كلامه(عليه‏‌‌السلام) فيما فهمه السائل، بل يمكن أن يأتي قوم يفهمون من هذا الكلام معنى أو معاني لا يفهمها المخاطب في زمان الصدور.

فعلى هذا، فلا وجه للقول بلزوم فهم ما فهمه الراوي والمخاطب فقط.

فكم من معنى لم يفهمه المخاطب أصلاً وفهمه غيره، كمسألة العلّة والمعلول، والحيثيّة التقييديّة والتعليليّة وما في بحث الاستصحاب من أنّ الزمان ظرف أم لا؟ فهذه المسائل لم تكن في ذلك الزمان، ولكن كما قلنا لا مانع من إرادة الإمام(عليه‏‌‌السلام)معنى وسيعا يشمل هذه الاُمور، ولكن لم يفهمه المخاطب وفهمه الآخرون. وهذا لا يلائم جواز النقل بالمعنى، بل يمنعه.

الأمر السابع: ما أشار إليه الاُستاذ دام ظلّه من أنّ كثيرا مّا يقال بأنّ الروايات اُلقيت على العرف. لكن لا يخفى أنّ المراد منه عدم إرادة الإمام(عليه‏‌‌السلام) خلاف ما هو المرتكز عند العرف، وليس المراد إنحصار معنى الروايات فيما فهمه المخاطب والعرف في ذلك الزمان. نعم، لايجوز قصد ضدّ ما فهمه المخاطب، ولكن يجوز ويمكن أن يقصد ـ مضافا إلى ما فهمه المخاطب ـ معنى أو قيدا لم يفهمه المخاطب، فمثلاً في رواية «صم للرؤية وأفطر للرؤية»[5]، لمّا لم تكن في ذلك الزمان نظّارة ولا كاميرا ولا تلسكوب، فلا أثر من هذه الكلمات في الروايه، ولكن الإمام(عليه‏‌‌السلام)لإحاطته بالمعنى، وعلمه بأنّه يأتي زمان يمكن فيه الرؤيه مع الواسطة أيضا ذكر أنّ المناط للصوم والإفطار هي الرؤية مطلقا[6].

نعم، لو أتى الإمام(عليه‏‌‌السلام) في كلامه بقرينة على أنّ المراد من الرؤية هي الرؤية بلا واسطة لم يمكن التمسّك بالإطلاق، كما لا يخفى.

وبعبارة اُخرى: إنّ الممنوع في فقه الحديث هي الدقّة العقليّة الفلسفيّة التي لا تناسب فهم العرف، أمّا الدقّة التي لم يفهمها العرف بدوا، ولكنّه يقبلها عندالتأمّل، فهذه الدقّة لا بأس بها، ومن الممكن أن يريد الإمام(عليه‏‌‌السلام) من لفظ ما يفيد المعنى الدقيق الذي يفهمه العرف عند التأمّل. 

فمثلاً لم يكن في زمان صدور الروايات عنوان الملاك والغرض، بل كانت الروايات غالبا متضمّنة لبيان الأحكام فقط. نعم، قد يوجد في بعضها ذكر فلسفة الأحكام وبعض فوائدها، لكنّ اليوم من المباحث الشايعة هو البحث عن ملاكات الأحكام، ومن المعلوم أنّ العرف لا يدرك جميع الملاكات، وأنّ العقل في إدراك الملاكات أقوى من العرف.

نعم، قد لا يدرك العقل أيضا، ولابدّ حينئذ من تصريح الشارع بالملاك. فعلى هذا هل يصحّ أن يقال فيما يدرك العقل ملاكا، والعرف لا يدركه؛ إنّ هذه دقّة عقليّة، ولا سبيل للدقّة العقليّة في استنباط الأحكام الشرعيّة؟ فمن الواضح: بطلان هذا القول.

نعم، ليس من دأب المتقدّمين ومسلكهم، التوجّه بهذه العناوين والتمسّك بها في الاستنباط، ولا يوجد في كلمات الشيخ والمفيد وابن زهرة والاسكافي وغيرهم(قدس‏‌‌سره)معنوان الحيثيّة التقييديّة والتعليليّة، ولكن هذه العناوين كثيرا ما توجد في بحوث المتأخّرين، ولا يصحّ أن نقول بأنّ هذه العناوين واستخراجها من الروايات ينافي الفهم العرفي، فلا اعتبار لها. كيف وقد سبق أنّه لا مانع من إرادة الإمام(عليه‏‌‌السلام)من الألفاظ معنى وسيعا لا يدركه العرف، والمخاطب في ذاك الزمان، ولكن يدركه الآخرون.

وبعد هذه الاُمور، نقول:

من الفوارق بين القدماء والمتأخّرين، دقّة المتأخّرين في الروايات من حيث ألفاظها، فمثلاً يفتون بحكم من الأحكام باعتبار وقوع لفظ «ثمّ» أو «فاء» أو «لام التعليل» في رواية، وهذا الحدّ من الدقّة لا يوجد في كلمات المتقدّمين، ولو وجد فهو في غاية القلّة.

وكيف كان، فلا وجه لهذا الحدّ من الدقّة إلاّ إذا كانت الروايات منقولة باللفظ دون المعنى.

ثمرة البحث

يتصّور لهذا البحث ثمرات متعدّدة:

الاُولى: جريان أصالة عدم الزيادة، وأصالة عدم النقيصة، على القول بكون الروايات منقولة باللفظ، وعدم جريانهما على القول بكونها منقولة بالمعنى. وبعبارة اُخرى: قد توجد روايتان في إحديهما زيادة بالنسبة إلى الاُخرى، فيبحث في أنّه هل هذه الزيادة من قول الإمام(عليه‏‌‌السلام) أم لا؟ وحينئذٍ قد يقال بجريان أصالة عدم الزيادة، وكذا يقال في قبالها بجريان أصالة عدم النقيصة بالنسبة إلى الروايات التي لم تذكر هذه الزيادة فيها، وحينئذٍ يقع الكلام في ترجيح أحدهما على الآخر، أو التعارض بينهما وتساقطهما، فكلّ هذا إنّما يتصوّر إذا كانت الروايات منقولة باللفظ دون المعنى[7].

الثانية: تقسيم الروايات إلى الطوائف المتعدّدة فرع كونها منقولة باللفظ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بالقدر المشترك بين الروايات.

الثالثة: قد سبق أنّه لاوجه لدقّة الفقهاء في الروايات من جهة ألفاظها وتركيبها، إلاّ إذا كانت الروايات منقولة باللفظ.

الرابعة: إنّ البحث عن المدلول الالتزامي حول الروايات منوط بكونها منقولة باللفظ. فما يبحث في الاُصول من حجّية المدلول الالتزامي للروايات، وأنّه عند سقوط المدلول المطابقي عن الحجّية هل يسقط المدلول الالتزامي أيضا أم لا؟ فكلّ هذه البحوث صحيحة إذا قلنا بكون الروايات منقولة باللفظ.

الخامسة: إذا وقع التعارض بين روايتين، إحداهما منقولة باللفظ، والاُخرى منقولة بالمعنى، فيمكن الحكم بتقديم ما كانت منقولة باللفظ على الاُخرى.

السادسة: لا يخفى أنّ التمسك بإطلاق الروايات من جهة بيان المصاديق، وشمولها للمصاديق الموجودة في زمان الخطاب وغيرالموجودة، إنّما يصحّ على القول بكون الروايات منقولة باللفظ، وإلاّ ينسدّ باب هذا التمسّك، وحينئذٍ لابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّن من مجموع معانيها، فلا يمكن التمسّك بهذه الروايات في المسائل المستحدثة، والمصاديق والموضوعات الجديدة[8].

