صفحه 4

عناوين الرسائل

* رسالة في التقيّة
* رسالة في اعتبار الكتابة في الفقه الإسلامي
* رسالة في حقيقة الوضع
* رسالة في شرطيّة الابتلاء في منجّزيّة العلم الإجمالي
* رسالة في نظريّة العدالة في الحكومة الإسلاميّة، وولاية الفقيه
* رسالة في تأثير الزمان والمكان في الفقه
* رسالة مختصرة لمنهج الملاّ أحمد النراقي في الاستنباط في مستند الشيعة
* رسالة في الحقّ والحكم
* رسالة في اُكذوبة التحريف
* الدراسة الفقهيّة حول الطواف في الطابق الأوّل من المسجد الحرام
* رسالة في اعتبار الأجهزة الحديثة في رؤية الهلال


صفحه 5

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

أمّا بعد ، لا شكّ في أنّ علم الفقه من أشرف العلوم موضوعاً وغاية، ومن أدقّها وأكملها اُصولاً وبنياناً، ومن أوسعها وأشملها دائرةً وشمولاً لجميع أبعاد الحياة البشريّة الفرديّة والاجتماعيّة، السياسيّة والحكوميّة، ومن أجل ذلك تتوسّع دائرة موضوعاته، وفي ظلّ التحقيق عن العناوين المهمّة الموجودة فيه تنكشف فوائد ودرر جديدة، وقواعد عظيمة، وضوابط محكمة بحيث يحتاج كلّ واحد منها إلى بسط القول مستقلاًّ ومنفرداً، حتّى يلزم تدوين رسالة مستقلّة يذكر فيها الجذور الأصليّة والعناوين المرتبطة بالموضوع، ويظهر استقصاء الفروع المتشعّبة عنها.

والمجموعة التي بين أيديكم هي الطبعة الثانية التي تحتوي على الرسائل المتعدّدة في الموضوعات الفقهيّة والاُصوليّة، كتبت بعضها بمناسبة انعقاد المؤتمرات العالميّة المرتبطة بالمباحث الفقهيّة، وذلك أيّام اشتغالي بالتدريس وإدارة الاُمور المرتبطة بمكتب وا لدنا الراحل سماحة المرجع الديني الأعل.
آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني رضوان الله تعالى عليه، وجعله في أعلى عليّين، وأسكنه جنّات النعيم، وبعض هذه الرسائل في موضوعات لم يُكتب حولها رسالة من قبل، ولم ينقّح فيها حقّ التنقيح، كالبحث عن الطواف من الطابق الأوّل، الذي هو أعلى من الكعبة المعظّمة بمقدار يقرب من ثلاثين سانتيمتراً، وأيضاً البحث عن حجّية الكتابة واعتبارها في الاُمور المختلفة في الفقه الإسلامي.

فنحمد الله الذي أحكم قواعد الدِّين بمساعي المجتهدين، وشيّد أركانه بهداية المؤمنين إلى


صفحه 6

أحكام الدِّين، وجعل الفقه ضامناً لسعادة العالمين والمتديّنين.

وهذه الأيّام التي تصادف ارتحال زعيم الحوزات العلميّة، والمرجع العامّ للطائفة، الذي كان لفقدانه ثلمة عظيمة وخسارة كبيرة، قد بكت فيها المراجع والفقهاء، وضجّ الفضلاء وطلبة الحوزات والناس في تشييع جثمانه الشريف، فلطموا الرؤوس ولبسوا السواد وعطّلت البلاد، كأنّهم فقدوا أباهم، وصرّح كثير منهم بأنّ هذا اليوم أشدّ علينا من يوم فقد أبينا، فقد أحسسنا بخروج الروح من قلوبنا، والنور من أبصارنا، والطاقة من أبداننا، وقد انعقدت له المحافل العظيمة الكثيرة داخل البلاد وخارجها حتّى أربعينيّته.

كان قدّس سرّه الشريف من أعاظم أساتذة الحوزة العلميّة وأساطينها، ومن مميّزاته اهتمام الشديد في تربية الفقهاء والمجتهدين، وتحكيم مباني الفقه والأحكام، ولأجل هذا قد أسّس مركزاً عظيماً للتربية وتخريج الفضلاء في الفقه والاُصول، سمّـاه (قدس سره) بـ «مركز فقه الأئمّة الأطهار(عليهم السلام)». وهذا اليوم قد مضى من عمر المركز بما يقرب من عشر سنوات، ربّيت فيه أعلام الفضلاء، وجهابذة العلم، وانتشرت من خلاله الرسائل الدقيقة حول الموضوعات المتنوّعة، سيّما المباحث المستحدثة ، سائلين الله تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا العمل المبارك من وا لدنا المعظّم الراحل، ويجعله ذخراً كبيراً له ولنا يوم الحساب، وأن يوفّقنا لحفظه وإبقائه تحت رعاية وليّه الأعظم إمام العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

وفي الختام نتقدّم بالشكر والتقدير للمحقّقين في هذا المركز، الذين وقفوا على مراجعة هذا السفر، وحقّقوا فيه مجدّداً، وأخرجوا مصادره، ونخصّ بالذكر مدير المركز حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ محمّد رضا الكاشاني، وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ عبادالله سرشار الطهراني الميانجي وحجّة الإسلام والمسلمين الشيخ المهدوي دامت توفيقاتهم، واُهدي ثواب هذا الكتاب ـ إن كان له أجر ـ إلى روح الوالد الشريف، فقد كان له عليَّ حقّاً عظيماً، وكانت حياتي العلميّة مدينة له; وإن لم أقدر على شكر عُشر من أعشار ألطافه عليَّ، نطلب من الله تبارك وتعالى أن يجعله نوراً باقياً في أفكار المتفكّرين، وسراجاً دائماً للفضلاء والمجتهدين إن شاء الله تعالى ربّ العالمين.

محمّد جواد الفاضل اللنكراني
27 رجب المرجّب 1428


صفحه 7

رسالة في الـتقيـّة

وقد ألّفت في سنة 1415 هـ . ق بمناسبة المؤتمر العالمي
للشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)، وقرأت في صحن المؤتمر


صفحه 8


صفحه 9

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة :

مسألة التقيّة من المباحث المهمّة القرآنيّة التي تُعدّ من القواعد الفقهيّة ، وتتفرّع عليها فروع كثيرة; وهي التي تعرف بها الإماميّة، وصارت دثارهم وشعارهم من جانب ، مع أنّها من ناحية اُخرى كانت وسيلة للتشنيع عليهم ، وحيث إنّه لم يستوفِ البحث عنها في كتب القوم، وعن موارد جريانها وأقسامها وأنواعها إلاّ في كلمات الشيخ الأعظم، وبعض مَن تأخّر عنه ، كان اللازم البحث عنها وعن الاُمور المرتبطة بها .

والسبب الوحيد لتشنيع العامّة وعلمائهم على الإماميّة ، هو عدم الاطّلاع عن حقيقتها، وعدم الوصول إلى قمّتها ، كما أنّ هذه هي العلّة الأساسيّة لسائر المباحث الاختلافيّة بيننا وبينهم ، فالواجب التدبّر فيها حقّ التدبّر .

والعجب أنّ علماء العامّة لم يصلوا إلى حقيقتها، وسمعوا من هذا البحث الدقيق ماهو المشهور بين العوامّ منهم ، فهجموا علينا هجمة جهل وعناد، من دون مراجعة


صفحه 10

كتبنا الفقهيّة الاستدلاليّة ، فقال بعض(1) منهم: إنّها مساوقة للكذب ، وذهب بعض(2) آخر إلى أنّها مساوقة للنفاق ، وكيف يكون كذباً ونفاقاً والقرآن الكريم ينادي بمشروعيّتها، ويحكي عن استعمالها عند الأنبياء(عليهم السلام)؟(3)

ثمّ إنّه قد ذكر الآلوسي في تفسيره بياناً طويلاً لنفي التقيّة وردّها ، ونحن نجمعه في ضمن اُمور ونجيب عنه :

الأمر الأوّل : أنّ كلمات الإماميّة مضطربة في هذا الموضوع من حيث الحكم الشرعي ، فقال بعض منهم بالوجوب ، وذهب بعضهم إلى الاستحباب ، ومال ثالث إلى الجواز ، والاضطراب دليل على عدم تنقيح الموضوع عندهم، وكاشف عن عدم دليل معتبر(4).

وفيه : أنّهم لم يعلموا أنّ الموضوع الواحد يصلح أن يكون متعلّقاً للأحكام المختلفة بالجهات المتعدّدة ، والتقيّة تنقسم بحسب الحكم التكليفي إلى الأحكام الخمسة، وسيأتي(5) تفصيلها إن شاء الله تعالى .

الأمر الثاني : أنّ في كلمات أئمـّة الإماميّة كعليّ (عليه السلام) وبنيه ، ما يُبطل مشروعيّة التقيّة، فضلاً عن استحبابها وفضلها; لقوله (عليه السلام) : علامة الإيمان إيثارك الصدق، حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك(6)،وأيضاً قوله (عليه السلام) : إنّي والله لو لقيتم واحداً وهم طلاع الأرض كلّها ما باليت ولا استوحشت(7) .


(1 ، 2) منهاج السنّة النبويّة 1: 68 و ج2 : 46 وج7: 151، سلسلة الأحاديث الصحيحة 5: 646 ، الموسوعة الميسّرة في الأديان والمذاهب المعاصرة : 302.
(3) سيأتي ذكر الآيات الدالّة على التقيّة في ص25ـ 27.
(4) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني 3: 163.
(5) في ص21 ـ 23.
(6) نهج البلاغة، للدكتور صبحي الصالح: 556 حكم 458، وفيه: «الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك».
(7) نهج البلاغة، للدكتور صبحي الصالح: 452 كتاب 62.

صفحه 11

وفي هذه الكلمات دلالة على لزوم اختيار الصدق وإن كان مضرّاً ، ودلالة على أنّ الأمير لم يخف وهو منفرد عن حرب الأعداء وهم جموع ، ثمّ قال بعد هذه العبارات : كيف يفسّرون قوله ـ تعالى ـ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـئـكُمْ) بأكثركم تقيّة (1)؟

وفيه أوّلاً : أنّ التقيّة ليست بكذب، ولا يصدق عليها تعريف الكذب ; لأنّ من مقوّمات الكذب: هي المخالفة للواقع، والتقيّة ليست كذلك ; لأنّها مع تحقّق شرائطها تكون مأموراً بها بالأمر الاضطراري; وهو أمر واقعيّ ثانويّ ، فالعمل على طبق التقيّة عمل بالحكم الواقعي الثانوي، وإلاّ يلزم أن يكون جميع الموارد الاضطراري موجباً للكذب .

وثانياً : أنّ الكذب من مقولة الخبر، والتقيّة ليست بخبر ، اللّهمّ إلاّ في التقيّة في الأقوال ، فتأمّل .

وثالثاً : سلّمنا كونها من مصاديق الكذب ، لكنّ المراد من كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام): هو الضرر الذي لم يبلغ حدّ القتل، ولا يكون هتكاً للعرض ، فلو كان الكذب موجباً لحفظ النفس; فبما أنّ حفظها أهمّ من قبح الكذب فيرجّح عليه ، ومسألة الأهمّ والمهمّ وترجيحه عليه من القواعد العقليّة العقلائيّة التي لا يعتريها ريب .

ورابعاً : أنّ المراد من الأتقى في الآية الشريفة: هي التقيّة من الله ـ تبارك وتعالى ـ التي يعبّر عنها في الشريعة بالتقوى التي حثّ عليها الكتاب والسُنّة ، وسيأتي(2) أنّها خارجة عن بحث التقيّة المبحوث عنها في الفقه .

الأمر الثالث : الاستدلال ببعض الروايات التي تدلّ على عدم جواز التقيّة في


(1) روح المعاني 3: 164.
(2) في ص19 و 22.

صفحه 12

المسح على الخفّين(1) .

وفيه : أنّ المسح على الخفّين ونظيره من موارد الاستثناء ، ونحن نقول أيضاً بعدم جريان التقيّة فيها .

الأمر الرابع : الاحتجاج بما رواه الكليني عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ أنزل على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كتاباً ، فقال جبرئيل : يا محمّد هذه وصيّتك إلى النجباء .

فقال : ومن النجباء؟

فقال : عليّ بن أبي طالب وولده(عليهم السلام)، وكان على الكتاب خواتم ـ إلى أن قال :ـ وفي الخاتم الخامس : وقل الحقّ في الأمن والخوف، ولا تخش إلاّ الله تعالى(2) .

وهذه الرواية صريحة بأنّ اُولئك الكرام ليس دينهم التقيّة، كما تزعمه الشيعة(3) .

وفيه : أنّ التقيّة ـ كما سيأتي(4) ـ مشروعة فيما إذا لم ينجرّ إلى الفساد في الدين ، وفي بعض الموارد يحتمل أنّ سكوت الإمام (عليه السلام) موجب لفساد الدين ، فيجب عليه إظهار الحقّ .

وبهذا البيان يظهر فساد ما قال أيضاً : لو كانت التقيّة واجبة لم يتوقّف إمام الأئمـّة عن بيعة خليفة المسلمين (5). فتدبّر في فساده .

فيا عجباً من هذه الاستدلالات الموهونة البعيدة عن المتفقّه، فضلاً عمّن يسمّى بـ «الفقيه» ، ومن الواضح: أنّ بُعد العامّة عن الفقه الأصيل هو السبب لهذه


(1) روح المعاني 3: 164.
(2) الكافي 1: 279 ـ 280 ح1 و 2.
(3) روح المعاني 3: 165.
(4) في ص29 ـ 31.
(5) روح المعاني 3: 166.

صفحه 13

الاحتجاجات .

وكيف كان، إنّ الشيخ الأعظم قد دقّق النظر وأتمّ الفكر في مبحث التقيّة(1) .

وأكثر ما يوجد في كتب الفقهاء المتأخّرين عنه من التحقيقات فيها قد اُخذت جذورها من كلماته ، سيّما مبحث الإجزاء ; فإنّه قد استدلّ بروايات معتبرة لم نرَ الاستدلال بها قبل الشيخ في كلمات من تعرّض لهذا البحث، كالمحقّق الثاني في رسالته(2)، والشهيد الأوّل في قواعده(3) .

وهذه الرسالة التي بين يديك كتبتها أداءً لبعض حقوقه الكثيرة على جميع المجتهدين، وإجابة لطلب بعض الأعزّاء الكرام من المسؤولين في المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئويّة الثانية لميلاد الشيخ الأعظم ، واُهديها إلى روحه الشريف، الذي يكون الاجتهاد مرهوناً له، والفقه موسّعاً ومُحقّقاً بتحقيقاته ، وأرجو من الله تعالى أن يتقبّلها بقبول حسن، ومن القرّاء الكرام أن ينظروا فيها بعين الدقّة والإغماض عن القصور. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (4) .

والبحث يقع هنا في فصول:


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 71 ـ 103.
(2) رسائل المحقّق الكركي 2: 51.
(3) القواعد والفوائد 2: 155 ـ 159، قاعدة 208.
(4) سورة فاطر 35: 10.

صفحه 14


صفحه 15

الفصل الأوّل :

كلمة التقيّة

وهي إمّا مأخوذة من الثلاثي المجرّد «تقى يتقي تقيّة»، وإمّا من الثلاثي المزيد «اتّقى يتّقي اتّقاء وتقيّة»، وعلى كلا التقديرين تكون مصدراً ، كما هو المستفاد من كلمات اللغويّين(1) ، وتكون بمعنى التحذّر والتحفّظ مطلقاً ، ولا يكون اسماً للمصدر، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2) . هذا بحسب اللغة .

وأمّا في اصطلاح الفقهاء : فقد عرّفه الشيخ الأعظم «بأنّها التحفّظ عن ضرر الغير في قول، أو فعل مخالف للحقّ»(3) .

وفي هذا التعريف قد اُخذ قيود ثلاثة :

الأوّل : التقييد بأنّ القول، أو الفعل لأجل التحفّظ عن ضرر الغير ; سواء كان ضرراً عاجلاً، أو آجلاً ، وسواء كان الضرر ماليّاً، أو عرضيّاً، أو نفسيّاً .

الثاني : الموافقة في مجرّد القول، أو العمل ، واحترز بهذا عن الموافقة بحسب الاعتقاد .


(1) مجمع البحرين 3: 1966، لسان العرب 6: 480.
(2 ، 3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 71.

صفحه 16

الثالث : تقييد القول والفعل بأنّهما مخالفان للحقّ .

وقد وقع الخلاف في القيد الأوّل والثالث ، فذهب جمع(1) إلى أنّ التقيّة إذا كانت خوفيّاً ، فمعناها التحفّظ لأجل دفع الضرر ، وهذا البيان لا يجري في التقيّة المداراتيّة المستفادة من بعض الروايات(2) التي لا يكون في مخالفتها ضرر، لا عاجلاً،ولا آجلاً .

وذهب بعض(3) إلى أنّ التقيّة أعمّ من أن يكون مخالفاً للحقّ، أو موافقاً له ، ففعل المنافقين في قبال المسلمين يكون من موارد التقيّة، ويصدق عليه عنوانها وإن كان موافقاً للحقّ .

وفيه: أنّ فعل المنافقين خارج عن التقيّة في اصطلاح الفقهاء ; فإنّهم في مقام بيان التقيّة التي ترتّب عليها أحكام خاصّة ; تكليفيّة ووضعيّة ، ولا يترتّب على فعلهم أثر من هذه الآثار .

وليعلم أنّ التقيّة بحسب الفقه دائرتها أوسع من التقيّة بحسب العقل ; فإنّها واجبة حتّى في صورة الأمن وعدم وجود المداراة أيضاً، كما ورد في المأثور : عليكم بالتقيّة; فإنّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره(4) ، ففي هذه الصورة تكون واجبة وإن لم يكن في البين خوف، أو مداراة، أو كتمان .


(1) لم نجده عاجلاً.
(2) وسائل الشيعة 16: 219 ـ 220، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26.
(3) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: 630.
(4) الأمالي للطوسي (رحمه الله) : 293 ح569، وعنه وسائل الشيعة 16: 212، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح29.

صفحه 17

الفصل الثاني : تقسيمات التقيّة

إنّ التقيّة لها جهات أربع تنقسم من كلّ جهة إلى أقسام :

الجهة الاُولى : التقيّة بحسب الذات تنقسم إلى الخوفي ، والمداراتي ، والإكراهي ، والكتماني .

والمراد من الخوفي أن يكون منشأ التقيّة هو الخوف من ضرر الغير; بأن يخاف إيصال الضرر إليه ; سواء كان الضرر على نفسه، أو عرضه، أو ماله، أو ما يتعلّق به .

والمراد من المداراتي أن يكون المطلوب فيها المداراة مع العامّة لأجل وحدة كلمة المسلمين، وجلب مودّتهم لأجل تقوية الدين .

والمراد من الإكراهي أن يكون منشأ التقيّة هو الإكراه من ناحية الغير ، وسيأتي(1) البحث في الفرق بين الإكراه والتقيّة فانتظر .

والمراد من الكتماني ; وهو الذي يكون واجباً لا لأجل التحفّظ عن ضرر الغير به، أو المداراة معه، أو إكراه منه ، بل لحفظ المذهب و التحفّظ عن إفشاء سرّ


(1) في ص31 ـ 34.

صفحه 18

أهل البيت(عليهم السلام) . وسيأتي(1) تفصيل هذه الأقسام في البحث عن أنواع التقيّة .

الجهة الثانية : تقسيمها بحسب المتّقي ; فإنّه قد يكون من العوامّ ، وقد يكون من رؤساء المذهب ، فقد يكون ارتكاب بعض الأعمال الصادرة من الشخصيّات البارزة الدينيّة موجباً لهتك حرمة المذهب، ووهن عقائد المسلمين .

الجهة الثالثة : التقسيم بحسب المتّقى منه ; فإنّه قد يكون من الكفّار ، وقد يكون من سلاطين العامّة ، كما أنّه يمكن أن يكون سلطاناً شيعيّاً، أو قاضياً كذلك ، وقد يكون من العوامّ ، ويمكن أن يكون من الله سبحانه وتعالى ، وسيأتي المراد منه .

الجهة الرابعة : تقسيمها بحسب المتّقى فيه ، فهو إمّا أن يكون حكماً شرعيّاً ، وإمّا أن يكون موضوعاً خارجيّاً ، والأوّل قد يكون فعلاً محرّماً ، وقد يكون تركاً للواجب; وهو: إمّا أن يكون تركاً لأصل الواجب ، أو يكون تركاً للجزء، أو الشرط ، وقد يكون إتياناً للمانع، أو القاطع .

والتقسيم بحسب الجهات الأربعة من أشعّة أضواء فكر الإمام الخميني (قدس سره) ، على ما جاء في رسالته فيها(2) .

وهاهنا تقسيم جاء في كلمات السيّد الخوئي (قدس سره) ; فإنّه قال : إنّها تنقسم إلى أقسام ثلاثة :

الأوّل : قد يراد بها المعنى العامّ; وهو التحفّظ عمّا يخاف ضرره ولو في الاُمور التكوينيّة ، كما إذا اتّقى من الداء بشرب الدواء .

الثاني : قد يراد بها المعنى الخاصّ ; وهي التقيّة المصطلح عليها ; أعني التقيّة من العامّة .

الثالث : التقيّة من الله سبحانه وتعالى; وهي مساوق لإتيان الواجبات وترك


(1) في ص43 ـ 49.
(2) الرسائل، رسالة في التقيّة 2 : 174 ـ 175.

صفحه 19

المحرّمات ، وليس لها حكم شرعيّ ، بل العقل يحكم بوجوبها(1) .

النتيجة :

فالمستفاد من مجموع الكلمات ـ بعد خروج التقيّة في التكوينيّات والتقيّة من الله ـ تبارك وتعالى ـ عن محلّ الكلام ; لعدم شمول تعريفها لهما ـ أنّها تنقسم إلى التقيّة بالمعنى الأخصّ ; وهي التقيّة عن العامّة فيما يرتبط بالمذهب ; وهي المبحوث عنها في الفقه ، وإلى التقيّة بالمعنى الأعمّ ; وهي التقيّة من العامّة وغيرهم لأجل الاضطرار والخوف في التشريعيّات . والأوّل ينقسم إلى الخوفي، والمداراتي والإكراهي، والكتماني .

وجوه الفرق بين التقيّة بالمعنى الأخصّ، والتقيّة بالمعنى الأعمّ

الأوّل : مدرك التقيّة من العامّة ـ مضافاً، إلى العقل في بعض أقسامها ـ هي الروايات الواردة في موردها(2) . بينما أنّ المدرك في التقيّة بالمعنى العامّ منحصر في العقل ; فإنّه يحكم بلزوم رعاية التقيّة في موارد الضرر ، ولهذا يكون تقسيمها إلى الأحكام الخمسة على وفق القاعدة ، فتدبّر .

الثاني : أنّ الملاك في التقيّة من العامّة ، هو الملاك الذي ذكر في الروايات من الخوف، والمداراة، والكتمان، والإكراه ، مع أنّ الملاك في الثاني منحصر في الخوف فقط .

الثالث : أنّ التقيّة بالمعنى الأخصّ قد يكون مطلوباً بالذات ، كالتقيّة الكتمانيّة ،


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 221 .
(2) وسائل الشيعة 16 : 203 ـ 221 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24ـ27.

صفحه 20

وقد يكون مطلوباً بالغير ، كالتقيّة الخوفيّة ، بينما أنّ التقيّة بالمعنى العامّ يكون مطلوباً بالغير دائماً، ومقدّمةً للتحفّظ عن الضرر .

الرابع : يمكن أن يقال بجريان قاعدة التزاحم في التقيّة بالمعنى الأعمّ في جميع مواردها ، وعدم جريان القاعدة في جميع موارد التقيّة بالمعنى الأخصّ ، بل في بعضها على ما سيأتي(1) .

ثمّ اعلم أنّ كلمات الشيخ الأعظم (قدس سره) مضطربة جدّاً ، ولا يستفاد منها أنّه في مقام البحث عن أيّ قسم من هذين القسمين ، لكن يستفاد من بعض كلماته أنّه في مقام البحث عن التقيّة بالمعنى الأخصّ ، كتمثيله بالمداراة مع العامّة والعشرة معهم ، وكذا الفرق الذي ذكره بين الأقسام الخمسة وقال : يكتفى في التقيّة غير الواجبة بالموارد التي ذكرت في الروايات ، ويستفاد من المثال الذي ذكر للتقيّة المباحة والمكروهة أنّه في مقام البحث عن التقيّة بالمعنى الأعم(2) ، فتدبّر في كلماته (قدس سره) .


(1) في ص21 ـ 23.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 73 ـ 75.

صفحه 21

الفصل الثالث :


التقيّة بحسب الحكم التكليفي

بناءً على ما سلكنا سابقاً(1) ، يجب البحث عن جريان الأحكام الخمسة التكليفيّة في التقيّة بالمعنى الأعمّ ، والمعنى الأخصّ .

أمّا جريانها في التقيّة بالمعنى الأعمّ، فيتصوّر فيها جريان جميع الأحكام الخمسة : فقد تكون واجبة ، كما إذا كان ترك التقيّة مستلزماً لقتل نفسه ، كما في إظهار الكفر إذا كان تركه مستلزماً لذلك ، وقد تكون محرّمة وهي على نوعين :

النوع الأوّل: حرمة تشريعيّة ; وهي التي كان منشأ الحرمة فيها التشريع ، كما إذا أجبره الحاكم على الاقتداء خلف الفاسق ، فيصلّي الشخص خلفه، لكن مع نيّة التقرّب ، وهذا حرام ; لأنّ الصلاة خلف الفاسق لا يكون مقرّباً ، ونيّة التقرّب بهذا العمل يكون تشريعاً .

والنوع الثاني: الحرمة الذاتيّة ، كما إذا أجبره الحاكم على قتل نفس محترمة ، فلو فعل وقتل تقيّة لكانت حراماً بالحرمة الذاتيّة .

وقد مثّل الشهيد الأوّل (قدس سره) للتقيّة المحرّمة بالتقيّة التي لم يكن في موردها


(1) في ص10.

صفحه 22

ضرر عاجلاً، ولا آجلاً(1) .

وأورد عليه السيّد الخوئي(2) بأنّ هذا المورد خارج عن موضوع التقيّة ; فإنّ الملاك في التقيّة بالمعنى العامّ خوف الضرر، فلا تتّصف بالحرمة مع عدم وجود الضرر .

وأمّا التقيّة المستحبّة، فقد مثّل لها الشيخ الأعظم بالمداراة مع العامّة، وجلب مودّتهم، والحضور في مجالسهم (3).

وأورد عليه السيّد الخوئي بنفس الإيراد السابق ، ثمّ قال : إنّ التقيّة كالعدالة ذات مراتب متعدّدة ، والاستحباب إنّما يتصوّر بالنسبة إلى الدرجة الشديدة منها ، ثمّ استشهد بقوله ـ تعالى ـ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَ ـ ـكُمْ) (4); بمعنى أشدّكم تقيّة(5) .

وفيه: أنّ قياس التقيّة بالعدالة غير صحيح جدّاً ; لأنّ التقيّة إمّا أن تتحقّق في الخارج، وإمّا أن لا تتحقّق ، بخلاف العدالة ; لأنّها يمكن أن تتحقّق في الإنسان على نحو متوسّط ، ويمكن أن يحصل على نحو شديد .

وأمّا ما استشهد به، ففساده واضح ; لأنّ التقيّة المذكورة في الآية هي التقيّة من الله تبارك وتعالى ، ولها مراتب متعدّدة ، بل هي عين العدالة .

وقد قلنا سابقاً(6) بخروج هذا النوع من التقيّة عن محلّ الكلام ، فالقول بوجود المراتب للتقيّة من غير الله يلزم أن تتّقى منه، فاتّق .


(1) القواعد والفوائد 2: 158، قاعدة 208.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 224.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 75.
(4) سورة الحجرات 49: 13.
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 225.
(6) في ص11 و 19.

صفحه 23

والمثال الصحيح للتقيّة المستحبّة إنّما هو فيما لو كانت التقيّة في مورد أرجح من تركها ، كما إذا اُكره على البراءة من أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ، فالبراءة تقيّةً ـ بناءً على جريان التقيّة في التبرّي ـ أرجح من تركها وتعريض نفسه على القتل .

ومن هذا البيان يظهر المثال للتقيّة المكروهة، فلو كان ترك التقيّة أرجح من التقيّة ، كما إذا فرضنا أنّ تعريض النفس على الهلاك أرجح من التبرّىء ، لكان التبرّىء تقيّةً مكروهاً ، ولو لم يرجّح أحدهما على الآخر لكانت التقيّة مباحة .

هذا كلّه في جريان الأحكام الخمسة في التقيّة بالمعنى الأعمّ . وأمّا جريانها في التقيّة بالمعنى الأخصّ ، فالمستفاد من الروايات(1) أنّ هذا النوع من التقيّة إمّا واجبة، وإمّا مستحبّة ، ولا تنقسم إلى الأقسام الاُخر من المباحة، والمحرّمة، والمكروهة .


(1) وسائل الشيعة 16: 203 ـ 214 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أبواب الأمر والنهي ب24.

صفحه 24

الفصل الرابع :


أدلّة التقيّة بالمعنى الأخصّ والأعمّ

أمّا الاُولى : فهي الروايات الواردة في المقام ، وسنذكرها جميعاً في طيّ المباحث الآتية ، فانتظر .

وأمّا الثانية : فمضافاً إلى كونها من الاُمور الضروريّة العقلائيّة، تدلّ عليها آيات متعدّدة :

1 ـ قوله ـ تعالى ـ : (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْء إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَــاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (1)، والتقاة بمعنى التقيّة، وأصلها وُقَيَةً .

قال الطبرسي : والمعنى: إلاّ أن يكون الكفّار غالبين، والمؤمنون مغلوبين ، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يُحسن العِشرة معهم ، فعند ذلك يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه، ومداراتهم تقيّةً منه، ودفعاً عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك . وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس ، وقال


(1) سورة آل عمران 3 : 28 .

صفحه 26

أصحابنا : إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح(1) .

وقال شهاب الدين الآلوسي في تفسيره : وفي الآية دليل على مشروعيّة التقيّة(2) .

وقال القرطبي : قال ابن عبّاس : هو أن يتكلّم بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان، ولا يُقتل ولا يأتي مأثماً . وقال الحسن : التقيّة جائزة للإنسان إلى يوم القيامة(3) .

وقال الفخر الرازي في تفسيره : إنّ هذا القول أولى; لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان(4).

فالآية تدلّ على مشروعيّة التقيّة وجواز استعمالها في الدين .

2 ـ قوله ـ تعالى ـ : ( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَـنِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَـئـِنُّ بِالاِْيمَـنِ وَ لَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (5)، واختلف المفسّرون في أنّ الآية فيمن نزلت ؟ والأشهر الأصحّ بحسب الروايات الواردة أنّها نزلت في عمّار وأصحابه(6) ، حيث أخذهم الكفّار وأكرهوهم على كلمة الكفر، فلم يعطهم أبو عمّار واُمّه فقتلا ، وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، فأخبر سبحانه وتعالى بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) (7) .

وكيف كان، فالآية دالّة على مشروعية التقيّة بإظهار كلمة الكفر عند


(1) مجمع البيان 2 : 272 .
(2) روح المعاني 3 : 161 .
(3) الجامع لأحكام القرآن : 4 : 57 .
(4) التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 194.
(5) سورة النحل 16 : 106 .
(6) وسائل الشيعة 16: 225 ـ 230 ، كتاب الأمر والنهي ، أبواب الأمر والنهي ب29.
(7) مجمع البيان 6 : 191.

صفحه 27

الضرورة . والآية وإن كانت في مورد الإكراه ، إلاّ أنّه سيأتي(1) عدم الفرق موضوعاً بين التقيّة والإكراه، وأنّ من مصاديقها التقيّة الإكراهيّة; بمعنى التقيّة التي يكون منشؤها الإكراه .

3 ـ قوله ـ تعالى ـ : ( وَ قَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـنَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَـتِ مِن رَّبِّكُمْ) (2). فالآية دالّة على جواز كتمان الإيمان عند الخوف على النفس ، ولا ريب أنّ كتمان الإيمان لا يتحقّق عادة إلاّ بإظهار خلافه، والاشتراك مع الكفّار في بعض أعمالهم، وترك وظائف المؤمنين ، فينطبق على عمله عنوان التقيّة .

فهذه الآيات تدلّ على مشروعيّة التقيّة بالمعنى الأعمّ، عند الخوف من الكفّار وغيرهم .


(1) في ص31 ـ 34.
(2) سورة غافر 40 : 28 .

صفحه 28

الفصل الخامس :


الموارد التي لا تكون التقيّة مشروعة فيه

قد استثني في كلمات الفقهاء أربعة موارد ، وعلى حسب تجزئتنا يكون بعضها مستثنى من التقيّة بالمعنى الأخصّ فقط ، وبعضها مشتركة يستثنى منها بالمعنى الأخصّ والأعمّ معاً .

المورد الأوّل : وهو من الموارد المشتركة بينهما; وهو فيما إذا كانت التقيّة موهنة للمذهب، أو لاُصول الأحكام، وموجبة لفساد الدين ، وبعبارة اُخرى: كانت سبباً لتحقّق المعاصي الكبيرة التي لا يرضى الشارع بتحقّقها ولو بنحو التقيّة ، كهدم الكعبة والمشاهد المشرّفة، وتفسير باطل لكلام الله تبارك وتعالى ، ففي هذه الموارد لا تكون التقيّة مشروعة بوجه . ويستدلّ على ذلك بأدلّة :

الدليل الأوّل : أنّ تقدّم أدلّة التقيّة على أدلّة سائر الواجبات والمحرّمات من باب الحكومة ; وهي ممنوعة في الموارد التي تكون سبباً لوهن المذهب، وموجباً لفساد الدين; فإنّ أدلّة التقيّة وإن كانت ناظرة إلى مثل دليل الصلاة وغيرها ، ولكن لاتكون ناظرة إلى مثل هذه المحرّمات العظيمة .

الدليل الثاني : أنّه لو فرضنا شمول أدلّة التقيّة بالنسبة إلى جميع الموارد ، فمن


صفحه 30

الواضح انصراف الاطلاقات إلى الموارد التي لا تكون موجبة لفساد الدين .

ولا يخفى أنّ هذين الدليلين تامّان بالنسبة إلى التقيّة بالمعنى الأخصّ ، وقاصران عن التقيّة بالمعنى الأعمّ .

الدليل الثالث : وهو المختصّ بالتقيّة بالمعنى الأعمّ ، وقد قلنا سابقاً(1) بجريان قواعد التزاحم فيها ، ومن البديهي أنّ حفظ الدين أهمّ بمراتب من التقيّة .

الدليل الرابع : ما جاء في بعض الروايات المعتبرة من أنّ التقيّة إذا كانت مستلزمة لفساد الدين فغير جائزة :

1 ـ ما عن عليّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وفيه : وتفسير ما يتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين; فإنّه جائز(2) .

والرواية معتبرة سنداً ; فإنّ مسعدة بن صدقة وإن لم يكن في مورده توثيق خاصّ، لكن روايته معتبرة من جهتين :

الجهة الاُولى : أنّ له توثيقاً عامّاً; لوجوده في أسناد كتاب كامل الزيارات وتفسير عليّ بن إبراهيم(3) ، وهذا المقدار يكفي في الوثاقة مالم يكن في مقابله تضعيف خاصّ معتبر .

الجهة الثانية : أنّ ما رواه مطابق من جهة المضمون والمدلول لما جاء في الروايات الصحيحة ، فالرواية تامّة من حيث السند . وأمّا وجه الدلالة; فإنّ فيها ضابطة كلّية لموارد التقيّة، فقد حدّد الإمام (عليه السلام) مشروعيّتها بما إذا لم يؤدّي إلى الفساد


(1) في ص20 و 21 ـ 23.
(2) الكافي 2: 168 ح1 ، وعنه وسائل الشيعة 16: 216 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب 25 ح6 .
(3) كامل الزيارات، مقدّمة المؤلّف: 37، تفسير القمّي، مقدّمة الكتاب: 4.

صفحه 31

في الدين .

2 ـ ما عن الشيخ الطوسي بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن يعقوب يعني ابن يزيد ، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن شعيب العقرقوفي ، عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد الله (عليه السلام) : وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم : لانفعل إنّما نتّقي ، ولكانت التقيّة أحبّ إليكم من آبائكم واُمّهاتكم(1) .

والمستفاد منها: أنّ التقيّة غير مشروعة فيما إذا وجبت نصرة الإمام (عليه السلام) ; فإنّ نصرته من أعظم الفرائض ، والتقيّة إن كانت مؤدّية إلى عدم نصرته فغير جائزة .

المورد الثاني : وهو أيضاً من الموارد المشتركة في مسألة الدماء ; فإنّ التقيّة مشروعة فيما إذا لم تبلغ الدم ، فإذا بلغ فلا تقيّة ، فلو اُكره شخص على قتل نفس محترمة لكان القتل من جهة التقيّة غير مشروعة .

والدليل عليه ـ مضافاً إلى أنّه ادّعى ابن ادريس عدم الخلاف في ذلك(2) ـ رواية محمّد بن يعقوب ، عن أبي عليّ الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن شعيب الحدّاد ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة(3) .

والرواية صريحة في عدم مشروعيّة التقيّة فيما إذا بلغ الدم . وهنا إشكال يجب طرحه والجواب عنه ، وهو: أنّ المثال في هذا المورد منحصر بمسألة الإكراه ، بينما أنّ بين التقيّة والإكراه فرقاً من وجوه مختلفة :

الوجه الأوّل : من جهة التعريف ; فإنّ تعريف التقيّة على ما جاء في رواية


(1) تهذيب الأحكام 6: 172 ح335، وعنه وسائل الشيعة 16: 234، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب31 ح2.
(2) السرائر 2: 203.
(3) الكافي 2: 220 ح16، المحاسن 1: 404 ح914، وعنهما وسائل الشيعة 16: 234، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب31 ح1.

صفحه 32

مسعدة: أن يكون قوم سوء ظاهر فعلهم وحكمهم على خلاف حكم الحقّ ، والتحفّظ عن القوم بإتيان الفعل الموافق لمذهبهم يكون تقيّة . وأمّا تعريف الإكراه: أن يكره شخص على إتيان فعل ومع التوعيد على تركه ، فالإكراه أمر إضافيّ فيما بين المكرِه والمكرَه والمكرَه عليه مع وجود التوعيد على ترك المكرَه عليه ، بخلاف التقيّة الخالية عن التوعيد والمكرِه (بالكسر) .

الوجه الثاني : أنّ التقيّة تصلح لأن تكون متعلّقة للحكم الشرعيّ، كالوجوب والاستحباب ، بخلاف الإكراه ، فلا يقال : إنّ العمل المكرَه عليه واجب أو مستحبّ ، بل غايته أنّ الإكراه يرفع الحكم الإلزاميّ المتعلّق به; وهي الحرمة .

الوجه الثالث : الفرق بينهما من جهة المتعلّق ; فإنّ التقيّة مشروعة لحفظ الدم; من دون فرق بين دم المتّقي ودم غيره ، بخلاف الإكراه ; فإنّ النظر فيه إلى نفس المكرَه فقط .

وبعد هذه الأوجه الثلاثة لا يصحّ أن يقال: إنّ مورد الروايات ـ التي تدلّ على عدم مشروعيّة التقيّة في الدم ـ هو الإكراه، كما مال إليه جمع(1) .

وقد أجاب عن هذا الإشكال السيّد الإمام الخميني (قدس سره) بالأجوبة الثلاثة :

الجواب الأوّل : أنّ التقيّة أعمّ من الإكراه من حيث اللغة ، فالتقيّة فيها عبارة عن مطلق الاجتناب والتجنّب ، والتجنّب عن المكرَه عليه من مصاديق التجنّب المطلق ، فعلى هذا يكون الإكراه من مصاديق التقيّة . واللازم حمل كلمة التقيّة في الروايات على التقيّة بالمعنى اللغوي . وأمّا ما جاء في رواية مسعدة المتقدِّمة في تفسير التقيّة; فإنّه في مقام بيان المصداق لها ، وليس في مقام بيان حقيقتها .

الجواب الثاني : يستفاد من بعض الروايات عدم الفرق بين التقيّة والإكراه :

1 ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل ، عن محمّد بن


(1) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 97، رياض المسائل 80 : 108 ـ 109، مفتاح الكرامة 12: 377ـ 383.

صفحه 33

مروان، قال: قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) : مامنع ميثم رحمه الله من التقيّة؟ فوالله لقد علم أنّ هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَـئـِنُّ بِالاِْيمَـنِ) (1)،(2)والرواية وإن كانت ضعيفة لمجهوليّة محمّد بن مروان ، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) استشهد لجواز التقيّة بآية الإكراه، فهي تدلّ على عدم الفرق بين الإكراه والتقيّة .

2 ـ رواية درست الواسطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ما بلغت تقيّة أحد مابلغت تقيّة أصحاب الكهف ، إنّهم كانوا يشدّون الزنانير، ويشهدون الأعياد ، فآتاهم الله أجرهم مرّتين(3).

فهذه الرواية بضميمة رواية عبد الله بن يحيى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه ذكر أصحاب الكهف فقال : لو كلّفكم قومكم ما كلّفهم قومهم، فقيل له : وما كلّفهم قومهم؟ فقال : كلّفوهم الشرك بالله العظيم، فأظهروا لهم الشرك، وأسرّوا الإيمان حتّى جاءهم الفرج(4) تدلاّن على أنّ الإكراه من مصاديق التقيّة ; فإنّ أصحاب الكهف قد اُكرهوا وكلّفوا الشرك بالله ، وقد سمّى الإمام الصادق (عليه السلام) هذا الإكراه بالتقيّة ، فتدبّر .

3 ـ التعبيرات العامّة الواردة في روايات التقيّة، كقوله (عليه السلام) :

التقيّة في كلّ ضرورة(5) ، أو التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله


(1) سورة النحل 16: 106.
(2) الكافي 2 : 220 ح15، وعنه وسائل الشيعة 16 : 226، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29 ح3.
(3) تفسير العيّاشي 2 : 323 ح9، الكافي 2 : 218 ح8 ، وعنهما وسائل الشيعة 16: 230، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أبواب الأمر والنهي ب29 ح15 وص219 ب26 ح1.
(4) تفسير العيّاشي 2 : 323 ح8 ، وعنه وسائل الشيعة 16 : 230، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29 ح14.
(5) الكافي 2 : 219 ح13، المحاسن 1 : 403 ح911، الفقيه 3 : 230 ح1084، وعنها وسائل الشيعة 16: 214 و217، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح1 و 8 ، وج23 : 225 ، كتاب الأيمان ب12 ح7 ، وفي بحار الأنوار 75 : 399 ح33 عن المحاسن.

صفحه 34

له(1) ، ولا شكّ في أنّ الإكراه من مصاديق الضرورة والاضطرار .

الجواب الثالث : لو أغمضنا عن الجواب الأوّل والثاني، وقلنا بوجوب الفرق الموضوعي بين التقيّة والإكراه ، نقول بأنّ الإكراه ملحق بالتقيّة من حيث الحكم ، والشاهد للإلحاق قوله (عليه السلام) في رواية بكر بن محمّد : إنّ التقيّة ترس المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقيّة له ، فقلت له : جُعلت فداك ، قول الله ـ تبارك وتعالىـ : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَـئـِنُّ بِالاِْيمَـنِ) ، قال : وهل التقيّة إلاّ هذا(2) .

فهذه الرواية دالّة على اتّحاد التقيّة مع الإكراه من حيث الموضوع ، ولا أقلّ من حيث الحكم ، فكما أنّ التقيّة غير مشروعة فيما إذا بلغ الدم، فكذلك الإكراه(3) ، انتهى خلاصة ما ذكره السيّد الإمام .

وهذا البيان وإن كان متيناً ودقيقاً ، إلاّ أنّه لا ينحلّ به ما ذكره المستشكل في الوجه الثاني ، فتدبّر .

والتحقيق أن يقال : إنّ الإكراه من مصاديق التقيّة بالمعنى الأعمّ ، ويختلف الإكراه عن التقيّة بالمعنى الأخصّ في التعريف، والغاية، والموضوع، والحكم .

وبهذا البيان تظهر المناقشة فيما ذكره (قدس سره) من أنّ الروايات في مقام بيان مصداق التقيّة ; فإنّ رواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة صريحة في مقام تفسير التقيّة بالمعنى


(1) الكافي 2 : 220 ح18، المحاسن 1 : 404 ح912، وعنهما وسائل الشيعة 16 : 214، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح2.
وفي بحار الأنوار 62 : 82 ح2 وج65 : 157 ح32 وج 75 : 399 ح34 عن المحاسن.
(2) قرب الإسناد: 35 ح114 ، وعنه وسائل الشيعة 16 : 227، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29 ح6 ، وبحار الأنوار 75 : 394 ح6.
(3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني (رحمه الله) 2 : 225 ـ 227.

صفحه 35

الأخصّ ، فتدبّر .

المورد الثالث : وهو المستثنى من التقيّة بالمعنى الأخصّ فقط، ولا يرتبط بالتقيّة بالمعنى الأعمّ ، وهو أنّه قد يقال بعدم جريان التقيّة في الاُمور الخمسة : المسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ ، وشرب المسكر ، وشرب النبيذ ، والجهر بـ «بسم الله» . وبما أنّ المدرك في التقيّة بالمعنى الأخصّ هي الروايات الموجودة ، فيجب الفحص عمّا ورد في الروايات .

فنقول : إنّ هناك طائفتين من الروايات .

الطائفة الاُولى : ما دلّ بظاهره على عدم جريان التقيّة في هذه الاُمور :

1 ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عمر الأعجمي (ابن عمر الأعجمي خ ل)، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أنّه قال : لا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء إلاّ في النبيذ والمسح على الخفّين(1) .

2 ـ عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له : في مسح الخفّين تقيّة؟ فقال : ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحداً : شرب المسكر ، ومسح الخّفين ،ومتعة الحجّ . قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً(2) .

3 ـ عن أبي عليّ الأشعري ، عن الحسن بن عليّ الكوفي ، عن عثمان بن عيسى ،


(1) تأتي بتمامها في ص64.
(2) الكافي 3 : 32 ح2، تهذيب الأحكام 1 : 362 ح1093، الاستبصار 1 : 76 ح237، وعنها وسائل الشيعة: 1 : 457، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب38 ح1 ، وج16 : 215، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح5.
وروى صدره في ج25: 350، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب22 ح1 عن الكافي 6: 415 ح12 ، وتهذيب الأحكام 9: 114 ح495.

صفحه 36

عن سعيد بن يسار قال : قال أبو عبد لله (عليه السلام) : ليس في شرب النبيذ تقيّة(1) .

4 ـ في الخصال بسنده عن عليّ (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال : ليس في شرب المسكر والمسح على الخفّين تقيّة(2) .

الطائفة الثانية : ما دلّ بظاهره على جريان التقيّة في هذه الاُمور :

1 ـ محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن حمّاد بن عثمان ، عن محمّد بن النعمان ، عن أبي الورد قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليّاً (عليه السلام) أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين؟ فقال : كذب أبو ظبيان، أما بلغك قول عليّ (عليه السلام) فيكم: سبق الكتاب الخفّين ، فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : لا ، الاّ من عدوّ تتّقيه ، أو ثلج تخاف على رجليك(3) .

2 ـ محمّد بن عمر الكشّي في كتاب الرجال ، عن نصر بن الصباح ، عن إسحاق بن يزيد بن محمّد البصري ، عن جعفر بن محمّد بن الفضل (الفضيل خ ل) ، عن محمّد بن عليّ الهمداني ، عن درست بن أبي منصور قال : كنت عند أبي الحسن موسى (عليه السلام) وعنده الكميت بن زيد، فقال للكميت : أنت الذي تقول :

فالآن صرت إلى اُميّـ *** ـة والاُمور «لها» إلى مصائر ؟

قال : قلت ذاك والله ما رجعت عن إيماني ، وإنّي لكم لموال، ولعدوّكم لقال ، ولكنّي قلته على التقيّة، قال : أما لئن قلت ذلك إنّ التقيّة تجوز في شرب الخمر(4) .


(1) الكافي 6: 414 ح11، تهذيب الأحكام 9: 114 ح494، وعنهما وسائل الشيعة 25: 351 ، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب22 ح2.
(2) الخصال: 614، وعنه وسائل الشيعة 1: 461، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب38 ح18.
(3) تهذيب الأحكام 1: 362 ح1092، الاستبصار 1: 76 ح236، وعنهما وسائل الشيعة 1: 458، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب38 ح5.
(4) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي»: 207 ح364، وعنه وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح7.

صفحه 37

وفي تفسيرها احتمالان :

الأوّل : أنّ المراد بقوله (عليه السلام) : «لئن قلت ذلك» الخ ، أنّ هذا الشعر من باب الجواز، كما أنّ شرب الخمر جائز من باب التقيّة ، وعلى هذا التفسير تكون الرواية من الطائفة الثانية .

الثاني : أنّ الإمام (عليه السلام) لم يقبل عذر الكميت، بل قال في ردّ عذره : إنّ التقيّةإن كانت واسعة بهذا المقدار حتّى يجوز الشعر في مدح بني اُميّة، لكانت مجوِّزة لشرب الخمر مع عدم جوازه ولوتقيّة ، وعلى هذا الاحتمال تكون من الطائفة الاُولى .

3 ـ عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن يونس بن يعقوب ، عن عمرو بن مروان قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : إنّ هؤلاء ربما حضرت معهم العشاء، فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك ، فإن لم أشربه خفت أن يقولوا: فلانيٌ، فكيف أصنع؟ فقال : اكسره بالماء . قلت : فإن أنا كسرته بالماء أشربه؟ قال : لا(1) .

فهذه الطائفة تدلّ على جريان التقيّة في الاُمور المذكورة ، فيقع التعارض بحسب الظاهر بين الطائفتين ، وقد ذكر للجمع بينهما طرق مختلفة .

الطريق الأوّل : أن يقال(2) : إنّ عدم جريان التقيّة في الاُمور المذكورة من اختصاصات الأئمـّة المعصومين(عليهم السلام)، والطائفة الاُولى ناظرة إلى هذا المطلب ، والشاهد على ذلك التعبير بصيغة المتكلّم وحده ، أعني «لا أتّقي»، ولأجل هذا التعبير فهم زرارة اختصاص الحكم بالإمام (عليه السلام) .

ويرد على هذا أوّلاً : قد وردت في بعض النسخ بصيغة المتكلّم مع الغير ، أو


(1) الكافي 6 : 410 ح13، وعنه وسائل الشيعة 25: 351 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ب 22 ح4 .
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 215 و 219.

صفحه 38

بصيغة المضارع المجهول .

وثانياً :أنّ زرارةوإن فهم الاختصاص من كلام الإمام (عليه السلام) ،لكن فهمه ليس بحجّة .

وثالثاً : أنّ الاختصاص يحتاج إلى وجه معقول ، وما هو الفارق بين التكتّف والمسح على الخفّين حتّى يقال باختصاص الثاني بالإمام (عليه السلام) ، وعدم اختصاص الأوّل؟ . والظاهر عدم وجود الوجه للاختصاص عدا وجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الأئمـّة(عليهم السلام) من شؤونهم الإفتاء، كسائر فقهاء العامّة ، والسلاطين في زمانهم لا يمنعونهم عن الإفتاء، بل يمنعون الناس عن الاجتماع حولهم ، فالروايات الدالّة على عدم جواز التقيّة في هذه الموارد بصدد بيان الفتوى من جانب الأئمـّة(عليهم السلام) .

الوجه الثاني : أنّ فتوى الأئمـّة(عليهم السلام) في عدم جواز المسح على الخفّين ، ومتعة الحجّ ، وعدم جواز شرب المسكر كان أمراً واضحاً بين الناس ، فلا معنى للتقيّة في ذلك .

وكلا الوجهين مخدوشان . أمّا الأوّل; فلمنافاته لظاهر الروايات ; فإنّها ظاهرة في عدم جريان التقيّة فيها بعد كون الاُمور المذكورة مفروغاً عنها من جهة الفتوى ، وأمّا الثاني; فلأنّ وضوح الفتوى بين الناس كيف يكون موجباً لاختصاص عدم التقيّة بالأئمّة(عليهم السلام)؟ بل على هذا يلزم عدم مشروعيّة التقيّة للجميع ; من دون فرق بين الإمام (عليه السلام) وغيره .

فالطريق الأوّل للجمع غير صحيح لما عرفت .

الطريق الثاني : ما ذهب إليه السيّد الخوئي (قدس سره) ; من أنّ خروج هذه الموارد لا يكون خروجاً حكميّاً ، بل من باب التخصّص والخروج الموضوعي ; فإنّ التقيّة منتفية فيها شرطاً، أو موضوعاً ، وقد يقرّب بتقريبين :


صفحه 39

التقريب الأوّل : أنّه في جميع هذه الموارد يمكن التخلّص عن التقيّة دائماً ، فبهذا اللحاظ لا تجري التقيّة فيها.

وفيه: أنّ هذا مبنيّ على شرطيّة عدم المندوحة، مع ذهاب المشهور(1) إلى عدم اعتباره .

التقريب الثاني : أنّ التقيّة تتحقّق في العمل الذي قد أفتى علماء العامّةعلى وفق ذاك العمل على خلاف مذهب الإماميّة ، مع أنّه لم يفت أحد من علمائهم بجواز شرب الخمر . نعم، يمكن جريان الإكراه والإجبار فيه ، لكن هذا أمر آخرغير التقيّة; فلا معنى للتقيّة المصطلحة في شرب الخمر ; فإنّها إنّما تتحقّق فيماإذا كان الأمر على خلاف مذهبهم . أمّا مع الموافقة فلا موضوع للتقيّة.

هذا بالنسبة إلى شرب الخمر . وأمّا علّة عدم جريان التقيّة في متعة الحج; فلعدم وجود شرط التقيّة فيها ; فإنّ من شرائطها خوف ترتّب الضرر على خلافها مع إمكان تحقّق حجّ التمتّع من دون خوف الضرر ; فإنّ حجّ التمتّع يكون في الظاهر كحجّ القران إلاّ في النيّة والتقصير ، والأوّل أمر قلبيّ لا يجري فيه التقيّة ، والثاني يمكن أن يفعل في الخفاء .

وأمّا عدم جريانها في المسح على الخفّين، فلعدم وجود إجماع بينهم فيه ، بل أكثرهم قائلون بالتخيير بين المسح على الخفّفين وغسل الرجلين ، وجريان التقيّة في غسل الرجلين إجماعيّ بيننا ، فلا موضوع للتقيّة في المسح على الخفّين (2).

ويرد على هذا التقريب:

أوّلاً : أنّ هذا البيان مخالف لظاهر الروايات ; فإنّ لسانها ظاهر في الخروج الحكمي لا الموضوعي .


(1) البيان للشهيد الأوّل: 48، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 1: 112، جامع المقاصد 1: 222، مفتاح الكرامة 2: 448، رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 81 .
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 219 ـ 220.

صفحه 40

وثانياً : أنّ الخروج الموضوعي كيف يجري في الجهر بـ «بسم الله» ؟ فإنّ فقهاء العامّة قائلون بعدم جواز قراءة البسلمة، ولا أقل كراهة قراءتها ، والظاهر أنّه ليس أحد منهم يفتي بالجهر حتّى ينتفي موضوع التقيّة .

الطريق الثالث : ما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني(1); من أنّ المراد من عدمجريان التقيّة ـ في شرب المسكر، والمسح على الخفّين، ومتعة الحجّ ـ عدم جريانها من حيث التقيّة المداراتيّة . وأمّا التقيّة الخوفيّة فيجري فيها .

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ كلمة التقيّة عند الاستعمال مطلقاً تنصرف إلى التقيّة الخوفيّة . وأمّا التقيّة المداراتيّة، فتحتاج إلى قرينة زائدة .

وثانياً : أنّه قد ذكر في بعض هذه الروايات أنّه «لا دين لمن لا تقيّة له»(2). والالتزام بأنّ ترك التقيّة المداراتيّة موجب للخروج عن الدين مشكل جدّاً ، سيّما على القول باستحباب المداراة مع العامّة ، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم(3) .

الطريق الرابع : ـ وهو الطريق الصحيح الذي اخترناه، ولم يذكر في كلمات القوم ـ أن نقول : إنّ جريان التقيّة في شرب الخمر، والمسح على الخفّين، ومتعة الحجّ يؤدّي إلى الفساد في الدين، والمخالفة مع ما جاء في الكتاب العزيز، وعلى هذا يكون وزان هذه الروايات وزان الروايات التي قد حدّد جريان التقيّة بما لا يؤدّي إلى الفساد في الدين .

بيان ذلك : أنّ المراد من الدين ليس خصوص الاعتقادات ، بل المراد ما يرتبط بالدين وما يكون من الدين قطعاً ، ومن الواضح أنّ ما جاء في الكتاب العزيز يكون من الدين قطعاً ، فالمخالفة معه أو بغيره موجب لوهن الدين وفساده .


(1) الرسائل، رسالة في التقيّة 2 : 180 .
(2) يأتي في ص65.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 75.

صفحه 41

فقد جاء حكم متعة الحجّ في قوله ـ تعالى ـ : (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـثَةِ أَيَّام فِى الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَ لِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (1) ، وكذلك قد ذكر لزوم المسح على الرجلين في قوله ـ تعالى ـ : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَيْن) (2) ، وأيضاً حرمة شرب الخمر من ضروريات الدين مع التعرّض لها في الكتاب أيضاً .

فتبيّن أنّ الأئمـّة(عليهم السلام) لمّا رأوا أنّ جريان التقيّة في هذه الاُمور مستلزم لتغيير الكتاب والمخالفة مع ما جاء فيه، فصرّحوا بعدم جريانها في هذه الاُمور .

فعلى هذا يرجع المورد الثالث من موارد الاستثناء إلى المورد الأوّل الذي ذكرناه .

هذا، لكن يبقى في المقام مسألة الجهر بالبسملة ، والأمر فيه سهل; لخلوّ أكثر الروايات التي تكون في مقام بيان موارد الاستثناء عن هذا المورد .

المورد الرابع : وهو الذي يستثنى من التقيّة بالمعنى الأخصّ ، البراءة عن أمير المؤمنين عليّ وسائر الأئمـّة(عليهم السلام) ، وفيه روايات متعدّدة(3) ، والبحث عنها خارج عن مجال رسالتنا، ويحتاج إلى بحث مفصّل .


(1) سورة البقرة 2 : 196 .
(2) سورة المائدة 5: 6 .
(3) وسائل الشيعة 16: 225 ـ 232، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29.

صفحه 42


صفحه 43

الفصل السادس : أنواع التقيّة

يستفاد من كلمات الفقهاء (رحمهم الله) أنّ التقيّة على أنواع أربعة :

الأوّل: التقيّة الإكراهيّة ; وهي التي يكون منشأ التقيّة فيها الإكراه من قبل الغير ، والدليل على ذلك قوله ـ تعالىـ : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَـئـِنُّ بِالاِْيمَـنِ) (1). وكون هذا النوع من التقيّة، مبنيٌ على كون الإكراه من مصاديق التقيّة; أمّا بناءً على تباينهما، فلا موضوع لهذا النوع ، وقد فصّلنا البحث في ذلك سابقاً(2) .

الثاني: التقيّة الخوفيّة : وهي التقيّة المعروفة ، ويكون منشأ التقيّة فيهاخوف ترتّب الضرر على الإنسان مالاً، أو عرضاً، أو نفساً ، والدليل عليها هي الأدلّة التي ذكرناها سابقاً(3) في التقيّة بالمعنى الأعمّ; مضافاً إلى الروايات المتعدّدة،


(1) سورة النحل 16 : 106 .
(2) في ص31 ـ 34.
(3) في ص: 25 ـ 27.

صفحه 44

وقد ذكرنا بعضها سابقاً(1)، فراجع .

الثالث: التقيّة الكتمانيّة ; بمعنى التحفّظ عن إفشاء المذهب، وإبراز أسرارأهل البيت(عليهم السلام)، والدليل عليه هي الروايات التي ذكرها صاحب الوسائل، كقوله (عليه السلام) : يا سليمان إنّكم على دين، من كتمه أعزّه الله، ومن أذاعه أذلّه الله(2). وغيره من الأحاديث الواردة في باب وجوب كتم الدين من غير أهله مع التقيّة(3) ، فراجع .

الرابع: التقيّة المداراتيّة ; وهي التي لا يكون فيها خوف، أو إكراه، أو كتمان دين ، بل شرّعت لأجل المداراة مع العامّة، وجلب مودّتهم، ووحدة الكلمة بيننا وبينهم، ولأجل شوكة الدين واقتدار المسلمين; والدليل على ذلك أيضاً الروايات المتعدّدة التي ذكرها صاحب الوسائل في باب «وجوب عشرة العامّة بالتقيّة»; وهي عبارة عن :

1 ـ ما عن محمّد بن يعقوب ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ، عن هشام الكندي قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : إيّاكم أن تعملوا عملاً نعيّر به ، فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ، ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبُّ إليه من الخبء ، قلت : وما الخبء؟ قال : التقيّة(4) .


(1) في ص: 32 ـ 33.
(2) الكافي 2 : 222 ح3، المحاسن 1: 400 ح899 ، وعنهما وسائل الشيعة 16: 235، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب32 ح1.
وفي بحار الأنوار 75: 397 ح25 عن المحاسن.
(3) وسائل الشيعة 16: 235 ـ 237، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب32.
(4) الكافي 2: 219 ح11، وعنه وسائل الشيعة 16: 219، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26 ح2.

صفحه 45

وهذه الرواية صحيحة سنداً ، ويستفاد منها:

أوّلاً : أنّ المداراة مع العامّة والحضور في مجالسهم ومساجدهم كان أمراً مطلوباً عند الأئمـّة(عليهم السلام) .

وثانياً : تسمية المداراة بالتقيّة ; فإنّ المداراة مع العامّة قد سمّيت عندهم بالتقيّة ، وعلى هذا يصطلح عليها بالتقيّة المداراتيّة .

2 ـ ما عن محمّد بن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن سعد ، عن أيّوب بن نوح ، عن ابن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن مدرك بن الهزهاز ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:رحم الله عبداًاجترّمودّة الناس إلى نفسه،فحدّثهم بمايعرفون،وترك ماينكرون(1).

3 ـ ماعن محمّدبن الحسن،عن الصفّار،عن محمّدبن الحسين،عن عليّ بن أسباط ، عن عليّ بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّوجلّ ـ : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا(2) ـ قال : اصبروا على المصائب، وصابروهم على التقيّة، ورابطوا على من تقتدون به ـ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (3). إلى غيرذلك من الروايات التي ذكرهاصاحب الوسائل في أبواب الأمر والنهي ، و في أبواب صلاة الجماعة(4) ، وفي أبواب العشرة من كتاب الحج(5) .

فالمطلوب عند الأئمـّة(عليهم السلام) المعاشرة مع العامّة، والصلاة في مساجدهم، وعيادة مرضاهم ، وأمروا(عليهم السلام) بأنّكم إن استطعم أن تكونوا الأئمـّة والمؤذّنين


(1) الخصال: 25 ح89 ، وعنه وسائل الشيعة 16: 220، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26 ح4.
(2) سورة آل عمران 3: 200.
(3) معاني الأخبار: 369 ح1، وعنه وسائل الشيعة 16: 207، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح16.
(4) وسائل الشيعة 8: 299 ـ 304 ، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب5.
(5) وسائل الشيعة 12: 5 ـ 9 ، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة في السفر والحضر ب1.

صفحه 46

فافعلوا ; فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفريّة ، رحم الله جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفريّة ، ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه(1) .

وفي هذا النوع من التقيّة نكات :

النكتة الاُولى : قد يتوهّم(2) أنّ مطلوبيّة المداراة مع العامّة مشروطة بما إذا احتمل ترتّب ضرر على تركه ، فوجب حمل الروايات الواردة في المداراة على فرض خوف الضرر في ترك المداراة.

ويدفعه كثرة الروايات المطلقة في ذلك ، مضافاً إلى مخالفته لكثير من التعابير الواردة في الروايات ، كقوله (عليه السلام) : كونوا لنا زيناً، ولاتكونوا علينا شيناً(3)، وقوله (عليه السلام) : إيّاكم أن تعملو عملاً نعيّربه .(4)

النكتة الثانية : هل المستفاد من الروايات وجوب المعاشرة معهم، أو مطلق المطلوبيّة والرجحان؟

ذهب جمع، منهم : صاحب الوسائل إلى الوجوب ، للأمر بها في الروايات ، وهو ظاهر في الوجوب ، ولهذا قال : «باب وجوب عشرة العامّة»(5)، ويستفاد من كلمات الشيخ الأعظم الاستحباب (6)، وهو الصحيح ; لأنّ الأمر فيها مسوق في مقام توهّم الحذر والمنع; لأنّ الأصحاب يتوهّمون حرمة المشاركة معهم، وعدم صحّة الصلاة خلفهم، وعدم مطلوبيّة المعاشرة معهم ، فالأمر في الروايات مسوق


(1) الفقيه 1: 251 ح1129، وعنه وسائل الشيعة 8: 430، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب75 ح1.
(2) ولعلّ المتوهّم هو الهمداني (رحمه الله) في مصباح الفقيه 2: 441 ـ 446.
(3) مستطرفات السرائر: 163 ح3، وعنه وسائل الشيعة 12: 8 ، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة ب1 ح8 .
(4) الكافي 2: 219 ح11، وعنه وسائل الشيعة 16: 216 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26 ح2.
(5) وسائل الشيعة 16: 219 ـ 221، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب26.
(6) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 75.

صفحه 47

بتوهّم الحذر ، ولا يكون ظاهراً في الوجوب .

وعلى هذا يكون المعاشرة والمداراة معهم مستحبّاً; نعم، لو كان ترك المداراة موجباً لوهن المذهب، لكانت العشرة معهم واجبة، وتركها محرّماً لأجل حرمة وهن المذهب، لا لنفسها .

النكتة الثالثة : هل المداراة مختصّة بزمان شوكة العامّة واقتدارهم ، كما في زمن الأئمـّة(عليهم السلام)، أم لا تختصّ بذلك؟ ذهب المحقّق الهمداني إلى الأوّل (1)، وخالفه جمع، منهم: السيّد الخوئي(2) ، وهو الحقّ ، والدليل على ذلك أمران :

الأمر الأوّل : أنّ الاختصاص متوقّف على كون الملاك في هذا النوع من التقيّة خوف ترتّب الضرر ، مع أنّا قلنا سابقاً : إنّ التقيّة المداراتيّة في قبال الخوفيّة ، وملاكها المداراة ووحدة الكلمة .

الأمر الثاني : إطلاق بعض الروايات، كقوله (عليه السلام) : من صلّى معهم في الصفّ الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصفّ الأوّل(3) ، فإطلاق هذا الحديث مع هذا التعبير العظيم لا يناسب الاختصاص .

النكتة الرابعة : هل التقيّة المداراتيّة مسوّغة لارتكاب الحرام ، كالحضور في مجالس الرقص والفساد ، أو ترك الواجب ، كما أنّ التقيّة الخوفيّة مسوّغة له، أم لا؟ الصحيح أنّها غير مسوّغة لذلك ، والدليل على ذلك أنّ المستفاد من الروايات الواردة في هذا النوع من التقيّة: أنّ المداراة منحصرة في الحضور في المجالس الدينيّة والاجتماعات التي تكون مرتبطة بالشرع ، على أنّ مشروعيّة التقيّة لأجل أنّ تركها


(1) مصباح الفقيه 2: 445.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 276.
(3) الفقيه 1 : 250 ح1126 ، الأمالي للصدوق: 449 ح606 ، وعنهما وسائل الشيعة 8 : 299 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب5 ح1.

صفحه 48

موجب لوهن المذهب، وارتكاب الحرام ولو من أجل التقيّة مساوق لوهن المذهب، وموجب لتضعيف أهله وتعيير أئمـّتنا(عليهم السلام) .

تكملة

هل التقيّة الخوفيّة والإكراهيّة مسوّغتان لكلّ شيء ما عدا الدم ؟ وبعبارة اُخرى : هل يكون دائرتهما واسعة لجميع الموارد من المال، والعرض، والنفس، ومن حقوق الله، وحقوق الناس إلاّ الدم، أم لا؟

ذهب جمع إلى الشمول والعموميّة ، والدليل على ذلك أمران :

الأمر الأوّل : العمومات الواردة في روايات التقيّة، كقوله (عليه السلام) : «التقيّة في كلّ شيء حتّى يبلغ الدم»، كما ورد في رواية محمّد بن مسلم ، وموثّقة أبي حمزة الثمالي(1) ، ومرسلة الصدوق(2) ; بدعوى أنّ لفظة «التقيّة» شاملة لجميع أنواعها من الخوفي، والإكراهي، والمداراتي ، كما أنّ كلمة «كلّ شيء» ظاهرة في جميع أفرادها من الواجبات، والمحرّمات، وحقوق الله، وحقوق الناس، ما عدا الدم .

وفيه أوّلاً : أنّ كلمة التقيّة تنصرف إلى خصوص التقيّة الخوفيّة .

وثانياً : ما ذكره الإمام الخميني(3); من أنّ المستفاد من الرواية هو السلب الكلّي; أعني عدم جريان التقيّة في الدم ، ولا يستفاد منها الإيجاب الكلّي في جميع أنواع التقيّة . نعم، يستفاد منها العموم بحسب الأفراد .


(1) الكافي 2 : 220 ح16، تهذيب الأحكام 6: 172 ح335، المحاسن 1: 404 ح914، وعنها وسائل الشيعة 16: 234، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب31 ح1 و2، وفيها: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة، أو فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة».
(2) الهداية للصدوق: 52، وعنه بحار الأنوار 75 : 421 قطعة من ح79 ، ومستدرك الوسائل 12: 274 ح14083.
(3) راجع المكاسب المحرّمة للإمام الخميني(قدس سره) 2 : 215 .

صفحه 49

وثالثاً : أنّ استثناء النبيذ، والمسح على الخفّين من التقيّة في بعض الروايات(1)قرينة على كون المراد من المستثنى منه; أعني قوله (عليه السلام) : «التقيّة في كلّ شيء» جميع الواجبات والمحرّمات الإلهيّة التي لا تعلّق لها بحقوق الناس .

الأمر الثاني : رواية صحيحة ربما يستفاد منها العموميّة بالنسبة إلى جميع الحقوق، وهي ما رواه زرارة وغيره، عن الباقر (عليه السلام) قال : التقيّة في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به . والتقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له(2). وهذه الرواية وإن كانت واردة في التقيّة الخوفيّة ; لكنّها ظاهرة في شمول جواز التقيّة بالنسبة إلى جميع الحقوق .

وفيه أوّلاً : أنّ مشروعيّة التقيّة ـ كما ورد في بعض الروايات ـ يكون من باب الامتنان ، وجواز التعدّي على حقوق الناس ولو تقيّة لا يكون امتناناً ; فإنّه لايناسب وقوع الضرر على الغير، أو إيقاعه في الضرر .

وثانياً : أنّ أدلّة نفي الحرج حاكمة على عموميّة هذه الرواية ; فإنّ جواز إيقاع الغيرفي الضررولوعلى نحوالتقيّة يكون حكماًحرجيّاًبالنسبة إلى الغير،والأدلّة تنفيه .

فتحصّل من ذلك عدم عموميّة التقيّة الخوفيّة ، بل إنّما هي مشروعة فيما إذا لم يستلزم وقوع الغير في الضرر ، فلا يكون في غير الدم عامّاً . وبهذا البيان يظهر الحكم في التقيّة الإكراهيّة ; فإنّ الإكراه إن قلنا بأنّه من مصاديق التقيّة لغة وعرفاً، فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، وإن قلنا باختلافهما موضوعاً، فيكون ملحقاً بالتقيّة في الحكم، لما ذكرنا سابقاً .


(1) تقدّمت في ص35 ـ 36.
(2) الكافي 2 : 219 ح13 وص220 ح18، المحاسن 1: 404 ح912، الفقيه 3: 230 ح1084، وعنها وسائل الشيعة 16: 214، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح1 و2، وج23: 225، كتاب الأيمان ب12 ح7.
وفي بحار الأنوار 62: 82 ح2 ، وج65: 157 ح32 ، وج75: 399 ح34 عن المحاسن.

صفحه 50

الفصل السابع : هل العمل الموافق للتقيّة مجزئ عن المأمور به الواقعي، أم لا؟

بيان محلّ النزاع

فاعلم أنّ تحرير محلّ النزاع يحتاج إلى اُمور ثلاثة :

الأمر الأوّل : أنّ النزاع واقع فيما إذا أتى المكلّف بالعمل ناقصاً ; يعني من دون جزء، أو شرط ، أو أتى به مع مانع ، أمّا لو ترك العمل رأساً من جهة التقيّة ، كما إذا اقتضت ترك الصلاة رأساً، فلا ينبغي الإشكال في عدم الإجزاء; ولا خلاف بين الأعلام في اعتبار هذا الأمر من جهة الكبرى ، ولكن وقع الخلاف في بعض المصاديق نُشير إلى واحد منها .

وهو: أنّه لو اقتضت التقيّة الإفطار في يوم حكم حاكمهم بأنّه يوم العيد، معأنّ المكلّف يعلم بأنّه آخر يوم من شهر رمضان ، فهل هذا من باب ترك الصيام رأساً ، كما ذهب إليه المشهور(1)، ومنهم المحقّق الإمام الخميني(2)، فيخرج عن محلّ النزاع، أم من باب إتيان العمل ناقصاً ، كما ذهب إليه المحقّق الخوئي(3)، فيدخل في


(1) مستمسك العروة الوثقى 2: 407، مصباح الهدى 3: 325، القواعد الفقهيّة للبجنوردي 5: 60ـ 61، كتاب الصلاة، تقريرات النائيني، للآملي 2: 300 ، مهذّب الأحكام 2: 388.
(2) الرسائل ، رسالة في التقيّة 2 : 188 .
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 261 ـ 263.

صفحه 52

محلّ النزاع؟ .

واستدلّ للأوّل بأنّ المطلوب في الصيام هو الإمساك في مجموع الزمان المعتبر ، وبعبارة اُخرى: المطلوب هو الإمساك في المجموع من حيث المجموع، وترك الإمساك في لحظة مّا موجب للإخلال بالمطلوب . ومرجع هذا إلى ترك المأمور به رأساً .

لا يقال : إذا اضطرّ الصائم إلى شرب كأس من الماء لحفظ نفسه من الموت، فقد قالوا بجواز هذا الشرب، وعدم جواز الشرب في بقيّة الأوقات ، ومعنى هذا أنّ ذاك الشرب موجب لنقصان العمل، لا ترك العمل رأساً .

لأنّا نقول : إنّ وجوب الإمساك في بقيّة الأوقات من باب وجوب رعاية شهر الصيام ، وحرمة التظاهر بالأكل في شهر الصيام، لا من باب كونه صائماً .

واستشهد لهذا القول بروايتين أظنّ أنّهما رواية واحدة في الواقع ، فتدبّر فيهما .

الاُولى : رواية داود بن الحصين ، عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العبّاس : إنّي دخلت عليه وقد شكّ الناس في الصوم، وهو والله من شهر رمضان، فسلّمت عليه، فقال : يا أبا عبدالله ، أصمت اليوم؟ فقلت : لا، والمائدة بين يديه ، قال : فادنُ فكُل ، قال : فدنوت فأكلت . قال: وقلت : الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله (عليه السلام) : تفطر يوماً من شهر رمضان؟ فقال : أي والله، أفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ منأن يضرب عنقي(1) .

وهذه الرواية وإن لم تشتمل على التعبير بالقضاء ، إلاّ أنّ كلمة «أفطر» التي صدرت منه (عليه السلام) ظاهرة في أنّ ما فعله (عليه السلام) كان مفطراً لصومه ، فلو كان الإفطار تقيّة غير مبطل للصوم لم يكن وجه لتوصيف الفعل بالإفطار، والتعبير بالإفطار يدلّ على ترك العمل راساً .


(1) الكافي 4: 83 ح9، وعنه وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب57 ح4.

صفحه 53

الثانية : رواية رفاعة، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : دخلت على أبي العبّاس بالحيرة، فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟

فقلت : ذلك إلى الإمام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليّ بالمائدة ، فأكلت معه وأنا أعلم والله أنّه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عنقي ولا يعبد الله(1) .

وهذه الرواية صريحة في وجوب القضاء ، ومرجعه إلى أنّ الإفطار موجب لترك العمل رأساً(2) .

واستدلّ للثاني بأنّ التقيّة لا تقتضي أزيد من الإفطار في قطعة خاصّة من النهار، لا في مجموع النهار ، فلا يسقط عن المكلّف الأمر بالصوم في بقيّة الزمان ، ولذا لا يجوز أن يتناول شيئاً من المفطرات في غير ساعة التقيّة.

هذا، مضافاً إلى أنّ هذا نظير ما إذا أفطر بما لا يراه العامّة مفطراً تقيّة، فكما أنّه محكوم بالصحّة والإجزاء، ولا يجب معه القضاء ، فكذلك الحال في ما نحن فيه(3) .

وفيه : أمّا بالنظر إلى أصل الاستدلال، فيكفي في فساده ما قلنا في الاستدلال على القول الأوّل . وأمّا بالنسبة إلى التنظير والقياس، ففساده أوضح من الاستدلال، ولا يتوقّع هذا القياس من الأصل الذي يكون هو المقياس ; لأنّ الإفطار بما لا يراه العامّة مفطراً خارج عن موضوع الإفطار بجهة أدلّة التقيّة، وبمعنى أنّه بعد ملاحظة هذه الأدلّة لا يكون إفطاراً أصلاً، بخلاف ما نحن فيه ، فتدبّر .

الأمر الثاني : أنّ محلّ النزاع في الإجزاء وعدمه إنّما هو فيما إذا كان الدليل الذي


(1) الكافي 4: 83 ح7، وعنه وسائل الشيعة 10: 132 ، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب57 ح5.
(2) ولكنّ الاستشهاد بهاتين الروايتين غير صحيح; لأنّهما ضعيفتان من حيث السند; لإرسالهما، مع أنّ في سند إحداهما سهل بن زياد، وهو ضعيف، على المشهور. نعم، قد أخترنا اخيراً في دروسنا الفقهيّة صحّة الاعتماد على رواية، المؤلّف.
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 263.

صفحه 54

تنتزع منه الجزئيّة، أو الشرطيّة، أو المانعيّة، عامّاً، أو مطلقاً شاملاً لصورة الاضطرار إلى تركها . وأمّا إذا لم يكن كذلك، كما إذا ثبتت الاُمور المذكورة بالسيرة أو مثلها ، أو بدليل لفظيّ غير شامل، فهو خارج عن محلّ النزاع .

والوجه في ذلك أنّه في الفرض الأوّل ـ بعد ثبوت الجزئيّة من طريق الإطلاق أو العموم ـ يقع البحث في أنّ أدلّة التقيّة هل تصلح لرفع الجزئيّة أو الشرطيّة، أم لاتصلح ؟

وأمّا في الفرض الثاني، فيتمسّك لنفي الجزئيّة أو الشرطيّة بأصالة البراءة عنها، ولا يحتاج إلى أدلّة التقيّة .

الأمر الثالث : قد وقع الخلاف في أنّ المانعيّة النفسيّة هل هي داخلة في محلّ النزاع ومورد للنفي والإثبات ، أم لا ، بل هي خارجة عنه ؟ بمعنى عدم وقوع الخلاف في الإجزاء فيها ، مثلاً لو أتى بالصلاة في الدار المغصوبة تقيّة، فكما أنـّه ترتفع الحرمة بالاضطرار والتقيّة ، فكذلك ترتفع المانعيّة وتقع الصلاة صحيحة .

ذهب المحقّق النائيني(1) إلى أنّ المانعيّة النفسيّة التي تنتزع من الحرمة النفسيّة داخلة في محلّ النزاع، كالمانعيّة الغيريّة التي تنتزع من الحرمة الغيريّة ، وخالفه في ذلك السيّد الخوئي(2) .

واستدلّ على الأوّل بأنّ الاضطرار والتقيّة وغيرهما من الروافع والأعذار إنّما يقتضي ارتفاع الحرمة فحسب . وأمّا الملاك المقتضي للحرمة فهو بعد بحاله، ولاموجب لارتفاعه بالاضطرار أو التقيّة ، ومع بقاء الملاك المقتضي للحرمة تبقى المانعيّة أيضاً بحالها ; لأنّ للملاك والمفسدة الملزمة معلولين : أحدهما : الحرمة النفسيّة ، وثانيهما : المانعيّة ، وإذا سقط أحدهما; وهي الحرمة بالتقيّة


(1) فوائد الاُصول 1 ـ 2: 467 ـ 468.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 236 ـ 237.

صفحه 55

أو بالاضطرار، فيبقى معلوله الثاني بحاله .

وفيه أوّلاً : أنّ الملاك من الاُمور الواقعيّة الّتي تجري فيها قاعدة «الواحدلا يصدر منه إلاّ الواحد»، فلا يعقل أن يكون للملاك معلولان .

وثانياً : سلّمنا عدم جريان هذه القاعدة الفلسفيّة، كنظائرها في هذه العلوم الاعتباريّة ، لكنّ المانعيّة ليست في عرض الحرمة ، بل هي منتزعة منها،فكيف يعقل المنتزع بعد رفع منشأ الانتزاع؟ والقول بأنّ المانعيّة تستفاد من نفس الملاك بعيد عن الصواب .

وهنا جواب ثالث ذكره السيّد المحقّق الخوئي; وهو: أنّه بعد تسليم بقاء الملاك لا نسلّم تأثيره في المانعيّة ; لوجود ترخيص الشارع في الفعل ، مثلاً إذا كان التصرّف في مال الغير مباحاً بترخيص الشارع نفسه في صورة الاضطرار، فكما أنّه في غير الصلاة يكون التصرّف جائزاً، فكذلك في الصلاة ; لأنّهما من هذه الجهة سيّان ، فالملاك غير مؤثّر في المانعيّة في الصلاة وغيرها ، بخلاف المانعيّة الغيريّة ، فمثلاً إذا اضطرّ إلى لبس الحرير للبرودة، فمع ذلك لا يجوز لبسه في الصلاة ، بل يجب عليه إيقاع الصلاة في غير الحرير; لعدم سقوط المانعيّة الغيريّة عن لبس الحرير بسبب سقوط الحرمة النفسيّة ; لأنّ المانعيّة منتزعة عن النهي عن الصلاة في الحرير ، وهذا النهي باق حتّى بعد سقوط الحرمة النفسيّة(1) .

وهذا الجواب مخدوش ; لأنّ بقاء الملاك لو كان مؤثّراً في المانعيّة، فلا فرق بين النفسي والغيري ، ولو كان غير مؤثّر فكذلك لا فرق بينهما . وبعبارة اُخرى: لم يذكر وجه الفرق بينهما من هذه الجهة; فنحن نسأله : هل الملاك في النهي الغيري بعد رفع الخطاب مؤثّر في المانعيّة، أم لا؟


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 236 ـ 237 .

صفحه 56

وبما أنّكم ذهبتم إلى أنّ ترخيص الشارع مانع عن تأثير الملاك في المانعيّة ، فاللازم خروج المانعيّة الغيريّة عن محلّ النزاع أيضاً .

والتحقيق: هو دخول المانعيّة النفسيّة في محلّ النزاع ; لأنّ الكلام في أنّ ترخيص الشارع هل هو موجب لرفع المانعيّة، ـ كما أنّه موجب لرفع التكليف والعقاب ـ أم لا ؟ هذا أوّل الكلام والنزاع ، وهذا أساس البحث والنزاع، كما سيأتي .

وبعبارة اُخرى : أنّ مانعيّة ترخيص الشارع عن تأثير الملاك في المانعيّة ليست أمراً قطعيّاً ، بل هو أوّل الكلام . فيجب البحث في أنّه هل الملاك في المانعيّة عبارة عن نفس الملاك في الحرمة حتّى ترتفع المانعيّة بارتفاع الحرمة ، أم لا ، بل ملاكها غير ملاك الحرمة ، ومع ارتفاع ملاك الحرمة يبقى ملاك المانعيّة ؟ ولا فرق في هذه الجهة بين الحرمة النفسيّة والغيريّة .

وبعد هذه الاُمور الثلاثة نقول :

ذهب المحقّق الثاني إلى التفصيل بين ما إذا ورد فيه نصّ بخصوصه، فيكون العمل صحيحاً مجزئاً إذا فعل على الوجه المأذون فيه ، التفاتاً إلى أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقيّة ، وادّعى عدم وجود الخلاف بين الأصحاب في هذه الصورة، وبين ما إذا لم يرد فيه نصّ بخصوصه، كالصلاة إلى غير القبلة ، والوضوء بالنبيذ ، والإخلال بالموالاة بحيث يجفّ البلل ، كما يراه بعض العامّة ، فلا يكون العمل مجزئاً(1) .

وخالفه الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) فقال ما خلاصته :

إنّ الإجزاءيتوقّف على كون الفعل المتّقى به مأذوناً من قبل الشارع ، وهذا الإذن


(1) رسائل المحقّق الكركي 2: 52.

صفحه 57

على نحوين :

النحو الأوّل : صدور الإذن الخاصّ في المورد الخاصّ ، كالإذن في خصوص المسح على الخفّين ، كما في صحيحة أبي الورد(1)، أو الإذن العامّ(2) الذي يستفاد من نظير قولهم(عليهم السلام): التقيّة في كلّ شيء(3) ، ففي هذا النوع تكون المسألة من صغريات مسألة الإجزاء ; لأنّه مع وجود الإذن خاصّاً أو عامّاً يكون الفعل مأموراً به على نحو الاضطرار ، ويقع البحث في أنّ الفعل الاضطراري هل يكون مجزئاً عن الواقعي، أم لا؟

النحو الثاني : لو فرضنا عدم صدور الإذن الخاصّ، وسلّمنا عدم إمكان استفادة الإذن العامّ من الأدلّة العامّة ، فبين أيدينا نوعان من الدليل :

النوع الأوّل : الأمر بالعبادة; كالأمر بالصلاة مثلاً .

النوع الثاني : الأوامر العامّة التي وردت في التقيّة، نظير قوله (عليه السلام) : التقيّة دينيودين آبائي(4)،(5)، الذي هو في مقام الأمر بالتقيّة ، فحينئذ يقع البحث في أنّههل يستفاد من انضمام النوع الثاني إلى النوع الأوّل: أنّ الفعل المتّقى به يكون مأموراً


(1) تهذيب الأحكام 1: 362 ح1092، الاستبصار 1: 76 ح236، وعنهما وسائل الشيعة 1: 458، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب38 ح5.
(2) والمراد من الإذن العامّ مايوجب الإذن في امتثال العبادات عموماً على وجه التقيّة، بحيث لا يحتاج في الدخول في كلّ عبادة على وجه التقيّة إلى النصّ الخاصّ، المؤلّف .
(3) وسائل الشيعة 16: 214 ـ 215 ، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي ب25.
(4) المحاسن 1: 398 قطعة من ح890 ، وعنه بحار الأنوار 2: 74 قطعة من ح41 ، وفي ج75: 422 قطعة من ح80 عن مشكاة الأنوار 1: 87 قطعة من ح171، وفي ج85: 81 ملحق ح22 ومستدرك الوسائل 4: 189 ذح 4455 عن دعائم الإسلام 1: 160.
(5) يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم الأنصاري الفرق بين «التقيّة في كلّ شيء» فيستفاد منه الإذن، وبين قوله (قدس سره) : «التقيّة ديني»، فلا يستفاد الإذن ، ويستفاد من عبارة المحقّق البجنوردي [في القواعد الفقهية 5: 56] عدم وجود هذا الفرق ، المؤلّف.

صفحه 58

به اضطراريّاً حتّى تكون المسألة من صغريات مسألة الإجزاء أم لا ؟ بل أدلّة التقيّة العامّة يستفاد منها الحكم التكليفي .

وحينئذ لو كان دليل النوع الأوّل عامّاً شاملاً لصورة التقيّة وعدمها، فيكون الأمر ساقطاً; لعدم وجود القدرة في فرض التقيّة ولو لم يكن عامّاً، بل مختصّاً بصورة التمكّن ، ففي صورة التقيّة وعدم التمكّن يكون من مصاديق اُولي الأعذار ، ويجب الفرق بين العذر المستوعب وغيره (1). انتهى خلاصة كلام الشيخ .

أقول : الفرق بين النحو الأوّل، وبين النحو الثاني من الإذن: أنّه يكون النزاع في الثاني في تحقّق الصغرى لبحث الإجزاء ، بينما يكون النزاع في الأوّل كبروياً والصغرى مفروغاً عنها ، فتدبّر .

