درس بعد

الواجب التعیینی و التخییری

درس قبل

الواجب التعیینی و التخییری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب التعیینی و التخییری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٨/١٨


شماره جلسه : ۳۰

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • المسلك الثالث: تقرير المحقّق الخراساني

  • الصورة الأولىٰ: التخيير العقلي في فرض الغرض الواحد وكشف الجامع الحقيقي

  • الصورة الثانية: تعدّد الأغراض ومقولة «سنخٌ من الوجوب» في الواجب التخييري

  • تقرير نظرية الآخوند: «سنخٌ من الوجوب» في فرض تعدّد الأغراض

  • تحليل السيد الروحاني: مرتبةٌ برزخيّةٌ بين الوجوب التعييني والاستحباب

  • نقدٌ علىٰ كلام السيد الروحاني

  • الإجابة علىٰ إشكالين في كلام المحقّق الخراساني

  • المصادر

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

خلاصة البحث السابق

إنّ تحقيق المحقّق الأصفهاني في تحليل «الوجوب التخييري الشرعي» يرتكز علىٰ تقسيمٍ خماسيٍّ للصور الثبوتيّة، حيث إنّ الصورة الخامسة هي وحدها التي تصلح لتصوير «التخيير المولوي الشرعي» علىٰ نحوٍ معقول. ففي هذه الصورة، يكون كلُّ طرفٍ من أطراف الواجب في نفسه تامَّ الملاك ومقتضياً للإيجاب التعييني، ولكنّ الشارع، بملاكٍ ثانويٍّ هو «مصلحة الإرفاق والتسهيل»، يجعل رخصةً في ترك كلٍّ منهما إلىٰ الإتيان بعدله الآخر. وبذلك، يتحصّل الوجوب التخييري من اجتماع عنصرين: الإيجاب المستقلّ علىٰ كلِّ طرف، والترخيص البدلي المشروط بالبدل. وعلىٰ هذا الأساس، لا يلزم الرجوع إلىٰ «قدرٍ جامع» (الذي يؤول إلىٰ التخيير العقلي)، ولا اختزال الأمر في التزاحم الامتثالي؛ بل يكون التخيير مولويّاً بأكمله ومنبثقاً عن جعل الشارع. ونحن في مقام تبيين الثواب والعقاب نرىٰ أنّ المعيار هو «الخطاب المعتبر»، لا مجرّد استيفاء الملاك أو تفويته. وعليه، فبناءً علىٰ تعدّد الأمر، يكون مقتضىٰ القاعدة في فرض ترك الجميع هو تعدّد العقاب.
 ولرفع هذا المحذور، يتمسّك المحقّق الأصفهاني بـ «مصلحة التسهيل». إلّا أنّ التحليل الدقيق يبيّن أنّ للتسهيل شأناً امتثاليّاً، ولا دور له في مقام الجعل؛ فمن دون تحديدٍ لموضوع المؤاخذة أو عدولٍ إلىٰ «وجوبٍ واحدٍ بدليّ»، لا يمكن تسويغ وحدة العقاب. وعليه، فإنّ بناء التحليل علىٰ «مصلحة التسهيل» ليس بمتقنٍ ثبوتاً، ولا تقوم عليه حجّةٌ إثباتاً. والنتيجة النهائية لهذا التحقيق هي أنّ البنية التحليليّة تؤول إلىٰ تقرير الآخوند الخراساني، وهو أنّ: «الوجوب التخييري سنخٌ من الوجوب»؛ بمعنىٰ أنّ جعل الإلزام قد وقع منذ البداية علىٰ نحوٍ تخييريّ، لا أنّه مجموعٌ لعدّة وجوباتٍ تعيينيّةٍ مع ترخيصٍ لاحق. فيكون الترخيص وصفاً ذاتيّاً لسنخ الجعل نفسه، فلا يفتقر إلىٰ تسهيلٍ ملاكيّ. والمبنىٰ المختار لدينا هو أنّ الشارع، بمحض اختياره المولويّ، يجعل الترخيص البدلي، لا بملاك التسهيل؛ وأنّ معيار الطاعة والعصيان هو دائماً «الخطاب المولوي المعتبر»، لا الغرض والملاك.

