موضوع: الواجب التعیینی و التخییری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٨/٦
شماره جلسه : ۲۸
-
خلاصة البحث السابق
-
منهج البحث في تبيين نظرية الواجب التخييري
-
نظرية المحقّق الأصفهاني: تحليل صور الملاك وتحرير محلّ النزاع في الواجب التخييري
-
الصورة الأولى: امتناع استيفاء الغرض الثاني
-
حكم المسألة: لزوم الجمع بينهما
-
الصورة الثانية: التزاحم في الملاك ورجوع التخيير إلىٰ حكم العقل
-
حكم المسألة: التزاحم والتخيير العقلي
-
الصورة الثالثة: التضادّ المطلق بين الغرضين
-
حكم المسألة: عدم انطباقها علىٰ الواجبات التخييريّة الشرعيّة
-
الصورة الرابعة: استقلال الأثر مع التضادّ بين الآثار
-
النقد الأوّل: الخروج عن محلّ النزاع
-
النقد الثاني: تغيّر أطراف التخيير ومخالفة ظاهر الأدلّة
-
الصورة الخامسة: دخول «مصلحة التسهيل» وتصوير «التخيير الشرعي المحض»
-
المصادر
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
يختصّ بحثنا في هذا المقام بتحقيق المحقّق الأصفهاني في باب الواجب التخييري. وقد جرى في الجلسات المتقدّمة استعراضٌ مفصّلٌ لبيانَيه في تعليقته على «نهاية الدراية»، ولِما أورده عليه السيد الخوئي من إشكالات، وكذلك لتحقيق الشهيد الصدر في المسألة. وها نحن الآن نعود إلى نقطةٍ كان المحقّق الأصفهاني قد طرحها في متن «نهاية الدراية» نفسه — توطئةً لذلك التحقيق عينه — وهي أنّه (قدس سره) قد افترض لكيفيّة قيام الملاك في أطراف الواجب التخييري خمسَ صورٍ، ثمّ اختار من بينها «الصورة الخامسة»؛ وقد جاء تفصيل هذا الاختيار في تلك التعليقة ذاتها.
تذكرة منهجيّة: إنّ المنهج الصحيح والفنّي في عرض هذا البحث كان يقتضي أن تُبيَّن أوّلاً نظرية الآخوند الخراساني، ثمّ يُنقَل ما أورده المحقّق الأصفهاني في متن «نهاية الدراية» — الذي هو في حقيقته حاشيةٌ علىٰ كلام الآخوند — ثمّ في نهاية المطاف، يُصار إلىٰ شرحه المبسوط في التعليقة. إلّا أنّنا في هذه الدورة، واقتداءً بمسار المباحث في «محاضرات» السيد الخوئي، قد عكسنا هذا الترتيب. وهذا المنهج، وإن لم يكن هو الأمثل من الناحية الفنّيّة، فإنّنا مع ذلك سنلحظ في مقام التقييم والمناقشة النسبة التاريخيّة بين الأقوال.
يعمد المحقّق الأصفهاني(قدس سره) في مقام تحليله لكيفيّة قيام الملاك في أطراف الواجب التخييري إلى افتراض خمس صور، ثمّ يذهب إلىٰ أنّ أربعاً منها إمّا أن تكون خارجةً عن محلّ النزاع، أو أنّها تؤول إلىٰ «التخيير العقلي». وذلك لأنّ التحقيق في حقيقة التخيير إنّما ينصبُّ علىٰ «التخيير المولوي الشرعي». وهذا التركيز هو في حقيقته المرتكزُ الجوهريُّ لدى الأصوليّين، وإن لم يقع التصريح به في بعض الأحيان. بل إنّ هذا المرتكز نفسه يُستشفُّ بوضوحٍ من كلمات المحقّق الخراساني أيضاً.