هذه جملة الثمرات التي تخطر بالبال حول هذه المسألة، ولعلّ لها ثمرات اُخرى، وكيف كان، فبالنسبة إلى الروايات الموجودة بأيدينا هناك ثلاثة احتمالات:

الأوّل: أن نقول بأنّ الرواة نقلوا لنا عين ألفاظ الأئمّة(عليهم‏‌‌السلام).

الثاني: أن نقول بأنّ الروايات كلّها أو أكثرها منقولة بالمعنى.

الثالث: أن نقول بكون بعض الروايات منقولة باللفظ وبعضها منقولة بالمعنى، وتشخيص ذلك بالقرينة.

الأقوال في جواز النقل بالمعنى وعدمه

ذكر المامقاني(قدس‏‌‌سره) في مقباس الهداية ثمانية أقوال في المسألة:

الأوّل: الجواز إذا قطع الراوي بأداء المعنى تماما، وهو المعروف بين أصحابنا، بل في القوانين: أنّه لا خلاف فيه بين أصحابنا، وأنّ المخالف بعض العامّة[9]. 
فأكثر العامّة موافق لنا في المسألة، وأشار إليه أيضا صاحب القوانين(رحمه‏‌‌الله).
وكيف كان، فخبر الراوي حجّة بشرط إحراز كون مفاد خبره من الإمام(عليه‏‌‌السلام).
الثاني: المنع منه مطلقا، نسب إلى ابن سيرين، وثعلب، وأبي بكر الرازي من الحنفيّة. 
الثالث: التفصيل بين كون خبره بالألفاظ المترادفة، وبين غيرها، فيجوز في الأوّل دون الثاني، فلا بأس أن يقول «بشر» بدل «انسان» أو أن يقول «رجل» بدل «مرء».
الرابع: التفصيل بين النبوي وغير النبوي، فيجوز في الثاني دون الأوّل.
الخامس: يجوز للصحابي دون غيره.
السادس: إذا نسي الراوي عين اللفظ، فيجوز له النقل بالمعنى، وإلاّ فلا يجوز.
السابع: عكس السادس.
الثامن: التفصيل فيما كان مفاد الرواية أمرا علميّا، وبين كون مفادها أمرا عمليّاً، فيجوز في الأوّل دون الثاني[10].

أدلّة القائلين بالجواز

الدليل الأوّل: التمسّك بالقرآن الكريم

فقد يقال بأنّ اللّه‏ تبارك وتعالى قصّ القصّة الواحدة من قصّة موسى وفرعون وقصّة إبليس وغيرها بالألفاظ المختلفة، ومن المعلوم أنّ تلك القصّة تكون في الواقع بالألفاظ غير العربيّة، وأيضا تكون بلفظ واحدة ولغة خاصّة، وذلك دليل على جواز النقل بالمعنى، ونسبة المنقول بالمعنى إلى القائل. وقد صرّح بذلك المحقّق الحلّي[11] وصاحب المعالم[12].

وفيه أوّلاً: لا شكّ في أصل جواز النقل بالمعنى، ولكنّ البحث والخلاف قد وقع في أنّ الروايات الموجودة في الكتب الأربعة هل هي منقولة بالمعنى غالبا أم لا؟

وثانيا: الجهة الأساسيّة في وقوع الخلاف إنّما هي من جهة أنّ الناقل بالمعنى يمكن أن يسهو ويغلط ويغفل عن النكتة الأساسيّة في كلام القائل، ومن الواضح عدم وجود هذه الجهة في كلام اللّه‏ تبارك وتعالى.

وثالثا: أنّ اللّه‏ تبارك وتعالى في قصص القرآن ليس في مقام النقل من الناقل حتّى يقال بأنّه قد وقع النقل بالمعنى، بل إنّما هو سبحانه وتعالى في مقام بيان أصل الواقعة، وبالجملة: لم يكن اللّه‏ سبحانه وتعالى في مقام النقل والناقليّة، بل هو تبارك وتعالى قد كان في مقام القصّة التي وقعت. وبعبارة اُخرى: هو تبارك وتعالى يحكي الواقعة إبتداءً، فتدبّر.

ورابعا: فرق بين الروايات التي تكون بصدد بيان الأحكام الشرعيّة وبين القصص القرآنيّة، فربما يقال بالجواز في الثاني دون الأوّل، وذلك واضح جدّا.

الدليل الثاني: الروايات

إنّ عمدة أدلّة القائلين بالجواز طوائف من الروايات، ونحن نذكرها مع ما فيها من النقض والإبرام، فنقول: هذه الروايات على ثلاث طوائف:

الاُولى: الروايات التي هي صريحة أو ظاهرة في جواز النقل بالمعنى.

الثانية: الروايات التي هي ظاهرة في الجواز بشرط عدم تمكّن الراوي عن النقل باللفظ.

الثالثه: الروايات التي لها احتمالات متعدّدة.

إن قلت: يمكن أن تكون هذه الروايات أيضاً منقولة بالمعنى، فإثبات جواز النقل بالمعنى يتوقّف على هذه الروايات التي لا اعتبار لها قبل إثبات الجواز، وهذا دور.

قلنا: لم يقع في هذه الروايات نقل بالمعنى، بل الظاهر أنّها عين كلام الإمام(عليه‏‌‌السلام)، فلا يلزم الدور[13].

أمّا الروايات:

1 . رواية محمّد بن يحيى، عن محمّدبن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن ابن اُذينه، عن محمّد بن مسلم، قال:

قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس[14].

وجه الاستدلال: إنّ محمّد بن مسلم سأل الإمام(عليه‏‌‌السلام) عن جواز النقل بالمعنى، وقال: إذا زيد أو نقص في كلامكم فهل هو جائز؟ فأجاب الإمام(عليه‏‌‌السلام) إذا أردت المعنى فلا بأس. فالإمام(عليه‏‌‌السلام) قد ذكر أنّ الملاك إنّما هو إرادة المعنى الذي قصده الإمام(عليه‏‌‌السلام).

هذا، ولكن يحتمل أن يكون كلام محمّد بن مسلم استفهاميّا؛ بمعنى أنّه هل يجوز لي أن أزيد وأنقص؟ وعلى هذا لا يمكن أن نقول بإرتكابه النقل بالمعنى. هذا مع وجود احتمال آخر في جواب الإمام(عليه‏‌‌السلام)؛ وهو أنّ المراد من قوله: «إن كنت تريد معانيه فلا بأس» عدم البأس فيما نقل الرواي نفس المعنى من دون إسناد إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام)، فلا يدلّ على جواز النقل بالمعنى، وإنّما يدلّ على جواز النقل بالمضمون من دون إسناد الألفاظ إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام)، فلا يجوز للراوي حين نقل المعنى أن يقول: قال الصادق(عليه‏‌‌السلام)كذا مثلاً، إلاّ أن يأتي بقرينة تدلّ على أنّ هذه الألفاظ ليست ألفاظ الإمام، لئلاّ يقع السامع في الاشتباه.

قال صاحب المقباس(رحمه‏‌‌الله) في ذيل «إن كنت تريد معانيه فلا بأس»، يعني: إن لم تقصد نسبة اللفظ إلينا؛ فإنّه كذب[15].

والحاصل: أنّ هذه الرواية في الحقيقة صارت من أدلّة عدم الجواز؛ لما بيناه، فعند الإسناد إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام) بلا قرينة، يعلم أنّ الروايه نقلت باللفظ[16].