المسلك الثالث: تقرير المحقّق الخراساني

إنّ خطاب الشارع في الواجب التخييري غالباً ما يرد بصيغة «أحد الشيئين أو الأشياء». والسؤال الأصوليّ هو في حقيقة هذا التخيير: فهل هو جعلٌ شرعيٌّ مستقلّ، أم أنّه في بعض الفروض، يقوم العقل بعد كشفه عن الملاك والجامع بتحليل الوظيفة علىٰ نحو «تطبيق الكلّي علىٰ أفراده»، فيكون التخيير حينئذٍ عقليّاً محضاً؟ ويطرح المحقّق الخراساني صورتين، تكون الأولىٰ منهما ناظرةً إلىٰ فرض وحدة الغرض؛ بمعنىٰ أنّ للمولىٰ غرضاً واحداً لا أكثر، وأنّ كلَّ واحدٍ من الأطراف صالحٌ لتحقيق تمام ذلك الغرض علىٰ نحو الاستقلال. بَيدَ أنّ الإشكال علىٰ هذا التصوير هو أنّه مع إحراز وحدة الغرض، يلزم وجود جامعٍ حقيقيٍّ واحد بين الأطراف، فيكون الأمر في الواقع قد تعلّق بذلك الجامع، ويغدو التخيير حينئذٍ عقليّاً لا شرعيّاً.

الصورة الأولىٰ: التخيير العقلي في فرض الغرض الواحد وكشف الجامع الحقيقي

يذهب المحقّق الخراساني إلىٰ أنّه إذا كان الأمر بـ «أحد الشيئين» قائماً علىٰ ملاك وجود «غرضٍ واحد»، بحيث يكون كلُّ واحدٍ من الطرفين صالحاً لتحصيل تمام ذلك الغرض علىٰ نحو الاستقلال، فإنّ الواجب في حقيقة الأمر هو «الجامع» بينهما، ويكون التخيير بين الأفراد تخييراً عقليّاً لا شرعيّاً. ويستند في هذا التحليل إلىٰ القاعدة الفلسفيّة المعروفة بـ «قاعدة الواحد»، وهو ما صرّح به بقوله:

إن كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّ هناك غرضاً واحداً يقوم به كلّ واحد منهما... كان الواجب في الحقيقة هو الجامع بينهما و كان التخيير عقلياً؛ وذلك لوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من الاثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهما جامعٌ في البين.[1]

وعلىٰ هذا الأساس، يكون ذكر الأفراد في لسان الدليل إنّما هو من باب التنبيه علىٰ وجود ذلك الجامع وبيان مصاديقه، لا من باب جعل تخييرٍ شرعيٍّ مستقلّ.

مباني هذه النظريّة ولوازمها

1- وحدة الغرض: وهو المرتكز الأساس لهذه الصورة، والقائم علىٰ أنّ للمولىٰ غرضاً واحداً لا أكثر، وأنّ كلَّ واحدٍ من الأطراف صالحٌ لتحصيل تمام ذلك الغرض علىٰ نحو الاستقلال.

2- قاعدة الواحد والسنخيّة: إنّ تحقّق الأثر الواحد من الأمور المتعدّدة، من دون وجود سنخيّةٍ وجامعٍ بينها، أمرٌ ممتنع؛ فلا محالة يلزم من ذلك وجود جامعٍ حقيقيّ.

3- تعلّق الأمر بالجامع: إنّ المتعلَّق الحقيقي للأمر هو ذلك الجامع الواحد، وما الأفراد المذكورة في الخطاب إلّا مجرّد مصاديق لذلك الجامع.

4- التخيير العقلي: فبعد كشف الجامع، يرىٰ العقلُ المكلّفَ مخيّراً في تطبيق ذلك الكلّي علىٰ أيٍّ من مصاديقه؛ فلا يكون للتخيير جعلٌ شرعيٌّ زائد.

5- النتيجة العمليّة: يتحقّق الامتثال بالإتيان بأيّ مصداقٍ من مصاديق الجامع، فيسقط الأمر بذلك. وتعدّد الأطراف إنّما هو تعدّدٌ لأفراد الجامع، لا تعدّدٌ للواجبات.