إنّ أمر التخيير العقلي في مقام الثبوت جليٌّ لا غبار عليه؛ إذ يتعلّق الوجوب فيه بالجامع الكلّي، ويكون كلُّ فردٍ من أفراده صالحاً لتحقيق ذلك الجامع في مقام الامتثال. وأمّا ما هو بؤرة البحث ومحور النزاع، فإنّما هو «التخيير الشرعي» في مقام الثبوت. والمعضلة تكمن في أنّه إذا كان كلُّ واحدٍ من الطرفين واجداً للملاك اللزومي علىٰ استقلال، فلماذا لم يوجبهما الشارع معاً على نحو التعيين؟ وإن كان الملاك منحصراً في طرفٍ واحد، فلماذا لم يتعلّق الوجوب بذلك الفرد المعيّن دون غيره؟ وبعبارةٍ أخرىٰ، كيف يُعقَل، مع ثبوت الملاك في كلا الطرفين على السواء، أن يتعلّق الحكم بهما على نحو «التخيير» لا على نحو «التعيين»؟
فبناءً علىٰ هذا الفرض، لا يبقىٰ وجهٌ لجعل «الوجوب التخييري» من قِبَل المولى الحكيم؛ وذلك لأنّه إذا كان كلا الغرضين لازمَ التحصيل، وكان تحقّق أحدهما يزيل إمكان تحصيل الآخر، فإنّ مقتضىٰ الحكمة حينئذٍ هو أن يأمر المولى بكلا الفعلين «دفعةً واحدةً»، كي يُستوفىٰ كلا الغرضين (فيجب الأمر بهما دفعةً تحصيلاً للغرضين)، لا أن يُفوَّض الأمر إلىٰ «التخيير». فالمحصّلة إذن هي أنّ البنية الناتجة عن هذه الصورة هي وجوب كلا الفعلين، لا التخيير الشرعي.
فلو افتُرِض — علىٰ سبيل المثال — أنّ الإتيان بـ «العتق» في اليوم الأوّل يجعل «إطعام الستّين» في اليوم التالي فاقداً للملاك — مع كون كلا الملاكين لزوميّاً — فإنّ مقتضىٰ الحكمة المولويّة حينئذٍ هو الأمر بالجمع الدفعيّ بينهما، تحاشياً لتفويت أحد الغرضين؛ لا الترخيص البدليّ بينهما. وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تمثّل صورةً معقولةً لـ «التخيير المولوي الشرعي»، بل هي في حقيقتها رجوعٌ إلىٰ «وجوب الجمع». وبذلك تكون خارجةً عن محلّ النزاع في الواجب التخييري الشرعي. ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:
يرىٰ المحقّق الأصفهاني أنّ هذه الحالة مصداقٌ لـ «التزاحم». والتزاحم تارةً يكون في نفس الأمر، وأخرىٰ يكون في ملاكه. وكما أنّ التخيير في «التزاحم الامتثالي» للأوامر المستقلّة — نظير وجوب إنقاذ غريقين — هو تخييرٌ عقليٌّ غير مولوي، فكذلك التخيير في المقام هو تخييرٌ عقليٌّ لا مولويّ. وبعبارةٍ أخرىٰ، فمع بقاء كلا الملاكين اللزوميين، وتعذّر الجمع بينهما في آنٍ واحد، يحكم العقل بأنّ المكلّف مخيَّرٌ في البدء بأيِّهما شاء.