2 . رواية محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن ابن سنان، عن داوود بن فرقد الأسدي قال:

قلت لأبي عبداللّه‏: إنّي أسمع الكلام منك، فاُريد أن أرويه كما سمعته منك، فلا يجيء؟ قال: فتعمّد ذلك؟ قلت: لا، فقال: تريد المعاني؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس[17].[18]

يقع الكلام حول هذه الرواية تارةً: من حيث السند، واُخرى من حيث الدلالة.

أمّا سندها: فهي صحيحة؛ لأنّ محمّد بن يحيى ومحمّد بن الحسين وكذا داوود بن فرقد ثقات، وأمّا ابن سنان، فإن كان عبداللّه‏ بن سنان فهو ثقة، وإن كان محمّد بن سنان فمختلف فيه، والقرائن على توثيقه أكثر من تضعيفه، والنتيجة أنّ الرواية معتبرة[19].

وأمّا من جهة الدلالة: فقد استدلّ بها بأنّ المراد من قوله(عليه‏‌‌السلام) «تريد المعاني»؛ يعني إذا بيّنتم المضامين والمعاني، قال الفيض(رحمه‏‌‌الله) في الوافي:

وفي الخبرين دلالة صريحة بجواز نقل الحديث بالمعنى، كما هو الحقّ عند أهل التحقيق، وإن كان نقله باللفظ أحسن[20].

هذا، ولكنّ الصحيح كما مرّ، أنّ مراد الإمام(عليه‏‌‌السلام) لزوم تفهيم السامع بأنّ الرواية ـ عند نقلها بالمعنى ـ ليست عين ألفاظ الإمام(عليه‏‌‌السلام)، بل هو معناه ومضمونه، ولا يجوز النقل بالمعنى إلاّ مع القرينة[21].

3 . ما عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه، عن أبيه، عن محمّد بن الحسن، عن أحمد بن محمّد بن الحسن، وعلان، عن خلف بن حمّاد، عن ابن المختار، أو غيره رفعه قال:

قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) أسمع الحديث منك، فلعلّي لا أرويه كما سمعته، فقال: إذا أصبت الصلب منه فلا بأس، إنّما هو بمنزلة: «تعالَ» و «هلمَّ» و «اقعد»، و «اجلس»[22]. أقول: الرواية مرفوعة، فلايمكن الاعتماد عليها.

4 . مرسلة في كتاب حسين بن عثمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، قال: «إذا أصبت الحديث فاعرب عنه بما شئت»[23].

أقول: هذه الرواية مرسلة فلا اعتبار لها.

5 . ما روي عن الصادق(عليه‏‌‌السلام) مرسلاً، قال: «أعربوا كلامنا، فإنّا قوم فصحاء»[24].

ولا يخفى ما فيه ـ بعد الإغماض عن كونها مرسلة ـ ؛ لأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) لم يقل: أعربوا بما شئتم، فلا يمكن الاستدلال بهذا الحديث.

6 . ما نقله ابن إدريس(رحمه‏‌‌الله) في آخر السرائر عن كتاب أبي عبداللّه‏ السيّاري، عن بعض أصحابنا، برفعه إلى أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام)، قال: «إذا أصبت معنى حديثنا فاعرب عنه بما شئت».

وقال بعضهم: لا بأس إن نقصت أو زدت، أو قدّمت أو أخّرت إذا أصبت المعنى، وقال: هؤلاء ـ أي العامّة ـ يأتون الحديث مستويا، كما يسمعونه، وإنّا ربما قدّمنا، وأخّرنا، وزدنا، ونقصنا، فقال(عليه‏‌‌السلام): «ذلك زخرف القول غرورا، إذا أصبت المعنى فلا بأس»[25].

فالمراد من قوله(عليه‏‌‌السلام) «ذلك زخرف القول غرورا» يعني أنّ العامّة أخذوا الألفاظ ونقلوا عينها ليغرّوا الناس. قال المجلسي(قدس‏‌‌سره) في ذيل هذه الرواية:

والحاصل أنّ أخبارهم موضوعة، وإنّما يزينونها ليغترّبها الناس[26].

7 . ما روي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي بصير، قال:

قلت لأبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام): قول اللّه‏ جلّ ثنائه: «اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»[27]، قال: هو الرجل يسمع الحديث، فيحدِّث به كما سمعه، لا يزيد فيه، ولا ينقص منه[28].

أقول: في هذه الرواية ثلاثة احتمالات:

الاُولى: هذه الرواية تدلّ على عدم جواز النقل بالمعنى؛ لأنّها في مقام بيان معنى الآية، فقوله تعالى «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» يتعيّن في لزوم اتّباع الأحسن، فلفظ «أحسن» في هذه الآية ليس من أفعل التفضيل، فيكون معنى الآية: إنّ سامع القول يفرّق بين قول الحقّ وقول الباطل فيتّبع الحق؛ ففسّر الإمام(عليه‏‌‌السلام) الآيه في مورد رجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه، فهذا حقّ. أمّا لو زيد أو نقص فليس بحقّ.

هذا، وعلى هذا الاحتمال، هل يقع التعارض بينها وبين ما ورد سابقاً من أنّه إن تريد معانيه فلا بأس؟[29]

الثانية: يحتمل أن تكون كلمه «أحسن» أفعل التفضيل، ولا تعيّن فيها، فعلى هذا، تدلّ الرواية على أنّه لو نقل الألفاظ فهو أولى، ولو نقل المعنى فلا بأس به.

الثالثة: أنّ هذه الرواية وأمثالها لا ربط لها بنقل الحديث، بل لها معنى آخر سيأتي إن شاء اللّه‏ تعالى.

8 . ما عن أحمد بن مهران(رحمه‏‌‌الله) عن عبد العظيم الحسني، عن عليّ بن أسباط، عن عليّ بن عقبة، عن الحكم بن أيمن، عن أبي بصير، قال:

سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) عن قول اللّه‏ عزّ وجلّ «الَّذِينَ يَستَمِعُونَ الْقَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...»[30] قال: هم المسلمون لآل محمد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه، ولم ينقصوا منه، جاءوا به كما سمعوه[31].

وقد ذكرها المازندراني(رحمه‏‌‌الله) في شرحه على الكافي، وكذا المجلسي(رحمه‏‌‌الله) في مرآة العقول في باب النقل باللفظ والنقل بالمعنى.

قال المازندراني(رحمه‏‌‌الله):

وفي صيغة التفضيل دلالة على أنّ نقله لا على اللفظ المسموع حسن، لكن بشرط أن لا يتغيّر معناه، كما يشعر بهذين الأمرين الحديث الذي يأتي ذكره ـ أي الحديث السابع ـ . ثمّ قال: إنّ قوله(عليه‏‌‌السلام) «كما سمعه» أعمّ من النقل بالمعنى، والنقل باللفظ؛ لأنّ من نقل معناه بلا زيادة ونقصان فقد حدّث به كما سمعه. ولذلك صحّ لمترجم القاضي أن يقول: اُحدِّثك كما سمعته[32].

فمعنى «كما سمعته» أعمّ من النقل بالمعنى والنقل باللفظ.

وقال المجلسي(رحمه‏‌‌الله) في مرآة العقول:

فالمعنى: أنّ أحسن الاتّباع أن يرويه كما سمعه بلا زيادة ولا نقصان، ويؤمي إلى جواز النقل بالمعنى بمقتضى صيغة التفضيل[33].