أدلّة هذه النظريّة

أوّلاً، الاستدلال الملاكي (الثبوتي): فبناءً علىٰ فرض «الغرض الواحد» الذي يحقّقه كلٌّ من الأطراف علىٰ نحوٍ تامّ، يكون الأثر الواحد قد صدر عن أمورٍ متعدّدة. وبحسب قاعدة «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد»، فإنّ صدور الواحد من المتعدّد بما هو متعدّدٌ أمرٌ محال، إلّا أن يُفترض وجود «جامعٍ سنخيٍّ» بينها. فلا محالة إذن من وجود جامعٍ حقيقيٍّ واحد، ويكون أمر المولىٰ قد تعلّق بذلك الجامع نفسه. فعلىٰ سبيل المثال، في خصال الكفّارة (العتق والصوم والإطعام)، لو كان غرض الشارع واحداً (كجبران الهتك أو تدارك الحقّ مثلاً)، لكانت هذه الخصال الثلاث تشترك من حيثيّةٍ ما في سنخٍ واحد، وهو ذلك الجامع المتعلّق بتدارك الغرض. فيكون الأمر قد تعلّق بالجامع، ويكون الإتيان بأيّ خصلةٍ منها امتثالاً لذلك الأمر.

ثانياً، التحليل الإثباتي للخطاب: فحتىٰ وإن كان لسان الدليل يعدّد الأفراد — كقوله: «أحد هذه الخصال» — فإنّ هذا التعداد إنّما هو من باب «بيان مصاديق الجامع»، لا من باب جعل تخييرٍ مستقلّ. وعليه، فإنّ الظهور الابتدائي في التخيير الشرعي يؤول من خلال هذا التحليل إلىٰ «التخيير العقلي».

الصورة الثانية: تعدّد الأغراض ومقولة «سنخٌ من الوجوب» في الواجب التخييري

في الصورة الثانية من تقرير المحقّق الخراساني، ترتكز أطراف الواجب التخييري علىٰ أغراضٍ مستقلّة؛ فالغرض المترتّب علىٰ العتق يغاير الغرض المترتّب علىٰ الإطعام، وعليه، لا يُفترض وجود «جامعٍ حقيقيٍّ واحد» يمكن أن يتعلّق به الأمر. والسؤال الجوهري في مثل هذا الظرف هو: ما هي حقيقة التخيير؟ فهل يمكن إرجاعه مرّةً أخرىٰ إلىٰ «التخيير العقلي»، أم أنّه لا بدّ من الالتزام بـ «تخييرٍ شرعيٍّ» ذي بنيةٍ خاصّة؟ ويصرّح المحقّق الخراساني في «الكفاية» بأنّه في هذه الصورة، لا يمكن تصوير «واجبٍ واحدٍ لا بعينه»، ولا القول بـ «وجوب كلِّ واحدٍ مع السقوط بفعل الآخر»؛ بل إنّ في البين «نحواً» أو «سنخاً» من الوجوب، لا يُعرَف إلّا من خلال آثاره وتبعاته. وفي هذا الصدد يقول (قدس سره):

و إن كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه، كان كلّ واحد واجبا بنحو من الوجوب. يستكشف عنه تبعاته من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، و ترتّب الثواب على فعل الواحد منهما و العقاب على تركهما.[2]

العبارة المحوريّة وقراءتان محتملتان لها

إنّ محور الفهم في هذه الصورة يرتكز علىٰ جملة: «لا يكاد يحصل مع حصول الغرض في الآخر بإتيانه». وقد طُرحت في فهمها قراءتان بين الشرّاح:

القراءة الأولىٰ- تضادّ الأغراض (عدم قابليّة الجمع): ومؤدّاها أنّه بالإتيان بأحد الطرفين وحصول غرضه الخاصّ، ينتفي غرض الطرف الآخر بالمرّة ويغدو بلا وجه؛ حتّىٰ لو أُتيَ بكلا الفعلين، فإنّ اجتماع الغرضين ممتنع. فعلىٰ هذا الأساس، تكون الأغراض متضادّةً وغير قابلةٍ للجمع. وهذه هي النقطة التي يفترق فيها مسلك المحقّق الأصفهاني عن مسلك الآخوند؛ إذ إنّ الأوّل يذهب إلىٰ قابليّة جمع الأغراض بالإتيان بكلا الفعلين.