والفارق بين هذه الصورة وسابقتها، أنّه في الصورة الأولىٰ، كان الإتيان بأحد الطرفين يزيل ملاك الآخر بالكلّيّة (حيث لا يبقىٰ مجالٌ لاستيفاء الآخر)، فكان مقتضىٰ الحكمة المولويّة هو الأمر بهما دفعةً واحدة، ولم يكن للتخيير — لا العقلي ولا المولوي — أيُّ مجال. أمّا في هذه الصورة الثانية، فإنّ الإتيان بأحدهما لا يزيل ملاك الآخر، وإنّما يتعذّر الجمع بينهما في آنٍ واحد. وفي مثل هذه الحالة التي يكون فيها كلا الملاكين مطلوباً ولكن يتعذّر الجمع الدفعيّ بينهما، يدخل الأمر في باب «التزاحم»، ويكون التخيير حينئذٍ «حكماً عقليّاً». وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تقدّم تصويراً صحيحاً لـ «التخيير الشرعي المولوي»، بل تؤول في حقيقتها إلىٰ «التخيير العقلي». وينبغي التنبيه هنا علىٰ أنّ تعبير «التزاحم في الملاك» في هذا المقام إنّما هو ناظرٌ إلىٰ تعذّر تحصيل كلا الغرضين معاً في صعيد امتثال المكلّف، لا إلىٰ ذلك النحو من التزاحم الملاكي عند الشارع نفسه والذي ينتهي به إلىٰ جعل حكمٍ واحد. ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:
إنّ الإتيان بأطراف الواجب التخييري الشرعي علىٰ نحوٍ متزامن لا يفضي إلىٰ بطلانها جميعاً وفقدانها للأثر؛ فمثل هذه البنية لا تنسجم مع مسلك الشريعة وظاهر أدلّة التخيير. وعلىٰ فرض هذا الاشتراط العدميّ، فإنّ العقل هو الذي يحكم بأنّ علىٰ المكلّف أن يختار أحد الفعلين، كي يتوفّر بذلك قيد «عدم تحقّق غرض الآخر». وهذا التخيير إنّما هو «حكمٌ عقليّ»، لا جعلٌ مولويٌّ من قِبَل الشارع. وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تقدّم تصويراً لـ«التخيير الشرعي المولوي»، وتكون خارجةً عن محلّ النزاع. فالمحصّلة هي أنّ الصورة الثالثة — القائمة علىٰ فرض التضادّ المطلق بين الغرضين — فضلاً عن أنّها لا تنطبق علىٰ واقع الواجبات التخييريّة الشرعيّة، فإنّها تؤول في نتيجتها إلىٰ «التخيير العقلي»؛ ومن هنا، لا يمكن أن تكون مبنىً لتبيين حقيقة «التخيير المولوي الشرعي». وفي هذا الصدد، يكتب المحقّق الأصفهاني (قدس سره):
فبناءً علىٰ هذه الصورة، ينتقل موضوع التخيير من «نفس الفعلين» إلىٰ «الإتيان بكلِّ واحدٍ منهما علىٰ انفراد» في مقابل «الإتيان بهما مجتمعين». فتكون أطراف التخيير حينئذٍ عبارة عن: 1- إتيان كلِّ واحدٍ منهما علىٰ الانفراد، و 2- الجمعُ بينهما. وهذه النتيجة لا تنسجم مع ظاهر أدلّة الواجبات التخييريّة — التي تجعل التخيير قائماً بين نفس الأفعال (كالعتق والإطعام) — فتكون بذلك خلاف الظاهر. وعليه، فإنّ الصورة الرابعة، وإن كانت في بدو النظر تبدو منسجمةً مع بعض الشواهد الفقهيّة، إلّا أنّها بسبب خروجها عن مفروض محلّ النزاع وتغييرها لموضوع التخيير، لا تصلح أن تكون مبنىً لتحليل «التخيير المولوي الشرعي». ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:
إنّ المحقّق الأصفهاني (قدس سره)، بعد إبطاله للصور الأربع المتقدّمة، يختار الصورة الخامسة بوصفها الفرضَ المعقول الوحيد لتصوير «الواجب التخييري الشرعي». ولبُّ هذه الصورة يكمن في أنّ كلَّ واحدٍ من الطرفين، في نفسه، واجدٌ للغرض الملزم والمقتضي للإيجاب التعييني؛ من دون افتراض أيّ تضادٍّ أو كسرٍ وانكسارٍ بين الملاكين الأصليين للطرفين. وإنّما يدخل هنا عنصرٌ ثالثٌ عارض، وهو «مصلحة الإرفاق والتسهيل»، فيسوِّغ جعل «الترخيص البدلي». فيعمد الشارع، مع الحفاظ علىٰ إيجاب كلٍّ منهما بملاكه الذاتي، إلىٰ الترخيص في ترك كلِّ واحدٍ منهما بشرط الإتيان بالآخر. فتكون المحصّلة هي «إيجابٌ تخييريٌّ شرعيٌّ محض»؛ فلا يلزم من ذلك الرجوع إلىٰ جامعٍ انتزاعيّ، ولا تحليل الأمر إلىٰ تخييرٍ عقليّ.
