درس بعد

الواجب التعیینی و التخییری

الواجب التعیینی و التخییری

درس بعد

موضوع: الواجب التعیینی و التخییری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٨/٦


شماره جلسه : ۲۸

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • منهج البحث في تبيين نظرية الواجب التخييري

  • نظرية المحقّق الأصفهاني: تحليل صور الملاك وتحرير محلّ النزاع في الواجب التخييري

  • الصورة الأولى: امتناع استيفاء الغرض الثاني

  • حكم المسألة: لزوم الجمع بينهما

  • الصورة الثانية: التزاحم في الملاك ورجوع التخيير إلىٰ حكم العقل

  • حكم المسألة: التزاحم والتخيير العقلي

  • الصورة الثالثة: التضادّ المطلق بين الغرضين

  • حكم المسألة: عدم انطباقها علىٰ الواجبات التخييريّة الشرعيّة

  • الصورة الرابعة: استقلال الأثر مع التضادّ بين الآثار

  • النقد الأوّل: الخروج عن محلّ النزاع

  • النقد الثاني: تغيّر أطراف التخيير ومخالفة ظاهر الأدلّة

  • الصورة الخامسة: دخول «مصلحة التسهيل» وتصوير «التخيير الشرعي المحض»

  • المصادر

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
 
خلاصة البحث السابق

دار البحث في الجلسة السابقة حول الإشكال المشترك الذي أورده السيد الخوئي (قدس سره) على كلا تقريري المحقّق الأصفهاني في تحليل الواجب التخييري، وهو الإشكال الناظر إلى «لزوم تعدّد العقاب في فرض ترك جميع الأطراف». فبناءً على كلا هذين التقريرين — سواءٌ على أساس تعدّد الملاكات المتباينة، أو على أساس فرض الغرض الواحد مع تعدّد البدائل — فإنّه في صورة ترك جميع الأطراف، وحيث لم يدخل أيُّ ترخيصٍ حيّز الفعليّة، تتحقّق مخالفة جميع الخطابات، ويلزم من ذلك قهراً تعدّد العقاب؛ والحال أنّ الارتكاز العقلائي والسيرة الفقهيّة يقضيان بأنّ ترك الجميع يمثّل عصياناً واحداً. وفي مقام التحليل الفنّي لهذا الإشكال، يعمد الشهيد الصدر (قدس سره) إلى تصوير الترخيص في الواجب التخييري على أربعة أنحاء: ترخيصٌ إسقاطيّ، وترخيصٌ اشتراطيّ، وترخيصٌ بدليٌّ على الجامع الانتزاعي، وترخيصٌ في صعيد المؤاخذة. فالنحوان الأوّلان يفضيان إلى تعدّد العقاب، بينما يصون النحوان الأخيران وحدة العقاب. 
وقد اتّضح من خلال البحث التطبيقي أنّ تقريري المحقّق الأصفهاني ينطبقان على النحوين الأوّلين، وعليه يبقى إشكال السيد الخوئي جارياً فيهما. ولا يمكن صيانة وحدة العقاب إلّا بأحد سبيلين: إمّا العدول عن إطار «الوجوبات التعيينيّة المشروطة» لصالح «الوجوب الواحد البدلي» على الجامع الانتزاعي «أحدها»، وإمّا التصريح بتحديد موضوع المؤاخذة من قِبَل الشارع في عنوان «ترك مجموع الأطراف». وكلا السبيلين يفتقر إثباتاً إلى قرينةٍ تنهض به. والنقطة الجوهريّة في هذا البحث هي أنّ معيار الامتثال والعصيان إنّما هو «موافقة الخطاب ومخالفته»، لا «تفویت الملاك أو استيفاؤه». وعليه، فما لم يتصدَّ الشارع بنفسه لتحديد موضوع العقاب، فإنّ تعدّد الخطابات يستلزم تعدّد العقاب، حتّى وإن كان الغرض أو الملاك واحداً. فالمحصّلة هي أنّ تحليل السيد الخوئي لهذا الإشكال تحليلٌ تامّ، وأنّ سبيل صيانة وحدة العقاب إمّا أن يكمن في الرجوع إلى وجوب الجامع، وإمّا في جعل ترخيصٍ في صعيد المؤاخذة.