فتبيّن أنّ المحقّق الثاني قد خصّ مسألة الإجزاء بما إذا ورد نصّ بالخصوص(2)، بينما أنّ الشيخ الأعظم الأنصاري ذهب إلى أنّ الإجزاء متوقّف على الإذن ، ولا فرق بين كون الإذن خاصّاً أو عامّاً ، وكذلك يكفي في الإذن انضمام الأدلّة بعضها مع بعض ، وهذا طريق ثالث للإذن .

والظاهر عدم إمكان استفادة الإذن من الطريق الثالث ; لأنّه فرع كون أدلّة التقيّة ناظرة إلى سائر الأدلّة في هذه الجهة، مع عدم كونها ناظرة عرفاً ، ولا أقلّ كانت النظارة مشكوكة .

والصحيح وجود الإذن العامّ في أدلّة التقيّة ، ولا نحتاج في صحّة كلّ عبادة على وجه التقيّة إلى النصّ الخاصّ، وقبل بيان الإذن العامّ نقول : إنّ دائرة هذا الإذن


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 83 ـ 84 .
(2) قال المحقّق البجنوردي [في القواعد الفقهيّة 5 : 57] : والإنصاف أنّه لا يمكن إسناد مثل هذا التفصيل إلى مثل ذلك المحقّق الذي هو من أعاظم أساطين الفقه ، ولعلّ نظره إلى كون الأخبار العامّة ناظرة إلى لزوم الاتّقاء ووجوبه وحرمة تركه، وإلاّ فأيّ فرق بين أن يكون الإذن بصورة القضيّة الشخصيّة الخارجيّة، أو بصورة القضيّة الكلّيّة الحقيقيّة، المؤلّف.

صفحه 59

مع كونه عامّاً يكون محدوداً بما لا يؤدّي إلى الفساد في الدين، ومشروطاً بأنّ ترك التقيّة مستلزم لوهن المذهب; فالصلاة إلى غير القبلة يميناً أو شمالاً أو دبرها لا تكونصحيحة قطعاً ; لمخالفتها لكلام الله تبارك وتعالى(1)، وهو مستلزم لفساد الدين . وأيضاً ترك هذه الصلاة لا يكون موجباً لوهن المذهب .

والذوق الفقهي يشهد بوجود الفرق بين الصلاة بدون السورة، أو مع التكتّف، وبين الصلاة إلى غير جهة القبلة ، وبهذا البيان يندفع بعض النقوض التي أوردها المحقّق الثاني في رسالته(2)، كما أنّه يندفع بعضها بخروجها عن محلّ الكلام لأجل أنّها تقيّة في الموضوعات، لا في الأحكام .

والروايات التي يستفادها منها الإذن العامّ ـ وهي الأساس لمسألة الإجزاء ـ فكثيرة جدّاً .

منها : حديث الرفع المشهور: «رُفِع عن اُمّتي تسعة، التي منها قوله (عليه السلام) : وما اضطرّوا إليه»(3); بيان الاستدلال: أنّه لو كان المكلّف مضطرّاً إلى ترك جزء، أو شرط من العبادة، أو إتيان مانع، فمقتضى الحديث ارتفاع الجزئيّة، أو الشرطيّة، أو المانعيّة ، ومرجع هذا إلى عدم كون العمل معتبراً فيه الجزء، أو الشرط ، فهذا إذن في إتيان العمل فاقداً للجزء أو الشرط.

وبالجملة: إنّ الحديث يتكفّل شيئين : ارتفاع الجزئيّة، أو الشرطيّة ، وإثبات كون المأمور به هو الفعل الفاقد للجزء، أو الشرط .


(1) إشارة إلى سورة البقرة 2: 144 و 149 ـ 150.
(2) رسائل المحقّق الكركي 2: 53.
(3) الخصال: 417 ح9، التوحيد: 353 ح24، الكافي 2: 463 ح2، تفسير العيّاشي 1: 160 ح536، نوادر ابن عيسى: 74 ح157، وعنها وسائل الشيعة 8: 249، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب30 ح2، وج15: 369 و 370، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب56 ح1 و3، وج16: 218، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح10، وج23: 237، كتاب الأيمان ب16 ح3.

صفحه 60

ويرد عليه ـ بعد كون الاستدلال متوقّفاً على تقدير «جميع الآثار»، كما ذهب إليه السيّد المحقّق الإمام الخميني (قدس سره) (1) حتّى يقال : إنّ ما يضطرّ إليه المكلّف مرفوع بلحاظ جميع الآثار ـ :

أوّلاً : أنّ الحديث صريح في ارتفاع التكليف، ولا يكون بصدد إثبات تكليف ، فلا يستفاد منه الإذن أصلاً .

وثانياً : ما أورده السيّد المحقّق الخوئي: من أنّ الجزئيّة، والشرطيّة، والمانعيّة إنّما تنتزع من الأمر بالعمل المركّب، وهي بأنفسها ممّا لا تناله يد الوضع والرفع ، وإنّما ترتفع برفع منشأ انتزاعها ، وبناءً عليه إذا اضطرّ المكلّف إلى ترك السورة في الصلاة مثلاً; فمقتضى الحديث إنّما هو ارتفاع الأمر عن الصلاة مع السورة ، وأمّا الأمر بالصلاة الفاقدة للسورة فلا يمكن استفادته من الحديث ، بل يحتاج إثبات الأمر بالعمل الفاقد المضطرّ إلى دليل غير هذا الحديث(2) .

وثالثاً : أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى ; لأنّ الحديث مختصّ بالوجوديّات، كالتكتّف وقول آمين ، دون العدميّات ، فلا يشمل مثل ترك القراءة ; فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا العكس ; فإنّه يكون وضعاً .

وقد أجاب عن هذا الإشكال السيّد المحقّق الإمام الخميني (قدس سره) وقال : إنّ الرفع متوجّه إلى العناوين المأخوذة فيه; أي في حديث الرفع، وهذه العناوين لها نحو ثبوت قابل للرفع ، وقد ينطبق على الأمر العدمي ، لكنّ الرفع غير متوجّه إلى العدم ، بل إلى عنوان ما اضطرّوا إليه، وهو قابل للرفع عرفاً(3) .

هذا كلّه ، لكنّ الإنصاف ـ بعد تسليم كون المقدّر هو جميع الآثار ـ أنّ


(1) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 188.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 238 .
(3) الرسائل ، رسالة في التقيّة 2: 189 .

صفحه 61

الاستدلال بالحديث تامّ ; لوجود الملازمة العرفيّة بين رفع الجزئيّة مثلاً، وبين كون المأمور به هو الفعل الفاقد للجزء . وكذا الشرط; اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذا ليس تمسّكاً بالحديث فقط ، بل تمسّك بالحديث والملازمة معاً ، فتدبّر .

ومنها : ما استدلّ به الشيخ الأنصاري (قدس سره) (1) واستفاد منه الإذن ; وهي ما رواه إسماعيل الجعفي، ومعمر بن يحيى بن سالم، ومحمّد بن مسلم، وزرارة ـ وهي رواية صحيحة معروفة بصحيحة الفضلاء ـ قالوا : سمعنا أبا جعفر (عليه السلام) يقول : التقيّة في كلّ شيء يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له(2) .

وتقريب الاستدلال يتوقّف على بيان اُمور :

الاُوّل : أنّ لفظة «كلّ» من أداة العموم ، والرواية دلّت على أنّ التقيّة جارية في كلّ شيء يضطرّ إليه الإنسان ، وهذا عامّ شامل للعبادات والمعاملات والأحكام والموضوعات .

الثاني : أنّه يكفي في صدق الإضطرار كون المكلّف مضطرّاً إلى ترك الجزء، أو الشرط، أو إتيان المانع وإن لم يكن مضطرّاً إلى أصل الصلاة مثلاً في الوقت .

الثالث : أنّ الرواية دلّت على أنّ ذاك الشيء المحرّم يكون محلّلاً في حقّ المتّقي .

الرابع : أنّ الحلّيّة أعمّ من التكليفيّة والوضعيّة، كما في قوله ـ تعالى ـ : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (3) الذي هو ظاهر في خصوص الوضع ، أو الأعمّ من الوضع والتكليف ; فإنّ الحلال لا يكون في العرف واللغة والقرآن والسُنّة مختصّاً بالتكليف; فالمحرّم عبارة عن الممنوع ، والمحلّل عبارة عن الجواز .

قال الشيخ الأنصاري : إنّ المراد بالإحلال رفع المنع الثابت في كلّ ممنوع


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 89 .
(2) تقدّم في ص33.
(3) سورة البقرة 2: 275.

صفحه 62

بحسب حاله من التحريم النفسي، كشرب الخمر ، والتحريم الغيري، كالتكفير في الصلاة (1). ومقصوده (قدس سره) أنّ الحديث لم يكن مختصّاً بما يكون المضطرّ إليه مستقلاًّ فيالمنع الغيري ، وترك الجزء أو الشرط حرام غيريّ ، ففي صورة التقيّة يكون جائزاً وحلالاً .

وبعد هذه الاُمور الأربعة نستفيد منها أنّ التكتّف في الصلاة ، وترك السورة ، ولبس الحرير ، والإفطار عند سقوط الشمس ، والوقوف بعرفات والمشعر قبل وقته حلال في صورة الاضطرار; وواضح أنّ الحلّيّة بمعنى الإذن والترخيص في الإتيان .

قال السيّد المحقّق الإمام الخميني : ولا ريب في استفادة الوضع منها(2)، وقد يعبّر عن الوضع بالتكليف الغيري قبال التكليف النفسي ; فإنّ التكفير أو ترك البسملة من المحرّمات الغيريّة ; لاشتراط الصلاة بعدمهما وإن كان كلّ واحد منهما حلالاً مع قطع النظر عن الصلاة .

هذا ، ولكن خالف السيّد المحقّق الخوئي مع الشيخ الأنصاري، وذهب إلى عدم صحّة التمسّك بهذا الحديث، وقال ـ مع توضيح منّا ـ : إنّ الظاهر من الصحيحة أنّ كلّ عمل كان محرّماً بأيّ عنوان من العناوين المفروضة تزول عنه حرمته بعنوان التقيّة ، فيصير العمل المعنون بذلك العنوان متّصفاً بالحلّيّة لأجلها ، فمثلاً كانالتكتّف حراماً بعنوان كونه مبطلاً للصلاة، بناءً على كون إبطال الصلاة محرّماً في نفسه ، وإلاّ فمع قطع النظر عن هذا العنوان لا يكون حراماً .

وفي فرض التقيّة تنقلب الحرمة إلى الحلّيّة من دون تغيّر في الموضوع ، فالموضوع ـ أي التكتّف المبطل ـ يكون حلالاً في فرض التقيّة ، وبما أنّ الحكم


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 89 .
(2) الرسائل، رسالة في التقيّة 2 : 190 .

صفحه 63

لامعنى لأن يتصرّف في الموضوع، أو في قيوده، فلا يتغيّر الموضوع في فرض التقيّة ، وبعبارة اُخرى: كان الإبطال في فرض التقيّة حلالاً(1)،(2) .

وفيه : أنّ الظاهر أنّ الإبطال علّة لتعلّق الحرمة بالصلاة مع التكتّف ، ومع زوال الحرمة نستكشف زوال علّتها وهي الإبطال ; لأنّ العلّة الشرعيّة تنعدم بزوال معلوله الشرعي .

وبعبارة اُخرى : في العلل التكوينيّة يمكن زوال المعلول الشرعي من دون العلّة التكوينيّة; فإنّ الخمر حرام لأجل الإسكار ، وفي فرض الاضطرار يصير حلالاً من دون زوال علّته; أمّا في العلّة والمعلول الشرعيّين يكون انتفاء أحدهما كاشفاً عن انتفاء الآخر ، وعلى هذا لا يمكن زوال الحرمة من دون زوال الإبطال ; فإنّ العرف يفهم أنّ عدم الحرمة كاشفٌ عن عدم وجود الإبطال ، فتدبّر .

ومنها : رواية أبي الصباح ـ يعني إبراهيم بن نعيم، المرويّة في كتاب الأيمان ـ قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمّد (عليهما السلام) : إنّ الله علّم نبيّه التنزيل والتأويل ، فعلّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) ، قال : وعلّمنا والله ، ثمّ قال : ما صنعتم من شيء، أو حلفتم عليه من يمين في تقيّة فأنتم منه في سعة(3) .

ذهب الشيخ الأنصاري(4) والسيّد الخميني(5) إلى أنّ الرواية تدلّ على أنّ كلّ مايفعله المكلّف تقيّة ـ سواء كان زيادة في المأمور به، أو نقيصة فيه ـ فهو في سعة ، ومعنى السعة والوسعة: أنّه لا يترتّب عليه الإعادة والقضاء . فهذه الرواية كما قال


(1) الظاهر أنّ هذا الإيراد مصطاد من كلمات الشيخ الأنصاري، المؤلّف.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 239 ـ 240.
(3) الكافي 7: 442 ح15، تهذيب الأحكام 8: 286 ح1052، وعنهما وسائل الشيعة 23: 224، كتاب الأيمان ب12 ح2.
(4) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 93.
(5) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 192.

صفحه 64

الشيخ الأنصاري نظير قوله (عليه السلام) : «الناس في سعة مالا يعلموا»(1) ،(2).

فالرواية وإن كانت مردّدة بين الصحيحة وغيرها من جهة وجود سيف بن عميرة; للاختلاف في أنّه واقفيّ أم لا ، إلاّ أنّ دلالتها على المدّعى تامّة .

ولكن خالفهما السيّد الخوئي وقال : إنّ الرواية غير دالّة على الإجزاء، والقياس والتنظير باطل أيضاً; أمّا عدم دلالتها; فلأنّ كلمة «السعة» في مقابل «الضيق»، فكلّ ما يفعل الإنسان في غير التقيّة لو كان فيه ضيق، لترفعه التقيّة; مثلاً أنّ في شرب الخمر في غير حال التقيّة ضيقاً، من جهة لزوم إجراء الحدّ عليه والحكم بفسقه . أمّا مع التقيّة فيرتفع الضيق .

وهذا غير جار في ما نحن فيه ; لأنّه لا يترتّب على نفس ترك الجزء، أو الشرط، أو إتيان المانع ضيق ; لأنّ بطلان العمل ليس من الآثار المجعولة للترك ، بل البطلان كالصحّة من الآثار الواقعيّة لا تناله يد الجعل ، فليس البطلان حكماً شرعيّاً، بل العقل يحكم بأنّ مخالفة العمل للمأمور به مساوق للبطلان .

وأمّا مسألة الإعادة، فلا تترتّب على نفس ترك الجزء ، بل الإعادة من آثار عدم إتيان المأمور به ، وبعبارة اُخرى : لو كان موضوع الإعادة إتيان العمل فاسداً وناقصاً، لصحّ أن يقال : إنّها من آثار ترك الجزء أو الشرط ، مع أنّ موضوعها عدم إتيان المأمور به .

أمّا عدم صحّة القياس; فلأنّ المشكوك فيه في ذلك الحديث إنّما هو نفس الجزئيّة وعدليها ، ومن البديهي أنّ في جزئيّة المشكوك فيه، أو شرطيّته، أو مانعيّته ضيقاً واضحاً على المكلّف ; لأنّه تقييد لإطلاق المأمور به، وموجب للكلفة


(1) عوالي اللئالي 1: 424 ح109، وعنه مستدرك الوسائل 18: 20، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود ب12 ح21886.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 93.

صفحه 65

والضيق ، فيكون في رفعها عند الشكّ توسعة له ، وأين هذا وما نحن فيه; لعدم ترتّب ضيق من ناحية ترك الجزء أو الشرط (1).

ولا يخفى ما فيه أوّلاً : أنّ إيراده مبنيّ على أن يستفاد من الرواية ترتّب الضيق على نفس العمل من دون واسطة ، مع أنّه محلّ الإنكار ; فإنّ الرواية دلّت على أنّ الضيق الذي ترتّب على العمل ولو مع الواسطة ، ترتفع عند التقيّة ; فإنّ الإعادةوإن لم تكن من آثار نفس ترك الجزء أو الشرط ، لكن ترك الجزء سبب لعدم إتيان المأمور به، والإعادة من آثاره ، مع أنّ قوله (عليه السلام) : «فأنتم منه في سعة» لا نظر فيه إلى مادّة كلماته ، بل هو كناية عن عدم ترتّب شيء على التقيّة .

وثانياً : الصحيح أنّ موضوع الإعادة لا يكون عدم إتيان المأمور به ; فإنّه أمر عدميّ لا يصلح لأن يكون موضوعاً لحكم شرعيّ وجوديّ; بل التحقيق أنّ موضوع الإعادة هو إتيان العمل فاسداً وناقصاً ; فإنّ كلمة الإعادة لا يصدق فيما إذا لم يفعل العمل أصلاً ، بل يصدق فيما إذا فعله ناقصاً، ويجب أن يعيد ثانياً ، وبهذا الجواب يظهر صحّة التنظير ، فتدبّر .

ومنها : رواية أبي عمر الأعجمي قال : قال لي أبو عبد الله : يا أبا عمر إنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة ، ولا دين لمن لا تقيّة له ، والتقيّة في كلّ شيء، إلاّ في النبيذ والمسح على الخفّين(2) .

تقريب الاستدلال بها يتّضح بعد اُمور :

الأوّل : أنّ المراد من التقيّة هو العمل الموافق لهم، المخالف للحقّ; بمعنى ما يتّقى


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإيام الخوئي) 5: 243 ـ 245.
(2) الكافي 2: 217 ح2، المحاسن 1: 404 ح913، الخصال: 22 ح79، وعنها وسائل الشيعة 16: 204، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح3 وص215 ب25 ح3.
وفي بحار الأنوار 66: 486 ح14، وج75: 399 ح36، وج79: 172 ح15، وج80 : 268 ح22 عن المحاسن.

صفحه 66

به ، لا الاتّقاء، كما هو ظاهر اللفظ .

الثاني : معنى كون التقيّة ديناً أو من الدين: أنّه حكم واقعيّ ثانويّ ، ونتيجة هذين الأمرين أنّ الفعل المتّقى به من الدين ، وواضح أنّ الفعل الذي يكون من الدين لابدّ وأن يكون صحيحاً ; فإنّ الباطل لا يكون من الدين .

الثالث : أنّ لفظة «كلّ» من أدوات العموم ، وبقرينة استثناء مسح الخفّين الذي هو ممنوع بالمنع الغيري، تكون الرواية دالّة على جريان التقيّة في كلّ ممنوع ، سواء كان استقلاليّاً ، أو غيريّاً .

وبعد هذه الاُمور الثلاثة نستفيد أنّ ترك الجزء، أو الشرط، أو إتيان المانع في فرض التقيّة يكون من الدين ، وكلّ ما كان من الدين فهو صحيح ، فلا يحتاج العمل إلى الإعادة أو القضاء ، وهذا معنى الإجزاء . وهذا هو الاستدلال بمجموع الرواية .

ويمكن الاستدلال بنفس التعبير الوارد في صدر الرواية: «أنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة» ما معناه؟ وهل يمكن الالتزام بأنّ هذا المقدار ملائم لعدم الإجزاء؟ كلاّ .

وعلى أيّ حال، فهذه الرواية ونظائرها من حيث التعبير ـ كقوله (عليه السلام) : «التقيّة ديني ودين آبائي»(1)ـ هي العمدة في روايات الإجزاء، كما صرّح به المحقّق البجنوردي(2).

وهناك تفسير للمحقّق النائيني، فقال : إنّ قوله (عليه السلام) : «التقيّة ديني» بمعنى أنّ ما يرونهم ديناً فهو ديني في حال التقيّة(3)، وهذا تفسير لطيف جدّاً .

وقال المحقّق الخوئي : إنّ الرواية ـ مضافاً إلى كونها ضعيفة السند; لأجل أنّ


(1) تقدّم في ص57.
(2) القواعد الفقهيّة 5: 55 ـ 60.
(3) كتاب الصلاة، تقريرات بحث النائيني(قدس سره) ، للشيخ محمّد تقي الآملي (رحمه الله) 2 : 299 .

صفحه 67

أبا عمر الأعجمي ممّا لم يتعرّضوا لحاله ، فهو مجهول الحال من جميع الجهات، حتّىمن حيث التشيّع وعدمه، فضلاً عن الوثاقة وعدمها ـ أجنبيّة عمّا نحن بصدده، وقال : إنّ ما نحن بصدده هو البحث عن ارتفاع الأحكام المتعلّقة بالفعل المتّقى به، كارتفاع الجزئيّة والمانعيّة في فرض التقيّة ، مع أنّ الرواية ناظرة إلى أصل مشروعيّة التقيّة ، وقرينة ذلك استثناء شرب النبيذ ، فبناءً على كون الرواية بصدد بيان الأحكام فما هو الوجه في عدم ارتفاع الحرمة في شرب النبيذ تقيّةً ؟ وهل هو أعظم من حرمة ترك الصلاة التي ترتفع عند الاضطرار والتقيّة؟

أمّا بناءً على كون الرواية بصدد بيان أصل المشروعيّة، فالاستثناء صحيح ; لأنّ عدم مشروعيّة التقيّة في شرب النبيذ والمسح على الخفّين من جهة عدم وجود الموضوع فيهما . ولعلّ الشيخ الأنصاري لم يلفت نظره الشريف إلى الاستثناء الأوّل ، وإنّما توجّه إلى الثاني فقط ، ولو كان متوجّهاً إلى الأوّل لقال: ما قلناه في معنى الرواية(1) . انتهى خلاصة كلامه (قدس سره) .

وفيه أوّلاً : أنّ الشيخ قد صرّح بكون الرواية في مقام إثبات المشروعيّة وقال : دلّت الرواية على ثبوت التقيّة ومشروعيّتها في كلّ شيء ممنوع لولا التقيّة(2) . لكن نظره الشريف إلى وجود الملازمة الواضحة بين المشروعيّة وارتفاع الأحكام ; فإنّ مشروعيّة التقيّة في الحرام النفسي مساوق لحلّيته ، وفي الحرام الغيري مساوق لرفع الجزئيّة التي هي سبب للحرمة، مع أنّ أصل المشروعيّة أمر مجمل بعيد عن هذه التعبيرات .

وثانياً : أنّ منشأهذا التفسيريرجع إلى الإشكال الذي ذكره السيّد الخوئي ، مع أنّ الشيخ قد التفت إلى الإشكال وقال : إنّ ظاهر الاستثناء فيهما مخالف لما اُجمع عليه


(1) التنقيح، في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 217 و 247 ـ 248.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 90.

صفحه 68

من ثبوت التقيّة فيهما ، وقال في جوابه : إنّ هذه المخالفة لا يقدح فيما نحن بصدده(1) .

فالإنصاف أنّه ـ مع قطع النظر عن السند ـ تكون الرواية واضحة الدلالة للمطلوب، والله العالم .

ومنها : موثّقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث : أنّ المؤمن إذا أظهر الإيمان ثمّ ظهر منه ما يدلّ على نقضه خرج ممّا وصف وأظهر، وكان له ناقضاً إلاّ أن يدّعي أنّه إنّما عمل ذلك تقيّةً ، ومع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس ممّا يمكنأن تكون التقيّة في مثله لم يقبل منه ذلك ; لأنّ للتقيّة مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له ، وتفسير ما يتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين; فإنّه جائز(2) .

بيان الاستدلال : أنّ الجواز بمعنى المضيّ ، وهو أعمّ من التكليفي والوضعي ، فالرواية تعطي قاعدة كلّيّة ; وهي: أنّ كلّ ما يفعله المؤمن من جهة التقيّة; سواء كان تركاً للجزء، أو الشرط، أو إتياناً للمانع; فإنّه صحيح إذا لم ينجرّ إلى فساد في الدين وهذا التعبير نظير قوله (عليه السلام) : الصلح جائز بين المسلمين(3) .

فهذه الرواية دالّة على الإجزاء، كما فهمه الشيخ الأنصاري(4) والسيّد الإمام الخميني(5) ، ولكن أورد السيّد الخوئي على الاستدلال بها بثلاث إيرادات :


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 91.
(2) الكافي 2: 168 ح1، وعنه وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب25 ح6.
(3) الكافي 7: 413 قطعة من ح1، تهذيب الأحكام 6: 226 قطعة من ح541، وعنهما وسائل الشيعة 27: 212، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب1 قطعة من ح1، وفي ص234، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب3 ح5 عن الفقيه 3: 20 ح52.
(4) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 92.
(5) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 191.

صفحه 69

الأوّل : أنّها مخدوشة من حيث السند ; فإنّ مسعدة بن صدقة ممّن لم يوثّق في كتب الرجال .

الثاني : أنّ الرواية لا تدلّ على المدّعى ; لأنّه قد اُسند الجواز فيها إلى الفعل ، وهذا الإسناد ظاهر في الجواز النفسي الاستقلالي، ولا يدلّ على الجواز الغيري ، والمراد من الجواز النفسي إباحة الشيء مستقلاًّ من دون نظر إلى أنّه جزء، أو شرط للغير ، والمراد من الجواز الغيري كون دخالته في شيء، وعدم دخالته على حدٍّ سواء ، وعلى هذا يستفاد من الرواية جواز ما هو حرام مستقلاًّ، ولا يستفاد منها الحلّيّة الغيريّة .

الثالث : أنّ صدر الرواية شاهد على كونها بصدد بيان أصل مشروعيّة التقيّة، لا جواز الفعل المتّقى به ; فإنّ صدرها شاهد على كونها في مقام بيان مواضع التقيّة، وجريانها في الموارد المعيّنة . وعلى هذا لا تدلّ على سقوط الجزء عن الجزئيّة، أو الشرط عن الشرطيّة في موارد التقيّة(1) .

والإيرادات كلّها مخدوشة :

أمّا الأوّل : أنّ لمسعدة توثيقاً عامّاً ; فإنّه ممّن ورد في أسانيد كتاب كامل الزيارات، وتفسير عليّ بن إبراهيم(2) ، والسيّد الخوئي كان ممّن اعتبر هذا المقدار من التوثيق بشرط عدم وجود تضعيف معتبر ، وقد قيل : إنّه قد عدل عن هذا المبنى .

وأمّا الثاني : فأوّلاً : أنّه لا نسلّم ظهور الجواز في خصوص الجواز النفسي ، بل جواز كلّ شيء بحسبه ، وهو أعمّ من التكليف والوضع ، ولعلّه (قدس سره) قد التفت إلى هذا الإشكال وصرّح به في الإيراد الثالث .


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 250.
(2) راجع ص 30.

صفحه 70

وثانياً : تقسيم الجواز إلى النفسي والغيري غير فنّي ; فإنّ الجواز في التكليفيّات بمعنى الإباحة ، وفي الوضعيّات يكون بمعنى الصحّة . أمّا الجواز بمعنى استواء دخالته وعدم دخالته في شيء، فليس بصحيح .

وأمّا الثالث : فإنّ صدر الرواية وإن كان شاهداً على كونها بصدد بيان مواضع التقيّة ، لكن ذيلها يعطي قاعدة كلّيّة مع ملاكها ، والقاعدة هي: أنّ كلّ ما يفعل المؤمن من جهة التقيّة فإنّه جائز ، والملاك هو عدم أدائه الى الفساد في الدين ، ومن هذه القاعدة نستفيد صحّة العمل في مورد ترك الجزء، أو الشرط، أو إتيان المانع .

ومنها : ما ذكره السيّد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً من تفسير النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) قال : وأمّا الرخصة التي صاحبها فيها بالخيار ـ يعمل بظاهرها عند التقيّة ولا يعمل بباطنها ـ فإنّ الله ـ تعالى ـ نهى المؤمن أن يتّخذ الكافر وليّاً، ثمّ منّ عليه بإطلاق الرخصة له عند التقيّة في الظاهر أن يصوم بصيامه، ويفطر بإفطاره، ويصلّي بصلاته، ويعمل بعمله، ويظهر له استعمال ذلك موسّعاً عليه فيه .

وعليه أن يدين الله ـ تعالىـ في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الاُمّة، قال الله ـ تعالىـ : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَىْء إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـئـةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) (1) فهذه رخصة تفضّل الله ـ تعالى ـ بها على المؤمنين ، رحمة لهم ليستعملوها عند التقيّة في الظاهر ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه، كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه(2) .


(1) سورة آل عمران 3: 28.
(2) رسالة المحكم والمتشابه، المطبوع بتمامها في بحار الأنوار 93: 29 ، وفي جامع الأخبار والآثار 3: 135، وعنه وسائل الشيعة 1: 107، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات ب25 ح1، وج10: 133، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب57 ح8 ، وج16: 232 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29 ح20 ، وبحار الأنوار 75: 390 ح10.

صفحه 71

والاستدلال بها من وجوه :

الأوّل : أنّ الظاهر من العمل بعمله والصلاة بصلاته; هو صحّة العمل وإجزاؤه عن الوظيفة الأوّليّة .

الثاني : أنّ التعبير بالرحمة والمنّة صريح في الإجزاء ; فإنّ الإعادة أو القضاء مناف للتفضّل والرحمة .

الثالث : أنّ قوله (عليه السلام) : «موسّعاً عليه» يدلّ على الإجزاء أيضاً ، فالإعادة أو القضاء مخالف للتوسعة .

الرابع : يستفاد من الرواية أنّ التقيّة من مصاديق الترخيص، ويحبّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يؤخذ برخصه، فينتج أنّ التقيّة محبوبةلله تباركوتعالى، ومن المعلوم أنّ العمل غير الصحيح لا يكون محبوباً ، والعجب كلّ العجب من القائلين بعدم الإجزاء; إذ مع وجود هذه التعبيرات العالية في الروايات ، فهل يكون الشيء محبوباً ورحمةً ومنّةً ومستعملاً في الدين، ومع ذلك يكون باطلاً وغير صحيح؟ كلاّ ثمّ كلاّ .

إن قلت : إنّ قوله (عليه السلام) : «أن يدين الله ـ تعالىـ في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه» ظاهر في إعادة ما يأتي به تقيّةً .

قلت : إنّ الظاهر من الكلام; أنّ لمهيّة العبادات مصداقين مختلفين : التقيّة وعدمها، لكنّ التقيّة مصداق ظاهري، وعدمها مصداق باطنيّ .

ومنها : رواية سفيان بن سعيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وفيها : يا سفيان من استعمل التقيّة في دين الله فقد تسنّم الذروة العليا من القرآن(1) .


(1) معاني الأخبار: 385 ح20، وعنه وسائل الشيعة 16: 208، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح17.

صفحه 72

وجه الاستدلال: أنّ الظاهر من استعمال التقيّة في دين الله ، أنّ ما يرتبط بالشارع ويعدّ من الدين اُصولاً وفروعاً يأتي فيه التقيّة ، والتعبير بأنّه «تسنّم الذروة العليا من القرآن» ظاهر بل نصّ في صحّة العمل ، على أنّ ما يستعمل في دين الله يكون صحيحاً ومصداقاً للمأمور به ، وقد جاء نظير هذا التعبير في بعض آخر، فراجع(1) .

ومنها : ما عن سعد بن عبد الله في بصائر الدرجات بسنده الصحيح عن معلّى ابن خنيس قال : قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : يا معلّى ، اكتم أمرنا ولا تذعه ; فإنّه من كتم أمرنا ولا يذيعه أعزّه الله في الدنيا، وجعله نوراً بين عينيه يقوده إلى الجنّة .

يا معلّى، إنّ التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له .

يا معلّى، إنّ الله يحبّ أن يعبد في السرّ كما يحبّ أن يُعبد في العلانية، يا معلّى، والمذيع لأمرنا كالجاحد له(2) .

بيان الاستدلال : أنّ العبادة سرّاً ـ المستفاد من قوله (عليه السلام) : «إنّ الله يحبّ أن يُعبد


(1) التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام) : 175 ـ 176، الاحتجاج 1: 555 ـ 557، آخر الرقم 134، وعنهما وسائل الشيعة 16: 228، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب29 ح11.
وفي بحار الأنوار 75: 418 ح72 عن الاحتجاج.
(2) مختصر بصائر الدرجات : 235 ح291، وعنه وسائل الشيعة 16: 210، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح24، وفي ص485 ح6 عن الكافي 2: 223 ح8 والمحاسن 1: 397 ح890 .
وأخرجه في بحار الأنوار 2: 73 ح41 وعوالم العلوم 3: 308 ح20 عن المحاسن، وفي ج75: 76 ح25 عن الكافي.
وفي بحار الأنوار 75: 421 ح80 ، ومستدرك الوسائل 12: 255 ح14041 عن مشكاة الأنوار 1: 87 ح171.

صفحه 73

فى السرّ» ـ ظاهرة في العبادة على نعت التقيّة ، بقرينة العبارات الواردة قبل هذه العبارة ، وواضح أنّ العمل الباطل لا يُعدّ عبادةً .

وقد ورد في بعض الروايات: «أنّ التقيّة أحبُّ شيء يُعبد به الله»; كموثّقة هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبء ، قلت : وما الخبء؟ قال : التقيّة(1) . والمراد أنّ العبادة تقيّةً أحبّ من العبادة في غير التقيّة ، والله العالم .

ومنها : موثّقة سماعة قال : سألته عن رجل كان يصلّي، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة ؟ قال : إن كان إماماً عدلاً فليصلّ اُخرى وينصرف ويجعلها تطوّعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو، ويصلّي ركعة اُخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ ليتمّ صلاته معه على ما استطاع ; فإنّ التقيّة واسعة، وليس شيء من التقيّة إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله(2) .

وقد استدلّ الشيخ الأنصاري(3)، والسيّد الإمام الخميني(4) بها على الإجزاء ، ودلالتها عليه أوضح من بعض الروايات المبحوثة عنها ; فإنّها كالنصّ فيصحّة الصلاة معهم; لأنّ قوله (عليه السلام) : «على ما استطاع» بمعنى أنّ فعله صحيح بالمقدار الذي يستطيع أن يفعل ، ولو لم يستطع على إتيان جزء فلا محذور فيه ، بل


(1) معاني الأخبار: 162 ح1، وعنه وسائل الشيعة 16: 207، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح15.
(2) الكافي 3: 380 ح7، تهذيب الأحكام 3: 51 ح177، وعنهما وسائل الشيعة 8: 405، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب56 ح2.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 92.
(4) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 192.

صفحه 74

مأجور عليه ، والرواية وإن كانت واردة في الصلاة، لكن نتعدّى عنها بجهة التعليل الوارد في ذيلها .

والسيّد المحقّق الخوئي قد أورد على الشيخ الأنصاري بأنّ تفسيره للروايةغير صحيح، وقال : إنّ الشيخ قد حمل الجملة الثانية أعني قوله (عليه السلام) : «وإن لم يكن إمام عدل» على أنّه يجعل ما بيده من الفريضة تطوّعاً، ويسلّم في الثانية ويأتمّ بالإمام(1) .

مع أنّ عبارة الشيخ في رسالته تنادي بخلافه ; فإنّه قال : فإنّ الأمر بإتمام الصلاة على ما استطاع مع عدم الاضطرار إلى فعل الفريضة في ذلك الوقت ـ معلّلاً بأنّ التقيّة واسعة ـ يدلّ على جواز أداء الصلاة في سعة الوقت على جميع وجوه التقيّة(2) ، انتهى كلامه .

ثمّ قال : إنّ الاستدلال بالرواية غير تامّ، ولا يستفاد منها الإجزاء ; لأنّ مضمون الرواية الاقتداء بالإمام بقدر ما يستطيعه من الإبراز والإظهار ، وهذا لااختصاص له بالائتمام من أوّل الصلاة ، بل لو أظهر الائتمام في أثناء الصلاة أيضاً كان ذلك تقيّة ، وعلى ذلك لا دلالة للرواية على جواز الاكتفاء في الصلاة معهم بما يتمكّن منه من الأجزاء والشرائط .

وبالجملة: إنّ المراد من الرواية; إظهار الائتمام وصورة الائتمام بقدر ما يستطيع من الإظهار ، واستشهد لذلك بالعنوان الذي ذكره صاحب الوسائل لهذا الباب الذي ذكر فيه الرواية ; فإنّ عنوان الباب هو: استحباب إظهار المتابعة في أثناء الصلاة مع المخالف ، وقال في آخر كلامه : ولعلّ الشيخ لم يلفت نظره الشريف إلى


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 248 .
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 90.

صفحه 75

عنوان الباب في الوسائل(1); انتهى كلامه .

وفيه أوّلاً : أنّ قوله (عليه السلام) : «على ما استطاع» متعلّق بقوله (عليه السلام) : «ليتمّ معه»، والمعنى: أنّ الائتمام مع الإمام واجب على نحو يكون مستطيعاً ، والمعيّة ظاهرة في الاقتداء الواقعي لا الصوري ، وبعبارة اُخرى : المعيّة الظاهريّة تحتاج إلى قيد ، بخلاف المعيّة الواقعيّة، فيكفي فيها الإطلاق .

وثانياً : أنّ ما فهمه صاحب الوسائل ليس حجّة حتّى يحتجّ به على الشيخ ، فإنّا إذا تتبّعنا نجد بعض العناوين الواردة في أبواب الكتاب، أنّه غير مرتبطة بالأحاديث التي ذكرها تحت ذاك العنوان، فليراجع .

فالاستدلال بالرواية للإجزاء تامّ ، لكن بقي هنا إشكال الإضمار في سندها ، والمضمر هو سماعة، وهو ليس كزرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهما من الأجلاّء الذين لا يناسبهم السؤال عن غير أئمـّتهم(عليهم السلام)، بل هو من الواقفيّة ، ومن الممكنأن يسأل عن غير أئمـّتنا(عليهم السلام) .


(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 249.

صفحه 76


صفحه 77

الفصل الثامن : هل ترك التقيّة يفسد العمل، أم لا؟

لو ترك التقيّة وأتى بالعمل على خلافها، فهنا صورتان :

الاُولى ـ وهي التي لم يتعرّض لها الشيخ في رسالته ـ : أن يترك المكلّف العمل رأساً، فلا يأتي به تقيّة، ولا على طبق الوظيفة الأوّليّة ، بل يعمل عملاً ثالثاً ، كما إذا اقتضت التقيّة الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجّة، والمكلّف قد ترك الوقوف في ذلك اليوم وفي اليوم التاسع على حسب عقيدته ، وكما إذا اقتضت غسل الرجلين، ولكن المكلّف ترك الغسل والمسح معاً .

ذهب السيّد الخوئي في هذه الصورة إلى أنّه لو استندنا في صحّة العمل المتّقى به إلى السيرة الجارية من زمان الأئمـّة(عليهم السلام) إلى عصرنا هذا، فلا إشكال في الحكم بالبطلان ، حيث يكفي فيه مخالفته للوظيفة الواقعيّة ، والمخالف للواقع باطل .

وبعبارة اُخرى : السيرة إنّما تحقّقت فيما إذا كان العمل المخالف للواقع موافقاًللعامّة; بأن يؤتى به متابعة لهم . وأمّا ما كان مخالفاً للواقع، ولم يكن موافقاً لهمفلم تقم أيّة سيرة على صحّته . وأمّا إذا استندنا في الصحّة إلى الأدلّة اللفظيّة; كقوله (عليه السلام) :«ماصنعتم من شيء»(1) إلخ، فإن استفدنامن الأدلّة اللفظيّة انقلاب الوظيفة


(1) تقدّم في ص63.

صفحه 78

الواقعيّة الأوّليّة إلى ما يعتقده العامّة، فلابدّ من الحكم بالبطلان; لعدم مطابقةالمأتيّ به لما هو الوظيفة في ذلك الحال . وأمّا إذا استفدنا وجوب التقيّة فقط من دون انقلاب في البين فلايبعد الحكم بالصحّة(1) .

الصورة الثانية ـ وهي التي تعرّضها الشيخ الأنصاري (قدس سره) ـ أن يفعل المكلّف على طبق الوظيفة الواقعيّة الأوّليّة، وترك العمل على طبق مذهب العامّة(2) ، ولا خلاف في صحّة المعاملة في هذا الفرض ، وإنّما وقع الخلاف في صحّة العبادة، وفيها أقوال ثلاثة :

الأوّل : صحّة العمل مطلقاً ، ذهب إليه جمع، منهم: السيّد الإمام الخميني (قدس سره) (3) .

الثاني : عدم الصحّة مطلقاً، ذهب إليه صاحب الجواهر(4)، وقد جزم به الفقيه الهمداني(5) .

الثالث : التفصيل بين لزوم رعاية التقيّة في الأجزاء والشرائط التي تكون متّحدةمع العبادة ، وبين الأجزاء والشرائط التي كانت خارجة عنها ، ففي الأوّل ترك التقيّة موجب للبطلان، بخلاف الثاني ، والأوّل كالسجدة على التراب فيما إذااقتضت التقيّة تركها، والثاني كترك التكتّف، وغسل الرجلين في الوضوء ، ذهب إليه الشيخ الأنصاري(6) ، ووافقه المحقّق النائيني(7) ، وتبعه السيّد الخوئي(8) في خصوص


(1) التنقيح، في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 278 ـ 279.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 96.
(3) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 186.
(4) جواهر الكلام 2: 239.
(5) مصباح الفقيه 2: 435.
(6) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 96.
(7) كتاب الصلاة تقريرات بحث النائيني (رحمه الله) للشيخ محمّد تقي الآملي (رحمه الله) 2 : 299.
(8) التنقيح في شرح العروة الوثقى 5: 281 ـ 282.

صفحه 79

ما إذا اقتضت التقيّة ترك شيء، ولكن يفعله المكلّف ، أمّا فيما إذا اقتضت شيئاً كالتكتّف، ولكن يتركه المكلّف، فعمله صحيح مطلقاً .

حجّة القول الأوّل : أنّ الصحّة مطابقة للقواعد ; لأنّ التقيّة وإن كانت واجبة ، لكنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضدّ ، فالأمر بالتقيّة لا يقتضي النهي عن ضدّها حتّى يكون فاسداً(1) ، وبناءً على هذا يكون التارك للتقيّة عاصياً فقط .

وفيه : أنّا لا نحتاج لإثبات النهي إلى هذه القاعدة الاُصوليّة حتّى يقال بعدم إقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، بل يستفاد من التعليلات الواردة في روايات التقيّة أنّ تركها موجب لوهن المذهب(2) ، ـ كقولهم(عليهم السلام): يغفر الله للمؤمن كلّ ذنب ـ إلى أن قال ـ : ما خلا ذنبين: ترك التقيّة و...(3)، أو ليس منّا من لم يلزم التقيّة(4) ـ وأنّ الفعل على خلاف مذهبهم يكون منهيّاً عنه ، وإلاّ فمسألة الحرمة التكليفيّة محلّ مناقشة، مع أنّها مسلّمة قطعاً .

حجّة القول الثاني : وهي اُمور :

الأوّل : وله تقريبان :

التقريب الأوّل : أنّ تارك التقيّة تارك للفعل المأمور به ، وترك المأمور به


(1) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 186ـ 187.
(2) لاحظ ما تقدّم في ص44 ـ 48.
(3) تفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) : 321 ح166، وعنه وسائل الشيعة 16: 223، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب28 ح6.
(4) أمالي الطوسي: 281 ح543، وعنه وسائل الشيعة 16: 212 ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح28.

صفحه 80

مساوق لفساد العمل(1) .

وأجاب عنه الشيخ الأعظم في رسالته بأنّ ترك التكتّف لا يكون إخلالاً بالمأمور به ; فإنّ التكتّف واجب مستقلّ خارج عن المأمور به . ثمّ أورد على نفسه إيراداً، وأجاب عنه .

والإيراد هو: أنّ لازم كلامكم صحّة الوضوء لو ترك المسح على الرجلين وعلى الخفّين معاً ; لأنّ المسح على الخفّين واجب مستقلّ ، وتركه غير مخلّ في المأمور به ، مع أنّ الإجماع قائم على البطلان .

وأجاب: أنّ البطلان ليس من جهة ترك التقيّة ، بل من جهة ترك أصل المسح ; فإنّ التقيّة تقتضي إلغاء قيد المماساة بين الماسح والممسوح ، ولا تقتضي إلغاء أصل المسح .

وبالجملة : ذهب الشيخ في مسألة المسح إلى الانحلال، واعتقد بالانحلال إلى أصل المسح، وإلى المسح على البشرة ، والثاني ينتفي في فرض التقيّة ، فبقي الأوّلبحاله ، واستدلّ برواية عبد الأعلى مولى آل سام(2)، ثمّ إنّه قد أيّد الانحلال بفتوى الفقهاء بتقديم غسل الرجلين فيما إذا دار الأمر بين غسلهما، وبين المسح على الخفّين; فإنّ علّة التقديم أنّ في الغسل يكون إيصال الرطوبة موجوداً، بخلاف المسح على الخفّين ، فهذا شاهد على الانحلال(3) .

وقد أورد عليه السيّد الإمام في رسالته بأنّ هذا النحو من التحليل ليتّسع الخرق على الواقع ; لإمكان أن يقال : إنّ المسح ينحلّ إلى أصل الإمرار ولو بغير


(1) جواهر الكلام 2: 239، مصباح الفقيه 2: 435.
(2) تهذيب الأحكام 1: 363 ح1097، الاستبصار 1: 77 ح240، الكافي 3: 33 ح4، وعنها وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء ب39 ح5.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 96 ـ 98.

صفحه 81

اليد، وعلى غير الرجل ، فإذا تعذّر المسح باليد وعلى الرجل يجب مسح شيء بشيء آخر، وهو كما ترى(1) . انتهى كلامه .

ولنا على الشيخ إشكالان :

الإشكال الأوّل : عدم جريان هذا الجواب في الجزء والشرط ، ففيما إذا وجب ترك جزء، فلو فعله لفَعَل غير ما هو المأمور به في حال التقيّة، ويكون فاسداً .

الإشكال الثاني : أنّ الظاهر من أدلّة التقيّة إتيان العمل على نحو يعتقده العامّة، فإذا اعتقدوا بشرطيّة التكتّف للصلاة، فتركه مخلّ بالمأمور به قطعاً .

التقريب الثاني لهذا الدليل : أنّ التقيّة وعدمها موضوعان مختلفان للحكم الواقعي الأوّلي والثانوي ، ولا ريب في تبدّل الحكم بتبدّل الموضوع، كالمسافر والحاضر ، ففي فرض التقيّة يتبدّل الحكم والأمر ، ومخالفته موجب لفساد العمل .

إن قلت : التبدّل مسلّم فيما إذا كان التبدّل في الخطاب والملاك معاً ، أمّا لو كان التبدّل في الخطاب مع بقاء الملاك فلا يتبدّل الحكم ، فيصحّ العمل ; لتوقّف الصحّة على الملاك دون الخطاب .

قلت : لا طريق لإحراز الملاكات إلاّ الخطابات ، ومع سقوط الخطاب وعدم وجود طريق آخر، لا طريق إلى إحراز بقاء الملاك ، ومع عدم إحراز بقاء الملاك لايصحّ الحكم بالصحّة .

إن قلت : الطريق للإحراز هو الاستصحاب ، ففي فرض التقيّة نعلم برفع الخطاب، ونشكّ في سقوط الملاك ، فنستصحب بقاء الملاك .

قلت : إنّ هذا الأصل مثبت ، فتدبّر .


(1) الرسائل ، رسالة في التقيّة 2 : 187 .

صفحه 82

تنبيه

إنّ الظاهر من أدلّة التقيّة الانقلاب الواقعي ، فيسقط الحكم الواقعي ملاكاً وخطاباً ، كما يستفاد من قول أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيح ابن سالم في قول اللهـ عزّوجلّ ـ : (وَ يَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (1) قال : الحسنة: التقيّة، والسيّئة: الإذاعة(2) .

وقوله (عليه السلام) : لا دين لمن لا تقيّة له(3) ، إلى غير ذلك من التعبيرات المقتضية للانقلاب .

وما يقال: من أنّ ظاهر أوامر التقيّة كونها ديناً، وهو مقتض لبدليّة ما يوافق التقيّة عن الواقع ، فيكون في طول الواقع ، فالإتيان بالواقع مجزئ مسقط للأمر(4) ، فيكفي في فساده التأمّل في التعبيرات الواردة في أدلّة التقيّة ; فإنّ معنى كون عدم التقيّة سيّئةً : هو عدم المشروعيّة ، وبهذا البيان يظهر فساد ما ذهب إليه المحقّق النائيني (قدس سره) من الإنقلاب في خصوص الأجزاء والشرائط المتّحدة مع العبادة(5) ; فإنّ المستفاد من الروايات هو الانقلاب مطلقاً .


(1) سورة القصص 28: 54.
(2) الكافي 2: 217 ح2، وعنه وسائل الشيعة 16: 203، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي ب24 ح3.
(3) تقدّم في ص65.
(4) مستمسك العروة الوثقى 2: 410.
(5) كتاب الصلاة تقرير بحث آية الله النائيني(قدس سره) للشيخ محمّد تقي الآملي (رحمه الله) 2: 299.

صفحه 83

الفصل التاسع : جريان التقيّة في الموضوعات وعدمه

لا إشكال في جريان التقيّة في الأحكام من حيث الحكم التكليفي والوضعي، كالمسح على الخفّين والتكتّف ، وكذا لا إشكال في جريانها من حيث الحكم التكليفي في الموضوعات ، وإنّما الإشكال في جريانها في الموضوعات من حيث الصحّة والإجزاء ، فمثلاً الوقوف بعرفات في يوم الثامن لأجل ثبوت الهلال عندهم،هل يكون موجباً لصحّة الحجّ وعدم لزوم إعادته، أم لا؟

ذهب الشيخ الأنصاري إلى عدم جريان التقيّة في الموضوع المحض الذي لايرتبط بالحكم والمذهب ; مستدلاًّ بأنّ أدلّة التقيّة لو كانت مطلقة لكانت منصرفة إلى ما يرتبط بالمذهب ، والاختلاف في الموضوع خارج عن هذا ، فمثلاً إنّ هذا اليوم هواليوم الثامن أو التاسع لا دخل له بالمذهب، وإنّما هو اختلاف في موضوع صرف(1)، وقد وافق الشيخ في هذا القول المحقّق البجنوردي(2) . وذهب صاحب الجواهر إلى نفي البعد عن إلحاق الموضوع بالحكم، واستدلّ على ذلك بأمرين :


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 79 ـ 80 .
(2) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 5 : 60 ـ 61 .

صفحه 84

الأمر الأوّل : أنّ القول بالإعادة وعدم الصحّة مستلزم للحرج ، مع عدم الحكم الحرجي في الدين .

الأمر الثاني : في خصوص الوقوف بعرفات يوم الثامن لو قلنا بعدم الصحّة ووجوب الإعادة في السنة الآتية لأمكن الاختلاف في السنة الآتية أيضاً ، وهكذا في السنين الاُخر ، واحتمال وجود هذا الاختلاف كاف في المنع عن الإعادة (1).

ويرد على الأوّل: أنّ الحجّ أمر حرجيّ في نفسه ، وقاعدة لا حرج لا تتأتّى في المورد الذي يكون تكليفاً حرجيّاً في نفسه .

وعلى الثاني: أنّ مجرّد هذا الاحتمال لا يكفي في رفع التكليف اليقيني وبراءة الذمّة عنه .

هذا، ولكنّ التحقيق صحّة ما ذهب إليه، وفاقاً للإمام الخميني(2) وجمع من المحقّقين(3) ، وعلى ذلك دليلان :

الدليل الأوّل : العمومات والإطلاقات الواردة في أدلّة التقيّة ; فإنّها شاملة للحكم والموضوع معاً ، وما ذكره الشيخ الأعظم من انصراف الإطلاقات إلى مايرتبط بالمذهب غير تامّ; لأنّ الظاهر من أدلّة التقيّة أنّ استعمالها لازم فيما يرتبط بالدين وما ينسب إلى الشارع، من دون فرق بين الحكم والموضوع ، مضافاً إلى أنّ تعبير بعض الروايات الواردة ـ ، كقوله (عليه السلام) : إيّاكم أن تعملوا عملاً نعيّر به(4)ـ ظاهر في جريان التقيّة في الموضوع أيضاً ; فإنّ المخالفة في الموضوع موجب لوهن المذهب وتعيير الأئمـّة(عليهم السلام) .


(1) جواهر الكلام 19: 32.
(2) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 196.
(3) مهذّب الأحكام 2: 387.
(4) تقدّم بتمامه في ص44.

صفحه 85

ويستفاد من الإطلاقات ـ مضافاً إلى جريان التقيّة في الموضوعات ـ عدم الفرق بين صورة الشكّ، وصورة العلم بالخلاف; فلو علم شخص بأنّ هذا اليوم هوالثامن، واعتقد العامّة بأنّه يوم التاسع، فوقف معهم بعرفات، لكان حجّه صحيحاً .

الدليل الثاني : السيرة القطعيّة ، والمقصود أنّه بعد زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عصر الغيبة يحجّون الأئمـّة(عليهم السلام) والشيعة مع سائر الناس ، وكان أمر الحجّ بيد حكّام العامّة، ومن الواضح تحقّق الاختلاف في هذا الزمن ـ الذي كان أكثر من مائتي عام ـ في أوّل الشهر، وطبعاً في اليوم التاسع ، ومع ذلك لم يرد من الأئمـّة(عليهم السلام) النهي عن إتّباع العامّة والوقوف معهم ، ولم يسمع أنّهم وقفوا خلاف وقوفهم ، ولو كان لبان ; لكثرة الابتلاء .

وهذا يدلّ على الصحّة والإجزاء، وهذا الدليل شموله أقلّ من الدليل الأوّل; لحجّيّته في الاُمور التي كانت كثيرة الابتلاء، وكانت بمرئى ومنظر من الأئمـّة(عليهم السلام)، بينما أنّ الدليل الأوّل شامل لها، وللاُمور التي لم تكن كثيرة الابتلاء ، وقد تأمّل المحقّق البجنوردي في ثبوت هذه السيرة(1) ، وفي تأمّله تأمّل .

وهنا رواية قد يستدلّ بها على الإجزاء في الموضوعات ; وهي: ما رواها الشيخ بإسناده عن أبي الجارود زياد بن منذر قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) : إنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى ، فلمّا دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وكان بعض أصحابنا يضحّي، فقال : الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحّي الناس، والصوم يوم يصوم الناس(2) .

وجه الاستدلال: أنّ ظاهرها أنّ يوماً يضحّي الناس فهو الأضحى حقيقةً ،


(1) القواعد الفقهيّة للبجنوردي 5: 64.
(2) تهذيب الأحكام 4: 317 ح966، وعنه وسائل الشيعة 10: 133، كتاب الصوم ، أبواب ما يمسك عنه الصائم ب57 ح7.

صفحه 86

ويوماً يفطر الناس فهو يوم الفطر حقيقةً ، ومعنى هذا جريان التقيّة في الموضوع والإجزاء في العمل على وفقهم ، ومع إلغاء الخصوصيّة نتعدّى إلى كلّ موضوع ، ولكنّ الرواية وإن كانت ظاهرة في هذا المعنى; إلاّ أنّ سنده ضعيف بأبي الجارود الذي ينسب إليه الجاروديّة ، وقيل في حقّه : إنّه كان كذّاباً كافراً (1).

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه جريان التقيّة والإجزاء في الموضوعات على نحو جريانها في الأحكام، من دون فرق بين الشكّ والعلم بالخلاف .

تنبيه

قد وقع الخلاف في أنّ حكم حاكم أهل السنّة هل هو نافذ في حقّنا، كحكم حاكمنا أم لا على ثلاثة أقوال; ذهب جمع(2) إلى النفوذ مطلقاً ، من دون فرق بين الشكّ والعلم بالخلاف . وذهب السيّد الإمام الخميني إلى عدم النفوذ مطلقاً(3) ، وذهب بعض كالمحقّق البجنوردي(4) والسيّد الخوئي(5) إلى النفوذ في صورة الشكّ ، وهذا هو الحقّ .

وليعلم أنّ هذا بحث آخر لا يرتبط بالبحث عن جريان التقيّة في الموضوع ، والعجب وقوع الخلط بينهما في كثير من الكلمات ; فإنّ النفوذ مرتبط بالحكم والمذهب، ولا يرتبط بالموضوع ، فتدبّر .

والإنصاف: أنّ أدلّة التقيّة شاملة لهذا في صورة الشكّ فقط ; فإنّ الجري على طبق مذهبهم يقتضي نفوذ حكم حاكمهم بالنسبة إلينا، كما هو نافذ بالنسبة إليهم ،


(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي»: 230، الرقم 416، معجم رجال الحديث 7: 323.
(2) جواهر الكلام 19: 32، مستمسك العروة الوثقى 2: 407 ـ 409، مهذب الأحكام 14: 177ـ 182.
(3) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 196.
(4) القواعد الفقهيّة 5: 64.
(5) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 254 ـ 256.

صفحه 87

وبعبارة اُخرى: من أحكام مذهبهم نفوذ حكم الحاكم ، فتجري التقيّة فيه . وأمّا التقييد بصورة الشكّ، فلأجل عدم نفوذ حكم الحاكم في مذهبهم في صورة العلم بالخلاف، ولا أقلّ من عدم ثبوت هذا في مذهبهم .


صفحه 88


صفحه 89

الفصل العاشر : اعتبار عدم المندوحة، وعدمه

كلمة المندوحة مأخوذة من «الندح» بفتح الأوّل، أو ضمّه، بمعنى الوسعة ، وقد اختلفوا في أنّ التقيّة هل يكون مشروعيّتها مقيّدة بعدم إمكان التخلّف عن العمل تقيّة ، فلو تمكّن من أن يأتي بالفعل على النحو الواقعي لما يجوز التقيّة ،أم لا يكون مقيّدة ؟ وقبل ذكر الأقوال وبيان الأدلّة يلزم ذكر اُمور لإيضاح محلّ الخلاف :

الأمر الأوّل : أنّه لا خلاف في شرطيّة عدم المندوحة فيما إذا استفيد الترخيص والإذن الشرعي الذي هو الملاك في الإجزاء; من إنضمام أدلّة التقيّة إلى الأدلّة الأوّليّة، وقلنا بشمول الأدلّة الأوّليّة لحال التقيّة ، وإنّما الخلاف فيما إذا استفدنا الإذن من نفس أدلّة التقيّة; سواء كان إذناً خاصّاً، كالإذن في الصلاة، أو في المسح على الخفّين ، أو إذناً عامّاً .

الأمر الثاني : أنّ المندوحة على نوعين ، عرضيّة وطوليّة ; والمراد من الأوّل: تمكّن المكلّف من إتيان العمل الواقعي في نفس الزمان الذي يعمل على طبق التقيّة ، والمراد من الثاني: أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي في نفس زمان إتيان العمل على


صفحه 90

طبق التقيّة غير ممكن ، لكنّه يمكن له أن يفعل في جزء آخر من أجزاء الزمان .

والظاهر أنّ الخلاف إنّما وقع في المندوحة العرضيّة . وأمّا الطوليّة فالمتسالم عليه بين الفقهاء عدم اعتبارها ، فلو تمكّن المكلّف من إتيان الفعل على النحو الصحيح الواقعي في جزء آخر من أجزاء ذلك الزمان، فلا يجب عليه الإعادة .

الأمر الثالث : أنّ المندوحة العرضيّة تتصوّر على نحوين :

الأوّل : أن يرتفع موضوع التقيّة رأساً ; بمعنى أنّ المكلّف قادر على رفع الموضوع وانعدامه رأساً ، كما إذا أجبره الحاكم على ترك الواجب وهو قادر على إتيانه ، وكما إذا كان قادراً على التكتّف الظاهري، كأن يقرّب إحدى اليدين إلى الاُخرى من دون اتّصال إحداهما بالاُخرى ، وبعبارة اُخرى: كان متمكّناً حال الاشتغال بإيجاد الواجب موافقاً لهم من تلبيس الأمر عليهم، وإيهامهم أنّه يفعل بمثل فعلهم وإن كان لم يفعل كفعلهم بنحو لا يكون منافياً للتقيّة .

فهذا النحو خارج عن محلّ النزاع، واتّفقوا على اعتبار عدم المندوحة. وقال بعض : وكأنّه ممـّا لا خلاف فيه (1). ومع وجود هذه المندوحة لا يكون التقيّة مشروعة ; لعدم صدق عنوان التقيّة عليه، وبعبارة اُخرى: إنّ عدم المندوحة بهذا المعنى من مقوّمات عنوان التقيّة عرفاً .

الثاني : أن يتبدّل موضوع التقيّة ولا ينعدم ، كما إذا كان متمكّناً حال الصلاة معهم; من أن يقف في صفّ أو مكان يتمكّن فيه من السجود على ما يصحّ السجود عليه ، فهذا النحو محلّ النزاع والخلاف .

نعم، يستفاد من كلام السيّد الإمام الخميني أنّ اعتبار عدم المندوحة في النحو الأوّل مسلّم إذا استفدنا اعتباره من عمومات أخبار التقيّة ومطلقاتها .

وأمّا بالنظر إلى الأخبار الخاصّة الواردة في باب الوضوء والصلاة معهم


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم(قدس سره) ): 85 ، مصباح الفقيه 2: 443 ـ 444.

صفحه 91

وغيرهما، فالمسألة محلّ نظر ، للسكوت عن لزوم إعمال الحيلة فيها مع كون المقام محلّ بيانه ، فلو كان عدمها معتبراً في الصحّة لم يجز إهماله; ثمّ ذكر بعض الأخبار الخاصّة الواردة في الوضوء .

وقال في آخر كلامه : نعم، هنا أخبار في باب القراءة والجماعة ظاهرة في لزوم إعمال الحيلة، كموثّقة سماعة(1)، وصحيحة عليّ بن يقطين(2)، وحملها على الاستحباب; لقوّة ظهور المطلقات في عدم لزوم إعمال الحيلة(3) .

الأمر الرابع : الظاهر أنّ جريان الخلاف منحصر بالتقيّة الخوفيّة، أو الإكراهيّة، ولا يجري في المداراتيّة ; وذلك; لأنّها إنّما شُرّعت لجلب قلوبهم وتحقّق الوحدة بين المسلمين ، وهذا لا يناسب الاشتراط بعدم المندوحة ; فإنّ الاشتراط به مستلزم لنقض الغرض، ويلزم من وجوده عدمه ، والشاهد على الاختصاص هي الأقوال الموجودة في البحث ; فإنّها كلّها تختصّ بالتقيّة الخوفيّة .

وبعد هذه الاُمور الأربعة نقول : إنّ في المسألة احتمالات بل أقوال سبعة :

الأوّل : اعتبار عدم المندوحة مطلقاً ، كما ذهب إليه صاحب المدارك(4) .

الثاني : عدم اعتباره مطلقاً ، ذهب إليه الشهيدان والمحقّق الثاني(5) .

الثالث : التفصيل بين ما كان مأذوناً فيه بخصوصه، فلا يعتبر ، كغسل الرجلين في الوضوء ، وبين مالم يرد فيه نصّ خاصّ ، وقد نسب هذا القول إلى المحقّق


(1) الكافي 3: 380 ح7 ، تهذيب الأحكام 3 : 51 ح177 ، وعنهما وسائل الشيعة 8 : 405، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب56 ح2 ..
(2) تهذيب الأحكام 3: 36 ح129، الاستبصار 1: 430 ح1663، وعنهما وسائل الشيعة 8 : 363 ، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب33 ح1 . وتأتي في ص96.
(3) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 204 ـ 207.
(4) مدارك الأحكام 1: 223.
(5) البيان للشهيد الأوّل : 48 ، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 1 : 112 ، جامع المقاصد 1: 222.

صفحه 92

الثاني(1) .

الرابع : التفصيل بين التقيّة من المخالفين، فلا يعتبر مطلقاً أو في الجملة ، ومن غيرهم فيعتبر ، ذهب إليه الإمام الخميني (قدس سره) (2) .

الخامس : التفصيل بين ما إذا كان الإذن الوارد إذناً لامتثال أوامر التقيّة فيعتبر ، وبين ما إذا كان إذناً لامتثال أوامر الأوّليّة المتعلّقة بالعبادات فلايعتبر، وهذا التفصيل هو الذي بيّنه الشيخ الأنصاري بعنوان التصحيح لكلام المحقّق الثاني وقال : لو كان مراده من تفصيله هذا التفصيل، فهو صحيح ، لكن يحتاج إلى قيد; وهو التقييد بغير الأجزاء والشرائط الاختياريّة ; لأنّ المسألة بناءً على التفصيل تصير من مصاديق ذوي الأعذار، والأجزاء والشرائط الاختياريّتان خارجتان عن هذه المسألة(3) .

السادس : اعتبار المندوحة في المندوحة العرضيّة مع تبديل موضوع التقيّة ، وعدم اعتباره في المندوحة العرضيّة مع انعدام الموضوع ، وقد قلنا في الأمر الثالث : إنّ اعتبار المندوحة العرضيّة مع انعدام موضوع التقيّة أمر مسلّم بينهم ، وعلى هذا لا يكون كلام الشيخ تفصيلاً في المسألة ، بل هو ممّن ذهب إلى اعتبار عدم المندوحة.

السابع : نفس التفصيل الذي ذهب إليه السيّد الإمام ، لكن مع تفصيل في التقيّة من العامّة ; فإنّها قد تكون في ترك الواجب، أو في الإتيان بالحرام ، فيعتبر عدم المندوحة ، واُخرى في ترك جزء، أو شرط ، أو الإتيان بالمانع فلا يعتبر ،وإن شئت قلت : التقيّة من العامّة قد تكون في غير العبادة، وقد تكون في العبادة; وهو الذي ذهب إليه السيّد الخوئي(4) .


(1) رسائل المحقّق الكركي 2: 52.
(2) الرسائل، رسالة في التقيّة 2: 201.
(3) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم) : 84 .
(4) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5 : 264 ـ 272.

صفحه 93

والصحيح: عدم إمكان المساعدة للتفصيل الذي ذهب إليه المحقّق الثاني; لعدم الفرق بين الإذن الخاصّ والعامّ; من جهة أن الإذن في العمل الذي يتّقى به إن كان أمراً بالامتثال بتلك الصورة تقيّةً، فيكون فرداً اضطراريّاً للطبيعة المأمور بها ، فيكون مجزئاً حتّى في الإذن العامّ ، وإن لم يكن أمراً بالامتثال، بل شرّعت التقيّة لأجل التحفّظ والتخلّص عن شرّهم، فالإذن الخاصّ أيضاً لا يفي بالإجزاء .

وبعد هذا نقول : إنّه بعد عدم صحّة هذا التفصيل، وخروج القول الخامس عن محلّ النزاع، ورجوع قول الشيخ الأنصاري إلى القول الأوّل على ما بيّناه في تحرير محلّ النزاع ، وبعد عدم وجود الخلاف في اعتبار عدم المندوحة في التقيّة من غير العامّة ; لعدم صدق الضرورة والاضطرار في صورة المندوحة، وكذلك عدم النزاع في التقيّة من العامّة إذا كانت بصورة ترك الواجب، أو إتيان الحرام ، انحصر البحثفي اعتبار عدم المندوحة في التقيّة من العامّة في دائرة العبادات .

والتحقيق: اعتبار عدم المندوحة فيما إذا كانت العبادة تقيّةً خوفيّة ، وعدم اعتباره فيما إذا كانت على نحو المداراة:

أمّا الأوّل: فلعدم صدق الخوف والضرر في صورة وجود المندوحة .

وأمّا الثاني: فلإطلاق الروايات الواردة في العبادة معهم(1)، والحضور في جماعاتهم(2)، وأنّ الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3)، ولا شكّ أنّ هذه التعبيرات والترغيبات ينافي الاشتراط بصورة عدم المندوحة ; لأنّه مستلزم لنقض الغرض، وممّا يلزم من وجوده عدمه; فتحصّل من ذلك وجوه ثلاثة :

الوجه الأوّل : إطلاق الروايات ; فإنّها غير مقيّدة بعدم المندوحة .

الوجه الثاني : وجود الحثّ والترغيب فيها، والتعبيرات الواردة فيها ، وهي منافية للاشتراط .


(1 ـ 3) وسائل الشيعة 8 : 299 ـ 302 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب5.

صفحه 94

الوجه الثالث : أنّ بعض الروايات في مقام إعطاء الضابطة الكلّية ; كرواية مسعدة بن صدقة المتقدّمة(1); أعني قوله (عليه السلام) : «فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين; فإنّه جائز»; فلو كان في البين قيد لوجب ذكره.

نعم، هنا أخبار ربما يعارض ظاهرها مع هذه المطلقات، نشير إلى الأهمّ منها :

1 ـ رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن إبراهيم بن شيبة قال : كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) أسأله عن الصلاة خلف من يتولّى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يرى المسح على الخفّين ، أو خلف من يحرّم المسح وهو يمسح؟ فكتب (عليه السلام) :إن جامعك وإيّاهم موضع فلم تجد بدّاً من الصلاة فأذّن لنفسك وأقم، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح(2) .

دلّت الرواية على أنّ الصلاة مع من يمسح على الخفّين جائزة إذا لم يجد بُدّاً من ذلك ، وفي صورة المندوحة يوجد بُدٌّ .

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الرواية على ما ذكره السيّد الخوئي ضعيفة السند ; لأنّ إبراهيم بن شيبة لم يوثّق ، وما في كلام المحقّق الهمداني(3) من إسناد الرواية إلى إبراهيم ابن هاشم من سهو القلم(4) .

وثانياً : أنّ مورد الرواية هو التقيّة في المسح على الخّفين ، وقد دلّت الروايات على عدم جريان التقيّة فيه، وفصّلنا الكلام فيه سابقاً(5). وبما أنّ صلاة الرجل كانت


(1) تقدّم في ص68.
(2) تهذيب الأحكام 3 : 276 ح807 ، وعنه وسائل الشيعة 8 : 363 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب33 ح2.
(3) مصباح الفقيه 2: 442.
(4) التنقيح في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 5: 270.
(5) في ص35 ـ 41.

صفحه 95

محكومة بالبطلان في مورد الرواية; فلذا منع الإمام (عليه السلام) عن الصلاة خلفه ، فهي خارجة عن محلّ الكلام .

وثالثاً : أنّ الرواية لو دلّت على الاعتبار لدلّت على اعتبار عدم المندوحة الطوليّة أيضاً ، مع أنّ عدم اعتباره إجماعيّ(1) ، فيلزم تخصيص الرواية بالإجماع ، بينما إنّ لسان الحديث يأبى عن التخصيص .

2 ـ ما عن دعائم الإسلام بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : لا تصلّوا خلف ناصب ولا كرامة ، إلاّ أن تخافوا على أنفسكم أن تشهروا ويشار إليكم، فصلّوا في بيوتكم، ثمّ صلّوا معهم ، واجعلوا صلاتكم معهم تطوّعاً(2) .

ودلالة الرواية على جواز الصلاة في صورة عدم المندوحة واضحة .

لكن يرد عليه أوّلاً : أنّ روايات دعائم الإسلام غير قابلة الاعتماد .

وثانياً : أنّها قاصرة الدلالة على المدّعى ; لاختصاصها بالناصب ، وهو خارج عن محلّ الكلام ; لأنّه محكوم بالكفر .

ثمّ لو أغمضنا عن الإيرادات الواردة على هذه الروايات لوجب الجمع بينها وبين المطلقات ، فذهب المحقّق البجنوردي إلى أنّ مقتضى الجمع عرفاً بينهما; هو حمل هذه الأخبار على إمكان التخلّص في نفس وقت التقيّة، بدون التأجيل وتأخير امتثال الواجب إلى زمان ارتفاع التقيّة، أو بدون انتقاله إلى مكان آخر للفرار عن التقيّة ، بل يمكن في نفس المكان والزمان أن يأتي بالواقع الأوّلي ، ففي مثل هذا المورد لا يجوز أن يتّقى بإتيان الواجب موافقاً لهم (3).

ولا يخفى عدم صحّة هذا الجمع ; فإنّ الحمل على ذاك المورد بمعنى الحمل على


(1) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم) : 85 ، مصباح الفقيه 2 : 440 ـ 444 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى(موسوعة الإمام الخوئي) 5: 264 ـ 270.
(2) دعائم الإسلام 1: 151 ، وعنه مستدرك الوسائل 6: 458 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب6 ح1.
(3) القواعد الفقهيّة 5 : 72 .

صفحه 96

المندوحة العرضيّة ، وقلنا(1) : إنّ هذا النحو من المندوحة العرضيّة الذي يرجع إلى تبديل موضوع التقيّة ، محلّ الخلاف .

والصحيح أن يقال : إنّ مورد كثير من هذه الأخبار هي التقيّة الخوفيّة، وقد مرّ(2) اعتبار عدم المندوحة فيها ، وبعضها ـ كصحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أباالحسن (عليه السلام) عن الرجل يصلّي خلف من لا يقتدى بصلاته والإمام يجهر بالقراءة؟ قال : أقرأ لنفسك، وإن لم تسمع نفسك فلا بأس(3); فإنّه يدلّ على إتيان القراءة بمقدار الممكن، ويكون عامّاً شاملاً للتقيّة الخوفيّة والمداراتيّة ، فيمكن أن يقال : إنّه من موارد ارتفاع موضوع التقيّة خوفاً أو مداراة ; لأنّ القراءة على هذا النحولا تكون مخلاًّ بالمداراة ، فيخرج عن محلّ النزاع، كما مرّ في الأمر الثالث(4) .

فما في كلمات الإمام الخميني (قدس سره) (5) من الحمل على الاستحباب، لا يمكن المساعدة عليه ; لعدم بقاء الموضوع في هذا الفرض ; بمعنى أنّ التقيّة في هذا الفرض ليس بمشروع، لا وجوباً، ولا استحباباً .


(1) في ص89 ـ 90 .
(2) في ص 93.
(3) تهذيب الأحكام 3 : 36 ح129 ، الاستبصار 1: 430 ح1663 ، وعنهما وسائل الشيعة 8 : 363، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة ب33 ح1.
(4) في ص 90 ـ 92.
(5) الرسائل ، رسالة في التقيّة 2: 207.

صفحه 97

رسالة في اعتبار الكتابة في الفقه الإسلامي

وقد ألّفت في سنة 1416 هـ . ق بمناسبة تشكيل

المؤتمر لذكرى المحقّق الأردبيلي (قدس سره)

صفحه 100

المقام الأوّل: في أنّ الكتابة هل هي حجّة شرعيّة في عداد سائر الحجج الشرعيّة، كالبيّنة والحلف والإقرار؟ وهل كلّ ما هو مكتوب ـ الذي قد يعبّر عنه في هذه الأزمنة بالأسناد ـ حجّة شرعيّة، أم لا؟ ودائرة هذا البحث لا تختصّ بمسألة القضاء ، بل يجري في جميع أبواب الفقه، ويتفرّع عليه فروع كثيرة، مثلاً:

هل العقود والمعاملات المنشأة على نحو الكتابة صحيحة كسائر المعاملات التي تجري فيها الألفاظ؟ وبعبارة أُخرى: ما هو مقتضى القاعدة الأوّليّة في الكتابة في جميع ما يمكن أن يقع بطريق الألفاظ، أو الأفعال؟

فهل في الكتابة قصور، أو فتور عن الدلالة والإنشاء على ما هو المقصود بين الأشخاص؟ وهل الدلالة فيها أضعف من دلالة الألفاظ؟ وما هو موضع الشارع المقدّس، والشريعة السمحة السهلة في قبال هذا الأمر المهمّ المتعارف بين الناس؟ فهل الشارع قد منع في شريعته عن صحّة الكتابة وكفايتها، أم لا؟

وهل البيع على نحو الكتابة صحيحة لازمة، أم لا؟ وهل البيّنة الكتبيّة حجّة لدى القاضي، ويجب عليه الأخذ بها، أم لا؟ وهل الحلف بصورة الكتابة كافية، أم لا؟

وهكذا هل الإجازة أو الردّ في العقد الفضولي تتحقّقان بنحو الكتابة، أم لا؟ وهل حكم القاضي بنحو الكتابة نافذ يجب الأخذ به، أم لا؟

ومن الواضح أنّ محلّ البحث والكلام إنّما هو فيما إذا لم يشترط اللفظ في موضوع شيء، كالصلاة; فإنّ القراءة أو اللفظ معتبرة في موضوعها ومتعلّقها عند التيسّر، وأيضاً محلّ النزاع فيما إذا لم يشترط فيه فعل خاصّ، كالقبض في النقدين وإجراء الحدود والتعزيرات والضمان ، فمن الواضح عدم اعتبار الكتابة في هذه الاُمور، بل إمّا أن تتحقّق بالألفاظ المعتبرة كالصلاة ، أو بالأفعال المشخّصة المعيّنة ، ففي سوى ذلك ما هو شأن الكتابة واعتبارها عند الشارع المقدّس؟


صفحه 101

وبما أنّ المسألة حادثة لم يبحث عنها في كتب القوم، مستقلّة ومبسوطة علىحسب ما تفحّصت في هذه المسألة، فطبعاً يكون من اللاّزم البحث عن جميع أبعادها وما يمكن أن يقال في اعتبارها، وما يتوهّم في عدم اعتبارها .

وقبل الورود في البحث لابدّ من ذكر مقدّمة، وهي:

أنّهم قداختلفوافي اعتباراللفظ الخاصّ،أومطلق اللفظ في العقوداللازمةوعدمه .

فقال العلاّمة: لابدّ في العقد من اللفظ، ولا يكفي الإشارة، ولا الكتابة مع القدرةوإن كان غائباً(1) .

فإنّه صريح في عدم اعتبار الكتابة والإشارة مع القدرة على التلفّظ .

وتبعه ولده فخر المحقّقين فقال: إنّ كلّ عقد لازم ، وضع الشارع له صيغة مخصوصة بالاستقراء(2) .

وقال الشهيد الثاني: يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ المنقولة شرعاً، المعهودة لغةً(3) .

بل قد ادّعى السيّد ابن زهرة(4) الإجماع على عدم كفاية غير اللفظ فيما إذا كان قادراً على التلفّظ .

وذهب الشيخ الأعظم الأنصاري إلى اعتبار اللفظ، فقال: إنّ اعتبار اللفظ في البيع، بل في جميع العقود ممّا نقل عليه الإجماع، وتحقّق فيه الشهرة العظيمة مع الإشارة إليه في بعض النصوص(5) .


(1) تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 275.
(2) إيضاح الفوائد 3 : 12 .
(3) مسالك الأفهام 5 : 172.
(4) غنية النزوع : 214.
(5) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3 : 117. والمراد من بعض النصوص حديث: «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» وسيأتي البحث فيه في ص105 .

صفحه 102

ثمّ اعلم أنّه لو قلنا باعتبار اللفظ في إنشاء العقود والإيقاعات، فلا مجال للبحث عن حجّية الكتابة فيهما، وتجري مسألة الكتابة في غيرهما، فالبحث عن حجّية الكتابة فيهما إنّما هو بعد الفراغ عن عدم خصوصيّة اللفظ .

وقال العاملي في مفتاح الكرامة:

وأمّا الكتابة، فكالإشارة، كما في التحرير(1) وغيره(2). وفي نهاية الإحكام: لاتنعقد بالكتابة; سواء كان المشتري حاضراً أو غائباً . نعم ، لو عجز عن النطق وكتبا أو أحدهما، وانضمّ إليه قرينة إشارة دالّة على الرضا صحّ(3). ونحوه قوله في الدروس: ولا الكتابة حاضراً كان أو غائباً، وتكفي لو تعذّر النطق مع الأمارة(4)، وفي التذكرة: لا تكفي الكتابة لإمكان العبث(5) (6).

والمستفاد من هذه العبارات عدم اعتبار غير اللفظ ، بل قد عرفت ادّعاء الإجماع من البعض على ذلك .

وأوّل من خالفهم في ذلك فيمن أعلم المحقّق النراقي في المستند; فإنّه قال:

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه تكفي الإشارة المفهمة للنقل بعنوان البيع إذا أفادت القطع، وكذا الكتابة; سواء تيسّر التكلّم أو تعذّر .

وأمّا على المشهور، فلا يكفي على الأوّل ، وأمّا على الثاني، كالأخرس فصرّحوا بالكفاية، ووجهه عند من يعمّم البيع ويثبت اشتراط الصيغة بالإجماع ظاهر، ولكنّه لم يظهر وجهه عند من يخصّص البيع بما كان مع الصيغة، أو يقول بعدم


(1) تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 275.
(2) مجمع الفائدة والبرهان 8 : 145.
(3) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 2 : 450.
(4) الدروس الشرعيّة 3: 192.
(5) تذكرة الفقهاء 10: 9.
(6) مفتاح الكرامة 12: 525.

صفحه 103

دلالة الإشارة على النقل، إلاّ أن يدّعي الإجماع على عدم الاشتراط حينئذ.

والقول بأنّها تدلّ ظنّاً، فيكتفى بها عند عدم إمكان العلم، مردود بعدم دليل على قيام الظنّ مقام العلم عند تعذّره مطلقاً، سيّما مع إمكان التوكيل، واحتياجه إلى الصيغة عند المشهور ممنوع; لعدم كونه من العقود اللازمة. وأصالة عدم وجوبه مندفعة بأنّها إنّما تكون لو أردنا الوجوب الشرعيّ، وأمّا الشرطي كما هو المقصود، فلا معنى لأصالة عدمه، بل هو مقتضى الأصل(1) .

وقال في موضع آخر من كتابه:

إذا عرفت حصول نقل الملك عن البائع، وحصول التملّك للمشتري بحصول البيع العرفي مطلقاً ، فلزوم ذلك هل يتوقّف على صيغة خاصّة، أو على مطلق اللفظ أو يحصل بحصول البيع عرفاً ولو بالمعاطاة أو مثلها؟ المشهور هو الأوّل، بل كادأن يكون إجماعاً، كما في الروضة(2) والمسالك في موضعين(3) ، بل ظاهر الأخير، كصريح الغنية(4) انعقاده، ونقل في المسالك الثاني عن بعض معاصريه، والثالث ظاهر المفيد(5) وجمع من المتأخِّرين(6)، وهو الحقّ . ثمّ استدلّ على مختاره بأدلّة ثلاثة(7)، فراجع .

واستدلّ المشهور بوجوه كلّها مخدوشة:

الوجه الأوّل: الإجماع المنقول، كما ادّعاه السيّد ابن زهرة .


(1) مستند الشيعة 14: 258.
(2) الروضة البهيّة 3 : 222.
(3) مسالك الأفهام 3 : 147.
(4) غنية النزوع: 214.
(5) المقنعة: 591.
(6) منهم : السبزواري في كفاية الفقه،المشتهر بـ «كفاية الأحكام»1:448،والكاشاني في مفاتيح الشرائع3 : 48.
(7) مستند الشيعة 14 : 253 ـ 254.

صفحه 104

وفيه: مع المنع من حجّيته ، لا مجال للاستدلال به فيما نحن فيه; لوجود الروايات المعتبرة التي هي مستندة للحكم، فالإجماع مدركيّ، مضافاً إلى عدم تعرّض جمع لاختصاص العقود بالألفاظ، فكيف يتحقّق الإجماع ؟

الوجه الثاني: التمسّك بأصالة عدم الملك، أو الانتقال فيما إذا تحقّق البيع بغير اللفظ(1) .

وفيه: إنّا سنقيم أدلّة على اعتبار غير اللفظ، ومع إقامة الدليل لا وجه للتمسّك بالأُصول .

الوجه الثالث: أنّ اللزوم في البيع إنّما يتحقّق بتحقّق ما يدلّ على نقل الملك به; أي إنشائه صريحاً، والدالّ صريحاً على ذلك منحصر في الصيغة المخصوصة(2) .

وأجاب عنه المحقّق النراقي بأنّه إن أُريد بالدالّ صريحاً ، الدالّ بحسب الوضع الحقيقي، فمع تحكّم التخصيص ليست الصيغة المخصوصة أيضاً كذلك، وإن أُريد مطلقاً فالانحصار ممنوع(3) .

والأولى في الجواب أن يقال: إنّه لا شكّ في أنّ اللفظ من الدوالّ الصريحة، ولكنّ البحث والنزاع إنّما هو في الكبرى; وهي: أنّه هل اللازم وجود الدالّ الصريح أم لا، بل يكفي كلّ ما يدلّ على المقصود عرفاً ولو بالكناية والمجاز والكتابة ؟ فهذا الدليل مصادرة على المطلوب .

الوجه الرابع: بعض الظواهر والأحاديث الدالّة على اعتبار اللفظ، كما ورد في الحديث:

الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، قال: أليس إن شاء


(1) مسالك الأفهام 3 : 147.
(2) جامع المقاصد 4 : 57، مستند الشيعة 14 : 255.
(3) مستند الشيعة 14: 257.

صفحه 105

أخذ وإن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال: لا بأس به، إنّما يحلّل الكلام ويحرّمالكلام(1) .

والشيخ الأنصاري بعد أن احتمل وجوهاً في معنى الحديث قال:

فلا يخلو الرواية عن إشعار أو ظهور(2) . والمراد الظهور أو الإشعار على اعتبار اللفظ والكلام في المحلّلية والمحرّمية .

ولا يخفى أنّ الاستدلال يتوقّف على أن يراد بالكلام في الموردين ، اللفظالدالّ على التحريم والتحليل; بمعنى أنّ تحريم شيء وتحليله لا يكون إلاّ بالنطقبهما ، فلا يتحقّق بالقصد المجرّد عن الكلام، ولا بغيره من أنواع الدلالات غير اللفظية .

ويرد عليه أوّلاً: أنّ هذا المعنى مستلزم لتخصيص الأكثر; لعدم انحصار التحليل والتحريم في كثير من الموارد باللفظ .

وثانياً: أنّ هذا المعنى غير مرتبط بالسؤال الوارد في الحديث مع كون العبارة تعليلاً له; فإنّ مورد السؤال هو: أنّ السمسار يشتري ثوباً لشخص الآمر وهوإن شاء أخذ وإن لم يشأ لم يأخذ ، وبعبارة أُخرى: لم يوجب شراء المتاع من مالكه على الشخص الآمر، ولا دخل لاشتراط النطق بهذا الحكم .

وقال النراقي ردّاً على الاستدلال بأنّه ليس ظاهراً في مطلوبهم، بل لا محتملاً له; لأنّه لا يلائم جعل قوله (عليه السلام) : «إنّما يحرّم» تعليلاً لسابقه ، بل المراد أنّه إن كان بحيث إن شاء أخذ وإن شاء ترك، ولم يقل ما يوجب البيع لا بأس، وإلاّ ففيه بأس; لأنّه يحرّم ويحلّل بكلام، فإن أوجب البيع يحرّم، وإلاّ فيحلّ(3) .


(1) الكافي 5: 201 ح6، تهذيب الأحكام 7: 50 ح216، وعنهما وسائل الشيعة 18: 50، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب8 ح4.
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3: 64 .
(3) مستند الشيعة 14: 257.

صفحه 106

فظهر من جميع ذلك عدم تمامية مستند المشهور، فلا دليل على خصوصيّة اللفظ، فضلاً عن اللفظ الخاصّ في العقود والإيقاعات، إلاّ في الموارد التي دلّت النصوص على اعتبار اللفظ كالطلاق .

ثمّ إنّه بعد ذلك يقع البحث في أنّه بعد عدم الخصوصيّة للّفظ، فهل الكتابة أيضاً معتبرة أم لا؟ ولنذكر أوّلاً كلمات الفقهاء .

فاعلم أنّهم قد تعرّضوا لذلك في بعض الأبواب كالطلاق، والوصيّة والعتق ، ونحن نشير إلى بعض المواضع المبحوثة عن الكتابة في الأبواب المختلفة الفقهيّة:

1 ـ وقوع الطلاق بالكتابة وعدمه

اختلفوا في أنّ الطلاق هل يقع بالكتابة أم لا؟ وعلى تقدير وقوعه بها، هل هو مختصّ بصورة الاضطرار والعجز عن النطق؟ وهل هو مختصّ بصورة غيبة الزوج أم لا؟ فذهب الشيخ في الخلاف إلى عدم وقوع الطلاق بالكتابة مع قصده لها، فقال:

إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد بذلك الطلاق، لا يقع بلا خلاف، وإن قصد به الطلاق فعندنا أنّه لا يقع به شيء ، وللشافعي فيه قولان: أحدهما: يقع على كلّ حال، وبه قال أبو حنيفة .

والآخر: أنّه لا يقع; وهو مثل ما قلناه.

دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل بقاء العقد، ولا دليل على وقوع الطلاق بالكتابة(1) .

وهذه العبارة مطلقة; من دون فرق بين صورة العجز عن التلفّظ، وعدمه .

وذهب في المسبوط إلى أنّ الطلاق لا يقع بها إذا كان قادراً على التلفّظ، فقال:


(1) الخلاف 4: 469 مسألة 29.

صفحه 107

إذا كتب بطلاقها ولا يتلفّظ ولا ينويه، فلا يقع به شيء بلا خلاف، وإذا تلفّظ به وكتبه وقع باللفظ، فإذا كتب ونوى ولم يتلفّظ به، فعندنا لا يقع به شيء إذا كان قادراً على اللفظ، فإن لم يكن قادراً وقع واحدة إذا نواها لا أكثر منه، ولهم فيه قولان: أحدهما: يقع، والثاني: أنّه لا يقع . وروى أصحابنا أنّه إن كان مع الغيبة فإنّه يقع، وإن كان مع الحضور فلا يقع(1) .