القراءة الثانية- عدم انطباق غرض هذا علىٰ فعل ذاك: وحاصلها أنّ المراد هو نفيُ قابليّة الأغراض للتنابب والحلول محلّ بعضها، لا نفيُ إمكان الجمع بينها. فغرضُ العتق لا يتحصّل بالإطعام، والعكس بالعكس؛ فكلُّ غرضٍ يتقوّم بفعله الخاصّ. وأمّا لو أُتيَ بكلا الفعلين، فإنّ الجمع بين الغرضين في نفسه أمرٌ معقولٌ وممكن. فالعبارة إنّما تقول بأنّ: «غرض هذا لا يحصل بفعل ذاك»، لا أنّ «غرض هذا يمتنع بتحقّق غرض ذاك». والقرينة الداخليّة في عبارة «الكفاية» علىٰ ترجيح هذه القراءة الثانية تكمن في أنّ الآخوند يُردِف كلامه فوراً بقوله: «ولا كلّ واحدٍ منهما تعيّناً مع السقوط بفعل أحدهما، بداهةَ عدمِ السقوط مع إمكان استيفاءِ ما في كلٍّ منهما من الغرض...». فمع فرض إمكان استيفاء الغرض المستقلّ لكلِّ طرف، يكون سقوط غرضِ الطرف الآخر بمجرّد الإتيان بالطرف الأوّل أمراً منتفياً بالبداهة. وهذا التعبير يفترض إمكانيّة الجمع بين الأغراض، وينفي مجرّد «بدليّة الأغراض»، لا قابليّة اجتماعها.

فعلىٰ هذا المبنىٰ، وحيث لا يكون هناك جامعٌ حقيقيٌّ واحد، فلا يتعلّق الأمر بالجامع، ولا مجال للتخيير العقلي المحض. ويذهب الآخوند إلىٰ أنّ كلَّ واحدٍ من الطرفين «واجبٌ بنحوٍ من الوجوب»، لا يُعرَف إلّا من خلال تبعاته وآثاره: وهي عدم جواز ترك أيٍّ منهما، إلّا علىٰ نحو الترك إلىٰ عدله الآخر. وبعبارةٍ أخرىٰ، يكون تركُ كلِّ طرفٍ بما هو هو ممنوعاً، إلّا أن يقع ذلك الترك في ضمن تحقّق الطرف الآخر. فامتثال أحد الطرفين يقتضي الثواب؛ لأنّ الحدّ الأدنىٰ المطلوب قد تحصّل. وأمّا العقاب في هذا السنخ من الواجب، فهو واحدٌ؛ لأنّ العنوان المبغوض إنّما هو «تركُ مجموع ما هو الواجب»، لا عنوانان مستقلّان. أي أنّ العقاب يترتّب علىٰ «ترك المجموع»، لا علىٰ «ترك الجميع» فرداً فرداً.

والثمرة المترتّبة علىٰ هذا التحليل هي أنّه في هذه الصورة، لا يمكن القول بأنّ «الواجب هو أحدهما لا بعينه» — إذ إنّ تعدّد الأغراض يمنع من إرجاع الأمر إلىٰ جامعٍ أو إلىٰ مفهومٍ مردَّد — ولا يمكن الالتزام بـ «وجوب كلِّ واحدٍ مع السقوط بفعل الآخر» — إذ إنّه مع إمكان استيفاء الغرض المستقلّ للطرف الثاني، يكون سقوط تكليفه بمجرّد الإتيان بالأوّل أمراً بلا وجه — ولا يكون «وجوب كليهما علىٰ نحو التعيين المطلق» أمراً معقولاً؛ وذلك لأنّ إيجاب كليهما في فرض عدم إمكان الجمع بينهما يكون غير جائز. وفي هذا الصدد يقول (قدس سره):