منهج البحث في تبيين نظرية الواجب التخييري

يختصّ بحثنا في هذا المقام بتحقيق المحقّق الأصفهاني في باب الواجب التخييري. وقد جرى في الجلسات المتقدّمة استعراضٌ مفصّلٌ لبيانَيه في تعليقته على «نهاية الدراية»، ولِما أورده عليه السيد الخوئي من إشكالات، وكذلك لتحقيق الشهيد الصدر في المسألة. وها نحن الآن نعود إلى نقطةٍ كان المحقّق الأصفهاني قد طرحها في متن «نهاية الدراية» نفسه — توطئةً لذلك التحقيق عينه — وهي أنّه (قدس سره) قد افترض لكيفيّة قيام الملاك في أطراف الواجب التخييري خمسَ صورٍ، ثمّ اختار من بينها «الصورة الخامسة»؛ وقد جاء تفصيل هذا الاختيار في تلك التعليقة ذاتها.

تذكرة منهجيّة: إنّ المنهج الصحيح والفنّي في عرض هذا البحث كان يقتضي أن تُبيَّن أوّلاً نظرية الآخوند الخراساني، ثمّ يُنقَل ما أورده المحقّق الأصفهاني في متن «نهاية الدراية» — الذي هو في حقيقته حاشيةٌ علىٰ كلام الآخوند — ثمّ في نهاية المطاف، يُصار إلىٰ شرحه المبسوط في التعليقة. إلّا أنّنا في هذه الدورة، واقتداءً بمسار المباحث في «محاضرات» السيد الخوئي، قد عكسنا هذا الترتيب. وهذا المنهج، وإن لم يكن هو الأمثل من الناحية الفنّيّة، فإنّنا مع ذلك سنلحظ في مقام التقييم والمناقشة النسبة التاريخيّة بين الأقوال.

الأفق الذي سنسير عليه في متابعة البحث: أوّلاً، سنقوم بنقل وتحليل ما ورد في متن «نهاية الدراية» في مقام تقسيمه لكيفيّة قيام الملاك إلى خمس صور، مع رسم المعالم الدقيقة لـ«الصورة الخامسة» التي اختارها المؤلّف. ثانياً، ثمّ سنعمد إلىٰ استجلاء النسبة بين هذه الصورة وبين ما فصّله في التعليقة، مع إعادة قراءة الروابط المفهوميّة والمبنائيّة التي تصلها بنقودات السيد الخوئي وتقريرات الشهيد الصدر. ثالثاً وفي نهاية المطاف ومع الحفاظ على هذا الإطار، سنواصل بحث «إطلاق صيغة الأمر» ونسبته إلىٰ التعيينيّة والتخييريّة، وذلك على وفق ترتيب «المحاضرات»، مع الإرجاع اللازم إلىٰ متن «الكفاية» وتعليقات كلٍّ من المحقّق الأصفهاني والميرزا النائيني.

نظرية المحقّق الأصفهاني: تحليل صور الملاك وتحرير محلّ النزاع في الواجب التخييري

يعمد المحقّق الأصفهاني(قدس سره) في مقام تحليله لكيفيّة قيام الملاك في أطراف الواجب التخييري إلى افتراض خمس صور، ثمّ يذهب إلىٰ أنّ أربعاً منها إمّا أن تكون خارجةً عن محلّ النزاع، أو أنّها تؤول إلىٰ «التخيير العقلي». وذلك لأنّ التحقيق في حقيقة التخيير إنّما ينصبُّ علىٰ «التخيير المولوي الشرعي». وهذا التركيز هو في حقيقته المرتكزُ الجوهريُّ لدى الأصوليّين، وإن لم يقع التصريح به في بعض الأحيان. بل إنّ هذا المرتكز نفسه يُستشفُّ بوضوحٍ من كلمات المحقّق الخراساني أيضاً.