وكلامه في هذه العبارة مقيّد بصورة القدرة على التكلّم ، وأمّا مع العجز فهي معتبرة ، وأيضاً يستفاد من ظاهر العبارة التفصيل بين الحضور والغيبة في الطلاق ; لأنّه نقل كلام الأصحاب من دون ردٍّ .

وقال في النهاية:

ولا يقع الطلاق إلاّ باللسان، فإن كتب بيده: أنّه طالق امرأته وهو حاضر ليس بغائب لم يقع الطلاق ، وإن كان غائباً وكتب بخطّه: أنّ فلانة طالق وقع الطلاق ، وإن قال لغيره: اكتب إلى فلانة امرأتي بطلاقها لم يقع الطلاق(2) .

وهذا الكلام صريح في التفصيل بين الحضور والغياب في الطلاق .

وقال السيّد المرتضى:

وممّا انفردت الإماميّة به، أنّ الطلاق لا يقع إلاّ بلفظ واحد; وهو قوله: أنت طالق(3). وقال العلاّمة في شرائط الطلاق: والنطق بالصيغة الصريحة المجرّدة عن الشرط ـ إلى أن قال: ـ ولو كتب العاجز ونوى صحّ(4) .

وذهب الشهيد في الروضة إلى عدم وقوع الطلاق بالكتابة; سواء كان الزوج


(1) المبسوط 5 : 28.
(2) النهاية: 511 .
(3) الانتصار: 300.
(4) إرشاد الأذهان 2 : 43.

صفحه 108

حاضراً، أو غائباً، واستدلّ له بحسنة محمّد بن مسلم، عن الباقر (عليه السلام) : إنّما الطلاقأن يقول: أنتِ طالق(1) . وحسنة زرارة، عنه (عليه السلام) في رجل كتب بطلاق امرأته قال: ليس ذلك بطلاق(2) .

وللشيخ قول بوقوعه به للغائب، دون الحاضر(3); لصحيحة أبي حمزة الثمالي، عن الصادق (عليه السلام) : في الغائب لا يكون طلاق حتّى ينطق به لسانه، أو يخطّه بيده وهو يريد به الطلاق(4) . وحُمل على حالة الاضطرار جمعاً(5) .

وذهب في المسالك: إلى صحّة وقوع الطلاق بالكتابة إذا كان غائباً; استناداً إلى هذه الصحيحة(6)، وقد ردّه في الجواهر وطعنه بما لا يناسب مقام الشهيد، فقال: فمن الغريب ما في المسالك من الإطناب في ترجيح مضمون الخبر المزبور لمكان صحّة سنده، وكونه مقيّداً، والمعارض له مطلق ، لكن لا عجب بعد أن كان منشأ ذلك اختلال طريقة الاستنباط، كما وقع له، وتسمع مثل ذلك غير مرّة، ونسأل الله العفو لنا وله في أمثال ذلك .

ثمّ قال في ردّ الرواية، المعلوم قصوره عن مقاومة ما تقدّم أوّلاً: لموافقة الصحيح المزبور للعامّة، الذين أوقعوا الطلاق بالكتابة، كالكناية; لأنّها أحد الخطابين، وأحد اللسانين المعربين عمّا في الضمير، ونحو ذلك من الاعتبارات التي


(1) الكافي 6 : 69 ح1، تهذيب الأحكام 8 : 36 ح108 ، الاستبصار 3: 277 ح983، وعنها وسائل الشيعة 22: 41، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب16 ح30.
(2) تأتي في ص109.
(3) كما في عبارته المتقدّمة.
(4) الكافي 6 : 64 ح1 ، تهذيب الأحكام 8 : 38 ح114، الفقيه 3: 325 ح1572، وعنها وسائل الشيعة 22: 37 ، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب14 ح3.
(5) الروضة البهيّة : 6 / 14 .
(6) مسالك الأفهام 9: 70 ـ 71.

صفحه 109

لاتوافق أُصول الإماميّة(1) .

وثانياً: للشذوذ حتّى من القائل به; لعدم اعتباره الكتابة بيده على وجه لايجوز له التوكيل، بل قد سمعت دعوى الإجماع في مقابله; مؤيّداً بالتتبّعلكلمات الأصحاب قديماً وحديثاً ، بل لا يخلو ذيله عن تشويش مّا أيضاً، مضافاً إلى ما سمعته من النصوص، فكيف يحكم بمثله على غيره وإن كان هو مقيّداً والأوّل مطلقاً، إلاّ أنّ من المعلوم اعتبار المقاومة فيه من غير جهتي الإطلاق والتقييد، كما تحرّر في الاُصول، ولا ريب في فقدها(2) . انتهى كلامه .

والظاهر أنّ مراده من اعتبار المقاومة عدم كون الخبر شاذّاً، وعدم إعراض المشهور عنه .

وقال صاحب الجواهر:

وكيف كان، فلا يقع الطلاق بالكتابة من الحاضر وهو قادر على التلفّظ قولاً واحداً; للأصل والنصوص السابقة الحاصرة للطلاق بالقول المخصوص وغيرها، كقوله (عليه السلام) : إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام(3) .

مضافاً إلى معلوميّة عدم وقوع الطلاق بالأفعال، بل ربما ادّعي أنّه اسم للألفاظ المخصوصة المؤثِّرة للطلاق.

وإلى صحيح زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه، ثمّ بدا له فمحاه، قال: ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتّى يتكلّم به(4).


(1) والعجب منه (قدس سره) كيف يقول بأنّ هذه اعتبارات لا توافق أُصول الإماميّة، مع أنّه قد استشهد بهذه التعبيرات في بحث الغيبة، فقال: فيعمّ الحكم كلّ ما يفيدذلك من الكتابة التي هي إحدى اللسانين.جواهرالكلام22:64.
(2) جواهر الكلام 32: 63.
(3) تقدّم في ص 105.
(4) الكافي 6 : 64 ح2، تهذيب الأحكام 8 : 38 ح113، وعنهما وسائل الشيعة 22: 36، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب14 ح2.

صفحه 110

ومضمرته قال: سألته عن رجل كتب إلى امرأته بطلاقها، أو كتب بعتق مملوكه ولم ينطق به لسانه؟ قال: ليس بشيء حتّى ينطق به(1) ، من غير فرق في ذلك بين الحاضر والغائب; لإطلاق الأدلّة ،بل في الخلاف والمبسوط الإجماع على ذلك(2)، على أنّ مقتضى قاعدة السببيّة عدم الفرق فيهابين الجميع في العقود والإيقاعات .

نعم ، لو عجز عن النطق ولو لعارض في لسانه، فكتب ناوياً به الطلاق صحّبلا خلاف; لما سمعته في الأخرس نصّاً وفتوىً(3) .

أقول: قد عرفت أنّ الاستدلال بحديث: «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» غير تامّ، وكذلك لا مجال للاستدلال بأصالة عدم الوقوع أيضاً; لوجود الأمارات المعتبرة ، وما ذكره أيضاً من عدم تحقّق الطلاق بالأفعال فكيف بالكتابة، غير صحيح; لما هو ثابت من أقوائيّة الكتابة من الأفعال; فإنّ الإجمال في الأفعال موجود بخلاف الكتابة، اللّهمَّ إلاّ أن يقال: إنّ الاعتماد على الأفعال هو المتعارف في الإنشاء بخلاف الكتابة، وهو كما ترى; لأنّ الإنشاء متقوّم بالقصد، ولا فرق بينهما من جهة أنّ كلاًّ منها محتاج إلى القرينة في ذلك .

فالإنصاف عدم دلالة هذه الأدلّة على عدم كفاية الكتابة في الطلاق إلاّ مع العجز عن النطق ، وإنّما الدليل وجود الروايات الخاصّة في المقام ، ومن الواضح أنّ التعدّي عن موردها إلى سائر الموارد غير صحيح .

2 ـ صحّة الوصيّة بالكتابة وعدمها

اختلفوا أيضاً في صحّة الوصيّة بالكتابة وعدمها، فذهب الشهيد إلى عدم


(1) تهذيب الأحكام 7 : 453 ح1815، وعنه وسائل الشيعة 22: 36، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب14 ح1.
(2) الخلاف 4: 469، المبسوط 5: 28.
(3) جواهر الكلام 32: 61 ـ 62.

صفحه 111

صحّة الوصيّة بالكتابة في حال الاختيار، فقال:

وتكفي الإشارة الدالّة على المراد قطعاً في إيجاب الوصيّة مع تعذّر اللفظ لخرس، أو اعتقال لسان بمرض ونحوه ، وكذا تكفي الكتابة كذلك مع القرينة الدالّة قطعاً على قصد الوصيّة بها لا مطلقاً; لأنّها أعمّ، ولا تكفيان مع الاختيار وإن شوهد كاتباً، أو علم خطّه، أو علم الورثة ببعضها خلافاً للشيخ(1) في الأخير(2) .

والظاهر أنّ صحّة الوصيّة بالكتابة مع العجز عن النطق والقرينة الدالّة على إرادة الوصيّة منها ليست محلاًّ للخلاف، كما عن التنقيح(3) والعلاّمة(4) وولده(5)والشهيدين(6) والمحقّق الثاني(7) والحلّي(8)، بل عن الإيضاح الإجماع على ذلك(9) .

وذهب في الرياض(10) والنافع(11) إلى صحّة الوصيّة بالكتابة مع القرينة القطعيّة حتّى مع الاختيار، كما احتملها في التذكرة(12) في أوّل كلامه .

والظاهر أنّ مراد المانعين من صحّة الوصيّة بالكتابة في حال الاختيار ، هو عدم صدق العقد على الوصيّة الكتبيّة، لا عدم إجراء حكم الوصيّة عليها; لوضوح


(1) النهاية: 621 ـ 622.
(2) الروضة البهيّة 5 : 18 ـ 19 .
(3) التنقيح الرائع 2: 364.
(4) تحرير الأحكام الشرعيّة 3: 330.
(5) إيضاح الفوائد 2: 473.
(6) اللمعة الدمشقيّة: 104، الروضة البهيّة 5: 18 ـ 19.
(7) جامع المقاصد 10: 20.
(8) السرائر 3: 222.
(9) إيضاح الفوائد 2: 473.
(10) رياض المسائل 9: 433.
(11) المختصر النافع: 263.
(12) تذكرة الفقهاء 2: 452، الطبعة الحجريّة.

صفحه 112

أنّ إطلاق الأدلّة شامل للوصيّة الكتبيّة أيضاً ، وعلى ذلك المعنى حمل صاحب الجواهر(1) كلمات المانعين .

ويستفاد من كلماته أنّه اختار صحّة الوصيّة بالكتابة حتّى في حال الاختيار، كما صرّح بصحّة الكتابة في الإقرار، فقال: لا يبعد في النظر الاكتفاء بالكتابة في الإقرار والوصيّة مع ظهور إرادة ذلك منها ، فضلاً عن صورة العلم; ضرورة حجّية ظواهر الأفعال كالأقوال في الجملة(2) .

وكيف كان، فالظاهر عدم وجود نصّ خاصّ دالّ على اشتراط النطق في الوصيّة، وإطلاق أدلّة الوصيّة شامل للكتابة أيضاً، مع ما عرفت من أنّها مطابقة للقاعدة الأوّلية، فالكتابة في الوصيّة مع القرينة الدالّة على إرادة الوصيّة معتبرة يجب العمل بها، والله العالم .

3 ـ التحيّة على وجه الكتابة

وقد اختلفوا في أنّ التحيّة على وجه الكتابة هل هي موجبة لوجوب ردّها والجواب عليها، أم لا؟ ذهب العلاّمة في التذكرة إلى عدم تحقّق التحيّة بالكتابة وحصرها بالنداء، فقال: لو ناداه من وراء ستر أو حائط وقال: السلام عليكم يافلان، أو كتب كتاباً وسلّم فيه عليه، أو أرسل رسولاً فقال: سلّم على فلان، فبلغه الكتاب والرسالة، قال بعض الشافعيّة: يجب عليه الجواب; والوجه أنّه إن سمع النداء وجب الجواب، وإلاّ فلا(3).

وقد استحسنه صاحب الجواهر فقال بعد ذكر هذا الكلام: وهو جيّد; ضرورة


(1) جواهر الكلام 28 : 249 .
(2) جواهر الكلام 28: 250.
(3) تذكرة الفقهاء 9: 22 ـ 23.

صفحه 113

عدم صدق التحيّة على الكتابة التي هي النقوش، بل ولا على الرسالة التي هي نقل السلام، لا الاستنابة من الرسول في التحيّة، إذ الثانية لا ريب في أنّها تحيّة، بخلاف الاُولى(1)، انتهى كلامه .

ولا يبعد عدم الفرق بين التحيّة على وجه النداء، والتحيّة على وجه الكتابة، كما يظهر من مراجعة اللغة; فإنّها عبارة عن دعاء السلام ونحوه من البرّ، قال في القاموس: التحيّة: السلام من دون تقييد بالقول(2) . وقال في المغرب: حيّاه; بمعنى أحياه تحيّة، كبقّاه; بمعنى أبقاه تبقية، هذا أصلها، ثمّ سمّي ما يحيا به من سلام ونحوه تحيّة(3)، وقيل: يشمل كلّ برّ من القول والفعل، كما يظهر من عليّ بن إبراهيم في تفسيره،حيث قال:السلاموغيره من البرّ(4) ، فظهرعدم اختصاص التحيّة لغةً بالقول .

هذا، مضافاً إلى إطلاق الآية الشريفة: { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} (5)، وأنّ قوله تعالى: «بتحيّة» يشمل جميع أنواع التحيّة من القول والفعل والكتابة ، ويؤيّد ذلك مافي بعض الروايات من أنّ جارية جاءت للحسن (عليه السلام) بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله، فقيل له في ذلك ؟ فقال: أدّبنا الله تعالى فقال: { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} الآية، وكان أحسن منها إعتاقها(6) .

ومع ذلك كلّه إنّا لا نطمئنّ بشمول التحيّة للسلام على نحو الكتابة; لاحتمال خصوصيّة المخاطبة في السلام، والأحوط وجوب الردّ فيها .


(1) جواهر الكلام 11: 110.
(2) القاموس المحيط 4: 350.
(3) المغرب في ترتيب المُعرِب: 82 .
(4) تفسير القمّي 1: 145، وعنه تفسير الصافي 1 : 441 ، والبرهان في تفسير القرآن 2 : 140 ح2598، وبحار الأنوار 76 : 7 ح27، وج84 : 273، وتفسير كنز الدقائق 2: 555.
(5) سورة النساء 4 : 86 .
(6) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 4 : 18 ، وعنه بحار الأنوار 43: 343 قطعة من 15 و ج84 : 273.
صفحه 114

4، 5 ـ تحقّق الكذب والغيبة بالكتابة

وقد وقع الخلاف في باب المفطرات من كتاب الصيام في أنّ الكذب على الأئمـّة والأنبياء(عليهم السلام) ـ الذي هو من المفطرات ـ هل يتحقّق بالكتابة، أم لا؟وهل يتحقّق موضوع الغيبة بالكتابة، أم لا؟ فذهب صاحب الجواهر إلى تحقّق الغيبة بالكتابة، فقال: بل المعلوم أنّ حرمتها بالقول باعتبار إفادته السامع ما ينقصه ويعيبه وتفهيمه ذلك، وحينئذ فيعمّ الحكم كلّ ما يفيد ذلك; من الكتابة التي هي إحدى اللسانين، والحكاية التي هي أبلغ في التفهيم من القول والتعريض والتلويح وغيرها(1) . وتفصيل الموردين يحتاج إلى بحث موسّع موكول إلى محلّه .

فتحصّل ممّا ذكرنا إلى هنا عدم اختصاص للّفظ، سيّما في الإخباريات إلاّ بدليل خاصّ في مورد خاصّ.

وبعد هذه المقدّمة يمكن أن يستدلّ لكفاية الكتابة بوجهين:

الوجه الأوّل: قوله ـ تعالى ـ : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْن إِلَى أَجَل مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ . . .) (2) .

فقد استدلّ المحقّق الأردبيلي (قدس سره) بهذه الآية المباركة على اعتبار الكتابة، فقال:

ثمّ اعلم أنّ هذه التأكيدات في أمر الكتابة تدلّ ظاهراً على أنّها معتبرة وحجّة شرعيّة، مع أنّهم يقولون بعدم اعتبارها، فكأنّه للإجماع والأخبار، فتكون للتذكرة وهو بعيد، ويمكن أن تكون حجّة مع ثبوت أنّه إملاء من عليه الدَّين، وأنّه مكتوب بالعدل وما دخل عليه التغيير والتزوير بإقراره أو بالشهود، ولهذا شرط الإملاء منه، فدلّت على اعتبار الكتابة في الجملة ، ومثلها معتبرة عندهم، فيخصّص عدم


(1) جواهر الكلام 22 : 64 .
(2) سورة البقرة 2 : 282 .

صفحه 115

اعتبار الكتابة، ودليله إن كان بغير ذلك، فإذا قال شخص: هذه وصيّتي وأعلم بجميع ما فيها مشيراً إلى صكّه ، ينبغي قبوله والشهادة عليه والعمل به، والذي يظهر من القواعد(1) خلافه، وهكذا ينبغي قبول قول أمثاله فافهم(2)، انتهى كلامه رفع مقامه .

والمستفاد من هذه العبارات أنّه قال:

أوّلاً: أنّ التأكيدات في الآية الشريفة على الكتابة وكيفيّتها وشرائطها تدلّ على أنّها حجّة معتبرة مستقلّة عند الشارع المقدّس .

وثانياً: أنّ فتوى الفقهاء وعدولهم عن ظاهر الآية الشريفة، والذهاب إلى عدم اعتبارها إنّما هو من جهة الإجماع ووجود الأخبار; وبناءً على ذلك تكون الكتابة تذكرة لمن كتب، وليست دليلاً وحجّة .

وثالثاً: يحتمل أن تكون الكتابة حجّة في الجملة لا بالجملة ، وقد مال الفقهاء إلى اعتبار هذا النوع من الكتابة، وهو خارج من أدلّة عدم اعتبار الكتابة بالخروج التخصيصي .

واللازم هنا البحث عن الآية الشريفة ومدى دلالتها، وأنّها هل تدلّ على اعتبار الكتابة وحجّيتها مستقلاًّ أم لا؟

اختلف المفسِّرون في أنّ الآية الشريفة هل هي دالّة على الحكم المولوي الشرعي، أم لا، بل يدلّ على الحكم العقلائي الإرشادي؟ وعلى تقدير كون الحكم مولويّاً هل هي دالّة على الحكم الوجوبي أو الاستحبابي؟ وعلى فرض الوجوب هل هو على نحو الوجوب الكفائي أم لا؟

ذهب جمع من الخاصّة والعامّة: إلى أنّ الأمر بالكتابة دالّ على الوجوب


(1) قواعد الأحكام 2: 445.
(2) زبدة البيان في براهين أحكام القرآن : 563 ـ 564.

صفحه 116

استناداً إلى ظاهر الأمر، وهو مذهب عطاء وابن جريح والنخعي من العامّة(1) .

وقال آخرون: إنّ هذا الأمر محمول على الندب، ذهب إليه المحقّق الأردبيلي(2)وجمع من المفسّرين، كالفخر الرازي ـ في تفسيره ـ على ما يستظهر من كلامه واستدلّ عليه بأمرين:

الأوّل: الإجماع العملي على عدم وجوبها، وذلك أنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجّلة من غير كتابة، ولا إشهاد .

الثاني: أنّ في إيجاب الكتابة التشديد العظيم على المسلمين، مع أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يقول: بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحة(3) ،(4).

وقال الآلوسي: والجمهور على استحبابه لقوله ـ سبحانه ـ : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـنَتَهُ} (5) .

وذهب بعض، كالحسن والشعبي والحكم بن عيينة: إلى أنّ الكتابة كانت واجبة، إلاّ أنّ ذلك صار منسوخاً بقوله ـ تعالى ـ : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} (6) .

وقال أمين الإسلام الطبرسي في مجمع البيان:

واختلف في هذا الأمر; فقيل هو مندوب إليه، وهو الأصحّ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} (7) .

وأورد عليه المحقّق الأردبيلي: بأنّ هذه الآية تدلّ على عدم وجوب الكتابة في


(1) التبيان في تفسير القرآن 2: 372، التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 92.
(2) زبدة البيان في براهين أحكام القرآن: 560.
(3) مسند أحمد بن حنبل: 8 / 303 ح22354، الكافي 5 : 494 ح1، الأمالي للطوسي: 528 قطعة من ح1162.
(4) التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 92.
(5) روح المعاني 3: 75.
(6) التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 92.
(7) مجمع البيان 2 : 219.

صفحه 117

فرض الإئتمان لا بصورة مستقلّة، وبعبارة اُخرى: لا تدلّ على عدم الوجوب مطلقاً(1) .

وقال الحائري الطهراني في تفسيره:

واختلف في الكتابة هل هي فرض أم لا؟ فقيل: هي فرض على الكفاية، كالجهاد ونحوه، عن الشعبي وجماعة من المفسِّرين والرّماني، وجوّز الجبائيأن يأخذ الكاتب والشاهد الاُجرة على ذلك (2).

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي: وعندنا لا يجوز ذلك ، وأمّا الورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين، ويكون الكتاب في يده; لأنّه له ، وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه ، وقال مجاهد وعطاء: هو واجب إذا أمر ، وقال الضحّاك: نسختها قوله: (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) (3)،(4) .

وذهب القرطبي إلى أنّ المقصود من الآية الشريفة ليس مجرّد الكتابة ، بل الكتابة منضمّاً بالإشهاد، فقال: أمر بالكتابة، ولكنّ المراد الكتابة والإشهاد; لأنّ الكتابة بغير شهود لا تكون حجّة(5) .

وفيه أوّلاً: أنّ هذا خلاف الظاهر ، بل الصريح في الآية الشريفة .

وثانياً: أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ في هذه الآية الشريفة أمر في المداينة بأمرين: أحدهما: الكتابة، والثاني: الإشهاد; وهو قوله ـ تعالى ـ : {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} ، والظاهر أنّ كلاًّ منهما مستقلّ عن الآخر، ولا يكون الإشهاد شرطاً للكتابة .


(1) زبدة البيان في براهين أحكام القرآن : 561 ..
(2) لم نعثر على كتابه.
(3) سورة البقرة 2: 282.
(4) التبيان في تفسير القرآن 2: 372.
(5) الجامع لأحكام القرآن 3 : 382.

صفحه 118

وقال الشيخ أحمد الجزائري:

الأمر بكتابة الدين; لئلاّ يذهب المال بطول المدّة، وعند عروض النسيان، أو الموت، ويكون قاطعاً لسبيل النزاع في الزيادة والنقصان، فالأمر حينئذ يكون هنا للإرشاد، وعند بعضهم أنّه للندب، وعند آخرين أنّه للوجوب، والأخير ضعيف; لأصالة عدمه، ولاستمرار السلف على تركه غالباً، ولعموم قوله (عليه السلام) : «الناس مسلّطون على أموالهم»(1) يفعلون بها كيف شاءوا، وهذا ظاهر(2) .

أقول: كلامه في إرشاديّة الأمر جيّد، إلاّ أنّ الاستدلال لعدم الوجوب بأصالة العدم غير صحيح; لأنّه يقال في مقابله: الأصل عدم الاستحباب، مع أنّ ظاهر صيغة الأمر يدلّ على الوجوب، ومع وجود هذا الظاهر لا وجه للاستدلال بالأصل، وكذلك الاستدلال بحديث السلطنة غير تامّ; لما ثبت في محلّه من أنّ الحديث ليس مشرّعاً، والسلطنة إنّما هي على الأموال لا على الأحكام، على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(3)، وهو الحقّ وإن خالفه في ذلك بعض، كالسيّد اليزدي ـ على ما هو ببالي ـ في حاشيته(4)، فراجع .

وقال بعض المعاصرين: إنّ القرآن قد أتى بأرقى مبادئ الإثبات في العصر الحديث; وهي الكتابة على ما نصّ به في آية التداين، ولكن لمـّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك ـ لغلبة الأُميّة ـ لم يستطع الفقهاء إلاّ أن يسايروا حضارة عصرهم ، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولاً بيّناً . ومن العجب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت


(1) عوالي اللئالي: 1 / 222 ح99 و ص457 ح198 ، وج3 / 208 ح49.
(2) قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام 2 : 258.
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3 : 87 .
(4) حاشية كتاب المكاسب 3: 449.

صفحه 119

وراء تقديم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة(1) .

وقال المحقّق الحائري في الردّ على ذلك:

إنّ الآية المباركة لا دلالة فيها على كون الكتابة مصدراً للإثبات فيالقضاء عند المرافعة، وأنّ البيّنة مصدر ثانويّ للإثبات، وإنّما الآية أكّدت علىضرورة الكتابة، وقد يكون ذلك للتذكير والمنع عن النزاع. ثمّ الكتابة حينما تفيد العلم خصوصاً القريب من الحسّ، فإغفالها إنّما هو صادق بشأن الفقه السنّي . أمّا الفقه الشيعي، فقد اعترف بحجّية علم القاضي وتقدّمه على البيّنة، وحينما لا تفيدالعلم ، فالعلم الحسّي للبيّنة كان أقرب إلى الواقع من ظنّ القاضي الناشئ من الكتابة لدى الشارع(2) .

والتحقيق: أنّ المستفاد من الآية الشريفة اُمور والله العالم:

الأوّل: أنّ الآية الشريفة ليست بصدد بيان حكم شرعيّ مولويّ حتّى يقع الخلاف في دلالتها على الوجوب الشرعي أو الاستحباب، بل الآية الشريفة في مقام إرشاد الناس إلى طريق صحيح مانع عن ظهور الاختلاف، وعن الزيادة والنقصان، ويؤيّد ذلك قوله ـ تعالى ـ : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} (3) .

الثاني: أنّ الشارع قد أمضى في هذه الآية المباركة اعتبار الكتابة عند العقلاء وإن كان بينهما فرق من جهة الشرائط والخصوصيّات المعتبرة في كيفيّة الكتابة .

الثالث: أنّ الآية لا تختصّ بمورد السَّلم حسب ما تخيّله بعض المفسِّرين ، بل الحكم عامّ جار في جميع المعاملات والعقود ، بل في جميع ما اعتبر العقلاء فيه


(1) هامش الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 2: 356.
(2) القضاء في الفقه الإسلامي : 542 .
(3) سورة البقرة 2 : 283.

صفحه 120

الكتابة; فإنّها حجّة معتبرة شرعيّة، كما هي حجّة معتبرة عقلائيّة .

وبعبارة اُخرى: أنّ الأمر بالكتابة أمر إرشاديّ; وهو في العموميّة والخصوصيّة تابع للمرشد إليه، ومن الواضح: أنّ اعتبار الكتابة عند العقلاء لايختصّ بمورد خاصّ .

إن قلت: إنّ الشارع قد أمضى هذا العمل العقلائيّ في مورد خاصّ; وهو الدَّين وبيع السَلم، ولا يجوز التعدّي عن هذا المورد .

قلت: هذا صحيح لو كان بصدد الإمضاء في خصوص المورد، مع أنّ الظاهر أنّ الشارع في مقام تطبيق الأمر العقلائي على هذا المورد، وهذا يكفي في إمضاء الشارع بالنسبة إلى جميع ما اعتبر العقلاء فيه الكتابة، فتدبّر .

الرابع: أنّ الآية لا تدلّ على إنشاء الدَّين بالكتابة ; يعني أنّها لم تستعمل في إنشاء عقد الدَّين ، بل هي دالّة وصريحة في أنّه بعد تحقّق الدَّين يجب الكتابة;للاحتجاج بها في مقام الاختلاف بالنسبة إلى الزيادة والنقيصة .

الخامس: بناءً على كون الأمر في الآية إرشاديّاً لا مجال للبحث عن تحقّق النسخ فيها وعدمه; لأنّ النسخ إنّما هو في الأحكام الشرعيّة المولوية . وأمّا الأحكام الإرشاديّة، فلا يعقل النسخ فيها .

السادس: المستفاد من الآية الشريفة حجّية الكتابة في الاُمور غير الإنشائيّة ، وبعبارة اُخرى: حجّية الكتابة بعنوان الطريق لإثبات الادّعاء في مقام الخلاف، ولاتدلّ على اعتبار الكتابة في الاُمور الإنشائيّة .

الوجه الثاني: السيرة الموجودة بين العقلاء من اعتبار الكتابة بينهم، وهذا ممّا لا يقبل الإنكار; فإنّه لا فرق عندهم بين اللفظ والكتابة، فالبيع كما ينعقد عندهم بطريق الألفاظ، كذلك ينعقد عندهم بطريق الكتابة كالأفعال ، فالعقلاء يعاملون معها معاملة البيع اللفظي والإجارة اللفظيّة وهكذا، ولم يدلّ دليل في الشريعة على


صفحه 121

ردع هذا العمل إلاّ في بعض الموارد الخاصّة ، بل الدليل على الإمضاء موجود، كما عرفت في الوجه الأوّل .

قال صاحب الجواهر: إذا قامت القرائن الحاليّة وغيرها على إرادة الكاتب بكتابته مدلول اللفظ المستفاد من رسمها، فالظاهر جواز العمل بها ; للسيرة المستمرّة في الأعصار والأمصار على ذلك ، بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك ، خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف والوفاق، ونقلهم الإجماع وغيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء، ودعوى أنّ ذلك كلّه من جهة فتح باب الظنّ في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها، واضحة الفساد ; ضرورة كون السيرة المزبورة على الأعمّ من ذلك، كالوكالة والإقرار والوصايا والأوقاف، وتصنيفهمكتب الفتوى للأطراف، وعمل الناس بها، ونحو ذلك(1) .

إن قلت: إنّ هذه السيرة مستحدثة ولم تكن موجودة في زمن الشارع حتّى تمضى أو تردّ .

قلت: إنّا قد حقّقنا في محلّه في مباحث الأُصول أنّه لا يجب أن تكون السيرة موجودة في زمن الشارع ، بل الشارع يجب عليه الردع عن السيرة التي لم تكن ممضاة عنده ، وبعبارة أُخرى: الشارع بما أنّه شارع يجب عليه البيان ولو بنحو عامّ بالنسبة إلى السيرة الموجودة في زمنه، والتي تتحقّق بعد ذلك إذا كان في مقام ردعها .

فهذه السيرة في ما نحن فيه بما أنّها لم يدلّ دليل على الردع عنها، فهي حجّة شرعيّة أيضاً، ولكن يجب أن تعلم أنّ إطلاق هذه السيرة محلّ تأمّل وإشكال، ولاندري أنّ العقلاء يكتفون بالكتابة في جميع اُمورهم، أم لا؟ فجريان السيرة


(1) جواهر الكلام 40 : 304.

صفحه 122

العقلائية مثلاً غير معلوم في الشهادة على طريق الكتابة، وبما أنّ الأدلّة اللبّية يجب الأخذ بالقدر المتيقّن منها، فتنتج أنّ الكتابة حجّة في الجملة عند العقلاء .

إن قلت: إنّ الكتابة ليست بصراحة كالألفاظ ، فالاعتماد عليها في العقود والإيقاعات وغيرهما غير تامّ .

قلت: إنّها ليست بأقلّ من الأفعال ، بل ربما يدّعى أنّها في الدلالة على المراد تكون في عرض الألفاظ من دون تفاوت بينهما; فإنّ الإجمال الموجود في الأفعال غير متحقّق في الكتابة .

وبالجملة: كما أنّ الألفاظ تستعمل في مقام الإنشاء، كذلك الكتابة تستعمل في الإنشاء، وفي كلا المقامين يحتاج الإنشاء إلى القرينة، وهذا المقدار ليس بمضرٍّ،ويستفاد من كلمات الشيخ الأعظم أنّ الصراحة في نفس تحقّق عنوان العقد معتبرة، والصراحة في الدلالة غير معتبرة، فراجع(1) . فالإنشاء لا يتقوّم باللفظ،كما أنّ الأخبار كذلك، فتدبّر .

كلام السيّد الإمام الخميني (قدس سره)

وقد مال السيّد الإمام رحمة الله عليه في ابتداء كلامه إلى تحقّق البيع بالإشارة والكتابة وغيرهما من المظهرات، بدعوى: أنّ البيع ليس إلاّ المبادلة بين المالين أو تمليك عين بعوض ـ حسب ما اختاره الشيخ الأنصاري(2)ـ فالإشارة المفهمة والكتابة وغيرهما، آلات لإنشاء المعنى الاعتباري، وليس للّفظ ولا لعمل خاصّ خصوصيّة في ذلك .

ثمّ عدل عن ذلك وقال: إلاّ أن يقال: إنّ ماهيّة البيع وإن كانت المبادلة، لكن


(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3 : 120.
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3 : 11 .

صفحه 123

لابدّ في تحقّقها من سبب عقلائيّ، واللفظ والتعاطي سببان عقلائيّان بلا شبهة . وأمّا سائر المبرزات، فليست من الأسباب العقلائيّة لإيجاد الطبيعة وإن كانت بواسطة القرائن مفهمة للمقصود.

فهل ترى أنّ المتعاملَين لو تقاولا على أنّ «إيجابي هو العطسة مثلاً، وقبولك وضع الكفّ على الكفّ» صدق على ما فعلا «البيع» ونحوه؟

فالإشارة وأمثالها ليست أسباباً عقلائيّة، ولا تتحقّق الماهيّة بها عند العقلاء(1).

ونلاحظ في ذلك أنّ قياس الكتابة بالعطسة غير صحيح; فإنّ الكتابة ـ سيّما اليوم ـ من المظهرات والمبرزات العقلائيّة ، بل هي أقوى من الإشارة .

وهنا خلاف بين الأعلام في تقديم الإشارة على الكتابة، أو ترجيح الكتابة عليها فيما إذا كان الشخص أخرس . فقيل بتقديم الإشارة على الكتابة; لأنّها أصرح; فإنّ الكتابة قد تكون لأجل التعليم والتمرين، بخلاف الإشارة ، وقيل بتقديم الكتابة على الإشارة; لكونها أضبط .

وأورد على كلا القولين السيّد الخوئي بأنّه لو سلّمنا الصغرى، فلا ريب في أنّ الكبرى ممنوعة; إذ لا دليل على الترجيح بالأصرحيّة أو الأضبطيّة، وإلاّ لزم ترجيح الكتابة على الإنشاء اللفظي أيضاً; لأضبطيّة الكتابة على اللفظ . ثمّ اختار صحّة الإنشاء لكلّ ما يكون مصداقاً له عرفاً; سواء كان لفظاً، أو كتابة، أو إشارة، أو تعاطياً من الطرفين، أو إعطاء من طرف واحد، أو غير ذلك، من غير ترتيب بينهما إلاّ في الطلاق ، فيستفاد الترتيب بين الكتابة والإشارة من النصّ(2).

يعني رواية الصدوق بإسناده عن البزنطي، أنّه سأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن


(1) كتاب البيع للإمام الخميني (رحمه الله) 1 : 302 ـ 303.
(2) محاضرات في الفقه الجعفري 2: 118.

صفحه 124

الرجل تكون عنده المرأة يصمت ولا يتكلّم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، ويعلممنه بغض لامرأته وكراهة لها، أيجوز أن يطلّق عنه وليّه؟ قال: لا، ولكن يكتب ويشهد على ذلك. قلت: أصلحك الله فإنّه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلّقها؟ قال: بالذي يعرف به من أفعاله; مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها(1) .

وذهب السيّد في حاشيته إلى أنّ الترتيب المذكور في النصّ إنّما هو من باب بيان طبع المطلب(2) .

وأورد عليه السيّد الخوئي بأنّ ظهور النصّ في التعيين بحسب التعبّد الشرعي غير قابل للإنكار(3) .

وفيه: أنّ النصّ لا ظهور فيه في الترتيب، وإنّما هو بيان للمطلب على حسب سؤال السائل بحسب المورد، ولا يستفاد منه الترتيب .

الكتابة والمباني المختلفة في حقيقة الإنشاء

ولا بأس هنا بالإشارة إلى المباني المختلفة في الإنشاء، والبحث عن الكتابة بالنسبة إلى كلّ واحد منها:

فاعلم أنّ في حقيقة الإنشاء خلافاً شديداً بين الأكابر .

فذهب المشهور إلى أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى الاعتباري بسبب اللفظ، كإيجاد علقة الزوجيّة بلفظ «أنكحتُ»، وإيجاد الملكيّة بصيغة «بعتُ»، ولاشكّ أنّ الكتابة صالحة لإيجاد المعنى الاعتباري، ولا خصوصيّة للّفظ في ذلك الإيجاد .


(1) الفقيه 3 : 333 ح1613، تهذيب الأحكام 8 : 74 ح247، الاستبصار 3 : 301 ح1065، الكافي 6 : 128 ح1، وعنها وسائل الشيعة 22 : 47 ، كتاب الطلاق، أبواب مقدّماته وشرائطه ب19 ح1.
(2) حاشية كتاب المكاسب للسيّد اليزدي 1 : 417.
(3) محاضرات في الفقه الإسلامي 2 : 118.

صفحه 125

وذهب المحقّق الأصبهاني(1) إلى أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بالوجود الجعلي وهو اللفظ مثلاً; يعني أنّ للملكيّة وجودين: الأوّل: الوجود المضاف إلى نفسها حقيقةً، وهذا هو الوجود الحقيقي لها ، والثاني: الوجود الذي يكون مضافاً حقيقةً إلى الطبيعة الاُخرى، ويضاف إلى الملكيّة بالمسامحة والعناية; وهو لفظ بعتُ، أو ملكتُ ، وبناءً على هذا المسلك لا إشكال في صلاحيّة الكتابة للإنشاء; لأنّها أيضاً من نوع الوجود الجعلي، كاللفظ .

وذهب السيّد الخوئي(2) إلى أنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني، ومن الواضح أنّ الكتابة صالحة لإبراز الاعتبار النفساني، كما لا يخفى .

فتبيّن أنّ الكتابة على جميع المسالك في حقيقة الإنشاء صالحة للإنشاء، إلاّ أنّها ليست بحدّ الألفاظ (3).

المقام الثاني: بعد إثبات حجّية الكتابة، فهل تجري في مسألة الشهادة والبيّنة أم لا؟ وبعبارة أُخرى: أنّه لو قلنا بعدم جريان الكتابة في مطلق الاُمور الخبريّة والإنشائيّة ، فلا مجال لهذا البحث. أمّا إذا قلنا باعتبارها ولو إجمالاً ، فهل الصحيح للشاهد أن يكتب ما يعلمه، ويرسله إلى القاضي، أم لا يصحّ، بل المعتبر النطق والحضور في المحكمة أمام القاضي والشهادة باللفظ عنده؟ وبعبارة اُخرى: هل الكتابة كافية في طريق الإثبات، أم لا يكفي؟ وهل في مسألة القضاء خصوصيّة تمنع عن قبول الشهادة الكتبيّة، أم لا؟

ولابدّ قبل بيان الحقّ; من التعرّض للكلمات والأقوال والتفحّص للشروط التي ذكرها الفقهاء للشهادة حتّى يظهر أنّ النطق والحضور أمام الحاكم، هل هو شرط لصحّة الشهادة، أم لا يشترط النطق، بل يكفي تحقّقها بالكتابة مثلاً؟


(1) نهاية الدراية 1 : 274 ـ 275.
(2) محاضرات في اُصول الفقه (موسوعة الإمام الخوئي) 1 : 97 ـ 98 .
(3) وقد بسطنا القول مفصلاً حول حقيقة الإنشاء في دروسنا الاُصوليّة، المؤلّف.

صفحه 126

ومحلّ الكلام فيما إذا كتب الكاتب ما يعلمه ويرسله إلى القاضي، فهل هي حجّة للحاكم أم لا؟ أمّا البحث في أنّه هل يجوز للشخص أن يكتب ما يعلمه ويرسله إلى القاضي فليس بمهمّ، إلاّ أنّه في معرض التهمة على الحرص على الأداء، وهو خارج عن محلّ البحث .

والشيخ (رحمه الله) في الخلاف لم يتعرّض لهذا الفرع، بل إنّما تعرّض لفروع أُخر شبيهة أو قريبة إلى هذا الفرع، فقال في آداب القضاء:

إذا ارتفع إليه خصمان، فذكر المدّعي أنّ حجّته في ديوان الحكم، فأخرجها الحاكم من ديوان الحكم مختومة بختمه ، مكتوبة بخطّه، فإن ذكر أنّه حكم بذلك حُكم له ، وإن لم يذكر ذلك لم يحكم له به، وبه قال أبو حنيفة ومحمّد والشافعي . وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يعمل عليه ويُحكم به وإن لم يذكره; لأنّه إذا كان بخطّه مختوماً بختمه، فلا يكون إلاّ حكمه .

دليلنا قوله ـ تعالى ـ : {وَ لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1)، فإذا لم يذكرهلم يعلم; ولأنّ الحكم أعلى من الشهادة ، بدلالة أنّ الحاكم يلزم والشاهد يشهد .

ثمّ ثبت أنّ الشاهد لو وجد شهادته تحت ختمه مكتوبة بخطّه لم يشهد بها ما لم يذكر ، فبأن لا يحكم بها إذا لم يذكر أولى وأحرى; ولأنّ الخطّ يشبه الخطّ، ومعناه أنّه قد يكتب مثل خطّه، ويحتال عليه، ويتركه في ديوانه، فلا يجوز قبول ذلك إلاّ مع العلم(2) .

ويستفاد من هذه العبارة ، أنّ نفس الكتابة غير حجّة لدى القاضي; بمعنى: أنّ ما كتبه القاضي ولو ختم بختمه ما لم يذكر أنّه حكم بذلك الحكم ، فليس بحجّة، خلافاً لابن أبي ليلى وأبي يوسف ، واستدلّ على ذلك بقوله ـ تعالى ـ: {وَ لاَ تَقْفُ مَا


(1) سورة الإسراء 17: 36.
(2) الخلاف 6 : 222.

صفحه 127

لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) . وذهب في هذه العبارة إلى أنّ الشاهد لو وجد شهادتهمكتوبة بخطّه ، لا يجوز الشهادة بسببها ما لم يذكر . فيستفاد من كلامه (قدس سره) عدم اعتبار الكتابة ما لم يصل إلى حدّ الذكر والعلم ، فليست حجّة شرعيّة تعبّدية مستقلّة ; لأنّ الخطّ يشبه الخطّ، والكاتب قد يكتب مثل خطّه ويحتال عليه .

وقد ذكرنا أنّ محلّ الكلام فيما إذا أمن من التزوير والاحتيال، أمّا في صورة الأمن فلا وجه لعدم اعتبار الكتابة .

وقال أيضاً في الخلاف في كتاب الشهادات:

الظاهر من المذهب أنّه لا تقبل شهادة الفرع مع تمكّن حضور شاهد الأصل، وإنّما يجوز ذلك مع تعذّره، إمّا بالموت، أو بالمرض المانع من الحضور، أو الغيبة. وبه قال الفقهاء، إلاّ أنّهم اختلفوا في حدّ الغيبة . . .(2) .

أقول: يستفاد من عبارته أنّ الشخص لو تمكّن من الحضور أمام الحاكم ، لم يصحّ الشهادة على الشهادة فكيف بالكتابة ، وبعبارة اُخرى: أنّ شهادة الفرع تصحّ في صورة العذر، فلا تصحّ الكتابة فيما لم يكن الشاهد معذوراً .

وقال في المبسوط:

روى أصحابنا; أنّه لا يقبل كتاب قاض إلى قاض ولا يعمل به، وأجاز المخالفون ذلك ، قالوا: يقبل كتاب قاض إلى قاض وإلى الأمين، وكتاب الأمين إلى القاضي والأمين; لقوله ـ تعالى ـ في قصّة سليمان وبلقيس: {قَالَتْ يَـأَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـبٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَـنَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} (3)


(1) سورة الإسراء 17: 36.
(2) الخلاف 6 : 314 مسألة 65.
(3) سورة النمل 27: 29 ـ 30.

صفحه 128

فكتب إليها سليمان، وكانت كافرة يدعوها إلى الإيمان(1) .

ثمّ قال بعد ردّ أدلّة المخالفين: أمّا التحمّل، فإذا كتب القاضي كتابه استدعى بالشهود وقرأه هو عليهم، أو دفعه إلى ثقة يقرأه عليهم ، فإذا قرأه الغير عليهما فالأولى أن يطّلعا فيما يقرأه لئلاّ يقع فيه تصحيف أو غلط وتغيير ، وليس بشرط; لأنّه لا يقرأه إلاّ ثقة، فإذا قرأه عليهما، أو قرأه الآخر فعليه أن يقول لهما: هذا كتابي إلى فلان(2) .

والمستفاد من هذه العبارة عدم اعتبار نفس الكتابة .

وقال العلاّمة في بيان صفات الشاهد:

وهي ستّة: البلوغ، وكمال العقل، والإيمان، والعدالة، وانتفاء التهمة، وطهارة المولد(3) .

وهذه العبارة ـ كما رأيت ـ لا تدلّ على اعتبار النطق، ولم يذكر في عداد صفات الشاهد حضوره والتنطّق بما يعلمه، فلا يستفاد شرطيّة الحضور .

وقال في الفصل السادس من التبصرة في بقيّة مسائل الشهادات ـ : لا يحلّ للشاهد أن يشهد إلاّ مع العلم، ولا يكفي رؤية الخطّ مع عدم الذكر وإن أقامغيره(4) .

والظاهر من هذه العبارة عدم اعتبار الكتابة ، وبعبارة أُخرى: الظاهر منالعبارة أنّ حضور الشاهد عند الحاكم والتنطّق بما يعلمه أمرٌ مفروغ عنه عنده فتدبّر .


(1) المبسوط 8 : 122.
(2) المبسوط 8 : 124.
(3) تبصرة المتعلِّمين : 182 .
(4) تبصرة المتعلِّمين : 183.

صفحه 129

وقال في الإرشاد في كيفيّة الحكم:

ويحرم عليه أن يتعتع الشاهد; بأن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه ، بل يكفّ حتّى يشهد، فإن تلعثم صبر عليه ، ولو توقّف لم يجز له ترغيبه في الإقامة(1) .

وهذه العبارة تدلّ على كيفيّة سماع الشهادة، وهي مختصّة بصورة النطق، فيستفاد منها مفروغيّة النطق، والحضور أمام الحاكم .

وظاهر عبارة التبصرة والإرشاد وتلخيص المرام(2) أنّ النطق والحضور ليس من شروط الشاهد، فراجع .

وقد يستفاد من كلام بعض أنّ العقود والإيقاعات التي تعتبر فيها الألفاظ الخاصّة ، لا تقوم مقامها شيء من الإشارة والكتابة ونحوهما ، وأمّا الموارد التي لاتعتبر فيها الألفاظ الخاصّة، كالإقرار والشهادة فتقبل النيابة، وبناءً على ذلك لايصحّ لعان الأخرس بالإشارة المعقولة ; لأنّه مشروط بالألفاظ الخاصّة دون الإقرار والشهادة; فإنّهما يقعان بأيّ عبارة اتّفقت، إلاّ أن يقال: إنّ الألفاظ الخاصّة تعتبر مع الإمكان. وعليه: فصحّة الإشارة أو الكتابة متفرّعة على عدم إمكان النطق(3) .

والإنصاف اعتبار حضور الشاهد في مجلس الحكم; فإنّ المحصّل ـ من مجموع الكلمات في الموارد المختلفة ـ اعتبار حضور الشاهد وعدم حجّية الكتابة في طريق الشهادة، وذلك بالقرائن الآتية:

القرينة الاُولى: أنّهم قد اشترطوا في حجّية شهادة الفرع ، عدم إمكان حضور الأصل لمرض أو غيبة(4) ، ونفس هذا الاشتراط يدلّ على لزوم حضور الشاهد في


(1) إرشاد الأذهان 2 : 142.
(2) تلخيص المرام في معرفة الأحكام : 310.
(3) اُنظر الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقيّة : 6 / 189.
(4) إرشاد الأذهان 2 : 165.
صفحه 130

مجلس القضاء وعدم اعتبار الكتابة، بل لو كانت الكتابة كافية لكانت حجّية شهادة الفرع لغواً .

القرينة الثانية: أنّ الفقهاء قد صرّحوا في اليمين بلزوم إقامته في مجلس الحكم كما صرّح به الشهيد الأوّل; فإنّه قال في شرائط اليمين في الشرط الأوّل: إنّ محلّها مجلس الحكم إلاّ مع العذر، كالمريض وغير البرزة(1) .

القرينة الثالثة: أنّ الشهادة على طريق الكتابة لا تصدق عليها الأداء، والموجود في كلمات الفقهاء لزوم أداء الشهادة .

وقال بعض في تعريف الأداء: أمّا أداء الشهادة، فهو أن يشهد الشاهد بما تحمّله أمام القضاء في مجلس الحكم، وهذا واجب وحتم إذا ما دعاه صاحب الحقّ للأداء(2) .

القرينة الرابعة: قد وردت في الروايات الواردة في حجّية البيّنة، التعبير بكلمة «عندك» أو «عندكم» الظاهرة في لزوم حضور الشاهد عند القاضي مثلاً .

أ : في رواية عبدالله بن سليمان، عن الصادق (عليه السلام) قال : كلّ شيء لك حلال حتّى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أنّ فيه ميتة(3) .

ب : في صحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: ... فإن شهد عندكم شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه(4) .

ج : الروايات التي وردت في لزوم تصديق المؤمن إذا شهد، نحو: إذا شهد


(1) الدروس الشرعيّة 2 : 93.
(2) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 273 .
(3) الكافي 6 : 339 ح2 ، وعنه وسائل الشيعة 25 : 118 ، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة ب61 ح2 وبحار الأنوار 65 : 156 ح30.
(4) تهذيب الأحكام 4 : 157 ح436 ، الاستبصار 2 : 63 ح205 ، المقنعة : 297 ، وعنها وسائل الشيعة 10: 254 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح 8 وص 287 ب11 ح40.

صفحه 131

عندك المؤمنون فصدّقهم(1) .

ومن الواضح: أنّ الشهادة الكتبيّة ليست من مصاديق الشهادة عند الحاكم .

لا يقال: إنّ هذا مبنيّ على حجّية مفهوم الوصف، والتحقيق عدمها; لأنّا نقول:إنّهم في هذه الروايات بصدد بيان المفهوم، وهذا ظاهر .

القرينة الخامسة: أنّ كلمة الشهادة تدلّ لغةً على اعتبار الحضور، فمعنى شهده أي حضره، وأشهدني الملائكة بمعنى أحضرني الملائكة ، فالإشهاد طلب تحمّل الشهادة بالمعاينة، أو طلب أداء الشهادة عند القاضي .

وبعبارة أُخرى: أنّه كما يعتبر في تحمّل الشهادة الحضور والحسّ والمعاينة ، كذلك يعتبر في أدائها، والظاهر عدم الفرق بين معنى الشهادة لغةً، ومعناها شرعاً .

مذهب الحنفيّة

أنّهم ذكروا في الشرط الرابع من شروط وجوب الأداء في حقوق العباد، قرب مكان الشاهد في مجلس القضاء، بحيث يمكنه أن يؤدّي الشهادة ويرجع إلى أهله في نفس اليوم(2) . ثمّ فرّعوا على ذلك بأنّه بعد تحقّق شروط الشهادة لو أخّرها من دون عذر ظاهر، فهل الشهادة بعد التأخير صحيحة، أم لا؟(3)

والظاهر من هذا الكلام اعتبار الحضور في مجلس الحكم، مع أنّ مسألةالكتابة لا تلائم مع تأخير الشهادة; فإنّ التأخير يناسب شرطيّة الحضور فيمجلس القضاء .

وقدصرّحوا في شروط العامّة للشاهد، أنّه من شرائط الشاهد النطق، فلاتقبل


(1) الكافي 5 : 299 قطعة من ح1، وعنه وسائل الشيعة 19: 83 ، كتاب الوديعة ب6 قطعة من ح1.
(2) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 275.
(3) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 276.

صفحه 132

شهادة الأخرس; لأنّه لا عبارة له، وإشارته مشتبهة وغير قاطعة، ولابدّ في الشهادة أن تكون واضحة جليّة حتّى يصحّ الحكم بها لاُناس على آخرين(1) .

أقول: لو كان النطق في قبال خصوص الأخرس، فلا يدلّ على عدم اعتبار الكتابة . وأمّا لو كان النطق في قبال عدم النطق حتّى يشمل الكتابة، فيدلّ على عدم صحّة الكتابة ، ويؤيّد ذلك قولهم بعد هذه العبارة: وأيضاً فإنّ من شروط صحّة الشهادة أو ركنها على الخلاف أن يقول (أشهد)، وهذا لا يتأتّى منه إلاّ إذا كان ناطقاً(2) . وقولهم في بيان شروط مكان الشاهد: يشترط في المكان شرط واحد; وهو أن يكون مجلس القضاء(3) .

فاعتبار التنطّق في مجلس القضاء واضح عند الحنفيّة .

مذهب الشافعيّة

أنّهم أيضاً اعتبروا من شرائط الشاهد ، أن يكون ناطقاً، فلا تقبل شهادة الأخرس وإن فهمت إشارته(4) .

وقالوا أيضاً: واختلف أصحابنا في شهادة الأخرس، فمنهم من قال: تقبل ; لأنّ إشارته كعبارة الناطق في نكاحه، وطلاقه، فكذلك في الشهادة، ومنهم من قال: لاتقبل ; لأنّ إشارته أُقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة، وهو في النكاح، والطلاق; لأنّها لا تستفاد إلاّ من جهته، ولا ضرورة بنا إلى شهادته; لأنّها تصحّ من غيره بالنطق، فلا تجوز بإشارته(5) .


(1) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 280.
(2) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 280.
(3) موسوعة الفقه الإسلامي 12 : 286.
(4) مغني المحتاج: 6 / 388 .
(5) المهذّب 5 : 597.

صفحه 133

مذهب الزيديّة

ذهبوا إلى لزوم أداء الشهادة عند الحاكم، والظاهر من بين المذاهب أنّهم قد صرّحوا بذلك فقط، ولم تصرّح المذاهب الاُخر بذلك، فقالوا:

يشترط لصحّة الشهادة أن يكون أداؤها عند حاكم(1)، فلا يصحّ أداؤها إلاّ عند الحاكم المعيّن من قبل من له حقّ تعيينه . ثمّ صرّحوا أيضاً في ضمن الشرائطأن يقول الشاهد بلفظ (أشهد)، والصيغة التي حدّدها الشارع للأداء، فلا تصحّ الشهادة بالرسالة والكتابة; لعدم اللفظ(2) . وقد صرّحوا في موضع آخر: من أنّ حقّ الشهادة أن يأتي بلفظها(3) .

فهذه المذاهب الثلاثة يعتبرون النطق والحضور للشهادة . وأمّا مذهب المالكيّة والظاهريّة والحنابلة; فإنّهم لم يذكروا النطق من شرائط الشاهد . وعباراتهم ساكتة عن ذلك .

نظريّة الفقه الوضعي

قالوا: يجب أن تؤدّى الشهادة شفهاً أمام المحكمة أو القاضي مباشرةً وجهاً لوجه; لأنّه إذا كذب اللسان أو سكت حيث يجب الكلام ; فإنّ هيئة المرء وحالته وطريقة شهادته قد تنمّ عن الحقيقة، أو تساعد على اكتشافها، أو تساعد على تقدير الشهادة(4) .

وقالوا أيضاً: يجب أن تؤدّى الشهادة في حضور الخصوم، فسحاً لباب السؤال والمناقشة(5) .


(1 ، 2) التاج المُذهّب لأحكام المذهب 4 : 69.
(3) التاج المُذهّب لأحكام المذهب 4 : 72.
(4) رسالة الإثبات 1 : 548 ـ 549 ، الرقم 379 مكرّر.
(5) رسالة الإثبات 1 : 549 ، الرقم 379 مكرّر أ.

صفحه 134

وأورد عليهم المحقّق الحائري بأنّ هذه الاُمور في نظر الفقه الإسلامي ليست شروطاً; بمعنى عدم نفوذ شهادة الشاهد بدونها، وهي احتياطات اتّخذها الفقه الوضعي بعد إغفال شرط العدالة، ولكن لا يبعد القول بأنّ من حقّ الحاكم فرض أمر من هذا القبيل أو غيره مقدّمة للحكم; لأجل تقصّي الحقيقة ممّا هو ليس واجباً بحدّ ذاته في نفوذ الحكم(1) .

وفيه: أنّه قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ حضور الشاهد والنطق في المحكمة من الشروط التي يستفاد من فتاوى الفقهاء خاصّة وعامّة، فراجع .

الفرق بين البيّنة والشهادة

يمكن أن يقال: إنّ لحجّية الشهادة في الأدلّة تعبيرين:

الأوّل: التعبير بلفظ الشهادة، كما ورد في الآية الشريفة: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} (2)، وفي بعض الروايات من هذا القبيل ، وهذا التعبير ـ كما عرفت ـ لا يشمل الكتابة .

الثاني: التعبير بلفظ البيّنة، كما ورد في موثّقة مسعدة بن صدقة: والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة(3) . وهي في اللغة بمعنى الحجّة وما به البيان والظهور(4)، وهذا المعنى شامل للكتابة .

قال السنهوري: البيّنة لها معنيان: معنى عامّ; وهو الدليل أيّاً كان، كتابة، أو شهادة، أو قرائن ، فإذا قلنا: البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، فإنّما


(1) القضاء في الفقه الإسلامي : 547.
(2) سورة البقرة 2 : 282.
(3) الكافي 5 : 313 ح40 ، تهذيب الأحكام 7 : 226 ح989 ، وعنهما وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 ح4.
(4) المنجد : 57.

صفحه 135

نقصد هنا البيّنة بهذا المعنى العامّ. معنى خاصّ; وهو شهادة الشهود دون غيرها من الأدلّة، وقد كانت الشهادة في الماضي هي الدليل الغالب ، وكانت الأدلّة الاُخرى من الندرة إلى حدّ أنّها لا تذكر إلى جانب الشهادة، فانصرف لفظ «البيّنة» إلى الشهادة دون غيرها(1) .

ثمّ قال: الأصل في الشهادة أن تكون شهادة مباشرة، فيقول الشاهد: ما وقع تحت بصره أو سمعه ـ إلى أن قال: ـ وتكون الشهادة عادة شفويّة ، يدلي بها الشاهد في مجلس القضاء مستمدّاً إيّاها من ذاكرته . وقد نصّت المادّة «216» من تقنين المرافعات على أن تؤدّي الشهادة شفاهاً، ولا تجوز الاستعانة بمفكّرات مكتوبة إلاّ بإذن المحكمة، أو القاضي المنتدب ... ، ومع ذلك فقد نصّت المادّة «205» من تقنين المرافعات على أنّ «من لا قدرة له على الكلام يؤدّي الشهادة إذا أمكن أن يبيّن مراده بالكتابة أو بالإشارة» .

ويدعى الشاهد عادةً إلى مجلس القضاء ليقول ما رآه، أو سمعه من الوقائع المتعلّقة بالدعوى ، ومع ذلك قد يكتفى في ظروف استثنائيّة بتلاوة شهادته المكتوبة(2) . انتهى كلامه .

فالمستفاد من كلماته أنّ الكتابة من طرق البيّنة، كما أنّ الشهادة من طرقها ، مضافاً إلى عدم ثبوت حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة لها، واستعمالها في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي، كقوله ـ تعالى ـ: {قَدْجِئْتُكُم بِبَيِّنَة مِّن رَّبِّكُمْ} (3)، وقيل: قد استعملت في الكتاب في خمسة عشر موضعاً منه بمعناها اللغوي; وهو الظهور والبيان .


(1) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 2 : 311.
(2) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 2 : 311 ـ 312.
(3) سورة الأعراف 7 : 105 .

صفحه 136

هذا، ولكنّ الإنصاف أنّ كلمة «البيّنة» في روايات القضاء ظاهرة في خصوص الشهادة بقرينة مقابلتها مع الأيمان، فقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : «البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر»(1) ظاهر في المعنى الاصطلاحي; وهو الشهادة بقرينة المقابلة ، وأيضاً قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2) .

مضافاً إلى ما ذكره الوالد المحقّق من أنّه لو كان المراد منها المعنى اللغوي ـ أي الحجّة ـ لكان المنكر أيضاً واجداً للحجّة، ولا يبقى فرق بينه وبين المدّعي، ولا وجه لتقديم المدّعي على المنكر بعد الاشتراك في ثبوت الحجّة لهما (3).

فتلخّص من جميع ما ذكرنا في هذا المقام عدم كفاية الكتابة في البيّنة والشهادة وإن أثبتنا اعتبار الكتابة إجمالاً في المقام الأوّل . نعم ، قد تكون سبباً لعلم القاضي، وطريقاً له، وهذا أمرٌ آخر لا ربط له بالبحث .

هذا كلّه بعض ما خطر ببالي في هذه المسألة

وقد تمّ الفراغ منها في شهر شعبان المعظّم سنة 1416 من الهجرة النبويّة

على مهاجرها آلاف التحيّة والثناء

والحمد لله ربّ العالمين


(1) تفسير القمّي 2 : 156 ، وعنه وسائل الشيعة 27 : 293، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب25 ذح3.
(2) الكافي 7 : 414 ح1 ، تهذيب الأحكام 6 : 229 ح552، وعنهما وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب2 ح1.
وفي مستدرك الوسائل 17 : 361 ح21583 و ص 366 ح21594 عن دعائم الإسلام 2 : 518 ح1857.
(3) القواعد الفقهيّة 1 : 484.

صفحه 137

رسالة في حقيقة الوضع

وقد ألّفت في سنة 1416 هـ . ق


صفحه 138


صفحه 139

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد في كيفيّة الدلالة وحقيقة الوضع

ذهب السيّد الشهيد الصدر (قدس سره) إلى أنّ العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى لاتكون أمراً اعتباريّاً صرفاً، بل هي من الاُمور الواقعيّة نشأت عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى، وهو من صغريات قانون الاستجابة الشرطيّة(1).

وبما أنّ هذه النظريّة ذات أثر مهمّ في شتّى مباحث الاُصول، فالجدير لوضوح البحث أن نبحث عن حقيقة الوضع والمسالك الموجودة فيها. فقنول:

لا يخفى أنّ البحث عن الوضع وأقسامه من المبادئ التصوّريّة اللغويّة لمسائل علم الاُصول، وثمرته إنّما تظهر في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وعدمه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقبل الورود في البحث لابدّ أن نقول: إنّ هنا أمرين قد وقع الخلط بينهما في كلمات القوم :

الأمر الأوّل : في حقيقة الدلالة الموجودة بين الألفاظ والمعاني، وكيفيّة الارتباط الموجود بينهما .


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 81 ـ 82 .

صفحه 140

الأمر الثاني : في حقيقة الوضع، وأنّه ماذا فعل الواضع، وماذا يتحقّق بفعله، ولايذهب عليك أنّ البحث ليس في مفهوم الوضع بحسب اللغة; فإنّه أمر واضح جدّاً ، بل البحث إنّما هو في حقيقة الوضع، وفي كيفيّة عمليّة الوضع، وهذا من فروع الأمر الأوّل . فاعلم أنّ القوم على أقوال ثلاثة :

ذهب جمع ـ ومنهم عبّاد بن سليمان الصيمري(1) ـ إلى أنّ هذه الدلالة أمر واقعيّ ذاتيّ تكوينيّ ، وذهب جمع ـ منهم المحقّق النائيني(2)ـ إلى أنّه الوسط بين الأمر الواقعي والأمر الجعلي الاعتباري ، وذهب المشهور(3) إلى أنّه أمر جعليّ صرف لا يمسّه الواقع التكوينيّ. وهم اختلفوا أيضاً في كيفيّة الاعتبار على أقوال متعدّدة :

الأوّل: أنّه عبارة عن جعل الارتباط بين اللفظ والمعنى(4) .

الثاني: أنّه عبارة عن جعل اللفظ على المعنى (5).

الثالث: أنّه عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى (6).

الرابع: أنّه عبارة عن التعهّد (7).

هذا مجمل الكلام في ما ذهب إليه القوم.

وأمّا تفصيل البحث هو : أنّ القول بكون دلالة اللفظ على المعنى أمراً واقعيّاً ذاتيّاً، يمكن أن يفسّر بأحد الوجوه الثلاثة :

الأوّل : أنّ المراد منها كون المعنى من ذاتيّات اللفظ، كما أنّ الزوجيّة من


(1) المصحول 1:87 ، تمهيد القواعد : 82 ، قوانين الاُصول 1:194، الفصول الغرويّة: 23، مفاتيح الاُصول:2.
(2) أجود التقريرات 1 : 90 .
(3) راجع الفصول الغرويّة: 23، ومفاتيح الاُصول: 2.
(4) بدائع الأفكار للآملي: 29.
(5) نهاية الدراية للاصفهاني 1 : 44 ـ 47.
(6) لاحظ شرح الإشارات والتنبيهات 1 : 21 ـ 22 ، ومحاضرات في اُصول الفقه (موسوعة الإمام الخوئي) 1: 43 ـ 44.
(7) تشريح الاُصول : 25 ، محاضرات في اُصول الفقه (موسوعة الإمام الخوئي) 1 : 48.

صفحه 141

ذاتيّات الأربعة .

الثاني : أنّ المراد بالواضع ما لم يهمل المناسبة بين اللفظ والمعنى، كما هو مذهب أهل الاشتقاق; فإنّهم قد ذكروا أنّ الفصم بالفاء لكسر الشيء مع عدم الإبانة(1)، والقصم بالقاف لكسر الشيء مع الإبانة(2); للفرق بين الفاء والقاف في الشدّة والرخاء (3).

الثالث : أنّ المراد من الذاتيّة: كون الدلالة بينهما أمراً غير قابل للتغيير والتبديل وإن كان اعتباريّاً، لكن بعد تحقّق الاعتبار وتماميّته لا يتبدّل ولا يتغيّر .

وقد استدلّوا بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّه لو لم تكن الدلالة ناشئة من سنخيّة ذاتيّة بين اللفظ والمعنى لكان كلّ لفظ صالحاً للدلالة على المعنى، واختيار لفظ لمعنى دون لفظ آخر موجب للترجيح بلا مرجّح، وللتخصيص بلا مخصّص، وهو محال (4).

ويرد عليه أوّلا : عدم امتناع الترجيح بلا مرجّح، وإنّما المحال هو ما إذا كان بنحو الترجّح بلا مرجّح، هذا بناءً على عدم رجوع الترجيح إلى الترجّح، وإلاّ فهو أيضاً محال .

وثانياً : أنّ المرجّح في مقام الوضع والجعل موجود; وهو إرادة الواضع أو سبق اللفظ إلى الذهن .

الوجه الثاني : أنّه لو كانت الدلالة أمراً اعتباريّاً لكانت متقوّمة بالاعتبار ووجود المعتبر، وينهدم بانقراضه، مع أنّا نرى بالوجدان بقاء الدلالة في الألفاظ في جميع الأزمنة (5).


(1، 2) المصباح المنير 2 : 650 و 695.
(3) قوانين الاُصول 1 : 194، مفاتيح الاُصول: 2.
(4) المحصول 1 : 89 ، قوانين الاُصول 1 : 194، الفصول الغرويّة: 23، مفاتيح الاُصول: 2.
(5) مقالات الاُصول: 62 ـ 64، بدائع الأفكار للآملي: 30، تهذيب الاُصول 1 : 22.

صفحه 142

وفيه : أنّ هذا أمر صحيح لا ينكر، وهذا هو الفارق الأساسي بين الاُمور الواقعيّة التكوينيّة; التي لا تتقوّم بوجود جاعل، ولا بفرض فارض، والاُمور الاعتباريّة التي تتقوّم بالمعتبر والفارض، ولكن انهدام المعتبر لا يستلزم انقراض الدلالة; لتبعيّة الباقي عنه في الاعتبار، وتأييدهم لبقاء الدلالة عملا .

وبعد إبطال الوجهين نقول : إنّ القول بالذاتيّة باطل جدّاً من حيث الثبوت; لأنّه مضافاً إلى دفعه بوجود الوضع للنقيضين أو الضدّين يقال: إنّ القول بها مدفوع بطريقين :

الطريق الأوّل : أنّ الاُمور الواقعيّة على قسمين :

الأوّل: الاُمور الخارجيّة التي يكون الخارج ظرفاً لوجودها، وتنقسم إلى الجواهر والأعراض .

الثاني: الاُمور النفس الأمريّة التي لها واقعيّة، من دون أن يكون الخارج ظرفاً لوجودها، بل الخارج ظرف لأنفسها، كاستحالة اجتماع النقيضين، والملازمات الواقعيّة بين طلوع الشمس ووجود النهار وأمثالها .

ومن الواضح: أنّ العلقة الموجودة بين اللفظ، والمعنى ليست من القسم الأوّل; لعدم كونها من الجواهر، حيث إنّها وجودات لا في موضوع، والدلالة أمر ربطيّ لا وجود لها غير الطرفين، وأيضاً ليست من قبيل الأعراض التي لها وجود في الموضوع; لأنّها موجودة بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى، ولا تتوقّف على وجود اللفظ واستعماله، مع أنّه لو كانت من الأعراض لوجب أن تتحقّق بعد وجود اللفظ خارجاً.

وهكذا ليست العلقة والدلالة من قبيل الاُمور الواقعيّة النفس الأمريّة; لعدم وجود التبديل والتغيير فيها; فإنّ استحالة اجتماع النقيضين أمر غير قابل للتغيير والتبديل، وهكذا الملازمات العقليّة، مع أنّ الدلالة قد تتغيّر بسبب النقل من المعنى


صفحه 143

اللغوي إلى الشرعي أو العرفي . فثبت أنّ العلقة الموجودة بين اللفظ والمعنى ليست من الاُمور الواقعيّة .

الطريق الثاني :

ما ذكره الوالد المعظَّم في بحثه، وهو: أنّ القول بالذاتيّة لا يخلو عن أربع كلّها مخدوشة (1):

الأوّل : أن يكون وجود اللفظ علّة تامّة لوجود المعنى، وهذا مع أنّه لم يقل به أحد ، بديهيّ البطلان أيضاً; لتحقّق المعاني قبل تحقّق الألفاظ، كما هو واضح في أسماء الأعلام .

الثاني : أن يكون اللفظ علّة تامّة للانتقال إلى المعنى، وهذا باطل أيضاً; لاستلزام أن يكون كلّ شخص عالماً بالمعنى بمجرّد سماع اللفظ، وهو كما ترى .

الثالث : أن يكون اللفظ مقتضياً لوجود المعنى، وهذا أيضاً باطل لنفس ماقلناه في الاحتمال الأوّل .

الرابع : أن يكون اللفظ مقتضياً للانتقال إلى المعنى، وهذا مخدوش أيضاً; لوجود الألفاظ الدالّة على ا لضدّين، مع وضوح عدم إمكان الشيء الواحدلأن يكون مقتضياً للضدّين، على أنّ هذا القول مستلزم لوجود التركّب في ذات البارئ تعالى; لتعدّد الأسماء والألفاظ في ذات البارئ ـ تعالى ـ في اللغة الواحدة; لاقتضاء كلّ لفظ جهة خاصّة لا يقتضيها اللفظ الآخر، وهذا موجب للتركّب المحال في ذات البارئ تعالى .

ثمّ إنّه يستفاد من كلمات المحقّق العراقي والمحقّق النائيني أنّ الدلالة الموجودة بين اللفظ والمعنى أمر وسط بين الاعتباري والواقعي ، ولابدّ أن نذكر كلامهما مع


(1) سيرى كامل در اصول فقه 1 : 200ـ 202، دراسات في علم الاُصول 1 : 75 ـ 77.

صفحه 144

المناقشات الواردة عليهما .

1 ـ كلام المحقّق العراقي:

ذكر المحقّق المذكور كلاماً طويلا في هذا المقام في مقالاته، واختلف الأعلام فيما يستفاد من كلامه، ولا سيّما أنّ كلامه في هذا المجال مضطرب جدّاً ، ونحن نذكر لُبّ مختاره، وأساس مرامه، فنقول :

إنّه بعد أن أنكر الذاتيّة وذهب إلى أنّ العلقة الموجودة بينهما إمّا أن تكون بجعل الجاعل، أو بكثرة الاستعمال، فهي حادثة لا ذاتيّة ، قال ما ملخّصه :

أوّلا : أنّ الارتباط بينهما من قبيل ارتباط المرآة مع المرئي ، فكما أنّ الانتقال إلى المرآة عبارة عن نفس الانتقال إلى المرئي، وليس بينهما تغاير، فكذلك الانتقال من اللفظ عين الانتقال إلى المعنى، وهذا هو السبب لسراية صفات المعنى إلى اللفظ وبالعكس، وبهذا البيان يتّضح أنّ دلالة اللفظ ليست من قبيل دلالة الدخان على النار، حيث إنّ الانتقال إلى أحدهما يكون مغايراً مع الانتقال إلى الآخر .

وثانياً : أنّ هذه العلقة أمر اعتباريّ من جهة أنّها مجعولة بتوسّط جعل الجاعل، لكن ليست اعتباريّة محضة حتى تزول بتوهّم المعتبر أو غفلته، بل اعتباريّ بمعنى عدم وجود ما بإزاءها في الأعيان ، ومن جهة اُخرى أنّها أمر واقعيّ لتعلّق الالتفات إليها تارة، والغفلة اُخرى ، وأيضاً اعتباريّتها من جهة عدم إيجاد تغيير في اللفظ والمعنى، بخلاف النسب الخارجيّة التي توجب تغييراً في الهيئة الخارجيّة، ومن جهة أنّها بنفسها خارجية ـ لا بوجودها ـ تكون من الاُمور الواقعيّة .

وثالثاً : أنّ الاعتبار ليس واسطة في الثبوت بالنسبة إلى هذه الدلالة حتّى يكون علّة لتحقّقها ، بل طريق إلى الواقع، كالقضايا الحقيقة التي يكون فرض وجود الموضوع طريقاً إليها .


صفحه 145

ورابعاً : أنّه (قدس سره) قد عبّر عن الدلالة تارةً بالملازمة بين اللفظ والمعنى ، واُخرى باختصاص اللفظ بالمعنى، وثالثة بقالبيّة اللفظ أو مبرزيّته للمعنى، والظاهر أنّ هذه التعبيرات مآلها إلى شيء واحد في نظره الشريف .

فنتيجة كلامه أنّ الواضع قد وضع الملازمة الواقعيّة بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى، ومن هذه الجهة لها موطن ذهنيّ، كما أنّ لها موطن خارجيّ أيضاً بين وجود اللفظ ووجود المعنى، وعدم انحصارها بالذهن دليل على عدم كونها من الاعتباريّات المحضة، والاعتبار ليس علّة لثبوتها، بل طريق إلى الملازمة الواقعيّة.

واستدلّ في مجموع كلماته لعدم كونها من الاعتباريات المحضة بأمرين :

الأوّل: زوال الاعتبار بنوم المعتبر، أو غفلته .

الثاني: أنّا نرى في ما إذا كانت الدلالة معلولة لكثرة الاستعمال بقاءهاوإن اعتبر خلافها، مع أنّ الاُمور الاعتباريّة تزول باعتبار الخلاف(1) .

وقد أورد عليه المحقّق الخوئي بأنّه إن أراد وجود الملازمة مطلقاً حتّىللجاهل بالوضع، فبطلانه من الواضحات; لاستلزام كون سماع اللفظ علّة للانتقال إلى المعنى، ولازمه استحالة الجهل باللغات ، وإن أراد ثبوتها للعالم بالوضع فقط، فيرد عليه: أنّها وإن كانت ثابتة للعالم فقط، إلاّ أنّها ليست بحقيقة الوضع، بل هي متفرّعة عليها; بمعنى أنّها أثر الوضع لا حقيقته، ومحلّ النزاع إنّما هو في تعيين حقيقة الوضع التي تترتّب عليها الملازمة(2) .

وفيه ـ مضافاً إلى أنّ القول باختصاص الملازمة للعالم بالوضع مستلزم للدور; لتوقّف الوضع على العلم بالوضع وبالعكس ـ : أنّ الملازمة من جهة العلم بالوضع وعدمه مهملة، وليست بمطلقة ولا مقيّدة، كسائر الملازمات الواقعيّة; فإنّه ليس


(1) مقالات الاُصول 1: 59 ـ 63.
(2) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 41 ـ 42.

صفحه 146

يصحّ أن يقال: هل الملازمة الموجودة في قولنا: «لو كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » مختصّة بالعالم بها، أو الأعمّ منه ومن الجاهل ، بل من هذه الجهة مهملة .

والصحيح في الإيراد على المحقّق العراقي أن يقال : إنّ الالتزام بكون الاعتبار يمكن أن يكون طريقاً إلى الواقع ، غير معقول جدّاً، بل الاعتبار في الاُمور الاعتباريّة دائماً يكون من قبيل الواسطة في الثبوت.

والدليل على ما ذكرنا لزوم السنخيّة بين العلّة والمعلول; لأنّه لا يمكن أن يكون الاعتبار علّة للأمر الواقعي التكويني . فنحن نسأل عنه أنّ المراد من كون الاعتبار طريقاً إلى الواقع ، هل هو طريق إلى تحقّق الواقع، فيرجع إلى كونه واسطة في الثبوت التي فررتم منها ، أم هو طريق إلى كشف الواقع، فيلزم تحقّق الملازمة قبل تحقّق الوضع، وهو غير مرامكم ومقصودكم؟ فالقول بأنّ الاعتبار طريق إلى الواقع ليس له محصّل .

أمّا القياس بين ما نحن فيه، وبين القضايا الحقيقيّة، فهو قياس مع الفارق; لأنّ في القضايا الحقيقيّة يكون فرض وجود الموضوع طريقاً إلى إنشاء حكم كلّي الذي هو من الاُمور الاعتباريّة، بخلاف ما نحن بصدده; لأنّ الادّعاء كون الاعتبار طريقاً إلى الواقع الحقيقي .

2 ـ كلام المحقّق النائيني

قد ذهب إلى أنّ الوضع أمر يعتبره الشارع، وهو السبب لتخصيص اللفظ بالمعنى ، وبناءً عليه لا معنى لتقسيم الوضع إلى التعيين والتعيّن، بل منحصر في الأوّل ، وتوضيح ذلك ـ على ما جاء في فوائد الاُصول ـ : أنّه أنكر استناد الوضع إلى البشر بدليلين ، ثمّ أضاف إليهما مبعّدين .

أمّا الدليل الأوّل: ـ وهو مرتبط بمقام الثبوت ـ هو: أنّ مع كثرة الألفاظ والمعاني أو عدم تناهيهما، كيف يقدر البشر المتناهي على جعل الألفاظ للمعاني؟


صفحه 147

ومع قطع النظر عن عدم التناهي، فنفس كثرة الألفاظ والمعاني بحيث تكونخارجة عن قدرة البشر كافية لعدم استناد الوضع إلى البشر .

وأمّا الدليل الثاني: ـ وهو مرتبط بمقام الإثبات ـ أنّه لو كان الواضع واحداً من أفراد البشر لذكر اسمه في التواريخ ; فإنّ هذا من المسائل المهمّة التي ثبتت عادةً في التاريخ، فمن عدم ذكره في التاريخ نكشف عن عدم وجود واضع بين البشر .

وأمّا المبعّدان، فالأوّل منهما: أنّه لو كان الواضع إنساناً، فهل تحقّق الوضع منه دفعةً، أو تحقّق تدريجاً؟ لا سبيل إلى الأوّل; لامتناعه عادةً، والثاني غير قابل للالتزام; لأنّه نسأل عن أنّه قبل الوضع، كيف يفهمون الناس مقاصدهم إلى الآخرين، مع وضوح تحقّق التفهيم والتفهّم بينهم ؟ .

أمّا المبعّد الثاني: أنّ الواضع حينما أراد الوضع كيف فعل؟ فهل أنّه قال : وضعت، أو قال : يا أيّها الناس ، مع أنّ الناس لا يقدرون على فهم هذه الكلمات .

وبالجملة: لابدّ أن يستند الوضع إلى الله تبارك وتعالى; فإنّه أمر اعتباريّ يعتبره الشارع، لكنّه خلاف سائر الاعتباريات الشرعيّة التي وصلت إلى الناس بطريق الرسل والأنبياء(عليهم السلام) ، بل الشارع يعلّم الناس عن طريق الإلهام، فيلهم إليهم أنّهم حينما أرادوا المائع السائل ، يقولون: «الماء»، فالشارع يخصّص لفظ «الماء» للمعنى المقصود، وهذا التخصيص ناشئ عن علمه ـ تبارك وتعالى ـ بوجود مناسبة ذاتيّة بينهما لئلاّ يلزم الترجيح بلا مرجّح ، فالوضع من ناحية: أمر اعتباريّ يعتبره الشارع، ومن ناحية اُخرى: أمر واقعيّ وهو لحاظ المناسبة الذاتيّة بينهما التي أدركها الشارع فقط(1) ، انتهى ملخّص كلامه مع توضيح منّا.

وبهذا البيان يتّضح ضعف ما أورده المحقّق الخوئي عليه; من أنّا لا نتعقّل حقيقة


(1) فوائد الاُصول 1 : 30 ـ 31.
صفحه 148

ثالثة بين الواقع والجعل، والاُمور لا تخرج من هذين(1) .

ووجه الضعف: أنّه لم يرد من هذا الكلام حقيقة ثالثة، بل أراد أنّه من جهة يرتبط بالاعتبار; لأنّ الشارع قد اعتبر، ومن جهة يرتبط بالواقع بلحاظ المناسبة الذاتيّة بينهما .

وبهذا التفسير يظهر الضعف أيضاً فيما فسّره بعض أهل النظر; من أنّ المراد من الواسطيّة أنّ الوضع ليس كسائر الاُمور الاعتباريّة الشرعيّة التي تتقدّمه بإبلاغ الرسل، بل أمر اعتباريّ يتحقّق بواسطة الإلهام من الله إلى الناس(2) .

ووجه الضعف: أنّه لا يكون بين التبليغ والإلهام فرق من جهة الواقعيّة والاعتباريّة، فتدبّر .

ويرد على الدليل الأوّل: أنّه تامّ إذا كان الوضع دفعيّاً من شخص واحد، مع أنّالمشهور(3) يعتقدون بتدريجيّة الوضع من أشخاص بحسب احتياج كلّ شخص أو قوم إلى ما هو المقصود لهم. وبهذا البيان يتّضح ما في الدليل الثاني; فإنّه تامّ إذا كان الواضع شخصاً واحداً . أمّا إذا كانوا متعدّدين فلا وجه لذكرهم في التواريخ .

وأمّا مسألة الإلهام، فلا يصحّ الالتزام به; فإنّا نسأل أنّ الله ـ تعالى ـ هل ألهم كلّ الناس بالنسبة إلى لفظ خاصّ، أو ألهم شخصاً خاصّاً؟ كلاهما غير صحيح جدّاً ، أمّا الأوّل; فللزوم عدم جهالة الإنسان بمعنى لفظ من الألفاظ ، وأمّا الثاني; فلأنّه بعد إلهام إليه من الله ـ تعالى ـ فكيف يفهم الآخرين بدلالة هذا اللفظ لذلك المعنى مع عدم إلهامه بالنسبة إليهم .

هذا، مضافاً إلى أنّ مسألة الإلهام لو كانت لبيّنت في الكتب السماويّة، مع


(1) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 37.
(2) منتقى الاُصول 1 : 50.
(3) نهاية الأفكار 1 : 24، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 38ـ 40، تهذيب الاُصول 1 : 21ـ22.

صفحه 149

خلوّها عن هذا .

فالنتيجة: أنّه لا مانع من كون البشر واضعاً من حيث الإمكان، بل الاعتبار مساعد له، وكون الواضع هو الله تبارك وتعالى، خصوصاً في الأعلام الشخصيّة ممّا لا يقبله الذوق السليم والفكر المستقيم .

نعم، قد استدلّ بعض(1) بكون الله ـ تبارك وتعالى ـ هو الواضع ، ببعض الآيات الشريفة :

الآية الاُولى : قوله ـ تعالى ـ : ( وَ مِنْ ءَايَـتِهِ خَلْقُ السَّمَـوَ تِ وَ الاَْرْضِ وَاخْتِلَـفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَ نِكُمْ) (2) .

وجه الاستدلال: أنّ المراد من اختلاف الألسن هو الاختلاف من حيث اللغة، فبعض يتكلّم بالعربيّة، وبعض آخر يتكلّم بالفارسيّة، وهكذا، وليس المراد منهالاختلاف من جهة الأصوات، كما احتمله بعض المفسِّرين(3) . وعلى هذا يكون استناد اختلاف الألسن إليه ـ تعالى ـ وجعله من آياته دليلا على كونه واضعاً للّغات، سيّما اقترانه في الآية مع خلق السماوات والأرض واختلاف الألوان التي هي من الاُمور التكوينيّة ، فجعل الاختلاف في الألسن بينها قرينة على استناده إليه ـ تعالى ـ حتّى من جهة التكوين .

وفيه : أنّه لا منافاة بين كون الواضع إنساناً، مع استناد الاختلاف في الألسن إليه تعالى، وبعبارة اُخرى: لا ملازمة بين كون الاختلاف مستنداً إليه تعالى، وبين كون الواضع هو الله تبارك وتعالى، وهذا نظير قوله ـ تعالى ـ : ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (4);


(1) المحصول 1 : 90 ، الفصول الغروية: 23 ـ 24، مفاتيح الاُصول: 4.
(2) سورة الروم 30 : 22 .
(3) التبيان في تفسير القرآن 8 : 217، مجمع البيان 8 : 50.
(4) سورة الرحمن 55 : 4.

صفحه 150

فإنّ البيان يصدر من الإنسان بإرادته، مع أنّه مستند إليه تعالى، فتدبّر .

الآية الثانية : قوله ـ تعالى ـ : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْمَاءَ كُلَّهَا) (1) . وجه الاستدلال: أنّ كلمة «الأسماء» جمع اسم ، الذي هو دالّ على المسمّى، فلازم تعليم آدم (عليه السلام) وجود الأسماء قبل خلقه (عليه السلام) ; وهو بمعنى وضع الله تبارك وتعالى .

وفيه : أنّ المراد من الأسماء ليست الأسماء المتداولة بين الألسن ، بل المراد منها ـ خصوصاً بقرينة رجوع ضمير ذوي العقول في قوله ـ تعالى ـ : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) (2) ، وقوله ـ تعالى ـ : ( أَ نبِـُونِى بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاَءِ) (3) ، إلى الأسماء ـ الأسماء الخاصّة التي وردت في بعض الروايات(4) .

وبالجملة: من الواضح أنّه ليس المراد منها مثلا كلمة «الماء» ونظائرها، خصوصاً مع استعمال الملائكة، واعتراضهم على الله، واستعمالهم الكلمات المتداولة، مع أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يصرّح في هذه الآيات بعدم علم الملائكة بالأسماء .

ثمّ إنّه قد ذكر في بعض الكلمات مبعّدات لبشريّة الواضع لا بأس بذكرها :

الأوّل : أنّ الإنسان الابتدائي كيف قدر أن يفهم أنّ من طرق إفادةالمقاصد استخدام الألفاظ، ولا يمكن توجيه الاستخدام إلاّ بالإلهام من الله تبارك وتعالى ؟

الثاني : أنّه وإن سلّمنا قدرته على فهم الاستخدام، لكنّه كيف كان قادراً لتفهيم الآخرين؟ وهل للتفهيم استخدم ألفاظاً؟ فنسأل عنها كيف كانوا قادرين على فهمها ؟

الثالث : أنّ حقيقة الوضع البشري طبقاً للمسالك الموجودة عند الاُصوليّين


(1 ـ 3) سورة البقرة 2 : 31.
(4) التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): 217، تأويل الآيات الظاهرة: 47ـ 48.

صفحه 151

ـ كجعل الملازمة أو الهوهويّة أو التعهّد ـ أمر كان خارجاً عن درك البشر الابتدائي والواضع الأوّلي .

الرابع : أنّه لو كان الواضع مجموع الموجودين في الزمان الأوّل، بحيث جلسوا واتّفقوا على كون لفظ «الماء» لذاك المعنى الخارجي، لكان هذا بعيداً بحسب حساب الاحتمالات، ولو كان شخصاً واحداً لاتّبعوه القوم، فهذا يناسب كون الواضع رئيساً للقوم، والبقيّة تابع له، مع أنّ هذه الكيفيّة ـ أي تبعيّة القوم لشخص واحد ـ أمر لم يكن في البشر الابتدائي(1) .