هذا، وقال الفيض(قدس‏‌‌سره) في الوافي، ذيل قوله(عليه‏‌‌السلام) «هم المسلمون»:

يعني أنّهم يتّبعون محكمات كلامهم، دون متشابهاته؛ يعني يقفون على ظواهره مسلّمين لهم، ولا يتصرّفون فيه بآرائهم مأوّلين له بزيادة أو نقصان في المعنى، وهذا المعنى هو المناسب للتسليم والأحسن. وأمّا حمله على الزيادة والنقصان في اللفظ من دون تغيير في المعنى فلا يناسبها، مع أنّهم (عليهم‏‌‌السلام) رخّصوا في ذلك، كما مضى في أبواب العقل والعلم[34].

والجواب: أوّلا: أنّ الحديث ظاهر في عدم جواز النقل بالمعنى؛ فإنّ قوله(عليه‏‌‌السلام)«كما سمعوه» يكون ظاهرا بل صريحا في النقل بعين الألفاظ، خصوصا بعد وقوع هذا التعبير عقيب قوله(عليه‏‌‌السلام) «لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا». وعلى هذا، فماذكره المازندراني والمجلسي من شمول هذا التعبير للأعم من النقل باللفظ والنقل بالمعنى، غير تام.

وثانيا: أنّ الحديث غير مرتبط بالمقام أصلاً؛ فإنّ الآية الشريفة ظاهرة في أنّ المسلمين لآل محمد(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)يستمعون القول، وهذا القول أعمّ من الحقّ والباطل، والصحيح وغير الصحيح، والهداية وغير الهداية، وغيرها، فيتّبعون الأحسن منهما؛ بمعنى أنّهم يختارون الحقّ والصحيح دون غيرهما، وبناءً على ذلك ليست كلمة أحسن بمعناها التفضيلي، بل هي بمعناها الوصفي وهو التعيّن. فليس الحديث في مقام جواز النقل بالمعنى أو لزوم النقل باللفظ أصلا.

الدليل الثالث: الدليل العقلي

قال صاحب القوانين(رحمه‏‌‌الله):

إنّ اعتبار النقل باللفظ في الجميع يقرب من المحال، بل هو محال عادتا[35].

وتوضيح كلامه: إنّ الاستحالة على نوعين:

النوع الأوّل: ما هو محال وقوعه، من جهة ترتّب التوالي الفاسدة عليه.

والنوع الثاني: ما هو محال عقلاً، ولا يمكن تحقّقه ذاتا، كاجتماع النقيضين وشريك الباري. وما نحن فيه من النوع الأوّل؛ لأنّ من تحقّقه يلزم الفساد، ويوجب الاختلال في النظام؛ فإنّه إذا قلنا: إنّ العقلاء يعتبرون في حجّية الخبر، كونه منقولاً باللفظ، فحينئذٍ يجب الفحص عند كلّ خبر، هل هو منقول باللفظ أم لا؟ وهذا أمر صعب ومشكل لا يلتزم به أحد؛ لكونه مخلاًّ بالنظام البشري، كما لا يخفى.

إن قلت: الذي نحتاج إليه ويكون محلاًّ للابتلاء، هو الإخبار عن أحكام الشريعة، ولا يلزم من لزوم النقل باللفظ اختلال في خصوص أحكام الشريعة. نعم لو قلنا بهذا في كلّ اُمور البشر يلزم منه الاختلال.

قلنا: لمّا كان النقل بالمعنى كثيرا وشائعا بين الناس، وكانت طريقة الشارع في كلماته ومحاوراته مع الناس، نفس طريقة الناس، فلو كان النقل باللفظ في نظام الشريعة معتبرا لكان عليه التصريح به، مع أنّه لم يوجد هذا التصريح في هذا الموضوع، بخلاف باب الربا الذي يأخذه العقلاء ويؤتونه، والشارع قد خالفهم. فليس للشارع طريقة خاصّة في المقام.

والحاصل: أنّ لزوم النقل باللفظ محال عادتا، وبناء الشارع أيضا العمل بطريقة الناس في العمل بالنقل بالمعنى.

وكيف كان، فنقول في الجواب عن الدليل الثالث: إنّ الذي يقتضيه التأمّل هو عدم لزوم المحال في المقام؛ وذلك لأنّ الرواة لمّا كانوا مقيّدين على كتابة الحديث، وقراءته للأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)، فلا يلزم المحال والاختلال في نظام الشرع، كما أنّه لم يقع اختلال بسبب حفظ كلمات القرآن عينا. فهذا الدليل لا ينفع في المقام[36].

وأمّا ما ذكره طاهر بن صالح الجزائري في كتاب توجيه النظر؛ من أنّ الصحابة كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها، ولا يكرّرون عليها، ثمّ يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الانسان فيه بأنّ نفس العبارة لاتنضبط[37]، فهو غير مطابق لما حكي عن أحوال الرواة، وسيرتهم في ضبط الأحاديث.

نعم، يمكن أن يقال بصحّة ذلك بالنسبة إلى صحابة النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله)؛ ولأجل ذلك مال المحقّق(رحمه‏‌‌الله) في المعارج إلى أنّ الصحابة كانت تروي مجالس النبيّ(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) بعد انقضائها وتطاول المدّة. ويبعد في العادة بقاء ألفاظه بعينها على الأذهان. انتهى كلامه[38].

والظاهر أنّ ذلك أيضا محلّ تأمّل.

وما ذكره مؤلّف كتاب معرفة الحديث؛ من أنّ الأصحاب الذين يكتبون الحديث بالألفاظ المسموعة بلا مهلة هم الأقلّون منهم[39]، غير مقبول؛ لأنّ الظاهر أنّ أكثرهم كانوا يحسنون الكتابة، وكانوا يكتبون الحديث كما سمعوه.

الدليل الرابع: بناء العقلاء

إنّ العقلاء لا يلتزمون في محاوراتهم بنقل عين الألفاظ، فهذا الدليل لا ربط له باختلال النظام ووقوع المحال العادّي، والعسر والحرج، وغيره، وإنّما هو توافقهم في عدم لزوم نقل عين ألفاظ المتكلّم. قال صاحب القوانين(رحمه‏‌‌الله):

إنّ ذلك ـ أي النقل بالمعنى ـ هو الطريقة المعهودة في العرف والعادة من لدن آدم(عليه‏‌‌السلام) إلى زماننا هذا[40].

ونضيف إلى بيانه: أنّ طريقة الشارع في محاوراته أيضا على هذه الطريقة المعهودة بين العقلاء، ولما كان المقصود بينهم إفهام المعنى وليس للّفظ خصوصيّة عندهم، فالشارع أيضا أخذ بهذه الطريقة، وليست له طريقة خاصّة، فالأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)عند بيان الأحكام والجواب عن أسئلة الناس أخذوا على هذه الطريقة، فالراوي إذا نقل الحديث على نحو أصاب بالمعنى، وبين ما هو مقصودهم (عليهم‏‌‌السلام)، فلا بأس به؛ لأنّهم لم يروا للّفظ خصوصيّة، وإنّما المهمّ بيان المقصود والمراد.

نعم، بناءً على اشتراط إمضاء الشارع في مسألة بناء العقلاء، فلابدّ في ما نحن فيه من قرينة على إمضائه، وإليك بعض القرائن على الإمضاء:

ألف: وقوع النقل بالمعنى في القرآن الكريم، فمثلاً عند ذكر كلمات الأنبياء وقصصهم كثيرا ما يتّفق هذا النقل، كما لا يخفى.