إنّ أمر التخيير العقلي في مقام الثبوت جليٌّ لا غبار عليه؛ إذ يتعلّق الوجوب فيه بالجامع الكلّي، ويكون كلُّ فردٍ من أفراده صالحاً لتحقيق ذلك الجامع في مقام الامتثال. وأمّا ما هو بؤرة البحث ومحور النزاع، فإنّما هو «التخيير الشرعي» في مقام الثبوت. والمعضلة تكمن في أنّه إذا كان كلُّ واحدٍ من الطرفين واجداً للملاك اللزومي علىٰ استقلال، فلماذا لم يوجبهما الشارع معاً على نحو التعيين؟ وإن كان الملاك منحصراً في طرفٍ واحد، فلماذا لم يتعلّق الوجوب بذلك الفرد المعيّن دون غيره؟ وبعبارةٍ أخرىٰ، كيف يُعقَل، مع ثبوت الملاك في كلا الطرفين على السواء، أن يتعلّق الحكم بهما على نحو «التخيير» لا على نحو «التعيين»؟

تنبیهٌ وتحدیدٌ لمحلّ النزاع: حتّى وإن كان التحليل النهائيّ قد يقرّب بين التخيير الشرعي والتخيير العقلي في صعيد الامتثال، فإنّه ليس هو «التخيير العقليّ المحض» بعينه؛ وذلك لأنّ العقل لا يقوىٰ مستقلاً علىٰ تحديد أطراف الواجب، بل إنّ هذا التعيين يتقوّم ببيان الشارع. فببيان الشارع، قد تتّخذ صورة الامتثال هيئةً شبيهةً بالتخيير العقلي، إلّا أنّ سنخ الحكم يبقىٰ مولويّاً لا إرشاديّاً. إنّما البحث في هذا المقام هو في كيفيّة أن ينصب الشارع أداة «أو» في مقام الجعل، فيشرّع بذلك التخيير بين متعلّقات الواجب. وعليه، فإنّ محلّ النزاع الحقيقيّ في الواجب التخييري إنّما هو «التصوير الثبوتيّ للتخيير الشرعي»، لا مجرّد استعراضٍ للتخيير العقلي. فكلُّ صورةٍ تؤول في نتيجتها إلىٰ الجامع الكلّي العقلي أو إلىٰ الخروج عن دائرة المولويّة، تكون خارجةً عن صميم البحث. فالنقطة المحوريّة هي التبيين المعقول لكيفيّة تعلّق الإلزام الشرعي على نحو التخيير بين أطرافٍ كلٌّ منها ذو ملاكٍ تامّ، والإجابة عن سرِّ عدم التعيّن علىٰ الرغم من افتراض تماميّة الملاك في كلِّ طرف.

الصورة الأولى: امتناع استيفاء الغرض الثاني

وتصوير هذه الصورة هو أن يكون كلُّ واحدٍ من طرفي الواجب التخييري، في نفسه وبقطع النظر عن الآخر، ذا ملاكٍ لزوميٍّ مستقلّ. إلّا أنّه بمجرّد تحقّق أحد الطرفين واستيفاء غرضه، لا يبقى مجالٌ لاستيفاء غرض الفعل الآخر، فيغدو بذلك الفعلُ الثاني فاقداً للملاك.

حكم المسألة: لزوم الجمع بينهما

فبناءً علىٰ هذا الفرض، لا يبقىٰ وجهٌ لجعل «الوجوب التخييري» من قِبَل المولى الحكيم؛ وذلك لأنّه إذا كان كلا الغرضين لازمَ التحصيل، وكان تحقّق أحدهما يزيل إمكان تحصيل الآخر، فإنّ مقتضىٰ الحكمة حينئذٍ هو أن يأمر المولى بكلا الفعلين «دفعةً واحدةً»، كي يُستوفىٰ كلا الغرضين (فيجب الأمر بهما دفعةً تحصيلاً للغرضين)، لا أن يُفوَّض الأمر إلىٰ «التخيير». فالمحصّلة إذن هي أنّ البنية الناتجة عن هذه الصورة هي وجوب كلا الفعلين، لا التخيير الشرعي.