وبعد هذه المبعّدات نحن نحتمل ـ كما احتمل الشهيد الصدر ـ بل نطمئنّ بأنّ كيفيّة صياغة الدلالة ليست بقول مطلق، ولا مجال لأن نقول: إنّ الواضع هو الله ـ تبارك وتعالى ـ في جميع الألفاظ، وفي جميع المعاني حتّى بالنسبة إلى الأعلام الشخصية والاختراعات الجديدة، ولا أن نقول بأنّ أوّل شخص خلق كآدم على نبيّنا وآله وعليه السلام قد وضع الألفاظ على المعاني، بل لابدّ من التفصيل بهذه الكيفيّة.

وهي: أنّ دلالة الألفاظ على المعاني كانت في أوّل الخلقة بين الموجودين بإلهام من الله تبارك وتعالى، سيّما بالنسبة إلى آدم (عليه السلام) وحواره مع حوّاء، سيّما قبل هبوطهما إلى الأرض ، فمن البيّن جدّاً أنّ آدم (عليه السلام) حينما أراد أن يتكلّم مع حوّاء بالنسبة إلى الشجرة المعروفة فألهمه الله ـ تبارك وتعالى ـ ألفاظاً مخصوصة حتّى يستخدمها حين الاحتجاج والتكلّم .

ثمّ إنّه بعد مرور الزمان وسعة الاحتياجات قد وضع الإنسان ألفاظاً لمعان تقليداً من الله تبارك وتعالى، كما في سائر الاُمور التقليديّة منه تبارك وتعالى، كصنعة


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 85 .

صفحه 152

المجسّمة والنقش وغيرهما ، فالإنسان واضع لكن تقليداً من الله تعالى، وخصوصاًفي الأعلام الشخصيّة والاختراعات .

أمّا في الاُمور التكوينيّة، كالسماء والأرض وأشباههما، فمن البيّن أن ندّعي أنّ واضعها هو الله تبارك وتعالى، وهذا يظهر بعد وضوح أنّ من جعل لفظ «آدم» له (عليه السلام) ، ومن جعل لفظ «حوّاء» لزوجته (عليها السلام) ، ومن جعل لفظ «النار» و«النور» وأشباههما، هو الله تبارك وتعالى .

وهذا التفصيل يقوى بعد عدم إقامة دليل على نفي إلهيّة الوضع بقول مطلق، وأيضاً على نفي بشريّة الوضع بقول مطلق، فكلا القولين لم يكونا دليلا على نفي القول الآخر .

إلى هنا قد ثبت بطلان ذاتيّة الدلالة، وأنّ القول بكونها أمراً متوسّطاً بين الذاتيّة والجعليّة غير صحيح أيضاً . نعم، قد اخترنا كون الواضع الأصلي في بدو خلقة البشر هو الله تبارك وتعالى، ثمّ تبعه الناس وقلّدوه في هذا الأمر ، فالإنسان أيضاً واضع في العصور المتأخّرة عن بدو الخلقة .

لكن قد وقع الخلاف بين المشهور بناءً على كون الدلالة بين اللفظ والمعنى اعتباريّاً محضاً، وجعليّة صرفة من دون وجود مناسبة بينهما ، في أنّه ما هي حقيقة هذا الاعتبار؟ على أقوال ومسالك :

المسلك الأوّل :

ذهب المشهور(1) إلى أنّ الدلالة بينهما إنّما هي بالوضع، والمراد منه تخصيص اللفظ بالمعنى ، وعدل عنه المحقّق الخراساني إلى أنّه عبارة عن نحو اختصاص اللفظ بالمعنى(2) ، وجه العدول: أنّ تعريف المشهور غير شامل للوضع التعيّني; لأنّ التعبير


(1) المحصول 1 : 83 ، مفاتيح الاُصول: 2، تهذيب الاُصول 1 : 23.
(2) كفاية الاُصول: 24.

صفحه 153

بالتخصيص ظاهر في استناده إلى الفاعل المعيّن، بخلاف التعبير بكلمة الاختصاص; فإنّها غير ظاهرة في الاستناد إليه، ومع ذلك يرد عليه أمران :

الأوّل : أنّه لا يسمن ولا يُغني من جوع، لأنّ التعريف بالشيء المبهم لا يفيدنا شيئاً . نعم، يستفاد من كلمات المحقّق العراقي في مقالاته(1) أنّ المراد من قوله : نحواختصاص ، أنّ الجاعل أراد كون اللفظ قالباً ومبرزاً للمعنى، ومرجع ذلك إلى توجّه الإرادة إلى ثبوت القالبيّة له .

الثاني : أنّ الاختصاص عبارة عن أثر الوضع، وليس في حقيقة الوضع ، وبعبارة اُخرى: بعد تحقّق الوضع يصير اللفظ مختصّاً بالمعنى، فعليه: يكون التعريف تعريفاً للوضع بمعنى اسم المصدر، مع أنّا بصدد تعريفه بالمعنى المصدري .

المسلك الثاني :

وهو التنزيل والهوهويّة الاعتباريّة ، ذهب جمع(2) ـ ومنهم المحقّق البجنوردي(3)ـ إلى أنّ الوضع عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى، فهو وجود تنزيليّ للمعنى، وبهذا يكون متّحداً معه بالاتّحاد الاعتباري ، ولا يخفى أنّه قد غفل بعض عن اتّحاد مسلك التنزيل ومسلك الهوهويّة ، وقال : إنّهما مسلكان في باب الوضع، مع أنّ الدقّة تقتضي بالقول باتّحاد كلا المسلكين; فانّ من يقول بتنزيل اللفظ منزلة المعنى فمراده منه عبارة عن اتّحاد اللفظ والمعنى; كالقائل بالهوهويّة، وهو لا يصل إليها إلاّ بالتنزيل، فلا تغفل .

وعلى كلّ حال فالمراد من التنزيل: إنّما هو التنزيل في عالم الاعتبار لا في


(1) مقالات الاُصول 1 : 61 و 65 .
(2) شرح الإشارات والتنبيهات 1 : 21ـ 22، نهاية الدراية في شرح الكفاية 1 : 7، دراسات في اُصول الفقه 1: 22ـ 24، المباحث في علم الاُصول 1 : 16.
(3) منتهى الاُصول 1 : 32 ـ 34.

صفحه 154

الخارج، والمراد من الهوهويّة والاتّحاد إنّما هو الاتّحاد اعتباراً لا بحسب الواقع ، فالواضع قد اعتبر الاتّحاد بين اللفظ والمعنى، وجعل اللفظ بمنزلة المعنى، وقد استدلّوا على ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّ إلقاء اللفظ عبارة عن إلقاء المعنى للمخاطب، فكلّ ما تلقّى لفظاً للمخاطب فإنّما هو تلقّي المعاني، وهذا دليل على الاتّحاد; لأنّه لا معنى لكون الشيء إلقاءً للشيء الآخر فيما إذا كان بينهما تغاير واختلاف .

الثاني : أنّ للشيء أنحاء ووجودات أربعة :

الأوّل: الوجود الخارجي .

الثاني: الوجود الذهني .

الثالث: الوجود الكتبي .

الرابع: الوجود اللفظي . فجعل الوجود اللفظي أحد أنواع وجود الشيء، فكما أنّ الوجود الذهني ليس مغايراً مع الوجود الخارجي، فكذا الوجود اللفظي .

ثمّ إنّهم بعد ذكر الوجهين قد أيّدوا مَرامهم بشيئين :

الأوّل : سراية حسن المعنى وقبحه إلى اللفظ، والسراية دليل على الاتّحاد .

الثاني : أنّ الوضع مقدّمة للاستعمال، ومن الواضح عدم توجّه المستعمل في مقام الاستعمال إلاّ بالمعنى دون اللفظ، وهذا يقرب الاتّحاد بينهما .

وقد نوقش فيه باُمور :

الأوّل : أنّ التنزيل يحتاج إلى مصحّح، وهو في التنزيلات الشرعيّة والعرفيّة ـ كقوله (عليه السلام) : الطواف بالبيت صلاة(1) ـ موجود، حيث إنّه بعد التنزيل يترتّب أثر الصلاة أو شرطها على الطواف، فكما أنّ الصلاة محتاجة إلى الطهارة، فكذا الطواف، ولكن المصحّح فيما نحن فيه غير موجود، حيث إنّه لا يعقل ترتيب آثار المعنى للّفظ،


(1) عوالي اللئالي 1 : 214 ح70، وعنه مستدرك الوسائل 9 : 410، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب38 ح2.

صفحه 155

فما معنى التنزيل والاتّحاد (1)؟

وقد اُجيب عن ذلك بأنّ هنا فرق بين تنزيل شيء منزلة شيء آخر بلحاظ ترتيب الآثار، وبين اعتبار شيء مقام شيء آخر(2) .

وفيه : أنّه قد قلنا بعدم وجود الفرق بينهما; فإنّ تنزيل شيء منزلة شيء آخر يورث الاتّحاد الاعتباريّ، كما أنّ اعتبار شيء مقام شيء آخر موجب للاتّحاد الاعتباري .

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ المصحّح ليس دائماً بعنوان الأثر الخارجي ، بل المعتبر في التنزيل وجود أثر في المنزّل عليه حتّى يترتّب على المنزّل، وهو موجود هنا، فكما أنّا حين نرى فرداً ما من الماء في الخارج ننتقل إلى الحقيقة الكلّية; يعني طبيعة الماء، فمن لفظ «الماء» أيضاً ننتقل إليها، وهذا كاف في التنزيل .

الثاني : أنّ هذا المعنى دقيق جدّاً، وبعيد عن أذهان الواضعين; الذين من جملتهم الأطفال والمجانين، بل الحيوانات ، وهذا الإشكال يجري بالنسبة إلى كثير من المسالك في الوضع(3) .

وفيه : أنّه لا منافاة بين كون الشيء رائجاً عند العرف، وبين كون حقيقته من الاُمور الدقيقة التي تحتاج إلى التأمّل والدقّة، ومصداق هذا الأمر كثير جدّاً .

الثالث : أنّ ما ذكرتم من كون الشخص في مقام الاستعمال يرى المعنى فقط دون اللفظ ، لا يكون دليلا على الاتّحاد والتنزيل; لأنّه يناسب مع كون اللفظ آلة، مضافاً إلى وجود الفرق بين مقام الوضع والاستعمال; فإنّه لا شكّ في كون الواضع في مقام الوضع لابدّ أن يتصوّر اللفظ مستقلاًّ، كما يتصوّر المعنى كذلك، بخلاف مقام


(1) حاشية أجود التقريرات 1 : 18، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 44 ـ 45.
(2) بحوث في علم الاُصول (مباحث الدليل اللفظي) 1 : 77، منتقى الاُصول 1 : 58 ـ 60.
(3) حاشية أجود التقريرات 1 : 18، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 44.

صفحه 156

الاستعمال; فإنّ تصوّر اللفظ ليس استقلاليّاً، فتدبّر . ومنه يظهر النظر في الدليل الأوّل ، فافهم (1).

الرابع : أنّ القول بالتنزيل والهوهويّة لا يناسب الوضع بالمعنى اللغوي(2) .

وفيه: وجود المناسبة; لأنّ الوضع بحسب اللغة بمعنى الجعل، وهو يحتاجإلى مجعول، ومن الواضح إمكان أن يكون التنزيل أو الهوهويّة مجعولا بنحو الاعتبار .

الخامس : أنّ الهدف الأساسي من الوضع هي الدلالة، ولا شكّ في أنّها تحتاج إلى طرفين: دالّ ومدلول ، فالتنزيل والهوهويّة لا يناسب غرض الوضع، فاعتبار الوحدة بينهما لغو(3) .

وفيه : أنّه لا ريب في احتياج نفس التنزيل والهوهويّة إلى الطرفين، ومع عدمهما فما الشيء الذي ينزّل منزلة شيء آخر ؟ ومع عدم وجود الطرفين كيف يمكن أن يدّعى أنّ هذا ذاك . وبعبارة اُخرى: في الشيء الواحد لا يتصوّر التنزيل والهوهويّة . نعم، بعدهما يكونان متّحدين اعتباراً لا وجوداً خارجيّاً، فالدلالة التي تحتاج إلى الطرفين مناسبة لحقيقة الوضع .

السادس ـ وهو الإشكال الأساسي ـ : أنّ التنزيل يحتاج إلى ادّعاء وعناية، ومن البديهي عدم تحقّقهما حين الوضع، فهل الوالد الذي يضع اسماً لولده يدّعي أنّ هذا بمنزلة ذاك، أو يدّعي مسامحةً أنّ هذا هو ذاك؟ كلاّ(4) .

فتبيّن عدم تماميّة مسلك التنزيل والهوهويّة .


(1) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 44 ـ 45.
(2) حاشية أجود التقريرات 1 : 18.
(3) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 44 ـ 45.
(4) سيرى كامل در اُصول فقه 1 : 243 ـ 247.

صفحه 157

المسلك الثالث :

وهو التعهّد والالتزام النفساني، وقد اختاره المحقّق النهاوندي في تشريح الاُصول(1)، والمحقّق الرشتي في بدائع الأفكار(2)، ثمّ تبعه المحقّق الحائري(3)، واختاره المحقّق الخوئي(4) مع تفصيل وبسط في المقال .

وذكر المحقّق العراقي في مقالاته(5) أنّ التعهّد لو كان المراد به قالبيّة اللفظ للمعنى ومبرزيّة اللفظ للمعنى، لكان معنىً صحيحاً .

وقال المحقّق الحائري(6) : أنّه لا يعقل إيجاد ارتباط بين أمرين اللذين لا علاقة بينهما، كعدم إمكان إيجاد العلقة بين الإنسان والجدار مثلا، وظاهر كلامه عدم الإمكان حتى بنحو الاعتبار، واللفظ والمعنى من مقولتين مختلفتين، فلا يعقل إيجاد العلقة بينهما، والمعقول التزام الواضع بتفهيم المعاني بسبب الألفاظ، واستعمالها عند إرادة تفهيم المعاني، والمخاطب يلتفت إذا علم بالتزامه وتعهّده .

وقد ذكر المحقّق الخوئي أدلّة ثلاثة لما ذهب إليه، ثمّ ذكر ما يترتّب على القول بالتعهّد(7) .

أمّا الأدلّة الثلاثة :

الدليل الأوّل : الوجدان ، وبيانه: أنّه من الواضح أنّ من وضع اسماً لموجود فإنّما يتعهّد في الحقيقة تفهيم هذا الموجود بسبب هذا اللفظ الخاصّ .


(1) تشريح الاُصول: 25.
(2) راجع بدائع الأفكار: 34.
(3) درر الفوائد : 35 .
(4) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 48 ـ 53، حاشية أجود التقريرات 1 : 18 ـ 19.
(5) مقالات الاُصول 1 : 65 .
(6) درر الفوائد: 35.
(7) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 48 ـ 53، حاشية أجود التقريرات 1 : 18 ـ 19.

صفحه 158

الدليل الثاني : أنّ القول بالتعهّد يناسب الغرض الأساسيّ من الوضع; فإنّه لاشكّ في كون الغرض منه التفهيم والتفهّم، وهذا لازم ذاتيّ للالتزام والتعهّد .

الدليل الثالث : أنّ هذا القول مناسب للوضع بحسب المعنى اللغوي; فإنّه في اللغة عبارة عن الجعل والإقرار، ومنه وضع القوانين التي هي بمعنى الالتزام بها، وبالعمل بها .

وأمّا ما يترتّب على القول بالتعهّد فاُمور أربعة :

الأمر الأوّل : أنّ كلّ مستعمل واضع; لأنّ من استعمل لفظاً في معنى فقد تعهّد بتفهيم المعنى بسبب اللفظ الخاص، فكلّ مستعمل واضع، ولكن إطلاق الواضع على شخص معيّن إنّما هو باعتبار أسبقيّته من حيث الزمان، لا لأجل أنّه واضع في الحقيقة دون غيره .

الأمر الثاني : أنّه بناءً على هذا يصحّ تقسيم الوضع إلى قسمين : التعييني; وهو ما كان التعهّد فيه ابتدائياً غير مسبوق بكثرة الاستعمال ، والتعيّني; وهو ما كان التعهّد فيه مسبوقاً بكثرة الاستعمال .

الأمر الثالث : أنّ الدلالة الوضعيّة دلالة تصوريّة على المشهور ، وأمّا بناءً على مسلك التعهّد تكون الدلالة الوضعيّة هي الدلالة التصديقيّة، لكن بالإرادة الاستعماليّة، ففيما لا يكون المعنى مراداً للمستعمل بالإرادة الاستعماليّة، لا تكون الدلالة موجودة، وما يتبادر من الألفاظ حين صدورها عن شخص بلا قصد التفهيم، أو عن شخص بلا شعور، أو عن اصطكاك جسم بجسم آخر، إنّما هو من جهة الاُنس الحاصل بينهما بكثرة الاستعمال أو بغيرها .

الأمر الرابع : أنّه بناءً على هذا لا يكون الوضع أمراً اعتبارياً، فليكن هذاخارجاً عن مسلك الاعتبار، بل هو إمّا أمر واقعيّ بما أنّ التعهّد والالتزام النفساني من الاُمور الواقعيّة، أو أمر انتزاعيّ ينتزع من التعهّد، وهو منشأ للانتزاع .


صفحه 159

وقد صرّح في حاشية أجود التقريرات : أنّ الارتباط الموجود بين اللفظ والمعنى يكون من توابع الوضع، ومن الاُمور الانتزاعيّة ، ومنشؤها إنّما هو التعهّد(1) .

إن قلت : إنّ القول بالتعهّد مستلزم للدور، ولبيان الدور تقريبان :

التقريب الأوّل : أنّ الإتيان باللفظ ليس مطلوباً نفسيّاً، والإرادة المتعلّقة به إرادة غيريّة، ومن المسلّم أنّ المتعلّق فيها يلزم أن يكون موجوداً قبل تحقّق الإرادة، ولا يعقل تحقّق الغيريّة بنفس الإرادة; لأنّه مستلزم للدور; لأنّ تعلّق الإرادة المقدّميّة متوقّف على وجود المتعلّق، مع أنّ وجود المتعلّق في المقام يتحقّق بعد التعهّد .

وبعبارة اُخرى: يجب قبل التعهّد أن يكون اللفظ مقدّمةً لتفهيم المعنى، مع أنّه يتحقّق هذا بسبب التعهّد، فهذا دور واضح .

التقريب الثاني : أنّ التعهد متوقّف على مقدوريّة متعلّقه; وهو التفهيم، مع أنّ القدرة على التفهيم بهذا اللفظ غير موجودة قبل التعهد; لأنّه حسب الفرض تكون قابليّة اللفظ للدلالة على المعنى بحسب التعهّد .

قلت : أمّا الجواب عن التقريب الأوّل : إنّ التعهد في مقام الوضع إنّما هو ثابت بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى، وهو التعهّد الكلّي، وفي هذا المقام يحتاج إلى تصوّر اللفظ والمعنى فقط .

نعم، التعهّد في مقام الاستعمال يتوقّف على الحكم بكون هذا اللفظ موجباً لتفهيم المعنى، ولكن هذا يكون تعهّداً شخصيّاً فرديّاً موجوداً بين الفردين منطبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى . فتلخّص أنّ ما يتوقّف على العلم بالوضع إنّما هو


(1) حاشية أجود التقريرات 1: 18 ـ 19 .

صفحه 160

التعهّد الشخصيّ الثابت في مرحلة الاستعمال، دون التعهّد الكلّي الثابت في مرحلة الوضع، فيرتفع الدور .

وأمّا الجواب عن التقريب الثاني: فبأنّه يكفي في صحّة التعهّد القدرة على التفهيم في مرحلة الاستعمال الذي هو ظرف العمل، ولا يلزم حصول القدرة في ظرف الوضع ، انتهى ملخّص القول في التعهّد .

وقد اُورد عليه إيرادات بعضها مخدوش، وبعضها متوجّه إليه جدّاً :

الإيراد الأوّل : ما ذكره المحقّق النائيني من أنّ القول بالتعهّد ممّا يقطع بخلافه(1)، فادّعى (قدس سره) القطع بخلاف التعهّد; بمعنى أنّا إذا راجعنا وجداننا نرى عدم أثر من التعهّد في حقيقة الوضع .

ولا يخفى أنّ المسألة الاختلافيّة لا يمكن فيها دعوى الوجدان على أحد الأقوال فيها.

وبهذا يندفع ما ذكره القائل بالتعهّد في الدليل الأوّل من ادّعاء الوجدان على كون الوضع في الحقيقة إنّما هو تعهّد من ناحية الواضع; فإنّ دعوى الوجدان في مثل هذه المسألة الاختلافيّة، غير صحيحة جدّاً .

الإيراد الثاني : ما ذكره السيّد الإمام الراحل(2) ـ ردّاً على ما ذكره المحقّق الحائري في درره ـ من عدم تعقّل إيجاد العلاقة بين أمرين اللذين لا علاقة بينهما (3)، وملخّص الردّ: أنّ إيجاد العلاقة التكوينيّة بينهما ممتنع جدّاً . وأمّا إيجاد العلقة الاعتباريّة فمعقول، وهذا متين جدّاً; لأنّ الاعتبار خفيف المؤونة .

ثمّ إنّه (قدس سره) أورد إيراداً على القول بالتعهّد; من أنّه عبارة عن الالتزام بالعمل


(1) فوائد الاُصول 1 : 30.
(2) تهذيب الاُصول 1 : 23، مناهج الوصول 1 : 58.
(3) درر الفوائد: 35.

صفحه 161

بالوضع، وهذا أمر مترتّب على الوضع ومتفرّع عليه، ولا يكون داخلا في حقيقة الوضع .

وفيه : أنّ التعهّد كما أنّه يمكن أن يتعلّق بالعمل فكذلك يمكن أن يتعلّق بشيء آخر كالتفهيم، والقائل بالتعهّد يقول بالثاني، فمتعلّق التعهّد إنّما هو تفهيم طبيعيّ المعنى بطبيعيّ اللفظ، مضافاً إلى أنّ التعهّد بالعمل إنّما هو بالنسبة إلى مقام الاستعمال لا بالنسبة إلى مقام الوضع; فإنّ التعهّد فيه كلّي لا يرتبط بالعمل أصلا، لا ذهناً ولاخارجاً، فتدبّر .

الإيراد الثالث : ما يستفاد من كلمات الشهيد الصدر(1); من أنّ التعهّد مستلزم للتعهّد الضمني بعدم الاستعمال المجازي; بمعنى أنّ الّذي يتعهّد بتفهيم المعنى بلفظ خاصّ فإنّما يتعهّد ضمناً بعدم استعمال اللفظ المخصوص في غير تلك المعنى، وهو كما ترى .

إن قلت : إنّ التعهّد في مقام الوضع مقيّد بعدم الإتيان بالقرينة، فالتعهّد إنّما في هذه الصورة فقط .

قلت : هذا مستلزم للغويّة جريان أصالة الحقيقة .

وتوضيح ذلك : أنّ جريانها إنّما هو في مورد الشكّ في وجود القرينة وعدمه، مع أنّه بناءً على أن يكون التعهّد مقيّداً بعدم إتيان القرينة، يصحّ حمل اللفظ على المعنى الحقيقي فيما إذا أحرزنا عدم القرينة، مع أنّ في فرض الإحراز لا نحتاج إلى إجراء الأصل .

فهذا الإيراد تامّ جدّاً .

الإيراد الرابع : ما ذكره والدنا المعظّم (قدس سره) في مجلس بحثه، وهو : أنّ الذهاب إلى


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 79 .

صفحه 162

كون كلّ مستعمل واضع خلاف المرتكز العرفي، وهذا يظهر من الرجوع إلى وضعالأعلام الشخصيّة; فإنّه فيها يعيّن الأب لفظاً لولده، والناس يتّبعونه في ذلك من دون صحّة إطلاق الواضع عليهم عرفاً، ومن بطلان اللاّزم ـ أي كون كلّ مستعمل واضع ـ ينتج بطلان الملزوم; أي القول بالتعهّد، فالقول بالتعهّد في الأعلام الشخصيّة بطلانه من الواضحات ، ومن هذا يظهر بطلانه في سائر الألفاظ الكلّيّة; كلفظ «الماء» و«الحيوان» و«الإنسان» وغيرها، ولا يصحّ التفصيل بين الوضع في الأعلام الشخصيّة، والوضع في غيرها(1) .

وهذا الإيراد أيضاً متين جدّاً .

الإيراد الخامس : أنّ ما ذكروه من المناسبة بين التعهّد، وبين المعنى اللغوي للوضع ممنوع جدّاً; فإنّ الوضع بمعنى الجعل أو الإقرار غير الالتزام بالعمل، ووضع القانون ليس بمعنى الالتزام بالعمل به، بل الالتزام بالعمل وإجراء القانون يحتاج إلى سبب آخر، فهل وضع القوانين الشرعيّة بمعنى التزام الشارع بالعمل بها؟

الإيراد السادس : ذكر بعض لبطلان التعهّد أنّه ليس يصحّ أن يقال: إنّ قولنا : وضعت هذا لهذا، بمعنى تعهّدت هذا لهذا .

وفيه : قد قلنا سابقاً: إنّ النزاع ليس في مفهوم الوضع بحسب اللغة، بل النزاع إنّما هو في حقيقة الوضع، فهذا الإيراد غير قابل للذكر أصلا، لكن للتذكّر لمحلّ النزاع ذكرناه، فتدبّر .

الإيراد السابع : ما ذكره بعض أهل النظر(2) : من أنّ التعهّد إنّما يصحّ فيما إذا لم يكن الدالّ منحصراً ، أمّا فيما إذا كان منحصراً ـ كما نحن فيه ـ فلا يصحّ . وتوضيح ذلك: أنّ التعهّد إنّما يصحّ في فرض لا ينحصر فيه المفهم للمعنى باللفظ الخاصّ;


(1) سيرى كامل در اصول فقه 1 : 256.
(2) منتقى الاُصول 1 : 62 ـ 63.

صفحه 163

بأن كان هناك دالّ آخر من لفظ أو غيره، فيكون لهذا التعهّد معنى معقول، كما يقع التعهّد باستعمال خصوص هذه الآلة في القرب دون غيرها. أمّا مع انحصاره فيه، بحيث لم يكن للمعنى مفهم أصلا غير هذا اللفظ الذي يحتمل مفهميّته بالتعهّد، كان هذا التعهّد غير معقول .

وفيه : أنّه يكفي في صحّة التعهّد بالتفهيم باللفظ الخاصّ ، صلاحيّة بقيّة الألفاظ لأصل المفهميّة، لا المفهميّة الفعليّة بالنسبة إلى المعنى المخصوص .

وبعبارة اُخرى : لو لم يكن غير اللفظ المخصوص صالحاً لأصل المفهميّة، بل هي منحصرة ومحدودة باللفظ الخاصّ فقط، لكان التعهّد غير معقول . أمّا إذا كانت الألفاظ الاُخر صالحة لأصل المفهميّة، فالتعهّد باستعمال لفظ خاصّ في مفهميّة المعنى المخصوص يكون أمراً معقولا .

الإيراد الثامن : ما ذكره المحقّق الأصبهاني(1) من اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظ على معناه، بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائر الدوالّ; كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ، مع عدم وجود تعهّد من ناصب العَلَم، بل ليس هناك إلاّ وضعه عليه بداعي الانتقال من رؤيته إليه .

وفيه:ماسيأتي من عدم صحّة قياس دلالة اللفظ على دلالة سائرالدوالّ،فانتظر.

المسلك الرابع :

وهو مسلك الاعتبار الذي ذهب إليه المحقّق الأصبهاني، وتبعه جمع منأعلام المتأخّرين(2)، منهم الوالد المعظَّم (قدس سره) (3) ، وتوضيح كلامه مع تلخيص


(1) نهاية الدراية 1 : 47 ـ 48 .
(2) لاحظ اُصول الفقه 1 : 19 ـ 20، وحقائق الاُصول 1 : 17ـ 19، وحاشية الكفاية للعلاّمة الطباطبائي: 16ـ18، والمحصول في علم الاُصول 1 : 46ـ 49، وأنوار الاُصول 1 : 33ـ 35.
(3) سيرى كامل در اصول فقه 1: 261ـ 272. دراسات في الاُصول 1 : 88 .

صفحه 164

منّا هو :

أنّه لا شكّ في ارتباط اللفظ مع المعنى واختصاصه به، إنّما الخلاف في حقيقة هذا الاختصاص، فهو لا يخلو عن احتمالات خمسة: إمّا أن يكون من الاُمور الواقعيّة العرضيّة، أو يكون من الاعتباريّات الذهنيّة، أو يكون من الاُمور الانتزاعيّة التي يكون المنشأ للانتزاع فيها هو الوضع، أو يكون من مقولة الإضافة، أو يكون من الاعتباريّات التي تكون قائمة بنفس المعتبر، ولكنّ الأربعة الاُولى باطلة، فتعيّن الاحتمال الخامس .

أمّا الاحتمال الأوّل: فبطلانه واضح بالأدلّة الثلاثة :

الأوّل : أنّ العرض يتوقّف على موضوع في الخارج، مع أنّ الاختصاص لايتوقّف على وجود اللفظ في الخارج، بل ولا في الذهن، بل هو متحقّق بين طبيعيّ اللفظ وطبيعيّ المعنى، لا بقيد كونهما خارجيّاً ولا ذهنيّاً .

الثاني : أنّ الاُمور الواقعيّة لا تختلف باختلاف الأنظار، بخلاف غيرها، مع أنّ لفظاً عند قوم يدلّ على معنى، ونفس هذا اللفظ يدلّ على معنى آخر عند قوم آخرين .

الثالث : أنّ العرض كسائر الأجناس العالية إنّما هو للماهيّة ، وبعبارة اُخرى: أنّ المقولات الحقيقيّة أجناس عالية للماهيّات، ولا تصدق المقولة صدقاً خارجيّاً إلاّ إذا تحقّقت تلك الماهيّة في الخارج، وقد عرفت أنّ الاختصاص بين اللفظ والمعنى ليس مقيّداً بالوجدان الخارجي .

فتبيّن من ذلك أنّ الاختصاص والارتباط بينهما لا يمكن أن يكون من الاُمور الواقعيّة; لأنّ فرضه منها منحصر في كونه عرضاً للّفظ، وقد ظهر عدم إمكانه .

وأمّا الاحتمال الثاني: فبطلانه من جهة أنّ الاعتباريّات الذهنيّة معروضها


صفحه 165

إنّما هو أمر ذهني; كالكلّيّة التي تكون عارضة للإنسان المتصوّر الموجود في الذهن، وقد قلنا: إنّ معروض الاختصاص ليس هو اللفظ الذهني ولا اللفظ الخارجي .

وأمّا الاحتمال الثالث: فلأنّ المعتبر في الاُمور الانتزاعيّة حملها أو حمل مايشتقّ منها على منشأ الانتزاع، كمحلّ الفوق على السقف الذي هو منشأ لانتزاع الفوقيّة، وهذا الملاك لا يجري فيما نحن فيه; لأنّه لو قلنا بأنّ قول الواضع : «وضعت» يكون منشأ لانتزاع الاختصاص والارتباط بين اللفظ والمعنى، لما يصحّ حمل الاختصاص أو المشتق منه على كلمة «وضعت» .

وأمّا الاحتمال الرابع: فلوجود الفرق بين كون الشيء من المفاهيم الإضافيّة، وبين صدق مقولة الإضافة، والمسلّم فيما نحن فيه هو الأوّل الذي لا ينفع للخصم، والذي ينفع له هو الثاني; لأنّ الشيء لا يصدق عليه حدّ مقولة الإضافة، إلاّ إذا وجد في الخارج، وقد قلنا بأنّ الاختصاص غير متوقّف على وجود اللفظ في الخارج .

فتعيّن الاحتمال الخامس; وهو كونه من الاُمور الاعتباريّة، كالملكيّة والزوجيّة، لكنّها على قسمين : الاُمور الاعتباريّة التسبيبيّة، والاُمور الاعتباريّة المباشريّة . والمراد من الأوّل: أنّ اعتبار المعتبر يحتاج إلى إيجاد سبب، كإيجاد العقد الذي هو سبب لاعتبار الشارع أو العقلاء، والمراد من الثاني: أنّ نفس اعتبار المعتبر مباشرة يكفي في تحقّق المعتبر، والاختصاص الوضعي من هذا القبيل، فالوضع ليس إلاّ اعتبار الارتباط والاختصاص بين لفظ خاصّ ومعنى خاصّ .

ثمّ قال في أثناء كلامه : إنّه لا شبهة في اتّحاد حيثيّة دلالة اللفظ على معناه، وكونه بحيث ينتقل من سماعه إلى معناه مع حيثيّة دلالة سائر الدوالّ، كالعَلَم المنصوب على رأس الفرسخ; فإنّه أيضاً ينتقل من النظر إليه إلى أنّ هذا الموضع رأس الفرسخ ، غاية الأمر أنّ الوضع فيه حقيقيّ; بمعنى أنّ كون العَلَم موضوعاً على


صفحه 166

رأس الفرسخ خارجيّ ليس باعتبار معتبر، بخلاف اللفظ; فإنّه كان وضع على المعنى ليكون علامة عليه .

ثمّ إنّه ذكر في أثناء كلامه أيضاً : أنّ الاختصاص والارتباط إنّما هو من آثار الوضع وتوابعه لا نفسه (1)، انتهى ملخّص كلامه قدّس سرّه الشريف .

وقد اُورد عليه إيرادات :

الإيراد الأوّل : ما ذكره السيّد المحقّق الخوئي; من أنّ هذا المعنى دقيق وبعيد عن أذهان الواضعين(2).

وفيه أوّلا : قلنا سابقاً: إنّه لا منافاة بين كون شيء رائجاً عند العرف، مع أنّهم غافلون عن كنهه وحقيقته، وفيما نحن فيه إنّما الموجود عند العرف عمليّة الوضع فقط ، أمّا التوجّه بحقيقتها فلا يقدرون عليها، وليس من شأنهم .

وثانياً : أنّ الاعتبار بما أنّه خفيف المؤونة فهو أمر سهل، سيّما أنّ الاعتبارات كثيرة عند العرف .

الإيراد الثاني : أنّ قياس ما نحن فيه بالوضع الخارجي غير صحيح; لأنّ فيه ثلاثة عناوين : الموضوع; وهو في المثال السابق العَلَم ، والموضوع عليه; وهو المكان الذي وضع العلم فيه ، والموضوع له; وهو أنّ العَلَم دالّ على كون هذا المكان رأس فرسخ، مع أنّ في اللفظ والمعنى يكون الموضوع والموضوع له موجوداً من دون تحقّق للموضوع عليه، وإطلاقه على المعنى لو لم يكن من الأغلاط فإنّما هو غير معهود من ناحية المستعملين(3) .

وفيه : إن كان المراد عدم وجود الموضوع عليه فيما نحن فيه، فعدمه ليس


(1) نهاية الدراية 1 : 44 ـ 49.
(2 ، 3) محاضرات في اُصول الفقه 1 : 47.

صفحه 167

بمضرّ، وإن كان المراد منه صحّة إطلاق الموضوع عليه على المعنى، فهو بمكان منالإمكان، وقد صرّح بعض أهل اللغة(1) بأنّ المعنى هو الموضوع عليه .

الإيراد الثالث : ما جاء في كلمات جمع(2); من أنّ في الدوالّ الخارجيّة كالعَلَم لايكون الموضوع ـ وهو العَلَم ـ دالاًّ على الموضوع له نفسه، بل مسبوق بقرار والتزام الذي هو المستند للدلالة، وإلاّ فمع قطع النظر عن هذا القرار لا يكون العَلم دالاًّ على كون هذا المكان رأس فرسخ، ويترتّب عليه أنّه إذا كانت الدلالة في الوضع الحقيقي غير مستندة إلى الموضوع، ففي الوضع الاعتباري بطريق أولى، فهو في الدلالة متوقّف على سبق القرار، والبناء على دلالة اللفظ على المعنى .

وهذا الإيراد متين جدّاً من جهة الصدر . وأمّا من جهة الذيل وما ترتّب عليه، ففيه إشكال; لأنّ كلام المحقّق الأصبهاني (قدس سره) ليس مبتنياً على هذا القياس، بل بعد إقامة الدليل على مختاره قد أضاف في ذيل كلامه تشبيهاً وقياساً، فإذا كان فاسداً لم يكن مضرّاً بأصل المدّعى .

وبالجملة: إنّ الدلالة في العَلَم يكون سابقاً على وضعه في المكان، وفي اللفظ لم يكن كذلك، لكنّه لا يستلزم أن يكون في اللفظ أيضاً مستنداً إلى قرار وبناء سابق على وضع اللفظ .

الإيراد الرابع : وهو ما يخطر بالبال بالنسبة إلى ما ذكره في ردّ انتزاعيّة الاختصاص، حيث قال : إنّه ليس بأمر انتزاعيّ منتزع من قول: «وضعت»; لعدم صحّة حمله عليه، فنحن نقول : ما الدليل على كون الملاك في الاُمور الانتزاعيّة عبارة عن صحّة حمله أو حمل ما يشتقّ منه على منشأ الانتزاع؟ فهل الدليل


(1) لم نعثر عليه عاجلاً.
(2) منهم صاحب بحوث في علم الاُصول 1 : 76، وصاحب منتقى الاُصول 1 : 56 ـ 57.

صفحه 168

استقراء الاُمور الانتزاعيّة، أو البرهان القطعي قائم عليه؟ والظاهر أنّه (قدس سره) بعدأن لاحظ بعض الموارد في الاُمور الانتزاعيّة كالفوقيّة والاُبوّة، فقد حكم بهذا الحكم الكلّي، ولكنّه ينتقض ببعض آخر، نظير الحقّ الذي هو أمر ينتزع من الحكم على ما أثبتناه في رسالة في موضوع الحكم والحقّ والفرق بينهما ، فكلّ حقّ منتزع من حكم من الأحكام الشرعيّة، مع عدم صحّة حمل الحقّ على الحكم .

وبعبارة اُخرى: إنّ المنتزع إذا كان منتزعاً من شيء خارجيّ، فيصحّ الحمل عليه، وإذا كان منشأ الانتزاع أمراً من الاُمور الاعتباريّة; كالحكم الذي هو منشأ للحقّ ، فلا يعتبر حينئذ حمل الأمر الانتزاعي على منشإه .

وبناءً على هذا لا يكون مانعاً من كون الاختصاص أو الارتباط بين اللفظ والمعنى أمراً منتزعاً من اعتبار الواضع، فتأمّل .

المسلك الخامس :

ما ذهب إليه الشهيد الصدر(1)، ويسمّى بالقرن الأكيد، وهو: أنّ الوضع من صغريات القانون الطبيعيّ التكوينيّ المجعول في ذهن البشر من ناحية الله تبارك وتعالى; وهو انتقال صورة الشيء إلى الذهن عن طريق إدراك الذهن، ما يكون مقترناً بذلك الشيء المنتقل إليه، فمثلا عندما يدرك الذهن اقتران صوت الأسد مع نفسه ينتقل من تصوّر صوته إلى تصوّر نفس الأسد، وهذا ما يسمّى بالمنبّه الشرطي والاستجابة الشرطيّة .

ولابدّ أن يكون هذا الاقتران على وجه شديد بحيث يكون مترسّخاً في الذهن، وهنا إمّا نتيجة كثرة تكرّر الاقتران خارجاً أمام الذهن، وهذا هو العامل الكمّي ويسمّى بالوضع التعيّني، أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعة


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 81 ـ 82 .

صفحه 169

واحدة، وهذا هو العامل الكيفي .

وبالجملة: الواضع يمارس عمليّة الاقتران بين اللفظ والمعنى بشكل أكيد بالغ .

وقد أثّرت هذه النظريّة تأثيراً وافياً في كثير من المباحث اللفظيّة، ونحن نشير إلى موارد منها:

الأوّل: أنّ هذه النظريّة توجب تقوية كون البشر واضعاً، وتنفي المبعّدات التي ذكرها الاُصوليّون لبشريّة الواضع ; من جهة أنّه بناءً على نظريّة القرن الأكيد يكون الوضع عملاً طبيعيّاً بسيطاً مأنوساً عند الإنسان من دون أن يحتاج إلى الاعتبارات العقلائيّة. فالسيّد الشهيد وإن استقرب إلهيّة الوضع، واعترف بأنّه من البعيد جدّاً أن يطّلع الإنسان على المعاني واستعمل الألفاظ فيها من دون إلهام من الله تبارك وتعالى، لكنّه قد أبطل المبعّدات التي ذكروها لبشريّة الواضع في ضوء هذه النظريّة(1).

الثاني: قد اختلف الاُصوليّون في إمكان القسم الرابع من أقسام الوضع; وهو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فذهب الكثير(2) إلى استحالته، فقد ذكر السيّد الشهيد أنّه بناءً على كون الوضع أمراً اعتباريّاً صرفاً، فهذا القسم بمكان من الإمكان كسائر الأقسام، لكنّه إذا بنينا على كون حقيقة الوضع عبارة عن القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، وبعبارة اُخرى: قلنا بكون الوضع أمراً واقعيّاً، فلابدّأن يتصوّر الواضع المعنى الخاصّ بالحمل الشائع حتّى يحقّق الاقتران بين اللفظ والمعنى الخاصّ. ثمّ إنّه صرّح بأنّه بناءً على هذه النظريّة يتحقّق هذا القسم عن طريق تكرار الاقتران بين اللفظ والمعاني الخاصّة(3).


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 85 .
(2) كفاية الاُصول: 24 ـ 25، فوائد الاُصول 1 : 31، نهاية الأفكار 1 : 37، منتقى الاُصول 1 : 73ـ 80 .
(3) بحوث في علم الاُصول 1 : 92 ـ 93.

صفحه 170

الثالث: تأثير هذا المعنى في تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني; فإنّ الوضع التعييني بناءً على القرن الأكيد عبارة عن إيجاد القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى بإنشاء واحد. وأمّا الوضع التعيّني; فإنّه بناءً على مسلك الاعتبار في حقيقة الوضع،عبارة عن إيجاد العلقة الوضعيّة بسبب كثرة الاستعمال. أمّا بناءً على القرن الأكيد، فيتحقّق الوضع التعيّني بتكرار الاقتران بين اللفظ والمعنى في الاستعمالات الكثيرة حتّى ينجرّ إلى التلازم التصوّري بينهما(1).

الرابع: معقوليّة الوضع بالاستعمال بناءً على القرن الأكيد; فإنّ استعمال اللفظ في المعنى غير المعهود استعماله فيه سابقاً يكون بنفسه مصداقاً للقرن الخارجي، بخلاف المسالك الاُخر في حقيقة الوضع; فإنّ الوضع بالاستعمال بناءً عليها مشكل جدّاً; لأنّ المجعول الاعتباري والتعهّد الاعتباري أمرٌ نفسانيّ لا ينطبق على الاستعمال الخارجي، ويحتاج إلى عناية زائدة على الاستعمال حتّى يمكن أن يفهم أنّ المستعمل يتعهّد بنفس هذا الاستعمال تفهيم المعنى الحقيقي(2).

الخامس: عدم إمكان تقييد العلقة الوضعيّة بناءً على مسلك القرن الأكيد; لأنّها أمر واقعيّ تكوينيّ لا يناله يد الاعتبار والجعل، وليس مجعولاً حتّى يمكنأن تتقيّد بحالة دون حالة اُخرى، بخلاف مسلك الاعتبار أو التعهّد; فإنّ تقييد العلقة الوضعيّة بمكان من الإمكان، ويعقل أن يشترط الواضع الاعتبار بشرط أو بحالة، أو أن يتعهّد في حالة دون حالة اُخرى(3).

السادس: أنّ الدلالة اللفظيّة بين اللفظ والمعنى يكون تصوّريّاً بناءً على القرن الأكيد، بخلاف مسلك التعهّد; فإنّ الدلالة بينهما تصديقيّة; لأنّ الملازمة بين اللفظ


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 95 ـ 96.
(2) بحوث في علم الاُصول 1 : 97.
(3) بحوث في علم الاُصول 1 : 102 ـ 103.

صفحه 171

والمعنى إنّما هي بين الوجودين، لا بين التصوّرين(1).

السابع: أنّ تبعيّة الدلالة للإرادة غير معقولة بناءً على مسلك التعهّد; لأنّ الدلالة بناءً عليه دلالة تصديقيّة، وقصد المعنى متعلّق للإرادة في الدلالة التصديقيّة، ولايكون من شروط المعنى. وأمّا بناءً على مسلك القرن الأكيد، فالتبعيّة غير معقولة جدّاً; لأنّ الوضع عبارة عن الاقتران بين اللفظ والمعنى في الذهن. وهذا الاقتران يوجب الملازمة بين تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى، وكلاهما غير قابل للتقييد(2).

الثامن: إمكان الترادف والاشتراك بناءً على نظريّة القرن الأكيد، كما هو كذلك بناءً على نظريّة الاعتبار. أمّا بناءً على مسلك التعهّد فهما مشكل ثبوتاً وإن ذكر (قدس سره) في آخر كلامه طريقاً لإمكانيّة الترادف والاشتراك حتّى بناءً على مسلك التعهّد والاعتبار، فراجع(3).

التاسع: معقوليّة علاقة التبادر بناءً على مسلك القرن الأكيد; لأنّ انسباق الذهن إلى المعنى فرع وجود الملازمة بين اللفظ والمعنى، وهذه الملازمة فرع الاقتران بينهما، وهذا أمر واقعيّ خارج عن مقولة العلم والتصديق، فالتبادر غير موقوف على العلم بالوضع(4).

فتبيّن أنّ هذه النظريّة ذو أثر مهمّ في شتّى مباحث الاُصول.

ويتلخّص مرامه في اُمور :

الأوّل : أنّ الذهن بعد إدراك الاقتران بين أمرين يقدر عند تصوّر أحدهما


(1) بحوث في علم الاُصول 1 : 104.
(2) بحوث في علم الاُصول 1 : 106.
(3) بحوث في علم الاُصول 1 : 116.
(4) بحوث في علم الاُصول 1 : 165.

صفحه 172

أن ينتقل إلى تصوّر الشيء الآخر، وهذا هو المراد من المنبّه الشرطي، والإنسان في مقام تفهيم الآخرين يستفيد من هذا القانون الطبيعي .

الثاني : أنّ الوضع ليس من الاُمور الاعتباريّة التي متقوّمة بنفس المعتبر كالملكيّة، بل هو أمر تكوينيّ يتمثّل في اقتران لفظ خاصّ بمعنى خاصّ، الذي هو الصغرى للقانون الطبيعيّ المذكور، وقد يستخدم الإنشاء لإيجاد هذين الأمرين، لكنّ الاقتران ليس هو المنشأ، بل الإنشاء سبب لتحقّق الاشتراط .

الثالث : أنّ الدلالة الوضعيّة تصوريّة دائماً، كما ذهب إليه المشهور(1)، ومتى تحقّق الاقتران ينتقل الذهن من تصوّر اللفظ إلى المعنى، ولا معنى لتحقّق الاقتران في صورة دون صورة اُخرى .

الرابع : الدلالة الوضعيّة تتوقّف على العلم بالوضع غالباً، فمن لم يعلم بالوضع لم يكن اللفظ دالاًّ عنده . نعم، قد تحصّل على أساس تلقينيّ، كأن تقرن أمام طفل بين اللفظ والمعنى على نحو خاصّ، فتحصّل العلقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين .

ويرد عليه أوّلا : الظاهر أنّ الاقتران الذهني بين اللفظ والمعنى إنّما يحصل بعد الوضع، فهو متأخّر عنه ومن آثاره وتوابعه، وليس داخلا في حقيقة الوضع ; فإنّه بعد جعل اللفظ للمعنى يصير اللفظ مقترناً بالمعنى في أذهان المخاطبين والسامعين، وبعد هذا الاقتران ينتقل الذهن من تصوّر أحدهما إلى الآخر .

وبعبارة اُخرى: بعد تحقّق الاقتران الاعتباري بين اللفظ والمعنى بتوسّط الوضع يدرك الذهن ويتصوّر الاقتران، وبعد دركه للاقتران ينتقل من اللفظ إلى المعنى .

ويؤيّد ذلك: أنّه قد يوجد الوضع من دون أن يوجد مخاطب ومستعمل، ففي


(1) نهاية الأفكار: 1 / 64، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 116، بحوث في علم الاُصول 1: 82، 104ـ 105، و109، وج3: 277.

صفحه 173

هذه الصورة لايتحقّق الاقتران الذهني أصلا، بل المتحقّق نفس تعيين اللفظ للمعنى .

وثانياً : سلّمنا تحقّق الاقتران حين الوضع، ولكنّه منحصر بالعامل الكمّي فقط، بمعنى: أنّ أذهان الناس يدركون الاقتران بعد كثرة استعمال اللفظ بالمعنى، وإلاّفمجرّد استعمال واحد لا يدرك الاقتران، وعلى هذا ينحصر الوضع بالتعيّني، وهو كما ترى .

وثالثاً : أنّه لو قلنا بأنّ الوضع من الاُمور التكوينيّة، ومن صغريات القانون الطبيعي، لكان اعتبار الخلاف فيه ممتنعاً; بمعنى عدم إمكان اعتبار استعمال اللفظ في معنى آخر غير المعنى الأوّل، وهو وإن كان مقبولا في الوضع التعيّني، ولكنّه في التعييني غير صحيح .

ورابعاً : أنّ الاقتران مستلزم لكون كلّ من اللفظ والمعنى دالاًّ ومدلولا; بمعنى أنّ لازم الاقتران هو الانتقال من المعنى إلى اللفظ أيضاً. وهو مع عدم إمكانه عادةً مستلزم لكون المعنى دالاًّ أيضاً، مع أنّه من الواضح كون اللفظ دالاًّ فقط، والمعنى مدلولا فقط ، فتدبّر .

المسلك السادس :

ما ذهب إليه جمع من المتأخّرين(1)، ومنهم شيخنا الاُستاذ(2)ـ دام ظلّه ـ من أنّ الوضع عبارة عن اعتبار اللفظ علامة للمعنى، فحقيقته ترجع إلى العلاميّة، وتوضيح هذا يحتاج إلى ذكر أمرين :

الأمر الأوّل : أنّ الأفعال الخارجيّة، وكذا الصفات النفسانيّة تكون مقرونة باُمور ، فمثلا الحكم مقرون بتصوّر الموضوع والمحمول ، وأيضاً الإرادة النفسانيّة مقرونة بتصوّر المراد والتصديق بفائدته ، والوضع من الصفات النفسانيّة التي


(1) دروس في مسائل علم الاُصول 1 : 32.
(2) تقريرات بحث آية الله العظمى وحيد الخراساني دام ظلّه (مخطوط) .

صفحه 174

تكون مقرونة بالاُمور التي ذكرت في المسالك السابقة; بمعنى أنّ التلازم الذي ذهب إليه المحقّق العراقي، والتنزيل أو الهوهويّة والتعهّد الذي ذهب إليه السيّد الخوئي ليست داخلة في حقيقة الوضع، بل إنّما هي من الاُمور الطارئة له، واللاّزم كشف الأمر الذي تكون هذه الاُمور من مقارناته .

الأمر الثاني : أنّ اللاّزم في كشف حقيقة كلّ شيء أن يستفاد من الاُمور المناسبة له والأسباب المسانخة له، فمثلا الأدلّة التي تكون جارية في الحكمة، مغايرة من حيث الكيفيّة مع الأدلّة التي جارية في الفقه، وكذا الأدلّة الجارية في العلوم الأدبيّة، مغايرة لها في سائر العلوم ، واللاّزم فيما نحن فيه الاستفادة من المدارك والمنابع المسانخة للوضع; وهي ثلاثة :

الاُولى : ما ورد من طريق الأئمـّة المعصومين ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ في بيان كيفيّة الوضع .

الثانية : ما ورد في كلمات أساطين اللغة والأدب .

الثالثة : المراجعة إلى الارتكاز والوجدان .

أمّا الاُولى : فقد ورد في بعض النصوص ما يظهر منه أنّ الوضع في الحقيقة عبارة عن جعل العلاميّة ، منها ما ذكره الصدوق في معاني الأخبار، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه قال : سألت الرضا عليّ بن موسى (عليه السلام) عن «بسم الله»؟ فقال : معنى قول القائل : «بسم الله» أي أسِمُّ على نفسي سمة من سمات الله عزّوجلّ; وهي العبادة. قال: فقلت له : ما السمة؟ قال : هي العلامة(1) .

وهذه الرواية معتبرة(2) من حيث السند; لأنّ طريق الصدوق إلى الحسن بن


(1) معاني الأخبار: 3 ح1، ورواه في التوحيد: 229 ب31 ح1 كما في المعاني سنداً ومتناً.
(2) ولكنّ الظاهر أنهّا غير معتبره; لأنّ الصدوق روى عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، عن ابن عقدة، عن علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، والطالقاني غير موثّق في كتب الرجال.

صفحه 175

علي ابن فضّال صحيح يعتمد عليه ، وأمّا الدلالة; فإنّها ليست في مقام بيان مفهومالسمة; لأنّ السائل مع جلالة شأنه كان عالماً بمفهومه، إنّما هي عن حقيقة السمة ، وأجاب فيها الإمام (عليه السلام) بأنّ حقيقة السمة عبارة عن العلامة; بمعنى أنّ الواضع يعتبر أن يكون الاسم علامة للمسمّى، لكن هذه العلامة ليست علامة خارجيّة، بل علامة اعتباريّة .

وأمّا الثانية : فقد ذكر في لسان العرب والقاموس: أنّ الاسم علامة للمسمّى(1) والألفاظ علامات للمعاني .

وأمّا الثالثة : فإنّ الارتكاز يحكم بأنّ الوضع عبارة عن جعل اللفظعلامة للمعنى; لأنّ اللفظ في الإنسان الذي يقدر على التكلّم يكون بمنزلة الإشارة في الأخرس، فكما أنّها عبارة عن كونها علامة للمقصود والمعنى، فكذا الألفاظ .

ويرد عليه أوّلا : أنّ ما ذكره في الأمر الأوّل من أنّ الوضع من الصفات النفسانيّة ـ كالإرادة ـ غير صحيح جدّاً ، بل هو من الاُمور الخارجيّة التي يكون الخارج ظرفاً له لا قيداً له، فما لم يتحقّق شيء في الخارج لم يتحقّق وضع أصلا ، وبعبارة اُخرى : إنّ صرف اعتبار العلامة في عالم الذهن بين اللفظ والمعنى لا يكون مصحّحاً للوضع، بل يحتاج إلى التكلّم والتنطّق بالقول أو بنفس الاستعمال .

وثانياً : أنّ الاستدلال برواية الحسن بن علي بن فضّال مخدوش; من جهة أنّ المدّعى أعمّ من ذلك; فإنّ الرواية لو كانت دالّة على أنّ حقيقة الوضع عبارة عن العلاميّة ، فإنّما دالّة على خصوص الوضع في الأسماء، وليست دالّة على أنّ الوضع في الحروف وما يشابهها أيضاً كذلك، فالدليل أخصّ من المدّعى .

وثالثاً : الظاهر أنّ اللفظ بعد تحقّق الوضع يصير علامة للمعنى، فربما يكون العلاميّة من آثار الوضع لا نفسه .


(1) لسان العرب 3 : 343 و 344، القاموس المحيط 4 : 382.

صفحه 176

ورابعاً : أنّ قياس الألفاظ بالإشارات غير صحيح جدّاً; فإنّ قبح المعنى أو حسنه يسري إلى اللفظ بخلاف الإشارة، فلا سراية فيها .

فمسلك العلاميّة غير قابل للاعتماد .

فتبيّن إلى هنا عدم صحّة جميع المسالك المذكورة إلاّ ما ذهب إليه المشهور(1); من أنّ الوضع عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى; بمعنى أنّ الواضع قد جعل اللفظ للدلالة على المعنى ، ولا يرد عليه شيء ممّا أوردناه على المسالك الاُخر، وذلك يتّضح بعد بيان نكات :

الاُولى : قد مرّ آنفاً أنّ ظرف تحقّق الوضع عبارة عن الخارج، فما لم يتحقّق في الخارج شيء لم يتحقّق الوضع أصلا; فإنّ صرف الاعتبار الذهني بين اللفظ والمعنى ، أو التعهّد، أو اعتبار التنزيل لا يفيد شيئاً أصلا، فنحن نرى دائماً أنّ الشخص لو لم يذكر أو لم يستعمل اللفظ في الخارج لم يتحقّق الوضع أصلا، فهو محتاج إلى الخارج ومتحقّق فيه ولو بنفس الاستعمال، فتدبّر .

ثمّ بعد تحقّقه في الخارج يمكن أن ينتقل إلى المعنى بنفس تصوّر اللفظ . نعم، يكون الاعتبار من المبادئ المتوقّف عليها الوضع، ولكنّه خارج عن حقيقته، بل في الخارج يذكر اللفظ للدلالة على المعنى، ومن أجل هذا يمكن انتزاع العناوين المتعدّدة من قبيل التعهّد والتنزيل والملازمة منها، فمنشأ الانتزاع يكون من الاُمور الخارجيّة .

الثانية : أنّ مقام الوضع غير مقام الاستعمال ، ففي الثاني يكون اللفظ فانياً في المعنى أو علامة له، بخلاف الأوّل، ففيه يتصوّر اللفظ مستقلاًّ كما يتصوّر المعنى مستقلاًّ أيضاً ، فما ذكره المحقّق العراقي(2) من أنّ اللفظ مرآة للمعنى، وبهذا يفترق عن


(1) تقدّم في ص152.
(2) مقالات الاُصول 1 : 61 ـ 62.

صفحه 177

سائر العلامات والدوالّ، غير مُجد; لأنّه في مقام الوضع لا يكون اللفظ متصوّراً بالتصوّر الآلي، بل هو متصوّر بالتصوّر الاستقلالي، كصانع المرآة الذي ينظر فيه لا به، وكذا ما ذكره القائل بالتنزيل(1); من أنّ إلقاء اللفظ عبارة عن إلقاء المعنى; فإنّ هذا لا يجري في مقام الوضع، بل هو من مختصّات مقام الاستعمال .

الثالثة ـ وهي من أهمّ النكات ـ : أنّ الاُمور الحقيقيّة لها حقيقة واحدة يجبأن تستخرج وتستنبط . وأمّا الاُمور الاعتباريّة التي تكون متقوّمة بالاعتبار، أو التي تكون مبادؤها من الاُمور الاعتباريّة، فليست بلازم أن تكون لها حقيقةواحدة ، بل هو غير ممكن; لاختلاف الإرادة بكيفيّة الاعتبار والمعتبر، فبعض يعتبر التنزيل، وبعض آخر يعتبر التلازم، فليس فيها ملاك واحد، لكن نوع الواضعين لم يعتبروا شيئاً من الاُمور المذكورة، بل يجعلون اللفظ دالاًّ على المعنى، ويعيّنون اللفظ للمعنى من دون شيء زائد .

وبهذه النكات يظهر أنّ الحقّ ما ذهب إليه المشهور .

تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيّني

قد ذكر في بعض الكلمات أنّ الوضع ينقسم إلى قسمين(2) : تعييني; وهو ما كان الارتباط والاختصاص بين اللفظ والمعنى مستنداً إلى جعل جاعل معيّن، والتعيّني; وهو ما كان الاختصاص حاصلا بسبب كثرة الاستعمال .

وربما يقال(3) بعدم معقوليّة الوضع التعيّني، ببيان أنّه لا وجه لأن يختصّ اللفظ


(1) تقدّم في ص 53 ـ 1156.
(2) كفاية الاُصول: 24، درر الفوائد للحائري: 35، نهاية الأفكار 1 : 31، نهاية الدراية 1 : 49، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 53.
3 ـ منتقى الاُصول 1 : 72 .

صفحه 178

بالدلالة على المعنى بنفس كثرة الاستعمال; بمعنى أنّ كثرة الاستعمال لا تصلحلأن يجعل اللفظ دالاًّ على المعنى، بل اللفظ يتوقّف في الدلالة على وجود القرينة، فهي موجبة للدلالة على المعنى، فلا يعقل أن يقال: إنّ نفس اللفظ بدون القرينة صار دالاًّ على المعنى بسبب كثرة الاستعمال .

وفيه: أنّ القرينة إنّما تكون واسطة في الثبوت، وعليه: يصحّ أن يقال إنّ نفس اللفظ دالّ على المعنى بواسطة القرينة، لكن بعد كثرة الاستعمال نستغني عن القرينة، فكثرة الاستعمال لا تكون بنفسها موجبة للدلالة، بل تكون قائمة مقام القرينة، فتدبّر .

جريان التقسيم على المسالك الموجودة في حقيقة الوضع

ثمّ إنّه بعد فرض المعقوليّة في الوضع التعيّني يجب تصويره على المسالك المذكورة في حقيقة الوضع، وأنّه على أيّ واحد منها لا يتحقّق، وعلى أيّ منها يتحقّق ويمكن وقوعاً .

أمّا على المسلك المشهور الذي اخترناه أيضاً، فواضح أنّ الوضع منحصر بالوضع التعييني، ودعوى أنّ التقسيم صدر من المشهور أيضاً، وهذا لا يجتمع مع ما ذكروه في بيان حقيقة الوضع، فاسدة جدّاً; لعدم الدليل على صدور التقسيم من المشهور، والانتساب إليهم غير صحيح ، بل إنّما وقع في كلمات بعض من الاُصوليّين .

وأمّا على ما ذهب إليه الآخوند من كونه نحو اختصاص اللفظ في المعنى فالتقسيم صحيح، كما صرّح به في الكفاية(1) .

وأمّا على مسلك التنزيل والهوهويّة، فهو كالمشهور لا يجري فيه التقسيم; لأنّ


(1) كفاية الاُصول: 24.

صفحه 179

التنزيل يحتاج إلى منزِّل، وكثرة الاستعمال لا تصلح لجعل شيء منزلة شيء آخر أو لإيجاد الاتّحاد الاعتباري بين اللفظ والمعنى .

وأمّا بناءً على مسلك التعهّد والالتزام النفساني، فقد ورد في كلمات السيِّد الخوئي أنّ التعهّد إن كان ابتدائيّاً، فهو الوضع التعييني، وإن كان مسبوقاً بكثرة الاستعمال فهو تعيّني(1) .

ويرد عليه: أنّه لو كانت الكثرة على حدّ موجب لدلالة اللفظ بنفسه على المعنى فالتعهّد وعدمه سيّان ، وبعبارة اُخرى: يكون التعهّد لغواً; لسببيّة كثرة الاستعمال من دون دخل للتعهّد، فالوضع التعيّني على القول بالتعهّد غير مقبول .

وأمّا على مسلك الاعتبار، فتقسيمه إلى التعييني والتعيّني غير صحيح; لأنّ حقيقة الوضع عبارة عن اعتبار الواضع، فلا جامع بين التعييني والتعيّني، بل التعيّني يشترك مع التعييني في نتيجة الأمر; إذ كما أنّ اعتبار الواضع يوجب الملازمة بين اللفظ والمعنى من حيث الانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى، كذلك كثرة الاستعمالتوجب استئناس أذهان أهل المحاورة بالانتقال من سماع اللفظ إلى المعنى، فلا حاجة إلى دعوى اعتبار أهل المحاورة على حدّ اعتبار الواضع; فإنّه لغو بعد حصول النتيجة(2) .

وأمّا على مسلك قرن الأكيد، فقد ذكر الشهيد الصدر أنّ التقسيم صحيح; لأنّه كما أنّ القرن الأكيد يحصل بعمل كيفيّ كوضع الواضع، كذلك يحصل بعمل كمّي; وهو تكرار قرن اللفظ بالمعنى في استعمالات كثيرة على نحو يؤدي إلى قيام علاقة التلازم التصوّرية بينهما، وهي العلاقة الوضعيّة (3).


(1) أجود التقريرات 1 : 19، محاضرات في اُصول الفقه 1 : 53.
2 ـ نهاية الدراية 1 : 49 .
3 ـ بحوث في علم الاُصول 1 : 95.

صفحه 180

وقد مرّ(1) منّا في بيان الإيرادات الواردة على هذا المسلك أنّ القول بكون الارتباط بين اللفظ والمعنى إنّما حصل من القرن الأكيد بينهما، مستلزم لكون الوضع تعيينيّاً دائماً، ولا مجال للوضع التعيّني أصلا ; فإنّ إنشاء الواضع لا يكون موجباً للقرن الأكيد أصلا وإن كان موجباً لأصل الاقتران الاعتباري، لكنّه لا يفيد بنظر القائل بهذا المسلك .

وأمّا بناءً على مسلك العلاميّة : فالتقسيم صحيح; لأنّه كما يمكن أن يكون وضع الواضع موجباً لاعتبار كون اللفظ علامة للمعنى، فكذلك كثرة الاستعمال موجبة لكونه علامة للمعنى وإن كانت مستغنية عن الاعتبار .

وأمّا بناءً على مسلك جعل الملازمة الذي ذهب إليه المحقّق العراقي(2) فصحيح; لأنّها كما تحصل بجعل الجاعل، فكذلك تحصل بكثرة الاستعمال .

وأمّا بناءً على ما ذهب إليه المحقّق النائيني(3) من كون الواضع هو الله تبارك وتعالى، فالأمر واضح من جهة اختصاص الوضع بالتعييني، وعدم المجال للوضع التعيّني .


(1) في ص172 ـ 173.
(2) مقالات الاُصول 1 : 60 ـ 62.
(3) فوائد الاُصول 1: 30.

صفحه 181

رسالة في شرطيّة الابتلاء في منجّزيّة العلم الإجمالي

وقد ألّفت في سنة 1415 هـ . ق بمناسبة المؤتمر العالمي
للشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)


صفحه 182


صفحه 183

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع البحث :

ذهب المشهور(1) إلى وجوب الموافقة القطعيّة في العلم الإجمالي ; وهي تحصل بالاجتناب عن جميع الأطراف ، لكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) (2) قد اشترط في منجّزيّة العلم الإجمالي كون التكليف فعليّاً بالنسبة إلى جميع الأطراف على تقدير كون الحرام كلّ واحد من الأطراف ، واحترز بهذا الشرط عن اُمور : ثالثها: ما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، فلا يجب الاجتناب عن الطرف الآخر الذي هو داخل في محلّ الابتلاء .

وهذا البحث ـ أي شرطيّة الابتلاء ـ ممّا اخترعه الشيخ الأعظم ، ولم يسبقه إليه أحدٌ قبله ، كما صرّح به المحشّي التبريزي في كتابه(3) ، وصرّح به أيضاً المحقّق الأشتياني، حيث قال : ثمّ إنّ شرطيّة الابتلاء . . . وإن لم نقف على التصريح به في كلماتهم ، بل المترائى منها في قصر شرائط التكليف ، وحصرها في أربعة عدم


(1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 210، بحوث في علم الاُصول 5: 170.
(2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 233ـ 234.
(3) أوثق الوسائل : 346.

صفحه 184

اشتراطه . ومن هنا كان بعض مشايخنا كثيراً ما يطعن على شيخنا الاُستاذ بكونه منفرداً في تأسيس هذا الأصل .

ثمّ قال في تأييد هذا المبنى : إلاّ أنّه يجده المنصف المتأمّل المتتبّع; ألا ترى(1)فتوى الفقيه بوجوب تعلّم مسائل الحيض والنفاس مثلاً على العامّي غير المزوّج، وكذا بوجوب تعلّم مسائل الجهاد على العوامّ وهكذا، مع أنّه لا يمتنع عقلاً تحقّق الحاجة إليه بالنسبة إلى هذه المسائل، حاشا ثمّ حاشا ، مع أنّه يجب تعلّمها واستنباطها على المستنبط(2) .

وبعد هذا فينبغي لنا أن نبحث عن ذلك الأصل ; فإنّه أصلٌ مهمّ ذو ثمرات متعدّدة في كثير من أبواب الفقه ، ويترتّب عليه فوائد جليلة ، وباب واسع ينحلّ منه الإشكال عمّا علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع على حسب اعتقاد الشيخ(3) ; فإنّ هنا أمثلة موجودة من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب الاحتياط ، بل وجواز المخالفة القطعيّة فيها ، فربما يتوهّم خروجها من حكم الشبهة المحصورة لدليل خاصّ في كلّ مورد مع انتفائه قطعاً ، مضافاً إلى أنّ حرمة المخالفة القطعيّة وقبحها أمر عقليّ لا يقبل التخصيص .

ومن هنا ذهب بعض(4) إلى أنّ عدم وجوب الاحتياط في هذه الأمثلة دليل على البرائة في الشبهة المحصورة ، ولكنّ الشيخ (قدس سره) اعتقد أنّ الطريق الصحيح لحلّ هذه الأمثلة ما ذهب إليه من أنّه في جميع هذه الموارد يكون بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء . وإليك بعض الأمثلة التي ذكرها الشيخ وغيره :


(1) هكذا في النسخ التي بأيدينا ، والصحيح : أترى، بدل «ألا ترى»، والاستفهام إنكاري .
(2) بحر الفوائد 2: 102.
(3) فرائد الاُصول 2: 234 ـ 235.
(4) مدارك الأحكام 1: 107 ـ 108.

صفحه 185

منها : ما إذا علم إجمالاً بوقوع النجاسة في إنائه ، أو في موضع من الأرض التي لا يبتلي بها المكلّف عادةً .

ومنها : ما إذا علم إجمالاً بوقوع النجاسة في ثوبه ، أو ثوب غيره الذي لا يكون مورداً لابتلائه ; فإنّ الثوبين من باب الشبهة المحصورة قطعاً ، مع عدم وجوب الاجتناب عن شيء منها، حتّى ثوب نفسه الذي هو طرف للعلم الإجمالي بالنجاسة .

ومنها : أنّ زوجة شخص لو شكّت في أنّها هي المطلّقة، أو غيرها من ضرّاتها ، لم يجب عليها الاحتياط ، وجاز لها ترتيب أحكام الزوجيّة على نفسها ، مع أنّ الشبهة محصورة ، لكن غيرها من الضرّات خارجة عن محلّ ابتلائها . نعم ، يجب على الزوج الاجتناب عن الجميع لو شكّ في المطلّقة ، ودار أمرها بين كلّ واحدة من زوجاته .

ومنها : ما ذكره المحقّق الآشتياني في حاشيته; وهو وقوع طين السوق في الشتاء ، أو طين الطريق على لباس الشخص أو بدنه مع حصول العلم الإجمالي بنجاسة بعض ما فيها على وجه ينتهي إلى الشبهة المحصورة قطعاً ; فإنّ محلّ ابتلاء المكلّف خصوص ما وقع في لباسه ، أو بدنه . وأمّا الموجود في أرض السوق والطريق ، فهو خارج عن محلّ ابتلائه ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة الطهارة بالنسبة إلى ما وقع في بدنه ولباسه; فيجوز له الصلاة في تلك الحال من دون إزالة الطين فضلاً عن تطهير البدن .

ومنها : ما ذكره أيضاً ; وهو أنّه لو علم الزوج بحيض بعض زوجاته ، مع عدم ابتلاء بعضهنّ به ، كما إذا كانت غائبة عنه ، وأراد الوقاع مع الحاضرة ; فإنّه يجوز له ذلك .

ومنها : ما لو علم الزوج بارتداد بعض زوجاته مع غيبة بعضهنّ ; فإنّه يجوز


صفحه 186

إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى الحاضرة (1).

ومن الأمثلة التي لم تُذكر في الكتب لكنّه يصحّ أن يكون مثالاً للبحث ، وهو مهمّ جدّاً ، أنّه إذا فرضنا فرضاً بعيداً أنّ شخصاً قد علم إجمالاً بوقوع التحريف في مجموع القرآن ، فبما أنّ المتشابهات خارجة عن باب الاستدلال; لعدم وجود الظاهر لها ، صحّ التمسّك بالمحكمات . وبعبارة اُخرى: المتشابهات خارجة عن محلّ الابتلاء ، فلذا يكون العلم الإجمالي منجّزاً ، فصحّ التمسّك بالمحكمات التي هي داخلة في محلّ الابتلاء ، إلى غير ذلك من الأمثلة التي يجدها المتتبّع .

ووافق الشيخ ـ في هذا الأصل ـ المشهور من المتأخّرين عنه ، منهم: المحقّق الخراساني(2) ، والمحقّق النائيني(3) ، وخالفه جملة من المحقّقين: كالسيّد الإمام الخميني(4) ، والسيّد المحقّق الخوئي (رحمهم الله)(5) . وقبل الورود في البحث يجب التعرّض لاُمور :

الأمر الأوّل : أنّ هذا البحث لا ينحصر بمسألة العلم الإجمالي والشبهة المحصورة وإن ذكره الشيخ في هذا المجال; لكن دائرته تشمل جميع التكاليف ، وبعبارة اُخرى: وقع البحث في أنّه هل من شرائط تنجّز التكليف ابتلاء المكلّف بمتعلّقه أم لا؟

الأمر الثاني : في معنى الابتلاء والخروج عن محلّ الابتلاء ، فاعلم أنّه يظهر من بعض الكلمات أنّ المراد من الخروج هو خصوص عدم القدرة العادية للمكلّف فقط; كما يظهر من كلمات المحقّق النائيني في الجواب عن النقض الذي أورد


(1) بحر الفوائد 2: 103.
(2) كفاية الاُصول : 410.
(3) فوائد الاُصول : 50 وما بعدها.
(4) معتمد الاُصول 2: 119.
(5) مصباح الاُصول (موسوعة الإمام الخوئي) 2: 459 ـ 461.

صفحه 187

على الشيخ(1) .

ويظهر من المحقّق الحائري(2) أنّ المراد بالخروج أعمّ من أن يكونالفعل غير مقدور للمكلّف عادةً، كما إذا كان في بعض البلاد البعيدة ، أو كان مقدوراً عادةً ، ولكن على نحو يكون بعض الناس معرضاً عنه عادةً ، ويكون دواعيهم مصروفة عنه كذلك ، والميزان استهجان العقلاء للخطاب المتعلّق به .

وخلاصة كلامه ترجع إلى أنّ الابتلاء إمّا أن يكون شخصيّاً ، فمقابله أيضاً شخصيّ ، وإمّا أن يكون نوعيّاً ، فمقابله أيضاً نوعيّ ، ونتيجة هذا خروج الأفعال التي كانت منافرة للطبع عن محلّ الابتلاء ، ويظهر هذا المعنى من عبارة الكفاية(3) ، وحاشية الماتن أيضاً .

هذا، وقد يظهر من كلام الشيخ الأعظم أنّ المراد خصوص عدم وجود القدرة العادية; سواء كان للمكلّف ، أو لنوع الناس ، ولا يشمل كلامه ما إذا كان الشيء منفوراً عند الناس ; فإنّ الشيخ قد فرّع الخروج عن الابتلاء على عدم تنجّز التكليف ، بينما أنّ تنجّز التكليف فيما إذا كان الشيء منفوراً منه عند الناس واضح ، فحرمة كشف العورة منجّزة وإن كان منفوراً منه عند جميع الناس .

وهنا معنىً رابع يستفاد من صحيحة عليّ بن جعفر الآتية(4)، بناءً على التفسير الذي ذكره الشيخ ، وهو: أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء ليس منحصراً بعدم وجود القدرة العادية ، بل يشمل عدم الاحتياج إليه ، وعدم كونه مورداً للحاجة فعلاً ، والظاهر أنّ المحقّق الآشتياني(5) يميل إلى هذا المعنى، كما يستفاد من أمثلته للمقام ;


(1) فوائد الاُصول 4 : 54 .
(2) درر الفوائد : 464.
(3) كفاية الاُصول: 410.
(4) في ص 191 ـ 192.
(5) بحر الفوائد 2 : 103.

صفحه 188

فإنّه حكم بأنّ غيبة بعض الأزواج سبب للخروج عن محلّ الابتلاء مع وجود القدرة العادية بالنسبة إليه ، فتدبّر.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ لنا فروضاً ثلاثة :

الفرض الأوّل : كون الشيء خارجاً عن القدرة العادية ، ولا شكّ أنّه داخلٌ في محلّ البحث .

الفرض الثاني : كون الشيء داخلاً تحت القدرة العادية ، ولكنّه لا يكون مورداً للحاجة فعلاً، كخارج الإناء الذي يستفاد من صحيحة علي بن جعفر(1); لأنّه خارج عن محلّ الابتلاء بناءً على التفسير الذي ذكره الشيخ ، والظاهر أنّ هذا المورد داخلٌ في محلّ البحث .

الفرض الثالث : كون الشيء داخلاً تحت القدرة العادية ، ولكنّه ممّا ينفر الطبع عنه ، ويعرض العقلاء عنه عادةً; والظاهر أنّه ليس داخلاً في محلّ البحث; لاستلزامه عدم منجّزيّة أكثر النواهي ، وهذا بعيد جدّاً .

الأمر الثالث : أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء إذا كان قبل العلم الإجمالي ، أو مقارناً للعلم الإجمالي، فهو مانع عن تنجّز العلم الإجمالي . وأمّا إذا كان بعد العلم الإجمالي، فهو الاضطرار الطارئ لا يكون مانعاً عن التنجّز(2) .

الأمر الرابع : قد وقع البحث في أنّ هذا المطلب هل يرتبط باشتراط الدخول في محلّ الابتلاء في حصّة التكليف، أم لا يرتبط؟ أي أنّنا لو قلنا بأنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط في صحّة التكليف، لوجب أن نذهب إلى عدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي ، وإن أنكرنا اشتراط الدخول، فيجب أن نعتقد بمنجّزيّة هذا العلم الإجمالي، كما هو مذهب السيّد المحقّق الخوئي (قدس سره) .(3)


(1) تأتي في ص 191 ـ 192.
(2) درر الفوائد للحائري : 464 .
(3) مصباح الاُصول (موسوعة الإمام الخوئي) 2: 459 ـ 461.

صفحه 189

وقد أنكر الشهيد الصدر (قدس سره) (1) هذا الارتباط فقال : إنّ منجّزيّة هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بهذه المسألة أصلاً ، بل حتّى على القول بفعليّة التكليف في موارد الخروج عن محلّ الابتلاء لا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً. وقال في توضيح هذا الكلام : إنّ الدخول في محلّ الابتلاء لا يمكن أن يكون دخيلاً في الملاك ; لأنّ هذا الوصف لا يمكن أن يكون محصّصاً إلى حصّتين ، حصّة داخلة في محلّ الابتلاء ، وحصّة خارجة ; إذ فرض وقوعه هو فرض دخوله في محلّ الابتلاء ، والملاك محرز على كلّ حال، وهو كاف في التنجيز .

وأيضاً ، اشتراط الخطاب بهذا القيد غير صحيح ; لعدم وجود الاستهجان عند الخروج عن محلّ الابتلاء .

وفيه أوّلاً : أنّ قوله (قدس سره) : إنّ منجّزيّة هذا العلم الإجمالي لا يرتبط بهذه المسألة أصلاً ، محلّ تأمّل ; فإنّ الملازمة في جانب الإثبات ممّا لا يقبل الإنكار ، فكلّ من قال بشرطيّة الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة التكليف; يجب أن يقول بعدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي، ولعلّ مراده (قدس سره) هذا وإن كانت العبارة تأبى عن ذلك .

وثانياً : أنّ نفي الملازمة في جانب النفي إنّما يصحّ بناءً على عدم جريان الأصل الترخيصي في الشيء الخارج عن الابتلاء ، وسنذكر لكم بطلانه في الجواب عن الدليل الثاني الآتي .

وثالثاً : سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الدليل الأوّل أنّ الخطاب ، أو التكليفوإن لم يكن ملاكه مقيّداًبهذا القيد;لرجوع الابتلاءإلى القدرة العادية ،وهي كالقدرة العقليّة غير دخيلة في الملاك ، إلاّأنّ فعليّة الخطاب وتنجّزه مشروط بهذا القيد .

وبعد بيان هذه الاُمور يجب البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في أنّه هل يكون الابتلاء وإمكانه شرطاً في التكليف ، أم لا؟


(1) بحوث في علم الاُصول 5 : 286 .

صفحه 190

وهل يكون شرطاً في ملاك التكليف ، أو يكون شرطاً في الخطاب فعليّاً ، أو تنجّزاً؟ وبعد كونه شرطاً في أصل التكليف، هل يكون أيضاً من شرائط منجّزيّة العلم الإجمالي، أم لا؟

المقام الثاني : في أنّه بعد كونه شرطاً ، إذا شككنا في أنّ الابتلاء هل دائرة مفهومه يشمل الشيء الفلاني، أم لا؟ فما هو المرجع في ذلك؟ هل المرجع إطلاقات أدلّة المحرّمات الواقعيّة، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(1) وإن تردّد في آخر كلامه، أم المرجع أصالة البراءة عن الخطاب التنجيزي، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني؟(2)

أمّا المقام الأوّل : فإنّه يستفاد من كلام الشيخ الأعظم(3) أنّ الابتلاء من شرائط منجّزيّة العلم الإجمالي ، كما أنّه من شرائط نفس التكليف ; فإنّه ذهب إلى أنّ من شرائط منجّزيّة العلم الإجمالي أن يكون التكليف في كلّ من طرفيه فعليّاً ، بحيث لو علمنا بالتحريم في كلّ واحد من طرفيه لكان التكليف ثابتاً منجّزاً ، واحترز بهذا الشرط عن اُمور:

منها : إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، وكلامه (قدس سره) وإن كان كلّياً شاملاً لجميع التكاليف أمراً ونهياً; لكنّه يظهر من دليله الأوّل الآتي : أنّ الدخول في محلّ الابتلاء شرط لصحّة النهي ، وسيأتي تفصيل ذلك في تحليل كلمات المحقّق النائيني .

واستدلّ على ذلك بأدلّة ثلاثة ـ على ما يستفاد من مجموع كلماته (قدس سره) ـ يختصّ بعضها بشرطيّة الابتلاء في أصل التكليف ، وبعضها الآخر بمنجّزيّة العلم الإجمالي .

الدليل الأوّل : أنّ المقصود من النهي حمل المكلّف على الترك ، وهذا مختصّ


(1) فرائد الاُصول 2: 237 ـ 238.
(2) كفاية الاُصول : 410.
(3) فرائد الاُصول 2 : 233.

صفحه 191

بمورد الابتلاء ; لأنّ في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء يكون الترك حاصلاً بنفس عدم الابتلاء ، ويصير النهي عنه تحصيلاً للحاصل .

الدليل الثاني : ـ وهو مختصّ بشرطيّة الابتلاء في منجّزيّة العلم الإجمالي ـ أنّه لا يجري الأصل في الشيء الخارج عن الابتلاء ، وقد ذكر لهذا تقريبان :

التقريب الأوّل : ما ذكره الشيخ الأنصاري(1) ، وهو: أنّه في الموارد التي يكون جميع الأطراف مورداً للابتلاء يتحقّق التعارض بين الأصل الترخيصي الجاري في طرف ، مع الأصل الترخيصي الجاري في الطرف الآخر . وبعد التعارض يجب الرجوع إلى التكليف التحريمي الثابت ، ويجب الاحتياط .

وأمّا فيما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء يكون الأصل الجاري في محلّ الابتلاء خالياً عن المعارض ; لعدم وجود الثمرة العمليّة لجريان الأصل في المورد الخارج عن الابتلاء بالنسبة إلى المكلّف، فيكون الأصل لغواً في مقام العمل ، ولا يقع التعارض بينهما ، وعلى هذا يصحّ العمل بالأصل الترخيصي الموجود في محلّ الابتلاء ، ومعنى هذا عدم منجّزيّة العلم الإجمالي .

التقريب الثاني : ما ذكره الشهيد الصدر(2) ، وهو: أنّ الملاك في جريان الأصل وجود التزاحم الحفظي بين الأغراض اللزوميّة; والأغراض الترخيصيّة . والعرف والعقلاء لا يرون تزاحماً إذا كان الشيء خارجاً عن محلّ الابتلاء .

الدليل الثالث : استهجان الخطاب بترك ما هو خارج عن محلّ الابتلاء ، وقد عبّر المحقّق العراقي(3) بأنّ المكلّف أجنبيّ عن المتعلّق عرفاً .

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري (قدس سره) (4) أيّد مقصوده بما ورد في صحيحة علي بن جعفر،


(1) فرائد الاُصول 2 : 235.
(2) بحوث في علم الاُصول 5 : 288 .
(3) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4 : 51 و 52.
(4) فرائد الاُصول 2: 236.

صفحه 192

عن أخيه (عليه السلام) ، الواردة في من رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً ، فأصاب إناءه; هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال (عليه السلام) : إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه إلخ(1) .

وجه التأييد: أنّ ظاهر الإناء وباطنه من مصاديق الشبهة المحصورة . ومع ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بعدم وجوب الاجتناب عن الإناء في صورة عدم استبانة شيء في الماء . والسرّ في هذا الحكم أنّ خارج الإناء يكون خارجاً عن محلّالابتلاء .

واستدلّ المحقّق النائيني بدليل رابع، وهو : أنّ النهي مشروط بوجود القدرة العادية على الترك زائداً على القدرة العقليّة، بخلاف الأمر ; فإنّه مشروط بالقدرة العقليّة فقط; والمراد من القدرة العادية : تمكّن المكلّف عادةً من نقض العدم ، وفعل المنهيّ عنه .

ووجهه استهجان التكليف بترك مالا يقدر عادة على فعله ; لأنّ الترك حاصل بنفسه، بخلاف التكليف بالفعل; لأنّ الأمر بالفعل إنّما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع . ولا يقبح من المولى التكليف بإيجاد ما اشتمل على المصلحة بأيّ وجه أمكن; ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية وإن لم يأمر المولى تفضّلاً ، إلاّ أنّه أمرٌ آخر غير قبح التكليف واستهجانه ، فلا يتوقّف صحّة الأمر بالفعل على أزيد من التمكّن العقلي، بخلاف النهي عن الفعل . فلا يصحّ مع عدم التمكّن العادي من إيجاد المنهيّ عنه; فإنّ النهي مع عدم التمكّن قبيح (2). انتهى ملخّص كلامه .


(1) الكافي 3: 74 ح16، تهذيب الأحكام 1: 412 ح1299، الاستبصار 1: 23 ح57، مسائل عليّ بن جعفر (عليه السلام) : 119 ح64، وعنها وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب8 ح1.
(2) فوائد الاُصول 4: 51 ـ 52.

صفحه 193

ومع التأمّل يظهر أنّ روح هذا الكلام يرجع إلى ما أفاده الشيخ(1) في الدليل الأوّل ; من أنّ النهي عن شيء خارج عن محلّ الابتلاء يكون تحصيلاً للحاصل . إلاّ أنّه أضاف شيئاً آخر لم يصرّح به الشيخ وإن كان هو المستفاد من عبارته مع التأمّل; وهو وجود الفرق بين الأمر والنهي ; فإنّ النهي مشروط بالقدرة العادية دون الأمر الذي يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة فقط .

وأجاب الشهيد الصدر عن الدليل الأوّل بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ هذا النهي لا يكون تحصيلاً للحاصل ; لوجود الفائدة له; وهي تمكّن المكلّف من التعبّد بتركه .

الوجه الثاني : أنّ تحصيل الحاصل عبارة عن تحصيل أمر في طول حصوله ، وهو المحال . وما نحن فيه ليس كذلك ، وإنّما هو تحصيل في عرض تحصيل آخر . فالمكلّف يوجد له زاجران عن الفعل: أحدهما: الطبع والخروج عن الابتلاء ، والآخر: النهي المولوي .

الوجه الثالث : وجود الفرق بين التحصيل التشريعي ، والتحصيل التكويني .

فالأوّل: مجعول بسبب الخطاب، بخلاف الثاني ، والمراد من الخطاب هو الحصول التشريعي، بخلاف الحاصل الذي هو حصول تكوينيّ(2) .

وهذه الوجوه غير تامّة في نظري القاصر .

أمّا الوجه الأوّل : فيمكن الجواب عنه حلاًّ ونقضاً ; فالجواب الحلّي أنّمعنى التعبّد هو الفعل أو الترك لأجل إطاعة المولى . ففي كمون معناه يوجداستناد الفعل أو الترك إلى المتعبّد; وفيما إذا كان الترك حاصلاً لا معنى للتعبّد بالترك ، مضافاً إلى أنّ المقصود من الفائدة المترتّبة على نفس الترك في نظر الشارع ـ مع قطع


(1) فرائد الاُصول 2: 234.
(2) بحوث في علم الاُصول 5: 288.

صفحه 194

النظر عن التعبّد به . والجواب النقضي ـ هو: أنّه لو كان التعبّد بالترك كافياً فيما نحن فيه، لكان التعبّد بالفعل الموجود الحاصل كافياً في صحّة الأمر به ، مع وضوح فساده .

وأمّا الوجه الثاني : فإنّ الظاهر عدم الفرق في بطلان تحصيل الحاصل بين كون التحصيل في عرضه ، أو في طوله ; فإنّ تحصيل الشيء الذي هو حاصل محالٌ; على أنّه فيما نحن فيه يكون التحصيل في طول وجود الحاصل ; فإنّ ترك الشيء غير المتبلى به متحقّق سابقاً .

وأمّا الوجه الثالث : فإنّ التحصيل التشريعيّ يرجع إلى التعبّد ، وقلنا : إنّه لامعنى للتعبّد بالترك الحاصل .