هذا، ولكن يمكن أن يقال بعدم كفاية هذه القرينة؛ لأنّ الناقل للمعنى في القرآن الكريم، هو اللّه‏ تبارك وتعالى، وهو محيط بالاُمور والأشياء، مع أنّه لو سلّم وقوعه في نقل القصص والحكايات، ولكن لا دليل على وقوعه في الأحكام الشرعيّة التي هي محلّ الكلام، فلا تنفع هذه القرينة[41].

ب: ما ذكروه في باب الصوم من أنّ الصائم لو نقل الحديث بالمعنى لا باللفظ مع تمكّنه من النقل باللفظ، فلا يبطل صومه، فهذا قرينة على إمضاء بناء العقلاء.

ويشكل بأنّ الصائم إذا نسب الألفاظ إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام)فيما ينقل بالمعنى، يبطل صومه؛ للكذب على الإمام(عليه‏‌‌السلام). نعم، لو صرّح بأنّ ما يذكره، عبارة عن معنى الحديث ومضمونه لا لفظه، لم يبطل صومه، فهذه القرينة لا تنفع أيضا.

الجواب عن الدليل الرابع

يمكن أن يقال بأنّ سيرة العقلاء ليست على طريقة واحدة في جميع اُمورهم، بل إنّهم في الاُمور المهمّة، كمسائل الحرب وإدارة المملكة، في غاية الدقّة، ولمّا كانت الأحكام الشرعيّة من الاُمور المهمّه والخطيرة، فاستنباطها من الروايات بالتمسّك بالإطلاق والعموم والقيود مثلاً، يحتاج إلى كون الروايات منقولة باللّفظ، فلا سيرة هنا من العقلاء، ولا أقلّ من الشكّ، وعند الشكّ لا يمكن التمسّك بها.

وكيف كان، نقول: إنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) يعلم بأنّ كلامه يكتب وينقل للآخرين الذين يعملون به ويتمسّكون بإطلاقه وعمومه وكلماته، ولازم ذلك كون النقل باللفظ دون المعنى[42].

الدليل الخامس: ما قاله المامقاني(رحمه‏‌‌الله) في مقباس الهداية

الثالث: أنّه يجوز تفسير الحديث لغير العربي بلغته اتّفاقا، فلو كان هذا جائزا لكان النقل بالمعنى جائزا بطريق أولى؛ لأنّه باللغة العربيّة، وإنّما غيّرت ألفاظه، وهذا غير تفسيره وترجمته بغير العربيّة.

ثمّ قال المامقاني(رحمه‏‌‌الله):

وتنظّر في ذلك السيّد عميد الدين بالمنع من الأولويّة؛ وذلك لأنّ الترجمة العربيّة تقتضي اعتقاد سامعها أنّها من ألفاظ النبي(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) وهو جهل، بخلاف الترجمة العجميّة[43].

فقد تحصّل من ملاحظة الروايات اُمور:

الأوّل: لايستفاد من الروايات جواز النقل بالمعنى مطلقاً على حدّ يعتقد السامع بكون الألفاظ من الإمام(عليه‏‌‌السلام)، بل لابدّ من إتيان قرينة عند النقل بالمعنى، فقوله(عليه‏‌‌السلام): «إذا أصبت المعنى» أو «إن كنت تريد معانيه»[44]، ظاهر في جواز النقل بالمعنى بشرط عدم إسناد الألفاظ إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام)، وهذا غير ما ادّعي في المقام من الجواز، ولو بلا قرينه تخرج السامع عن الاشتباه.

الثاني: يستفاد من بعض هذه الروايات حدّ جواز النقل بالمعنى، وهو قوله(عليه‏‌‌السلام): «إذا أصبت الصلب منه فلا بأس»؛ إنّما هو بمنزلة «تعالَ»، و «هلَّم»، و «اقعد»، و «اجلس»[45]،[46] فإنّ الرواية تدلّ على جواز النقل بالمعنى فيما علم الراوي أنّ اللفظ الذي ينقله مترادف لما قاله الإمام(عليه‏‌‌السلام)، بحيث لا يتغيّر المعنى ومراد الإمام(عليه‏‌‌السلام)، وهذا غير أن يجعل مثلا بدل «أو»، «الواو»، وبدل «فـ»، «ثم» وهكذا، مع أنّ الشائع بين العقلاء هوالنقل بالمعنى بالنحو الذي يفيد مراد المتكلّم، ولا يهتمّون بذكر الألفاظ المترادفة.

والأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) اشترطوا إصابة الصلب من المعنى، فلايجوز للرواي فيما كان مراد الإمام(عليه‏‌‌السلام) الوجوب مثلاً، أن يأتي بلفظ يستفاد منه الرجحان، وكذا لايجوز له حذف كلمة تدلّ على معنى، كالحصر مثلاً.

الثالث: إنّ بعض هذه الروايات تدلّ على لزوم نقل اللفظ فيما أمكن؛ وهي رواية داود بن فرقد الأسدي؛ حيث سأل عن الإمام(عليه‏‌‌السلام): إنّي أسمع الكلام منك، فاُريد أن أرويه كما سمعته، فلا يجيء...[47].

والحاصل: أنّ أكثر أحاديثنا منقولة باللفظ، وما كان منها منقول بالمعنى فهو محفوف بالقرينة.

واعلم إنّا لو قلنا بوقوع النقل بالمعنى في أكثر الروايات، تسقط الروايات عن الحجّية؛ لامكان اشتباه الراوي في فهمه، وهذا يؤيّد ما ذكرنا في تفسير قوله(عليه‏‌‌السلام): «إن كنت تريد معانيه فلا بأس» من أنّ المراد عدم جواز إسناد الألفاظ إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام) في صورة النقل بالمعنى.

فالأصل الأوّلي في الروايات كونها منقولة باللفظ، ويدلّ عليه ما ذكر في التاريخ؛ من أنّ الأصحاب يكتبون الأحاديث في مجلس الإمام(عليه‏‌‌السلام)، ثمّ يجعلونه فيما يسمّى بالاُصول، حتّى يكون موردا لقبولهم (عليهم‏‌‌السلام)[48]، فهذا قرينة واضحة على كون دأب الرواة زمن الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) أن يكتبوا عين الألفاظ[49].

هذا مضافاً إلى وجود التصريح بالكتابة في بعض الروايات:

أ) محمّد بن عمر بن عبدالعزيز الكشّي في كتاب الرجال عن حمدويه، عن محمّد بن عيسى، عن القاسم بن عروة، عن ابن بكير قال:

دخل زرارة على أبي عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) فقال: إنّكم قلتم لنا: في الظهر والعصر على ذراع وذراعين، ثمّ قلتم: أبردوا بها في الصيف، فكيف الإبراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول[50].

ب) عن الحسن بن محبوب عن عبداللّه‏ بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه‏(عليه‏‌‌السلام) عن امرأة ترضع غلاماً لها من مملوكة حتّى تفطمه يحلّ لها بيعه؟ قال:

لا، حرام عليها ثمنه، أليس قد قال رسول اللّه‏(صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏ آله) يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، أليس قد صار إبنها؟ فذهبت أكتبه، فقال أبوعبداللّه‏(عليه‏‌‌السلام): وليس مثل هذا يكتب[51].

هذا آخر ما أفاده الاُستاذ (دام ظلّه)، وقد فرغ من تسويده الفقير إلى رحمة ربّه الغفور أصغر بن ولّي الأهري غفر اللّه‏ لهما، وحشرهما مع رسوله النّبي محمّد المصطفى وآله الطاهرين ـ صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين ـ ، ليلة الخميس من شهر محرّم الحرام 1434 على شهيده آلاف التحيّة والسلام. والحمد للّه‏ ربّ العالمين.