فلو افتُرِض — علىٰ سبيل المثال — أنّ الإتيان بـ «العتق» في اليوم الأوّل يجعل «إطعام الستّين» في اليوم التالي فاقداً للملاك — مع كون كلا الملاكين لزوميّاً — فإنّ مقتضىٰ الحكمة المولويّة حينئذٍ هو الأمر بالجمع الدفعيّ بينهما، تحاشياً لتفويت أحد الغرضين؛ لا الترخيص البدليّ بينهما. وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تمثّل صورةً معقولةً لـ «التخيير المولوي الشرعي»، بل هي في حقيقتها رجوعٌ إلىٰ «وجوب الجمع». وبذلك تكون خارجةً عن محلّ النزاع في الواجب التخييري الشرعي. ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:

عدمُ حصولِ الغرضِ من أحدِهما مع حصولِه من الآخر إن كان لمجرّد أنّ استيفاءَ أحدِهما لا يُبقي مجالاً لاستيفاءِ الآخر، مع كونِ كلٍّ من الغرضين لازمَ الحصول في نفسه، فلا محالةَ يجبُ الأمرُ بهما دَفعةً تحصيلاً للغرضين.[1]

الصورة الثانية: التزاحم في الملاك ورجوع التخيير إلىٰ حكم العقل

وتصوير هذه الصورة هو أن يكون كلُّ واحدٍ من الفعلين، بقطع النظر عن الآخر، ذا ملاكٍ لزوميّ. إلّا أنّ تحصيل كلا الملاكين في زمانٍ واحدٍ غير ممكن، بل إنّه لو أُتيَ بكلا العملين علىٰ نحوٍ متزامن، لكان كلٌّ منهما فاقداً للملاك. وفي الوقت نفسه، لو أُتيَ بهما علىٰ نحوٍ تدريجيٍّ ومتوالٍ، لبقي كلا الملاكين لازمَ الاستيفاء؛ أي أنّ «الإطعام» بعد الفراغ من «العتق» يبقىٰ محتفظاً بملاكه اللزومي.

حكم المسألة: التزاحم والتخيير العقلي

يرىٰ المحقّق الأصفهاني أنّ هذه الحالة مصداقٌ لـ «التزاحم». والتزاحم تارةً يكون في نفس الأمر، وأخرىٰ يكون في ملاكه. وكما أنّ التخيير في «التزاحم الامتثالي» للأوامر المستقلّة — نظير وجوب إنقاذ غريقين — هو تخييرٌ عقليٌّ غير مولوي، فكذلك التخيير في المقام هو تخييرٌ عقليٌّ لا مولويّ. وبعبارةٍ أخرىٰ، فمع بقاء كلا الملاكين اللزوميين، وتعذّر الجمع بينهما في آنٍ واحد، يحكم العقل بأنّ المكلّف مخيَّرٌ في البدء بأيِّهما شاء.

والفارق بين هذه الصورة وسابقتها، أنّه في الصورة الأولىٰ، كان الإتيان بأحد الطرفين يزيل ملاك الآخر بالكلّيّة (حيث لا يبقىٰ مجالٌ لاستيفاء الآخر)، فكان مقتضىٰ الحكمة المولويّة هو الأمر بهما دفعةً واحدة، ولم يكن للتخيير — لا العقلي ولا المولوي — أيُّ مجال. أمّا في هذه الصورة الثانية، فإنّ الإتيان بأحدهما لا يزيل ملاك الآخر، وإنّما يتعذّر الجمع بينهما في آنٍ واحد. وفي مثل هذه الحالة التي يكون فيها كلا الملاكين مطلوباً ولكن يتعذّر الجمع الدفعيّ بينهما، يدخل الأمر في باب «التزاحم»، ويكون التخيير حينئذٍ «حكماً عقليّاً». وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تقدّم تصويراً صحيحاً لـ «التخيير الشرعي المولوي»، بل تؤول في حقيقتها إلىٰ «التخيير العقلي». وينبغي التنبيه هنا علىٰ أنّ تعبير «التزاحم في الملاك» في هذا المقام إنّما هو ناظرٌ إلىٰ تعذّر تحصيل كلا الغرضين معاً في صعيد امتثال المكلّف، لا إلىٰ ذلك النحو من التزاحم الملاكي عند الشارع نفسه والذي ينتهي به إلىٰ جعل حكمٍ واحد. ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:

ولو فُرِضَ عدمُ حصولِهما إلّا تدریجاً لعدمِ إمكانِ اجتماعهما في زمانٍ واحدٍ كانا كالمتزاحمين، فإنّ التزاحم قد يكون في الأمر، وقد يكون في ملاكه، وكما أنّ التخيير في المتزاحمين—من حيث الأمر—تخييرٌ عقليٌّ لا مولويٌّ، كذلك التخييرُ هنا.[2]