وقد ينتقض الدليل الأوّل بالموارد التي لا ينقدح الداعي للمكلّف إلى فعلها دائماً أو غالباً; كالعذرة ، وكشف العورة بالنسبة إلى صاحب المروءة ; فإنّه بناءً على الدليل الأوّل يلزم عدم صحّة النهي عنها ; لأنّ الترك حاصل مع قطع النظر عن النهي .

وأجاب المحقّق النائيني ; بأنّ الفرق موجود بين عدم القدرة عادة على الفعل ، وبين عدم إرادة الفعل عادةً ، فالقدرة قيد في التكليف، بخلاف الإرادة ; فإنّه لا يعقل تقييد التكليف بصورة الإرادة ، وفي هذه الموارد تكون القدرة موجودة; لأنّ بقاء ترك كشف العورة مثلاً مستند إلى المكلّف ، ولا مانع من هذا النهي، بخلاف الخروج عن محلّ الابتلاء ; لأنّ بقاء الترك مستند إلى نفس الخروج، لا إلى إرادة المكلّف، فلايصحّ الخطاب به(1) .

فتبيّن من جميع ذلك أنّ الدليل الأوّل تامّ لا يرد عليه شيء من الوجوه


(1) فوائد الاُصول 4: 52 ـ 54.

صفحه 195

المذكورة .

نعم، هنا كلام للمحقّ الخراساني(1) إيراداً على الشيخ الأعظم ; وهو: أنّه لماذا ذهبتم إلى وجود الفرق بين النهي والأمر؟

فكما أنّ القدرة العادية معتبرة في الفعل بالنسبة إلى النواهي ، فكذلك هي معتبرة في الترك بالنسبة إلى الأوامر; لوحدة الملاك; فإذا كان المعلوم بالعلم الإجمالي مردّداً بين مالا يتمكّن المكلّف من تركه ، وبين غيره، لم يكن هذا العلم الإجمالي منجّزاً .

وأجاب عنه المحقّق النائيني; بأنّ المطلوب في باب النواهي مجرّد الترك واستمرار العدم ، وفي صورة عدم الابتلاء يكون الترك حاصلاً ، فالخطاب لغو ، بلتحصيل للحاصل ، بخلاف الأوامر ; فإنّ المطلوب فيها إيجاد المصلحة الموجودة في الفعل بأيّ وجه أمكن ، ولو بأسباب بعيدة خارجة عن القدرة العادية، وليس هذا التكليف مستهجناً عند العقلاء ، ولا طلباً للحاصل(2) .

وفي هذا الجواب نظر ; لأنّ المحقّق الخراساني لا يدّعي شرطيّة القدرة العادية في الفعل بالنسبة إلى الواجبات; بل يدّعي شرطيّتها في الترك . ويقول : إذا كانت القدرة العادية على الفعل معتبرة في النهي ، فاللازم اعتبار القدرة العادية على الترك في الأمر ، والظاهر تماميّة إيراد الخراساني (قدس سره) على الشيخ الأعظم ، فظهر عدم وجود الفرق بين الأمر والنهي من هذه الجهة .

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قد ناقش فيما أفاده المحقّق النائيني في أنّ ملاك الاستهجان ليس اعتبار القدرة العادية على الفعل في باب النواهي حتّى يقال بوجود الفرق بين الأمر والنهي; بل الملاك في الاستهجان كون المكلّف أجنبيّاً عن المتعلّق ، بحيث يرى


(1) كفاية الاُصول : 410 حاشية (1).
(2) فوائد الاُصول 4: 51 ـ 52.

صفحه 196

العرف مثل هذا الشخص أجنبيّاً عن الفعل، من دون فرق بين الأمر والنهي(1) .

ولكن قلنا قبل أسطر : إنّه مع صحّة الملاك الذي ذهب إليه النائيني ، لا فرق بين الأمر والنهي ، وبعبارة اُخرى : لا ملازمة بين صحّة هذا الملاك ، وبين وجود الفرق بين الأمر والنهي ، على أنّ لنا سؤالاً من المحقّق العراقي ; وهو أنّه ما هو الملاك في كون المكلّف أجنبيّاً؟ فليس له بدٌّ إلاّ الرجوع إلى ما ذهب إليه النائيني . وقلنا سابقاً: إنّ هذا الملاك مستفاد من كلام الشيخ الأعظم ، فراجع(2) .

هذا كلّه بالنسبة إلى الدليل الأوّل .

وأمّا الدليل الثاني: فالظاهر أنّه غير تامّ بكلا تقريبيه ; لأنّه عين محلّ الخلاف ; يعني : كما أنّ الخلاف واقع في أنّ التكاليف الواقعيّة هل هي مشروطة بابتلاء المكلّف بمتعلّقاتها ، أم لا؟ فكذلك يجري الخلاف في أنّ الأحكام الظاهريّة ـ ومنها الاُصول العمليّة ـ هل هي مشروطة بابتلاء المكلّف ، أم لا؟ فلا يصحّ القول الجزمي بعدم جريان الأصل فيما إذا لم يكن الشيء مورداً للابتلاء .

إن قلت : إنّ الغاية من جريان الاُصول العمليّة رفع التحيّر للمكلّف في مقام العمل ، ولا معنى لرفع التحيّر في الشيء الذي لا يكون مورداً للابتلاء .

قلت : إنّ رفع التحيّر إنّما يكون في مقابل الحكم الواقعي ; بمعنى أنّ الاُصول العمليّة لا تعطي حكماً واقعيّاً ، وإنّما هي رافعة للتحيّر في مقام العمل . وأمّا الابتلاء، فلا يكون شرطاً ، فربما يجري الأصل العملي في الشيء الذي لا يكون مورداً للحاجة ، فإذا شككنا في طهارة ثوب، فأصالة الطهارة تجري وإن لم يكن الثوب مورداً للحاجة فعلاً .

فما ذكره الشهيد الصدر; من أنّ أدلّة الاُصول العمليّة لا تجري في التكليف


(1) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4 : 51 ـ 52.
(2) في ص193.

صفحه 197

المحتمل في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء(1) ، محلّ إشكال ، بل منع ; فإنّ قوله (عليه السلام) :«كلّ شيء طاهر . . .»(2) شامل للشيء الذي هو مورد للابتلاء وغيره . وما ذكره أيضاً من أنّ الأصل الترخيصي تعيين للموقف العملي تجاه التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة ـ والعقلاء لا يرون تزاحماً من هذا القبيل بالنسبة إلى الطرف الخارجي عن محلّ الابتلاء(3) ـ غير تامّ; لأنّ هذا التزاحم هو التزاحم الملاكي ، وهو موجود في الواقع حتّى في الشيء الخارج عن الابتلاء ; فإنّه لا أقلّ داخل في دائرة العلم الإجمالي، وليس معدوماً محضاً .

وأمّا الدليل الثالث : فالاستهجان مبنيّ على انحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة بتعدّد الأفراد والمكلّفين، كما ذهب إليه المشهور(4) ، وأيضاً مبنيّ على كونالابتلاء شخصيّاً; بمعنى أنّه لو لم يكن الشيء مورداً لابتلاء شخص ، وكان الخطاب منحلاًّ إلى خطابات متعدّدة لكان مستهجناً .

وأمّا بناءً على عدم الانحلال وكون الخطاب واحداً ـ وإن كان المخاطب متعدّداً كما ذهب إليه الإمام الخميني (قدس سره) (5) ـ فلا استهجان في الخطاب، إلاّ أن يكون عدم الابتلاء نوعيّاً ، ففي هذه الصورة يكون الخطاب مستهجناً ; لعدم ابتلاء نوع الناس إليه .

والاستشهاد بالصحيحة غير جيّد ; لأنّها خارجة عن باب العلم الإجمالي والشبهة المحصورة ; فإنّ السائل قد علم تفصيلاً أنّ الدم قد أصاب الإناء ، ولا يعلم أنّه مع ذلك هل أصاب الماء، أم لا؟ فالإصابة بالنسبة إلى الإناء قطعيّ تفصيلاً ،


(1) بحوث في علم الاُصول 5 : 288.
(2) المقنع: 15، وعنه مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني ب30 ح2794.
(3) بحوث في علم الاُصول 5: 288.
(4) محاضرات في الاُصول 2: 14، تهذيب الاُصول 1: 437.
(5) تهذيب الاُصول 1: 437.

صفحه 198

وبالنسبة إلى الماء مشكوك بالشك البدوي ، فيصحّ الوضوء منه .

وإلى هذا المعنى ذهب الشيخ الحرّ العاملي صاحب الوسائل(1) . وبهذا البيان بطل أيضاً ما ذكره الشيخ الطوسي; من عدم انفعال الماء بالأجزاء غير المستبانة من الدم(2) ، فإنّ وجود الدم في الماء ولو صغيراً مشكوك فيه .

ومن مجموع ما ذكرنا يظهر أنّ الابتلاء من شرائط تنجّز التكليف، مندون فرق بين الأمر والنهي ، وأنّ الحاكم بشرطيّة الابتلاء مختلف باختلافالأدلّة .

فبناءً على الدليل الأوّل يكون الحاكم هو العقل ، وعلى الثالث هو العرف ، فلا يصحّ القول المطلق بأنّ الحاكم بالتقييد هو العرف، كما صرّح به الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كلماته ، فراجع (3).

بقي هنا إشكال لا يمكن الذبّ عنه ; وهو: أنّه ما هو المستند في الفتوى بوجوب تعلّم خصوص المسائل التي تكون مورداً للابتلاء عند من لا يعتقد بشرطيّة الابتلاء في التكليف؟ وبعبارة اُخرى : من اعتقد أنّه شرط في التكليف كالشيخ، فيصحّ له القول بوجوب تعلّم هذا المقدار من المسائل . أمّا الذين لم يعتقدوا بشرطيّة هذا، فَبِمَ أفتوا بهذه الفتوى؟ ولا فرق في هذا الإشكال بين كون الطريق إلى وجوب التعلّم وجود الروايات الموجودة ، أو وجود العلم الإجمالي بتكاليف واقعيّة .

وأمّا المقام الثاني: فهو أنّه بعد إثبات كون الابتلاء شرطاً في صحّة التكليف على حسب تعبير المشهور(4) ، أو شرطاً لجريان الأصل الترخيصي على حسب


(1) وسائل الشيعة 1 : 151 .
(2) الاستبصار: 1 / 23 ذ ح 12.
(3) لاحظ فرائد الاُصول 2: 234.
(4) بحوث في علم الاُصول 5: 286.

صفحه 199

تعبير الشهيد الصدر (قدس سره) (1)، إذا شككنا في الابتلاء، فهل يجب الاجتناب عنه، إمّا تمسّكاً بالإطلاقات، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2) ، أو تمسّكاً بكون الشكّ فيه شكّاً في المسقط ، كما صرّح به المحقّق النائيني(3) ، أو لا يجب الاجتناب، تمسّكاً بأصالة البراءة عن التكليف المنجّز، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني(4) .

وقبل الخوض في ذلك لابدّ من ملاحظة أنّه هل الشبهة مفهوميّة، أو موضوعيّة؟

فنقول : لقد صرّح الشيخ الأنصاري بأنّ الشبهة مفهوميّة لا مصداقيّة ، حيث قال : فمرجع المسألة إلى أنّ المطلق المقيّد بقيد مشكوك التحقّق في بعض الموارد; لتعذّر ضبط مفهومه (5). وصرّح المحقّق الحائري أيضاً في الدرر بأنّ الشبهة مفهوميّة ، حيث قال : إذا شككنا في كون الشيء داخلاً في محلّ الابتلاء أو خارجاً عنه لا من جهة الاُمور الخارجيّة ، بل من جهة إجمال ما هو خارج عن موارد التكليف الفعلي(6) إلخ .

وقيل(7) : إنّ الشبهة في المقام موضوعيّة . ولذا اعترض على الشيخ بأنّه لا مجال للتمسّك بالإطلاق في الشبهات الموضوعيّة. لكن هذا القول مدفوع بأنّ هذه الشبهة راجعة إلى عدم ضبط المفهوم من ناحية العرف .

نعم، يمكن تصويرها بنحو الشبهة المصداقيّة . ببيان أنّ الشيء المعيّن ،


(1) بحوث في علم الاُصول 5: 288.
(2) فرائد الاُصول 2 : 237 ـ 238.
(3) فوائد الاُصول 4 : 55 .
(4) كفاية الاُصول : 410.
(5) فرائد الاُصول 2: 238.
(6) درر الفوائد: 465.
(7) كفاية الاُصول: 410، بحوث في علم الاُصول 5: 297.

صفحه 200

هل يكون في البلاد البعيدة الخارجة عن القدرة العادية ، أم لا؟ لكن هذا غير محلّ البحث، سيّما بالنسبة إلى كلام الشيخ .

تصوير الشبهة المفهوميّة عند المحقّق النائيني

ذهب المحقّق النائيني(1) إلى أنّ منشأ الشكّ عبارة عن اختلاف المراتب الموجودة في القدرة العادية ، فبعضها ممّا يقطع بوجود القدرة العادية ، فهو محلّ للابتلاء ، وبعضها الآخر ممّا يقطع بخروجه عن محلّ الابتلاء ، كالخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مثلاً ، وقد يحصل الشكّ في وجود القدرة العادية في البعض الثالث ، كالخمر الموجود بين البلاد البعيدة والقريبة . وبعبارة اُخرى: هل دائرة القدرة العادية تشمل البلاد المتوسّطة، أم لا ؟ كقولنا : هل مفهوم الفسق شامل للصغائرأم لا؟

وعلى هذا البيان لا يصحّ إرجاع هذه الشبهة إلى الشبهة المصداقيّة، كما أرجعها الشهيد الصدر(2) ; ببيان أنّ الخارج بالتخصيص عنوان ما يقبّح التكليف به ، ومفهوم القبيح واضح ، والشكّ إنّما هو في مصداقه .

والسرّ في عدم صحّة الإرجاع : أنّ البحث إنّما هو في نفس مفهوم الابتلاء ، وأنّه من المفاهيم غير المنضبطة عند العرف والعقل ، وليس البحث في عنوان الخارج ، أو الخروج على حسب تعبيره (قدس سره) ، على أنّ مفهوم القبيح أيضاً غير واضح ; لعدم العلم بشموله بالنسبة إلى التكليف في البلاد المتوسّطة ، فتدبّر.

فتصوير الشبهة المفهوميّة بنحو ذهب إليه المحقّق النائيني صحيح ، إلاّ أنّه مبنيّ على ما ذهب إليه من تفسير الابتلاء بالقدرة العادية .


(1) فوائد الاُصول 4 : 54 ـ 55.
(2) بحوث علم الاُصول 5 : 297 .

صفحه 201

أمّا بناءً على تفسيره بكون الشيء ممّا يرغب إليه الناس ، أو تفسيره بكون الشيء ممّا يكون مورداً للحاجة فعلاً ، فالظاهر عدم صحّة كون الشبهة مفهوميّة ، بل هي موضوعيّة دائماً ، فتأمّل .

تصوير الشبهة المفهوميّة عند الشهيد الصدر

ثمّ إنّ الشهيد الصدر بعد أن ذهب إلى أنّ عدم منجّزيّة العلم الإجمالي يكون بملاك عدم جريان الأصل الترخيصي في الشيء الخارج عن محلّ الابتلاء ، قد صوّر الشبهة المفهوميّة في دائرة هذا الملاك على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : شكّ العرف نفسه بما هو عرف في الإرتكاز ; أعني ارتكاز عدم جريان الأصل لهذه المرتبة من الخروج عن محلّ الابتلاء ; فإنّه يعقل ذلك بالنسبة للعرف أيضاً ; لكون هذه الاُمور تشكيكيّة .

الثاني : شكّ العرف في نكتة الارتكاز ; أي أنّ العرف بما هو عرف لا يشكّ في وقوع التزاحم الحفظي بين الغرض اللزومي حتّى إذا كان في الطرف المشكوك ، وبين الغرض الترخيصي ، ولكن يحتمل أنّ المولى لا يهتمّ بهذا المقدار من التزاحم لضئالته ، فيحتمل أنّ نكتة الارتكاز عند المولى تختلف عن العرف .

الثالث : أنّ شخصاً يحتمل ثبوت الارتكاز وعدمه لدى العرف ، وإنّما لايكون واضحاً لديه ; لاحتمال أنّه شذّ عنهم لجهة من الجهات .

ثمّ إنّه حكم بعدم جريان الأصل في القسم الأوّل والثالث، بخلافالقسم الثاني ; فإنّه يجري الأصل ، ويتعارض مع الأصل الجاري في محلّالابتلاء(1) .

وهذا الكلام قابل للمناقشة; لأنّه ـ مضافاً إلى عدم الفرق الجوهري بين الأوّل


(1) بحوث في علم الاُصول 5: 290 ـ 291.

صفحه 202

والثالث ، وإلى أنّ القسم الثاني لا يكون من الشبهة المفهوميّة; لأنّ احتمال الاختلاف في نكتة الارتكاز بين العرف والشرع لا يوجب إيجاد الشبهة المفهوميّة في الارتكاز ; فإنّ عدم جريان الأصل مرتكز عند العرف إذا كان التزاحم موجوداً بحسب نظر العرف ، والتزاحم العرفي موجود حسب الفرض في القسم الثاني ـ قد أبطلنا هذا الملاك وقلنا بأنّ الملاك في عدم منجّزيّة هذا العلم الإجمالي ليس ارتكاز عدم جريان الأصل ، بل الملاك شرطيّة الدخول في محلّ الابتلاء في صحّة التكليف .

وبعد المناقشة في هذا التصوير يجب تصوير الشبهة المفهوميّة على نحو صوّرها المحقّق النائيني; أي الشكّ في كون دائرة الابتلاء هل يشمل مفهومها عرفاً البلد الفلاني أم لا؟

فبناءً على هذا التصوير قد يقال بعدم التنجيز; للشكّ في فعليّة التكليف على أحد التقديرين ، وعدم العلم بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير ، لكن ذهب جمع إلى وجوب الاجتناب عن المشكوك ، ومنجّزيّة العلم الإجمالي .

الاستدلال بعدم خروج المشكوك بوجهين:

الوجه الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق النائيني; فإنّه بعد أن ذكر أنّ الشكّ في القدرة يستتبع الشكّ في ثبوت التكليف قال : لمكان العلم بالملاك ، وما هو المناط لانقداح الإرادة المولويّة يجري عليه حكم الشكّ في المسقط; لأنّ القدرة بكلا قسميها من العقليّة والعاديّة ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الأمريّة ، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها، والعقل يستقلّ بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن .

غايته: أنّه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك لا يلزم العقل برعاية الملاك ، بخلاف الشكّ فيها ، فإنّ العقل يلزم برعاية الاحتمال تخلّصاً عن الوقوع في


صفحه 203

مخالفة الواقع . فالشكّ في المقام ينتج نتيجة الشكّ في المسقط; أي في سقوط الملاك; وهو مجرى الاشتغال لا البراءة (1). انتهى كلامه .

وقد تأمّل في آخر كلامه، وأسقط هذا الوجه عن الاعتبار بعد إيراد المحقّق الكاظمي عليه ; بأنّ لازمه وجوب الاجتناب عن أحد طرفي المعلوم بالإجمال مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء ; للعلم بتحقّق الملاك أيضاً في أحد الطرفين ، ولا دخل للابتلاء وعدمه في الملاك ، فلو كان العلم بثبوت الملاك يقتضي وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين مع الشكّ في خروج الآخر عن مورد الابتلاء ،فليقتض ذلك أيضاً مع العلم بخروج أحدهما عن مورد الابتلاء .

ثمّ إنّ المحقّق العراقي(2) ذهب إلى عدم تماميّة إيراد الكاظمي على اُستاذه وقال : الفرق موجود بين الشكّ في القدرة في مورد وجود المصلحة ، وبين الشكّ في وجود المصلحة في المقدور .

والأوّل موضوع حكم العقل بالاحتياط ، والثاني ليس من باب الشكّ في القدرة; بل إمّا مقدور جزماً ، وإمّا غير مقدور جزماً . وإنّما الشكّ في أنّ ظرف المناط أيّما كان ، ومرجعه إلى الشكّ في أصل المناط ، وقال في آخر كلامه : ليس العجب من المتوهّم (الكاظمي) اشتباه الأمر عليه ، وإنّما العجب من اُستاذه كيف قنع بهذا الإشكال؟ فما ذهب إليه النائيني تامّ .

الوجه الثاني : ما أفاده الشيخ الأنصاري من التمسّك بإطلاق ما دلّ على حرمة الشيء ، والقدر المتيقّن خروج ما علم منه عدم الابتلاء ، فإنّ الخطاب بالنسبة إليه مستهجن، فبقي الباقي ; أي ما عُلم الابتلاء به ، وما هو مشكوك الابتلاء (3).


(1) فوائد الاُصول 4: 55 ـ 57.
(2) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4 : 56 ـ 57.
(3) فرائد الاُصول 2: 237 ـ 238.

صفحه 204

والسرّ في ذلك حسب تفسير المحقّق النائيني أنّ التخصيص بالمجمل مفهوماً ـ المردّد بين الأقل والأكثر ـ لا يمنع عن التمسّك بالعامّ فيما عدا القدر المتيقّن من التخصيص وهو الأقل ، والتمسّك بالإطلاق فيما نحن فيه أولى; لأنّ المقيّد لبيّ، والتمسّك فيه بالإطلاق جائز حتّى في الشبهة المصداقيّة، فضلاً عن الشبهة المفهوميّة .

ثمّ إنّه منع أوّلاً: من كون هذا القيد من الأحكام العقليّة الضروريّة حتّى ينطبق عليه حكم المخصّص المتّصل الذي يسري إجماله إلى العامّ ، وذهب ثانياً: إلى أنّ سراية إجمال المخصّص اللفظي المتّصل ، أو العقلي الضروري إنّما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيّاً غير مختلف المراتب ، وتردّد مفهومه بين الأقلّ والأكثر ، كمفهوم الفاسق .

أمّا إذا كان عنواناً ذا مراتب مختلفة ، وعلم بخروج بعض مراتبه عن العامّ ، وشكّ في خروج بعض آخر، فلا يسري إجماله إلى العامّ; لأنّ الشكّ في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشكّ في ورودمخصّص آخرللعامّ، غير ما علم التخصيص به(1) .

وما ذهب إليه أوّلاً وإن كان صحيحاً لا غبار فيه ، إلاّ أنّ المطلب الثاني لا يخلو عن إشكال، كما بيّنه المحقّق العراقي ، قال : كلّ من قال بحجّيّة الألفاظ من باب أصالة الظهور، يلتزم بأنّه إذا أتّصل بالكلام ما يشكّ ولو بدواً في قرينيّته يضرّ بانعقاد الظهور ، وهذا الحكم العقلي وإن فرضنا عدم تردّده بين الأقل والأكثر، بل كان موجباً للشكّ في التخصيص بدواً; يمنع هذا المقدار من انعقاد أصل الظهور ، من دون احتياج إلى ضمّ عنوان واقعيّ كان مفهومه مردّداً بين الأقلّ والأكثر(2) .

على أنّ هناك إشكالاً آخر يرد عليه ، وهو عدم وجود الفرق بين كون المفهوم


(1) فوائد الاُصول 4: 58 ـ 60.
(2) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4: 60.

صفحه 205

ذا مراتب مختلفة ، وبين كونه غير مختلف المراتب ; فإنّ الشبهة في كلا القسمين مفهوميّة ، ونفس إجمال المفهوم في المخصّص المتّصل اللفظي وما هو بحكمه يسري إلى العامّ; فإنّ الملاك في السراية نفس وجود الإجمال في المفهوم ; سواء كان له مراتب مختلفة، أم لا ، فتدبّر . ولعلّ المحقّق النائيني التفت إلى هذا الإشكال وأمر بالتأمّل في آخر كلامه .

وقال الشهيد الصدر : كأنّه ضاع مراد المحقّق النائيني على مقرّر بحث المحقّق العراقي ، فتخيّل أنّ المقصود هو: أنّ مفهوم الخارج عن محلّ الابتلاء ذو مراتب ، وقد خرج عن العامّ بجميع مراتبه ، وشكّ في أنّ مرتبته الضعيفة داخلة في محلّ الابتلاء أم لا؟ فأورد عليه بأنّ هذا خلف فرض سريان إجمال المخصّص المتّصل إلى العامّ في تمام الموارد .

إلاّ أنّ مقصود المحقّق النائيني (قدس سره) لم يكن ذلك ، بل المقصود أنّ بعض مراتب الخروج عن محلّ الابتلاء يفرض خروجه عن العامّ بالمخصّص; لوضوحه عند العقل، وتضعف درجة الوضوح هذا إلى أن تنعدم في بعض مراتب الخروج عن محلّ الابتلاء ، فلا يحكم العقل بعدم صحّة جعل الحكم فيه ، فلا يكون خارجاً بالمخصّص اللبّي المتّصل ، فيتمسّك فيه بالعامّ مطلقاً ، أو في خصوص الشبهة المفهوميّة حسب اختلاف المباني(1) ، انتهى كلامه .

ثمّ قال المحقّق النائيني في آخر كلامه : إنّ الابتلاء بالموضوع ليس كالعلم من القيود المتأخّرة عن التكليف وجوداً ، حتّى لا يصحّ التمسّك بالإطلاق في نفي ما شكّ في اعتباره; بل هو من الانقسامات السابقة عليه ; لأنّ القدرة العاديّة كالقدرة العقليّة من الأوصاف العارضة على المكلّف قبل توجّه التكليف إليه ، وعلى فرض


(1) بحوث في علم الاُصول 5: 297.

صفحه 206

تسليم كون الابتلاء من القيود المتأخّرة ، لكن مجرّد هذا لا يجعله من شرائط التنجيز ; فإنّه منحصر بالعلم والوصول ، أو ما يقوم مقام العلم ; فإنّ الملاك في شرطيّة التنجيز هو كون الشيء موجباً لوصول التكليف ، وقيد الابتلاء ليس ممّا يوجب التكليف(1) .

ويتوجّه عليه إيرادان :

الأوّل : ما ذكره المحقّق العراقي; من أنّ معنى تنجيز الخطاب وصوله بمثابة يوجب استحقاق العقوبة على مخالفته، وكما أنّ للوصول دخلاً، كذلك للقدرة عليه أيضاً دخل في فعليّة استحقاق العقاب ، فلا معنى لحصر أسباب التنجيز بخصوص الوصول(2) .

الثاني : ما ذكره نفسه (قدس سره) من أنّه بعد تسليم كون الابتلاء من القيود المتأخّرة، لا مجال للتمسّك بالإطلاقات وإن لم يكن من شرائط التنجيز ; ضرورة أنّه لاملازمة بين عدم كونه شرطاً للتنجيز ، وبين صحّة التمسّك بالإطلاق ; إذ يكفي في المنع عن التمسّك بالإطلاقات مجرّد كونه من الانقسامات المتأخّرة ، فالأولى منع كونه من القيود المتأخّرة(3).

ولا يذهب عليك أنّ في تفسير كلام الشيخ الأنصاري يوجد احتمالان :

الاحتمال الأوّل : وهو الأظهر وفاقاً للمحقّق الآشتياني(4)، أنّ مقصوده (قدس سره) هو: أنّ المقيّد اللبّي ليس كالمقيّد المتّصل الذي يسري إجماله إلى العامّ، ولايجوز التمسّك فيه بالإطلاق ، بل من قبيل المقيّد المنفصل الذي لا يسري إجماله إلى العامّ .


(1) فوائد الاُصول 4: 63 ـ 65.
(2) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4: 63 ـ 64.
(3) حاشية فوائد الاُصول للمحقّق العراقي 4: 64.
(4) بحر الفوائد 2: 104.

صفحه 207

وعلى هذا يمكن أن يرد على الشيخ منع هذا المبنى ; فإنّ الملاك في الاتّصال ، أو الانفصال هو العرف والعقلاء ، وهم يرون المقيّد اللبّي متّصلاً .

الاحتمال الثاني : أنّ المقيّد اللبّي المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر، هل هو كالمقيّد اللفظي المنفصل، أم لا؟

وبعد هذا الكلام نقول : قد اُورد على الشيخ إيرادات ثلاثة لا يمكن الجواب عن جميعها وإن اُجيب عن بعضها .

الإيراد الأوّل : ما ذكره صاحب الكفاية; من أنّ التمسّك بالإطلاق إثباتاً فرع إمكان ثبوته ، والشكّ في المقام في إمكان ثبوته ، فلا معنى للتمسّك بالإطلاق(1) .

وأجاب عنه المحقّق النائيني حلاًّ ونقضاً .

أمّا الحلّ; فلأنّ الأمر بالعكس; أي إنّ الإطلاق إثباتاً كاشف عن وجود الإطلاق ثبوتاً وفي نفس الأمر ، كما أنّ الخطاب كاشف عن وجود الملاك في نفس الأمر ، فمن هذا الإطلاق نستكشف عدم استهجان التكليف في مورد الشكّ ، كما يستكشف من إطلاق قوله (عليه السلام) : «اللّهمّ العن بني اُميّة قاطبة»(2) عدم إيمان من شكّ في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة .

وأمّا النقض; فبأنّ هذا البيان موجب لسدّ باب التمسّك بالإطلاقات ، ففي جميع موارد التمسّك يكون الشكّ موجوداً في نفس الأمر(3) .

وقد فسّر المحقّق العراقي(4) عبارة الكفاية بما يسلم من هذين الإيرادين ، ولكنّ التفسير لا يستفاد من ظاهر العبارة أصلاً ; لأنّه راجع إلى كلتا العبارتين . فإيراد


(1) كفاية الاُصول: 410 كما فسّره بهذه العبارة السيّد الخوئي في مصباح الاُصول 2: 462، والشهيد الصدر في بحوث في علم الاُصول 5: 295.
(2) كامل الزيارات: 332 ح556، وعنه بحار الأنوار 101: 293 ح1.
(3) فوائد الاُصول 4: 61 ـ 62.
(4) حاشية فوائد الاُصول 4: 57 ـ 58 و 61.

صفحه 208

المحقّق الخراساني غير تامّ .

الإيراد الثاني : أنّ وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة لا يستفاد من مجرّد قوله : «اجتنب عن النجس» حتّى يتمسّك بالإطلاق في الموارد المشكوكة ، بل يستفاد منه بضميمة حكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة; ولا جريان للإطلاق في الحكم العقلي ; لأنّه من الأدلّة اللبّيّة ، والإطلاق من أوصاف اللفظ .

واُجيب عن هذا الإيراد بأنّ المراد هو التمسّك بالإطلاق الموجود في أدلّة أخبار الاحتياط ، لكن هذا الجواب مخالف لصريح عبارة الشيخ ، فراجع .

الإيراد الثالث : أنّ الرجوع إلى الإطلاق إنّما يصحّ لدفع القيود التي كانت في مرتبة المقيّد ، مع أنّ الابتلاء بحكم العقل والعرف من شرائط تنجّز الخطاب . والتمسّك بالإطلاق إنّما هو في مرتبة الإنشاء ، وبعد تماميّة هذين الإيرادين ينتج أنّ التمسّك بالإطلاق غير تامّ جدّاً ، والصحيح هو التمسّك بما ذهب إليه النائيني من كونه شكّاً في المسقط، وعدم إيراد المحقّق الكاظمي عليه كما سبق تفصيله .

فإن قلت : إذا كان الابتلاء من شرائط تنجّز التكليف ، فما هو المعنى لوجود التكليف عند الشكّ في الشرط؟

قلت : هذا مسلّم ; فإنّ المشروط ينتفي عند انتفاء الشرط ، ومشكوك عند الشكّ في الشرط .لكن لاندّعي أنّ التكليف المشروط بهذاالشرط موجود ، بل حكم العقل بلزوم الاحتياط موجود في فرض العلم بالملاك ، وهذا غير مشروط بالتنجّز .

فتحصّل من جميع ما ذكرنا في هذا المقام أنّ المرجع عند الشكّ هو الاحتياط; من باب أنّ الشكّ شكٌّ في المسقط . وهو مجرى الاحتياط ، ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة .

الحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً

سنة 1416 من الهجرة النبويّة


صفحه 209

رسالة في نظريّة العدالة في الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه

وقد ألّفت في سنة 1419 هـ . ق بمناسبة مؤتمر الإمام الخميني (قدس سره)
والفكرة و رويّة الحكومة الإسلاميّة

كانت هذه الرسالة باللغة الفارسيّة بقلم المؤلّف حفظه الله
وقد نُقلت إلى اللغة العربيّة


صفحه 210


صفحه 211

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

إنّ بالإمكان دراسة مشروعيّة(1) في لزوم إقامة الحكومة الإسلاميّة تحت زعامة الفقيه الجامع للشرائط من أبعاد مختلفة .

وقد ذهب بعض فقهاء الإماميّة إلى إثبات الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه عن طريق الحسبة ، أو تحت عنوان الأمر بالمعروف; من جهة أنّ الحكومة الإسلاميّة أعلى وأسمى أشكال المعروف(2) ، وذهب البعض الآخر إلى إثباتها عن طريق العقل، أو الدليل التلفيقي من العقل والنقل على أساس ضرورة وجود الحاكم لحفظ نظام المجتمع ومعيشة الناس ، والقدر المتيقّن في سماة الحاكم أن يكون فقيهاً عارفاً بأحكام الإسلام وأبعاده المختلفة (3).

وفي هذا المقال تحرّكنا من زاوية اُخرى لإثبات مشروعيّة الحكومة


(1) المقصود من المشروعيّة في هذه المقالة ، هو المعنى الخاصّ لها ; أي الحقّانيّة . وليس المراد منها هو المعنى العامّ المستخدم في العلوم السياسيّة (أعمّ من الحقّانيّة وعدمها) .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3: 553 وما بعدها.
(3) كتاب البيع للإمام الخميني (قدس سره) 2: 623 وما بعدها.

صفحه 212

الإسلاميّة إجمالاً . وبعبارة اُخرى : دراسة مشروعيّة، بل ضرورة ولاية الفقيه من منهج آخر على نحو الإجمال، رغم أنّ الدراسة الفقهيّة الدقيقة والمستوعبة بحاجةإلى مجال أوسع وتدبُّر أكثر . وقد تمّت الإشارة إلى هذا المنهج في كلمات الإمام الخميني (قدس سره) بنحو الإجمال(1) .

وفي عمليّة إثبات مشروعيّة ولاية الفقيه بهذا المنهج، لا نجد أنفسنا بحاجة إلى الاستدلال بأدلّة الحسبة ، أو أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو روايات بحث ولاية الفقيه من قبيل: العلماء ورثة الأنبياء(2)، أو العلماء أُمناء الرُّسل(3) . وليس من اللازم أيضاً التمسّك لإثبات أصل الولاية بهذا المنهج بمقبولة عمر بن حنظلة(4)، والتوقيع الشريف لإمام العصر(5) (عليه السلام) ; لأنّ هذا المنهج يقوم على قاعدة متماسكة للكثير من محكمات القرآن الكريم، والروايات المعتبرة التي سوف يُشار إليها لاحقاً .

في هذا المنهج نلاحظ هامشيّة إلغاء مسألة لزوم بيعة الناس مع الفقيه ، في حين أنّ المناهج الاُخر تأخذ بنظر الاعتبار الحاجة إلى البيعة في مسألة إثبات ولاية الفقيه .


(1) كتاب البيع للإمام الخميني (قدس سره) 2: 617 وما بعدها.
(2) الكافي 1: 32 ح2، وعنه وسائل الشيعة 27: 78، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح2.
(3) كنز العمّال 10: 183 ح28952 وص204 ح29083، الكافي 1: 46 ح5، وفيه: «الفقهاء اُمناء الرسل»، وكذا في نوادر الراوندي: 156 ح226، وعنه مستدرك الوسائل 13: 124، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب35 ح8 .
(4) الكافي 1: 67 ح10، تهذيب الأحكام 6: 218 ح514 وص301 ح845 ، الاحتجاج 2: 260، الرقم 232، وعنها وسائل الشيعة 27: 136، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح1.
(5) وهو: قوله (قدس سره) : «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» . كمال الدِّين: 484 ح4، الغيبة للطوسي: 291 قطعة من ح247، الاحتجاج 2: 543 قطعة من الرقم 344، وعنها وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب9 ح9.

صفحه 213

ويتلخّص هذا المنهج في نقاط :

الاُولى: أنّ الهدف الأساسي لبيان الأحكام ، وإيجاد الأديان ، وإرسال الأنبياء(عليهم السلام) ، وإنزال الكتب السماويّة، عبارة عن تحقّق العدالة بمعناها الأوسع، الذي سوف يأتي الحديث عنه .

وتحقّق العدالة واجب في دائرة العقل، والقرآن، والروايات .

الثانية: أنّ جعل الولاية للأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) ليس من جهة أنّ الشارع المقدّس أراد إعطاء القدرة الظاهريّة لهم ، بل من أجل تحقّق العدل بمعناه الواسع بين الناس(1) . فالشارع جعل الولاية للأنبياء(عليهم السلام)، وخاصّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) من حيث ارتباطهم بمصدر الوحي النورانيّ، وصلتهم الوثيقة بالتعاليم السماويّة ، فكانوا أوثقالناس، وأعرفهم بعمليّة تلقّي الوحي، وتطبيقه في حركة الواقع الاجتماعي ، وإلاّ فمع قطع النظر عن هذه الجهة، لا يمكن تصوير وجه صحيح لهذا الأمر .

الثالثة: أنّه يستفاد من الروايات التي تقرّر بأنّ «العلماء ورثة الأنبياء» ، و«اُمناء الرُّسل» أنّ هذا المنصب قد جعله الله ـ تعالى ـ للفقهاء الجامعين للشرائط ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ تحقّق العدالة لا يختصّ بالأنبياء والأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) ، بل يشمل كلّ من له معرفة جيّدة بالعدالة من خلال الارتباط بالقرآن، والسنّة الشريفة ، وبالتالي من وجوب تحقّق العدالة يتبيّن حينئذ لزوم ولاية هذه الفئة على الناس ، وسيتمّ توضيح هذا المطلب أكثر فيما بعد .

الفقيه الجامع للشرائط يستطيع تحقّق العدالة بمعناها الواقعي في المجتمع ،حيث نعتقد بأنّ أعرف الناس بحقيقة العدالة، وأبعادها، وجزئيّاتها، هم المتعمّقون في الدِّين، والمحقّقون في كتاب الله وسنّة نبيّه الكريم (صلى الله عليه وآله) ، وهذا المعنى يتجسّد في


(1) كما في قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـبَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) سورة الحديد 57 : 25.

صفحه 214

الفقهاء .

الإمام الخميني (قدس سره) يقرّر هذا المعنى في خطبته بتاريخ 2 / 6 / 1365 هـ .ش، المطابق لسنة 1406 هـ . ق ، بمناسبة عيد الغدير ويقول :

إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ علم بأنّه لا أحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإمكان تحقّق العدالة بما في الكلمة من معنى، وبالصورة المطلوبة ، فأمر رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) بأن ينصب لذلك من يتمتّع بالقدرة الكافية لتحقّق العدالة بجميع معانيها في المجتمع ، وتكون حكومته حكومة إلهيّة(1) .

ويتبيّن من هذا المقطع من كلام الإمام أنّ فلسفة الغدير والغاية المهمّة من نصب الإمام (عليه السلام) هي إقامة العدل .

إنّ ما جعل أساس الإمامة ضروريّاً في الإسلام هو: أنّ الشخص الوحيد القادر على تحقّق العدالة بمعناها الواقعي في المجتمع هو الإمام (عليه السلام) ; لأنّ العدالة في مفهومها وتعريفها هي وضع الشيء في موضعه ، وهذا المفهوم الواسع للعدالة ـ الشامل لجميع الأبعاد الوجوديّة للإنسان، وجميع موجودات العالم، وارتباط الإنسان مع غيره ـ لا يعلمه سوى الإمام (عليه السلام) .

إنّ الإمام المعصوم (عليه السلام) ومن خلال العلم الواسع الذي أودعه الله ـ تعالى ـ فيه; يمكنه تبيين العدالة للمجتمع الإنساني، وبالتالي العمل على تحقّقها .

المراد من العدالة

إنّ المراد من العدالة في هذا البحث ليس هي الملَكة النفسانيّة التي تعدّ إحدى فضائل النفس، بل أكمل فضائلها، والتي تقع مورد البحث الفقهي، وتعتبر شرطاً في


(1) صحيفه امام (رحمه الله) 20: 112.

صفحه 215

إمام الجماعة، أو الجمعة، أو الشاهد، وأمثال ذلك ، كما أنّ المراد منها ليس هو المفهوم من العدالة في دائرة الصفات الإلهيّة; أنّه تعالى لا يظلم أحداً إطلاقاً في جميع الظروف ، بل يجازي كلّ إنسان بعمله .

فالمراد من العدالة في هذا البحث هو معنى ثالث، ويمكن التعبير عنه بعنوان العدالة الاجتماعيّة بالمعنى الذي نطرحه فيما بعد .

قد يخطر إلى الذهن في البداية، المعنى المحدود لهذه الكلمة ; وهو لزوم مراعاة العدالة الاقتصاديّة في طبقات المجتمع، حيث يقوم الحاكم أو القائد بتوزيع المنابع الماليّة، والقدرات الاقتصاديّة الموجودة في المجتمع على أفراده بشكل صحيح ومنطقيّ، لا أن تجتمع الثروات بيد فئة معيّنة أو شخص خاصّ .

ولكن بعد التأمّل والدقّة في مفهوم العدالة نجد أنّه بإمكاننا توسعة هذا المفهوم إلى أُفق أسمى لا يقتصر على المسائل الاقتصاديّة والماليّة في المجتمع ، بل يستوعب جميع الأبعاد الموجودة في المجتمع البشري، وجميع العلاقات المرسومة بين أفراد البشر ، بل بين الإنسان وغيره أيضاً ; لأنّه بالعدل قامت السماوات والأرض(1) .

إنّ العدالة الاجتماعيّة بهذا المعنى الشامل، تستوعب جميع الحقوق الفرديّة، والاجتماعيّة للإنسان، وجميع أشكال الحقوق المعتبرة للإنسان ، فيدخل في هذه الدائرة حقوق الأديان ، والمذاهب ، والقوميّات ، وجميع الحقوق التي لله ـ تعالى ـ على الإنسان، والمجتمع الإنساني . وكذلك تشمل جميع اُمور الإنسان بصورة كاملة ; سواء في الاُمور العباديّة ، والسياسيّة ، والاقتصاديّة ، والاجتماعيّة وأمثال ذلك .

وبالجملة : أنّ العدالة الاجتماعيّة بمعناها الواسع عبارة عن رعاية جميع ماينبغي وما لا ينبغي في جميع أبعاد الإنسان، والمجتمع الإنساني، وحتّى خالق


(1) عوالي اللّئالي 4: 103 ملحق ح 150، تفسير الصافي 5: 107، التفسير الكبير للفخر الرازي 7 : 261.

صفحه 216

الإنسان ، ومع تحقّق هذه العدالة يتحرّك جميع أفراد البشر في المسار الصحيح في دائرة العقيدة والممارسة إلى درجة أنّ كلّ فرد وكلّ موجود ينال نصيبه المقرّر له من الكمال .

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في توضيح المراد من الآية الشريفة : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الاِْحْسَـنِ} (1) العدل : الإنصاف. والإحسان : التفضّل(2) .

ويقول الفيلسوف الخواجة نصير الدِّين الطوسي في شرحه لكلام أرسطو :

إنّ الحكيم الأوّل (أرسطو) قسّم العدالة إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يكون مقتضى حقّ الله ـ تعالى ـ على الناس باعتباره واهب الخيرات، ومفيض الكرامات، بل سبب الوجود، وسبب كلّ نعمة تلحق بالوجود ، والعدالة في هذا القسم تقتضي أن يقوم العبد ببذل الجهد لرعاية حقّ المولى بقدر الوسع والطاقة.

الثاني : ما يكون مقتضى حقّ أبناء النوع على الإنسان من لزوم تعظيمالرؤساء، وأداء الأمانات، والإنصاف في المعاملات .

الثالث : العدالة في رعاية حقوق الأسلاف; من قبيل قضاء الديون، وإنفاذ الوصايا، وما عليهم من الحقوق(3) .

ونلاحظ في هذا الصدد أنّ المنادين بحقوق الإنسان بإمكانهم درك المعنى المحدود للعدالة الاجتماعيّة ، وبعد معرفة حدودها ومواردها في هذا الإطار المحدود يتحرّكون في دائرة ترجمتها على أرض الواقع العملي ، إلاّ أنّهم لا يتمكّنون من درك العدالة الاجتماعيّة بالمعنى الصحيح والواسع إطلاقاً .


(1) سورة النحل 16: 90 .
(2) نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح: 509 ، الحكمة 231، الدر المنثور 5: 141، روح المعاني 14: 610.
(3) اخلاق ناصري : 137 ـ 138.

صفحه 217

والحال أنّ هذا النحو من الإدراك والفهم لمتطلّبات العدالة يتوقّف قطعاً على الوحي الإلهي، والمعرفة الصحيحة لمفاهيم وعلوم القرآن والتعاليم الإلهيّة . فالعدالة الاجتماعيّة بمعناها الواسع لا يمكن معرفتها، وإدراك مدياتها القصّية إلاّ بمعونة الوحي .

هل يتسنّى لأحد معرفة حقوق الخالق ـ جلّ وعلا ـ على الإنسان، مع قطع النظر عن الوحي والتعاليم الإلهيّة ؟!

هل يتمكّن الإنسان من التوصّل إلى معرفة حقوق المذاهب، والأقلّيات الدينيّة، ومعارف الأديان من دون الاتّصال بنور الوحي ؟!

هل يستطيع أفراد البشر، وعلماء الحقوق والقانون إدراك العقوبات، والمقرّرات الجزائيّة المترتّبة على تخلّفات الإنسان في الدائرة الجزائيّة والقانونيّة، بدون الاستمداد من القرآن والسنّة ؟!

والأهمّ من ذلك كلّه ، هل يمكن معرفة حدود اختيارات الإنسان، والمساحات المسموحة لحريّته من دون الاسترفاد من هذا المنهل الإلهي الفيّاض ؟!

هل يمكن معرفة حقوق الإنسان على أبناء نوعه، من خلال الفكر المحدود والعقل الناقص للإنسان ؟!

الإنسان المعاصر عاجز حتّى من بيان ومعرفة الحقوق الابتدائيّة للوالدين على الأبناء . .

فعلى هذا يتّضح أنّ المبيّن والمعرّف لهذه العدالة الاجتماعيّة ليس سوى الوحي فحسب ، والمبيّن لهذه العدالة من أفراد البشر لابدّ أن يكون على صلة بالوحي، كالأنبياء(عليهم السلام)، أو على معرفة دقيقة به كالأئمـّة المعصومين(عليهم السلام) .


صفحه 218

وجوب تحقّق العدالة

إنّ أوّل سؤال يخطر في الذهن بعد توضيح معنى العدالة، ويدعو الإنسان إلى التفكير والتأمّل هو : ما الدليل على وجوب تحقّق مثل هذه العدالة ؟ وهل يجب إجراء العدالة بالمعنى الواسع في المجتمع ؟

وبعبارة اُخرى : أنّه قد يتصوّر أنّ هذه العدالة بمعناها الواسع; هي أمر مثاليّ لايمكن ترجمته إلى أرض الواقع العملي ، أو إذا أمكن ذلك، فيقتصر على الممارسات الفرديّة فقط، ويكون أمراً جيّداً ومحموداً ، ولكن لا دليل على وجوب تحقّق هذه العدالة على مستوى المجتمع . وخاصّة في زمن الغيبة، حيث يكون المجتمع محروماً من حضور المعصوم (عليه السلام) ; وهو العارف بالوحي واقعاً .

أدلّة وجوب تحقّق العدالة

على هذا الأساس لابدّ من ذكر أدلّة وجوب تحقّق العدالة بمعناها الواسع :

الدليل الأوّل : العقل، بمراجعة العقل السليم يتّضح أنّ العقل يرى ضرورة تحقّق مثل هذه العدالة مع توفّر المقدّمات والشروط ; لأنّ التخلّف عنها، وعدم التحرّك من أجل تنفيذها في حركة الحياة يعتبر نوعاً من الظلم ، والظلم قبيح بنظر العقل المستقلّ .

الدليل الثاني : القرآن، لقد تمّ التأكيد في موارد كثيرة من القرآن الكريم على لزوم إجراء العدالة ، بل يستفاد من الآيات الشريفة أنّ الهدف من نصب الخلفاء(عليهم السلام)، وإرسال الرسل والأنبياء(عليهم السلام) هو إجراء العدالة والحكم بالحقّ .

وفي هذا المجال نلفت النظر إلى عدّة آيات قرآنيّة تقرّر هذا المطلب :

1 ـ قوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الاِْحْسَـنِ} (1) .


(1) سورة النحل 16: 90 .

صفحه 219

في هذه الآية الشريفة يأمر الله ـ تعالى ـ بالعدالة بشكل مطلق وكلّي ، ومن الواضح أنّ المقصود من العدل والعدالة هنا ليس هو المحدود في دائرة الاُمور الماليّة والاقتصاديّة ، بل المقصود هو العدل في جميع الاُمور ، فالعدل بمعناه الواسع هو المراد لله تعالى ، ويستفاد الوجوب من كلمة «يأمر» بصورة جيّدة .

بعض العلماء ذهب في تفسير الآية الشريفة إلى أنّ المراد بالعدل هنا: أداء الواجبات ، والمراد بالإحسان: هو الإتيان بالمستحبّات(1) ، بينما ذهب آخرون إلى أنّ العدل: هو التوحيد ، والإحسان: هو أداء الأعمال الواجبة(2) . وذهب فريق ثالث إلى أنّ العدل: هو تناغم الظاهر مع الباطن ، والإحسان: هو أن يكون باطن الشخص أفضل من ظاهره(3) .

ولكن بما أنّ الآية الشريفة لم تحدّد المراد من العدالة في أيّ من هذه المعاني المذكورة ، فيستفاد أنّ مقصود الآية هي العدالة بمعناها الواسع كما تقدّم . والملاحظة التي تستدعي التدبّر في الآية الشريفة هي : هل المستفاد من كلمة «يأمر» هوالوجوب التكليفي، أو الوجوب الإرشادي ؟

وبعبارة اُخرى : أنّ من المحتمل أن يكون الأمر الإلهي في هذه الآية الشريفة أمراً إرشاديّاً ، وخاصّة إذا أخذنا بتفسير العدل على أساس أنّه أداء الواجبات ، فمن الواضح : أنّ أداء الواجبات لا يمكن أن يكون أمراً تكليفيّاً ، بل هو أمر إرشاديّ .

وفي الجواب عن ذلك يمكن القول : بأنّ الدقّة في كلمة «يأمر» تستدعي الوجوب التكليفيّ ، ولا أقلّ من الوجوب بالمعنى الأعمّ من التكليفي والإرشادي ; يعني أنّ أحد الواجبات الشرعيّة والإلهيّة، إيجاد العدالة وتحقّقها في المجتمع


(1) التبيان في تفسير القرآن 2: 418، روض الجِنان وروح الجَنان 12: 84.
(2) جامع البيان 14 : 198، الدر المنثور 5: 140، روح المعاني 14: 609 ـ 610، مجمع البيان 6: 180.
(3) مجمع البيان 6: 180 ، روح المعاني 14: 609 ـ 610، تفسير نمونة 11: 368.

صفحه 220

البشري ، والأشخاص القادرون على امتثال هذا الأمر الإلهي، وهم لا يذعنون له يستحقّون العقاب ، ومجرّد درك العقل لوجوب إجراء العدالة لا يلازم كون الأمر بها إرشاديّاً .

والملاحظة الاُخرى في هذه الآية هي: أنّ الآية الشريفة تتضمّن تكليفاً مهمّاً للأفراد والمجتمع، وليست في مقام الإخبار .

وبعبارة اُخرى: إنّ الجملة في الآية ليست جملة إخباريّة ، بل هي في مقام الإنشاء ، أمّا الاحتمال الذي طرحه البعض في حديث: الناس مسلّطون على أموالهم(1); من أنّ هذه العبارة خبريّة، ولا دلالة لها إطلاقاً على الحكم(2) ، لا يرد في هذه الآية الشريفة .

2 ـ قوله ـ تعالى ـ : {يَـدَاوُ دُ إِنَّا جَعَلْنَـكَ خَلِيفَةً فِى الاَْرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (3) .

هذه الآية الشريفة التي ورد ذيلها بـ «فاء التفريعيّة» تقرّر أنّ الحكم بينالناس بالحقّ هو أحد آثار ونتائج خلافة داود (عليه السلام) . ومن الواضح: أنّ المراد بالحقّ هنا لا يقتصر على مورد المنازعة والمخاصمة الجزئيّة ، بل يشمل هداية المجتمعوأفراد البشر إلى الحقّ والكمال، وإيجاد الأرضيّة المساعدة لتعالي الإنسان ورشده المعنوي والأخلاقي، بواسطة القوانين الإلهيّة، وتبيين كافّة الحقوق للفرد والمجتمع .

3 ـ قوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الاَْمَـنَـتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (4) .


(1) الخلاف 3: 176 مسألة 290، عوالي اللئالي 1: 222 ح99 وص457 ح198 وج3: 208 ح49، بحار الأنوار 2: 272 ح7.
(2) رسائل فقهيّة (تراث الشيخ الأعظم): 119، اوثق الوسائل في شرح الرسائل: 422ـ423.
(3) سورة ص 38: 26 .
(4) سورة النساء 4: 58 .

صفحه 221

ويستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ الحكم بالعدل بين الناس واجب، كما هو الحال في وجوب ردّ الأمانة إلى أهلها ، ويمكن أن يستشكل البعض بأنّ الحكم بالعدل في هذه الآية غير مطلق ، بل مقيّد بحدوث المنازعة بين الناس .

ولكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ كلمة الحكم بالعدل مطلقة ; أي كما أنّه شاملة لحكم القضاة ، كذلك شاملة لحكم الولاة والحكّام أيضاً، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسِّرين صراحةً(1) . وعلى هذا ليس الحكم بالعدل مقيّداً بحدوث النزاع ، بل هو عنوان كلّي لبيان أنّ مطلوب الشارع المقدّس هو الحكم بالعدل بين الناس في المجتمع الإسلامي ، وبعبارة اُخرى: إنّ الحكم بالعدل في هذه الآية هو ما تقدّم في الآية السابقة من الحكم بالحقّ .

4 ـ قوله ـ تعالى ـ : {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّ مِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَ لِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ} (2) .

في هذه الآية الشريفة يأمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين بالقيام لتحقّق القسط والعدل .

كلمة «قوّامين» جمع «قوّام» (صيغة مبالغة) تدلّ على التأكيد ; يعني قوموا كراراً لتحقّق هذا الأمر ، أو تدلّ على أنّ الإتيان بهذه الفريضة مهمّ في كلّ عصر وزمان ، وفي مختلف الظروف والأحوال .

وعلى هذا ، فالآية الشريفة تدلّ بوضوح على أصل وجوب القيام بالقسطوالعدل . ولكن هل أنّ القائم بذلك في البداية هم أفراد المجتمع ، أو الأنبياء والأئـمّة(عليهم السلام)، والفقهاء (قدس سرهم) ، بحيث يترتّب على بيان العدالة بواسطة الأفراد قيام المجتمع بالقسط ؟ فذلك بحث آخر سيأتي توضيحه .


(1) الميزان في تفسير القرآن 4 : 378.
(2) سورة النساء 4: 135 .

صفحه 222

الدليل الثالث ، الروايات: لقد ورد تقرير مسألة العدل بالمعنى المذكور والتأكيد عليه في الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) ، وفي نظرة سريعة يمكننا استخراج عناوين مهمّة منها لتقرير هذا المطلب :

الأوّل: أنّ العدل وإقامة القسط يمثِّل أساس الدِّين إلى جانب التوحيد . وقد ورد بهذا المعنى أحاديث متعدّدة، منها : قوله (عليه السلام) : إنّ أساس الدِّين التوحيد والعدل(1) .

وعلى هذا الأساس لو لم تؤخذ العدالة بنظر الاعتبار، أو لم يتمّ إيجادها في المجتمع ، فالدّين سوف يفقد رصيده على مستوى التواجد، والحضور في الساحة الاجتماعيّة ، وتحقّق الدِّين وحضوره في المجتمع مبتن على أساس التوحيد والعدل .

وهذا; يعني أنّ الحكومة الدينيّة إذا استطاعت إقامة العدل في المجتمع ، أمكنها أن تدّعي أنّ الدِّين قائم ومتحقّق في المجتمع .

الثاني: أنّ الحكمة الأساسيّة للولاية والإمامة هي إيجاد العدل والقسط بين الناس ، فقد ورد في بعض الروايات قوله (عليه السلام) : إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله(2) .

فهذا الحديث الشريف يحصر الهدف من الإمامة والولاية في إقامة القسط والعدل . ومن الواضح: أنّ المراد من العدل هذا هو جميع أبعاده ، وإلاّ فإنّ إيجاد العدالة في موارد محدودة ممكن لغير الإمام (عليه السلام) أيضاً ، أمّا ما لا يقدر عليه سوى الإمام (عليه السلام) ، فهو تحقّق العدالة بالمعنى الواسع المذكور سابقاً .

الثالث: أنّ الأساس في ولاية الوالي العادل هي إقامة الحقّ وإبطال الباطل ، حيث نقرأ في بعض الروايات قوله (عليه السلام) : إنّ في ولاية والي العدل . . . إحياء كلّ حقّ وكلّ عدل(3) .


(1) التوحيد: 96 ح1، معاني الأخبار: 11 ح2، وعنهما بحار الأنوار 4: 264 ح13 وج5: 17 ح23.
(2) الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة: 37، وعنه بحار الأنوار 10: 351 ح11.
(3) تحف العقول: 332، وعنه بحار الأنوار 75: 347 ح49.

صفحه 223

وما هو جدير بالتأمّل في هذه العبارة هو جملة «إحياء كلّ حقّ» بصيغة القضيّة العامّة، حيث يتمّ إحياء كلّ حقّ وعدل ببركة ولاية العادل .

ويمكن أن يتوهّم أنّ كلمة «في» في هذه الرواية تدلّ دلالة واضحة على أنّ إقامة الحقّ، وحراسة الحقوق لجميع الأفراد، وإيجاد العدل بجميع معانيه، هي أحد شؤون الولاية والإمامة . وهذا ـ يعني إيجاد العدالة ـ لا يعتبر علّة تامّة لتحقّق ومشروعيّة الإمامة .

وفي مقام الجواب يجب القول أوّلاً : إنّه يحتمل قويّاً كون كلمة «في» الواردة في هذه الرواية بمعنى «الباء»; أي أنّ هذا الأمر يتحقّق ببركة ولاية والي العدل .

وثانياً : على فرض أنّ «في» تدلّ على الظرفيّة في هذه العبارة ، إلاّ أنّه لاملازمة بين وجوب إجراء العدالة، وبين كونها واقعة في سلسلة المعاليل للإمامة . بل هي في سلسلة العلل للإمامة ، والولاية تعتبر غاية لها .

الرابع: الفرق الأساسي بين الولاية المباحة، والولاية المحرّمة كامن في هذا الأمر ، فنرى أنّ بعض الروايات تقرّر هذا المعنى بقوله (عليه السلام) : فوجه الحلال من الولاية ، ولاية الوالي العادل(1) .

الخامس: أنّ المجتمع الذي يقع مورد رضا الله ـ تعالى ـ هو المجتمع الذي تُقام فيه العدالة بقوله (عليه السلام) : علامة رضا الله . . . عدل سلطانهم(2) .

السادس: تفضيل ساعة واحدة من العدل على سبعين سنة عبادة بقوله (عليه السلام) :

عدل ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة(3) .

وينبغي التدبّر لمعرفة الحكمة في كون ساعة واحدة من العدل أفضل من سبعين سنة من العبادة ، ومن الواضح عدم وجود خصوصيّة لذكر رقم سبعين


(1) تحف العقول: 332، وعنه بحار الأنوار 75: 347 ح49.
(2) تحف العقول: 40، وعنه بحار الأنوار 77: 145 ح36.
(3) جامع الأخبار: 327 ح918، وعنه بحار الأنوار 75: 352 ح61.

صفحه 224

سوى دلالته على أهمّية المطلب وعظمة مرتبة العدالة . وتتّضح حقيقة وكُنه هذا المطلب أكثر فيما لو ضممنا إليه الروايات التي تدلّ على عدم قبول العبادة من دون الولاية، حيث ورد التصريح في قوله (عليه السلام) : ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية(1) .

وهناك إشارة في بعض الروايات إلى جهات اُخر من المسألة، حيث يمكن بيانها بشكل إجماليّ من قولهم(عليهم السلام) : إنّ لمحمّد (صلى الله عليه وآله) اثني عشر إماماً عدلاً(2) .

فقد ورد في هذه الرواية وصف أوصياء النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالعدالة، حيث يتّضح أنّ الهدف من وصايتهم(عليهم السلام) هو تحقّق العدالة في المجتمع .

وبعبارة اُخرى: إنّ من المعلوم أنّ المقصود من وصف الأئـمّة(عليهم السلام) بالعدالة ليس بيان للملكة النفسانيّة ; لأنّه مع وجود العصمة لا يبقى معنى لوصف العدالة ، إذن فالمقصود من العدالة هو ذلك المعنى الواسع الذي ينحصر تحقّقه وإيجاده بهذه الفئة من الناس .

وهناك روايات كثيرة وردت في صدد ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) ، ولعلّه يمكن القول بالتواتر المعنوي ، بل التواتر اللفظي فيها، حيث يمكن الاستفادة منها في موضوعنا من قولهم(عليهم السلام) : يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً(3).

وهذا ـ يعني أنّ الأساس في حكومة الإمام المهدي (عليه السلام) العالميّة ـ تتمثّل في تحقّق القسط والعدل في المجتمع البشري .

النتيجة هي: أنّ تحقّق العدالة في نظر العقل والقرآن والروايات ، أمرٌ ضروريّ


(1) المحاسن 1: 445 ح1033، الكافي 2: 18 ح1 ، وص21 ح8 ، وعنهما وسائل الشيعة 1: 18، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات ب1 ح10.
(2) مقتضب الأثر: 16، وعنه بحار الأنوار 36: 221 ح20 وعوالم العلوم والمعارف والأحوال 15 / 3: 83 ب3 قطعة من ح1.
(3) بحار الأنوار 36: 203 ـ 416 عدّة أحاديث، وج51: 66 ـ 161 ب1 ـ 10.

صفحه 225

وواجب ، ويستفاد من مجموع الروايات أنّ أساس الإمامة يقوم على مسألة إيجادالعدالة في المجتمع البشري، لا إيجاد الرابطة العاطفيّة والمحبّة بين الإمام (عليه السلام) وأفراد البشر، رغم أنّ هذه الغاية الأخيرة تمثِّل أحد الاُمور المطلوبة في الشريعة .

إنّ الاعتقاد بالإمامة بمعناه الدقيق; يعني الاعتقاد بوجود شخص قادر على القيام بالعدل بين الناس، وإنقاذ المجتمع من كلّ أشكال التلوّث والانحطاط .

وأنّ الاعتقاد بالإمامة بمعناه الصحيح لا ينحصر في الاعتقاد القلبي بوصيّة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بخلافة الإمام (عليه السلام) من بعده، وحبّه والبراءة من أعدائه .

إنّ أكثر الروايات التي ورد فيها لفظ «الإمام» وردت إلى جانبه كلمة «العدل» بعنوان صفة، وخصوصيّة مهمّة وأساسيّة وغاية قصوى للإمامة ، ولذلك قال الإمام الخميني (قدس سره) : إنّ الهدف والغاية من الإمامة هي العدالة(1) .

المنفِّذون للعدالة في المجتمع

يتّضح من مجمل المطالب السالفة أنّ تحقّق العدالة أمر واجب على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه(عليهم السلام) . والإمامة بدون إجراء العدالة لم تكن يوماً مقصودة للشارع المقدّس .

أمّا ما نحن بصدد بحثه في هذا القسم، ولعلّه يمثِّل العمدة في هذا الموضوع هو : هل يختصّ وجوب إجراء العدالة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأوصيائه المعصومين(عليهم السلام) . أو يمتدّ ليشمل الفقيه الجامع للشرائط ؟

يستفاد من الآيات الشريفة التي تمّ الاستدلال بها آنفاً أنّ وجوب إجراءالعدالة لا يختصّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) أو أوصيائه(عليهم السلام) ، بل يشمل أشخاصاً آخرين أيضاً ، وهؤلاء الأشخاص ـ كما تقدّم سابقاً(2) ـ ليسوا سوى الفقهاء الجامعين للشرائط،


(1) راجع صحيفه امام (رحمه الله) 12: 280 و ج14: 472.
(2) في ص213 .

صفحه 226

حيث لا يوجد سواهم من لديه رابطة مع القرآن، وتعاليم النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام)على أساس التخصّص في هذا الأمر .

وهنا لابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار الروايات التي تقرّر خلافة العلماء الأئـمّة المعصومين والأنبياء(عليهم السلام) .

وهذه الروايات ـ من قبيل: العلماء ورثة الأنبياء(1)، أو العلماء اُمناء الرُّسل(2)، أو روايات اُخر في هذا الباب(3) ـ تدلّ دلالة واضحة على خلافة العلماء للأئـمّة المعصومين والأنبياء(عليهم السلام) ، إلاّ أنّ النقطة المهمّة هنا هي جهة التنزيل ، فهل جهة التنزيل هي أنّ العلماء اُمناء الرسل في بيان أحكام الدِّين وتبليغ الرسالة ، أو أنّ الوراثة والأمانة تتمثّل في الجهة الأصليّة والعمدة في المنزل عليه ؟

من الواضح أنّ الاحتمال الأوّل غير مقبول إطلاقاً ; لأنّ مجرّد بيان الأحكام وتبليغ الرسالة قد يتحقّق أحياناً من غير العلماء ، فلا حاجة لتنزيل العلماء منزلة الأنبياء(عليهم السلام) من هذه الجهة ، وعلى هذا الأساس فالاحتمال الثاني هو المتعيّن ، وهو: أنّ التنزيل يقصد به تلك الجهة الأصليّة للأنبياء والمرسلين(عليهم السلام) ، وهي إقامة العدل والقسط بمعناه الواسع والدقيق .

وفي هذا الصدد نذكر ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، حيث قال : اللّهم ارحم خلفائي ـ ثلاث مرّات ـ فقيل له : يارسول الله مَنْ خلفاؤك ؟ قال : الذين يأتون من بعدي، ويروون عنّي أحاديثي وسنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي(4) .

ومن الواضح: أنّ المراد من «خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله) » لا يتعيّن بالأئمـّة


(1، 2) تقدّمتا في ص212.
(3) وسائل الشيعة 27 : 77 ـ 105 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب 8 .
(4) عيون أخبار الرضا (قدس سره) 2: 37 ح94، معاني الأخبار: 374 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 27: 92 كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح53.

صفحه 227

المعصومين(عليهم السلام) ; لأنّ شأنهم أعلى من كونهم «يروون عنّي أحاديثي»، فعلى هذايستفاد من الرواية أنّ الفقهاء خلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومنزّلون منزلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّه لاينبغي توهّم أنّ هذه الرواية تقرّر خلافة الفقهاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ; من جهة بيان الأحاديث وسنّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فحسب . وبالتالي لا تدلّ على ولايتهم ; لأنّ التعبير بجملة «الذين يروون عنّي» لها حيثيّة تعليليّة للخلافة ، لا حيثيّة تقييديّة ، والخلط بين هاتين الجهتين هو السبب في هذا التوهّم .

وبعبارة اُخرى: إنّ مرجع هذا التعبير هو مرجع التعبير الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة في قوله (عليه السلام) : ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا(1).

إنّ المعرفة بالأحكام، بل جميع الأحكام تختلف كثيراً عن عنوان المبيّن للأحكام ، إلاّ أنّ الإنصاف أنّ المنظور من كلمة «الخلفاء» في هذه الرواية يقتصر على الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام)، ولا يشمل الفقهاء .

والشاهد على هذا المطلب أمران رغم وجود قرائن اُخر أيضاً :

الأوّل: كلمة «عنّي» تدلّ على أنّ الخلفاء هم الأشخاص الذين يروون الأحاديث عن النبيّ نفسه (صلى الله عليه وآله) ، في حين أنّ الفقهاء يفتقدون هذه السمة، كما هو واضح .

الثاني: نظراً لما ورد في بعض الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) بهذا المضمون : إنّ جميع ما نقوله هو عن آبائنا، عن أمير المؤمنين(عليهم السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يتّضح أنّ كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) الوارد في الرواية ينحصر في الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) . ونكتفي في هذا الصدد بذكر رواية عن اُصول الكافي :

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيره قالوا : سمعنا أبا عبدالله (عليه السلام) يقول :


(1) تقدّمت في ص212.

صفحه 228

حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين (عليه السلام) ، وحديث الحسين حديث الحسن (عليهما السلام) ، وحديث الحسن حديثأميرالمؤمنين (عليهما السلام) ، وحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عزّوجلّ(1).

النتيجة هي: أنّ هذه الرواية بالرغم من أنّ الإمام الخميني (قدس سره) (2) يرى شموليّتها للفقهاء، إلاّ أنّه في نظري القاصر غير شاملة للفقهاء إطلاقاً ، بل تختصّ بالأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) .

وفي هذا البحث لا نجد حاجة للتمسّك بإطلاق هذه الروايات ليرد إشكال أنّ هذه الروايات ليست في مقام البيان; من جهة أنّ الفقيه يمكنه تشكيل الحكومة كالإمام المعصوم (عليه السلام) ، بل نتمسّك بهذه الروايات في أصل التنزيل فحسب .

ويستفاد جدّاً من هذه الروايات أنّ العلماء والفقهاء منزّلون منزلة الأنبياء والأئمـّة(عليهم السلام) في أصل المعرفة بالدِّين والأحكام الإلهيّة ، ويكفي هذا الميزان في المقام ; لأنّ هذه المسألة ـ وهي: كون إجراء العدالة واجباً على النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإمام المعصوم (عليه السلام) ـ واضحة ، كماثبت من خلال هذه الروايات; أنّ الفقيه الجامع للشرائط بسبب ارتباطه بالقرآن والسنّة، ومعرفته بالعدالة ـ بمعناها الدقيق ـ خليفتهم ، وحينئذ تكون النتيجة بأنّ إجراء العدالة واجب على الفقيه الجامع للشرائط .

وعلى هذا فلو تمكّن الفقيه الجامع للشرائط من إجراء العدالة علىمستوى الواقع العملي من خلال تشكيل الحكومة ، وجب عليه السعي لتشكيل الحكومة ، وإلاّ وجب عليه القيام بالعدل والقسط بين الناس في إطار قدرته على ذلك .


(1) الكافي 1: 53 ح14 ، وعنه وسائل الشيعة 27: 83 ، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب8 ح26.
(2) كتاب البيع للإمام الخميني (قدس سره) 2: 629.

صفحه 229

الإجابة على إشكالات ثلاث

الإشكال الأوّل : إذا قيل: إنّ الآية الشريفة : {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّ مِينَ بِالْقِسْطِ} (1) تدلّ على أنّ وجوب القيام بالقسط غير منحصر بفئة خاصّة من الناس، كالأنبياء أو الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام)، أو الفقهاء ، بل يستوعب جميع المؤمنين، حيث يجب عليهم القيام بالقسط ، وبالتالي، إذا استطاع بعض المؤمنين من نيل الزعامة الظاهريّة، والتصدّي للحكومة والقيام بالقسط بين الناس ; فحكومتهم حينئذ تكون معتبرة ومشروعة، وليست غير إلهيّة ، وعلى هذا الأساس لا تختصّ الحكومة والولاية بالفقيه في زمن غيبة المعصوم (عليه السلام) .

وفي الجواب ينبغي أن يُقال :

أوّلاً : أنّ القيام بالقسط من قبل عموم الناس لا يتسنّى إلاّ في صورة بيان حدود وماهيّة القسط بصورة كاملة .

وبعبارة أُخرى : يجب على الناس القيام بالقسط بعد بيان معنى القسط والعدل بالنحو المعتبر والدليل الشرعيّ .

وثانياً : نحن نعلم بأنّ نوع البشر غير قادر على القيام بالقسط بالمعنى الواقعي للكلمة ، بل يمكنهم الإتيان بهذه الوظيفة في حدود معيّنة ، ولذلك طلب الشارع المقدّس من الناس في هذه الآية الشريفة، القيام بالقسط في تلك الدائرة المعيّنة الممكنة لهم ، وهذا المعنى لا يتنافى مع وجوب القيام بالقسط بمعناه الواسع على من له معرفة حقيقيّة بالوحي .

وبعبارة أُخرى : إنّ إثبات وجوب القيام بالقسط على النوع من أفراد البشر لا يدلّ على نفي هذا التكليف عن الأنبياء وأوصيائهم(عليهم السلام) .


(1) سورة النساء 4: 135.

صفحه 230

الإشكال الثاني : قوله ـ تعالى ـ : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـبَ وَ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) .

حيث يستفاد من هذه الآية الشريفة أنّ القائم بالقسط هم الناس أنفسهم ، وقد ذكر الدكتور مهدي الحائري (قدس سره) في ذيل الآية الشريفة أنّ الآية فوّضت إلى الناس القيام بالقسط، وتحقيق العدالة، والنظم الاجتماعي . ولم تر أنّ مسؤوليّة إجراء وتنفيذ هذا الأمر يتناسب شأن الأنبياء(عليهم السلام) ومقامهم الرفيع(2) .

وفي مقام الجواب لابدّ من القول :

العجب من هذا المفكِّر أنّه توجّه إلى جملة (لِيَقُومَ النَّاسُ) ولم يتأمّل بما قبلها بصورة وافية، حيث تقرّر الآية أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب عبارة عن طريق ومقدّمة لقيام الناس بالقسط .

هل يتمكّن الناس مع قطع النظر عن الأنبياء(عليهم السلام) والكتب السماويّة، من القيام بالقسط ؟

إنّ مدّعى هذا العالم هو: أنّ الناس يجب عليهم تشكيل الحكومة والتصدّي للقيام بالقسط ، في حين أنّ الناس طبقاً للآية الشريفة لا يتمكّنون من القيام بالقسط بدون الارتباط مع الأنبياء(عليهم السلام) والكتب السماويّة . وحينئذ فمن باب كلّ ما بالعرض لابدّ أن يرجع إلى ما بالذات، يستفاد ضرورة أن يكون الأنبياء والأولياء الإلهيّين(عليهم السلام) هم السابقون للقيام بالقسط .

وفي مقام توضيح الجواب أكثر نقول :

أساساً لا يصحّ أن نقول: من جهة بأنّ للفقيه مسؤوليّة بيان الأحكام


(1) سورة الحديد 57 : 25.
(2) حكمت وحكومت: 140 .

صفحه 231

وشأنيّة النظارة عليها ، ومن جهة اُخرى نسلّم الحكومة بيد غير الفقيه ونرى مقام الفقيه في معزل عن الحكومة ، ولا يوجد دليل على مستوى العقل أو النقل على ذلك .

لا يمكن أن نعتبر الفقيه منظِّراً، أو صاحب ايديولوجيّة فحسب ، بينما يقوم غيره بالتصدّي لأمر الحكومة ، بل يجب أن يكون الفقيه على رأس الحكومة الإسلاميّة، ويتمّ وضع جميع الاُمور في المجتمع تحت اختياره وتدبيره بعنوانه قائماً بالقسط .

هذا، مضافاً إلى أنّه لا يتنافى شأن الفقيه ; بل سلبه منه يقلّل من شأنه ومنزلته . وفي هذا الصدد يجب الانتباه إلى وجود فرق بين القائم بالقسط، والمباشر له ، فلا ينبغي الخلط بينهما .

الإشكال الثالث : إذا قيل : ما الملازمة بين وجوب إجراء العدالة ومسألة الولاية ؟ ألا يمكن القول بأنّ القادر على إجراء العدالة يجب عليه هذا العمل ، وفي نفس الوقت ليس له ولاية إطلاقاً ؟

وفي مقام الجواب لابدّ من التحقيق في أقسام وموارد إجراء العدالة :

أ) إجراء العدالة في دائرة العلاقة الزوجيّة ، فلو كانت له عدّة زوجات ، وجب عليه العدل بينهنّ في مقام العمل والسلوك، إلاّ أنّ هذاالنحو من إجراء العدالة لايلازم وجود الولاية بأيّ شكل من الأشكال، ولايمكن القول بأنّ للزوج ولاية على زوجاته.

ب) وجوب إجراء العدالة من قبل الوالدين تجاه أبنائهم ، وفي هذا المورد لاملازمة أيضاً بين وجوب العدالة والولاية ، رغم أنّه مع قطع النظر عن العدالة أنّ للأب ولاية على أبنائه .

ج) وجوب إجراء العدالة في توزيع الثروات والإمكانات من قبل الحكومةبين أفراد وطبقات المجتمع ، وفي هذا المورد أيضاً لا ملازمة بين هذا الأمر والولاية .


صفحه 232

د) هذا القسم الذي يختصّ بمورد إجراء العدالة في أحكام الدِّين وتحقّقه في المجتمع ، له ملازمة واضحة مع الولاية ; لأنّ هذا القسم من أقسام تحقيق العدالة; يعني استيفاء كلّ شخص جميع حقوقه ، ويتوقّف هذا الأمر على قبول نظر الحاكم ولزوم التبعيّة له ، وهو معنى الولاية ، حيث إنّ حقيقة الولاية ليست أكثر من لزوم تبعيّة الحاكم وطاعته .

وبعبارة اُخرى : إنّ الولاية تقوم على ركنين :

أحدهما : اعتبار ونفوذ رأي الحاكم ونظره .

ثانيهما : لزوم إطاعة الآخرين له .

وهذان الأمران متوفّران بوضوح في وجوب إجراء العدالة في هذا القسم .

العدالة، وعلاقتها بمسألة الحسن والقبح العقليّين

في هذا البحث يمكن أن يدور في الذهن هذا المطلب ، وهو : أنّه مع التسليم بكون الحسن والقبح عقليّين، وأنّ حسن العدل من المستقلاّت العقليّة ، فأيّ حاجة بعد ذلك لفهم العدالة وبيان حدودها وماهيّتها إلى الأنبياء أو الأئـمّة(عليهم السلام)أو غيرهم ، فقضيّة «العدل حسن» من القضايا المشهورة والآراء المحمودة ، أو بتعبير ابن سينا : من التأديبات الصلاحيّة(1) التي وقعت مورد اتّفاق جميع أفراد البشر لوجود ملاك المصلحة العامّة فيها.

وعليه: فمع غضّ النظر عن الشريعة وأصحابها والعارفين بها يمكن فهم ومعرفة العدالة بالعقل .

وللإجابة على هذا المطلب لابدّ من بيان اُمور :

الأوّل: بالرغم من أنّ مبنى الإماميّة في بحث الحسن والقبح هو: أنّ العقل


(1) الإشارات والتنبيهات 1 : 220.

صفحه 233

يدرك حسن وقبح الأشياء بالاستقلال ، إلاّ أنّ ذلك لا يعني كفاية العقل في الرجوع إليه في تبيين المعنى الواسع للعدل .

فقد أصبح واضحاً في بحث الحسن والقبح أنّ العقل لا يستقلّ بإدراك الحسن والقبح في جميع الأفعال والاُمور ، وطبعاً فالعقول الكاملة ـ حسب نظر الآخوند الخراساني (قدس سره) (1) ـ المحيطة بجميع جهات الأفعال، تكون محيطة كذلك بحسن وقبح هذه الأفعال، ولا يخرج أيّ فعل عن دائرة حكمها بالحسن والقبح ، ولكن من الواضح أنّ هذه العقول لا تكون كاملة من دون الارتباط بالوحي .

الثاني: أنّ المقصود من بحث العدالة هو كيفيّة إجرائها في المجتمع البشري بالطرق الصحيحة والمشروعة ، والحال أنّ مجرّد قبول التحسين والتقبيح العقليّينلا يكون موجباً للبعث والزجر ، وإنّما إذا صدر فعل من شخص اتّفاقاً، يدرك العقل حسنه أو قبحه ، ولذلك لابدّ من توفّر دواع اُخر للبعث والزجر ، ويتحقّق هذا الأمربإرسال الرسلوتبيين المعنى الدقيق لمفهوم العدالة من قبل الشارع والشريعة .

وقال المحقق الاصفهاني تبعاً لاُستاذه الآخوند: إنّ شأن القوّة العاقلة هو التعقّل فقط، لا البعث والزجر(2).

الثالث: أنّ قضيّة حسن العدل رغم كونها من القضايا المشهورة ، إلاّ أنّ المجتمع البشري بحاجة إلى إضافة المدح والذمّ والحكم باستحقاق المثوبة والعقوبة ، في حين أنّ استحقاق المدح والذمّ ليس من القضايا المشهورة ; لأنّ القضايا المشهورة من سنخ القضايا البرهانيّة التي تتجلّى في أحد أشكال القضايا الستّ: الأوّليات ، الحسيّات ، الفطريّات ، التجربيّات ، المتواترات ، الحدسيّات .

الرابع: أنّ ما يلزم لإجراء العدالة في المجتمع بعد درك حدود وماهيّة العدالة ،


(1) فوائد الاُصول للآخوند الخراساني: 124 ـ 125.
(2) كفاية الاُصول: 368 ـ 369، نهاية الدراية 3: 195، 287 و 333 .

صفحه 234

هو : تشخيص مصاديق العدالة والظلم ، وطبعاً فقد قرّر في محلّه مفصّلاً أنّ تشخيص المصاديق و تطبيق المفاهيم الكلّي عليها مختصّ بالعقل ـ كأن يحكم في الموارد الجزئيّة بأنّ هذا الفعل من مصاديق العدل أو الظلم، كما قال به الآخوند الخراساني وجمع من تلامذته(1) ـ أو أنّ للعرف أيضاً له دخل فيه، كما قال به المحقّق النراقي والإمام الخميني (قدس سره) (2).

ولا ترديد في أنّه لو قلنا بأنّ تطبيق و تشخيص المصاديق بالعقل، أو به وبالعرف، فحينئذ نقول: بما أنّ الموارد التي لا يقدر العقل والعرف تطبيق تلك المصاديق بالعدل والظلم، أو الحسن والقبح ممّا لاتحصى، لابدّ في تشخيصها من مراجعة الشرع الذي هو الناظر لتمام الاُمور والآثار والأمر والنهي .

حاجة البشر إلى الولي، وانحصار الولاية بالذات في الله تعالى

المشهور في أوساط المحقّقين وأرباب النظر أنّ البشر والمجتمع البشري بحاجة إلى حاكم وأمير لنظم اُمور المجتمع وتدبير شؤونه .

هذا المطلب وإن كان من البداهة والوضوح بمكان ، إلاّ أنّه بالنظر الدقيق ندرك جيّداً أنّ البشر بحاجة إلى وليّ من حيث وقوع الإنسان تحت ولاية الحقّ تعالى ، وأساساً لا يمكن للمخلوق أن يخرج يوماً من دائرة ولاية الخالق جلّ وعلا .

وفي هذا الصدد يمكن دعوى أنّ البشريّة يجب أن تكون تحت ولاية الحقّ وإن تحقّق ذلك بواسطة نصب الله تعالى وأمره بولاية بعض الأفراد .

وبعبارة اُخرى: بما أنّ البشر يحتاج إلى ولاية الحقّ ، فلابدّ أن يكون تحت ولاية من اختارهم الله ـ تعالى ـ للولاية من قبيل الأنبياء العظام والأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) . وبذلك يمكن ادّعاء بأنّ الأشخاص المرتبطين من قريب بمعارف


(1) كفاية الاُصول: 77، أجود التقريرات 1: 126، نهاية الأفكار 1: 129 ـ 131، نهاية الدراية 1: 240.
(2) مستند الشيعة 12: 70، تهذيب الاُصول 1: 180.

صفحه 235

الأنبياء والأئـمّة(عليهم السلام) ، وبكلمة اُخرى : من كان أعلم الناس بأحكام الدِّين وعلومه وغاياته، فله تلك الولاية على الناس في زمن عدم حضورهم ; أي في صورة عدم التوصّل إلى المعصوم (عليه السلام) ، فالبشر بحاجة إلى الولي ، ولابدّ من حلّ مسألة الولاية من هذا السبيل .

وحينئذ يمكن القول بأنّ الله ـ تعالى ـ قد خلق الإنسان والمجتمع البشري بشكل يحتاج فيه إلى الولاية والإمامة ، وهذا الأمر لا يختصّ بالمجتمع ، بل حسب ما ورد في بعض الروايات: لو لم يبقى في الأرض إلاّ اثنان لكان أحدهما الحجّة (عليه السلام) (1) . إنّ الإنسان خلق بشكل يحتاج إلى ولاية وال وحاكم من نوعه في ظلّ ولاية الله ـ عزّوجّل ـ وبإذنه.

فالولاية في المرتبة الاُولى وبالأصل والذات لله تعالى، فله سبحانه الولاية على البشر من حيث خالقيّته لهم ، وتتّسع دائرة ولايته إلى أنّ له الحقّ في نصب بعض الأشخاص للولاية على الآخرين، وما لم تنته الولاية إلى الشارع المقدّس فلا اعتبار لها أصلاً وإن اختار الناس أحدهم لهذا المنصب ، مثلاً لو اتّفق الناس على أن يجعلوا شخصاً معيّناً للولاية ، فلا دليل لدينا على مشروعيّته ، فالناس بمجرّد اتّفاقهم وانتخابهم لأحد الأشخاص لايتمكّنون من جعل الولاية له على أعناقهم ، وما أكثر ما أدّى الخلط بين هذين الأمرين إلى تباين الآراء وتزييف في الأفكار والكلمات .

وبعبارة اُخرى: إنّ الناس لهم الحقّ في اختيار أحدهم بعنوان النائب أو الوكيل عنهم في إدارة اُمورهم ، ولكنّهم لا يستطيعون انتخابه بعنوان الولي ، فانتخاب الولي يجب أن يكون من قبل الشارع المقدّس .

وعلى أساس هذا البيان، فالتعبير بالمشروعيّة الإلهيّة العرفيّة ـ كما ورد في كلمات البعض(2) لغرض إسناد المشروعيّة لولاية الفقيه على أساس هذا المبنى ـ


(1) بصائر الدرجات: 487 ـ 488 ب11، الغيبة للنعماني: 139 ـ 140 ب9، بحار الأنوار 23: 52 ح107ـ 110.
(2) راجع ولايت فقيه حكومت صالحان: 46 و 73 و... .

صفحه 236

ليس له نصيب من الدقّة والاعتبار ، فالمشروعيّة السياسيّة في أمر الولاية منحصرة بالله تعالى ، ولا صلاحيّة للناس في إعطاء المشروعيّة السياسيّة للولي ـ بمعنى حقّانيّة الولاية ـ إطلاقاً وإن كان لهم دور مهمّ في إطار التحقّق العملي للولاية في حركة الواقع الاجتماعي .

العدالة، ومسألة خلافة الإنسان

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المطلب المهمّ في عدّة موارد(1) ، وهو: أنّ الله ـ تعالى ـ قد جعل الإنسان خليفته في الأرض ، وربما يخطر على الذهن أنّ خلافة الإنسان لله ـ تعالى ـ تعني تسليم مقاليد الاُمور في دائرة إدارة المجتمع الإنساني ـ التي هي من شؤون خلافة الله تعالى ـ إلى هذا الإنسان ، ولذلك كان الإنسان خليفة الله ونائبه في تدبير جميع اُموره .

وبعبارة اُخرى: إنّ خلافة الإنسان هي السبب وراء تسليم مفاتيح إجراء العدالة والقيام بالقسط إليه .

وهذاالبيان لايخلو من ضعفوعدم إتقان ; لأنّه أوّلاً : أنّ الآيات الشريفة الدالّة على خلافة الإنسان ، لم تكن أبداً في مقام بيان تقرير مصيره وتدبير اُمور المجتمع بيده ،بل إنّ هذه الآيات تقرّرهذا المطلب ; وهو: أنّ الإنسان مظهر صفات الله وأسمائه الحسنى في مقابل الموجودات الاُخر الفاقدة لهذه السمة من الظهور والتجلّي .

وعلى فرض أنّ الله ـ تعالى ـ لم يخلق سوى إنسان واحد على الأرض ، كان هذاالإنسان خليفة الله أيضاًمن دون الأخذ بنظر الاعتبار تفويض تدبير الاُمور إليه .

وثانياً : أنّ هذه الآيات وردت في مقام تقرير الشرف الذاتي والواقعي للإنسان ، أعمّ من الصغير والكبير ، المسلم وغير المسلم ، الرجل والمرأة ، فكلّ هذه


(1) مثل سورة البقرة 2: 30، سورة يونس 10: 14، وسورة ص 38: 26.