----------------------------------
[1] بحار الأنوار 2: 165.

[2] معالم الدين، قسم الاُصول: 497.

[3] مطارح الأنظار 2: 434.

[4] مقباس الهداية 3: 250.

[5] تهذيب الأحكام 4: 164 ح464، وعنه وسائل الشيعة 10: 257، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح19.

[6] يمكن أن يقال: إنّه لو قلنا بمثل ما ذكره دام ظله فلابدّ من الالتزام به في كثير من الأحكام التي تشترط فيه الرؤية عرفا، كحكمهم بالطهارة فيما لو ذهب عين النجاسة بالتطهير وبقي لونه وذرّات منه لم يعتن به العرف، فإنّ في زماننا هذا يمكن رؤية أجزاء النجاسه بواسطه التلسكوب، فهل يمكن أن نقول بأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام)، لعلمه باختراع التلسكوب أراد من الرؤية مطلق الرؤيه؟ والاُستاذ قد أجاب عن هذا الإشكال في رسالة رؤية الهلال بالأجهزة الجديدة، فراجع. (المقرّر)

[7] سيأتي أنّ من شرائط النقل بالمعنى عدم الزيادة والنقصان في المعنى، فلو كانت في رواية زيادة أو نقصان بالنسبة إلى رواية اُخرى وكان للزيادة أو النقصان دخل في المعنى، فهنا أيضا يجري أصل عدم الزيادة وعدم النقيصة. وبعبارة اُخرى: لا فرق في جريان هذين الأصلين بين كون الروايات منقولة باللفظ أو بالمعنى، كما لا يخفى. المقرّر

[8] لا يخفى أنّ إرادة الإمام(عليه‏‌‌السلام) هذه المعاني والمسائل لا يستلزم عدم وقوع النقل بالمعنى، غاية الأمر عدم جوازه. المقرّر

[9] القوانين المحكمة في الاُصول 2: 522.

[10] مقباس الهداية 3: 227 ـ 231.

[11] معارج الاُصول: 220.

[12] معالم الدين، قسم الاُصول: 497.

[13] هذا أوّل الكلام، فما الدليل على كون هذه الروايات عين ما أفاده المعصوم(عليه‏‌‌السلام)؟ وأنت خبير بأنّه صرف إدّعاء، والذي يمكن أن يقال في الجواب عن الدور: إنّ الجامع من هذه الروايات هو الجواز، وهذا يكفي في العمل بها، ولا حاجة بكون هذه الروايات منقولة باللفظ؛ وذلك لأنّ كونها منقولة بالمعنى لا يخرجها عن الحجّية مطلقا. المقرّر

[14] الكافي 1: 51، ح2، وعنه وسائل الشيعة 27: 80، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح9.

[15] مقباس الهداية 3: 235.

[16] قلنا سابقا بأنّه لا دليل على التزام الرواة كلّهم بنقل الألفاظ، ويشهد لما ذكرنا ورود روايات نقلت بالمعنى بلا قرينة. هذا مضافا إلى أنّه لو كان مراد الراوي نقل المعنى من دون الإستناد إلى الإمام(عليه‏‌‌السلام) فهذا لايحتاج إلى إذنه(عليه‏‌‌السلام)كما لا يخفى. المقرّر

[17] الكافي 1: 51 ح3 وعنه وسائل الشيعة، 27: 80، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب8 ح10.

[18] بقي هنا شيء، فهو معنى قوله(عليه‏‌‌السلام) «فتعمّد ذلك». لأنّ الظاهر من قول الراوي «فلا يجيء» عروض النسيان عليه، وهذا يكفي في عدم التعمّد فما معنى قوله(عليه‏‌‌السلام) «فتعمد ذلك»؟ والذي يخطر بالبال عاجلاً، هو أنّ المراد: السؤال عن سبب عروض هذا النسيان، فإن كان بسبب تعمّد الراوي وعدم اهتمامه بحفظ ألفاظ الحديث، فحينئذ لا يجوز له النقل، ويجب عليه التوقّف. هذا ما حضرني عاجلاً، ولعلّ اللّه‏ يحدث بعد ذلك امرا. المقرّر

[19] لا يخفى أنّ ابن سنان في هذه الرواية هو محمّد بن سنان الزاهري، وقد ضعّفه ابن عقدة، وكذا النجاشي والشيخان وابن الغضائري وعدّه الفضل من الكذّابين فلا يمكن الإعتماد على رواياته.

هذا، ولكن في الأخير قد تصدّى الاُستاذ دام ظلّه إلى تصحيح رواياته خلال بحثه عن كتاب الحجّ وأجاب عن الإشكلات والتضعيفات حوله، وحيث إنّ لهذا الرجل روايات كثيرة في كتبنا، فنحن نذكر ما أفاده(دام ظله):

ولايخفى أنّ ابن سنان في الروايات اسم لشخصين، أحدهما: عبداللّه‏ بن سنان، والاُخرى: محمّد بن سنان، أمّا عبداللّه‏ فاتفقوا على وثاقته، وأمّا محمّد فمختلف فيه بين توثيقه وتضعيفه، وقد توقّف فيه العلاّمة؛ حيث قال: الوجه عندي التوقف (خلاصة الأقوال: 394، رقم: 1591)، مع أنّه قال في كتبه الاُخرى: رجحنا العمل برواياته (مختلف الشيعة 7: 31مسألة 1)

ولا يخفى أنّ حجيّة توثيق العلاّمة مبنيّة على اعتبار توثيق المتأخّرين، وقد حقّقنا في الاُصول أنّ توثيقات المتأخّرين حجّة.

وكيف كان، فحيث إنّ لمحمّد بن سنان أكثر من ألف حديث في مجامع أحاديثنا، فلابد من التحقيق حول وثاقته، والوصول إلى ما هو الحقّ:

أدلّة وثاقة محمّد بن سنان

1. قال المفيد في الإرشاد 2 (سلسله مؤلّفات المفيد) 11: 247 ـ 248: فممّن روى النّصّ على الرضا عليّ بن موسى عليهماالسلامبالإمامة من أبيه والإشارة إليه منه بذلك من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته داود بن كثير الرّقيّ، ومحمّد بن إسحاق بن عمّار، وعليّ بن يقطين، ونعيم القابوسي، والحسين بن المختار، وزياد بن مروان، والمخزومىُّ، وداود بن سليمان، ونصر بن قابوس، وداود بن زربيّ، ويزيد بن سليط، ومحمّد بن سنان.

وتوثيق المفيد لا يمكن الخدشة فيه، كما لا يمكن الخدشة في تضعيف النجاشي.

2. قد ذهب بعض الأصحاب إلى عدم اعتبار رواية الأجلاّء عن شخص في توثيقه، ولكن هذا المبنى ثابت عندنا، فعلى هذا نقول: إنّه قد روى كثير من الأجلاّء عن محمّد بن سنان، منهم يونس بن عبدالرحمن، حسن بن سعيد الأهوازي، حسين بن سعيد الأهوازي، محمّد بن عيسى بن عبيد، فضل بن شاذان، أيّوب بن نوح.

3. قال الشيخ الطوسي(رحمه‏‌‌الله): إنّ محمّد بن سنان من الوكلاء الممدوحين (كتاب الغيبة: 348 ح304)، والتحقيق أنّ مجرّد الوكالة عن الإمام(عليه‏‌‌السلام)مستلزم للوثاقة.

4. من التوثيقات العامّة أنّ محمّد بن سنان من أفراد أسناد كتاب نوادر الحكمة، وليس من الذين استثناهم مؤلّفه محمّد بن حسن بن وليد، وهذا دليل على اعتماده عليه.