الصورة الثالثة: التضادّ المطلق بين الغرضين

وتصوير هذه الصورة هو افتراض وجود «تضادٍّ مطلق» بين الغرضين. والتضادّ هنا ليس من حيث إنّ اجتماع المحصِّلَين في زمانٍ واحدٍ ممتنع (كما في الصورة الثانية)، ولا من حيث إنّ استيفاء أحدهما يزيل بالمرّة مجال استيفاء الآخر (كما في الصورة الأولىٰ)؛ بل هو تضادٌّ بمعنىٰ أنّ ترتّب الغرض علىٰ كلِّ واحدٍ منهما «في نفسه» مقيَّدٌ بعدم ترتّب الغرض علىٰ الآخر. وعلىٰ أساس هذا الاشتراط العدميّ، فلو أتىٰ المكلّف بكلا الفعلين معاً وفي آنٍ واحد، لانتقض شرط ترتّب الغرض في كليهما، فلا يبلغ «أيٌّ من الغرضين» مرتبة الفعليّة. وبعبارةٍ أخرىٰ، يكون الجمعُ الآنيُّ بين المحصِّلَين سبباً في أن يُبْطِل كلٌّ منهما أثر الآخر.

حكم المسألة: عدم انطباقها علىٰ الواجبات التخييريّة الشرعيّة

إنّ الإتيان بأطراف الواجب التخييري الشرعي علىٰ نحوٍ متزامن لا يفضي إلىٰ بطلانها جميعاً وفقدانها للأثر؛ فمثل هذه البنية لا تنسجم مع مسلك الشريعة وظاهر أدلّة التخيير. وعلىٰ فرض هذا الاشتراط العدميّ، فإنّ العقل هو الذي يحكم بأنّ علىٰ المكلّف أن يختار أحد الفعلين، كي يتوفّر بذلك قيد «عدم تحقّق غرض الآخر». وهذا التخيير إنّما هو «حكمٌ عقليّ»، لا جعلٌ مولويٌّ من قِبَل الشارع. وعليه، فإنّ هذه الصورة لا تقدّم تصويراً لـ«التخيير الشرعي المولوي»، وتكون خارجةً عن محلّ النزاع. فالمحصّلة هي أنّ الصورة الثالثة — القائمة علىٰ فرض التضادّ المطلق بين الغرضين — فضلاً عن أنّها لا تنطبق علىٰ واقع الواجبات التخييريّة الشرعيّة، فإنّها تؤول في نتيجتها إلىٰ «التخيير العقلي»؛ ومن هنا، لا يمكن أن تكون مبنىً لتبيين حقيقة «التخيير المولوي الشرعي». وفي هذا الصدد، يكتب المحقّق الأصفهاني (قدس سره):

و إن كان تضادّ الغرضين على الإطلاق، لا من حيث إن اجتماع المحصّلين في زمان واحد غير ممكن، و سبق كلّ منهما لا يبقي مجالاً لاستيفاء الآخر، بل من حيث إنّ ترتّب الغرض على أحدهما مقيّد في نفسه بعدم ترتّب الغرض على الآخر، و لازمه عدم حصول شيء من الغرضين عند الجمع بين المحصّلين، فهذا مع عدم انطباقه على الواجبات التخييرية الشرعية خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّ التخيير حينئذ عقلي—أيضاً—لا مولويّ شرعي.[3]

الصورة الرابعة: استقلال الأثر مع التضادّ بين الآثار

وحاصل هذه الصورة هو أن يكون لكلِّ واحدٍ من الفعلين أثره وغرضه الخاصّ المستقلّ، إلّا أنّ هذين الأثرين لا يجتمعان لتضادٍّ ذاتيٍّ بينهما؛ بنحوٍ يترتّب عليه أنّه في صورة الإتيان بالفعلين معاً، لا يتحقّق إلّا أحدُ الأثرين وينتفي الآخر. وهذه الصورة — خلافاً للصورة السابقة — تبدو في ظاهرها قابلةً للانطباق علىٰ واقع الواجبات التخييريّة الشرعيّة؛ وذلك لأنّ الجمع الآنيَّ بين الأطراف فيها ليس بممنوع، ولا هو بموجبٍ لبطلان العمل. ففي كفّارة الإفطار العمدي، لو أنّ المكلّف أتىٰ بالعتق والإطعام معاً، لتحقّق أصل الكفّارة؛ وهذا ما يمكن توجيهه علىٰ أساس فرض ترتّب أثرٍ واحدٍ عند الاجتماع.