صفحه 237

الموارد في هذه الجهة سواء حتّى الوليد في يومه الأوّل; فإنّه يحمل معه عنوان خليفة الله ، في حين أن لا أحد يتوهّم أنّ لهذا الطفل الصغير عنوان الولاية على نفسه أو على الغير .

النتيجة هي أنّ الآيات الشريفة الدالّة على خلافة الإنسان لله ـ تعالى ـ لاتدلّ أبداً على ولايته على نفسه أو على الآخرين في إطار تدبير اُمور المجتمع .

العدالة والشورى

من المعلوم أنّ الدِّين الإسلاميّ قد اهتمّ في تعاليمه وإرشاداته بأمر الشورى والمشورة ، ومن البداهة أنّ هذا الأمر يفقد كلّ اعتبار وقيمة في صورة ما إذا ورد أمر صريح من قبل الشارع المقدّس ، فالقدر المتيقّن من اعتبار الشورى هو مايكون في الموارد التي لم يرد فيها دستور خاصّ من الشارع .

نحن نعتقد أنّه لو توقّف تشخيص أمر من الاُمور على الشورى ، فلابدّ من الاستفادة من هذا المنهج ، وترك المشورة في مثل هذه الموارد يفضي إلى عدم إجراء العدالة في المورد المذكور .

وعليه: فإنّ مجلس الشورى الإسلامي يمكنه أن يحتلّ موقعاً متميّزاً في نظام ولاية الفقيه في مثل هذه الموارد ، وطبقاً لمبنى العدالة ; فإنّ الفقيه الحاكم إذا كان له في مورد من الموارد نظر اجتهاديّ معيّن ، فلا يمكن القول بلزوم العمل وفقاً لهذه الرؤيا فقط ، فالعدالة في مثل هذه الموارد تقتضي أن يعمل الحاكم وفقاً للفتوى التي تتناغم وتنسجم أكثر مع مصلحة المجتمع في إطار حفظ النظام وتسهيل الاُمور المعيشيّة للناس .

مثلاً إذا كان الحاكم يرى من الناحية الفقهيّة لزوم الخمس ووجوبه في مورد خاصّ من الموارد الاجتماعيّة المهمّة ، ولكن هناك نظريّة اُخرى في فتاوى


صفحه 238

الفقهاءترى عدم وجوب الخمس في ذلك المورد ، فلو كانت النظريّة الثانية متوافقة مع مصلحة المجتمع ، فعلى الحاكم في مقام إعمال حكومته العمل بها وصرف النظر عن فتواه ونظره .

مثال آخر في مورد الضرائب التي تقرّرها الدولة غير الوجوه الشرعيّة المقرّرة في الفقه ، فلو كانت هذه الضرائب مشروعة لدى فقيه ، وغير مشروعة لدى آخر ، فعلى الحاكم في مقام العمل اختيار الفتوى المطابقة للمصالح الكلّية للدِّين والمجتمع ، والعدالة في هذه الموارد تقتضي ذلك ، وبهذا لا يبقى محلّ وموقع للاستبداد .

وهكذا فيما لو رأى الفقيه لزوم المشورة مع أرباب النظر أو الفقهاء الآخرين في تشخيص العدالة وتنفيذها في أمر من الاُمور ، وجب عليه ذلك ، فلو أقدم على عمل من هذا القبيل بدون مشورة، فقد خرج من جادّة العدالة .

العدالة وتعدّد الفقهاء

بعد أن ثبت أنّ حقيقة العدالة أمر لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلالالارتباط بالوحي والتعرّف على القرآن والسنّة ، يمكن أن يتساءل أنّه مع تعدّد الفقهاء ووجود اختلاف الرأي والنظر بينهم، بحيث يمكن أن يكون عمل معيّن مصداق العدل في نظر البعض ، ومصداق للظلم في نظر الآخر ، فما هو الحلّ ؟

ألا يوجب ذلك أن يكون حقّ تعيين الحاكم بيد العقلاء والناس لتكون المشروعيّة في الحكم بيد من يختاره الناس حاكماً عليهم ؟

وفي الجواب لابدّ من القول أوّلاً : أنّ مجرّد اختلاف الفقهاء لا يوجب أن يكون انتخاب الحاكم بيد الناس ، بل كما ذكرنا سابقاً أنّ الحاكم لا يتمكّن من الحكم على وفق رأيه ونظره وإن كان أعلم من الآخرين ، بل لابدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار في


صفحه 239

الموارد الخلافيّة مصلحة المجتمع ويعمل برأي من يكون نظره أقرب إلى تحقيق مصلحة الناس .

وعليه: ففي الموارد الخلافيّة في دائرة مصاديق العدل والظلم، تكون المشورة مع الفقهاء الآخرين هي المتعيّنة .

وثانياً : أنّ مثل هذا الاختلاف الفرضي إمّا أن لا يقع في أرض الواقع الخارجي ، أو يكون وقوعه نادراً جدّاً; لأنّ ملاك الظلم والعدل واضح تماماً ، وفي مورد الاختلاف لو تحقّق فلابدّ من التدبّر والدقّة أكثر للوصول إلى اتّفاق في الرأي والنظر .

الرابطة بين الحاكم وأفراد المجتمع

ومن المسائل الأساسيّة التي ينبغي دراستها والتدقيق فيها مسألة تصوير العلاقة بين الحاكم وأفراد المجتمع ، وكذلك علاقة الناس بالحاكم من الجهة الاُخرى .

ثمّ إنّه على أساس مبنى العدالة هل هناك قيمة واعتبار للناس في النظام الإسلامي ، أم لا ؟

لقد اتّضح ممّا سبق أنّ الحاكم الإسلامي في المرتبة الاُولى يجب أن يكونأعلم الناس بحقيقة العدالة ، فيجب أن يكون محيطاً بجميع أبعاد وتفاصيل العدالة التي يحتاج إليها المجتمع البشري ليتسنّى له توظيفها في مرتبة العمل والتطبيق .

وأحد الأبعاد المهمّة في العدالة هي الحقوق الاجتماعيّة لأفراد المجتمع فيما بينهمحتّى حقوق الجماعات والفئات في المجتمع الواحد ، فعلى الحاكم الإسلامي بعد اكتسابه معرفة صحيحة لهذه الحقوق ـ وباعتقادنا أنّ تشخيص وجود حقّ معيّن وعدمه لا يمكن إلاّ بميزان الفقه وملاكاته ، والحاكم يستطيع بقدرته الفقهيّة تبيين


صفحه 240

وتشخيص الحقوق بالنسبة للأفراد والجماعات ـ أن يتحرّك نحو تطبيقها على أرض الواقع الاجتماعي .

وعلى هذا الأساس فلو كان هناك حقّ للمجتمع في اختيار أفراد لتولّي المهامّ السياسيّة ، فالحاكم موظّف في تهيئة الأرضيّة اللازمة لتحقيق هذا الأمر على المستوى العملي .

إذن فعلى مبنى العدالة يتّضح أنّ الناس في المجتمع الإسلامي يمكنهم استيفاء جميع حقوقهم المشروعة في ظلّ هذا النظام .

ومن جهة اُخرى نشاهد نوعاً من الولاية ذات طرفين في بعض الاُمور بين الحاكم والناس في المجتمع الإسلامي .

وطبقاً للآية الشريفة : {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (1) أنّ كلّ مؤمن له ولاية على المؤمن الآخر .

وعليه : فكما أنّه يجب على الحاكم في صورة مشاهدته للمنكر في المجتمع التصدّي له ومنعه ، فكذلك يجب على المؤمنين في صورة اللزوم النصيحة للحاكم وتحذيره وتقديم الاقتراحات البنّاءة له ، وهذا هو معنى : «النصيحة لأئـمّة المسلمين»(2) .

العدالة ، وعدم الفرق بين زمان المعصوم (عليه السلام) وغير المعصوم

على مبنى العدالة لا يوجد هناك فرق على مستوى المشروعيّة السياسيّة


(1) سورة التوبة 9 : 71 .
(2) الكافي 1: 403 ـ 404 ح1 و 2، أمالي المفيد: 187 ح13، أمالي الصدوق: 432 ح569، الخصال 1: 150 ح182، بحار الأنوار 2: 148 ح22 وج 27 : 68 ح3.

صفحه 241

للحكومة الإسلاميّة بين زمان المعصوم (عليه السلام) وغير المعصوم .

فمن أجل تحقّق العدالة في زمن المعصوم (عليه السلام) ، فالحاكم المطلق والوليّ الواقعي هو شخص المعصوم (عليه السلام) ، أمّا في زمان الغيبة وعدم الوصول إلى المعصوم (عليه السلام) ; فإنّ مشروعيّة الحكومة الإسلاميّة تبقى ذات مشروعيّة إلهيّة .

على مبنى العدالة ، فالحكومة الإسلاميّة في نظر الشارع هي الحكومة التي تُقيم العدل والقسط بين الناس . والحاكم يجب أن يكون أعرف الناس بمعنى حقيقة العدالة .

نتائج بحث نظريّة العدالة

1 ـ إنّ تحقيق العدالة هو من الاُمور الأساسيّة للدِّين، ويمثِّل الهدف الأصلي لإرسال الرسل والأنبياء(عليهم السلام) ، والواجب على النبيّ والأئـمّة المعصومين(عليهم السلام)تحقّق العدالة في المجتمع البشري بمعناها الواسع .

2 ـ طبقاً للآيات القرآنيّة(1) الشريفة أنّ وجوب تحقّق العدالة لا يختصّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) ووصيّه (عليه السلام) .

3 ـ طبقاً للروايات المعتبرة(2) أنّ العلماء والفقهاء الجامعين للشرائط همخلفاء النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام) ومنزّلون منزلتهم ، وهذا التنزيل يقوم قطعاً على أساس أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام) على علم دقيق بالعدالة الواقعيّة بسبب اتّصالهم وارتباطهم بالوحي ، فكذلك العلماء الذين يستلهمون علومهم من تعاليم النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة(عليهم السلام)وإرشاداتهم، هم أعلم الناس بحقيقة العدالة ومواردها ، ولهذا السبب فلو أمكنهم إقامة العدالة بواسطة تشكيل الحكومة الإسلاميّة لوجب عليهم القيام


(1) مثل سورة الحديد 57: 25 ، وسورة النحل 16: 90 ، وسورة النساء 4: 58 و 135.
(2) وسائل الشيعة 27 : 77 ـ 105 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب8 .

صفحه 242

بذلك .

ولا يخفى أنّ هذا المنهج لا يحتاج إلى التمسّك بالروايات وعمليّة التنزيل ; لأنّ الفقهاء بما أنّهم أعلم الناس بالحقوق وفروعاتها ، لذلك يجب عليهم إجراء العدالة في المجتمع ; لأنّ حقيقة العدالة وإيجادها فرع وجود الحقّ ، وتشخيص هذا الأمر لايتسنّى إلاّ من الفقهاء . وعليه: فإنّ روايات التنزيل تكون مؤيّدة لهذا المعنى، ويمكن الاستفادة منها كشاهد لا بعنوان الاستدلال .

4 ـ إذا فرضنا أنّ مبنى مشروعيّة ولاية الفقيه هو القيام بالقسط وإقامة العدل . فحينئذ لا تتحدّد منطقة نفوذه في إطار ما يقع تحت سيطرته ، بل يمتدّ ليستوعب كلّ منطقة يستطيع فيها الحاكم القيام بالقسط .

5 ـ في هذا المنهج نلاحظ وجود رابطة وانسجام ذاتيّ وواقعيّ بين الولاية الشرعيّة وحقوق الناس ; لأنّ ماهيّة العدالة بما أنّها من العناوين ذات الإضافة لاتتحقّق بدون الأخذ بنظر الاعتبار حقوق جميع الأشخاص والمجتمع .

إنّ إيجاد العدالة لا يتيسّر على مستوى الممارسة والتطبيق إلاّ إذا راعى الحاكم حقوق جميع الأفراد في المجتمع ; سواء الحقوق التي قرّرها الشارع للأفراد أو أمضاها العقل وحكم بصحّتها .

وعلى هذا الأساس ، فالولاية التي تكون من موقع العدالة لا تعني إطلاقاً أنّ المولّى عليهم محجورون ، بل تمثِّل إعزاز وعظمة المولّى عليهم .

وعلى أساس هذه النظريّة لا تكون النسبة بين الحاكم وأفراد الشعب كالنسبة بين الوالي والرعيّة ، المخدوم والخادم ، المالك والمملوك ، بل أنّ الحاكم إنّما يكون حاكماً إذا كان أشدّ الناس أمانة في إجراء العدالة .

ليس الحاكم في النظريّة الإسلاميّة بعنوان وكيل الناس أو الوالي المستبدّ ، بل يمارس عمله بعنوانه أميناً لدين ودنيا الناس . وقد اُشير إلى هذا المعنى في بعض


صفحه 243

الروايات أيضاً . ففي الرواية المعتبرة عن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا (عليه السلام) في علّة جعل أُولي الأمر ووجوب طاعتهم ، قال (عليه السلام) :

إنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود، واُمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يجعل عليهم فيه أميناً يأخذهم بالوقف عندما اُبيح لهم، ويمنعهم من التعدّي والدخول فيما خطر عليهم .

وفي جانب آخر من الرواية يقول (عليه السلام) : إنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً، لدرست الملّة، وذهب الدِّين وغيّرت السنّة والأحكام ، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبّهوا ذلك على المسلمين ـ إلى أن قال : ـ فلولم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيّنا، وغيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين(1) .

6 ـ لا يوجد شيء لإعطاء حقوق جميع الأشخاص في المجتمع أقوى من العدالة ، وهنا يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي: أنّ مجرّد انتخاب الناس للحاكم وتوفّر الحرّية في ذلك الانتخاب لا يكون دليلاً على صحّة ذلك الانتخاب وحقّانيّته . فما أكثر ما أدّى الانتخاب إلى وقوع المفسدة في المجتمع .

فلو قيل : إنّ المشروعيّة السياسيّة للحاكم تتحقّق من خلال انتخاب الناس له ; فإنّ ذلك لا يكون بمعنى إعزاز الناس وإكرامهم ، بل إنّ العزّة الواقعيّة والإكرام الحقيقي يتمّ فيما لو تمّت الاستفادة من معايير وركائز دقيقة وثابتة من قبيل معيار العدل والقيام بالقسط .

7 ـ على أساس هذه النظريّة، فإنّ ولاية الحاكم الواجد للشرائط تكون أمراً إسلاميّاً ، لا شيعيّاً ، في حين أنّ النظريّات الاُخر في إثبات ولاية الفقيه منحصرة في


(1) علل الشرائع: 253 ـ 254 ح9، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 100 ـ 101، وعنهما بحار الأنوار 23: 32 ح52.

صفحه 244

المذهب الشيعي تماماً .

8 ـ طبقاً لهذه النظريّة لا فرق بين الولاية والحكومة ـ بمعنى: أنّ الحاكم له الولاية ـ بالرغم من وجود الفرق بينهما على المستوى اللغوي ، ففي اللغة يكون بين هذين العنوانين عموم وخصوص من وجه .

ولكن طبقاً لنظريّة العدالة; فأنّ من له الولاية له حقّ الحكومة .

وببيان أوضح : أنّ البعض يرى بأنّ الحكومة هي فنّ تدبير اُمور الدولة ، والتفكير في إدارة اُمور المجتمع الداخليّة والخارجيّة ، ولذا فهي من فروع الحكمة العمليّة . أمّا الولاية، فتأتي بمعنى القيوميّة ، وبالتالي ذهبوا إلى التفريق بين هذين العنوانين .

ولكنّنا ندّعي بأنّه رغم أنّ المعنى اللغوي يؤيّد ما ذكر آنفاً ، إلاّ أنّ المعنى الاصطلاحي يقوم على أساس أنّ من كان مجرياً للعدالة وقد تصدّى للحكومة لهذا الغرض ، فله الولاية بمعنى إعمال النظر ونفوذ التصرّفات .

9 ـ لا حاجة في هذا البحث إلى التمسّك بمقبولة عمر بن حنظلة أو الروايات الاُخر(1) في هذا الباب .

10 ـ بما أنّ وجوب إجراء العدالة غير مشروط برغبة الناس واختيارهم ، إذن لا حاجة للبيعة من قبل الناس ، بل إنّ الفقيه الجامع للشرائط يجب عليه القيام بالقسط ، وطبعاً فإنّ البيعة يمكنها أن تكون مؤكّدة لطاعة الناس للفقيه . ولكن لاأثر لها في تحقّق المشروعيّة ، أي ليس لها إثبات حقّانية هذا العمل .

وبعبارة اُخرى: أنّ ولاية الحاكم على المجتمع والناس هي نظير ولاية الأب على الابن ، كما أنّ الأب الذي يتمتّع باللياقة الكافية له ولاية على ابنه ، وليس للابن أيّ دور في جعل هذه الولاية ، فكذلك الحاكم الفقيه إذا توفّرت فيه شروط


(1) تقدّمت في ص212.

صفحه 245

معيّنة، له هذا الحقّ والشأن بجعل من قبل الشارع المقدّس ، ولا دور للناس في أصل هذه الولاية والحقّانيّة .

نعم ، تكون بيعة الناس له بمثابة إعلان الطاعة له، وبها تتمّ الحجّة على الحاكم من قبل الناس ، وكذلك على الناس من قبل الحاكم .

وهذه النتيجة هي من روافد نظريّة العدالة ، وإن كان من اللازم دراسة مسألة نظر الدِّين تجاه الناس للخروج بنظريّة نهائيّة في هذا المورد في بحث مستقلّ .

11 ـ بهذا البيان لا يمكن النظر إلى الدِّين من الزاوية الفرديّة حينئذ ; لأنّه إذا كان أساس الدِّين هو القيام بالعدل وإقامة القسط ، فالتعبير عن الدِّين بكونه «عبارة عن مقرّرات ودستورات فرديّة ومتعلّقة بالأشخاص فحسب» يكون كلاماً سخيفاً وفارغاً من أيّ دقّة وتتبّع ، فالدِّين هو المتصدّي لجميع الاُمور الفرديّة والاجتماعيّة .

12 ـ في هذا المنهج لأجل إثبات المشروعيّة لولاية الفقيه ، لا تكون ولايته بعنوان القدر المتيقّن ، بل بعنوان أنّ الفقيه هو الشخص الوحيد العارف باُمور الدِّين ومفاهيم القرآن الكريم، وبالتالي من له القدرة على تحقّق العدالة بمعناها الدقيق .

13 ـ طبقاً لهذه النظريّة; فإنّ تشكيل الحكومة الظاهريّة من قبل الفقيه يكون وجوباً غيريّاً ومقدّميّاً ، ولا تكون الحكومة واجباً نفسيّاً وأصليّاً إطلاقاً . ولذلك إذا لم نعتبر الوجوب الأوّليّ والثانويّ مختصّاً بالأحكام النفسيّة ، أمكننا القول بأنّ الحكومة من الأحكام الأوّليّة المقدّمية أو الغيريّة .

14 ـ طبقاً لهذه النظريّة; فإنّ من شؤون النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) الأساسيّة هي إقامة العدل والقسط ، ولا يمكن الادّعاء بصورة جازمة أنّ تشكيل الحكومة هو من وظائفه الأوّليّة ، بل أنّه (صلى الله عليه وآله) قام بتشكيل الحكومة في المدينة المنوّرة من أجل نشر الدِّين ، وتحقّق القسط والعدل كان بعنوان المقدّمة الضروريّة لذلك .


صفحه 246

15 ـ طبقاً لهذه النظريّة; فإنّ مساحة نفوذ ولاية الفقيه تتحدّد بميزان قدرته على إجراء العدالة ، وعليه: فلا يمكن الحكم بكونها مطلقة أو مقيّدة بشكل كلّي ، بل من جهة أنّ إجراء العدالة يتقوّم بمعرفة الحقوق في كلّ مورد . فإذا لم يتمكّن الفقيه من تشخيص الحقّ في أحد الموارد ، فلا تكون له القدرة على إقامة العدل في ذلك المورد ، وبالتالي لا تكون له الولاية في ذلك المورد بالخصوص .

ومن جهة اُخرى: فإنّ إجراء العدالة لا يختصّ بالقاصرين والغائبين وأمثالهم ، بل يشمل جميع الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة للحكومة .

وطبعاً فإنّ الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) لكونهم عالمين بجميع الاُمور ومدركين للواقع ، يمكن القول بأنّ ولايتهم مطلقة وتشمل جميع الاُمور ، ولكن بالنسبة إلى الفقهاء يختلف الحال ، فقد لا يستطيعون تشخيص الحقّ في بعض الموارد حتّى بحسب الظاهر ، فيمكن القول بأنّ ولايتهم ساقطة في ذلك المورد .

وعليه: فولاية الفقهاء محدودة بالموارد التي يمكنهم تشخيص الحقّ فيها، وتكون لديهم معرفة بكيفيّة إجراء العدالة كذلك .

16 ـ كما أنّ الإمام الخميني (قدس سره) يرى أنّ ولاية الفقيه أمر بديهيّ ولا يحتاج إلى دليل وبرهان(1) ، فقد اتّضح من خلال ما تقدّم في نظريّة العدالة أنّ ولاية الفقيه لاتحتاج إلى برهان ودليل سوى ما ذكر في أصل وجوب القيام بالعدل وإجرائه .

وبعبارة اُخرى: بمجرّد تصوّر وجوب إجراء العدالة يمكننا التصديق بولاية الفقيه والإذعان بحقّانيّتها .

إنّ ما تقدّم في هذه المقالة يعتبر بيان لنظريّة حول إثبات مشروعيّة وحقّانيّة ولاية وحكومة الفقيه بواسطة العدالة ، وتكميل هذا البحث والتحقيق في مدى


(1) كتاب البيع 2 : 627 .

صفحه 247

ارتباط هذا المبنى مع سائر المباني في ولاية الفقيه، يحتاج إلى دراسة أدقّ وأوسع وأكثر تخصّصاً ، ولعلّنا نوفّق لذلك في المستقبل إن شاء الله .

* * *


صفحه 248

رسالة في تأثير الزمان والمكان في الفقه

وقد ألّفت في سنة 1415 هـ . ق بمناسبة المؤتمر
للبحث عن آراء الفقهي للإمام الخميني (قدس سره)

كانت هذه الرسالة باللغة الفارسيّة بقلم المؤلّف حفظه الله
وقد نقلت إلى اللغة العربيّة


صفحه 250

بسم الله الرحمن الرحيم

و في هذه الرسالة يقع البحث في فصول:

الفصل الأوّل: كلّيات البحث

ليس من العسير العثور على جوهرة ثمينة تسمّى بـ «الزمان والمكان»، ورصد تأثيرها على فروع فقهيّة عديدة في البحر الواسع والمترامي الأطراف لعلم الفقه، الجوهرة التي تمنح علم الفقه حياة وحركة. وبكلمة جامعة: تمنحه الخلود والامتداد الفاعل في أبعاد هامّة للمجتمع البشري. ويمكن القول بأنّه لو لم تبذل عناية خاصّة في دراسة واستكشاف هذا العنصر المؤثِّر فسوف يُصاب الفقه بالجمود والركود، ويصل الاجتهاد إلى طريق مسدود، وبالتالي يتمّ تحنيط الفقه في زاوية معيّنة من العالم والمجتمع البشري.

وبالرغم من أنّ تبيين هذا الأمر المهمّ، وتسليط الضوء على جوانبه المتنوّعة وأبعاده المختلفة; هي من شأن كبار الفقهاء والاُصوليّين من ذوي المباني، والمتمرِّسين والمتضلِّعين في الفقه والاُصول، بحيث يستطيعون حلّ العُقد المستصعبة في هذين العلْمين، نتيجة الممارسة الطويلة في عمليّة البحث الفقهي والاُصولي، وليس الأشخاص مثلي القدرة على التوسّع والتعمّق في دراسة هذا الموضوع


صفحه 252

بصورة وافية، إلاّ أنّنا بحسب الضرورة سنشير إجمالاً إلى هذا الموضوع المهمّ في هذه المقالة. ولعلّنا نستطيع بذلك تسليط الأضواء على زاوية من أفكار الإمام الخميني (قدس سره) الواسعة، وبالتالي نتمكّن من تحقيق مقصوده الأصلي في هذا المجال.

ونأمل أن يكون هذا البحث وسيلة للمحقّقين في دائرة الفقه والفقهاء العاملين الذين يحملون على عاتقهم أمانة الأنبياء والأولياء(عليهم السلام) إن شاء الله.

أ) مفهوم الزمان والمكان، وتأثيرهما في الفقه

قبل الدخول في أصل الموضوع لابدّ من توضيح إجماليّ لهذا العنوان، رغم أنّه سيتّضح أكثر ضمن المطالب اللاّحقة.

من المعلوم أنّ المراد بالزمان والمكان ليس هو معناهما اللغوي، وكذلك ليس المراد معناهما الفلسفي الذي يختلف الفلاسفة في تحقّقه اختلافاً شديداً، بل المراد هي الظروف، والخصوصيّات، والعلاقات الجديدة الحاكمة على الأفراد والمجتمع، والمتغيِّرة بتغيّر الزمان والمكان. وكذلك الاستنباطات المختلفة التي يستخرجها الفقيه من الأدلّة والمنابع الفقهيّة، نتيجة ارتباطه بالعلوم البشريّة الجديدة.

إنّ الأصل المقوّم لهذا الموضوع ـ وبمثابة الفصل المميّز له عن سائر المواضيع المتعلِّقة بعلم الفقه ـ هو تغيير الظروف والشرائط الموجودة في المجتمع، أو فئة من الناس بما من شأنه خلق مناسبات جديدة في علاقات الأفراد، وبالتالي اختلافهم في الفهم للحكم الشرعيّ بالاستناد على المباني الفقهيّة. وبما أنّ هذا الأمر يتحقّق غالباً بمرور الزمان، وتغيّر الأمكنة والظروف الجغرافيّة المختلفة، تمّ التعبير عنه بتأثير الزمان والمكان في الاجتهاد، وإلاّ فمن الممكن تحقّق هذا المعنى في زمان واحد; كأن يكون لشيء معيّن حكم خاصّ بسبب اختلاف الروابط، وتغيّر الظروف ممّا يستدعي طروّ عناوين جديدة عليه.

وفي نفس الوقت يكون له حكم آخر مع قطع النظر عن تلك الروابط


صفحه 253

والظروف. وعليه: فإنّ عنوان الزمان والمكان بنفسه ليس له دور في هذا البحث. وما له دور في هذا البحث عبارة عن:

أوّلاً: تغيير الشرائط وطروّ خصوصيّات جديدة تستدعي عناوين جديدة، وبالتالي تستلزم أحكاماً جديدة، وهذا التغيير يرتبط بأحد عنوانين:

1 ـ تغيير الموضوع نفسه، أو تغيير أحد قيوده بنحو يصلح لتبديل الحكم; من قبيل أنّ الشطرنج كان يستخدم في الماضي كأداة من أدوات القمار، ولكن فيما لو استعمل كلعبة فكريّة في هذا الزمان، من دون تدخّل عنصر المراهنة، خرج عن دائرة التحريم.

2 ـ حدوث حاجات وضرورات جديدة لم تكن محلّ ابتلاء في السابق، ولكنّ المجتمع البشري في هذا العصر، أو الأعصار القادمة يعتبرها أمراً ضروريّاً; من قبيل المسائل المستحدثة في الطب، كالتشريح ووصل أعضاء الميّت ببدن الحيّ. وكذلك الضرورات الاقتصاديّة; من قبيل التأمين، والبنوك وغيرها.

وثانياً: مع غضّ النظر عن تغيّر وتبدّل الموضوعات، أو الحاجات والضرورات الجديدة، فقد يحدث للفقيه ـ بسبب مرور الزمان وسعة العلوم البشريّة والارتباط الثقافي مع العالم ـ فهماً جديداً من الأدلّة والمنابع الفقهيّة يقوم على أساس نفس المباني الاجتهاديّة، مثلاً يفهم من الأدلّة التي تشترط إذن المعصوم (عليه السلام) أو نائبه الخاصّ في الجهاد، أنّ الجهاد الابتدائي يفتقد للمشروعيّة بدون إذن. والحال أنّ بعض الفقهاء في هذا العصر يرون أنّه يجب معرفة الملاك لهذا الشرط أوّلاً.

ومن المعلوم أنّ المقصود من شرطيّة هذا الشرط هو: أنّ الجهاد الابتدائي ليس من قبيل الصلاة والصوم، بل يحتاج إلى إمام وقائد يدرس جوانب الموضوع بنحو دقيق، ويتمّ الجهاد على أساس هذا النظر الدقيق له، ولسنا في صدد المناقشة


صفحه 254

في صحّة أو سقم هذه النظريّة، ولكن ذكرنا هذا المورد بعنوانه شاهداً على اختلاف الفهم بالنسبة للأدلّة الفقهيّة على أثر مرور الزمان.

وقد يتوهّم أنّ هذا الفهم نفسه كان في السابق لدى بعض الفقهاء أيضاً، وليس له أيّ ارتباط بمسألة الزمان والمكان، ولكنّنا في مقام الجواب نقول: رغم أنّ هذا التوهّم قد يكون له نصيب من الواقع، ولكنّ الفقيه يمكنه إمضاء هذا الفهم بمشاهدته للحروب وأشكال الدفاع.

ب) تأثير الزمان والمكان في العلوم الاعتباريّة

إنّ تأثير الزمان والمكان في الكثير من العلوم يكاد يكون مشهوداً وملموساً. وهذا المعنى واضح في العلوم التجربيّة والإنسانيّة إلى درجة لا يحتاج معها إلى بيان وتمثيل، مضافاً إلى ذلك فإنّ هذه المسألة لها دور هامّ في بعض العلوم الإلهيّة غير النظريّة أيضاً كالعرفان، يقول «صائن الدِّين علي بن محمد التُركة» في كتابه المعروف:

«ولا شكّ أنّ المناسبة الزمانيّة من أتمّ المناسبات»(1).

ومن الواضح أنّ المناسبات الزمانيّة والشرائط الخاصّة بالزمان والمكان لها أثر مهمّ في المسائل العرفانيّة والواردات القلبيّة، والمكاشفات المعنويّة للعارف. والغرض من نقل هذا المطلب بيان سعة دائرة تأثير الزمان والمكان، وإلاّ فإنّ ماجاء في باب العرفان يتفاوت كلّياً مع ما سيأتي من تأثير هذه المسألة في علم الفقه.

وما هو جدير بالذكر أنّ هذا العنصر الهامّ لا يتدخّل أبداً في المسائل النظريّةالحقيقيّة، فالعلوم المبتنية على القواعد العقليّة من قبيل الفلسفة والرياضيات


(1) تمهيد القواعد 2 : 236.

صفحه 255

لا تتأثّر بتغيّر الشرائط والخصوصيّات. نعم، لا يمكن إنكار تأثير تغيّر الزمانوالمكان في ظهور معادلات علميّة جديدة أفضل من السابق، من قبيل تغيير بعض القواعد الهندسيّة المبتنية على الاُمور الخارجيّة، مثل كرويّة الأرض، ولكن لا يمكن تغيير القواعد الرياضيّة والهندسيّة المبتنية على المباني العقليّة والمنطقيّة، وعليه يكون بإمكاننا بيان قاعدة كلّية في هذا المجال، وهي: أنّ جميع العلوم الاعتباريّة كالفقه تقع تحت تأثير هذا العنصر الهامّ، إلاّ أنّ تأثيره في العلوم الحقيقيّة محدود جدّاً، بل في حيّز العدم.

وبالرغم من أنّ علم الفقه كالعلوم الاعتباريّة الاُخرى له ملاكات مشخّصة من الناحية العلميّة، وله موضوع ومبادئ ومسائل مشخّصة كسائر العلوم الاُخرى، فلماذا يستنكر ويستوحش الفقهاء في البداية من مسألة تأثير هذا العنصر في الأحكام الشرعيّة، والحال أنّنا لا نرى أيّ لون من ألوان الاستنكار والاستيحاش في دائرة العلوم التجربيّة؟

هل أنّ وجود منبع استدلاليّ ثابت ومتقن ـ كالقرآن الكريم، ومعه الثقل الآخر وهي الروايات ـ يمثِّل نقطة الفرق بين علم الفقه وسائر العلوم؟

هل أنّ وجود بعض القواعد والأحكام التعبّدية هو السبب الذي يقف وراء ذلك؟

هل أنّ عدم الإحاطة بملاكات الأحكام الشرعيّة استوجب هذا الافتراق؟

لابدّ لمعرفة الجواب عن هذه الأسئلة ونظائرها من بيان أُمور:

الأوّل: أنّ هذه المسألة من أيّ مسائل العلوم؟ وبأدوات ووسائل أيّ علم يمكننا توضيح وبيان هذه المسألة؟

الثاني: لابدّ من بيان الفرق الأساسي بين هذه المسألة، والمسائل الاُخر: من


صفحه 256

قبيل العرف، وبناء العقلاء، وحتّى المسائل المستحدثة; لأنّ البعض(1) تصوّر عدم وجود فرق بين هذه المسألة (تغيّر الزمان والمكان) وبين مسألة العرف وبناء العقلاء. فهذه تعبيرات مختلفة لمعنى واحد.

الثالث: لابدّ من دراسة الأبعاد الموجودة في علم الفقه من قبيل: الملاكات والموضوعات، والمتعلّقات، وكذلك أنواع وأقسام الحكم الشرعيّ.

ج) موقع مسألة الزمان والمكان

لم تبحث مسألة تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد في أيّ من العلوم المدوّنة الحاليّة، كالفقه والاُصول والكلام، ولهذا يجب البحث في أنّ الموقع العلمي لهذه المسألة في ضمن مسائل أيّ علم ستكون؟

من الواضح: أنّ علم الفقه لا يتكفّل تبيين هذه المسألة المهمّة; لأنّ الضابطة في المسألة الفقهيّة هي بيانها لحكم جزئيّ في موضوع معيّن، في حين أنّ مسألة الزمان والمكان ليست كذلك، ولا ترتبط مباشرة بفعل المكلّف، الذي يشكّل الموضوع لعلم الفقه.

وكذلك الحال بالنسبة لعلم الاُصول، حيث لا يتكفّل هذا الأمر; لأنّ معيار المسألة الاُصوليّة هووقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ، أو بتعبير البعض(2): ما تقع في كبرى القياس، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان ليس لها هذه الصلاحيّة.

قد يخطر على الذهن في البداية أنّ هذا البحث مربوط بمبادئ الأحكام، وهذه المبادئ عبارة عن اللوازم والحالات المترتّبة على الأحكام الشرعيّة; من قبيل مسألة التضادّ وعدمه بين الأحكام الشرعيّة، وبما أنّ في هذا البحث تُبحث مسألة


(1) مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى إمام خمينى (رحمه الله) «اجتهاد و زمان و مكان» 1: 225ـ 231.
(2) فوائد الاُصول 1: 29، الاُصول العامّة للفقه المقارن: 41 ـ 42.

صفحه 257

تأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة، يكون البحث عن عوارض وحالات الحكم الشرعيّ. وعليه: يدخل في مبادئ الأحكام الشرعيّة.

وسوف يتّضح لاحقاً أنّ هذا البحث ليس له تأثير مباشر في الأحكام الشرعيّة نفسها، بل يؤثّر غالباً في إيجاد تغييرات في دائرة الموضوعات والمتعلّقات.

وعليه: لا يمكن اعتباره من مبادئ الأحكام، والتحقيق هو: أنّ هذا البحث لا ينبغي أن يبحث بعنوان مسألة من المسائل حتّى نبحث عن العلم الذي تُبحث فيه هذه المسألة، بل هو عنوان كلّي عامّ يعبّر عنه بنظريّة دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ويرتبط بالنظريّات الفقهيّة العامّة.

وقد بيّنا في محلّه(1) أنّ بين المسألة الاُصوليّة والمسألة الفقهيّة والقواعد الفقهيّة من جهة، والنظريّة الفقهيّة العامّة من جهة اُخرى، بونٌ شاسع وتفاوت أساسيّ.

النظريّة الفقهيّة العامّة عبارة عن المباحث المتعلِّقة ببعض الموضوعات السائدة في أبواب مختلفة من علم الفقه، ولها دور في كثير من الفروعات المتفرّقة، وكذلك تكون أساساً ومبنىً لموضوعات أُخر; من قبيل البحث عن العرف وحقيقته وحدوده وتأثيره في المسائل الفقهيّة.

وعليه: فإنّ النظريّة الفقهيّة العامّة لاتتضمّن حكماً شرعيّاً، بل تتضمّن بيان شرائط وأركان أمر معيّن، وكذلك تحوي قضايا متعدّدة.

إنّ مسألة تأثير الزمان والمكان في الأبواب المختلفة لعلم الفقه هي نظريّة فقهيّة عامّة، يجب أن تُبحث في مكان آخر على مستوى تعريفها، وماهيّتها، ومقدار تأثيرها، وحدودها، وسائر الخصوصيّات الأُخر، فعلى هذا لا يمكن اعتبارها من مسائل أيّ علم من العلوم.

ويتبيّن من هذا المطلب:


(1) مقدّمة القواعد الفقهيّة ـ لسماحة آية الله العظمى الشيخ فاضل اللنكراني(قدس سره) 1: 13.

صفحه 258

أوّلاً: أنّ مسألة الزمان والمكان لا تدخل في أيّ علم من العلوم المتعارفة، كالفقه أو الأُصول.

وثانياً: أنّ هذه المسألة ليست قضيّة واحدة متشخّصة، بل تتضمّن عدّة قضايا متنوّعة.

وثالثاً: أنّ هذه المسألة ليس لها أيّ ارتباط مباشر بالأحكام الشرعيّة، ولاتستتبع حكماً شرعيّاً، وكذلك لا تعتبر دليلاً للحكم الشرعيّ، كما هو الحال في سائر أدلّة الأحكام. وعليه: فمن الخطأ أن نتصوّر أنّ بإمكاننا استخراج الحكم الشرعيّ، أو إقامة الدليل عليه من خلال الزمان والمكان.

ورابعاً: أنّ هذه المسألة ليس لها دور في عمليّة الاستدلال، بل لها دور في تبيين الموضوعات، أو إحدى الطرق الممهّدة لفهم الخصوصيّات والشرائط الجديدة لموضوع معيّن، أو في مقام تبيين ظاهر أحد الأدلّة.

وخامساً: بما أنّ هذه المسألة لا تُؤخذ بعنوان دليل مستقلّ، فلا يمكنهاأن تكون بمثابة مخصّص لدليل، أو حاكم على دليل، ولكن لها صلاحيّة أن تكون فعليّة من جهة الحكومة على دليل آخر; يعني أنّ من الممكن أن لا يكون بين دليلين أيّ ارتباط في بعض الموارد والظروف، ولكن في ظروف اُخر يكون أحدهما ناظراً إلى الآخر، ويرتدي عنوان الدليل الحاكم على الآخر، وسيتّضح هذا المعنى أكثر في المباحث اللاحقة.

د) تفاوت الزمان والمكان مع بعض الاُمور المشابهة

1 ـ الزمان والمكان ومسألة العرف

يرى بعض المحقّقين(1) أنّه لا فرق بين هاتين المسألتين، فكلّ واحدة منهما تعبير


(1) تقدّم في ص256.

صفحه 259

عن عنوان آخر لمسألة واحدة، في حين يتّضح مع التأمّل والدقّة في المطلب أنّ بينهما فرقاً أساسيّاً وواضحاً، ومن أجل تبيين هذا المطلب لابدّ من ذكر بعض الاُمور حول مفهوم العرف:

يقول الشهيد آية الله الصدر (قدس سره) في تعريف العرف: «وهناك نوع آخر من السيرة يطلق عليه في علم الاُصول اسم «السيرة العقلائيّة». والسيرة العقلائيّة عبارة عن ميل عامّ عند العقلاء ـ المتديّنين وغيرهم ـ نحو سلوك معيّن دونأن يكون للشرع دور إيجابيّ في تكوين هذا الميل، ومثال ذلك: الميل العامّ لدى العقلاء نحو الأخذ بظهور كلام المتكلّم»(1).

والتحقيق: أنّه بالرغم من وجود نقاط مشتركة بين هاتين المسألتين، ولكنّهما يفترقان في خمس جهات:

الاُولى: يتضمّن عنوان العرف اتّجاهاً وميلاً لدى عموم الأفراد، وهو السبب وراء وجود منهج عمليّ لدى الناس كافّة.

في حين أنّ مسألة الزمان والمكان لا تكون بهذه الصورة دائماً، بل قد تحدث وقائع اجتماعيّة غير متوقّعة أحياناً، ولاتتضمّن أيّ نحو من الميل العامّ للناس.

الثانية: ترتبط مسألة العرف بعامّة الناس وأغلبيّة الأفراد الذين يعيشون في مجتمع واحد، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان ـ مضافاً إلى دورها الأساسيّ في صياغة المجتمع ـ لها تأثير واضح على الفرد المعيّن أيضاً، مثلاً الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2)يرى في مسألة منجّزية العلم الإجمالي أنّ ابتلاء المكلّف هو أحد شرائط التكليف. ومن الواضح أنّ الشيء الواحد يمكنه أن يكون محلّ ابتلاء المكلّف في زمان معيّن، ويخرج ذلك الشيء نفسه عن محلّ الابتلاء في زمن آخر.


(1) المعالم الجديدة: 168.
(2) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2 : 233 ـ 238.

صفحه 260

الثالثة: ترتبط مسألة الزمان والمكان في بعض مواردها ومصاديقها بحفظ الدِّين وصيانته من الزوال، وليس لهذه المسألة ارتباط بالعرف.

مثلاً: في زمان حياة الإمام الخميني (قدس سره) حصلت ظروف معيّنة أوجبت تعطيل الحجّ لمدّة ثلاث سنوات(1)، بل يمكن القول بأنّ وجوب الحجّ غير ثابت في تلك الظروف، والاستطاعة غير متحقّقة; لأنّ جميع الفروعات والأحكام الشرعيّة محكومة في مقابل مسألة حفظ أساس الدِّين، فهذه المسألة حاكمة على جميع تلك الموارد، ومقتضيات الزمان والمكان هي التي تقرّر فعليّة هذه الحكومة، رغم أنّنا قلنا سابقاً: إنّ هذه المسألة لا ترتبط مباشرة بمسألة تخصيص دليل بالنسبة إلى دليل آخر، أو حكومة دليل على دليل آخر، ولكنّها قد تكون سبباً لفعليّة حكومة الدليل الحاكم.

الرابعة: في بعض الموارد يمكن أن يحدث لموضوع يرتبط بالعلاقات الاجتماعيّة السائدة في المجتمع حكماً آخر، وليس لذلك أيّ ارتباط بالعرف.

الخامسة: في بعض الموارد يكون للعرف دور هامّ، ليس لمسألة الزمان والمكان أيّ تأثير فيها، مثلاً للعرف دور أساسيّ في فهم ظواهر الألفاظ والمفردات في اللغة، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان أجنبيّة عن هذا الأمر.

وعلى هذا الأساس; فالنسبة بين مسألة العرف، ومسألة الزمان والمكان هي العموم والخصوص من وجه.

2 ـ الزمان والمكان، وبناء العقلاء

ورد بناء العقلاء في علم الاُصول باعتباره أحد الأدلّة التي تُبحث ضمن


(1) وهي سنة 1407 من الهجرة النبويّة (صلى الله عليه وآله) ، التي قُتل فيها جمعٌ كثير من الحجّاج الإيرانيّين حين إعلان البراءة من المشركين إلى ثلاث سنوات بعدها، صحيفة الإمام الخميني (قدس سره) 20: 349.

صفحه 261

موضوع السنّة، فلو أنّ العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ اتّفقوا على أمر من الاُمور في دائرةجلب المصلحة أو دفع المفسدة، وقد تمّ إمضاء هذا الاتّفاق من قِبل المعصوم (عليه السلام) . فحينئذ يعتبر دليلاً شرعيّاً يمكن الاستفادة منه في إثبات الحكم الشرعيّ، والحال أنّه قد تقدّم(1) أنّ مسألة الزمان والمكان ليس لها أيّ ارتباط مباشر مع الأحكام الشرعيّة.

ولا تعتبر دليلاً من الأدلّة الشرعيّة، ولتوضيح هذا المطلب لابدّ من بيان معنى بناء العقلاء باختصار:

إنّ المحقّق الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قدس سره) يقول في تحقيقاته في البحوث الاُصوليّة: إنّ السيرة العقلائيّة لا تحتاج حجّيتها إلى إمضاء الشارع في موردين :

الأوّل : أن تكون السيرة العقلائيّة بنفسها منقّحة ثبوتاً لفرد حقيقيّ، من الموضوع، كما إذا لاحظنا دليل وجوب إمساك الزوجة بمعروف، أو تسريحها بإحسان(2) ، الذي دلّ على وجوب النفقة تحت عنوان «الإمساك بمعروف» ; فإنَّ المعروف من العرف، وهو الشايع والمستساغ .

الثاني : أن تتدخّل السيرة في تنقيح الموضوع إثباتاً وكشفاً، لاثبوتاً، كما كان في النحو الأوّل . كما إذا دلّ دليل على أنّ «المؤمنين عند شروطهم» ، واكتشفنا من تباني العقلاء، وسيرتهم على خيار الغبن، أنَّهم لايرضون في البيع والمعاوضة بفوات الماليّة، وإنَّمايرفعون اليدعن الخصوصيّة مع الحفاظ على الماليّة بما يساويها عرفاً في العوض .

وأمّا ما تحتاج في إثبات حجّيتها إلى إمضاء الشارع ففي موردين آخرين :

الأوّل : السيرة التي تنقّح ظهور الدليل، وهذا يدخل تحته أعمال المناسبات العرفيّة، والمرتكزات الاجتماعيّة المرتبطة بفهم النصّ .


(1) في ص 258.
(2) سورة البقرة 2: 229.

صفحه 262

الثاني : السيرة المتشرّعيّة; وهي التي يراد الاستدلال بها على كبرى الحكم الشرعي، كالسيرة العقلائيّة القائمة على أنّ من حاز شيئاً من الأموال المنقولة المباحة ملكها، وكذلك السيرة القائمة على خيار الغبن في المعاملة إذا اُريد الاستدلال بها على إثبات الخيار ابتداء(1) .

ويستفاد من كلمات الإمام الخميني (قدس سره) بأنّه لو فرض عدم العمل ببناء العقلاء في المورد الثاني; فإنّه يلزم منه اختلال النظام. وعليه: فليس فقط نستغني عن إمضاء الشارع، بل إنّ الشارع المقدّس لا يتمكّن من المخالفة في مثل هذا المورد، بل لابدّ له من العمل به بما أنّه أحد العقلاء(2).

وبالرغم من أنّ مرور الزمان، واكتشاف العلوم البشريّة الجديدة يؤثِّر في ظهور سلوكيّات، وسير عقلائيّة جديدة، ويهيّئ الأرضيّة لتحقّقها على أرض الواقع الاجتماعي ـ ومن هنا يتجلّى الارتباط الوثيق بين هاتين المسألتين ـ ولكن في الوقت نفسه فإنّ موارد كثيرة في مسألة الزمان والمكان لا ترتبط بمسألة بناء العقلاء وتوافقهم، على سبيل المثال ظهور موضوعات وضرورات جديدة من قبيل تشريح بدن المسلم.

وكذلك لو وصل الفقيه إلى حكم شرعيّ نتيجة سعة إطّلاعه، والوثوق بملاكه، وعمل على إجرائه في سائر الموارد، أو تعيين المصاديق في باب الاحتكار، حيث يكون بعهدة الوليّ المتصدّي للحكومة في كلّ زمان ـ فيختار المصاديق لهذا الأمر طبقاً لمقتضيات الزمان ـ أو ما نجده في باب الحجّ في مورد رمي الجمرات، حيث تمّ إضافة بناء جديد لها، فهل أنّ رمي الأحجار الإضافيّة مجز، أم لا؟ وأمثال هذه الموارد التي لا يكون لبناء العقلاء أيّ دور فيها.


(1) بحوث في علم الأصول 4: 234 ـ 236.
(2) اُنظر تهذيب الاُصول 2: 472 ـ 475، ومعتمد الاُصول 1 : 485 ـ 486.

صفحه 263

3 ـ الزمان والمكان، والمسائل المستحدثة

توجد مسائل في الفقه المعاصر لم تُذكر في كتب فقهاء السلف، ولهذا ذكرت بعنوان المسائل المستحدثة; أي المسائل الجديدة; من قبيل تشريح بدن الميّت المسلم، هل يجوز ذلك، أم لا؟ أو هل يجوز وصل الأعضاء من بدن الحيّ لحيٍّ آخر، أو من ميِّت إلى بدن حيّ، أم لا؟

عنوان «المسائل المستحدثة» ـ بعكس المسألتين السابقتين ـ له ارتباط وثيق بمسألة الزمان والمكان، ولكن في نفس الوقت هناك فرق بين هذين العنوانين في جهة من الجهات.

ففي بعض المسائل يكون للمكان دور أساسيّ في تغيير الموضوع، في حين أنّه لا يعتبر من المسائل المستحدثة، وقد ذكر في كتب القوم; من قبيل مسألة بيع الماء في البيداء، حيث يتمتّع بماليّة وقيمة شرائيّة، ولكنّه في غير البيداء لا ماليّة له، وغير قابل للبيع والشراء، أو مسألة بيع وشراء الدم، حيث منع منه الفقهاء الماضون. ولكنّ الفقهاء المعاصرين أجازوا هذه المعاملة لترتّب المنفعة العقلائيّة عليها، فهذه المسألة مذكورة في كتب القدماء، وليست من المسائل المستحدثة.

النتيجة هي: أنّ المسائل المستحدثة تدور نوعاً حول الموضوعات الجديدة التي لم تبحث في السابق، أو لم تحقّق قبل ذلك، كالصلاة في المناطق القطبيّة، في حين أنّ مسألة الزمان والمكان أعمّ من هذه المسألة، وتدور حول تغيير خصوصيّات الموضوع الذي تمّ بيان حكمه سابقاً.

ونستنتج ممّا تقدّم أنّ مسألة الزمان والمكان بحث واسع يستوعب مسألة العرف، وبناء العقلاء، والمسائل المستحدثة، وهذه المسائل تعدّ في كثير من الموارد من صغريات هذه المسألة.


صفحه 264

4 ـ الزمان والمكان، ومسألة النسخ

لا شكّ في وقوع النسخ في الشرائع السابقة، وكذلك في بعض أحكام الشريعة الإسلاميّة، والمقصود من النسخ هو: أنّ الشارع المقدّس يرفع حكماً كان قد قرّره في مدّة معيّنة من الزمان لمصلحة فيه بعد انقضاء تلك المدّة. وعليه: فإنّ النسخ في الاصطلاح يختصّ بالأحكام الشرعيّة، وكذلك من اللازم في النسخ أن يتمّ رفع الحكم السابق بواسطة نصّ شرعيّ آخر يدلّ على حكم آخر.

إنّ علماء أهل السنّة لا يرون فرقاً بين النسخ وتأثير الزمان والمكان في الأحكام الشرعيّة، ويقولون بأنّ النسخ عبارة عن إبطال نصّ شرعيّ سابق بوسيلة نصّ لاحق.

أمّا مسألة تغيير الأحكام بسبب شرائط الزمان، فهي عبارة عن عمل بنصّ سابق، ولكن يستفاد منه حكم جديد مبتن على دليل مستفاد من ظروف النصّ تبعاً للمصلحة الزمانيّة; يعني أنّ العمل بحكم النصّ تابع للمصلحة الوقتيّة، فلو تغيّرت المصلحة تغيّر الحكم تبعاً لها، دون أن يكون هناك حاجة لتغيير النصّ. ومن جهة يكون المبطل للعمل بالنصّ في المسألة هو الشارع، ولكن من يغيّر العمل بالحكم في مسألة تغيير المصلحة هو المجتهد(1).

وسوف نذكر لاحقاً(2) أنّ الإماميّة ترى عدم وجود مرجع لإبطال الحكم أو تغييره سوى الشارع المقدّس. وفي الوقت نفسه هناك تفاوت واضح بين هاتين المسألتين; لأنّ مسألة الزمان والمكان لا ترتبط مباشرة بالأحكام، بل تبحث عن تغيّر وتبدّل الموضوعات وحدوث خصوصيّات جديدة في موضوع معيّن، أو اختلاف الفهم من ظاهر الدليل.


(1) المدخل إلى اُصول الفقه، للدكتور محمّد معروف الله الواليبي.
(2) في ص302 ـ 303.

صفحه 265

وأمّا مسألة النسخ، فترد مع حفظ الموضوع ومن دون طروّ أيّ تغيير في خصوصيّاته.

5 ـ الزمان والمكان، وقاعدة الأهمّ فالأهمّ

أحياناً يتصوّر الشخص أنّه مع وجود القواعد العقليّة والعقلائيّة ـ من قبيل قاعدة «لزوم تقديم الفعل الأهمّ على الفعل المهمّ» ـ لا تبقى حاجة للبحث في مسألة تأثير الزمان والمكان، ولعلّ هذا المعنى يخطر على الذهن في البداية، وهو أنّ التمسّك بهذه القاعدة يمكنه أن يفي بالإجابة على جميع فروعات مسألة الزمان والمكان.

ولكن لرفع ودفع هذا التصوّر لابدّ من بيان الفرق بين هاتين المسألتين، فرغم وجود الارتباط الوثيق والعميق بينهما، أنّ هناك موارد في مسألة الزمان والمكان تكون هذه القاعدة أجنبيّة عنها.

مثلاً في مسألة بيع وشراء الدم ـ حيث يتمّ تجويزها لدى العقلاء، هذه الأيّام، لوجود المنفعة المعتبرة ـ لا يوجد أيّ ارتباط بينها ، وبين قاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ، ولكن من جهة اُخرى تجري هذه القاعدة في موارد لا ترتبط بمسألة تأثير الزمان والمكان، كالمثال المعروف حين الورود إلى المسجد، فلو التفت المكلّف إلى وجود نجاسة في المسجد، وجب عليه فوراً تطهير المسجد منها.

وهذا الفعل يكون أهمّ من الصلاة في الوقت الموسّع.

والملاحظة الجديرة بالاعتبار هي: أنّ اختلاف الأزمنة وحدوث شرائط زمانيّة ومكانيّة معيّنة، بإمكانها إعطاء الأهمّية لفعل من الأفعال. وبعبارة اُخرى: إنّ الموضوع الذي كان عديم الأهمّية في السابق، يضحى مهمّاً في اللاحق.

6 ـ الزمان والمكان، وقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»

من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي قاعدة مفادّها: أنّه في حال وجود


صفحه 266

ضرورة، أو اضطرار لشيء ممنوع شرعاً أو عقلاً، يرتفع المنع أو النهي، ويرتدي الفعل لباس الجواز; من قبيل حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه، ففي صورة الضرورة أو الاضطرار، كالعبور من ملك الغير بدون إذنه لغرض إنقاذ نفس محترمة، يخرج هذا الفعل من دائرة المنع، وعلى أساس هذه القاعدة، فالضرورات تبيح المحظورات، أو الممنوعات(1).

ورغم وجود خلاف ونزاع في تفسير هذه القاعدة، ومدركها، وحدودها، ومواردها، إلاّ أنّها بنحو الإجمال إحدى القواعد المسلّمة التي أجراها الشارع المقدّس في شريعته.

وأمّا مورد جريان هذه القاعدة، فمقيّد بأمرين:

الأوّل: وجود المنع أو النهي.

الثاني: أن يكون المكلّف مضطرّاً إلى ارتكابه.

هذا، والحال أنّ مسألة الزمان والمكان لا تتحدّد بهذين القيدين، فالكثير من الموارد يكون للموضوع حكم جديد مع تغيّر خصوصيّات ذلك الموضوع بمرور الزمان، من دون أن يكون هناك ضرورة واضطرار في البين.

* * *


(1) العناوين: 2: 704.

صفحه 267

الفصل الثاني :
كيفيّة تأثير الزمان والمكان، ودائرتهما

أ) تأثير الزمان والمكان في ملاكات الأحكام

طبقاً لمبنى المعتزلة والإماميّة بأنّ جميع الأحكام مترتّبة على وجود ملاكات; أي المصالح والمفاسد، ولا يوجد حكم من دون الأخذ بنظر الاعتبار ملاك إنشائه، ففي هذا القسم نبحث في تأثير الزمان والمكان بملاكات الأحكام، وارتباطهما بهذه المسألة.

ومع قليل من التأمّل يمكننا أن ندرك جيّداً أنّ الزمان والمكان مؤثِّران قطعاً في إيجاد ملاك معيّن أو رفعه، وكذلك في تضعيفه أو تشديده، ومن الممكن أن لا يكون لفعل مصلحة في زمان معيّن، ولكن نفس ذلك الفعل تترتّب عليه منفعة ومصلحة في زمن آخر، من قبيل بيع وشراء الدم، حيث لم تكن فيه منفعة في السابق، ولكنّه ذو منفعة في العصر الحاضر.

ومن أجل توضيح هذا المطلب: لابدّ من وضع ملاكات الأحكام في أقسام وأنواع مختلفة ودراستها.

ففي تقسيم ابتدائي وسطحي تنقسم الأحكام الشرعيّة إلى أربعة أقسام:

1 ـ أحكام عباديّة.


صفحه 268

2 ـ أحكام معاملاتيّة.

3 ـ أحكام شخصيّة.

4 ـ أحكام تتعلّق بالنظام السياسيّ، والمجتمع (أحكام اجتماعيّة).

1 ـ ملاكات الأحكام العباديّة

المراد من الأحكام العباديّة: التعليمات والأوامر التي يحتاج المكلّف لامتثالها والإتيان بها إلى قصد القربة، وقد جعلها الشارع المقدّس لغرض تهذيب النفوس وتقوية جانب العبوديّة في الإنسان، ورغم أنّ بعض العبادات مجهولة الملاك وهويّته في أنظار المحقّقين، ولكن لا يمكن إنكار هذه الحقيقة، وهي أنّه في بعض الموارد يمكننا استخراج ملاكات الأحكام العباديّة من باطن الشريعة.

طبقاً لفتوى بعض الفقهاء: أنّه لو اُقيمت صلاة الجمعة وجب على المؤمنين حضورها والاشتراك فيها على الأحوط، ولكن في حالة عدم إقامتها في زمن معيّن فسوف لاتكون مجزئة عن صلاة الظهر أيضاً(1).

يستفاد من هذه الفتوى جيّداً أنّ الفعل العبادي يمكنه أن يكون ذا مصلحة في ظروف زمانيّة خاصّة، وفاقداً لها في ظروف وشرائط اُخر. وبعبارة اُخرى: يمكننا اكتشاف ملاك هذه العبادة في بعض الأزمنة من هذه الفتوى.

إنّ ما هو المسلّم هنا أنّ من بين المسائل العباديّة ما يكون مقدّماً في نظر الشارع المقدّس على الآخر، وما أكثر ما يكون لمسألة الزمان ومقتضياته وخصوصيّاته دوراً واضحاً في هذا التقدّم.

وعليه: فإنّ ما تصوّره بعض الكتّاب(2) من أنّ بحث العبادات خارج عن


(1) منهاج الصالحين للسيّد الخوئي (قدس سره) 1 : 186.
(2) مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى امام خمينى (رحمه الله) ، نقش زمان و مكان در اجتهاد 14: 141.

صفحه 269

دائرة مسألة تأثير الزمان والمكان، هو توهّم لا أساس له من الصحّة، ويستفاد جيّداً من كلمات الإمام الراحل (قدس سره) أنّ هذا البحث يشمل مسألة العبادات أيضاً، والشاهد على ذلك مسألة الحجّ وتعطيله لمدّة ثلاث سنوات(1)، وكذلك يمكن القول بأنّ إقامة صلاة الجمعة في عصر الحكومة الإسلاميّة، بإمكانه أن ينفي على الأقلّ استحباب صلاة الظهر جماعة، فتأمّل.

2 ـ ملاكات الأحكام المعاملاتيّة

أمّا في دائرة المعاملات، فالمسألة أوضح بكثير من العبادات; لأنّ المعاملات في حقيقتها أُمور عقلائية تمّ إمضاء الشارع المقدّس للكثير منها. وعليه: فإنّ ملاكات المعاملات واضحة لدى العقلاء غالباً.

ومن جهة الرجوع إلى العقلاء نرى أنّهم يرون أهمّية فائقة للزمان والمكان في هذه الدائرة، فيمكن أن لا يكون لشيء معيّن ماليّة وقيمة لدى العقلاء في زمان خاصّ، ولكن ذلك الشيء نفسه يتمتّع بقيمة في زمن آخر، وتتمّ المعاملة عليه، أو أنّ نوعاً من المعاملة يعتبر في زمان ومكان معيّنين من أنواع المعاملة الغبنيّة، وفي زمان آخر أو مكان آخر لا يكون كذلك، فعلى هذا فإنّ مسألة الزمان والمكان لها دور أساسيّ في جميع العناوين والشرائط التي يعتبرها العقلاء في المعاملات.

أمّا الشرائط والخصوصيّات التي اعتبرها الشارع المقدّس بصورة مستقلّة وبعنوان كونه شارعاً، من قبيل جعل الخيار لمشتري الحيوان ثلاثة أيّام، أو مسألة التنجيز في العقود، أو بعض موارد الضمان، فلا أثر للزمان والمكان في هذه الموارد.

وفي هذا البين نواجه بعض الخصوصيّات الموجودة في بعض العقود والإيقاعات، الذي يورث الشكّ لدى الفقيه ابتداءً في أنّ الشارع هل اشترط ذلك


(1) تقدّم في ص260.

صفحه 270

بعنوان ملاك تعبّدي، أو على أنّه ملاك عقلائيّ، مثلاً في عقد النكاح الذي يعدّ من المعاملات بالمعنى الأعمّ، قد قرّر الشارع بعض العلل لفسخ النكاح من قبيل القرنأو البرص، ففي مثل هذا المورد يحصل لدينا شكّ في البداية بأنّ مجرّد وجود هذا العيب هل يسوّغ فسخ النكاح، والشارع ـ بعنوان كونه شارعاً ـ أنشأ هذا الأمر، أو أنّ مثل هذه العيوب، وبسبب كونها صعبة العلاج في الماضي أوجبت جواز الفسخ؟ وفي هذا العصر حيث تطوّر علم الطبّ، وبإمكانه علاج مثل هذه الأمراض بسهولة من خلال عمليّة جراحيّة بسيطة، هل يزول بسببيّتها فسخ النكاح؟

ومن جهة اُخرى: هل أنّ أسباب فسخ النكاح منحصرة في هذه العيوب الخمسة الواردة في الروايات(1)، أو أنّ الأمراض العسيرة العلاج في هذا الزمان، مثل السرطان والإيدز يمكن أن تكون من موجبات فسخ النكاح؟

ومن أجل حلّ هذه الإشكالات وعلامات الاستفهام يمكننا القول بأنّ الشارع إذا قصد إعمال التعبّد في الحكم، فلابدّ من نصب قرينة وإضافة بيان خاصّ بذلك، وبدون إقامة القرينة يجب حمل ذلك الحكم على وفق الارتكازات العقلائيّة وتفسيره على هذا النحو. وبعبارة اُخرى: في مورد العبادات يكون وجود ملاك تعبّديّ لا يتمكّن العقلاء من دركه وفهمه محتمل جدّاً.

ولكن وجود مثل هذا الملاك في الموارد غير العباديّة ـ بحيث يعجز العقلاء عن درك مغزاه وفحواه، ويكون الشارع قد جعل الحكم بلحاظ ذلك الملاك ـ بعيد جدّاً، وعلى فرض تحقّق هذا الأمر من الشارع ولو في صورة نادرة، فلابدّ للشارع من نصب قرينة لبيان قصده في إعمال التعبّد لكيلا يُحمل على الملاك الارتكازي للعقلاء.


(1) وسائل الشيعة 21: 207 ـ 211 ، كتاب النكاح، أبواب العيوب والتدليس ب1.

صفحه 271

3 ـ ملاكات الأحكام الشخصيّة

توجد في علم الفقه بعض الأحكام يطلق عليها عنوان «الأحكام الشخصيّة» والمراد منها: الأحكام التي يكون موضوعها، أو متعلّقها غير مرتبط بالمجتمع ونظام الحكم فيه، بل يؤخذ الشخص بما هو شخص في موضوعها.

وبعبارة أُخرى: إنّ ملاك هذا النمط من الأحكام وجود المصلحة أو المفسدة المتعلّقة بالشخص فحسب، دون المجتمع، من قبيل المعاملات الشخصيّة التي تُعقد بين شخصين.

فمثل هذه المعاملة تقع صحيحة شرعاً، ويؤخذ في هذا الحكم الملاك الشخصي. وهكذا الحال في وجوب الصلاة، وكثير من الأحكام العباديّة، فالشارع المقدّس قد وضع الصلاة على الشخص المكلّف بعنوان تكليف فرديّ، فيجب عليه امتثاله والإتيان به في جميع الظروف، وفي كلّ زمان ومكان، وهذا الحكم وإن كان لا يخلو من فوائد اجتماعيّة، ولكنّ الملاك الأساسي فيه هي المصلحة المتعلِّقة بالأفراد.

وهنا لابدّ من ذكر هذا الأمر; وهو: أنّ بعض العناوين والموضوعات، كالبيع مثلاً، تارةً: تكون شخصيّة، مثل كثير من المعاملات المنعقدة بين الناس، وتارةً أُخرى: تخرج عن الإطار الشخصي، مثل شراء بضاعة من شركة صهيونيّة، فمع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ ربح هذه المعاملة سيصبّ في جيب الصهاينة، ويؤدّي إلى تقوية هذه الدولة الغاصبة، ففي هذه الصورة لا يمكن القول بجواز هذه المعاملة.

4 ـ ملاكات الأحكام الاجتماعيّة

الأحكام التي يُلحظ فيها جهة حفظ مصالح المجتمع، ونظامه السياسيّ، لها خصوصيّة متميِّزة في علم الفقه، ورغم أنّ هذه الأحكام لم تُبحث بشكل مستقلّ في الفقه، ولكن يمكن العثور على مثل هذه الأحكام ضمن أبواب الفقه وأحكامه.


صفحه 272

وهذا النوع من الأحكام له ارتباط وثيق بالأحكام الحكوميّة، وقد ذهب البعض إلى أنّ هذه الأحكام من حيث الكمّية والمقدار أكثر بكثير من الأحكام الشخصيّة في الشريعة المقدّسة، وأنّ الأحكام الجزائيّة والقضائيّة في الفقه هي من هذا النوع من الأحكام.

وبديهيّ أنّ الملاك الأساسي في مثل هذه الأحكام هو حفظ الدِّين والمجتمع والنظام الاجتماعي، ومن جهة أُخرى: من البديهي أنّ المصالح تختلف باختلاف الظروف والأزمنة، وعليه: فإنّ الأحكام المتعلِّقة بالنظام الاجتماعي سوف تتغيّر تبعاً لتغيّر الزمان واختلاف المكان، وأحد الأركان والمراجع المهمّة في الفقه الإسلامي، الذي يمكنه تشخيص المصلحة في الأزمنة المختلفة، وإعطاء الحكم وفقاً لتلك المصلحة هو الوليّ الفقيه.

النتيجة: أنّ الزمان والمكان بالمعنى الاصطلاحي له صلاحيّة التأثير في ملاكات الأحكام الشرعيّة، ولكن هذا التأثير يكون محدوداً جدّاً في دائرة الأحكام العباديّة، والشخصية، وواسع جدّاً في دائرة الأحكام المعاملاتيّة والاجتماعيّة.

ب) تأثير الزمان والمكان في موضوعات ومتعلّقات الأحكام

1 ـ تعريف الموضوع والمتعلّق

إنّ كلّ قضيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً لابدّ أن يكون لها موضوع يترتّب عليه الحكم، وكذلك لابدّ أن يكون لها متعلّق يتعلّق به الحكم، ولهذين الأمرين ـ أي الموضوع، والمتعلّق ـ اصطلاحات مختلفة لدى الاُصوليّين، فالمحقّق النائيني (قدس سره) (1)


(1) لاحظ فوائد الاُصول 3 : 37 ـ 43.

صفحه 273

يقول في مثال حرمة شرب الخمر: إنّ الحكم عبارة عن الحرمة، والمتعلّق هوالشرب، والموضوع هو الخمر، وفي مثال وجوب الزكاة يكون الوجوب هو الحكم، والأشياء متعلِّق الحكم، والزكاة موضوعه أو متعلّق المتعلّق.

الموضوع عبارة عن شيء مفروض الوجود في مرتبة سابقة على الحكم، بخلاف المتعلّق; فإنّه ليس كذلك، بل هو في مرتبة الأمر والحكم، ومن خلال الأمر يكون المكلّف مأموراً بالإتيان به، وكذلك بالنهي يكون مأموراً بتركه.

والبعض الآخر(1) يرى أنّ الموضوع في المثالين المذكورين ـ أي حرمة شرب الخمر، ووجوب الزكاة ـ هو الإنسان المكلّف.

والحكم غير قابل للتغيّر من دون تغيّر الموضوع، أو قيوده، أو المتعلّق. إلاّأن يكون المراد من تغيير الحكم: أنّ نظر الفقيه على أثر مرور الزمان، وسعة إحاطته العلميّة يكون أقوى من السابق في دائرة الاستنباط من الأدلّة الشرعيّة، ويأخذ بنظر الاعتبار مباني جديدة في حركة الاجتهاد.

والبحث هنا يدور حول كيفيّة تأثير الزمان والمكان في الموضوعات أو المتعلّقات، فالزمان والمكان لاتأثير لهما في نفس عناوين الموضوعات والمتعلّقات; بمعنى أنّ الموضوع أو المتعلّق لا يخرج عن إطار عنوانه مع تغيّر الظروف والخصوصيّات الزمانيّة والمكانيّة; أي أنّ شرب الخمر مثلاً يبقى دائماً متعلِّقاً للحرمة، والتأثير الوحيد الذي يمكن تحقيقه في هذا المجال، هو أن يقوم بتغيير الشرائط والخصوصيّات التي تمّ جعل الحكم بالنظر لها، والإتيان بشرائط وخصوصيّات جديدة ممّا يستتبع تبدّل الحكم.

والملاحظة المهمّة التي لابدّ أن تؤخذ بنظر الاعتبار هي: أنّ الفقيه يجب عليه أن يدرك جيّداً ـ من خلال التأمّل والتدبّر ـ أنّ هذه الخصوصيّة والحيثيّة


(1) لم نعثر عليه عاجلاً .

صفحه 274

الملازمة للموضوع، هل يمكنها أن تكون مؤثِّرة في تغيير وتبدّل الموضوع إلى موضوع آخر، أم لا؟

وببيان أوضح: من الممكن أن يحمل حكم على موضوع معيّن بنحو الإطلاق; أي أنّ الظاهر هو أنّ الدليل يترتّب الحكم على ذلك الموضوع بجميع شرائطه وخصوصيّاته، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الواقع هل هو كذلك؟

مثلاً يمكن أن يدّعي أحد الأشخاص ـ على أساس رواية واردة في هذا الموضوع ـ أنّ الشطرنج الذي كان حسب الظاهر من أدوات القمار في مرحلة الحدوث، قد حرّمه الشارع على الدوام، وحرّم جميع أنحاء استعمالاته، حتّى في الزمن الذي خرجت فيه هذه اللعبة عن عنوان القماريّة ، فالذي هو المهمّ في هذا المورد، ومحلّ تأكيد الإمام الراحل (قدس سره) أيضاً أنّ الفقيه يجب أن يعلم أنّ الأحكام الصادرة من الشرع لم تطرح يوماً من دون اعتبار الخصوصيّات، والظروف المحيطة بالموضوع في ذلك الزمان، بل تمّ جعل ذلك الحكم على ذلك الموضوع مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الخصوصيّات والظروف.

ومن أجل توضيح وتكميل هذا المطلب لابدّ من بيان أنواع الموضوع وأقسام التغيير على سبيل الإجمال.

2 ـ أقسام التغيير في خصوصيّات وشرائط الموضوع

الأوّل: أحياناً تحدث تغيّرات على أثر مرور الزمان في بعض الموضوعات، بحيث يخرج ذلك الموضوع من العلّة التي أوجبت طروّ الحكم عليه، ويدخل في علّة جديدة توجب حكماً جديداً له، مثلاً في مسألة بيع وشراء الدم، حيث لم يحدث تغيّر في ذات الموضوع; أي الدم، بل إنّ الدم لم تكن فيه منفعة محلّلة مقصودة لدى العقلاء، وهذا هو السبب في بطلان المعاملة، ولكن في هذا الزمان خرج الموضوع من دائرة تلك العلّة ودخل في علّة أُخرى; وهي عبارة عن المنفعة المقصودة لدى


صفحه 275

العقلاء، ومن هنا يدخل في دائرة الحكم بالصحّة والجواز.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّه مع أثر مرور الزمان وحدوث تغييرات جديدة في الموضوع، إذا خرج الموضوع من دائرة التعليل لذلك الحكم، ودخل في تعليل آخر، استوجب حكماً جديداً. وينحصر هذا الأمر بالموضوعات التي تمّ التصريح بعلّة حكمها، أو علمنا بالعلّة بشكل قطعيّ.

الثاني: في بعض الموضوعات للقضيّة المتضمِّنة للحكم لا يوجد تعليل خاصّ للحكم، بل ذكر الحكم للموضوع بنحو مطلق، ففي مثل هذه الموارد إذا كان الموضوع أمراً عباديّاً، ولا طريق لنا للوصول إلى العلّة بشكل قطعيّ، فمرور الزمان، وتغيّر الظروف لا يستوجب أيّ تغيير في الحكم، بل تجري حينئذ قاعدة الأهمّ فالأهمّ، بحيث يقدّم الأمر الآخر الذي له ملاك أقوى وأهمّ، على هذا الموضوع العبادي.

وطبعاً; فإنّ بعض الموضوعات العباديّة رغم عدم وجود علّة الحكم في ظاهر الدليل، إلاّ أنّنا بإمكاننا الوثوق بعلّة الحكم في نظر الشارع، مثلاً في رمي الجمرات حيث نستفيد من مناسبات الحكم والموضوع أنّ طول وعرض الجمرة لا دخل له في ترتّب الحكم، بل نحن على ثقة بأنّ رمي الجمار إنّما يحكي عن تذكير الناس بعمل إبراهيم وآدم (عليهما السلام) ، ولغرض امتثال أمر الله تعالى.

وعليه: يمكننا الفتوى بجواز رمي المقدار الزائد، بخلاف ما ذهب إليه بعض الفقهاء العظام من الإشكال في هذا المورد(1).

وأمّا لو كان الموضوع غير عباديّ; أي لم يؤخذ في الإتيان به قصد القربة، فعلى الفقيه أن يسعى للعثور على العلّة الأساسيّة للحكم، مثلاً في تحريم الموسيقى لم تذكر علّة خاصّة في لسان الشريعة، فيكون هذا الأمر بعهدة الفقيه ليتحقّق ويرى أنّ هذا


(1) المعتمد في شرح المناسك (موسوعة الإمام الخوئي) 29: 227 ـ 228.

صفحه 276

العنوان واقع ضمن أيّ من العناوين المحرّمة في الشريعة، هل هو محكوم بالحرمة من باب اللهو، أو من باب شمول عنوان الباطل له، أو لعلل أُخر؟

ما هو الجدير بالذكر أنّ القطع بالعلّة في مثل هذه الموارد غير ضروريّ، بل يكفي الوثوق بها، ويرى المحقّق البروجردي (قدس سره) ـ في بحث أسانيد الروايات ـ أنّه لو كان الحديث غير متواتر، ولكنّ الفقيه يثق بصدوره بسبب تعدّد النقل، كفى هذا المقدار للعمل بذلك الحديث(1)، فهذه النظريّة يمكنها أن تكون حلاًّ مناسباً لما نحن فيه.

ففي نظرنا أنّ العلّة الأساسيّة للاختلاف في تأثير الزمان والمكان في الفتوى الاجتهاديّة هو هذا الأمر، حيث يذهب المنكرون للتأثير أنّ الموارد التي لم يرد فيها بيان علّة الحكم بصورة قطعيّة، لا يمكننا تغيير الحكم بسبب اختلاف الأزمنة وتغيّر الأمكنة، في حين أنّنا لو ذهبنا إلى أنّ الفقيه يمكنه من خلال التتبّع في الموارد المماثلة الوثوق بالعلّة، فيكون هذا المورد بحكم مقطوع العلّية، ويجب أن يترتّب عليه حكم جديد بسبب خروج موضوعه من العلّة الاُولى، ودخوله في علّة أُخرى.

ومسألة الشطرنج من هذا القبيل، رغم أنّ الروايات(2) ذكرت تحريمه بصورة مطلقة، ولكن بالتأمّل والتدقيق يتّضح لنا بأنّ هذه الآلة بسبب أنّها كانت من آلات القمار ـ بضميمة وجود المراهنة ـ ورد تحريمها في الشرع(3).

وعلى هذا الأساس المهمّ جدّاً هو أن يقوم الفقيه بالتحقيق في الموضوعات غير العباديّة، والتي لها علّة غير تعبّديّة طبعاً، بل تعتمد على نكتة ارتكازيّة عقلائيّة، وتكون مورد درك العقلاء أيضاً، ويرى ما هي النكتة الأساسيّة لذلك الحكم، وطبعاً بعد الوثوق من العلّة يتحرّك لتطبيقها على صغريات مسألة تأثير


(1) لم نعثر عليه عاجلاً.
(2 ، 3) وسائل الشيعة 17: 318 ـ 323، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب102 و103.

صفحه 277

الزمان والمكان مع اختلاف الشرائط والظروف.

ولأجل توضيح المطلب نستعين بذكر مثال آخر في هذا الباب، فقد ورد في الروايات الصحيحة أنّ المرأة الزانية غير المحصنة ـ مضافاً إلى عقوبة الجلد ـ يجب أن يُحكم بتبعيدها عن موطنها(1)، وجملة من الفقهاء أفتوا بلزوم التبعيد استناداً إلى هذه الروايات(2)، في حين أنّ جماعة الاُخر بعد التأمّل والتدقيق أفتوا بعدم جواز التبعيد، وعلّلوا ذلك بأنّ تلك المرأة رغم وجودها في إطار الاُسرة ارتكبت ما ينافي العفّة، فكيف لو خرجت من ذلك الإطار؟ فإنّ احتمال البغي والفساد سيشتدّ في شأنها(3).

وهذه الفتوى صدرت في زمان لم يكن فيه سجن خاصّ بالنساء.

ولكن في الحال الحاضر حيث توجد مثل هذه السجون الخاصّة بالنساء المجرمات، فمن الطبيعي أن يكون التبعيد جائزاً، ويجب الانتباه إلى أنّ السجن هو غير التبعيد، فالمراد من التبعيد هو أن يعيش الشخص في محلّ بعيد عن المحلّ الذي يعرفه الناس فيه، وطبعاً نفس معرفة الناس هذه تسبّب في وجود روابط وعلاقات خاصّة، ولكن في مسألة السجن لا يختلف الحال بين سجن مدينته، أو سجن مدينة أُخرى.

ومن هنا نستنتج بأنّ الأمر بالتبعيد في هذه الروايات أمرٌ إرشاديّ،والشارع قد ذكر هذه العقوبة من أجل إبعاد المجرم عمّن يعرفه في عمليّةعلاج هذه الواقعة.


(1) وسائل الشيعة 28: 61 ـ 65، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا ب1 ح2، 9 ، 12.
(2) مختلف الشيعة 9: 150 نقلاً من ابن أبي عقيل، مسالك الأفهام 14: 369ـ 370.
(3) المبسوط 8: 2، الخلاف 5 : 368 مسألة 3 ، غنية النزوع: 423، شرائع الإسلام 4: 937، كشف اللثام 2: 399، جواهر الكلام 41: 328، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 180 ـ 181.

صفحه 278

والجدير بالذكر أنّ علاج وحلّ بعض المشاكل الاجتماعيّة ـ ممّا لا ينسجم مع ما ورد في الروايات ـ يدور في هذا الإطار، فيجب على الفقيه المتبحِّر التحقيق ابتداءً في التكاليف الواردة في الروايات ليرى هل أنّ ذلك التكليف هو تكليف مولويّ لا يقبل التغيير والتبديل، أو أنّه تكليف إرشاديّ قابل للتغيير مع تغيّر خصوصيّات الموضوع المُشار إليه؟ وهذه المسألة ـ مضافاً إلى كونها تفيد هذه الفائدة ـ تمثِّل إحدى طرق حلّ التعارض الظاهري بين الروايات. وهناك أمثلة كثيرة لهذا المطلب في الفقه.

الثالث: في بعض الموارد تتغيّر خصوصيّات الموضوع، بعد تغيّر الظروف بمرور الزمان، دون أن يكون هناك بحث في العلّة، مثلاً في صحّة البيع لا يوجد هناك فرق بين بيع المسلم والكافر، فالمعاملة في كلا الحالين صحيحة، ولكن في الظروف الحاليّة قد يستوجب البيع والشراء من الكفّار تقوية موقعهم السياسي، وحينئذ قد يستشكل في جواز البيع في هذا المورد، ففي هذا المثال حدث تغييرات في الموضوع; أي في خصوصيّات البيع على مستوى البائع والمشتري، فدخل تحت قاعدة «نفي السبيل».

وعليه: فالتغييرات التي حصلت للموضوع، وأدّت إلى نشوء خصوصيّات جديدة له; فمن الطبيعي أن يكون له ـ مع هذه الخصوصيّات الجديدة ـ حكم جديد.

ويتّضح من خلال ما تقدّم أنّ إحدى المهامّ والوظائف المهمّة للفقيههي الالتفات إلى أنّ الموضوع في حال تغيير الشرائط، وحدوث خصوصيّات جديدة، سوف يدخل في أيّ دائرة من الأدلّة والموضوعات. فالفقيه مع تسلّطهفي جميع الأبواب الفقهيّة، وإحاطته الكاملة بجميع المباني الاُصوليّة، وجميعالأدلّة يمكنه في حال تغيّر الشرائط إدراك أنّ هذا الموضوع مصداق لأيّ عنوانمن العناوين.


صفحه 279

وهنا تتّضح حركة وفاعليّة الفقه المتداول والموروث. وعلى هذا الأساس فالفقيه قادر على حفظ حركة الفقه، ورشده بذلك المنهج المتداول الذي يصطلح عليه بـ «فقه الجواهري»، ويمكنه وضع كلّ موضوع في دائرة دليله الخاصّ مع مرور الزمان.

إنّ أكثر المعاملات الجارية في زماننا الحاضر، والسائدة بين العقلاء; هي في الموضوعات التي أصبح لها حكم جديد مع تغيّر الظروف وحدوث خصائص جديدة لذلك الموضوع.

الرابع: بعض الموضوعات لم يكن لها وجود في السابق، بل وُجدت مع مرور الزمان، وحدوث احتياجات وارتباطات جديدة للبشر، والتي يعبَّر عنها بالمسائل المستحدثة، ومن وظائف الفقيه المهمّة هي: دراسة هذه الموضوعات واستنباط حكمها الشرعيّ، من قبيل: التلقيح الصناعي، وحقّ التأليف، وزرع الأعضاء من الحيّ إلى الحيّ، أو من الميّت إلى الحيّ.

فهذه الموضوعات وإن لم يكن لها وجود في السابق، ولكن يمكننا اكتشاف حكمها من خلال الملاكات المشتركة بينها، وبين نظائرها. وكذلك من خلال العمومات والإطلاقات الواردة، مثلاً في مسألة التلقيح الصناعي لابدّ من البحث أنّه هل هذا العمل يتنافى مع وجوب حفظ الفرج الوارد في الشرع في قوله ـ تعالى ـ : {قُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (1)، أم لا؟

وبعبارة اُخرى: هل يمكن القول بأنّ حذف المتعلِّق يدلّ على العموم؟ أي أنّ حفظ الفرج واجب عن كلّ شيء لم يقم الدليل على عدم لزوم حفظه تجاهه، وبما أنّه لم يقم دليل على عدم لزوم حفظ الفرج من إدخال منيّ الأجنبي، فهو داخل تحت


(1) سورة النور 24: 31.

صفحه 280

ذلك العموم، أو لابدّ يُقال بأنّ الكبرى الكلّية لهذا الدليل مخدوشة; وهي : أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم، بل يجب الأخذ ـ بنظر الاعتبار في تحقّق العموم ـ بالمناسبات العرفيّة والقرائن المحفوفة بالكلام.

ومن أجل تحصيل حكم شرعيّ في بعض موارد هذا النوع من الموضوعات، لا يمكن الدخول من خلال الإطلاق، أو العموم، أو الملاك المشترك، بل من خلال المبنى الاُصوليّ للفقيه، فمثلاً في حقّ التأليف يجب البحث في أنّ السيرة العقلائيّة القائمة الآن هل تكون حجّة في الشرع، أو أنّ السيرة العقلائيّة لا تكون حجّة معتبرة إلاّ إذا كانت موجودة في زمن الشارع، وتمّ إمضاؤها من قبله، أو على الأقلّ لم تقع مورد ردع الشارع ونهيه؟

النتيجة هي: أنّه يمكننا من أجل تحصيل الحكم الشرعيّ سلوك أحد هذه الطرق الأربعة:

1 ـ من طريق الإطلاقات.

2 ـ من طريق العمومات.

3 ـ من طريق الملاك المشترك.

4 ـ من طريق المباني الاُصوليّة.

ج) تأثير الزمان والمكان في مفاد الأدلّة، ومباني الاجتهاد

1 ـ الزمان والمكان، ومفاد الأدلّة

إنّ من جملة المطالب الضروريّة هو: هل للزمان والمكان، والتغيّرات الحالّة فيهما تأثير في مفاد الأدلّة، أم لا؟

هناك عدّة صور لبيان كيفيّة تأثير الزمان والمكان في مفاد الأدلّة، حيث يجب دراستها كلاًّ على حِدة:


صفحه 281

الصورة الاُولى: أن يكون المقصود من التأثير هو أنّ المفهوم من الأدلّة، نظير القرآن الكريم، والسنّة يتغيّر بسبب مرور الزمان والظروف; أي أنّ الدليل الذي كان له معنىً معيّناً في زمان، يفقد ذلك المعنى في زمان آخر، وهذا النحو من التأثير باطل بلا شكّ، فالأدلّة اللفظيّة تبتني في دلالتها على المعاني والمفاهيم على قواعد أدبيّة خاصّة في تلك اللغة، وهذه القواعد واللغة لا تتغيّر بمرور الزمان، مثلاً لا يمكن القول بأنّ صيغة الأمر أو النهي في السابق كانت تدلّ على معنىً خاصّ في اللغة، ولكنّها الآن وبسبب مرور الزمان فقدت دلالتها على ذلك المعنى.

وطبعاً، فالمعاني العرفيّة قابلة للتغيير، وبإمكان المتكلِّم أيضاً استعمال الألفاظ في غير معانيها اللغويّة مع ضمّ القرينة إليها.

الصورة الثانية: أن يكون المقصود هي الشرائط الموجودة في الأدلّة حين صدورها; أي أنّ الحكم الصادر ضمن شرائط وخصوصيّات معيّنة يزول بزوال تلك الخصوصيّات، وتغيّر تلك الشرائط، وهذا النحو من التأثير لا يتصوّر إلاّ في الروايات. أمّا بالنسبة للقرآن الكريم، فلا وجود لهذا النحو من التأثير.

ولهذا النحو من التأثير في دائرة الروايات نظائر كثيرة:

1 ـ ما ورد في عدم خضاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد رحلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فاعترض عليه البعض وقال: لم لا تخضب; فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خضب؟ فقال (عليه السلام) : كان ذلك والإسلام قُلٌّ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاق الإسلام، فامرُؤٌ، وما اختار(1). ولذا فإنّ ذلك الحكم قد فقد شرائطه وخصوصيّاته.

2 ـ طبقاً لما ورد في بعض الروايات يستحبّ حلق الشارب وإعفاء اللّحى; لأنّ اليهود في ذلك الزمان كانوا يحلقون لحاهم ويعفون شاربهم، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)


(1) لسان العرب 6: 209، نهج البلاغة: 471 ح17، وعنه وسائل الشيعة 2: 87 ، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب44 ح2.

صفحه 282

بالعمل بخلاف ذلك(1)، فكان ذلك لإظهار المخالفة العمليّة لهم. وعليه: فإنّ اليهود في هذه الأيّام ليسوا كأسلافهم، أو على الأقلّ لا يلتزمون بتلك الكيفيّة بصورة شاخصة، فمن البديهي أن لا يكون لاستحباب حلق الشارب وجه معقول.

3 ـ في عصر الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) كان نشر الأحكام الإسلاميّة مهمّاً جدّاً، ومن جهة أُخرى كان الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة على أشدّه، ولكنّ الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) واجها تلك المسألة بحكمة بالغة، ففي ظاهر الأمر كانا (عليهما السلام) يبيّنان الفقه السائد، والذي كان يقوم عليه نظام الحكم في ذلك الزمان إنّما هو لأجل تجنّب إثارة الخلاف في الاُمّة الإسلاميّة، ولكن في حال الخفاء مع الأصحاب المخلصين يبيّنان الحكم الواقعيّ للمسألة، ويأمران أصحابهما بالتقيّة، فعلى هذا كانت التقيّة في ذلك المناخ، وتلك الظروف الزمانيّة، ضروريّاً جدّاً(2).