فلا وجه في مثله للقول بكون الواجب هو أحدهما لا بعينه مصداقا ؛ و لا مفهوما، كما هو واضح ، إلاّ أن يرجع إلى ما ذكرنا فيما إذا كان الأمر بأحدهما بالملاك الأوّل من أنّ الواجب هو الواحد الجامع بينهما. و لا أحدهما معيّنا مع كون كلّ منهما مثل الآخر في أنّه واف بالغرض. [و لا كلّ واحد منهما تعيينا مع السقوط بفعل أحدهما، بداهة عدم السقوط مع إمكان استيفاء ما في كلّ منهما من الغرض و عدم جواز الإيجاب كذلك مع عدم إمكانه ]، فتدبّر.[3]

مباني هذه النظريّة ولوازمها

أوّلاً: إنّ التعبير بـ «سنخٌ من الوجوب» في كلامه (قدس سره) يكتنفه بعضُ الغموض، إذ إنّ هذا السنخ لا يُعرَف إلّا من خلال آثاره وتبعاته الثلاثة. فلا هو ينحلّ إلىٰ «وجوبٍ تعيينيٍّ مستقلّ»، ولا هو يؤول إلىٰ «وجوبٍ واحدٍ لا بعينه»، بل هو «وجوب تحصيل أحد الأمرين علىٰ نحو اللزوم» مع ما يترتّب عليه من تبعاتٍ محدّدة.

ثانياً: وأمّا في ما يتعلّق بنسبة «وحدة العقاب» إلىٰ تعدّد الأغراض، فإنّ مناط العقاب هو مخالفة التكليف بـ «تحصيل أحد الأمرين». ووحدة موضوع العقاب (أي ترك المجموع) لا تنافي تعدّد الأغراض.

ثالثاً: وكذلك، يُستفاد من تصريح الآخوند بـ «عدم السقوط مع إمكان الاستيفاء» أنّه في ظرف الإمكان، يكون امتثال كلا الفعلين علىٰ حدةٍ أمراً مطلوباً، وأنّ الجمع بين الغرضين ممكنٌ بالإتيان بهما معاً. ولكنّ التكليف الابتدائي إنّما تعلّق بتحصيل أحدهما، وهو ما يثبت التخيير الشرعي.

رابعاً: في صورة تعدّد الأغراض، لا يكون هناك «جامعٌ حقيقيٌّ» يتعلّق به الأمر، وتفقد «قاعدة الواحد» مجراها.

خامساً: إنّ حقيقة التخيير «شرعيّة»، فلا هي قابلةٌ للإرجاع إلىٰ التخيير العقلي، ولا إلىٰ «الواجب الواحد لا بعينه».

سادساً: تُعرَف بنية هذا السنخ بآثاره الثلاثة: اشتراط الترخيص في الترك بالإتيان بالبدل، وترتّب الثواب علىٰ امتثال الواحد، ووحدة العقاب علىٰ ترك المجموع.[4]

تقرير نظرية الآخوند: «سنخٌ من الوجوب» في فرض تعدّد الأغراض

بعد أن اتّضحت الصورة الثانية من تقرير المحقّق الخراساني في الواجب التخييري — أي حيث تكون الأغراض متعدّدةً ولا يكون هناك جامعٌ حقيقيٌّ واحد — يبرز السؤال الجوهري عن كيفيّة تحليل «سنخ الإلزام» في هذا النوع من الواجبات. فهل يمكن إرجاعه إلىٰ الوجوب التعييني أو اختزاله في الاستحباب، أم أنّنا أمام سنخٍ مستقلٍّ من الجعل المولوي؟ يذهب الآخوند في «الكفاية» إلىٰ أنّ سنخ الحكم إنّما يُعرَف من خلال آثاره وتبعاته: وهي عدم جواز ترك كلِّ طرفٍ إلّا إلىٰ بدله، وترتّب الثواب علىٰ فعل الواحد، والعقاب الواحد علىٰ ترك المجموع.