النقد الأوّل: الخروج عن محلّ النزاع

إنّ محلّ النزاع في الواجب التخييري إنّما هو حيث يكون كلُّ طرفٍ، في نفسه وبقطع النظر عن الآخر، ذا ملاكٍ وأثرٍ لزوميٍّ مستقلّ؛ بنحوٍ يبقىٰ معه استقلالُ الملاك محفوظاً في جميع الأحوال. أمّا في هذه الصورة الرابعة، فإنّه علىٰ فرض الاجتماع يسقط أحد الأثرين. وهذا السقوط للأثر في ظرف الجمع لا ينسجم مع «الاستقلال المطلق للملاك» — الذي هو مفروض محلّ الكلام — وهو ما يوجب خروج البحث عن مدار الواجب التخييري الشرعي.

النقد الثاني: تغيّر أطراف التخيير ومخالفة ظاهر الأدلّة

فبناءً علىٰ هذه الصورة، ينتقل موضوع التخيير من «نفس الفعلين» إلىٰ «الإتيان بكلِّ واحدٍ منهما علىٰ انفراد» في مقابل «الإتيان بهما مجتمعين». فتكون أطراف التخيير حينئذٍ عبارة عن: 1- إتيان كلِّ واحدٍ منهما علىٰ الانفراد، و 2- الجمعُ بينهما. وهذه النتيجة لا تنسجم مع ظاهر أدلّة الواجبات التخييريّة — التي تجعل التخيير قائماً بين نفس الأفعال (كالعتق والإطعام) — فتكون بذلك خلاف الظاهر. وعليه، فإنّ الصورة الرابعة، وإن كانت في بدو النظر تبدو منسجمةً مع بعض الشواهد الفقهيّة، إلّا أنّها بسبب خروجها عن مفروض محلّ النزاع وتغييرها لموضوع التخيير، لا تصلح أن تكون مبنىً لتحليل «التخيير المولوي الشرعي». ويشير المحقّق الأصفهاني (قدس سره) إلىٰ هذه الصورة بقوله:

كما أنّ فرض استقلال كلٍّ من الفعلين في أثرٍ خاص—بحيث لا يجتمعان معاً من حيث ذاك الأثر؛ لتضادّ الأثرين—وترتّبُ أحدِ الأثرين بخصوصِه عند الاجتماع، لينطبقَ على الواجباتِ التخييرية التي لا بأس بالجمعِ بينها—خروجٌ أيضاً عن محلِّ الكلام؛ لما عرفت، مضافاً إلى أنّ لازِمَه التخيير بين كلٍّ منهما على انفراده وبين كليهما معاً.[4]

الصورة الخامسة: دخول «مصلحة التسهيل» وتصوير «التخيير الشرعي المحض»

إنّ المحقّق الأصفهاني (قدس سره)، بعد إبطاله للصور الأربع المتقدّمة، يختار الصورة الخامسة بوصفها الفرضَ المعقول الوحيد لتصوير «الواجب التخييري الشرعي». ولبُّ هذه الصورة يكمن في أنّ كلَّ واحدٍ من الطرفين، في نفسه، واجدٌ للغرض الملزم والمقتضي للإيجاب التعييني؛ من دون افتراض أيّ تضادٍّ أو كسرٍ وانكسارٍ بين الملاكين الأصليين للطرفين. وإنّما يدخل هنا عنصرٌ ثالثٌ عارض، وهو «مصلحة الإرفاق والتسهيل»، فيسوِّغ جعل «الترخيص البدلي». فيعمد الشارع، مع الحفاظ علىٰ إيجاب كلٍّ منهما بملاكه الذاتي، إلىٰ الترخيص في ترك كلِّ واحدٍ منهما بشرط الإتيان بالآخر. فتكون المحصّلة هي «إيجابٌ تخييريٌّ شرعيٌّ محض»؛ فلا يلزم من ذلك الرجوع إلىٰ جامعٍ انتزاعيّ، ولا تحليل الأمر إلىٰ تخييرٍ عقليّ.