الصورة الثالثة: أن يكون المقصود هو: أنّه مع مرور الزمان، وتطوّر العلوم والمعارف البشريّة، سيحصل الفقيه على أصحّ فهم وأكثر جامع من الأدلّة الشرعيّة، وهذا النحو من التأثير صحيح، وله واقعيّة في دائرة العمل.

الروايات التي تدلّ على أنّ للقرآن بطن، وللبطن بطن(3)، يمكن حملها على هذا المعنى أيضاً، أو الروايات التي تدلّ على أنّ الله ـ تعالى ـ أنزل سورة التوحيد; لأنّه سوف يكون هناك قوم في آخر الزمان يمكنهم فهم المعاني العميقة والسامية للقرآن(4).

أو الرواية الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، التي تقرّر كراهة التبوّل في الماء; لأنّ


(1) الفقيه 1: 76 ح332 و 334، معاني الأخبار: 291 ح1، وعنهما وسائل الشيعة 2: 116، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب67 ح1 ـ 3.
(2) مقدّمة رياض المسائل، تاريخ فقه أهل البيت (عليهم السلام) 1: 24 ـ 25.
(3) المحاسن 2: 7 ح1076، تفسير العيّاشي 1: 12 ح8 ، وعنهما بحار الأنوار 92: 91 ح37 وص95 ح48.
(4) الكافي 1: 91 ح3، التوحيد: 283 ح2، وعنه بحار الأنوار 3: 264 ح21.

صفحه 283

للماء أهلاً(1)، وقد أثبتت العلوم الحديثة أنّ الماء يحوي على أحياء مجهريّة قد تموت بذلك العمل.

ولعلّ كلمة الأهل الواردة في هذه الرواية كانت تُفسَّر في الأزمنة القديمة بمعنى الناس، أي بما أنّ الناس سوف ينتفعون بهذا الماء، فلذا كره التبوّل فيه، ولكنّه قد اتّضح في هذا الزمان أنّ المراد من الأهل هي تلك الأحياء المجهريّة في الماء التي لاترى إلاّ بالمجهر.

وعلى هذا الأساس، فتأثير الزمان والمكان بمعنى الفهم الدقيق والجامع للأدلّة أمرٌ صحيح ولا شكّ فيه.

وهناك لابدّ من ذكر نكتة، وهي: أنّ البعض في هذا العصر توهّم بأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة تتعلّق بالزمان الماضي فقط طبقاً للقاعدة المقرّرة في علم الألسنة واللغات; وأنّ اللغة أمرٌ تاريخيّ، وكلّ لغة من اللغات في أيّ مجتمع، وفي أيّ حضارة وعصر، تتعلّق بذلك العصر والمجتمع وتلك الحضارة، والسياق اللغوي لحضارة بشريّة معيّنة لا يمكن أن يكون ناظراً إلى حضارة أُخرى.

وقد استنتج البعض من هذا البيان بأنّ الألفاظ من قبيل قوله ـ تعالى ـ : {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) تشمل البيع الذي كان سائداً في زمان نزول القرآن فقط، ولا يمتدّ ليستوعب في دلالته جميع الأعصار والمجتمعات.

وبطلان هذا التوهّم واضح جدّاً; لأنّ الألفاظ الواردة في القرآن الكريم وردت بعنوانها تكليفاً مشتركاً، وقانوناً عامّاً، وبشارة، وإنذاراً لجميع البشر في جميعالأعصار، والخلاف إنّما هو في دائرة الخطابات الشفاهيّة، وأنّها هل تشمل الغائبين


(1) تهذيب الأحكام 1: 34 ح90، الاستبصار 1: 13 ح25، وعنهما وسائل الشيعة 1: 341، كتاب الطهارة أبواب أحكام الخلوة ب24 ح3.
(2) سورة البقرة 2: 275.

صفحه 284

والمعدومين أم لا؟

وهذا الاختلاف من حيث شمول الألفاظ فقط، وإلاّ لا شكّ في الاشتراك من ناحية الملاك.

الإمام الراحل (قدس سره) في مسألة «التأمين» يقول ضمن استعراضه للإشكالات التي يحتمل ورودها على القول بصحّة التأمين: «إذا أشكل شخص بأنّ العمومات من قبيل {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) إنّما تتناول العقود والشروط المعهودة المتعارفة بين الناس في زمن صدورها، ومن المتسالم عليه أنّ مثل هذا العهد لم يكن متعارفاً بينهم حتّى يدخل في نطاقها، وليس لنا غير العمومات دليل آخر نركن إليه في تصحيحه، فيكون مثل هذا العهد داخلاً في الباطل المنهيّ عنه في قوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِـلِ) (2).

وفيه ما لا يخفى من التعسّف; فإنّ دعوى قصر العمومات على العهود المتداولة في زمن الوحي والتشريع خلاف المفهوم منها وتضييق لدائرتها، حيث إنّ تلك القضايا العامّة تأبى عن مثل هذا الجمود والتحجّر المخالف للشريعة السمحة السهلة، ولا أظنّ أنّه يختلج ببال أحد من العرف ـ العارف باللسان العاري الذهن عن الوساوس ـ أنّ قوله ـ تعالى ـ : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) الوارد في مقام التقنين المستمرّ إلى يوم القيامة منحصر في العهود المعمول بها في ذلك الزمان; فإنّ مثل هذا الجمود مستلزم للخروج عن دائرة الفقه، بل عن ربقة الدِّين نعوذ بالله من ذلك. لعمرك إنّ هذا الجمود ليس بأقلّ من جمود بعض المذاهب الإسلاميّة على كثير من الظواهر، الذي هو أبرد من الزمهرير(4).


(1) سورة المائدة 5 : 1.
(2) سورة البقرة 2: 188.
(3) سورة المائدة 5 : 1.
(4) قراءات فقهيّة معاصرة في الاقتصاد الإسلامي 5: 14.

صفحه 285

وهنا نجد من الضروري تذكير أرباب الفقه والفقاهة والمحقِّقين في بحر الفقه الواسع بأنّ تحديد مدلول ألفاظ الكتاب والسنّة في دائرة المصاديق السائدة في زمان الصدور، مضافاً إلى منافاته الواضحة والبديهيّة لشموليّة الدِّين، وخلود معجزته، وهي القرآن; فإنّه لاينسجم، وتفسير الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) للآية الشريفة. فمثلاً ورد في الروايات في تفسير الآية الشريفة {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : أنّ المراد من العقود; العهود(1)، وقد تمّ توسعة دائرتها.

وبعبارة اُخرى: إذا قلنا بتحديد هذه العمومات، فلماذا لم يذكر الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) هذه الملاحظة، بل حكموا بخلافها؟

من هنا نأسف جدّاً كيف ذهب بعض المعاصرين ـ رغم تضلّعهم في الفقه والتفسير ـ إلى أنّ أكثر عمومات الكتاب والسنّة محدودة بالمصاديق السائدة في زمن النزول؟

فقد ذكر في كلماته أنّ تسعين في المائة من عمومات القرآن تتعلّق بالمصاديق المعهودة في ذلك الزمان، وكذلك الكلام في العمومات الواردة في أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأئـمّة الدِّين(عليهم السلام)!!(2).

وعلى هذا، فمن الواضح جدّاً أنّ الأدلّة التي تتضمّن بيان أحكام الشريعة لها إطلاق زمانيّ، وجارية في الفقه الحالي، إلاّ في الموارد التي قام الدليل القطعي على نسخها.

2 ـ الزمان والمكان، ومباني الاجتهاد

المراد من مباني الاجتهاد: القواعد والضوابط الاُصوليّة والرجاليّة، وسائر


(1) تفسير القمّي 1: 160.
(2) لم نجده عاجلاً.

صفحه 286

القواعد التي يحتاجها الفقيه في عمليّة استنباط الأحكام لتكون كبرى في دليله; منقبيل حجّية خبر الثقة، وأمثال ذلك، فهل تغيير الشرائط والظروف وحدوث خصوصيّات جديدة يؤثِّر في مباني الاجتهاد هذه، أم لا؟

الظاهر أنّ هذه المسألة لا تؤثِّر إطلاقاً في مباني الاجتهاد. ولا يمكنأن تتعرّض القواعدبسبب ذلك ـ كحجّية خبرالثقةوأمثالها ـ للتغيير،ولكن هذه المسألة ترتبط من بعض الجهات بمباني الاجتهاد، ونشير هنا إلى ثلاث جهات منها:

الاُولى: بسبب مرور الزمان وحدوث فروع جديدة، قد يكون الفقيه بحاجة إلى قواعد أُصوليّة جديدة. فالكثير من الفقهاء العظام استخرجوا القواعد الاُصوليّة المهمّة من متن الفقه وفروعه، وهذا المنهج هو المشهور والمشهود من مباحث الشيخ الأعظم (قدس سره) في الاُصول، فعلى هذا قد يستكشف الفقيه بمرور الزمان قواعد جديدة أُصوليّة، أو غير أُصوليّة.

ولتوضيح هذا المطلب نذكر هذا المثال، وهو: أنّ فقهاء العصور القريبة من عصر المعصومين(عليهم السلام) أمثال السيّد المرتضى (رحمه الله) ، التفتوا إلى أنّ جميع ما لديهم من أخبار الآحاد، محفوفة بالقرائن القطعيّة، وأساساً فإنّ خبر الواحد المجرّد من القرينة إمّا أن لا يكون لديهم منه شيء، أو إذا وجد فهو نادر جدّاً، ولكن عندما ازدادت الفاصلة تدريجيّاً مع عصر المعصومين(عليهم السلام) تلاشت هذه القرائن، فاضطرّ الاُصوليّون إلى العمل بالخبر الواحد المجرّد عن القرينة، واعتباره أحد الأدلّة الشرعيّة.

وهكذا يمكننا ذكر تقسيم الخبر إلى الأقسام الأربعة: الصحيح، الموثّق، الحسن، الضعيف، فلدى المتقدِّمين ينقسم الخبر إلى قسمين فقط: الصحيح والضعيف، ولكن منذ زمان أحمد بن موسى بن طاووس كما ذهب إليه صاحب المعالم في منتقى الجمان(1)، أو منذ زمان العلاّمة الحلّي كما ذهب إليه الشيخ البهائي في


(1) منتقى الجمان 1: 14.

صفحه 287

مشرق الشمسين(1)، تمّ تقسيم الخبر إلى أربعة أقسام، وأصبح للصحيح في مصطلح المتأخِّرين معنىً جديداً.

الجهة الثانية: لهذه المسألة دور هامّ في الشروط المذكورة لفعليّة التكليف، مثل شرطيّة القدرة في نظر المشهور(2)، والابتلاء في نظر الشيخ الأنصاري (قدس سره) (3)، وبديهيّ أنّ الشيء يمكن أن يكون مقدوراً للشخص في زمان معيّن، وغير مقدور له في زمان آخر، وهكذا في مسألة الابتلاء بشيء يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة; أي يمكن أن يقع الشيء في زمان خاصّ وظروف معيّنة مورداً للابتلاء، ولكنّه لايكون كذلك في ظروف أُخر، فعلى هذا الأساس فإنّ شروط التكليف المبحوثة في البحوث الاجتهاديّة الاُصوليّة متأثّرة بالزمان والمكان على مستوى المصداق.

الجهة الثالثة: ما يخصّ ارتباط الزمان والمكان مع بناء العقلاء، فواضح أنّ أحد الأدلّة المهمّة للأحكام الشرعيّة، والتي يستدلّ بها الفقهاء والاُصوليّون، هو بناء العقلاء وسيرتهم، فرغم أنّ الزمان والمكان ليس لهما دور في أصل حجّية السيرة العقلائيّة، ولكن لهما تأثير في تحقّق مصاديق متعدّدة وجديدة.

د) حدود تأثير الزمان والمكان

1 ـ الزمان والمكان، والحكم الأوّلي والثانوي

أحد التقسيمات المذكورة للأحكام في الفقه هو تقسيم الحكم إلى الأوّلي والثانوي، فالحكم المترتّب على موضوع معيّن بما هو موضوع، وبدون أيّ قيد


(1) مشرق الشمسين: 30 ـ 32.
(2) كفاية الاُصول: 130، فوائد الاُصول 4: 51 ـ 55، بحوث في علم الاُصول 2: 75، 335، 374، وج5:284ـ 285، دروس في علم الاُصول، الحلقة الثالثة، القسم الأوّل: 303، منتقى الاُصول 1: 416ـ 417.
(3) فرائد الاُصول 2: 233ـ 234.

صفحه 288

آخر. يسمّى بالحكم الأوّلي، مثل الحكم بالوجوب المترتّب على موضوع الصلاة بما هي صلاة، ولهذا أُطلق عليه الحكم الأوّلي. وأمّا إذا ترتّب الحكم على موضوع بعنوان آخر، مثل عنوان الضرر أو الحرج، فيسمّى بالحكم الثانوي.

ورغم أنّ الزمان والمكان لا يرتبطان بالأحكام، والأدلّة الشرعيّة بصورة مباشرة، ولكنّه قد يطرح هذا السؤال، وهو: أنّه فيما لو حدث تغيّر في موضوعات أو متعلّقات الأحكام، وتبعه حدوث تغيّر في الحكم، فهل الحكم الجديد يكون من قبيل الحكم الأوّلي، أو الثانوي؟

ذهب البعض في تفسيره للحكم الأوّلي على خلاف الاصطلاح السائد، وقال في تعريفه: هو ذلك النوع من الأحكام الإسلاميّة الموضوعة على أساس الحاجات الثابتة(1).

وفي تعبير آخر: ذكر أنّ الحكم أو الأحكام المقرّرة على أساس المادّي والمعنوي(2).

وعلى أساس هذين التعريفين، وخاصّة التعريف الأوّل، فالأحكام المتغيِّرة تبعاً لتغيّر الحاجات والضرورات، أو تبعاً لتبدّل الموضوعات، هي من الأحكام الثانويّة. وعليه: فبما أنّ مسألة الزمان والمكان ترتبط بالحاجات غير الثابتة للإنسان، فهي دائماً تمهِّد الأرضيّة للأحكام الثانويّة.

أمّا على أساس التعريف الاُصولي السائد والشائع للحكم الأوّلي والثانوي، فالمسألة تختلف عمّا سبق; لأنّ في مسألة تأثير الزمان والمكان، إذا حصل تغيّر في الموضوعات أو في متعلّقاتها، فالحكم الجديد الحاصل بتبع ذلك هو من نوع الحكم الأوّلي.


(1) ثابتها ومتغيّرها، كيهان انديشه، العدد 10، السنة التاسعة، الاُستاذ محمّد تقي الجعفري.
(2) المصدر السابق.

صفحه 289

ولكن في موارد ما إذا أوجب مرور الزمان، وتبدّل المكان حصول عناوينثانويّة من قبيل الحرج والضرر، فحينذاك فقد تدخل الأحكام الحاصلة في باب الحكم الثانوي.

ويتّضح من هذا المطلب أنّ التفكيك بين مذهب أهل السنّة، ومبنى الإمام الراحل (قدس سره) في هذا القسم من البحث، هو أمر غير صحيح. وطبعاً فقد ادّعى البعض(1) طبقاً لمبنى العامّة أنّ التغيير الذي اُحدث في الأحكام بحسب الزمان والمكان كان عنوان ثانوي، ولكن طبقاً لمبنى الإمام الخميني (قدس سره) يكون من الحكم الأوّلي، وهذا الادّعاء غير صحيح أيضاً; لأنّه على أساس ما تقدّم أنّ الحكم يكون من الحكم الأوّلي على كلا المذهبين.

2 ـ الزمان والمكان، والأحكام الضروريّة

تنقسم الأحكام والاعتبارات الشرعيّة إلى قسمين: ضروريّ وغير ضروريّ، والسؤال هو: هل تأثير الزمان والمكان يقتصر على الأحكام غير الضروريّة، أو يمتدّ إلى دائرة أوسع؟

ويتأكّد هذا السؤال إذا علمنا بأنّ المقرّر في علم الاُصول أنّ الاجتهاد لا يرد في المسائل الضروريّة، وعنوان بحثنا هو تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد.

الأشخاص الذين أنكروا تأثير الزمان والمكان في العبادات، لو ذهبوا إلى أنّ دائرة الاُمور الضروريّة منحصرة في العبادات، فمن الطبيعي أن ينكر أصحاب هذا الرأي تأثير هذاالعامل في الاُمور الضروريّة، ولكن من الواضح أنّ الاُمور الضروريّة لا تنحصر في إطار الأُمور العباديّة، بل أنّ بعض الأحكام غير العباديّة ضروريّة أيضاً.


(1) كيهان انديشه، العدد 50، الفرق الرابع من المطلب التاسع، آية الله إبراهيم الجنّاتي.

صفحه 290

الإمام الراحل (قدس سره) في مسألة الحجّ(1) ـ حيث إنّ وجوبه من الضروريّات ـ بيّن أنّ هذا العنصر المهمّ يتدخّل حتى في الاُمور العباديّة. وعليه: فإنّ تأثير الزمان والمكان لا يقتصر على المسائل المبحوثة في دائرة الاجتهاد، ومن هنا ندرك جيّداً التأثير العميق لهذا العنصر في الفقه.

الدليل الوحيد على تأثير هذا العامل في الاُمور الضروريّة هو: أنّه بما أنّ هذا العامل له دور في تغيير الموضوعات والمتعلّقات، فمع تغييرها يترتّب حكم آخر عليها، والحكم الضروري إنّما يكون ضروريّاً فيما لو لم يحدث أيّ تغيير، لا في الموضوع، ولا في المتعلّق.

وهنا لابدّ من الانتباه إلى أنّ عنصر الزمان والمكان لا يمكنه الخدشة في كون الحكم ضروريّاً مع حفظ الموضوع والمتعلّق، بل فيما لو كان الحكم ضروريّاً، فسوف يبقى تحت هذا العنوان دائماً، وتترتّب عليه آثار الأحكام الضروريّة.

3 ـ تأثير الزمان والمكان مع وجود النصّ الخاصّ

من الاُمور التي تشغل ذهن الفقيه هو: أنّ تأثير الزمان والمكان، وتغيّر الشرائط والظروف، هل يختصّ في الموارد التي لم يرد فيها نصّ خاصّ أو يشمل ماورد فيه نصّ خاصّ أيضاً؟

أغلب فقهاء أهل السنّة يرون أنّ تغيّر الشرائط والظروف الزمانيّة والمكانيّة والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعيّة يؤثّر في تغيير وتبدّل الأحكام، وهذا الأمر ضروريّ في تغيير التقاليد الاجتماعيّة، ونظام الحكم، ومن علمائهم أمثال الظاهريّة، وسفيان بن سعيد الثوري، والأوزاعي يرون أنّ عنصر الزمان والمكان لايتدخّل حتّى في هذا النوع من الأحكام.


(1) تقدّم في ص260.

صفحه 291

وكذلك في الموارد التي ورد فيها نصّ خاصّ، ينقسم علماء أهل السنّة إلى فريقين: فمنهم كأبي حنيفة، ومحمّد بن الحسن الشيباني، ومحمّد بن إدريس الشافعي، وداود بن علي الظاهري الأصبهاني، لا يجيزون مخالفة النصّ الخاصّ والحكم على خلافه(1)، وبديهيّ أنّ هذه النظريّة تتحقّق في فرض أنّ الموضوع يبقى بعيداً عن أيّ تغيّر وتبدّل، ولذلك يبقى الحكم على حاله.

والتحقيق أنّه لا فرق في تأثير الزمان والمكان بمعناه الواقعي بين الموضوعات التي ورد فيها نصّ خاصّ، وبين غيرها، والدليل على ذلك هو دور الزمان والمكان وارتباطهما بالموضوعات والمتعلّقات، فلو حدث تغيّر بسبب مرور الزمان في دائرة الموضوع، والشرائط، والخصوصيّات، فمن الطبيعي سيكون لذلك الموضوع حكم آخر; سواء كان لذلك الموضوع نصّ خاصّ، أو لم يكن.


(1) راجع تاريخ المذاهب الإسلاميّة: 370ـ 373، 413ـ 418، 447 ـ 457، 513 ـ 516، 530 و567ـ 578، تاريخ التشريع الإسلامي: 186ـ 202 و281 ـ 287، النظريّات العامّة في الفقه الإسلامي وتاريخه: 372ـ 422، المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة والتعصّب المذهبي: 161ـ 163، تاريخ الفقه الإسلامي، أفكار ورجال: 161ـ167، المدخل للتشريع الإسلامي: 236ـ 249، 254ـ 258، 267ـ 271 و286 ـ 291، ويژگيهاى اجتهاد و فقه پويا: 337 ـ 338.

صفحه 292

الفصل الثالث: دور الزمان والمكان، وبعض الشبهات، والإجابة عنه

أ) منافاتهما لبعض الروايات

1 ـ «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة».

من الروايات المشهورة والمتداولة على ألسنة الفقهاء، على أساس أنّها رواية معتبرة ينبغي العمل بها، هي رواية: حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة(1).

فقد توهّم البعض أنّ القول بتأثير الزمان والمكان في الأحكام ينافيمدلول هذه الرواية الشريفة، ولذا أنكر تأثير هذا العامل في الأحكامالشرعيّة(2).

ولابدّ في مقام الجواب على هذا التوهّم من التحقيق في الرواية من جهة الدلالة، فرغم أنّ دلالة هذه الرواية ليست مجملة، أو متشابهة، إلاّ أنّه ذكرت عدّة احتمالات في المراد منها:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ ما حكم به الرسول (صلى الله عليه وآله) في كلّ أمر وموضوع، فهو


(1) الكافي 1: 58 ح19، بصائر الدرجات 1: 148 ح ب13 ح7.
(2) راجع مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى امام خمينى (رحمه الله) ، نقش زمان و مكان در اجتهاد 14: 245.

صفحه 294

باق على الدوام، ولا يتغيّر في أيّ زمان، وفي جميع الظروف حتّىلو تغيّر الموضوع أيضاً، وعلى هذا الاحتمال فتأثير الزمان والمكان يتنافى بوضوح مع مدلول الرواية.

ولكن هذا الاحتمال يواجه إشكالاً من جهتين:

الجهة الاُولى: لا يوجد ثمّة إطلاق في الرواية على أنّ كلّ موضوع يبقى مع حكمه الأوّلي في جميع الشرائط، ومع جميع التغيّرات التي تحدث للموضوع، وبعبارة اُخرى: نحن لا نشاهد أيّ إطلاق بالنسبة إلى الموضوع على مستوى التغيّرات الزمانيّة والمكانيّة.

الجهة الثانية: أنّ هذا الاحتمال لا ينسجم مع سيرة المعصومين(عليهم السلام); لأنّهمقد عملوا على تغيير الأحكام الصادرة من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، مع تغيّر الشرائط والظروف، كما هو الحال في عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) في مسألة الزكاة(1).

الاحتمال الثاني: ذكر البعض في تفسير الرواية ما يلي:

إنّ المفاهيم الكلّية والعامّة مثل البيع والتجارة في معناهما الواسع، سوف تبقى دائماً ولا تمسّها يد التغيير، فما كان حلالاً في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) سوف يبقى حلالاً إلى يوم القيامة، رغم أنّ مصاديقها قد تتغيّر بفعل تقدّم المجتمع وتطوّر الحضارة البشرية(2).

وهذا التفسير بدوره لا ينسجم مع ظاهر الرواية; لأنّه:

أوّلاً: أنّ ما أُخذ بعين الاعتبار في الرواية هي مسألة بقاء الحكم الشرعيّ،


(1) الكافي 3: 530 ح1، تهذيب الأحكام 4: 67 ح183، الاستبصار 2: 12 ح34، عيون أخبار الرضا (قدس سره) 2: 61 ح246 وعنها وسائل الشيعة 9: 77، كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة ب16 ح1 وص80 ب17 ح6،الغدير 6: 219 وج8: 225.
(2) مجلّة كانون وكلاء، الدكتور علي رضا الفيض.

صفحه 295

ولا دلالة مطابقيّة للرواية على المفاهيم والموضوعات.

وثانياً: أنّ تغيير المفاهيم الكلّية وعدم تغييرها لا يرتبط بالشارع والشريعة.

وثالثاً: يرى البعض أنّ كلّ مفهوم يدلّ على معنى خاصّ في زمان دون زمان آخر. فعليه: يكون تغيير المفاهيم، وتبديلها إلى معان أُخر مع مرور الزمان من الاُمور الواضحة(1).

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد من هذه الرواية أنّ كلّ حكم صدر بيانه من الشارع المقدّس كان له في زمن الورود متعلّق وموضوع خاصّ، كما أنّه يتمتّع بقيود وشرائط خاصّة، فذلك الحكم يبقى على قوّته ما دامت قيود الموضوع وشرائطه باقية لم تتغيّر. وبعبارة أُخرى: أنّ الشارع المقدّس لا يتمكّن بما هو شارعأن يتصدّى لمنع حدوث التغيّر والتبدّل في الموضوعات، أو المتعلّقات، أو قيودهما، ولكنّه في صورة عدم التغيير، فالحكم الصادر من الشارع يبقى على قوّته وفاعليّته.

وهذا الاحتمال يتطابق مع ظاهر الرواية، ولا يتنافى إطلاقاً مع مسألة تأثير الزمان والمكان; لأنّ هذه المسألة داخلة نوعاً في دائرة الموضوعات والمتعلّقات، فمع تغيّرها يتغيّر الحكم، وما تذكره الرواية هو بقاء الأحكام مع حفظ الموضوعات والمتعلّقات وقيودهما.

2 ـ «إنّ لله في كلّ واقعة حكماً»

ورد في روايات الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام): إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ في كلّ واقعة حكماً...(2)، بل تواترت عنهم(عليهم السلام)أنّ عندهم صحيفة بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ عليّ (عليه السلام) ، فيها أحكام جميع الأشياء حتّى أرش الخدش(3).


(1) هر منوتيك ، كتاب وسنّت: 168 ـ 173.
(2) عوالي اللئالي 4: 137.
(3) بحار الأنوار 26: 18 ـ 27.

صفحه 296

أليس لمثل هذه الروايات ظهور في لغويّة تأثير الزمان والمكان، وبطلانه؟

ونحن بصدد بيان ارتباط تأثير الزمان والمكان مع هذا النوع من الروايات.

إذا دقّقنا النظر في عنوان الموضوع، فسيتبيّن لنا أنّ وجود مثل هذه الروايات لا يستتبع لغويّة تأثير الزمان والمكان; لأنّ هذا العامل يؤدّي إلى إيجاد موضوعات جديدة، أو تغيير الموضوعات السابقة، أو اختلاف الفهم والدرك الأعمق للمفاهيم الشرعيّة، ومن وظائف الفقيه العالم بأُمور زمانه هو: أن يدرك أنّ هذا الموضوع الجديد تحت أيّ عنوان وحكم شرعيّ يدخل، ومصداق أيّ واحد من الموضوعات التي تمّ بيان حكمها من قِبل الشارع بنحو عامّ، أو بنحو خاصّ؟

وبعبارة أُخرى: إنّ الفقيه يعلم إجمالاً أنّه لا يوجد موضوع ليس له في الشريعة حكم فعليّ ولو بنحو ظاهريّ، وحتّى في الموارد التي اُدّعي عدم وجود حكم لها في الشريعة، فهو ناشئ من عدم الفحص الكامل في المتون الدينيّة، أو عدم التدبّر فيها، وإلاّ يمكن القول بأنّه مع وجود كلّ هذه الروايات، وما ورد في القرآن الكريم، والأدلّة الأُخرى قد ذكرت أحكام جميع الموضوعات ولو على مستوى الحكم الظاهري; وبيان هذا الحكم إمّا من خلال بيان العامّ، أو بطريق خاصّ، أو من خلال بيان الملاكات والعلل والمصالح والمفاسد.

ومع هذا فالمهمّ هو: أن يقوم الفقيه بتشخيص الموضوع الحادث والجديد ليرى أنّه يدخل تحت أيّ عنوان من العناوين التي لها حكم شرعي، وعلى فرض صلاحيّة دخوله تحت عدّة عناوين، عليه أن يتحرّك على مستوى البحث في تعارض الأدلّة، وترجيح أحدها على الآخر، ومن هنا تتّضح ضرورة هذه الملاحظة، وهي: أنّ الفقهاء العظام ينبغي عليهم التدبّر، والتدقيق أكثر في عناوين موضوعات الأحكام، وفي سعتها، وضيقها، وشرائطها، وقيودها.

وفي مقابل هذا النوع من الروايات، تدلّ بعض الروايات على أنّ الشارع


صفحه 297

المقدّس لم يبيِّن الحكم الشرعيّ لبعض الموضوعات عمداً، من قبيل ما ورد أنّه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إنّ الله ـ تعالى ـ سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً(1).

والجدير بالذكر أنّ المراد من سكوت الشارع، هو السكوت من الحكم الواقعي الفعلي، وإلاّ فالحكم الظاهري موجود في كلّ مورد.

ومن هنا يمكن القول بأنّ من خصائص الفقه الشيعي وجود نوعين من الحكم: واقعيّ، وظاهريّ، ويتمّ حلّ الكثير من المشاكل الفقهيّة على ضوء القواعد التي تنتج حكماً ظاهريّاً.

والكثير من القواعد الاُصوليّة يمكن استفادة الحكم الظاهري منها، وقد ثبت في محلّه أنّه ليس من اللازم للفقيه إدراك الحكم الواقعي لكلّ مورد، بل لو أنّه توصّل إلى أيّ حكم شرعيّ بهذه الأدوات والأدلّة، فذلك الحكم يكون هو الحجّة.

ومن أجل تكميل هذا المطلب ينبغي التنبيه على أمر، وهو: أنّه يستفاد من روايات الأئـمّة المعصومين(عليهم السلام) ـ التي تمّت الإشارة إلى بعضها آنفاً ـ أنّ جامعيّة الدِّين الإسلامي وكونه ديناً كاملاً أمرٌ مسلّم ولا يقبل الإنكار. مضافاً إلى أنّنا بإمكاننا القول بتلازم هذه المسألة مع الخاتميّة.

وبعبارة أُخرى: هناك ملازمة بديهيّة وواضحة بين خاتميّة الدِّين وجامعيّته، ومن الواضح: أنّ المراد من الجامعيّة ليس ما كان محدوداً في إطار أُصول الدِّين والشريعة، بل يستفاد من الروايات شموليّة الدِّين لجميع الأبعاد; سواء في الاُصول أو في الفروع، في الأحكام، أو في الأخلاق.

أورد الشيخ الكليني (قدس سره) في أُصول الكافي، باب الردّ إلى كتاب الله وسنّته قوله (عليه السلام) : كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) (2); أي أنّ الله ـ تعالى ـ ونبيّه


(1) الفقيه 4: 53 ح193، وعنه وسائل الشيعة 27: 175، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب12 ح68.
(2) الكافي 1: 62 ح10، بصائر الدرجات: 301 ب15 ح1.

صفحه 298

الكريم (صلى الله عليه وآله) ذكرا أحكاماً لجميع الاُمور. وفي رواية أُخرى ينقل حمّاد، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: ما من شيء إلاّ وفيه كتابٌ أو سنّة(1).

ب) شبهات حول الفقه

1 ـ الزمان والمكان، واستلزام فقه جديد

يتّضح ممّا تقدّم أنّ مسألة تأثير الزمان والمكان لا تستلزم فقهاً جديداً إطلاقاً، فما توهّم البعض من أنّ مسألة الزمان والمكان تستلزم تأسيس فقه جديد، بعيد عن الدقّة والتأمّل. وعليه: لابدّ أن نرى ما المقصود بالفقه الجديد؟

فإذا كان المراد من الفقه الجديد، الإتيان بأدلّة جديدة إلى جانب الأدلّة الأربعة، واستنباط الأحكام الشرعيّة وفقاً لها، فرغم أنّ هذا المطلب باطل في نفسه، ولكن تأثير الزمان والمكان ـ من حيث كونه مؤثِّراً في تغيّر الموضوعات، وإيجاد موضوعات جديدة، أو كونه مؤثِّراً في اختلاف الفهم والاستنباط من الأدلّة ـ ليس بمعنى أنّه بنفسه دليل جديد.

وإن كان المراد من الفقه الجديد هو: أنّ هناك موضوعات وفروعات جديدة لابدّ من بيان الحكم الشرعيّ لها، فهو مطلب صحيح جدّاً ولا غبار عليه، وأساساً فإنّ تكامل الفقه الشيعي يكمن في قدرته على الإجابة على هذه المسائل والفروعات الجديدة.

2 ـ الزمان والمكان هما السبيل الوحيد لحلّ مشكلات الفقه

تصوّر البعض بأنّ تأثير الزمان والمكان هو السبيل الوحيد لعلاج المشاكل الفقهيّة وملأ الفراغات في الشريعة، فقالوا في هذا الصدد: في هذا الزمان تغيّرت


(1) الكافي 1: 59 ح4.

صفحه 299

وتطوّرت الظواهر في جميع الأبعاد والصُعد، يمكن القول بأنّها الوسيلة الوحيدة لحلّ المشكلات، وملأ الفراغات، وإزالة العوائق(1).

هذا المطلب وإن كان في الوهلة الأُولى صحيحاً ظاهراً، ولكن عدم الإحاطة العلميّة، وعدم القدرة على حلّ المشكلات الفقهيّة هو الذي دعى لبيان ذلك الكلام. وفي نظرنا أنّ هناك الكثير من المطالب الفقهيّة في بطون كتب القدماء، وفي المنابع الفقهيّة لم تتّضح أبعادها لحدّ الآن، فلو تمّ استخراجها والإحاطة الكاملة بجميع حقائق ومعارف الفقه أمكن حلّ بعض المشكلات التي لا ترتبط بتغيّر الزمان والمكان من قريب أو بعيد.

وهنا يجدر بنا ذكر هذه النقطة; وهي: أنّ الكثير من القواعد الفقهيّة كامنة في طيّات المسائل الفقهيّة، بحيث لم تنقّح من حيث دلالتها وحدودها لحدّ الآن، ومن الممكن حلّ مشكلات عدّة من خلال تنقيحها وتبيينها.

3 ـ الزمان والمكان، واستلزام قبول فقه أهل السنّة

بعد أن تبيّن أنّ تأثير الزمان والمكان هو أمرٌ مسلّم في الفقه الشيعي، لابدّ من الانتباه إلى هذه النقطة; وهي: أنّ هناك تفاوت كبير وبونٌ شاسع بين هذا المنهج، وما عليه أهل السنّة في مسألة تأثير الزمان والمكان في تغيير الأحكام والفتاوى.

إنّ فقهاء أهل السنّة، وطبقاً لاجتهادهم القياسي والاستصلاحي(2) ـ إمّا من طريق القياس، أو الرأي الشخصي ـ يبيّنون حكماً شرعيّاً مطابقاً لمقتضيات الزمان والمكان، وبالطبع فإنّ هذا الحكم، وهذا الاجتهاد سيتغيّر وفق تغيّر الظروف الزمانيّة والمكانيّة، وأمّا في نظر علماء الشيعة، فالاجتهاد أساساً هو استنباط


(1) كيهان انديشه، العدد 50، آية الله إبراهيم الجناتي.
(2) المدخل في اُصول الفقه، ج4، ص69، الدكتور الدواليبي.

صفحه 300

الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، وليس هناك قياس ورأي شخصي في البين.

وعليه: فيمكن القول بأنّ فقهاء أهل السنّة يرون أنّ عامل الزمان والمكان مؤثِّر في الاجتهاد نفسه، وفي الأحكام الشرعيّة نفسها.

أمّا فقهاء الشيعة، فيرونه مؤثِّراً في موضوعات ومتعلِّقات الأحكام، ولم يرون له تأثيراً في أدلّة الأحكام، أو الأحكام نفسها.

وعلى هذا الأساس يخطىء كثيراً من يرى ويتحرّك في عمليّة التقريب بين هذين المذهبين، وبناءً على هذا فإنّ الزمان والمكان وإن كانا من الاُمور المهمّة جدّاً في الفقه الشيعي، ولكن لا توجد أيّة نقطة اشتراك بينه، وبين فقه أهل السنّة.

وهنا ينبغي تحذير الفقهاء الحقيقيّين، الحارقين الأكباد، والخائفين من مغبّة الإفراط في فهم تأثير الزمان والمكان، وإلاّ سينزل ذلك البلاء ـ الذي حلّ بالفقه السنّي وأدّى إلى تلاشيه ـ بالفقه الشيعي أيضاً; بحيث يصل الأمر بهم إلى ترجيح المصلحة حتّى على النصّ; من قبيل ما ذكره نجم الدِّين أبي الربيع الطوفي في شرحه لحديث: لا ضرر ولا ضرار(1) في رسالة المصالح المرسلة عند تعارض المصلحة مع النصّ، قال:

يجب تقديم المصلحة على ما فيه نصّ من باب التخصيص، أو تبيين الواجب; يعني أنّ الحكم المنصوص واجب الاتباع، إلاّ في وقت تقوم المصلحة على خلافه(2).

وقد فهم البعض(3) هذا المعنى من عبارة الشهيد (قدس سره) ـ في القواعد والفوائد ـ في قاعدة العرف والعادة، حيث قال:


(1) الكافي 5 : 292 ح2 وص293 ح6 وص294 ح8 ، الفقيه 3 : 147 ح648 ، تهذيب الأحكام 7 : 146 ح651، وعنها وسائل الشيعة 25: 428 ـ 429، كتاب إحياء الموات ب12 ح3 ـ 5.
(2) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نصّ فيه : 129 ـ 144.
(3) مجلّة كانون وكلاء، الدكتور علي رضا الفيض.

صفحه 301

يجوز تغيير الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة، والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجات والأقارب، والاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمرويّ تقديم قول الزوج(1)، عملاً بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول(2).

فقد فهموا من ذلك أنّ الشهيد (قدس سره) يرى تقدّم العرف على الرواية المنقولة أحياناً، ففي الأزمنة السالفة كان المتداول في عرف الناس أنّ الصداق يدفع للزوجة قبل الدخول، ومقام الاختلاف في دفع الصداق، وعدمه إنّما يتمّ وفق ذلك العرف، فيكون قول الزوج هو المقدَّم. وأمّا في هذا الزمان حيث لا توجد مثل هذه العادة في العرف، فيكون قول المرأة هو المقدَّم.

ولكن في نظرنا أنّ هذا الفهم غير صحيح; لأنّه أوّلاً: أنّ مسألة تغيّر العرف، والعمل على وفقه ليس بمعنى تقديم العرف على الرواية المنقولة; لأنّ التقديم إنّما يكون على فرض أنّ الرواية المنقولة ذكرت الحكم بالنسبة إلى جميع الأعصار والأزمنة، ولكن إذا استفاد أحد الفقهاء من خلال القرائن أنّ الرواية حكمت وفق العرف الموجود في ذلك الزمان، ولكن يجب العمل في عرف آخر بما يطابق ذلك العرف، فلا يدخل هذا المعنى في باب تقديم العرف على الرواية.

وثانياً: بالرغم من أنّ هذا الرسم العرفي قد زال في هذا العصر; وهو أن يقوم الزوج بدفع الصداق قبل الدخول، ولكن لماذا صار هذا الأمر العدمي سبباً لتقديم قول المرأة؟


(1) الكافي 5 : 383 ح2 وص385 ح2، تهذيب الأحكام 7 : 359 ح1460 وص360 ح1462، الاستبصار 3: 222 ح806 وص223 ح808 ، وعنها وسائل الشيعة 21: 257 و 258، كتاب النكاح، أبواب المهور ب8 ح6 و 8.
(2) القواعد والفوائد 1: 151 ـ 152.

صفحه 302

وبعبارة أدقّ: كان العرف الموجود في زمن المعصوم (عليه السلام) قائماً على أساس أمر إثباتيّ ; وهو تقديم قول الزوج، ولكنّ الأمر العدمي كيف يمكنه أن يكون شاهداً على قول المرأة؟

وممّا تقدّم يتّضح أنّ هذه المسألة لا تختصّ بالوليّ الفقيه المتصدّي للحكومة، بل مؤثّرة في اجتهاد كلّ مجتهد وإن كان ابتلاء الوليّ المتصدّي بهذه المسألة أكثر بكثير من ابتلاء المجتهد غير المتصدّي.

ج) الزمان والمكان، والبدعة

ارتباط تأثير الزمان والمكان، ومسألة البدعة والتشريع

في مسألة البدعة والتشريع ـ رغم وجود اختلاف في أنّه هل هناك فرق بين هاتين الكلمتين، كما ذهب إليه المحقّق النائيني (قدس سره) (1)، أو لا يوجد فرق بينهما، كما هوالمشهور(2) ـ مبنيّان مهمّان بين فقهاء العظام، لا دخل لمسألة تأثير الزمان والمكان في كلّ منهما:

المبنى الأوّل: أنّ البدعة والتشريع بمعنى إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين، كما ذكرنا سابقاً(3)، ومسألة الزمان والمكان لا ترتبط بهذا المبنى إطلاقاً; سواء من جهة تغيّر الموضوعات والمتعلّقات وقيودهما، أو من جهة اختلاف الاستنباط وفهم الأدلّة الواردة لبيان الأحكام، أو من جهة تحصيل ملاكات وعلل الأحكام; لأنّه:

في الفرض الأوّل: وهو تأثير الزمان والمكان في تغيير الموضوع، أو المتعلّق


(1) كتاب الصلاة للآملي 2: 318.
(2) جواهر الكلام 13: 144، مصباح الفقيه، الصلاة: 626 سطر 4، المستند في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 17: 34.
(3) في ص 264.

صفحه 303

أو أحد قيودهما، فمن الواضح: أنّ هذه التغيّرات لا ترتبط بالشارع المقدّس، بل إنّ الشارع بما هو شارع لا يتمكّن من التصرّف في عناوين الموضوعات.

وفي الفرض الثاني: وهو: أنّ الفقيه سيكون لديه فهماً أدقّ للأدلّة الشرعيّة بفعل تطوّر العلوم البشريّة، والتأمّل والتدقيق في الأدلّة الشرعيّة، ومعلوم أنّ الفقيه لايطرح فتواه بعنوان أنّها رأيه الشخصي، بل بعنوان ما فهمه من الدليل، وكونه مراداً للشارع من خلال ما يستنبطه من المباني والمبادئ الفقهيّة والاُصوليّة الدقيقة.

وعليه: لا يصحّ القول في هذه الصورة بأنّه أدخل في الدِّين ما ليس من الدِّين، بل ما كان في الدِّين بصورة مبهمة، قام الفقيه بالكشف عنه وبيانه.

وفي الفرض الثالث: فقد ذكرنا سابقاً(1) أنّ في بعض الأدلّة لم تذكر علّة وملاك الحكم بصورة صريحة، ولكنّ الفقيه بإمكانه العثور على العلّة والملاك من خلال بحثه، وتحقيقه، وتدبّره في الأدلّة، والفروعات الفقهيّة، وبهذا يستطيع بيان حكم المسائل الجديدة.

ومن الواضح: أنّ الفقيه في هذه الصورة يفتي على أساس ذلك الملاك الموجود في الشريعة، لا أنّه يدخل في الدِّين ما ليس فيه.

المبنى الثاني: أن تكون البدعة والتشريع بمعنى أن يعلم الإنسان بأنّ المفهوم الفلاني ليس من الدِّين، ومع ذلك يجعله في الدِّين، وعلى هذا أيضاً يتّضح مبنى الفروض الثلاثة المذكورة آنفاً، فلا يكون أيٌّ منها مصداقاً لهذا المبنى.

د) الزمان والمكان، والمعارضة مع دعوى الإطلاق، أو إجماع فقهاء السلف

من الاُمور المانعة من حركة الاجتهاد، وعدم فاعليّته في حلّ مشكلات


(1) في ص274 ـ 275.

صفحه 304

المجتمع، هو: أنّ الفقهاء يتحرّكون في دراساتهم الفقهيّة من موقع التسليم المحض، والانقياد الكامل لما كان عليه فقهاء السلف من المباني الاجتهاديّة، مثلاً إذا ادّعى الفقهاء الأقدمون الإطلاق بالنسبة إلى أحد الأدلّة، أو أجمعوا على مسألة معيّنة، فالفقهاء المتأخِّرون لا يجدون في أنفسهم الميل إلى مخالفتهم، وهذه الحالة تمنعهم من استنباط فتوى جديدة، وفهم جديد من الأدلّة الشرعيّة.

إذا قبلنا أنّ الشارع المقدّس قد بيّن أحكامه وتعاليمه إلى الناس في إطار عبارات وألفاظ تقوم على أساس المرتكزات العقلائيّة، وذكرها طبقاً لتلك المرتكزات; فإنّ الكثير من الفروعات الفقهيّة سوف ترتدي ثوباً جديداً على مستوى الحكم.

مثلاً في الآية الشريفة: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) نرى أنّ ارتكاز العقلاء يقوم على أساس أنّ بيع المكره لغو، وأساساً لا يرونه بيعاً، فيمكننا أن ندّعي حينئذ أنّ الآية الشريفة غير شاملة لهذا النوع من البيع، ومن الخطأ أن نتصوّر أنّ الآية الشريفة شاملة بإطلاقها بيع المكره، ونتصوّر بأنّ هذا البيع يقع صحيحاً، وبذلك تتعارض هذه الآية مع الروايات الدالّة على عدم صحّة بيع المكره.

وهكذا ما ورد في الرواية الشريفة عن عبدالله بن مسكان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في رجل قطع رأس الميّت، قال: عليه الدية; لأنّ حرمته ميّتاً كحرمته وهو حيّ(2).

فقد استفاد البعض(3) من التعليل الوارد في الرواية الإطلاق والعموم، بحيث


(1) سورة البقرة 2: 275.
(2) تهذيب الأحكام 10 : 273 ح1072، الاستبصار 4: 297 ح1120، الفقيه 4: 117 ح406، وعنها وسائل الشيعة 29: 327، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء ب24 ح6.
(3) المكاسب المحرّمة، لآذري القمّي 1: 161ـ 162 و 167، الفقه ومسائل طبّية، لمحمّد آصف المحسني: 1 : 155ـ 158، دراست موسّعة حول المسائل المستحدثة، للشيخ علي آزاد القزويني: 17 ـ 18 و 51.

صفحه 305

يستوعب في شموله القبور المندرسة والعظام الرميمة، فلا يمكن الاستفادة منها فيالطبّ والعلوم البشريّة، وإذا كان تشريح جسد الميّت لغرض أهمّ من الاحترام والحرمة، من قبيل توقّف حفظ الإنسان الحيّ عليه، أجروا قواعد باب التزاحم في هذه المسألة; لأنّ الرواية مطلقة في مورد احترام الميّت، في حين أنّ هذا النوع من الإطلاقات على خلاف المرتكزات العقلائيّة، ففي موارد يكون فيها حفظ بدن الحيّ متوقّفاً على تشريح جسد الميّت، لا يقبل العقلاء بإطلاق دليل الاحترام،فلا تصل المسألة إلى باب التزاحم حينئذ.

النتيجة

في قليل من التأمّل في أحكام الشريعة يمكن القول بأنّ الأحكام الشرعيّة تنقسم في اللحاظ الأوّل إلى قسمين: ثابتة، ومتغيِّرة. وبعض علماء أهل السنّة ذكروا في هذا المجال أنّ الدِّين الإسلامي يقوم على نوعين من الأحكام:

1 ـ أحكام ثابتة لا يرد فيها الاختلاف، ولا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، ولاتخضع لبحث الباحثين واجتهاد المجتهدين; لأنّها ثابتة من قبل الله ـ تعالى ـ يقيناً، فلا إبهام ولا غموض في معانيها.

2 ـ أحكام اجتهاديّة نظريّة تتعلّق بالمصالح المتغيّرة بتغيّر الظروف والأحوال، وترتبط بفهم الفقيه واستنباطه، فهي متغيِّرة بتغيّر الأفهام والعقول، ولا تصل إلى مرتبة اليقين، بل لا تتعدّى الظنّ والاحتمال(1).

العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) يقول في هذا المجال:

هناك سلسلة من القوانين تتغيّر بمرور الزمان، وتطوّر الحضارة، وهي القوانين المتعلِّقة بالأوضاع والأحوال الخاصّة، ولكن هناك سلسلة أُخرى من القوانين


(1) بيان للمسلمين، عبد المجيد سليم.

صفحه 306

تتعلّق بأصل الإنسانيّة، وتعتبر من المشتركات بين جميع أفراد البشر، فهي ثابتة لاتتغيّر في جميع الأدوار والظروف، والمحيط الاجتماعي(1).

ويقول (قدس سره) في مكان آخر:

إنّ المقرّرات المتغيّرة من اختيارات الحاكم هي في ظلّ المقرّرات الثابتة، والأحكام الإلهيّة الواردة في متن الشريعة هي ثابتة وخالدة، ولا يحقّ حتّى لوليّ الأمر تغييرها حسب المصلحة(2).

ومن هنا يمكننا أن نصل إلى القول بأنّ في الشريعة الإسلاميّة أحكام ثابتة وغير قابلة للتغيير إطلاقاً; من قبيل كون نجاسة الدم بعنوانه حكماً كلّياً لايقبل التغيير، فلا يمكننا تحت أيّ ظروف، وفي أيّ زمان إخراجه من دائرة النجاسة، ولكن نفس هذا الحكم الثابت، له فروعات تتغيّر بتغيّر الزمان، واختلاف الظروف والأحوال; من قبيل بيعه وشرائه، أو في مسألة الزكاة، حيث إنّ وجوب الزكاة هو حكم كلّي وأصل ثابت في الشريعة، ولكن خصوصيّاته وشرائطه قابلة للتغيير. وكذلك مسألة البيع.

وهذا المطلب في باب العبادات غير قابل للتفكيك غالباً، أي أنّ هناك أحكام كلّية في باب العبادات، مثل وجوب الصلاة، وكذلك جزئيّاتها وخصوصيّاتها غير قابلة للتغيير، فهي ثابتة في جميع الأزمنة والأمكنة.

وبالطبع هناك بعض العبادات قابلة للتغيير بمرور الزمان، مثلاً الواردمن الشارع المقدّس في باب السعي بين الصفا والمروة أصل لزوم السعي بين الصفا والمروة، ووجوب الشروع من الصفا، ولكن من أيّ موضع الصفا تكون البداية؟ وإلى أيّ موضع من المروة يكون الاختتام؟ هل أنّ جبل الصفا في زمن


(1) مجلّة مكتب إسلام، العدد 6، السنة الثانية.
(2) مجلّة مكتب إسلام، العدد 9، السنة الثانية.

صفحه 307

رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت له درجات؟ وعندما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسعى ماشياً هل كان يرتقي الدرجة الرابعة؟

واليوم حيث زالت تلك الدرجات فكيف يكون العمل؟ هل يكون كما تصوّر بعض الفقهاء من وجوب الابتداء من الصفا، على أن يكون عقب قدمه متّصلاً بالصفا. وعند وصوله إلى المروة أن تلمس أصابع قدمه ذلك المكان، أو أنّ ذلك الأصل الكلّي ـ يعني لزوم السعي من الصفا إلى المروة ـ غير قابل للتغيير في مختلف الظروف والأزمنة، ولكن من أيّ أقسام الصفا تكون البداية، وكيف تكون؟ فذلك يعود إلى العرف، وليس للشريعة دخل في ذلك.

* * *


صفحه 310

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

إنّ من ضروريّات علم الفقه في العصر الحاضر ، دراسة المناهج الاجتهاديّة والاستنباطيّة للفقهاء والمحقّقين في هذا المضمار ، ومن اللازم في دائرة الفقه الاجتهادي الشيعي الاهتمام بكيفيّة استنباط المجتهدين ، فرغم أنّ منابع الاجتهاد محدودة بالكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وجميع الفقهاء يعتمدون في دراساتهم الفقهيّة على هذه الاُمور الأربعة بعناوينها منابع الاجتهاد ومصادر الأحكام ، إلاّ أنّه من الواضح لدى أهل العلم وأرباب المعرفة أنّ لكلّ واحد من الفقهاء منهج اجتهاديّ خاصّ في سلوكه الفقهي والعلمي ، بحيث أدّى هذا الأمر أحياناً إلىأن تقع مسألة فقهيّة ضروريّة محلّ خلاف بينهم .

فهناك بعض الموارد التي ذهب إليها الشهيد (قدس سره) في فتواه، ويراها صاحب الجواهر أنّها على خلاف الضرورة الفقهيّة ، وليس هذا إلاّ أنّ الأصل المهمّ والأساس ـ أي الضرورة الفقهيّة ، وتفسيرها وتبيينها ـ مختلف فيه في نظر الفقهاء وأرباب النظر . وعليه: فمن اللازم التحقيق حول منهج الاستنباط .

ونحن في هذه المقالة المختصرة التي كتبناها بمناسبة إقامة مؤتمر الفاضلَين


صفحه 312

النراقيّين (قدس سرهما) ، بصدد بيان هذا الأمر بصورة إجماليّة ، وبديهيّ أنّ التحقيق المفصّل حول هذا الموضوع بحاجة إلى وقت أوسع وتتبّع أكثر . وسوف نقوم بدراسة موسّعة لهذا الموضوع بنحو كامل في وقت مناسب إن شاء الله .

لاشكّ في أنّ كلّ فقيه إنّما يروم العثور على الحكم الإلهي، واستنباط ما يراه نظر الشارع المقدّس ، ومنذ قديم الزمان وعلم أُصول الفقه ـ وهو بمثابة منطق علم الفقه ـ كان يمثِّل أداة ووسيلة في يد المجتهد يعينه في عمليّة الاجتهاد، وله تأثير بالغ فيها ، ولكن من الواضح أنّه مضافاً إلى علم الاُصول وعلم الفقه ، هناك شيء آخر نعبّر عنه بمنهج الاستنباط ، ورغم أنّ هذا العنوان له مفهوم عامّ قد يستوعب في دائرته علم أُصول الفقه أيضاً ، والاختلاف في المباني الاُصوليّة يوجب قطعاً الاختلاف في كيفيّة منهج الاستنباط .

ولكن لابدّ أن نعلم أنّ هناك اُموراً مهمّة أُخرى في منهج الاستنباط لها دور أساسيّ أيضاً، ولكنّها لم ترد ضمن مسائل اُصول الفقه ، ومع الأسف فهذا الموضوع لم يُبحث بصورة مستقلّة ومدوّنة لحدّ الآن .

ونحن في هذه المقالة المختصرة سنشير بشكل إجماليّ إلى بعض العناوين الدخيلة في هذا البحث . وطبيعيّ أنّه مع تحقيق وتدبّر أكثر في هذه المسألة سنعثر على عناوين اُخر أيضاً دخيلة في هذا الأمر .

1 ـ الاستفادة من المسائل، والقواعد الاُصوليّة في الفقه

إنّ أحد الأسئلة التي تدور في أذهان الفضلاء والمجتهدين ، هو : ما مقدار تأثير علم الاُصول في الفقه ؟ وأساساً هل يمكن أن تتحقّق عمليّة الاستنباط في الفقه من دون الاستفادة من علم الاُصول ، أم لا ؟

وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّ تأثير علم الاُصول في الفقه غير قابل


صفحه 313

للإنكار ، وبدون علم الاُصول يعجز الفقيه من الاستنباط والاجتهاد في الكثير من الموارد ، مثلاً لو لم نتمكّن من إثبات حجّية الظواهر في علم الاُصول ، فكيف يمكننا التوصّل إلى نتيجة مقبولة من كلّ هذه الآيات والروايات ؟

وعليه: فأصل تأثير علم الاُصول في علم الفقه غير قابل للإنكار ، ولكنّ البحث في أنّه هل جميع القواعد المذكورة الآن في علم الاُصول ضروريّة ونافعة في علم الفقه ، أو يمكن القول بأنّ الفقيه يمكنه الاستنباط في الفقه من دون الاستعانة ببعض القواعد الاُصوليّة ؟

وما يجدر ذكره هنا أنّه مع أنّ بعض الفقهاء من له اليد الطولى في الاُصول ، إلاّ أنّه رغم ذلك يتجنّب حدّ الإمكان من الاستعانة بها في الفقه ، ومن هؤلاء المرحوم المحقّق الحائري، والمرحوم المحقّق البروجردي (قدس سرهما) ، والمقصود هنا ليس أصل تأثير علم الاُصول ، بل إعماله واستخدام القواعد الاُصوليّة في عمليّة الاستنباط ، مثلاً في الموارد التي يفتي بها الفقهاء طبقاً لقاعدة «مقدّمة الواجب واجبة» بالوجوب الشرعي والمولوي للمقدّمة ، فهل يمكن إثبات وجوبها ولوازمها من طريق آخر، بدون الاستعانة بتلك القاعدة؟

هل هناك إمكانيّة للتوصّل إلى نتائج صحيحة وواقعيّة من دون الاستعانة بمسألة اجتماع الأمر والنهي ؟

هل هناك إمكانيّة على الاستنباط الصحيح من دون الاستعانة بقواعد باب العامّ والخاصّ ، أو الإطلاق والتقييد ؟

هل يمكننا التوصّل إلى نتائج فقهيّة صحيحة بدون الاستفادة الدقيقة لقواعد باب التعارض والتزاحم ؟

من الواضح: أنّنا لا يمكننا أن نحصل على جواب واحد وكامل لهذه الأسئلة ، بل لابدّ من التحقيق والتتبّع بدقّة، وفي كلّ مورد على حدة كيما نحصل على نتيجة


صفحه 314

واضحة ومعتبرة ، إلاّ أنّ ما يمكننا إظهاره بشكل عامّ هو أنّه بالرغم من أنّ الضرورات الفقهيّة والمشكلات الموجودة في حقل الاجتهاد تعين الفقيه في الكشف عن الكثير من القواعد الاُصوليّة ، ولكن هذا لا يعني أنّه لا يوجد أيّ طريق آخر للاستنباط بدون تلك القواعد .

نحن نرى أنّ القدماء والمتقدِّمين في الفقه يلجؤون غالباً إلى العمل بظواهر الآيات والروايات المعتبرة ، وفي بعض الموارد يتمسّكون بالإجماع ، وقلّما نجد في كتبهم الاستفادة من القواعد المهمّة في الاُصول; من قبيل اجتماع الأمر والنهي، أو مسألة الترتّب، أو مباحث المفاهيم ، والحال أنّ الفقيه المعاصر يستخدم في مسائله وفروعاته قواعد أُصوليّة مهمّة جدّاً ، وحتّى ما نراه من التمسّك في الكثير من الإطلاقات بصورة شائعة في الكتب الفقهيّة في هذا الزمان، لم يكن موجوداً في كتب قدماء الفقهاء وإن كان هذا الأمر معلولاً لعدم وجود الموضوع في الأزمنة الماضية ، ولكن إلى أيّ مقدار كان الفقهاء الأقدمون منّا ملتزمين بهذه القواعد ؟

يمكن تقسيم الفقهاء إلى ثلاث طوائف :

الطائفة الاُولى : من كان لا يستعين في الفقه بالقواعد الاُصوليّة إلاّ نادراً ، ومن هذه الطائفة «الشيخ المفيد (قدس سره) »، والفقهاء الذين سبقوا الشيخ المفيد .

الطائفة الثانية : من كان يستعين في الفقه بالقواعد الاُصوليّة بالمقدار المتعارف والطبيعي .

الطائفة الثالثة : ومنهم الكثير من المتأخِّرين ; هم الذين استخدموا القواعد الاُصوليّة في عمليّة الاستنباط الفقهي أكثر من مورد الحاجة .

ويمكن أن نعدّ الملاّ أحمد النراقي (قدس سره) من الطائفة الثانية ، فهو ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار بتبحّره ومهارته الكاملة في علم الاُصول ـ سعى حدّ الإمكان إلى تجنّب الاستعانة بالقواعد الاُصوليّة .


صفحه 315

فمع مراجعة إجماليّة لكتاب المستند ، يحصل التصديق بهذه الحقيقة ، ففي المثال المعروف فيما لو كان للشخص مالٌ ، فإمّا يجب عليه صرفه في قضاء الدَّين وإبراء ذمّته ، أو في حجّة الإسلام ، وليس له مال يفي بكلا الأمرين ، فقد اختلف الفقهاء هنا على أقوال :

1 ـ جماعة منهم: كالمحقّق، والعلاّمة، والشهيد (قدس سرهم) (1) يرون أنّ الدَّين بصورة عامّة مانع من وجوب الحجّ ; سواء كان الدَّين حالاًّ ، أو مؤجّلاً ، وسواء كان الدَّين الحالّ يطالب به صاحبه، أم لا ، وسواء كان المؤجّل موثوق الأداء، أم لا ، فهذه الفئة من الفقهاء استدلّوا بظاهر بعض الروايات الواردة في الحجّ(2); التي تُوجب الحجّ على الموسر .

وذهبوا إلى أنّ المدين لا ينطبق عليه عنوان الموسر .

2 ـ ذهب جماعة اُخرى كالسيّد (قدس سره) في المدارك(3) إلى أنّ الدَّين الحالّ الذي يطالب به صاحبه هو المانع من وجوب الحجّ فقط . وأمّا غير الحالّ، أو غير المطالب به فلا يمنع من تحقّق الاستطاعة .

3 ـ فريق ثالث: كالفاضل الهندي في كشف اللثام(4) يرون أنّ الدَّين مانع إلاّ في صورة أن يكون الدَّين موسّعاً، بحيث يكون وقته أوسع من الحجّ .

4 ـ المرحوم النراقي في المستند(5) يقول بالتخيير في بعض الصور ، وذلك في المورد الذي يكون الدَّين فيه حالاًّ ، أو له مدّة، ولكنّه غير موسّع ، ففي هذه الصورة لا فرق بين المطالبة وعدم المطالبة .


(1) شرائع الإسلام 1: 226، إرشاد الأذهان 1: 310، الدروس الشرعيّة 1: 310.
(2) وسائل الشيعة 11: 33 ـ 39، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه ب8 و 9.
(3) مدارك الأحكام 7: 43.
(4) كشف اللّثام 5: 98.
(5) مستند الشيعة 11: 42 ـ 48 .

صفحه 316

ودليله على هذا الفرق ما ذكره في المستند من أنّ المديون الذي له مال يسع أحد الأمرين من الحجّ والدَّين ، داخل في الخطابين : خطاب الحجّ ، وخطاب أداء الدَّين ، وإذ لا مرجّح في البين، فيكون مخيّراً بين الأمرين (1).

وأمّا في صورة أن يكون له مدّة، ويكون موسّعاً ، فيذهب النراقي (قدس سره) إلى تقديم الحجّ ، ودليله على ذلك صدق الاستطاعة ، والروايات(2) التي تدلّ بالصراحة على أنّ الحجّ واجب على الإنسان، حتّى في صورة أن يكون عليه دَين في الذمّة ، ثمّ يورد دليل من يرى في هذا الفرض عدم وجوب الحجّ، واستندوا في ذلك بعدم صدق الاستطاعة، أو ببعض الروايات ، ويناقشها جميعاً .

النتيجة : إنّ هذه الطوائف الأربعة من الفقهاء لم يخرجوا في منهجهم الاستدلالي عن هذا الأمر ; أي صدق الاستطاعة وعدمه ، وكذلك دلالة الروايات أو عدمها ، في حين أنّ بعض الأعاظم مثل السيّد الخوئي (قدس سره) في المعتمد(3) أدرج هذه المسألة بشكل عامّ في باب التزاحم وقواعدها ، وطرح مسألة متعيّن الأهمّية أو محتمل الأهمّية ، ثمّ ذهب إلى أنّ الدَّين حقّ الناس ، ومن الثابت أنّه أهمّ من حقّ الله ، فلذا يقدَّم الدَّين .

بل نسب إلى النراقي أنّه يقول بالتزاحم في بعض الصور ، في حين أنّه أوّلاً :لاتوجد أيّة عبارة في كلمات النراقي (قدس سره) بعنوان التزاحم ، وثانياً : أنّ مبنى النراقي (قدس سره) (4) القول بالتخيير في صورة التعارض، وعدم الترجيح ، ويحتمل أن يكون كذلك في هذا المورد ، فلا يكون ملتفتاً أصلاً إلى مرجّحات باب التزاحم، وهي


(1) مستند الشيعة 11: 43 ـ 48.
(2) وسائل الشيعة 11: 25 ـ 29 و ص 33 ـ 34، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه وشرائطه ب6 و 8 ح1، 3و4.
(3) المعتمد في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 26: 95 ـ 96.
(4) مناهج الأحكام والاُصول: 317، عوائد الأيّام: 349 ـ 353.

صفحه 317

المستقلّة عن مرجّحات باب التعارض .

نعم ، طبقاً لنظريّة المتأخِّرين يمكن حمل كلماته على باب التزاحم ، ولكن لايوجد هناك شاهد واحد على أنّه أراد هذا المطلب ، بل إذا كان يقصد ذلك ، فينبغي أن يشير إلى مرجّحات باب التزاحم .

والغرض من نقل هذا المثال هو: أنّ الفقهاء الماضين منهم المرحوم النراقي لم يهتمّوا إطلاقاً في هذه المسألة بإعمال قواعد التزاحم ، بل تحرّكوا في حلّ المسألة من طريق آخر لا يرتبط بهذه المسألة الاُصوليّة ، والحال أنّ بعض الأعاظم من المتأخّرين عالجوا المسألة من الزاوية الاُصوليّة، وبإعمال القواعد الاُصوليّة .

أجل ، بعض الأعاظم والمحقّقين في الفقه، كالوالد المعظّم (قدس سره) بعد إثبات عدم تماميّة جميع الأدلّة ، ذكر المسألة في باب التزاحم ، فقال :

وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في الروايات الظاهرة في تقدّم الحجّ على الدَّين، أنّها بين ما يكون معرضاً عنها، وما يكون مشتملاً على ضعف في السند، ومايكون غير ظاهرة في التقدّم مع المزاحمة . . . فلم يثبت إلى هنا تقدّم الدَّين على الحجّ ولا تقدّم الحجّ على الدَّين ، واللازم بعد ذلك ملاحظة المسألة من باب التزاحم(1) .

ونرى من اللازم هنا، وبمناسبة هذا البحث أن نشير إلى بعض القواعد الاُصوليّة الواردة في مستند الشيعة :

أ ـ يرى النراقي: أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وقد استدلّ بها في كثير من المسائل; مثلاً في مسألة وجوب تحصيل مقدّمات الحجّ قبل حلول موسم الحجّ، استعان بمقدّمة الواجب في الاستدلال(2) ، وحتّى أنّه يرى في بعض الموارد إبقاء المقدّمة واجباً ، فقال في كتاب الحجّ ـ تحت عنوان أنّه هل يجوز صرف المال الذي


(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ 1: 135.
(2) مستند الشيعة 11 : 13 .

صفحه 318

صار الشخص على أساسه مستطيعاً في النكاح ؟ ـ :

ثمّ إنّ ما ذكروه من عدم جواز صرف المال في النكاح مبنيّ على ما نقول به من وجوب إبقاء مقدّمة الواجب كما يجب تحصيلها ، ولذا نقول بعدم جواز إهراق الماء المحتاج إليه للطهارة، والأكثر لم يذكروه(1) .

وهكذا في مسألة التفقّه في المعاملات، ومعرفة المعاملة الصحيحة من الفاسدة ، يرى النراقي (قدس سره) وجوب ذلك من باب المقدّمة ، ويرى استحباب التفقّه في كيفيّة التكسّب قبل الدخول في المعاملة(2) .

ب ـ ومن النظريّات الاُصوليّة للنراقي، المخالفة لكثير من المتأخِّرين من الاُصوليّين(3) ، أنّ الجملة الخبريّة لا تدلّ على الوجوب ، وقد كان لهذه النظريّة تأثير كبير في مجمل فتاواه ، ومن ذلك في لزوم، أو عدم لزوم الترتيب في الأعمال الثلاثة في منى .

فأكثر الروايات التي تدلّ على التقديم، لها صيغة الجملة الخبريّة ; من قبيل ماورد في رواية جميل : «تبدأ بمنى بالذبح قبل الحلق»(4)، ثمّ أضاف : بما أنّ في نظرنا أنّ الجملة الخبريّة لا تدلّ على الوجوب ، فلا يمكننا استخراج الوجوب من هذه الروايات(5) .

ج ـ لا يوافق النراقي (قدس سره) على القواعد التي أوردها القدماء في باب تعارض الأحوال ، مثل ما ورد في ترجيح المجاز في مسألة دوران الأمر بين التخصيص


(1) مستند الشيعة 11: 60.
(2) مستند الشيعة 14: 17.
(3) كفاية الاُصول: 92 ـ 93، درر الفوائد ، للحائري: 75، نهاية الأفكار 1: 180ـ 181.
(4) الكافي 4: 498 ح7، تهذيب الأحكام 5: 222 ح749، وعنهما وسائل الشيعة 14: 155، كتاب الحجّ، أبواب الذبح ب39 ح3.
(5) مستند الشيعة 12 : 305 .

صفحه 319

والمجاز ، أو في مسألة الدوران بين المجاز والاشتراك ، وترجيح المجاز فيها ، فالنراقي (قدس سره) في مثل هذه الموارد لا يرى جريان أيٍّ من القواعد المذكورة ، ولعلّ الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية(1) يرى هذا الرأي أيضاً، وتبع في ذلك النراقي (قدس سره) ، فقد قال : والحكم بأولويّة التخصيص عن التجوّز في الأمر مشكل(2) .

وبالطبع فقد صرّح في بعض مواضع كتابه المستند أنّ المجاز مرجوح بالنسبة إلى التخصيص(3) .

د ـ ومن النظريّات الاُخر للنراقي; عدم إمكان التجزّئ في الاجتهاد ، حيث يرى أنّه لو قلنا: إنّ الاجتهاد عبارة عن المَلَكة والقدرة النفسانيّة ، فلا يمكن قبول التجزّئ في الاجتهاد حينئذ(4) .

هـ ـ ومن الاُمور التي يصرّ عليها الآخوند الخراساني (قدس سره) في الكفاية(5) هو: أنّ وظيفة العرف تتحدّد في تشخيص المعاني والمفاهيم . وأمّا تطبيقها فمرتبط بالعقل ولايرتبط بالعرف .

والإمام الراحل (قدس سره) (6) خالف الآخوند (قدس سره) في هذا المطلب . ويستفاد من كلمات النراقي (قدس سره) في المستند أنّه كما يستفاد من العرف في مجال تشخيص المعاني والمفاهيم ، كذلك يستفاد منه في تطبيق وبيان المصاديق أيضاً ، حيث قال :

والألفاظ تحمل على المصداقات العرفيّة(7) .


(1) كفاية الأصول: 35.
(2) مستند الشيعة 11: 72.
(3) مستند الشيعة 16: 232.
(4) مستند الشيعة 17: 29.
(5) كفاية الاُصول: 77.
(6) تهذيب الاُصول 1: 180.
(7) مستند الشيعة 12: 70.

صفحه 320

و ـ يستفاد من مجموع كلمات النراقي (قدس سره) أنّه يرى حجّية مفهوم الشرط والغاية من بين المفاهيم . وأمّا مفهوم العدد أو الوصف فلا يراه حجّة ، ويقول : دلّت بمفهوم الشرط على حرمة النظر إذا لم يرد تزوّجها(1) .

ويقول في مكان آخر : والرابع بأنّ المفهوم إمّا عدديّ، أو وصفيّ ، وشيء منهما ليس بحجّة(2) .

2 ـ الاستفادة من آيات الأحكام في الفقه

من الاُمور الأساسيّة والمهمّة جدّاً هو أن يكون الفقيه مسلّطاً ومحيطاً بمفاهيم القرآن الكريم وآياته الشريفة قبل مراجعة أيّ مرجع ومصدر للأحكام الشرعيّة ، حيث إنّ فهم آيات الأحكام تعين الفقيه كثيراً في التوصّل إلى الواقع، والتعرّف على الأوامر الإلهيّة ، ويلاحظ في بعض الكتب الفقهيّة; أنّها قبل الورود في دائرة الأدلّة وذكر الأقوال تقوم بالتحقيق في مدلول الآيات المربوطة بذلك الباب ، ومن الواضح أنّه كلّما كان الفقيه متبحِّراً ومتعمِّقاً في آيات الأحكام ; فإنّ طريق الاستنباط سيضحى سهلاً وميسوراً عليه .

ومن جهة أُخرى: فإنّه كلّما لم يهتمّ الفقيه بهذا المنبع الفقهي والاجتهادي ، تباعد عنه التوصّل إلى الحكم الشرعي، وكان مسيره في عمليّة الاستنباط أبطأ .

ومع ملاحظة هذا الأمر ; وهو: أنّ الأخباريّين لايرون حجّية ظواهر الآيات القرآنيّة ، ويرون كفاية الروايات في عمليّة الاستنباط ; فإنّهم يعجزون أبداً عن إيجاد الحلول، والإجابة على المشكلات الفقهيّة ، وبذلك يكون لديهم فقه جامد ومتحجِّر ، ولكن من خصوصيّات النراقي (قدس سره) في كتاب «المستند» توجّهه الخاصّ


(1) مستند الشيعة 16: 31.
(2) مستند الشيعة 16: 76.

صفحه 321

والعميق لآيات الأحكام ، والاستدلال بها في أبعاد متنوّعة .

وهنا لابدّ من الإشارة إلى ثلاثة مطالب :

المطلب الأوّل : أنّ من الخصوصيّات المشاهدة في منهج استنباط النراقي (قدس سره) ـ ومن الضروري للفقهاء المحترمين الالتفات إليها ، ولها نتائج وآثار مهمّة في الفقه ـ هي: أنّ هناك عناوين كلّية مذكورة في الآيات الشريفة ، فلو ورد في رواية أو روايات مصاديق لتلك المفاهيم ، فهذا الأمر لا يستوجب أن يفقد ذلك المفهوم الكلّي كلّيّته ، وينحصر مفاده بالمصداق المذكور في الرواية .

وبعبارة اُخرى : إنّ ذكر مصداق لمفهوم كلّي لا يستوجب أن يفقد ذلك المفهوم الكلّي معناه اللغويّ والعرفيّ في مقام الاستنباط ، وبالتالي يتحدّد بالمعنى اللغوي للمصداق ، مثلاً ما ورد في الآية الشريفة :

{وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا} (1) .

فحسب ما ورد في بعض الروايات(2) الموجودة أنّ «لهو الحديث» قد فُسِّر بالغناء ، ولكنّ النراقي يقول في هذا المجال :

إنّ تفسير «لهو الحديث» بالغناء لا يوجب الاكتفاء بمعنى «الغناء» لغةً وعرفاً من دون توجّه إلى معنى «لهو الحديث» كذلك، بل اللازم تفسير الغناء المحرّم مع ملاحظة مفهوم «لهو الحديث» أيضاً لغةً وعرفاً; أي نفتي بحرمة الغناء من حيث إنّه باطل ولهو عرفاً(3).

في حين أنّ بعض الفقهاء(4) أفتى بحرمة مطلق الغناء في هذا المورد، وهذا إنّما


(1) سورة لقمان 31: 6 .
(2) وسائل الشيعة 17: 303 ـ 310، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99.
(3) مستند الشيعة: ج14 ص130 ـ 135 وج18 : 192 ـ 193.
(4) المقنعة: 588 ، الكافي في الفقه: 281 ، السرائر 2 : 215 ، إرشاد الأذهان 1: 357.
صفحه 322

هو من جهة أنّه لم يأخذ بنظر الاعتبار هذه الخصوصيّة في معنى الغناء، والمفهوم اللغوي والعرفي من «لهو الحديث».

الملاحظة الاُخرى في هذا المجال أنّ النراقي قد أخذها بعين الاعتبار، وهي: أنّ حرمة الغناء المأخوذة من هذه الآية ـ مضافاً إلى صدق عنوان «لهو الحديث» عليه ـ يجب أن يصدق عنوان (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا) أيضاً، ولا تدلّ الآية على حرمة غير ذلك، يقول النراقي (قدس سره) :

ولا تدلّ على حرمة غير ذلك ممّا يتّخذ الرقيق القلب لذكر الجنّة، ويهيج الشوق إلى العالم الأعلى، وتأثير القرآن والدُّعاء في القلوب(1) .

وعلى هذا الأساس يستفاد من منهج النراقي في عمليّة الاستدلال; بأنّه إذا كان هناك مفهوم في الآية الشريفة قد فسّر بمفهوم آخر، فنستنتج أنّ المفهوم الثاني ليس مفهوماً مستقلاًّ .

أي أنّ «لهو الحديث» إذا تمّ تفسيره بالغناء ، نفهم بأنّ الغناء ليس حراماً مستقلاًّ ، بل في ظلّ مفهوم آخر هو «لهو الحديث»، ولابدّ من التحقيق في معناه ومفهومه .

ونظير هذا المطلب ما ورد في الآية الكريمة : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الاَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (2) .

فقد فُسّرت كلمة «قول الزور» في بعض الروايات(3) بالغناء .

ويرى النراقي (قدس سره) أنّ هذا الأمر يجب أن يتمّ مع حفظ المعنى اللغوي والعرفي من «قول الزور» ، وهو الباطل والكذب والتهمة ، وبما أنّ عنوان الباطل والكذب


(1) مستند الشيعة 14: 134 ـ 135، وج18 : 193.
(2) سورة الحجّ 22: 30 .
(3) وسائل الشيعة 17: 303 ـ 310، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح2، 3، 5، 8 ، 9، 20 و26.

صفحه 323

لايصدق على قراءة القرآن، والأدعية، والمواعظ، والمراثي ، فلذلك لا يمكن اعتبارها من موارد الغناء .

المطلب الثاني : يستند النراقي (قدس سره) في بعض المسائل الفقهيّة على القرآن الكريم، باعتباره الدليل الوحيد، أو العمدة في فتواه ، مثلاً في مسألة هل يجب الترتيب في أعمال منى الثلاثة ، أم لا ؟ يرى النراقي (قدس سره) عدم الوجوب ، وبعد مناقشة دلالة الروايات الموجودة يقول : بأنّ العمدة في الدليل هو قوله ـ تعالى ـ : {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) . فرغم أنّ الآية المذكورة وإن دلّت على وجوب تأخير الحلق عن بلوغ الهدي محلّه ، إلاّ أنّ كون بلوغ الهدي محلّه هو الذبح غير معلوم(2) .

المطلب الثالث : رغم أنّ القرآن الكريم يمكن حمله على معان كثيرة بخلاف بقيّة المتون الاُخرى ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّه يمكن الاستدلال بجميع تلك المعاني . ويذكر النراقي (قدس سره) هذا المعنى في مستنده في مقابل صاحب الحدائق(3) ، حيث قال :

وإمكان تفسير الآية بالأمرين ـ كما قيل ـ لكون القرآن دلولاً ذا وجوه فلاتعارض ، كلام خال عن التحصيل ; لأنّ المراد أنّه يمكن حمله على معان كثيرةلا أن يستدلّ بالجميع (4).

3 ـ فقه الحديث، ومسألة الجمع بين الروايات

من الاُمور المهمّة في منهج الاستنباط لدى الفقهاء ، هي الدقّة في مدلول


(1) سورة البقرة 2: 196.
(2) مستند الشيعة 12: 305.
(3) الحدائق الناضرة 8 : 45.
(4) مستند الشيعة 5: 32.

صفحه 324

الروايات، وفهم المراد والمقصود الواقعي منها ، ولاشكّ أنّ الكثير من الرواياتالموجودة في المصادر الفقهيّة، هي من نوع النقل بالمضمون ، ولا توجد الألفاظ التي تكلّم بها الإمام (عليه السلام) بعينها ، وهذا الأمر هو أحد الأسباب في التعارض الظاهري بين الروايات ، إلاّ أنّ بعض الفقهاء ذهبوا إلى أنّ العبارات الواردة في الروايات بمثابة النقل بالمعنى والمضمون ، فلا ينبغي التدقيق كثيراً فيها .

في مقابل ذلك ، نرى أنّ بعض الفقهاء يتحرّكون في عمليّة الاستنباط، والمنهج الفقاهتي حول هذا المحور ، وهو: أنّه يجب التدقيق والتدبّر في تعبيرات وألفاظ هذه الروايات بعنوان أنّها حجّة على الفقيه ، ففي بعض الموارد يؤدّي التدقيق في المدلول إلى أن يزول التعارض الظاهري بين روايتين ، والكثير من أشكال الجمع العرفي مبتن على هذا الأساس .

وعليه: فالإتقان في عمليّة الاجتهاد والاستنباط يدور مدار الفهم الدقيق للروايات، والتوجّه الصحيح لمدلولها ، ولأجل توضيح هذا الأمر أكثر ، نشير إلى عدّة خصائص مهمّة في هذا المجال :

الأوّل : يجب على الفقيه في الموارد التي تكون فيها الرواية واضحة الدلالة اجتناب التأويلات الباردة، والحمل على المعنى النادر، والمخالف للظاهر ، وقد التفت إلى هذا الأمر النراقي في منهجه الاستنباطي بصورة جيّدة ، ففي مسألة هل يجوزللمرأة أن تحتلّ منصب القضاء ، أم لا ؟ روايات لها ظهور واضح في عدم جواز ذلك ، قد استند عليها في فتواه ، وأفتى بأنّ المرأة لا يمكنها أن تكون قاضية (1).

الثاني : يجب على الفقيه استعمال الدقّة في تعامله مع الروايات ، وهل أنّ هذه الرواية في مقام إنشاء الحكم، أو الإخبار به ؟ فلو كانت في موقع الإخبار ، لا يمكن بأيّ وجه الاستناد عليها في مقام الاستدلال .


(1) مستند الشيعة 17: 35 ـ 36.

صفحه 325

الثالث : يجب على الفقيه التدقيق والتدبّر في أنّه هل ورد الحديث الحكمي بعنوان القضيّة الحقيقيّة ، أو بعنوان القضيّة الخارجيّة ؟

وفي هذه المسألة ـ وهي: أنّه هل يجب الذبح في منى أم لا ؟ ـ نرى أنّ النراقي (قدس سره) بعد أن يذكر الإجماع، والروايات الكثيرة، يشير إلى رواية تدلّ على أنّ هدي الإمام (عليه السلام) قد كان في غير منى ، وقال: إنّ هذه الرواية لا يمكن أن تكون معارضة للروايات الاُخر ; لأنّهاتحمل عنوان القضيّة الخاصّة و«القضيّة في واقعة» ، وأضاف :

القضايا في الوقائع لا تفيد عموماً ولا إطلاقاً(1) ; أي أنّ القضيّة الخاصّةلا يكون لها عموم ولا إطلاق حتّى يمكن استنباط حكم كلّي منها .

وأحد التوجيهات المذكورة للرواية الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في شأن النساء ـ حيث قال : النساء نواقص العقول(2)ـ هو هذا المعنى ، يعني لعلّها كانت من قبيل القضيّة الخارجيّة ، فمن الطبيعي أن تكون محدودة بنساء في زمن خاصّ ، فلاتشمل جميع النساء إلى يوم القيامة على أساس من القضيّة ا لحقيقيّة ، رغم أنّ التعبير الوارد في ذيل هذه الرواية مبعّد لهذا المعنى .

الرابع : أنّ الفقيه في الوقت الذي يكون ملزماً بالتمسّك بالدليل ، لايتمكّن في بعض الموارد من الجمود على ظاهر الروايات ، وهذه الخصوصيّة مشاهدة في منهج النراقي (قدس سره) في عدّة موارد :

ففي مسألة: إذا أراد شخص أن يبيع في عقد واحد شيئاً بثمن نقداً، وبثمنآخر نسيئة ، فالمشهور قائل بالبطلان ، كالشيخ الطوسي (قدس سره) في المبسوط(3)،


(1) مستند الشيعة 12: 302.
(2) نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح: 105 ـ 106 ، الخطبة 80 ، وعنه وسائل الشيعة 2 : 344 ، كتاب الطهارة ، أبواب الحيض ب39 ح4.
(3) المبسوط 2: 159.

صفحه 326

والحلبي(1) والحلّي(2) وابن زهرة(3) والفاضلين(4) والشهيدين (قدس سرهم) (5) ، والدليل على ذلك الجهالة الواقعيّة للثمن ، وفي هذا المورد ثلاث روايات(6) ، وقد جاء التعبير في اثنين منها النهي عن بيعين في بيع ، أو شرطين في بيع، مثلاً جاء في رواية سليمان : أنّه نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن سلف وبيع، وعن بيعين في بيع(7) .

وقد فسّر بعض الفقهاء(8) هذا الكلام بهذا التفسير ، وهو: أنّ البائع عيّن في عقد واحد ثمن بضاعته للمشتري بثمن نقداً ، وثمن آخر نسيئة .

النراقي (قدس سره) يناقش كلتا هاتين الروايتين ، ويجيب عنهما بأنّ هاتين الروايتين لم يرد فيهما عنواناً مطلقاً، أو كلّياً ، وبالتالي يلزم منه ارتكاب التجوّز في استعمال النهي أو في المنهيّ عنه .

ويستنتج من ذلك أنّ الرواية مجملة، ولا يصحّ الاستدلال بها(9) .

الخامس : من الاُمور التي ينفرد بها النراقي (قدس سره) ، وعلى الأقلّ أنّه الوحيد الذي صرّح بها ، هي أنّه لا يصحّ الاكتفاء في فهم الرواية بمواد الألفاظ، والتراكيب اللفظيّة المستعملة فيها ، بل يستفاد من بعض الاُمور الخارجة من الرواية كونها قرينة على المدلول .


(1) الكافي في الفقه: 357.
(2) السرائر 2: 240 و 287.
(3) غنية النزوع: 213.
(4) تذكرة الفقهاء 12: 156، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 2: 511، المختصر النافع: 205.
(5) اللمعة الدمشقيّة : 74 ، الروضة البهيّة 3 : 514.
(6) وسائل الشيعة 18 : 37 ـ 38 ، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود ب2 ح3 ـ 5.
(7) تهذيب الأحكام 7 : 230 ح1005 ، وعنه وسائل الشيعة 18 : 38، كتاب التجارة ، أبواب أحكام العقود ب2 ح4 وص47 ب7 ح2.
(8) المبسوط 2: 159 ، السرائر 2 : 240 ، غنية النزوع : 213 ، تذكرة الفقهاء 12: 156.
(9) مستند الشيعة ج14 : 440 .

صفحه 327

مثلاً في مسألة كون أحد محرّمات الإحرام «لبس المخيط» ذهب إلى أنّ هذا العنوان ليس له دليل من الإجماع على أنّه بنحو كلّي ومطلق ، والروايات قاصرة من حيث الدلالة ، إلاّ أن يستفاد من الإجماع ليكون قرينة على المراد ، فقال :

ولكنّ الكلّ قاصرة عن إفادة الحرمة; لمكان الجملة الخبريّة، أو المحتملة لها ، أو ما يحتمل أن يكون المفهوم فيه انتفاء الإباحة بالمعنى الأخصّ ، فالمناط فيها الإجماع ، إلاّ أن يجعل الإجماع قرينة على إرادة الحرمة ، وهو كذلك ، فتكون تلك الأخبار أيضاً مثبتة للحرمة(1) .

فكما صرّح، جعل الإجماع قرينة على مدلول الرواية ، في حين أنّ الفقهاء الآخرين يرون أنّ الإجماع دليل مستقلّ على الحكم .

السادس : من الاُمور التي تبيّن أنّ الفقيه متبحِّر في الفقه ، هي مسألة الجمع بين الروايات المختلفة في دلالتها ، وهذا المعنى يصدق بالنسبة للشيخ النراقي (قدس سره) ، مثلاً في مسألة الفصل بين العمرتين ومقداره ، هناك أربع طوائف من الروايات يبحثها النراقي (قدس سره) ، وأخيراً يصل إلى هذه النتيجة ، وهي: أنّه بالإمكان الإتيان بعمرة واحدة كلّ عشرة أيّام ، وقد ناقش النراقي (قدس سره) في بعض روايات الباب، بالرغم من صحّة سندها، ولم يقبلها لكونها شاذّة ، وردّ البعض الآخر لكونها موافقة للعامّة ، وأعمل نظره في دلالة الطائفة الثالثة(2) .

وهكذا بالنسبة إلى محرّمات الإحرام ، فلا يرى مطلق لبس المخيط من المحرّمات ، بل اكتفى بما ورد في الروايات من عناوين ومصاديق، من قبيل القميص،والسروال والقباء والثوب المزرّر(3) .


(1) مستند الشيعة 12 : 7 .
(2) مستند الشيعة 11 : 161 ـ 164.
(3) مستند الشيعة 12: 5 ـ 8 .

صفحه 328

في حين أنّه في باب صلاة المسافر، وفي شرائط القصر ، يتجاوز العناوين العشرة المذكورة في الروايات(1) لمن يتمّ صلاته، كالمكاري، والكريّ، والراعي، والاشتقاق، والملاّح، والبريد، والأعراب، والجابي، والأمير، والتاجر ; لأنّ الوارد في التعبير هو عبارة: «لأنّه عملهم»، وهذا بمثابة العلّة المنصوصة، رغم وجود اختلاف في مرجع الضمير فيها(2) .