علاقة هذه الصورة بالتخيير العقلي والجامع الانتزاعي
إنّ هذه الصورة، خلافاً للصور السابقة التي تؤول إلىٰ التخيير العقلي، ترتكز علىٰ جعلٍ مولويٍّ مزدوج: فهناك «إيجابُ كليهما» بملاكهما الذاتي، وهناك «ترخيصُ تركِ كلٍّ منهما إلىٰ بدل» بملاك التسهيل. وعلىٰ هذا الأساس، لا تكون هناك حاجةٌ لإرجاع التحليل إلىٰ «الجامع الانتزاعي أحدها» أو إلىٰ «حكم العقل في مقام الامتثال».
اللوازم والمرتكزات لمعقوليّة هذه الصورة
أوّلاً: إنّ معقوليّة هذه الصورة متفرّعةٌ علىٰ أن تكون «مصلحة التسهيل» من القوّة بمكانٍ بحيث تنهض لتسويغ «الترخيص البدلي»، من دون أن يُخرج ذلك أصلَ الإيجاب لكلا الطرفين عن مقتضىٰ الحكمة.
ثانياً: وفي فرض ترك الجميع، إذا ما أُريدَ القول بوحدة العقاب، فلا بدّ إمّا أن يتولّىٰ الترخيصُ نفسه تحديدَ دائرة المؤاخذة، وإمّا أن تؤول البنية إلىٰ «وجوبٍ واحدٍ بدليّ». وهذه الجهة تفتقر في مقام الإثبات إلىٰ قرينةٍ مستقلّة، وهو ما تقدّم الحديث عنه تفصيلاً.
وعليه، فإنّ الصورة الخامسة، عبر إدخالها لعنصر «مصلحة التسهيل»، هي التي تُهيِّئ هويّةً تامّةً لـ «التخيير الشرعيّ المولويّ»؛ حيث تكون ذاتُ كلِّ طرفٍ من الأطراف مقتضيةً للإيجاب، وإنّما الشارع، بملاك الإرفاق، يرخّص في ترك كلِّ واحدٍ منهما إلىٰ عدله المقابل. والتفصيلُ الصناعيّ لهذه الصورة هو عينُ ما قرّره المحقق الإصفهاني (قدس سره) في تعليقته علىٰ «نهاية الدراية» ضمن بيانين. ويوضح (قده) هذه الصورة بقوله:
نعم يمكن أن يُفرَض غرضان لكلٍّ منهما اقتضاءُ إيجابِ مُحصِّلِه، إلّا أنّ مصلحةَ الإرفاقِ والتسهيلِ تقتضي الترخيصَ في تركِ أحدِهما، فيوجبُ كليهما؛ لِما في كلٍّ منهما من الغرضِ المُلزِم في نفسه، ويُرخِّصُ في تركِ كلٍّ منهما إلى بدل، فيكونُ الإيجابُ التخييريُّ شرعيّاً محضاً، من دون لزومِ الإرجاعِ إلى الجامع، فتدبّر جيّداً.[5]
وقد جاء الشرحُ التفصيليّ لهذه الصورة الخامسة، مع الإجابة علىٰ ما يُحتمل أن يُثار عليها من إشكالات — نظير مدىٰ قوّة «مصلحة التسهيل»، ونسبتها إلىٰ أصل جعل الإيجاب للجميع، ومسألة وحدة العقاب وتعدّده في فرض ترك الجميع — ضمن البيانين الواردين في التعليقة، وهو ما سبق نقله ومناقشته.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[2]- نفس المصدر.
[3]- نفس المصدر، 269-270.
[4]- نفس المصدر، 270.
[5]- نفس المصدر.
- اصفهانی، محمد حسین. نهایة الدرایة فی شرح الکفایة. ۶ ج. بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429.
نظری ثبت نشده است .