علاقة هذه الصورة بالتخيير العقلي والجامع الانتزاعي

إنّ هذه الصورة، خلافاً للصور السابقة التي تؤول إلىٰ التخيير العقلي، ترتكز علىٰ جعلٍ مولويٍّ مزدوج: فهناك «إيجابُ كليهما» بملاكهما الذاتي، وهناك «ترخيصُ تركِ كلٍّ منهما إلىٰ بدل» بملاك التسهيل. وعلىٰ هذا الأساس، لا تكون هناك حاجةٌ لإرجاع التحليل إلىٰ «الجامع الانتزاعي أحدها» أو إلىٰ «حكم العقل في مقام الامتثال».

اللوازم والمرتكزات لمعقوليّة هذه الصورة

أوّلاً: إنّ معقوليّة هذه الصورة متفرّعةٌ علىٰ أن تكون «مصلحة التسهيل» من القوّة بمكانٍ بحيث تنهض لتسويغ «الترخيص البدلي»، من دون أن يُخرج ذلك أصلَ الإيجاب لكلا الطرفين عن مقتضىٰ الحكمة.

ثانياً: وفي فرض ترك الجميع، إذا ما أُريدَ القول بوحدة العقاب، فلا بدّ إمّا أن يتولّىٰ الترخيصُ نفسه تحديدَ دائرة المؤاخذة، وإمّا أن تؤول البنية إلىٰ «وجوبٍ واحدٍ بدليّ». وهذه الجهة تفتقر في مقام الإثبات إلىٰ قرينةٍ مستقلّة، وهو ما تقدّم الحديث عنه تفصيلاً.

وعليه، فإنّ الصورة الخامسة، عبر إدخالها لعنصر «مصلحة التسهيل»، هي التي تُهيِّئ هويّةً تامّةً لـ «التخيير الشرعيّ المولويّ»؛ حيث تكون ذاتُ كلِّ طرفٍ من الأطراف مقتضيةً للإيجاب، وإنّما الشارع، بملاك الإرفاق، يرخّص في ترك كلِّ واحدٍ منهما إلىٰ عدله المقابل. والتفصيلُ الصناعيّ لهذه الصورة هو عينُ ما قرّره المحقق الإصفهاني (قدس سره) في تعليقته علىٰ «نهاية الدراية» ضمن بيانين. ويوضح (قده) هذه الصورة بقوله:

نعم يمكن أن يُفرَض غرضان لكلٍّ منهما اقتضاءُ إيجابِ مُحصِّلِه، إلّا أنّ مصلحةَ الإرفاقِ والتسهيلِ تقتضي الترخيصَ في تركِ أحدِهما، فيوجبُ كليهما؛ لِما في كلٍّ منهما من الغرضِ المُلزِم في نفسه، ويُرخِّصُ في تركِ كلٍّ منهما إلى بدل، فيكونُ الإيجابُ التخييريُّ شرعيّاً محضاً، من دون لزومِ الإرجاعِ إلى الجامع، فتدبّر جيّداً.[5]

وقد جاء الشرحُ التفصيليّ لهذه الصورة الخامسة، مع الإجابة علىٰ ما يُحتمل أن يُثار عليها من إشكالات — نظير مدىٰ قوّة «مصلحة التسهيل»، ونسبتها إلىٰ أصل جعل الإيجاب للجميع، ومسألة وحدة العقاب وتعدّده في فرض ترك الجميع — ضمن البيانين الواردين في التعليقة، وهو ما سبق نقله ومناقشته.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


----------------------
[1]- ‏محمد حسین اصفهانی، نهایة الدرایة فی شرح الکفایة (بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429)، ج 2، 269.
[2]- نفس المصدر.
[3]- نفس المصدر، 269-270.
[4]- نفس المصدر، 270.
[5]- نفس المصدر.

--------------------
المصادر:
- اصفهانی، محمد حسین‏. نهایة الدرایة فی شرح الکفایة. ۶ ج. بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429.




الملصقات :

الواجب التعييني الواجب التخييري التخيير العقلي التخيير الشرعي مصلحة التسهيل الترخيص البدلي وحدة العقاب التزاحم الملاكي التزاحم الامتثالي تعدّد العقاب.

نظری ثبت نشده است .