5. قد ذكر محمّد بن سنان في أسناد تفسير عليّ بن إبراهيم الذي يعدّ من التوثيقات العامّة.

هذا، وقد ذكر بعض في توثيق محمّد بن سنان، أنّ أبا جعفر الثاني(عليه‏‌‌السلام) رضي عنه؛ حيث ورد في الحديث: روي عن علىِّ بن الحسين بن داود قال: سمعت أبا جعفر الثّاني(عليه‏‌‌السلام) يذكر محمّد بن سنان بخير، ويقول: رضي اللّه‏ عنه برضائي عنه، فما خالفني وما خالف أبي قط. (الغيبة للطوسي: 348 ح304).

وكذا قال(عليه‏‌‌السلام) في آخر عمره الشريف: جزى اللّه‏ صفوان بن يحيى، ومحمّد بن سنان، وزكريّا بن آدم، وسعد بن سعد عنِّي خيرا، فقد وفوا لي، وكان زكريّا بن آدم ممّن تولاّهم. (الغيبة للطوسي: 348 ح303).

لكن يشكل ـ مضافا إلى ضعف السند في بعض هذه الروايات ـ بوجود نفس محمّد بن سنان في أسنادهما.

كلام السيّد بن طاووس(رحمه‏‌‌الله)

قال في فلاح السائل: أقول وسمعت من يذكر طعنا على محمّد بن سنان لعلّه لم يقف إلاّ على الطعن عليه، ولم يقف على تزكيته والثناء عليه، وكذلك يحتمل أكثر الطعون.

فقال شيخنا المعظم المأمون المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتاب كمال شهر رمضان ما هذا لفظه: على أنّ المشهور عن السادة(عليه‏‌‌السلام) من الوصف لهذا الرجل خلاف ما به شيخنا أتاه ووصفه.

والظاهر من القول ضد ما له به ذكر «كقول أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) فيما رواه القمّيُّ قال: دخلت على أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) في آخر عمره فسمعته يقول: جزى اللّه‏ محمّد بن سنان عنِّي خيرا، فقد وفى لي. وكقوله(عليه‏‌‌السلام) فيما رواه عليُّ بن الحسين بن داود، قال: سمعنا أبا جعفر(عليه‏‌‌السلام) يذكر محمّد بن سنان بخير ويقول: رضي اللّه‏ عنه، برضائي عنه فما خالفني ولا خالف أبي قطُّ.

هذا مع جلالته في الشيعة وعلوّ شأنه ورئاسته وعظم قدره، ولقائه من الأئمة (عليهم‏‌‌السلام) ثلاثة، وروايته عنهم، وكونه بالمحلّ الرفيع، منهم: أبو إبراهيم موسى بن جعفر، وأبو الحسن على بن موسى، وأبو جعفر محمّد بن عليّ ـ عليهم أفضل السلام ـ .

ومع معجزة أبي جعفر(عليه‏‌‌السلام) التي أظهرها اللّه‏ تعالى فيه وآيته التي أكرمه بها، فيما رواه محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب: أنّ محمّد بن سنان كان ضرير البصر، فتمسّح بأبي جعفر الثّاني(عليه‏‌‌السلام)، فعاد إليه بصره بعد ما كان افتقد.

أقول: فمن جملة أخبار الطعون على الأخيار أن يقف الإنسان على طعن ولم يستوف النظر في أخبار المطعون عليه، كما ذكرناه عن محمّد بن سنان(رحمه‏‌‌الله)، فلا يعجل طاعن في شيء مما أشرنا إليه أو يقف من كتبنا عليه، فلعلّ لنا عذرا ما اطّلع الطاعن عليه. (فلاح السائل ونجاح المسائل: 50 ـ 52)

أقول: أكثر ما ورد في تضعيف إبن سنان؛ هو أنّه كان من الغلاة، ولكن قال إبن طاووس: أقول ورويت بإسنادي إلى هارون بن موسى التلعكبريّ(رحمه‏‌‌الله)بإسناده الّذي ذكره في أواخر الجزء السّادس من كتاب عبد اللّه‏ بن حمّاد الأنصاريّ ما هذا لفظه: أبو محمّد هارون بن موسى قال: حدّثنا محمّد بن همّام، قال: حدّثنا الحسين بن أحمد المالكيّ قال: قلت لأحمد بن هليل الكرخيّ: أخبرني عمّا يقال في محمّد بن سنان من أمر الغلوِّ، فقال: معاذ اللّه‏، هو واللّه‏ علّمني الطّهور، وحبس العيال، وكان متقشِّفا متعبِّدا.

وقال أبو عليّ بن همّام: ولد أحمد بن هليل سنة ثمانين ومائة، ومات سنة سبع وستِّين ومائتين. (فلاح السائل ونجاح المسائل: 52)

الفرق بين الغلاة والمفوضة

قد يطلق الغال على المفوّضة لكن بينهما فرق، لأنّ الغلاة يقال لمن هو قائل بأولوهيّة الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) والمفوّضة يقال لمن قال بأنّ الأئمّة مخلوقون للّه‏، لكن قد فوّض اللّه‏ تعالى إليهم الاُمور كلّها. وقد ذكر بعض أنّ الاعتقاد بعصمة الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)وإنّهم يعلمون الغيب، وكذا يعلمون كلّ الألسنة كان من أفكار المفوّضة، ولذا وضعوا الأحاديث التي تدلّ على هذه الافكار.

هذا ولكن نحن نقول بأنّ المفوّضة إنّما لعنوا لما قالوا بأنّ اللّه‏ فوّض الاُمور كلّها إلى الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) وهذا غير ما اعتقد بعض بعصمة الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) ونحوه، فإنّهم ليسوا بغلاة ولا بمفوّضة.

ولا يبعد أنّه من ثمّ قالوا بأنّ محمد بن سنان كان من الغلاة، والحال أنّ الغلاة والمفوّضة كانوا يتركون العبادات، كالصلاة، والصوم بعد مدة، مع أنّ محمّد بن سنان كان متعبّدا، كما أشار إليه السيّد بن طاووس(رحمه‏‌‌الله).

أدلّة تضعيف محمد بن سنان

1. تضعيف الشيخ المفيد(رحمه‏‌‌الله) حيث قال: وهذا الحديث شاذ نادر غير معتمد عليه، طريقه محمّد بن سنان، وهو مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه، وما كان هذا سبيله لم يعمل عليه في الدين. (سلسلة مؤلفات المفيد 9، جوابات أهل الموصل: 20)

أقول هنا ثلاثة احتمالات: الأوّل: أن نقول بالتعارض، ثمّ التساقط بين ما ذكر هنا وبين ما ذكر في الإرشاد؛ من توثيق محمّد بن سنان. والثانى: أنّ محمّد بن سنان كان اسما لشخصين، وهذا بعيد جدّا. والثالث: أن نقول بأنّ توثيقه كان بالنظر إلى قبل كونه من الغلاة، وأمّا طعنه كان بعد ظهور الغلو منه.

2. تضعيف ابن عقدة: قد نقل النجاشي عن ابن عقدة أنّه قال: هو رجل ضعيف جدّا لا يعول عليه، ولا يلتفت إلى ما تفرّد به، (رجال النجاشي: 328، الرقم 888).

أقول: لا يخفى أنّ هذا لا يدلّ على تضعيفه مطلقا بل هو منحصر فيما تفرّد به، وهذا مثل ما قال الصدوق(رحمه‏‌‌الله) في السكوني.