تحليل السيد الروحاني: مرتبةٌ برزخيّةٌ بين الوجوب التعييني والاستحباب

وقد صيغت هذه الفكرة في التقريرات المتأخّرة بتعبير: «وجوبٌ وسطٌ بين الوجوب التعييني والاستحباب». وفي هذا الصدد، يصرّح صاحب «منتقىٰ الأصول» بقوله:

يمكن أن نوضّحه بأنّه إرادةٌ وسط بين الإرادة الاستحبابية والإرادة الوجوبية؛ فهي أقوى من إرادة الاستحباب، و لذا لا يجوز ترك متعلقها مطلقاً، و أضعف من إرادة الوجوب، و لذا يجوز ترك متعلقها إلى بدل.[5]

إنّ موضوع الجعل في الواجب التخييري هو «أحد الأطراف» علىٰ نحو البدليّة؛ لا «جميع الأطراف» (كي يلزم وجوب الجمع)، ولا «الجامع الحقيقي» (كي يؤول التخيير إلىٰ حكم العقل). ويكون سنخ الإلزام هنا «إرادةً وسطاً»؛ أي أنّها أقوىٰ من إرادة الاستحباب، إذ لا يجوز ترك جميع الأطراف، وأضعف من إرادة الوجوب التعييني، إذ يجوز ترك كلِّ فردٍ بما هو هو مع الإتيان بالبديل. فلو كان الحكم علىٰ الأطراف هو الاستحباب المحض، لكان ترك الجميع جائزاً، والحال أنّ ترك جميع الأطراف في الواجب التخييري ممنوع؛ فشدّة الإلزام إذن فوق شدّة الاستحباب. ولو كان كلُّ طرفٍ واجباً علىٰ نحو التعيين، لتوقّف الامتثال التامّ علىٰ الإتيان بجميع الأطراف، ولكان ترك كلِّ فردٍ منها معصية؛ والحال أنّ الإتيان بـ «واحدٍ منها» في الواجب التخييري مسقطٌ للتكليف، وتركُ الفرد مع الإتيان بالبديل مأذونٌ فيه؛ فشدّة الإلزام إذن دون شدّة الوجوب التعييني. إنّ تعبير صاحب «الكفاية» حيث قال: «واجبٌ بنحوٍ من الوجوب يُستكشف عنه تبعاتُه»، له ظهورٌ في سنخٍ مستقلٍّ من الوجوب، يُعرَف بآثاره الثلاثة، لا بإرجاعه إلىٰ جامعٍ أو انحلاله إلىٰ عدّة وجوبات. فالمعنىٰ هو أنّ شدّة الإلزام في مقام الحكم تقع بين مرتبتين: المنع من ترك الجميع، والترخيص في ترك الفرد مع البدل. وعليه، فإنّ سنخ الوجوب في الواجب التخييري هو سنخٌ مستقلٌّ و«برزخيٌّ» بين الوجوب التعييني والاستحباب. وهذا السنخ هو عينُ ما صرّح به الآخوند بـ «نحوٍ من الوجوب»، وما بيّنه صاحب «منتقىٰ الأصول» بـ «الإرادة الوسط».

نقدٌ علىٰ كلام السيد الروحاني

إنّ السؤال الجوهري في المقام هو في كيفيّة تحليل «سنخ الإلزام»: فهل ينبغي أن يُنظر إليه بوصفه «مرتبةً برزخيّةً بين الوجوب التعييني والاستحباب»، أم يمكن إرجاعه إلىٰ «وجوبٍ تعيينيٍّ مشروط»؟ الذي يبدو هو أنّ ما أفاده السيد الروحاني لا يمكن القبول به؛ وذلك لأنّ منطق تقسيم الأحكام يرتكز علىٰ حصرٍ عقليٍّ، وهو: «الفعل إمّا يجوز تركه أو لا يجوز». والخروج عن هذه الثنائيّة نحو «حكمٍ سادس» (الأحكام الستّة) يفتقر إلىٰ أيّ أساسٍ منهجيّ. فالتعبير بـ «الإرادة الوسط» — إذا ما أُرجعَ إلىٰ مقام الجعل — إمّا أن يُفسَّر ضمن إطار الوجوب أو الاستحباب نفسه، وإمّا أن يُكتفىٰ به لبيان مستوىٰ شدّة الطلب، لا أن يؤسّس لدرجةٍ مستقلّةٍ في سلسلة الأحكام.