3. تضعيف فضل بن شاذان، قال: لا أستحلُّ أن أروي أحاديث محمّد بن سنان، وذكر الفضل في بعض كتبه: أنّ من الكاذبين المشهورين ابن سنان وليس بعبد اللّه‏. (رجال الكشّي: 507، الرقم 979).

أقول: هذا ما ذكروه من الأدلّة في تضعيفه، ولكن نقول: إنّه إن كان وجه تضعيفه، اعتقاده بما كان يعدّ من الغلوّ من الاعتقاد بعصمة الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)ونحوه، فالاعتقاد بهذه الاُمور ليس من الغلوّ، وحينيذ لا وجه لتضعيفه، ونحن لمّا نظرنا إلى جميع ما قيل حول هذا الرجل، رجّحنا ما دلّ على توثيقه.

نكتة

قيل: إنّه لابأس بأخذ روايات محمّد بن سنان، مع أنّه ضعيف، كما ذكر الشيخ الطوسي في الفهرست: جميع ما رواه إلاّ ما كان فيها من تخليط أو غلو. (الفهرست: 219، الرقم 619) وفي هذه العبارة احتمالان: الأوّل: إنّ الشيخ شهد بأنّ كلّ رواياته خالية عن التخليط والغلو. والثاني: إنّا نعمل برواياته التي هي خالية عن التخليط والغلوّ.

وكيف كان، فلا وجه لردّ جميع ما رواه محمد بن سنان بمجرّد إستناد الغلوّ إليه، ولو سلّمنا وقلنا بأنّ مطلق الغلو موجب للتضعيف، ولكن من الواضح أنّ أكثر رواياته لا ربط لها بالغلوّ والتخليط. انتهى ما أفاده اُستاذ دام ظلّه.

[20] الوافي 1: 228 ذح159.

[21] قد سبق الإشكال منّا، فلا نعيده مع أنّ أكثر الروايات إن لم نقل كلّها، خالية عن قرينة تدلّ على كونها منقولة باللفظ، وهذا ممّا يوهن هذا الاحتمال في كلام الامام(عليه‏‌‌السلام). المقرّر

[22] ما وصل إلينا من كتاب مدينة العلم: 73 ـ 74، بحار الأنوار 107: 44، وسائل الشيعة 27: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب 8ح87، ولم نعثر على كتاب الإجازات لابن طاووس.

[23] بحار الأنوار 2: 161 ح18.

[24] بحار الأنوار 2: 151 ح28.

[25] السرائر 3: 570، وعنه وسائل الشيعة 27: 105، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب 8 ح88.

[26] بحار الأنوار 2: 163، ذح24.

[27] سورة الزمر 39: 18.

[28] الكافي 1: 51ح1، وعنه وسائل الشيعة 27: 79، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي و... ب 8 ح8.

[29] يمكن أن نقول بعدم وقوع التعارض بينهما؛ لأنّ نقل المعنى من دون زيادة ونقصان ليس من الباطل، فتحمل هذه الرواية على الاستحباب جمعا بينهما. المقرّر

[30] سورة الزمر 39: 18.

[31] الكافي 1: 392 ح8، وعنه وسائل الشيعة 27: 82، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب8 ح23.

[32] شرح الكافي 2: 253.

[33] مرآة العقول 1: 173.

[34] الوافي 2: 114.

[35] القوانين المحكمة في الاُصول 2: 527.

[36] ما ذكره دام ظلّه من كتابة الحديث لا يخلو عن إشكال ولا دليل على كتابة الأحاديث كلّها بالألفاظ الصادرة عن المعصوم(عليه‏‌‌السلام)، ويشهد لما ذكرنا منع كتابة الحديث ونقله الي زمان عمر بن عبد العزيز، وقياس الروايات بالكتاب العزيز ليس في محلّه؛ لأنّ الحافظ له هو اللّه‏ تعالى مع عدم المنع من كتابته وحفظه. (المقرّر)

[37] توجيه النظر: 301 ط. ق، وج2: 676 ط. ج.

[38] معارج الاُصول: 220.

[39] معرفة الحديث للبهبودي: 23.

[40] القوانين المحكمة في الاُصول 2: 525.

[41] يلاحظ عليه دام ظله أوّلاً بأنّه لا وجه لقوله «ولو سلّم وقوعه...» لوقوعه في الكتاب العزيز قطعا.

وثانيا بأنّ النقل بالمعنى في القران الكريم ليس منحصرا في القصص والحكايات، بل وقع في الأحكام أيضا، فهذه قضيّة شعيب النبي (على نبينا وآله وعليه السلام) في سورة الأعراف آيه 85، حيث قال لقومه: «فَأَوْفُوا الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا...» وقد ذكر سبحانه وتعالى قوله في سورة الشعراء بألفاظ أخرى؛ حيث قال لقومه: «أَوْفُوا الْكَيلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (الشعراء، آيه 181 ـ 183)، فتأمّل (المقرّر)

[42] فيه نظر؛ لأنّ علم الإمام(عليه‏‌‌السلام) لا يلزم منه التزام الرواة بنقل الألفاظ؛ لأنّ الرواة ليسوا على اعتقاد واحد، وكذا استعداد واحد في ضبط الروايات. والحاصل أنّه لادليل على التزام الرواة كلّهم بنقل الألفاظ، وما أورده دام ظلّه في رد السيرة هنا، لا أثر فيه بعد العلم بوقوع النقل بالمعنى في كثير من الروايات، اللّهم إلاّ أن يقال بأنّ الإمام(عليه‏‌‌السلام) منع تكوينا من النقل بالمعنى وهو كما ترى. (المقرّر)

[43] مقباس الهداية 3: 233.

[44] تقدمت في ص 532 ح1، و538 ح6.

[45] تقدمت في ص 537 ح3.

[46] هذه الرواية ضعيفة؛ لكونها مرفوعة، فالاستناد إليها غير تامّ. المقرّر

[47] الكافي 1: 51 ح3، وعنه وسائل الشيعة 27: 80، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب8 ح10.

[48] كما أشار إليه في وسائل الشيعة 27: 83، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي و... ب8 ذح24.

قال صاحب وسائل الشيعة: أقول: ومثل هذا كثير جدّاً في أنّهم كانوا يكتبون الأحاديث في مجالس الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)بأمرهم، وربما كتبها لهم الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) بخطوطهم.

[49] لا يخفى أنّ تأييد الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) لا يلازم كون الروايات منقولة باللفظ؛ ضرورة أنّهم رخّصوا في النقل بالمعنى، فيمكن أن تكون بعض الروايات التي كانوا يقرؤونها على الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) منقولة بالمعنى، لكن لما كانت مما أصابت الصلب من المعنى أيده الإمام(عليه‏‌‌السلام). هذا، ولكن الإنصاف عدم ورود هذا الإشكال؛ لما عرفت من أنّ ترخيص الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام) إنّما هو فيما لم يمكن للراوي النقل باللفظ، وعند حضور الإمام(عليه‏‌‌السلام) وقرائة الرواية عليه، يمكن هذا. نعم لا دليل على أنّ تمام الروايات أو أكثرها قرئت على الأئمّة (عليهم‏‌‌السلام)، وهذا يوهن هذا الدليل التاريخي.

[50] رجال الكشّي 1: 355 ح226، وعنه وسائل الشيعة 4: 150، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب8 ح33.

[51] تهذيب الأحكام 8: 244 ح880، الاستبصار 4: 18 ح56، وعنهما وسائل الشيعة 23: 22، كتاب العتق ب8 ح3.


برچسب ها :