والذي نراه هو أنّ المقصود من «النحو» أو «السنخ من الوجوب» في كلام الآخوند ليس تأسيس درجةٍ جديدةٍ من الحكم، بل هو بيانٌ لـ «كيفيّة الجعل»؛ أي أنّ كلَّ طرفٍ واجبٌ علىٰ نحو التعيين، ولكنّه «مشروطٌ بترك البديل». وبتعبيرٍ أصوليّ، يكون الترخيص في ترك كلِّ فردٍ مقيّداً بالإتيان بالعدل الآخر: «لا يجوز ترك كلِّ واحدٍ منهما إلّا إلىٰ الآخر». ويكون موضوع الحكم هو «أحد الأطراف» علىٰ نحو البدليّة؛ فهو جعلٌ تخييريٌّ واحد، يتوجّه إلزامه إلىٰ مجموع البدائل. إنّ هذا البيان له ظهورٌ في «كيفيّة الجعل الإلزامي التخييري»، لا في تأسيس حكمٍ مستقلٍّ بين الوجوب والاستحباب. فبإتيان أحد الأطراف، تترتّب «جميع آثار الواجب التعييني» علىٰ ذلك الفرد نفسه؛ فيكون الثواب وسقوط الإلزام من حيثيّة ذلك الفرد المعيّن، لا من حيثيّة العنوان الجامع. وحتّىٰ لو تُصوِّر جامعٌ انتزاعيٌّ في موردٍ ما، فإنّ الثواب يكون ناظراً إلىٰ الغرض الحاصل من ذلك الفرد بالذات، لا إلىٰ «مطلق الغرض».

وعليه، فإنّ نظرية «الوجوب الوسط» إذا ما فُسِّرت بمعنىٰ الحكم السادس، فإنّها لا تنسجم مع الحصر العقلي القائم علىٰ «جواز الترك وعدم جوازه»، وتقتضي بذلك توسعة «الأحكام الخمسة» إلىٰ «أحكامٍ ستّة»، وهو أمرٌ لا يرتكز علىٰ مبنىً مقبولٍ في الصناعة الأصوليّة. وأمّا نظرية «الوجوب التعييني المشروط»، فإنّها تندرج في إطار الأحكام الخمسة؛ فماهيّة الحكم هي الوجوب، وما التخيير إلّا تحليلٌ لكيفيّة تقييد الترخيص في ترك الفرد بالإتيان بالبديل. وعلىٰ هذا الأساس، يصعب إثبات «الوجوب الوسط» — بوصفه حكماً مستقلاً بين الوجوب والاستحباب — من خلال عبارات الآخوند؛ فإنّ ظاهر قوله «بنحوٍ من الوجوب» إنّما هو ناظرٌ إلىٰ «كيفيّة جعل الإلزام التخييري»، لا إلىٰ تأسيس درجةٍ جديدةٍ في الأحكام. فالتحليل الأقرب إلىٰ الصناعة هو أنّ الواجب التخييري «واجبٌ تعيينيٌّ مشروط».

الإجابة علىٰ إشكالين في كلام المحقّق الخراساني

في الصورة الثانية للواجب التخييري عند الآخوند — أي في فرض تعدّد الأغراض وانتفاء الجامع الحقيقي — ترد في «الكفاية» عباراتٌ محوريّةٌ تفتقر إلىٰ التوضيح: إحداها نفيه لـ «أحدهما لا بعينه»، والأخرىٰ تلك العبارة المعترضة التي يتحدّث فيها عن «عدم السقوط مع إمكان الاستيفاء».

أوّلاً: ردّ «أحدهما لا بعينه» مفهوماً ومصداقاً

نصُّ عبارة الآخوند هو: «لا وجه للقول بأنّ الواجب أحدهما لا بعينه مصداقاً ولا مفهوماً». فالنفي مصداقاً يعني أنّ «الفرد المردَّد» لا يقع متعلَّقاً للأمر؛ إذ إنّ الأمر بالمردَّد غير المنطبق علىٰ فردٍ معيَّن أمرٌ محال. والنفي مفهوماً يعني أنّ عنوان «أحدها» الكلّي، بوصفه جامعاً مفهوميّاً، ليس هو متعلَّق الأمر أيضاً؛ إذ إنّه في فرض تعدّد الأغراض لا يُفترض وجود جامعٍ واقعيٍّ أو سنخيٍّ يمكن أن يتعلّق به الأمر. يضاف إلىٰ ذلك تصريح الآخوند بقوله: «ولا أحدهما معيّناً مع كون كلٍّ منهما وافياً بغرضه»؛ أي أنّه ما دام كلُّ طرفٍ وافياً بغرضه المستقلّ، فلا وجه لجعل وجوبٍ تعيينيٍّ مطلقٍ علىٰ واحدٍ منهما علىٰ نحو التعيين. فمحصّلة هذين النفيين هي رفض «التخيير العقلي المبتني علىٰ جامع»، و«الواجب الواحد لا بعينه»، و«تعيين أحد الطرفين» في فرض تساوي الأطراف في الوفاء بغرضها.

ثانياً: المقصود من قوله «ولا كلّ واحدٍ منهما تعييناً مع السقوط بفعل الآخر»

العبارة المعترضة هي: «ولا كلّ واحدٍ منهما تعييناً مع السقوط بفعل الآخر، بداهةَ عدمِ السقوط مع إمكانِ استيفاءِ ما في كلٍّ منهما من الغرض...». إنّ الظاهر البدوي لهذه العبارة هو نفي «السقوط المطلق»؛ إلّا أنّه بالتدقيق يتّضح أنّ المراد هو نفي سقوط «غرضِ» كلِّ طرفٍ بمجرّد الإتيان بالطرف الآخر، لا نفي تقييد «الوجوب» بشرط ترك البديل. وتوضيح ذلك: أنّ «عدم السقوط» ناظرٌ إلىٰ الملاك/الغرض؛ فكلُّ فعلٍ له غرضه الخاصّ الذي لا يسقط بفعل الآخر، وذلك لأنّه «مع إمكان الاستيفاء» يكون الجمع بين الغرضين أمراً معقولاً. وهذا البيان لا ينفي «الوجوب التعييني المشروط»؛ وذلك لأنّ السقوط في «المشروط» إنّما هو ناظرٌ إلىٰ «الوجوب المشروط» نفسه (في ظرف تحقّق الشرط علىٰ نحو القهقرىٰ، أي ترك البديل)، لا إلىٰ سقوط نفس الملاك. وعليه، فإنّ «بقاء الملاك» يجتمع مع «اشتراط الوجوب» علىٰ نحوٍ تامّ.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

------------------------
[1]- ‏محمد کاظم آخوند خراسانی، کفایة الأصول (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430)، ج 1، 261.
[2]- نفس المصدر، 261-262.
[3]- نفس المصدر، 262.
[4]- نقدٌ منهجيٌّ ودفعٌ للدور: إنّ تعريف «سنخ الوجوب» بمجرّد آثاره الثلاثة — أي «عدم جواز الترك إلّا إلىٰ الآخر، وترتّب الثواب علىٰ فعل الواحد، والعقاب الواحد علىٰ ترك المجموع» — يفضي إلىٰ محذور التعريف باللازم والدور الخفيّ؛ إذ يؤول الأمر إلىٰ القول بأنّ: «الواجب التخييري هو ما تترتّب عليه آثار التخيير». والسبيل الصحيح هو إرجاع هذا «السنخ» إلىٰ «كيفيّة الجعل» نفسها: أي أنّه جعلٌ واحدٌ بدليٌّ، مفاده «لا بدّ من أحدهما»، ومدلوله «وجوب كلِّ طرفٍ علىٰ نحو التعيين، مشروطاً بترك البديل». وفي هذا الإطار، تكون الآثار المذكورة معلولةً لكيفيّة الجعل، لا أنّها معرِّفٌ مستقلٌّ لماهيّة الحكم.
[5]- ‏محمد الروحانی، منتقی الأصول (قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413)، ج 2، 483.

-----------------------
المصادر
- آخوند خراسانی، محمد کاظم‏. کفایة الأصول. ۳ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430.
- الروحانی، محمد‏. منتقی الأصول. ۷ ج. قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413.





الملصقات :

الوجوب المشروط الواجب التعييني الواجب التخييري التخيير العقلي التخيير الشرعي الجامع الحقيقي وحدة الغرض تعدّد الأغراض قاعدة الواحد الوجوب الوسط سنخ الوجوب

نظری ثبت نشده است .