السابع : ينبغي للفقيه التدقيق والتدبّر في المضامين والتعابير الموجودة في الروايات ، ففي باب الغناء حول تقبيح وذمّ هذا العمل وردت عبارات كثيرة في الروايات، بحيث إنّ كثيراً من الفقهاء استنتج حرمة هذا العمل من عبارة واحدة، أو من مجموعها . مثلاً العبارة التي تقول بأنّ بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة،ولا تُجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك(3) ، أو أنّه يورث النفاق(4) ، أو يُحشر صاحب الغناء يوم القيامة أعمى وأخرس وأبكم(5) ، أو أنّ الله يعرض عنه(6) ، أو أنّه يورث الفقر(7) . أمّا النراقي، فيرى أنّ هذه التعابير لا تدلّ على الحرمة ، بدليل أنّ مثل هذه العبارات وردت في المكروهات أيضاً(8) .


(1) وسائل الشيعة 8 : 484 ـ 487 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة المسافر ب11.
(2) مستند الشيعة 8 : 273 ـ 277.
(3) الكافي 6: 433 ح15 ، وعنه وسائل الشيعة 17: 303 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب99 ح1.
(4) الخصال: 24 ح84 ، وعنه وسائل الشيعة 17 : 309 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح23.
(5) جامع الأخبار: 433 ح1211 ، وعنه مستدرك الوسائل 13: 219، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب79 ح15176.
(6) الكافي 6: 435 ح25 ، وص 433 ح16 ، وعنه وسائل الشيعة 17 : 306 و 307 ، كتاب التجارة، أبواب مايكتسب به ب99 ح12 و 16.
(7) الخصال : 24 ح84 ، وعنه وسائل الشيعة 17 : 309 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب99 ح23، وفي مستدرك الوسائل 13: 213 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب78 ح10 عن لبّ اللباب مخطوط.
(8) مستند الشيعة 14: 136 وج 18 : 194 ـ 195.

صفحه 329

4 ـ الاهتمام والعناية بالقواعد الفقهيّة

من الاُمور التي لها تأثير كبير في الفقه بدون شكّ; هي القواعد الفقهيّة ، وهي مستقلّة عن علم الاُصول تماماً ، ولا مناقشة في أنّ جميع الفقهاء استعانوا في بحوثهم الفقهيّة ببعض القواعد ، ولكنّ المهمّ هنا هو المفهوم الذي يحمله الفقيه عن القاعدة الفقهيّة ، وتحليله عنها ، حيث إنّ هذا التحليل له تأثير هامّ على كيفيّة الاستنباط لدى الفقيه .

إنّ النراقي (قدس سره) على خلاف مشهور الفقهاء(1) ـ الذين يستفيدون من قاعدة «على اليد» الحكم الوضعيّ في باب الضمان ـ يرى أنّها لا تدلّ على الحكم الوضعي بأيّ وجه ، بل تدلّ على الحكم التكليفي فقط ، وهو عبارة عن «وجوب الردّ» ; بمعنى: أنّ هذه القاعدة تدلّ أنّه لو كان لدى الإنسان مال لغيره حصل عليه من طريق غير مشروع ، وجب عليه إرجاعه إلى صاحبه(2) .

ومن الواضح: أنّ هذه القاعدة تستخدم في كثير من الموارد في الفقه لإثبات الضمان ، ومع هذا التحليل والتفسير لا يبقى لها صلاحيّة للاستدلال بها على وجوب الضمان .

النكتة الاُخرى في هذا الموضوع هي: أنّ بعض الفقهاء لهم رؤية محدودة بالنسبة لبعض القواعد الفقهيّة ، فيجرونها في بعض الموارد ، في حين أنّ نفس تلك القاعدة في نظر فقهاء آخرين تتّسع في دائرة شموليّتها واستيعابها ، مثلاً يلاحظ هذا المعنى في قاعدة «لا ضرر»، و«لا حرج» .

فبالنسبة إلى لزوم الاستطاعة السربيّة ، يستعين النراقي (قدس سره) بقاعدة : «نفي العسر والحرج»، وقاعدة «لا ضرر»، مضافاً إلى الإجماع المحصّل والمنقول، والكثير


(1) عوائد الأيّام: 315 ، العناوين: ج2 ص416ـ 418.
(2) مستند الشيعة 14 : 294 ، عوائد الأيّام: 316 ـ 318.

صفحه 330

من الأخبار . ويقول : إذا لم يكن الحجّ ميسوراً على المكلّف، وكان يحتمل أن يبتلي في الطريق بالسارق أو العدوّ ، فهو غير مستطيع، طبقاً لقاعدة «لا حرج»، و«لاضرر»(1) .

وهكذا في مسألة الاستطاعة ولزوم اعتبار الزاد في العودة إلى الوطن يقول النراقي (قدس سره) : بالرغم من أنّ ظاهر الكتاب والسنّة يقتضي عدم الاعتبار ، ولكن يمكن الحصول على هذه النتيجة ; وهي: أنّ هذا الأمر معتبر في الاستطاعة من خلال قاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» . وينقل الاستدلال الذي أورده العلاّمة في «التذكرة» ، ويرى لزومه، حيث يقول : «لأنّ النفوس تطلب الأوطان»(2) .

ويقول النراقي في ردّ هذا الاستدلال : إنّ الطلب إن كان بحدّ يشقّ معه الترك ، فكذلك ،وإلاّفلايوجب الاشتراط ،مع أنّ من الأشخاص من تساوى عنده البلاد(3) .

فيلاحظ أنّ هذا الفقيه المرموق كيف يوسّع من دائرة تطبيق قاعدة«لا حرج» ، بحيث إنّه لو سُئل هذا الأمر من فقهاء هذا الزمان ، فلا أحد يرى تأثير حبّ الوطن وطلبه في المسائل الشرعيّة ، وحتّى في الفقه المعاصر نرى أنّه من الشائع هو: أنّ قاعدة «لا ضرر»، وقاعدة «لا حرج» لا يمكنهما إثبات حكم من الأحكام ، وإنّما يمكنهما رفع الحكم الموجود ، ولكنّنا من خلال ما ذهب إليه النراقي (قدس سره) في موارد مختلفة من الاستعانة بهذه القاعدة ، نرى أنّه لا يقول بالتفكيك بين هذين الأمرين .

5 ـ الشهرة، والإجماع، وتأثيرهما في طريقة الاستنباط

إنّ النظريّة المتناغمة مع المشهور أو الإجماع لها أهمّية خاصّة في نظر


(1) مستند الشيعة 11 : 62 ـ 63.
(2) تذكرة الفقهاء 7 : 53.
(3) مستند الشيعة 11 : 26.

صفحه 331

المتقدِّمين ، إلى درجة أنّ الشيخ الطوسي (قدس سره) في «الخلاف» جعل دليله في الكثير من المسائل الإجماع ، ورغم وجود الاختلاف في مباني الإجماع أنّنا نأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقيقة في هذا البحث ، وهي: أنّه لو كان منهج فقيه معيّن يقوم على عدم الاعتناء والاهتمام بالمشهور، أو موارد الإجماع ، فمن الطبيعي أن تكون لفتاواه صبغة اُخرى .

والنراقي (قدس سره) كان شديد الاهتمام برأي المشهور، أو المطابق للإجماع، ومن المحتمل أنّ الشيخ الأنصاري (قدس سره) الذي كان يدافع دائماً عن الرأي المشهور في نظريّاته وآرائه الفقهيّة ، قد استلهم ذلك من النراقي ، ورغم أنّ النراقي (قدس سره) أفتى في بعض الموارد على خلاف رأي المشهور والإجماع ، إلاّ أنّه سعى في تأييد ودعم المشهور في الكثير من الموارد ، مثلاً في مسألة عدم صحّة النيابة عن الكافر ، نراه يناقش جميع الأدلّة، رغم أنّها جيّدة حسب الظاهر ، ثمّ يتمسّك في هذه المسألة بالإجماع(1) .

وهكذا نجده لا يقبل بالرأي المخالف للمشهور، لاسيّما إذا كانت الشهرة عظيمة . ويقول :

. . . الذي إن سلمت دلالته، وخلوّه عن المعارض، يكون مردوداً بالشذوذ ومخالفة الشهرة العظيمة(2) .

ويقول في موضع آخر :

هذا، مع أنّ الكلّ على فرض الدلالة مخالفة للشهرة القديمة والجديدة، بل الإجماع ، فعن حيّز الحجّية خارجة(3) .


(1) مستند الشيعة 11: 118ـ 120.
(2) مستند الشيعة 16: 125.
(3) مستند الشيعة 16: 249.

صفحه 332

بينما نجد في منهج الفقهاء المعاصرين أنّ الكثير من موارد الإجماع قدوضعت في قفص المناقشة على أساس كونها إجماعاً مدركيّاً، أو محتملةالمدركيّة ، وتدريجاً بدأ الإجماع ينسحب من دائرة الدليليّة والحجّية ويخرج منها ، في حين أنّ النراقي (قدس سره) لا يقبل بهذا المنهج في الفقه(1) ، فالإجماع يحظى بأهمّية ومكان رفيع في نظره .

ولا يخفى أنّ النراقي (قدس سره) في بعض الموارد عندما ينقل الإجماع عن عدّة من الفقهاء ، لا يلتزم بذلك الإجماع إذا قام الدليل على خلافه ، وكذلك هناك بعض الموارد تكون فيها الرواية قاصرة الدلالة على المطلوب ، فيكون الإجماع بمثابة القرينة على ذلك ، وقد سبق بيانه .

6 ـ لزوم التحرّك الاجتهادي في إطار الضوابط الفقهيّة

من الاُمور الضروريّة للفقيه لكي يضعها نصب العين هو أن لا يخرج الفقيه في حركته الاجتهاديّة ومنهجه الاستنباطي عن دائرة الضوابط الفقهيّة ، وأن لا يُولي أهمّية للمسائل التي لاترتبط بالفقه ، وفي هذا الصدد لابدّ من التوجّه إلى اُمور :

الأوّل: ينبغي على الفقيه أن يبتعد تماماً عن علل الأحكام، ولا ينخدع بعناوين مغرية باسم فلسفة الأحكام، أو علل التشريع ، فأوّل وظيفة للفقيه هي: أن يرى في نفسه التبعيّة للدليل ، ويفتي في كلّ مسألة بمقتضى ما يقوم عليه الدليل . نعم ، إذا كان هناك تصريح بالعلّة في الدليل ، فيجب على الفقيه العمل بها بمقتضى قاعدة «العلّة تعمّم وتخصّص» على فرض صحّتها ، وهذا يدخل أيضاً في دائرة العمل بمقتضى الدليل .

أمّا ما هو جدير بالنظر في هذا القسم من البحث هو: أنّ الفقيه إذا تحرّك من


(1) مستند الشيعة 11: 11 ـ 12.

صفحه 333

البداية لتحصيل فلسفة الأحكام، وأراد من خلال ذلك التصرّف بالدليل على مستوى التوسعة والتضييق، أو التصرّف في الشرائط والحدود لذلك الدليل ; فإنّه قد حظيَ طريق غير صحيح في عمليّة الاستنباط قطعاً ، حيث ينبغي للفقيه في استنباط الأحكام أن يضع نفسه قبل كلّ شيء في معرض الأدلّة، ويطابق نظره مع مقتضيات الأدلّة .

هذه الاُمور مشهودة تماماً في منهج النراقي للاستنباط ، فلم يلاحظ عليه أنّه في مورد من الموارد توصّل إلى حكم من الأحكام عن طريق فلسفة حكم آخر ، ومع الأسف فإنّه في زماننا هذا لا نشاهد هذا المنهج في الاستنباط ، فالبعض يتوجّه قبل مراجعة الأدلّة إلى حكمة وغرض من أغراض التشريع في أمر من الاُمور ، ثمّ يبحث في الأدلّة بما يتناسب مع ذلك الغرض ، وهذا الأمر سيفضي في النهاية إلى زوال وتلاشي الفقه ، فروح الفقه في الأساس هي روح التعبّد بالأدلّة .

الثاني: رغم أنّ الكثير من العلوم لها تأثير تامّ في ترشيد وتقوية علم الفقه ، وعلى الفقيه أن يكون محيطاً بها، ومسلّماً بمسائلها ، إلاّ أنّه يجب اجتناب العلوم التي لا دور لها في عمليّة الاستنباط، أو التي من شأنها أن تحرف الاستنباط عن مساره الصحيح .

مثلاً: لا ينبغي للفقيه أبداً أن يدخل المسائل الأخلاقيّة، وعلم الأخلاق، والروايات الواردة في مقولة الأخلاق في الفقه ، ففي الفقه يجب ملاحظة ورعاية المعايير الفقهيّة للأحكام، والتي قد تتطابق مع المعايير والضوابط الأخلاقيّة في كثير من الأحيان ، مثلاً إذا أجّر شخص حانوته لآخر في مدّة معيّنة ، فبمقتضى الفقه يجب على المستأجر تخلية ذلك المكان مع انتهاء مدّة الإجارة ، فبقاؤه فيه يكون بعنوان الغصب، والتصرّف غير المشروع حينئذ ، في حين من الممكن في دائرة الأخلاق أنّ إخراج مثل هذا الشخص الذي ليس له مكان آخر، غير صحيح من


صفحه 334

قبل المالك ، وهكذا في الكثير من أحكام المعاملات نرى انطباق المعايير الفقهيّة الخاصّة، دون أن يكون للمسائل الأخلاقيّة أيّ تدخّل فيها .

وبالطبع، فنحن لا نرى أنّ الشارع المقدّس لم يأخذ بنظر الاعتبار المسائل الأخلاقيّة في عمليّة تشريع الأحكام كلاّ ، وإنّما نقول : بأنّ للفقه معايير خاصّة ينبغي ملاحظتها في كلّ مسألة من المسائل الفقهيّة .

هذا المطلب له تأثير كبير على البحوث المتعلّقة بحقوق الزوجين، والروابط العائليّة ، والمرحوم النراقي (قدس سره) رغم تبحّره الواسع في علم الأخلاق ، لم يخلط أبداً المسائل والقواعد الفقهيّة مع الضوابط الأخلاقيّة .

الثالث: من الاُمور التي ينبغي للفقيه الاهتمام بها هو: أنّ الفقيه الجامع للشرائط والذي له مشروعيّة الإفتاء، بحيث تمرّ فتواه هذه من خلال الاعتقاد بولاية الأئمـّة المعصومين(عليهم السلام) وإمضائهم ، هذا الفقيه إلى أيّ حدٍّ يمكنه إدخال عنصر الولاية والإمامة في المسائل الفقهيّة ؟

وأساساً، هل أنّ هذا الأمر يعتبر أحد المعايير والضوابط المتّخذة في منهج الاستنباط ؟

من الواضح أنّه لا يمكن لأحد إنكار تأثير هذا العنصر في عمليّة الاستنباط لدى أغلب فقهاء الإماميّة ، وينبغي القول أنّ الاعتقاد بالولاية يعتبر في مستوى أحد الضوابط، والمعايير الفقهيّة المؤثِّرة في الاستنباط الفقهي ، إلاّ أن يكون هناك دليل خاصّ على عدم التأثير .

وهذا المطلب يتجلّى بوضوح في المنهج الاستنباطي للنراقي (قدس سره) ، مثلاً في مسألة هل أنّ الشهادة الثالثة لها عنوان الجزئية في الأذان ، أو لا ؟ فبعد أن يذكر هذا الفقيه الكبير الأقوال على التحريم والكراهة ، يورد العمومات التي ترغّب وتحثّ على هذه الشهادة مطلقاً، ويستند عليها ، وكذلك يورد الروايات التي تؤكّد على لزوم


صفحه 335

الشهادة الثالثة بعد الإتيان بالشهادتين على التوحيد والنبوّة ، ويضيف :

وعلى هذا فلا بُعد في القول باستحبابها فيه; للتسامح في أدلّته ، وشذوذ أخبارها لا يمنع عن إثبات السنن بها ، كيف؟! وتراهم كثيراً يجيبون عن الأخبار بالشذوذ، فيحملونها على الاستحباب(1) .

ومن هذا الكلام يتبيّن أنّه يكتفي للقول بالجزئيّة على نحو الاستحباب ببعض الأخبار الشاذّة .

وهكذا في مسألة دفع الزكاة للمخالفين والعوامّ من الشيعة، يورد كلام صاحب الحدائق(2)، الذي يستشكل في دفع الزكاة إلى عوامّ الشيعة الذين لايعرفون الله سبحانه إلاّ بهذا اللفظ، ثمّ أجاب عنه أنّه :

وهو كذلك ; إذ موضع الزكاة من يعرف صاحب هذا الأمر، ومن كان من أهل الولاية ، ومن لم يعرف الأئمـّة(عليهم السلام)، أو واحداً منهم، أو النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، لا يصدق عليه أنّه يعرف صاحب هذا الأمر ، ولا يعلم أنّه من أهل الولاية، وأنّه العارف . . . وكذا من لا يعرف الترتيب في خلافتهم(3) .

وكنموذج آخر في هذا المجال ما ذكره في باب مكروهات القبر، ووضعه موضع المناقشة ، وهو البناء على القبر ، فقد ذهب الشهيد في الدروس(4) ، وجماعة مثل صاحب الرياض(5) ، إلى استثناء الأنبياء والأئمـّة(عليهم السلام) من هذا الحكم ، وذكروا له ثلاث أدلّة :

الأوّل : إجماع الإماميّة ، وهذا يصلح لتخصيص عمومات الكراهة .


(1) مستند الشيعة 4 : 487 .
(2) الحدائق الناضرة 12: 206.
(3) مستند الشيعة 9 : 299.
(4) الدروس الشرعيّة 1 : 116 .
(5) رياض المسائل 2: 237 ـ 238.

صفحه 336

الثاني : أنّه يوجد بناء على قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولم ينكر الأئمـّة(عليهم السلام) على ذلك أبداً .

الثالث : الأخبار التي توصي باحترام قبور الأئمـّة(عليهم السلام) .

ولكنّ النراقي (قدس سره) يناقش هذه الأدلّة بأجمعها ، ثمّ يؤيّد ذلك الحكم من طريق آخر ، وذلك من خلال الروايات التي تذكر فضيلة تعمير قبور الأئمـّة(عليهم السلام); من قبيل ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : يا عليّ من عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس(1) .

وكذلك الروايات التي ورد التصريح فيها بالوقوف في مقابل الروضة(2)، أو القبّة(3)، أو تقبيل العتبة(4) ، (5).

7 ـ الفقيه، والاستقلال في عمليّة الاستنباط

الفقيه الجامع لا ينبغي له إطلاقاً أن يقع تحت تأثير استدلال الآخرين ، بل يجب أن يكون مستقلاًّ في الاستدلال ، ونشير هنا إلى عدّة أُمور :

الأوّل : ينبغي للفقيه أن يستعرض أدلّة الآخرين، ويبحثها بدقّة وتدبّر كامل ، ثمّ يرى رأيه مستقلاًّعن كلماتهم ،وحتّى لو كان هناك إجماعات منقولة تصلح لتكون مؤيّدة على المطلب، إلاّ أنّه لاينبغي له التسليم لها من دون التحقيق في دليل الطرف المقابل .

وقد نقل النراقي (قدس سره) في بعض المسائل الفقهيّة عدّة إجماعات منقولة عن الفقهاء الكبار ، ولكن رغم ذلك لم يهتمّ بها; لوجود الدليل على الخلاف ، مثلاً في مسألة إذا


(1) تهذيب الأحكام 6: 22 ح50 ، وعنه وسائل الشيعة 14: 383 ، كتاب الحجّ، أبواب المزار ب26 ح1.
(2) مصباح الزائر: 52، البلد الأمين: 278، وعنهما بحار الأنوار 100: 197 ح14 و15.
(3) مصباح الكفعمي: 473 فصل 41 ، البلد الأمين : 276 ، وعنهما بحار الأنوار 100: 284 وج102: 116.
(4) بحار الأنوار 100 : 284 ، 359 ، وج101: 232 ، 259، 346 و352، 359 وج102: 620 ح7.
(5) مستند الشيعة 3: 281.

صفحه 337

تحقّقت منه الاستطاعة الماليّة ، ولكنّه لم يتمكّن من الذهاب إلى الحجّ للشيخوخة، أو المرض، أو وجود العدوّ ، ففي صورة اليأس واستقرار الحجّ قبل العذر، ذهب جماعة منهم: كصاحب المسالك(1)، والروضة(2)، والمفاتيح(3) إلى لزوم الاستنابة ، وادّعوا على ذلك الإجماع أيضاً، مضافاً إلى الاستدلال بالروايات .

ولكنّ النراقي (قدس سره) ناقش في الإجماعات، وفي الروايات أيضاً ، وأخيراً قال: فالأقرب إذن ما يقتضيه الأصل; وهو عدم الوجوب ، وبالتالي يرى استحباب النيابة في هذه الصورة(4) .

فيستفاد من هذا المثال بصورة جيّدة أنّ تبحّر النراقي ودقّت نظره تتجلّى في عدم استسلامه للإجماعات بسهولة ، ولا يقبل بالتفسير الذي يذكره الفقهاء للرواية ، بل يدرس الرواية بصورة مستقلّة ، وفي هذه المسألة نفسها يرى بونٌ شاسع بين استنباط النراقي (قدس سره) ، واستنباط الفاضل الهندي في «كشف اللثام»(5); الذي كان يعيش قبل النراقي (قدس سره) بمائة عام .

الثاني : من الاُمور التي يجب الأخذ بها بنظر الاعتبار في دائرة الاستقلال في الاستنباط هو: أنّ الفقيه لا يكتفي باستدلال الأصحاب على حكم معيّن ، بل في الموارد التي كان في وسعه إضافة دليل آخر يقوم بذلك .

وبعبارة أُخرى : أنّه لا ينبغي للفقيه في مقام الاجتهاد والاستنباط أن يكتفي بالأدلّة التي ذكرها الآخرون في إثبات المطلوب ، حيث يمكن أن يكون هناك دليل لم يلتفت إليه القوم ، وأساساً فإنّ فنّ الاجتهاد يتبلور ويتجلّى في هذا البُعد من


(1) مسالك الأفهام 2: 138.
(2) الروضة البهيّة 2: 167.
(3) مفاتيح الشرائع 1: 298.
(4) مستند الشيعة 11 : 70 ـ 74.
(5) كشف اللثام 5 : 112 ـ 114.

صفحه 338

عمليّة الاستنباط الفقهي .

ونواجه في «المستند» للنراقي (قدس سره) هذا المعنى أيضاً ، فلا نرى منه خضوعاًفي مقابل استدلالات الآخرين .

مثلاً : في مورد نيابة الصبيّ في الحجّ ، ذهب جماعة إلى عدم الصحّة ، وتمسّكوا في ذلك بعدم مشروعيّة عبادات الصبيّ وقالوا: إنّ عبادات الصبيّ تمرينيّة ، فلايصدق عليها عنوان الواجب ولا المستحبّ (1).

ويقول النراقي (قدس سره) في ردّه لهذا الدليل أنّه :

أوّلاً ـ منع خروج عبادات الصبيّ عن الشرعيّة بإطلاقها، وإنّما هي خارجة عن الواجبة على نفسها.

وثانياً ـ سلّمنا التمرينيّة، لكنّها مخصوصة بأوامر الله سبانه لا ما يستأجر للغير. ولا يلزم من عدم وجوبها أو ندبها على نفسه ، عدم إجزائها عمّن تجب عليه، أو تندب(2) .

وعليه : رغم أنّ المشهور(3) يرى بطلان نيابة غير البالغ ، وحتّى أنّ صاحب المدارك(4) نسب هذا القول إلى معروف الأصحاب، واستدلّ عليه بالأصل، والقاعدة وأدلّة أُخر ، إلاّ أنّ النراقي (قدس سره) (5) ناقش في جميع تلك الأدلّة ، وردّها الواحدة تلو الاُخرى ، وسلك بنفسه طريقاً آخر ; وهو الإجماع المركّب، وعدم القول بالفصل في الصوم والصلاة من جهة ، والحجّ من جهة اُخرى ; أي كما أنّ


(1) كشف اللثام 5 : 149 ـ ذخيرة المعاد: 568.
(2) مستند الشيعة 11 : 110.
(3) كشف اللثام 5 : 149 ، ذخيرة المعاد : 568 .
(4) مدارك الأحكام 7 : 112 .
(5) مستند الشيعة 11 : 108 ـ 111.

صفحه 339

الصوم والصلاة الاستئجاريّين لغير المكلّف لا تقعان صحيحة ، فكذلك في الحجّ أيضاً .

8 ـ الفقيه، وكيفيّة التعامل مع الاحتياط

عندما ندرس آثار وكتابات بعض الفقهاء ، نلاحظ أنّ ذلك الفقيه له اهتمام ملحوظ في مقام الفتوى بمسألة الاحتياط ، وهذا الأمر قد يؤدّي إلى مشاكل عديدة أحياناً ، فقد يلاحظ في مسألة معيّنة لم يقم عليها دليل محكم ، أنّ فريقاً من الفقهاء العظام يسلكون فيها طريق الاحتياط ، مثلاً في باب الحجّ حيث يجب أن يبتدئ في طوافه من الحجر الأسود وينتهي إليه ، فقد ذهب بعض الفقهاء ـ كالعلاّمة ـ إلى أنّ أوّل جزء من «الحجر الأسود» يجب أن يكون محاذياً لأوّل جزء من مقاديم البدن(1)، بحيث إنّه بعد النيّة يمرّ جميع البدن من ذلك المكان ، ثمّ اختلفوا في أنّ أوّل جزء من البدن هل هو الأنف، أو البطن، أو إبهام القدمين ؟

وبعد أن ينقل النراقي (قدس سره) هذا المطلب يختار رأياً آخر ; لأنّ مثل هذه النظريّات ليس لها دليل سوى الاحتياط . وقال :

ولا يخفى أنّه إلى الوسواس أقرب منه إلى الاحتياط(2) .

ويستفاد من هذا البيان أنّ بالاحتياط قد سلك مسلكاً آخر أحياناً في كلمات الفقهاء أبعده عن حقيقته ، وليس في ذلك رضا الشارع المقدّس قطعاً ، وماأكثر ماتكون هذه الحالة معلولة للوساوس النفسانيّة والشيطانيّة، حيث ينبغي للفقيه اجتنابها حتماً ، وفي ذلك يقول النراقي (قدس سره) بعد ذكره لهذا المطلب : و بالجملةهذا أمر لا دليل عليه ولا شاهد، لايناسب تسميته احتياطاً، بل اعتقاد وجوبه


(1) تذكرة الفقهاء 8 : 87 .
(2) مستند الشيعة 12: 70 .

صفحه 340

خلاف الاحتياط(1) .

ومن هنا ينبغي النظر إلى مقام الاحتياط في الفقه ، وبيّنٌ أنّ نفس الدليل يقتضي في بعض الموارد الاحتياط، ويدفع الفقيه إلى سلوك الاحتياط، كما في باب الفروج والدماء، والحدود، وأمثال ذلك إذا لم يتمكّن الفقيه من التوصّل إلى نتيجة مقبولة من خلال الأدلّة ، ففي بعض الموارد يقول بلزوم الاحتياط ، وفي البعض الآخر يقول بالرجحان ، إلاّ أنّ فقهاءنا قلّما توجّهوا إلى هذه الحقيقة ، وهي: أنّه ما أكثر ما يؤدّي الاحتياط إلى الوقوع في العسر والحرج والمشقّة لنوع الناس عامّة .

وهذا الأمر يفضي في النهاية إلى الابتعاد عن الدِّين، أو عدم الاهتمام به، وحينئذ لايمكن التمسّك بقوله (عليه السلام) : أخوك دينك فاحتط لدينك(2) .

وإجمالاً يمكن القول بأنّ الاحتياط أمر مطلوب غالباً بالنسبة إلى الأفراد والأشخاص . وأمّا بالنسبة إلى المسائل الكلّية والقضايا الحكوميّة، فلا يكون كذلك دائماً ، مثلاً في باب الحجّ يُبحث عن مسألة تبعيّة الحاجّ للحاكم من أهل السنّة بالنسبة لتعيين أوّل الشهر ، وبالتالي بالنسبة إلى الوقوف في عرفات، والمشعر، والمبيت بمنى ، فهنا لا يمكن القول بأنّ مع احتمال الخلاف يترجّح الاحتياط .

ومن هنا نرى أنّ النراقي (قدس سره) في فتاواه الفقهيّة يتجنّب الاحتياطات التي ليس لها منشأ فقهيّ ، بل قد تكون لها نتائج سلبيّة ، ففي مسألة اعتبار وجود الـمَحْرم في استطاعة المرأة ، يقول ـ بعد الاستدلال بالأصل والعمومات على عدم شرطيّة


(1) مستند الشيعة 12 : 71 .
(2) أمالي الطوسي: 110 ح168 ، وعنه وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب12 ح46.

صفحه 341

وجود الـمَحْرم ـ : لو لم يحصل ظنّ السلامة إلاّ بالمـَحْرم اعتبر وجوده، ويتوقّف وجوب الحجّ عليها على سفره معها.

ثمّ أضاف: وكذا لو كانت ممّن يشقّ عليها مخاطبة الأجانب، وإركابهم إيّاها، مع عدم اقتدارها على الركوب بنفسها على احتمال قويّ ذكره بعض الأصحاب(1) .

ومن ذلك يعلم عدم استطاعة أكثر النسوان الشابّة، سيّما من الأشراف والمخدّرات من البلاد البعيدة، مع تلك القوافل التي فيها أصناف الناس بدون مَحْرم، أو قريب ثقة، أو مؤمن متديّن ثقة(2) .

ومن هنا يعلم جيّداً أنّ منهج النراقي في الاجتهاد يدور حول محور السهولة في الشريعة، حيث يتجنّب الكثير من الاحتياطات الموجبة للمشقّة والضيق .

ينبغي للفقيه في الوقت الذي يلتزم فيه بالتعبّد، والالتزام الكاملين في الاستفادة من المنابع الدينيّة ، يلتزم كذلك بالاُصول الأساسيّة للاستنباط، والتي منها التسامح والسهولة في الشريعة ، وبالطبع نحن لا نهدف إلى نفي الحكم الشرعي كلّما كان صعباً ، كلاّ; لأنّ لدينا بعض الأحكام التي تستلزم بطبعها المشقّة ، ولكنّنا نقول بأنّه في صورة كون العمل غير مرتبط بأصل الدِّين ، بل من الأعمال الفرديّة والشخصيّة ، يجب البناء على السهولة واليُسر كما في قوله ـ تعالى ـ : {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} (3) .

والجدير بالذكر: أنّ النراقي قد ذهب إلى رجحان الاحتياط في الكثير من المسائل(4) . وعليه: فينبغي للفقيه من جهة أن يتحرّك في دائرة الفتوى، بحيث


(1) مدارك الأحكام 7 : 90 .
(2) مستند الشيعة 11 : 90.
(3) سورة البقرة 2 : 185 .
(4) مثل مستند الشيعة 16 : 36 ، 94 ، 97 ، 178 ، 313 ، 346.

صفحه 342

لاتوجب فتاواه العسر والحرج للناس ، بل تكون مبتنية على أساس التسهيل ، ومن جهة اُخرى: أن يأخذ بنظر الاعتبار أصل رجحان الاحتياط ، ويدفع المؤمنين باتّجاه العمل به في الموارد التي لا يوجب الاحتياط العسر والحرج .

9 ـ مراجعة أقوال الفقهاء، وتأثير ذلك في الاستنباط

إنّ العناية بأقوال الفقهاء، وخاصّة الأركان والأساطين، وبالأخصّ المتقدِّمين منهم ، تعتبر من الاُمور المهمّة والمؤثِّرة بشكل أساسيّ في مسارّ الاستنباط للفقيه ، فكلّما تتبّعنا وبحثنا في كتب أولئك الفقهاء، كالعلاّمة، والشيخ، والشهيدين، والمحقّق الأوّل، والثاني، وكذلك النراقي (قدس سرهم) يتجلّى هذا المعنى أكثر ، وهو أنّه لابدّ من الاهتمام والعناية الفائقة بأقوال وآراء الفقهاء ، والأمر المهمّ هنا دراسة مختصرة حول آثار الفقهاء الماضين :

أ ـ العناية بآراء الفقهاء العظام ، يعين الفقيه أكثر من سبيل الوصول إلى الواقع ، وبالطبع فنحن لا ندّعي أنّ كلّ قول مشهور، أو مطابق للإجماع يتطابق مع الواقع حتماً ، بل المراد أنّ الفقيه في صدد تحصيل الحكم الإلهي الواقعي ; فإنّ ملاحظة أقوال الفقهاء المعروفين بإمكانها توجيه الفقيه غالباً باتّجاه الواقع ، ونكرّر القول بأنّنا هنا لسنا في صدد إثبات حجّية، أو عدم حجّية الفتوى المشهورة بين الفقهاء ; لأنّ هذا البحث يجب أن يبحث بشكل مستقلّ .

ولكنّنا في صدد القول بأنّ منهج الفقيه في عمليّة الاستنباط إذا كان مقروناً بالاهتمام بذكر أقوال العلماء، وخاصّة المتقدِّمين منهم ; فإنّه سيكون لذلك تأثير كبير في إيصال الفقيه إلى الواقع، أو الاقتراب منه أكثر .

ب ـ يجب التأمّل والتدقيق في المنهج الاستنباطي لكلّ فقيه، وأنّ الفقيه الفلاني


صفحه 343

يهتمّ بأيّ من نظريّات الفقهاء .

وهل يأخذ بنظر الاعتبار الأقوال الشاذّة ، أم لا ؟ وهل يهتمّ بآراء الفقهاء الذين يتمسّكون بظواهر الأخبار في عمليّة الاستدلال ، أو بآراء الفقهاء الذين يستخدمون القواعد الاُصوليّة أكثر في عمليّة الاستنباط ؟

إنّ ما يمكن التوصّل إليه من دراسة فقه النراقي هو أنّه لم يكن يُعير اهتماماً في المسائل الفقهيّة للأقوال الشاذّة .

ج ـ إنّ التوجّه إلى أقوال الآخرين له تأثير هامّ في انتخابه للفتوى ، بحيث لايجعله ذلك متفرّداً بالفتوى، ويصدّه عن القول الشاذّ .

د ـ من الموارد التي تستحقّ مراجعة فتاوى الأساطين والكبار والعناية بها ، باب السنن والمستحبّات ، وذلك من باب أنّ مقولة التسامح في أدلّة السنن ـ مضافاً إلى كونها تفضي على الدليل الضعيف ـ مشروعيّة العمل به من باب الاستحباب ; فإنّ مجرّد فتوى الأجلّة بإمكانها إثبات الاستحباب لعمل معيّن(1) .

ومع مراجعة لكتاب «المستند» للنراقي (قدس سره) يتّضح لنا أنّ النراقي كان يعطي أهمّية بالغة للفقهاء المعاصرين له والمتقدِّمين ، وهذا الأمر له تأثير كبير في صحّة وإتقان عمليّة الاستنباط .

10 ـ آراء العامّة، وتأثيرها في الاستنباط

لم يلتفت النراقي في كتاب «المستند» إطلاقاً إلى آراء ونظريّات علماء أهل السنّة ، رغم أنّه قصد من أوّل الأمر دراسة آراء علماء الشيعة في المستند ، ولكن من الواضح أنّه لا يُقيم وزناً إطلاقاً لآراء العامّة ، بل أنّه لا يأتي بها بعنوان المؤيّد أيضاً ، كما أنّه بالنسبة إلى الروايات ، إذا كانت هناك رواية بطريق أهل السنّة ، فلا يراها


(1) مستند الشيعة 11 : 164.

صفحه 344

حجّة بأيّ وجه ، فقد كتب يقول :

مع أنّ روايتي جامع الأخبار، ورواية المجمع عن طريق العامّة لا حجّية فيها أصلاً(1) .

ومن الضروري الالتفات إلى هذا الأمر ، وهو: أنّه لا شكّ في كون الاطّلاع والتعرّف على فتاوى العامّة مؤثِّراً جدّاً في الفقه والاستنباط الفقهي ، وخاصّة فيموارد ما إذا أردنا معرفة أنّ هذه الرواية صادرة عن تقيّة، أو لا ؟ أو فيما لو أردنا معرفة أنّ هذا المطلب هل هو مورد إجماع المسلمين، أم لا ؟ وكذلك فيما لو أردنا معرفة أنّ هذا الحكم هل هو من ضروريّات الدِّين ، أم لا ؟ بل إنّ الاطّلاع على آراء العامّة يؤثّر حتّى في فهم بعض الروايات ; من قبيل ما ورد في مسألة الجهر بالبسملة، حيث روى سليم بن قيس، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(2) .

يقول آية الله البروجردي (قدس سره) : والظاهر اختصاصها بحال الصلاة، إلاّ أنّه بملاحظة ما ذكرنا يظهر اختصاصها بالصلوات الجهريّة التي كان بناؤهم على الأسرار فيها(3) ، وهذا الموقف من الإمام (عليه السلام) هو في مقابل ذلك البناء للعامّة .

أمّا المرحوم النراقي(4)، فلم يلتفت إلى هذه الجهة للرواية المذكورة آنفاً ، بل ناقش في إطلاقها الظاهري من جهتين :

إحداهما: من طريق التقييد والتخصيص بالروايات الاُخر ، حيث يستنتج استحباب الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفاتيّة .


(1) مستند الشيعة 14 : 136.
(2) الكافي 8 : 58 ح21 ، وعنه وسائل الشيعة 1 : 458 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب38 ح3.
(3) نهاية التقرير 2 : 208 .
(4) مستند الشيعة 5 : 173.

صفحه 345

وثانيتهما : ترك العمل بها لمخالفتها للشهرتين العظيمتين.

وفي الوقت نفسه يمكن القول بأنّ التوجّه أكثر من اللازم إلى فقه العامّة بإمكانه أن يخرج الفقيه من دائرة الضوابط المتينة في الفقه الشيعي ، ويقرّبه أكثر إلى فقه أولئك .

وعلى هذا الأساس نجد أنّ النراقي لم يلتفت في استنباطاته الفقهيّة في المستند إلى فقه العامّة إطلاقاً ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ الاستدلال والوصول إلى الأحكام الواقعيّة لايحتاج إلى هذا الأمر في نظر النراقي ، ومع الأسف فإنّ فقه بعض المعاصرين يتواءم مع فقه العامّة، إلى درجة أنّ قسماً مهمّاً من فتاويهم وفقههم مأخوذ من فقه العامّة .

ومن هنا ينبغي القول بأنّ تأسيس الفقه المقارن إذا كان بقصد تقارب الأفكار والآراء الفقهيّة ، فهو خطأ فاحش ، وإذا كان بقصد التعرّف على المباني الفقهيّة والأدلّة الاستنباطيّة لكلّ واحد من المذاهب، ودراستها لبيان أيّها الأقوى والأسدى في مقام الاستدلال ، فهذا الأمر مطلوب جدّاً ولازم .

* * *


صفحه 348


صفحه 349

بسم الله الرحمن الرحيم

والبحث فيه يقع في اُمور :

الأوّل : في معنى الحقّ بحسب اللغة . فاعلم أنّه يستفاد من عبارة كثير من أهل اللغة أنّه بمعنى الثبوت والشيء الثابت .

قال في الصحاح : الحقّ: خلاف الباطل ، وهو واحد الحقوق ، حقّ الشيء يحقّ بالكسر ; أي وَجَبَ(1) .

وقال الزمخشري في أساس البلاغة : حَقَّ اللهُ الأَمْرَ حقّاً: أثبته وأوجَبَهُ(2) .

وقال الخليل في كتابه العين : حقّ الشيء يحقّ حقّاً; أي وجب وجوباً(3) .

وقد ذكر الراغب في مفرداته وجوهاً أربعة للحقّ، فقال : يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى: هو الحقّ ، وقد يقال للموجد بحسب مقتضى الحكمة ، ولهذا يقال: فعل الله ـ تعالى كلّه حقّ. وقد يطلق على


(1) الصحاح 2 : 1112 و 1113.
(2) أساس البلاغة : 135.
(3) العين : 201.

صفحه 350

الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، وقد يطلق للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب(1) .

ولكنّ الظاهر أنّ هذه الموارد كلّها من قبيل المصداق لمفهوم الحقّ ، فالله ـ تبارك وتعالى ـ بما أنّه ثابت أكمل الثبوت، فهو حقّ كمال الحقيقية . نعم، يمكنأن يقال : إنّ الحقّ ليس بمعنى صرف الثبوت، بل الثبوت الوجوبي واللزومي يسمّى حقّاً وإن كان اللزوم بالمعنى اللغوي يرجع إلى الثبوت، ولكنّ التأمّل يقتضي كون اللزوم أيضاً هو الثبوت الخاصّ، لا الثبوت المطلق .

وأمّا ما جاء في بعض الاستعمالات; من أنّ التحقّق يكون فصلاً بمعنى المفعول، فيكون بمعنى الجدير، ممكن أن يرجع الجدير إلى الثبوت أيضاً ، فمعنى «أنت جدير» هو: أنّ هذا الشيء ثابت لك فقط، وليس بثابت بغيرك، وأنت صالح لثبوت الشيء لك، على أنّه ليس بمعنى المفعول حتّى يلزم أن يقال بأنّه في معنى الجدير ، فإنّ «حقيق» يكون مِن حقُقَ بضمّ العين ، كما أنّ الفقير من فقر ، فليس بمعنى المفعول، فتدبّر .

الثاني : في معنى الحقّ بحسب اصطلاح الفقهاء، والفرق بينه ، وبين الملك والحكم والسلطنة ، وقد ذكر في تعريفه تعابير مختلفة كما يلي :

1 ـ ذهب جمع من المحقّقين إلى أنّ الحقّ مرتبة ضعيفة من السلطنة أو الملك ، فقال السيّد اليزدي : الحقّ نوع من السلطنة على شيء متعلّق بعين، كحقّ التحجير، وحقّ الرهانة، وحقّ الغرماء في تركة الميّت، أو غيرها، كحقّ الخيار المتعلّق بالعقد، أو على شخص، كحقّ القصاص، وحقّ الحضانة، وحقّ القسم ونحو ذلك، فهو مرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه(2) انتهى .


(1) مفردات ألفاظ القرآن: 246.
(2) حاشية المكاسب للسيد الطباطبائي 1 : 280 .

صفحه 351

وقال المحقّق الايرواني : إنّ الفرق بين الحقّ والملك بعموم الاستيلاء والسلطان وخصوصه ، فالملك يكون بدخول الشيء تحت ا لسلطان بتمام شؤونه وكافّة حيثيّاته ، والحقّ يكون بدخوله تحت السلطان ببعض جهاته وحيثيّاته ، فالشخص مسلّط على اَمَتِه; بأن يبيع، ويهب، وينكح إلى آخر التصرّفات السائغة ، فيقال حينئذ: إنّ الأَمَةَ ملكه . وأيضاً مسلّط على زوجته في خصوص المباضعة، فيقال: إنّ الزوجة متعلّق حقّه(1) انتهى .

والمستفاد من صريح عبارته أنّ الحقّ مرتبة ضعيفة من السلطنة .

والمحقّق النائيني (قدس سره) ـ بعد أن ذكر معنى الأعمّ للحقّ الذي يشمل الملك والحكم والعين ، وبالجملة كلّ ما وضعه الشارع ـ قال : الحقّ بالمعنى الأخصّ عبارة عن إضافة ضعيفة حاصلة لذي الحقّ، وأقواها إضافةً مالكيّة العين، وأوسطها إضافةً مالكيّة المنفعة ، وبتعبير آخر: الحقّ سلطنة ضعيفة على المال»(2) انتهى .

وكلامه (قدس سره) ليس خالياً عن التشويش والتنافي ، كما أشار إليه السيّد الإمام (قدس سره) (3) ، فإنّه قال في صدر كلامه : إنّ الحقّ هي السلطنة الضعيفة، بينما أنّه عبّر في ذيل كلامه أنّه اعتبار خاصّ الذي أثره السلطنة . ولعلّ التشويش متوجّه إلى المقرّر . وكيف كان يستفاد من مجموع هذه العبارات: أنّ الحقّ مرتبة ضعيفة من السلطنة .

ويرد على هذا البيان أوّلاً : الظاهر أنّ النسبة بين الحقّ والسلطنة عموم من وجه; فإنّه قد تحقّق السلطنة بدون الحقّ، كسلطنة الناس على نفوسهم ، والعقلاءلا يعتبرون كون الإنسان ذو حقّ على نفسه، إلاّ أن يقال: إنّ هذه السلطنة ليست


(1) حاشية المكاسب للإيرواني 2 : 22.
(2) منية الطالب 1 : 106 .
(3) كتاب البيع 1: 45.

صفحه 352

اعتباريّة ، بل هي حقيقة خارجة عن محلّ الكلام ، وقد يتحقّق الحقّ بدون السلطنة، كانتقال حقّ التحجير، ونسبة القذف إلى الصغير ; فإنّه لا شبهة في عدماعتبار السلطنة لهم لدى العقلاء ، كما لا شبهة في اعتبار الحقّ لهم .

اللّهمَّ إلاّ أن يقال بالفرق بين السلطنة وإعمالها ، فالعقلاء يعتبرون سلطنة للصغير، ولكن إعمالها بيد الوليّ، أو مشروطة بالبلوغ ، ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَ مَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـنًا) (1) ، وواضح أنّ الوليّ شاملٌ للصغير أيضاً ، وجعل الشارع سلطنة لوليّ الصغير أيضاً ، ولكن إعمالها مشروطة بالبلوغ . وكذلك بالنسبة بين الحقّ والملك عموم من وجه ، فالسبق إلى مكان يكون من مصاديق الحقّ، ولا يكون من مصاديق الملك ، وكذلك حقّ التحجير .

وثانياً : أنّ التشكيك في الملكيّة بالقوّة والضعف أمر غير معقول ، فهي بما أنّها أمر مسبّبي اعتباريّ، إمّا أن توجد، وإمّا أن لا توجد ، فلا معنى لوجود الضعيف للملكيّة، كما لا معنى لوجود القويّ لها .

وبعبارة اُخرى : الملكيّة أمرٌ إضافيّ يتحقّق بوجود طرفي الإضافة، وتنعدم بانعدام أحد الطرفين ، والقول بإمكان الشدّة والضعف في طرفي الإضافة، وبالمآل في نفس الإضافة لا ينبغي أن يُصغى إليه . نعم ، يمكن التفاوت بالسعة والضيق، كما هو ظاهر عبارة الايرواني، ولعلّه مراد النائيني أيضاً .

2 ـ التعبير الثاني في الحقّ هو ما ذكره المحقّق الخراساني في حاشيته على المكاسب، أنّه قال : إنّ الحقّ بنفسه ليس سلطنة ، وإنّما كانت السلطنة من آثاره ، كما أنّها من آثار الملك، وإنّما هو اعتبار خاصّ له آثار مخصوصة، منها: السلطنة على الفسخ، كما في حقّ الخيار، أو التملّك بالعوض ، كما في حقّ الشفعة، أو بلا عوض، كما


(1) سورة الإسراء 17 : 33 .

صفحه 353

في حقّ التحجير(1) .

ويردّ عليه أوّلاً : أنّ هذا التعريف مجمل جدّاً ; فإنّ البحث والكلام في ماهيّة هذا الاعتبار الخاصّ .

وثانياً : الإشكال الأوّل في القول الأوّل وارد عليه أيضاً ; فإنّ الحقّ موجود في بعض الموارد من دون وجود سلطنة حتّى بعنوان الأثر .

3 ـ قد يقال : بأنّ الحقّ نفس الملك(2) ، ولذا يُعبّر عن حقّ الخيار بملك الفسخ .

وفيه أوّلاً : أنّ الملك ملزوم للسلطنة المطلقة ، مع أنّ الحقّ سلطنة خاصّة على تصرّف خاصّ(3) .

وثانياً : التأييد عليل جدّاً ; لأنّ القراءة الصحيحة هي الملك بضمّ الميم لا بكسره .

4 ـ التعبير الرابع: ما ذكره السيّد الخوئي (قدس سره) من أنّه لا فرق بين الحقّ والحكم ; فإنّه قال : فالصحيح أن يقال : إنّ الحقّ لا ينافي الحكم ، بل هو حكم شرعيّ اختياره بيد من له الحقّ .

إلى أن قال : وممّا يشهد ما ذكرناه من أنّ الحقّ هو الحكم بعينه ، لاترى فرقاً بين الجواز الحكمي غير القابل للإسقاط في جواز قتل الكافر تكليفاً، وبين الجواز الحقّي في جواز قتل الجاني قصاصاً ، وهكذا لا فرق في جواز رجوع الواهب وضعاً، وجواز رجوع من له الخيار في البيع ، مع أنّ الأوّل حكميّ، والثاني حقّي .

والمستفاد من مجموع كلماته (قدس سره) في مصباح الفقاهة : أنّ الحقّ نفس الحكم ويرجع إليه ، ولا فرق بينه وبين الحكم إلاّ في أنّ الحقّ قابل للإسقاط دون الحكم ،


(1) حاشية المكاسب: 4.
(2) حاشية المكاسب للسيّد اليزدي 1: 388.
(3) حاشية المكاسب للاصفهاني 1: 42.

صفحه 354

والفرق بينه وبين الملك: أنّ الثاني يتعلّق بالأعيان والمنافع، بخلاف الحقّ; فإنّه لايتعلّق إلاّ بالأفعال ، كما أنّ الأحكام تتعلّق بالأفعال فقط ، ولذا يقال : موضوع الفقه هو فعل المكلّف ، فالحقّ الشرعي هو الحكم الشرعي ، والحقّ العرفي هو الحكم العرفي(1) .

كلامه (قدس سره) وإن كان أقرب إلى الصواب من التعابير السابقة، إلاّ أنّه يرد عليه أيضاً :

أوّلاً : أنّ كلامه بناءً على ما ذكره المقرّر لا يخلو عن تشويش واضطراب ; فإنّه في بعض العبارات يقول : إنّ الحقّ نفس الحكم ، وفي بعض آخر يقول : إنّه منتزع من الحكم . وكم من فرق بين هذا التعبير، وبين التعبير الأوّل ، وسيأتي أنّ التعبير الثاني هو المطابق للتحقيق دون الأوّل .

وثانياً : أنّه (قدس سره) ممّن انتقض على نفسه; بأنّ حقّ المارّة ليس قابلاً للإسقاط ، فيبقى في هذا المورد سؤال ، ما الفرق بين الحقّ والحكم ، فهل حقّ المارّة حقّ، أو حكم ؟

وثالثاً : أنّ ظاهر كلامه عدم إمكان افتراق الحقّ عن الحكم، والحكم عن الحقّ، مع أنّ الحكم يتحقّق في بعض الموارد من دون اعتبار حقّ ، كوجوب الصلاة وغيرها ، وإطلاق الحقّ على العبادة ـ كقوله (عليه السلام) : حقّ الله على العباد أن يعبدوه(2) ـ يكون بمعنى المفعول، كالملك بمعنى المملوك . وأمّا بمعنى الفاعل فليس إلاّ الإيجاب .

ورابعاً : أنّ وحدة التعبير في جواز رجوع الواهب، وجواز رجوع من له الخيار ، لايستلزم وحدة الماهيّة ; فإنّ لسان التعبير في الحكم التكليفي والوضعي واحد غالباً ، مع وجود الفرق الحقيقي الأساسي بينهما بعد الاشتراك في كونهما من


(1) اُنظر مصباح الفقاهة 2: 50 ـ 54.
(2) المسند لابن حنبل 3 : 180 ح8091 ، عوالي اللئالي 1 : 445 ح167.

صفحه 355

الاُمور الاعتباريّة، على أنّ قوله: «لا فرق بينهما، إلاّ في أنّ الحقّ قابل للإسقاط» محلّ السؤال ، وهو: أنّه من أين يجيء القابليّة في الحقّ دون الحكم ؟ وهذا كاشف عن اختلاف أساسيّ بين الحقّ والحكم .

والتحقيق أن يقال : إنّ الحقّ وإن كان اعتباره ممكناً وقابلاً لأن يكون منشأ انتزاع الحكم أيضاً ، إلاّ أنّه في كثير، بل جميع الحقوق الشرعيّة والعقلائيّة يكون أمراً انتزاعيّاً قد ينتزع من الأحكام الشرعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة ، وقد ينتزع من الأحكام العقلائيّة ويسمّى حقّاً عقلائيّاً ، مثلاً من وجوب إطاعة الأب وحرمة مخالفته ينتزع حقّ الاُبوّة ، ومن جواز التصرّف في الأرض ينتزع حقّ التحجير ، ومن عدم جواز مزاحمة شخص لشخص آخر ينتزع حقّ السبقة .

فمن سبق إلى مكان لايجوز للغير أن يزاحمه ، والانتفاع من المكان حقّ للسابق ، وينتزع أيضاً من كثير من المباحات حقّ الانتفاع بها ، ومن وجوب تمكين الزوجة للزوج ينتزع حقّ الزوج ، ومن وجوب نفقة الزوجة عليه ينتزع حقّ الزوجة ، وهكذا . فالحقّ أمر انتزاعيّ، ويؤيّد هذا أنّه ما من فعل إلاّ وله حكم في الشرع أو العرف من حرمة أو إباحة بالمعنى الأعمّ ، ومن هذه الأحكام ينتزع الحقّ في بعض مواردها، وهو اصطلاح عامّ في الشرع والعرف .

إن قلت : ما هو الموجب لهذا الاصطلاح الانتزاعي، وما هي الفائدة من الانتزاع ، فهل بدونه نقص، أم لا ؟

قلت : إنّهم لمّا رأوا أنّ في بعض موارد الحكم يوجد نفع يرجع إلى شخص أو أشخاص ، عبّروا عن هذا بـ «الحقّ» ، فالتعبير به، أو انتزاعه من الحكم لأجل الإشارة إلى وجود نفع خاصّ يرجع إلى من له الحقّ .


صفحه 360

إنّ الذي سيعرض في مجموع النكات القادمة، هو من أهمّ المطالب المطروحة في مبحث عدم تحريف القرآن . الذي يعتبر من المباحث المهمّة والرئيسة في علوم القرآن ، وينبغي على محقّقي ومفسِّري وباحثي هذا الكتاب الشريف أن ينقّحوا هذا البحث من جميع الجهات ويشرحوا أبعاده المختلفة .

ويمكن القول أنّه حصلت تحريفات فاحشة حقّاً لدى إسناد نظريّة التحريف إلى الفرق والمذاهب الإسلاميّة، بحيث إنّ المذهب الذي بُنيت أُسس اعتقاده على عدم التحريف بات يُعرف بأنّه معتقد بالتحريف .

وفي هذه النكات ـ بالإضافة إلى دراسة الجوانب المختلفة لهذا البحث ـ سنُثبت ونُبرهن على أنّ مذهب الإماميّة ليس ممّن يعتقد بالتحريف فقط، بل لايمكنه القول بذلك أيضاً ، وبعبارة اُخرى: أنّ قبول التحريف سيهدم أساس عقيدة الإماميّة .

ووسط هذا التجمّع العظيم المؤلَّف من العلماء والشخصيّات العلميّة والمذهبيّة البارزة(1) ، هلمّ نُصدر بياناً عالميّاً لكافّة المذاهب والمجموعات والملل والنحل والأديان نُعلن فيه : إنّ القرآن منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الآن بقي مصوناً ومحفوظاً من التحريف ، وليس باستطاعة أحد أن يحرّف القرآن إلى يوم القيامة .

فلا يُكتفى بطرح هذه المسألة بصورة القضيّة الخارجيّة، ونقول بأنّ القرآن لم يُحرّف إلى الآن ، وإنّما مدّعانا هو على نحو القضيّة الحقيقيّة; أي أنّ سنّة الله ـ تبارك وتعالى ـ الثابتة بشأن هذا الكتاب هو عدم إمكان التحريف فيه ، وليس باستطاعة أيّ شخص أو مجموعة التعرّض لهذه الآيات الإلهيّة ، وهذا الكتاب المقدّس هو المعجزة الخالدة بإعلانه التحدّي بجزم لكلّ زمان ومكان أبقى ساحته المقدّسة مصانة ومحفوظة من وصمة التحريف .

ونحن من خلال هذه النكات لسنا بصدد التبيين التفصيلي والموسّع لجميع


(1) قد عرضت هذه المقالة لأوّل مرّة على مؤتمر علميّ عام 1367ش. و «التجمّع العظيم» إلى ذلك.

صفحه 361

المطالب المتعلّقة بهذا البحث ; لأنّ مثل هذا الأمر لا يكفيه كتاب واحد فقط ، وإنّما يحتاج إلى عدّة مجلّدات .

إنّ الذي نحن بصدده هو مطالعة ومراجعة إجماليّة لبعض المطالب المهمّة لكي يتسنّى تنقيح وتبيين ركن من أبعاد هذا البحث المهمّ ، ونشير إلى نكات هامّة :

النكتة الاُولى : تحقيق لفظ «التحريف»

هذا اللفظ هو مصدر من باب «التفعيل» ومشتقّ من «حَرْف» ، وكلمة «حَرْف» في اللغة بمعنى : طرف الشيء وشفيره وحدُّه وجانبه ، وبناءً عليه فالتحريف يعني حرف الشيء وتغيير في أطرافه وجوانبه . يقول الله ـ تعالى ـ في القرآن : (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف) (1); أي أنّهم يعبدونه على طرف واحد وعلى جانب واحد ، وهذه كناية عن أنّهم غير مستقرّين في دينهم، وأنّهم في اضطراب ، كالذي يكون حينما تقع الحرب على طرف من العسكر يراقب نهاية المعركة إذا ما انتصر الجيش يأتي ويأخذ الغنيمة وإلاّ فيفرّ(2) .

هذا اللفظ من ناحية اللغة يدلّ على مطلق التبديل والتغيير ، ويمكن القول بأنّ لفظ التحريف له ظهور في التحريف اللفظي ، ولكن في القرآن الكريم وبسبب وجود القرينة له ظهور ثانويّ في التحريف المعنوي ; وذلك حينما يذمّ علماء اليهود ويقول : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (3); يعني يغيّرون قول الحقّ في التوراة عن مواضعه ومعانيه ومقاصده الإلهيّة، ويحملون قول الحقّ على معانيه الظاهرة .

ووجود لفظ «عن مواضعه» في الآية الشريفة يعتبر قرينة واضحة على أنّ


(1) سورة الحج 22 : 11 .
(2) الكشاف 3 : 146.
(3) سورة النساء 4 : 46 .

صفحه 362

المراد هو التحريف المعنوي . ومن هنا نلاحظ أنّ الراغب الاصفهاني قال في توضيحه لكلمة تحريف الكلام، لا خصوص لفظة «التحريف» : تحريف الكلامأن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين(1) .

يعني تحريف الكلام هو أن يحصل في الكلام تغيير يؤدّي إلى إمكانيّة حمل الكلام على وجهين .

ومن الواضح: أنّ الراغب لم يكن في مقام تبيين المعنى اللغوي لكلمة «التحريف»، وإنّما كان في مقام بيان المراد من تحريف الكلام الذي ورد في الآية الشريفة . ولقد ذكر الفخر الرازي تأويلات في بيان المراد من الآية الشريفة ، بعضها يلائم تحريف اللفظ ، لكن في النهاية اعتبر القول الصحيح في تفسير الآية هو التحريف المعنوي ، قال : إنّ المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحقّ إلى الباطل بوجوه الحيل اللفظيّة، كما يفعله أهل البدعة(2) .

النكتة الثانية : موارد استعمال لفط «التحريف» وأنواعه

ورد في كلمات المحقّقين، كالمحقّق الخوئي دعوى أنّ لفظ التحريف استعمل في معان ستّة مشتركة لفظاً ، وبعض هذه المعاني أجمع المسلمون على وقوعها في القرآن ، وبعضها لم يجمع على وقوعها ، وبعضها محلّ للخلاف .

الأوّل : التحريف بمعنى نقل شيء عن موضعه وتحويله إلى غيره، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (3).


(1) مفردات ألفاظ القرآن : 228 .
(2) التفسير الكبير للفخر الزاري 10 : 117 .
(3) سورة النساء 4 : 46.

صفحه 363

ولا خلاف بين المسلمين في وقوع مثل هذا التحريف في كتاب الله ; فإنّ كلّ من فسّر القرآن بغير حقيقته، وحمله على غير معناه فقد حرّفه. وترى كثيراً من أهل البدع والمذاهب الفاسدة قد حرّفوا القرآن بتأويلهم آياته على آرائهم وأهوائهم.

وقد ورد المنع عن التحريف بهذا المعنى، وذمّ فاعله في عدّة من الروايات:

منها: رواية الكافي بإسناده عن الباقر (عليه السلام) ، أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولايرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...(1).

الثاني: النقص أو الزيادة في الحروف أو في الحركات، مع حفظ القرآن وعدم ضياعه وإن لم يكن متميّزاً في الخارج عن غيره.

والتحريف بهذا المعنى واقع في القرآن قطعاً، فقد أثبتنا لك فيما تقدّم عدم تواتر القراءات(2)، ومعنى هذا أنّ القرآن المنزل إنّما هو مطابق لإحدى القراءات، وأمّا غيرها فهو إمّا زيادة في القرآن، وإمّا نقيصة فيه.

الثالث: النقص أو الزيادة بكلمة أو كلمتين، مع التحفّظ على نفس القرآن المنزل.

والتحريف بهذا المعنى قد وقع في صدر الإسلام، وفي زمان الصحابة قطعاً، ويدلّنا على ذلك إجماع المسلمين على أنّ عثمان أحرق جملة من المصاحف، وأمر ولاته بحرق كلّ مصحف غير ما جمعه، وهذا يدلّ على أنّ هذه المصاحف كانت مخالفة لما جمعه، وإلاّ لم يكن هناك سبب موجب لإحراقها، وقد ضبط جماعة من العلماء موارد الاختلاف بين المصاحف، منهم: عبدالله بن أبي داود السجستاني، وقد سمّى كتابه هذا بكتاب المصاحف.


(1) الكافي 8 : 53 ، قطعة من ح16 ، وعنه الوافي 26 : 90 قطعة من ح25376.
(2) البيان في تفسير القرآن: 159 ـ 163.

صفحه 364

وعلى ذلك فالتحريف واقع لا محالة، إمّا من عثمان أو من كتّاب تلك المصاحف، ولكنّا سنبيّن بعد هذا إن شاء الله ـ تعالى ـ أنّ ما جمعه عثمان كان هو القرآن المعروف بين المسلمين، الذي تداولوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) يداً بيد. فالتحريف بالزيادة والنقيصة إنّما وقع في تلك المصاحف التي انقطعت بعد عهد عثمان، وأمّا القرآن الموجود فليس فيه زيادة ولا نقيصة.

وجملة القول: إنّ من يقول بعدم تواتر تلك المصاحف ـ كما هو الصحيح ـ فالتحريف بهذا المعنى وإن كان قد وقع عنده في الصدر الأوّل; إلاّ أنّه قد انقطع في زمان عثمان وانحصر المصحف بما ثبت تواتره عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) . وأمّا القائل بتواتر المصاحف بأجمعها، فلابدّ له من الالتزام بوقوع التحريف بالمعنى المتنازع فيه في القرآن المنزل، وبضياع شيء منه. وقد مرَّ عليك تصريح الطبري، وجماعة آخرين بإلغاء عثمان للحروف الستّة التي نزل بها القرآن، واقتصاره على حرف واحد(1).

الرابع: التحريف بالزيادة والنقيصة في الآية والسورة مع التحفّظ على القرآن المنزل، والتسالم على قراءة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إيّاها.

والتحريف بهذا المعنى أيضاً واقع في القرآن قطعاً، فالبسملة مثلاً ممّا تسالم المسلمون على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأها قبل كلّ سورة غير سورة التوبة، وقد وقع الخلاف في كونها من القرآن بين علماء السنّة، فاختار جمع منهم أنّها ليست من القرآن(2)، بل ذهبت المالكيّة إلى كراهة الإتيان بها قبل قراءة الفاتحة في الصلاة المفروضة، إلاّ إذا نوى به المصلّي الخروج من الخلاف، وذهب جماعة أُخرى إلى أنّ البسملة من القرآن.

وأمّا الشيعة، فهم متسالمون على جزئيّة البسملة من كلّ سورة غير سورة


(1) البيان في تفسير القرآن : 179 ـ 180.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي 1 : 172 ـ 178 ، روح المعاني 1 : 53 ، مجمع البيان 1: 21.

صفحه 365

التوبة(1)، واختار هذا القول جماعة من علماء السنّة أيضاً ، وستعرف تفصيل ذلك عند تفسيرنا سورة الفاتحة، وإذن فالقرآن المنزل من السماء قد وقع فيه التحريف يقيناً بالزيادة أو بالنقيصة.

الخامس: التحريف بالزيادة; بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بأيدينا ليس من الكلام المنزل.

والتحريف بهذا المعنى باطل بإجماع المسلمين، بل هو ممّا علم بطلانه بالضرورة.

السادس: التحريف بالنقيصة; بمعنى أنّ المصحف الذي بأيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء، فقد ضاع بعضه على الناس.

والتحريف بهذا المعنى هو الذي وقع فيه الخلاف فأثبته قوم ونفاه آخرون(2).

والحاصل : إنّ المعاني الأربعة الاُولى ـ من بين تلك المعاني الستّة ـ قد وقع جزماً ، والمعنى الخامس لم يقع بالإجماع ، والمعنى السادس هو محلّ للخلاف .

ونورد على كلام هذا المحقّق الكبير إشكالين :

الأوّل : أنّ التحقيق هو: أنّ ما ذكره من المعاني الستّة ليست معان متعدّدة استعُمل فيها لفظ التحريف ، بل للتحريف معنىً واحد فقط ، وهو ما بيّن في المعنى الأوّل ; يعني نقل الشيء عن موضعه . وأمّا البقيّة فهي مصاديق لذلك المعنى .

وبعبارة اُخرى: أنّ في جميع هذه الموارد نقل الشيء عن موضعه يكون موجوداً ، لكن هذا النقل إمّا يكون في المعنى، الذي يُعبّر عنه بالتحريف المعنوي ، وإمّا في اللفظ ، والقسم الثاني: إمّا بنحو تفصيليّ، وإمّا بنحو إجماليّ . وبعبارة اُخرى: إمّا حدوث زيادة معيّنة ، وإمّا حدوث نقيصة معيّنة ، أو حدوث زيادة أو نقيصة


(1) مجمع البيان 1 : 21 ، البيان في تفسير القرآن: 440 ـ 441 و 447.
(2) البيان في تفسير القرآن : 197 ـ 200.

صفحه 366

فيه إجمالاً ، وبناءً على ذلك أنّ ما ذُكر في كلام هذا المحقّق الجليل هو أفراد ومصاديق التحريف، وليست معان مختلفة استعمل فيها لفظ التحريف وبنحو الاشتراك اللفظي .

الإشكال الثاني : من لوازم مثل هذا التقسيم أنّ جميع أقسام التحريف لايصدق عليها عنوان الباطل ، وإلاّ فإنّ دخولها في هذا العنوان سيكون خلاف إطلاق الآية الشريفة : (لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِـلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ) (1); لأنّ ظاهرها يدلّ على أن ليس للباطل من سبيل في الكتاب الشريف ، وبناءً على ذلك فيجب منع صدق عنوان التحريف في الموارد التي قيل بوقوعها بإجماع المسلمين ، مضافاً إلى عدم خلوّ ذلك من الإمكان بالنسبة إلى التحريف المعنوي .

ثمّ إنّه بعد مراجعة وملاحظة المعاني المختلفة للتحريف نتعرّض لأنواعه ; فإنّه يستفاد من كلمات أصحاب الفنّ أنّ للتحريف ستّة أنواع :

1 ـ التحريف اللفظي : المراد منه حدوث نقصان أو زيادة أو تغيير ونقل في اللفظ والكلمات .

2 ـ التحريف المعنوي : يعني تفسير الكلام بصورة غير صحيحة بالشكل الذي ليس للّفظ فيه ظهور ، ويسمّى هذا النوع أيضاً التفسير بالرأي ، وذمّت الروايات هذا النوع بشدّة . قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(2) .

3 ـ التحريف الموضعي : بمعنى تثبيت آية أو سورة على خلاف ترتيب النزول . وهذا النوع من التحريف نادر جدّاً في الآيات ; إذ جميع الآيات مرتّبة


(1) سورة فصّلت 41 : 42.
(2) المسند لابن حنبل 1 : 501 ح2069 ، وص 578 ح2429، سنن الترمذي 5 : 199 ح2955 و 2956، عوالي اللئالي 4 : 104 ح154 .

صفحه 367

ومثبّتة على حسب ترتيب النزول ، لكن بالنسبة للسور يمكن الادّعاء بأنّ جميع سور القرآن مثبّتة ـ على خلاف ترتيب النزول ـ حسب أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) .

4 ـ التحريف القراءئي : قراءة كلمة على خلاف القراءة المعهودة لدى جمهور المسلمين ، مثل أكثر اجتهادات القرّاء في قراءاتهم .

5 ـ التحريف في اللهجة : أي اختلاف اللهجة بين القبائل ، حيث جعل كلاًّ منهم يقرأ الآيات الشريفة حسب لهجته .

6 ـ التحريف التبديلي : وهو القيام بتبديل كلمة باُخرى ; سواء كانت مرادفة لها أم لا ، وقد جوّز ابن مسعود هذا النوع من التحريف في المترادفات ، حيث قال : يمكن استعمال كلمة «حكيم» بدلاً عن لفظ «عليم»(1) .

النكتة الثالثة : التحريف الإجمالي والتفصيلي

ذكرنا فيما سبق أنّ التحريف إمّا أن يكون إجماليّاً، أو تفصيليّاً ، والذي يدخل في محلّ البحث والنزاع هو عبارة عن التحريف التفصيلي زيادةً أو نقصاناً بصورة معيّنة ، وهذا داخل في التحريف الذي هو محلّ النزاع والبحث .

أمّا التحريف الإجمالي; بمعنى إضافة شيء أو نقصان شيء إجمالاً ، فهو خارج عن محلّ النزاع ; من قبيل الاختلاف بشأن القراءات، أو الاختلاف في أنّ «بسم الله الرحمن الرحيم» هل هي من القرآن أم لا ؟ وقد أطلقنا عليه مسبقاً التحريف الإجمالي، فهو خارج عن محلّ النزاع ; لأنّ الملاك في التحريف في محلّ النزاع ـ سواء كان بصورة زيادة، أو بصورة نقصان ـ هو كون صورتيه خلافاً للواقع الحقيقي لكلام الله .

أمّا اختلاف القراءات، فليس هناك شكّ في أ نّ إحدى هذه القراءات مطابقة


(1) راجع جامع البيان 1 : 28 ـ 29 ح49 ، 50 ، 55 ، تفسير الصافي 1 : 39 ، البيان في تفسير القرآن: 179.

صفحه 368

مع القرآن الحقيقي ، وكذا الحال بالنسبة لمسألة «بسم الله الرحمن الرحيم» ; فإنّه ليس هناك شكّ بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يقرؤها في بداية كلّ سورة ، والاختلاف إنّما هو في جزئيّتها ، فالذين يعتقدون بالجزئيّة يقولون: هذا هو واقع القرآن ، والذين ينكرون الجزئيّة يعتقدون بأنّ واقع القرآن هو بدون هذه الآية ، وفي النتيجة كلا الطرفين لايحتمل كون قوله مخالفاً للواقع ، وإنّما لديهم الإجماع المركّب على أنّه كلام الوحي، وليس كلام البشر داخلاً فيه ، وكذلك بالنسبة إلى مسألة اختلاف القراءات .

وعليه: فإنّ موارد التحريف الإجمالي على الرغم من عدم تشخيص الواقع والكلام الحقيقي أو القراءة الحقيقيّة، خارجة عن محلّ النزاع، إنّما محلّ النزاع في التحريف الذي هو حذف لواقع القرآن، أو إضافة عليه من غير القرآن .

النكتة الرابعة : عدم كفاية الخبر الواحد لإثبات التحريف

كما أنّ إثبات آيات القرآن الشريفة يستلزم توفّر الدليل القطعي والعلمي، ولايمكن بمجرّد الخبر الواحد إثبات أنّ آيةً مّا هي من القرآن الشريف ، كذلك في مسألة التحريف ; فإنّ على الذين يدّعونه أيضاً أن يقيموا الدليل القطعيّ والعلميّ .

وبعبارة اُخرى: حيث لم نعتبر الخبر الواحد وأمثاله من الأدلّة الظنّية كافياً في الاعتقادات ، فبالنسبة لمسألة القرآن الذي هو أهمّ سند أيضاً كذلك ; لأنّ الخبر الواحد لايمكنه بأيّ وجه من الوجوه أن ينفي أو يثبت آية ، لذلك قال الشيخ الطوسي (قدس سره) في مقدّمة تفسير التبيان : رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها; لأنّه


صفحه 369

يمكن تأويلها(1). ومراده أنّ هذه المسألة هي من المسائل التي يكون العلم فيها معتبراً .

النكتة الخامسة : آراء أكابر الإماميّة حول التحريف

إنّ العظماء من المحقّقين وزعماء الإماميّة يعتقدون بعدم تحريف الكتاب الشريف، وأنّ القرآن اليوم هو ذات القرآن الذي نزل على القلب المبارك للرسول (صلى الله عليه وآله) ; دون أن يحصل فيه أيّ نقصان مثل ما لم تحدث فيه أيّة زيادة .

ونحن في هذه النكتة بصدد أن نطرح ونبيّن بالاختصار أقوال بعض منهم ممّن يعتبر من فحول الإماميّة، والتي تعدّ كتبهم محوراً ومداراً للآراء العلميّة والكلاميّة لهذا المذهب ، لكن قبل ذلك علينا أن نلتفت إلى أمرين :

الأوّل : في بعض كتب علوم القرآن نسب القول بالتحريف إلى مجموعة من الأخباريّين في مذهب الإماميّة(2)، نظير ما هو المنسوب إلى الحشويّة لدى أهل السنّة(3) .

ومن الملفت للنظر أنّ من بين الأخباريّين بعض كبارهم ـ مثل الشيخ الحرّ العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة ـ يعتقد بعدم تحريف الكتاب، وله رسالة مستقلّة حرّرها بهذا الشأن . إذن لا ملازمة بين الأخباريّة وبين القول بالتحريف .

الثاني : لا شكّ في أنّ مسألة عدم التحريف بالزيادة هي مورد إجماع علماء الإماميّة (4)، وفيما يتعلّق بعدم التحريف بالنقصان هناك عدد من الكبار ـ كالمقدّس


(1) التبيان في تفسير القرآن 1 : 3.
(2) البيان في تفسير القرآن : 201.
(3) مجمع البيان 1: 15.
(4) التبيان في تفسير القرآن 1 : 3 ، مجمع البيان 1 : 15 ، البيان في تفسير القرآن: 200 و 233.

صفحه 370

البغدادي في شرح الوافية(1) ، ومرجع الشيعة الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتاب كشف الغطاء ـ ادّعوا الإجماع أيضاً (2).

إذن يمكن الادّعاء بأنّ في كلمات علماء الإماميّة دعوى الإجماع على عدم تحريف الكتاب ; سواء التحريف بنحو الزيادة أو بنحو النقصان .

وإليك آراء ووجهات نظر أعاظم علماء الإماميّة :

1 ـ الفضل بن شاذان ، هو من مصنّفي الشيعة في القرن الثالث الهجري ; فإنّه بعد أن أنكر تحريف النقيصة بشأن القرآن ، نسب في كتاب الإيضاح نقل روايات التحريف إلى الفرق الاُخرى(3) .

2 ـ أبو جعفر محمّدبن علي بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق ; وهو من أكبر الشخصيّات العلميّة لعالم التشيّع في القرن الرابع الهجري ، فقد كتب في رسالة الاعتقادات مايلي : اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين ـ وهو ما في أيدي الناس ـ ليس بأكثر من ذلك... ومن نسب إلينا أنّا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب (4).

إذن فالصدوق الذي هو من أكابر علماء الإماميّة، وله التبحّر الوافر في علوم الحديث والتاريخ، ينكر نسبة التحريف للإماميّة .

3 ـ عليّ بن حسين الموسوي المعروف بالسيّد المرتضى، وهو من أكابر الفقهاء والأُصوليّين، يقول في جواب مسائل الطرابلسيّات : إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، والحوادث الكبرى، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة، وأشعار


(1) حكى عنه في آلاء الرحمن 1 : 65.
(2) كشف الغطاء 3 : 453.
(3) الإيضاح : 112 ـ 124.
(4) اعتقادات الصدوق، المطبوع مع سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد 5: 84 ب 33.

صفحه 371

العرب المسطورة; فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه; لأنّ القرآن معجزة النبوّة، ومأخذ العلومالشرعيّة، والأحكام الدينيّة، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيَّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ـ إلى أن قال ـ :

إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يُدرَس ويُحفَظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأنّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويُتلى عليه، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث، وأنّ مَن خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(1).

4 ـ شيخ الطائفة أبو جعفر محمّدبن الحسن الطوسي يقول في هذا المجال : وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمّما لا يليق به أيضاً; لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى (رحمه الله) .

وهو الظاهر في الروايات، غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة العامّة والخاصّة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها; لأنّه يمكن تأويلها(2) .


(1) حكى عنه في مجمع البيان 1 : 15 ـ 16.
(2) مقدّمة تفسير التبيان 1 : 3 .

صفحه 372

5 ـ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ، المفسِّر الكبير وصاحب كتاب مجمع البيان ; كتب في مقدّمة تفسيره ما يلي : القول بإضافة آية على آيات القرآن، فمجمع على بطلانه، والقول بالنقصان قد روته جماعة من أصحابنا الإماميّة وقوم من حشويّة العامّة . والصحيح من مذهب أصحاب الإماميّة هو خلاف ذلك(1) .

6 ـ السيّد ابن طاووس قال ما يلي :

رأي الإماميّة هو عدم تحريف القرآن(2) . ويقول في مكان آخر :

قد تعجّبت ممّن قد استدلّ على أنّ القرآن محفوظ من عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وأنّه هو الذي جَمَعهُ، ثمّ قد ذكر هاهنا اختلاف أهل مكّة والمدينة، وأهل الكوفة والبصرة، واختار أنّ (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست من السورة.

وأعجبُ من ذلك احتجاجهُ بأنّها لو كانت من نفس السورة كان قد ذكر قبلها افتتاح لها، فيالله وللعجب! إذا كان القرآن مصوناً من الزيادة والنقصان ـ كما يقتضيه العقل والشرع ـ كيف كان يلزم أن يكون قبلها ما ليس فيها؟ وكيف كان يجوز ذلك أصلاً؟!(3) .

7 ـ ملاّ محسن الفيض الكاشاني يقول :

إنّ الروايات التي تدلّ على التحريف هي مخالفة مع كتاب الله ، واللاّزم إمّا رفضها أو حملها وتأويلها(4) .

8 ـ محمّد بن الحسين، الشهير ببهاء الدين العاملي ، والمعروف بالشيخ البهائي يقول بشأن القرآن الشريف : اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه، والصحيح أنّ


(1) مجمع البيان 1 : 15 .
(2) سعد السعود : 255 .
(3) سعد السعود : 316 .
(4) تفسير الصافي 1 : 44 ـ 49 .

صفحه 373

القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادةً كان أو نقصاناً، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1)، وما اشتهر بين النّاس من إسقاط اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) منه في بعض المواضع; مثل قوله ـ تعالى ـ : «يا أيّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك في عليّ» وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء(2).

9 ـ الشيخ محمّدبن الحسن الحرّ العاملي صاحب كتاب وسائل الشيعة الروائي المهمّ ، قال في رسالة بشأن إثبات عدم تحريف القرآن :

إنّ من تتبّع الأخبار وتصفّح الآثار من كتب الأحاديث والتواريخ وغير ذلك يعلم قطعاً أنّ القرآن كان في غاية الشهرة والتواتر بحسب نقله من الصحابة أُلوف كثيرة; فإنّهم كانوا في غاية الكثرة، ونقلته من التابعين أكثر منهم، وإنّه ما زال يزيد، وأنّه كان مجموعاً مولّفاً على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فظهر أنّه بلغ حدّ التواتر، بل زاد عليه بمراتب كثيرة(3).

10 ـ الشيخ جعفر كاشف الغطاء من نوادر فقهاء الشيعة يقول في كتابه النفيس كشف الغطاء :

لا زيادة فيه، من سورة، ولا آية، من بسملة، وغيرها، لا كلمة، ولا حرف. وجميع ما بين الدفّتين ممّا يُتلى كلام الله ـ تعالى ـ بالضرورة من المذهب، بل الدِّين وإجماع المسلمين، وإخبار النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة الطاهرين(عليهم السلام) وإن خالف بعض من لايُعتدّ به في دخول بعض ما رسم في اسم القرآن.

ولاريبَ في أنّه محفوظ من النقصان، بحفظ الملك الديّان، كما دلَّ عليه صريح القرآن، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر(4).


(1) سورة الحجر 15 : 9.
(2) حكى عنه في آلاء الرحمن 1: 65.
(3) تواتر القرآن: 54.
(4) كشف الغطاء 3: 453.

صفحه 374

هذه نماذج من آراء ونظريّات كبار علماء الإماميّة الأُصوليّين منهموالأخباريّين ، ويستفاد من مجموع هذه الكلمات أنّ القول بتحريف القرآن هو من الأباطيل التي بطلانها من الضرورات والبديهيّات ، وإذن ما أورد نفر قليل بعض من الروايات الضعيفة في كتبهم أو أظهروا الميل إليها، فهي ليست معتبرة لدى الإماميّة . وكيف يمكن نسبة القول بالتحريف إلى علماء الإماميّة ؟ أليست هذه النسبة من الافتراءات الواضحة والمسلّم حرمتها ؟ كيف يمكن أن يسند التحريف لجماعة يعتبرون قوامهم العقائدي ودوام أفكارهم مبنيّاً على القرآن العزيز ؟!

النكتة السادسة : الفرق بين القرآن وسائر الكتب السماويّة

أحد الأسئلة المهمّة والرئيسيّة هو الفرق بين القرآن وسائر الكتب السماويّة . فلماذا يدّعى عدم التحريف بشأن القرآن في حين بالنسبة لسائر الكتب تعتبر مسألة التحريف أمراً مسلّماً وواضحاً ; بحيث إنّ البعض(1) يستدلّ لإثبات تحريف القرآن عن هذا الطريق بأنّه من المسلّم وقوع التحريف في الكتب السابقة ، هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى: ورد في روايات متواترة بين الشيعة والسنّة ، بأنّ ما وقع في الاُمم السابقة يجب أن يقع مثله في هذه الاُمّة ، مثل هذه الرواية :

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كلّ ما كان في الاُمم السالفة، فإنّه يكون في هذه الاُمّة مثله حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذة(2) .

وبناءً عليه فإنّه من اللازم وقوع التحريف في القرآن أيضاً .

والتقصّي والتحقيق في مثل هذه الروايات، واستحصال النتائج بشأنها، لابدّ أن يبيّن ذلك في بحث شبهات القائلين بالتحريف(3) . أمّا الذي نحن بصدده في هذه


(1) فصل الخطاب : 35 ـ 42 ، الأمر الأوّل والثاني.
(2) كمال الدين : 576 ، وعنه بحار الأنوار 28: 10 ح15.
(3) يراجع البيان في تفسير القرآن : 220 ـ 234، ومدخل التفسير لاية العظمى الفاضل اللنكراني: 257ـ342.

صفحه 375

النكتة هو بيان الفارق الأساسي بين القرآن، وسائر الكتب السماويّة .

يقول البعض : إنّ التحريف الذي وقع في الكتب السابقة إنّما هو نفس التحريف المعنوي والتفسير بالرأي . والقرآن يدلّ على وقوع مثل هذا التحريف في كتب الاُمم السالفة ، ولا يدلّ على وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان فيها(1) . بالإضافة إلى ذلك ليس هناك في الروايات وكلمات العلماء دليل وشاهد يبرهن لنا على وقوع التحريف بالزيادة أو النقصان ، فالقرآن يبيّن بكلّ صراحة بأنّ التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة هي محفوظة لدى علمائهم ، حيث يقول :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَئـةَ وَالاِْنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم) (2) .

النكتة الأساسيّة هي : أنّ هذا الكتاب الشريف طرح بصفته معجزة خالدة وأبديّة ، وممّا لا مناص منه أ نّه يجب أن يكون مصوناً من التحريف والتغيير دوماً، خلافاً لسائر الكتب السماويّة التي لا تطرح بعنوان معجزة خالدة .

النكتة السابعة : مراحل نزول القرآن ومواطنه

من النكات المهمّة جدّاً هي: أنّ محلّ النزاع هو في أيّ قرآن ، وبتعبير آخر في أيّة مرحلة من مراحل وجود القرآن الكريم ؟ كما أنّه من الواضح ، ويستفاد من القرآن المجيد أيضاً بأنّ لهذا الكتاب المقدّس مراحل ومواطن :

الموطن الأوّل : اللوح المحفوظ ، إنّ هذا الموطن كما هو واضح غير قابل للتحريف ; لأنّه بعيد عن أيدي أفراد البشر ، وهو في هذا الموطن موجود عند الله ومحفوظ من أيّ تغيير .


(1) صيانة القرآن من التحريف : 122 .
(2) سورة المائدة 5 : 66 .

صفحه 376

الموطن الثاني : مرحلة نزول القرآن بواسطة جبرئيل (عليه السلام) على الرسول (صلى الله عليه وآله) . وهذا الموطن غير قابل للتحريف أيضاً، بدليل العصمة التي يمتلكها جبرئيل (عليه السلام) بصفته واحداً من الملائكة .

الموطن الثالث : عرض الرسول (صلى الله عليه وآله) القرآن على الناس; بمعنى أنّ ما أنزله جبرئيل (عليه السلام) على قلب الرسول المبارك (صلى الله عليه وآله) فإنّ حضرته (صلى الله عليه وآله) عرضه نفسه للناس بلا أيّة زيادة ونقصان . ومن الواضح: أنّ القرآن في هذا الموطن لم يتعرّض للتحريف أيضاً ، وجُمع ونُظِّم في زمن الرسول بصورة كتاب مدوّن، والكثير من الأفراد أودعوه حفظاً في أذهانهم ، وقد نُقل ذلك القرآن في الأزمنة التالية بصورة متواترة إلى الأجيال التالية .

الموطن الرابع : وهو عبارة عن القرائين التي تحكي عن ذلك القرآن المتواتر ، وبعبارة اُخرى: القرائين المكتوبة إمّا المطبوعة أو الخطّية هي التي تحكي عن تلك الحقيقة ، ومن البديهي فإنّ التحريف في اختلاف القراءة وأمثال ذلك قد وقع في هذا القسم، ومن الممكن في هذا الموطن الرابع حصول التحريف بالزيادة أو النقصان . والداخل في محلّ النزاع إنّما هو ذلك القرآن المحكي المتواتر الذي هو موجود في كلّ زمان بعنوان حقيقة وشيء واحد، وبعنوان كلام الحقّ المنزل ، وقد نطقت بذلك آية الحفظ الشريفة : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1); فإنّ الضمير في كلمة «له» تعود إلى القرآن المنزل، وهو ليس أكثر من قرآن واحد وحقيقة واحدة، وبقيّة القرائين تحكي عنه، ولا شكّ من تعرّضها للتحريف .

وبناءً على ما بيّناه يتّضح بأنّ ما قاله بعض المحدثّين(2) بأنّ المراد من آية الحفظ هو: أنّ الله ـ تعالى ـ يحفظ كتابه في الموضع الذي ينزله فيه، مثلما كان محفوظاً في


(1) سورة الحجر 15 : 9.
(2) فصل الخطاب : 336 ـ 338.

صفحه 377

مكان أعلى قبل نزوله ، وليس المراد حفظه في الصحف والدفاتر; فإنّه كلام باطل عديم الدليل والشاهد ، بل إنّ قضيّة إعجاز القرآن تنفي ذلك ; لأنّ بقاء القرآن في مثل هذا الموطن ـ غير القابل للتحريف ـ ليس فيه جانباً إعجازيّاً .

النكتة الثامنة : إمكان تحريف القرآن من وجهة نظر العقل

يستفاد من آية الحفظ الشريفة بأنّ القرآن قابل للتحريف عقلاً ، ولكنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ حفظه من هذه الوصمة ، وإلاّ لو لم يكن للتحريف سبيل إلى القرآن عقلاً لم تعدّ هناك حاجة إلى الحفظ الإلهي ، ولكن ردّ الله ـ تعالى ـ هذا الإمكان العقليّ المحض بالوعد القطعي حفظه منه.

النكتة التاسعة : هل الاستدلال بالقرآن على عدم التحريف يستلزم الدّور ؟

إنّ الكثير من الكبار استدلّ بآيات من الكتاب الشريف لغرض إثبات عدم تحريف القرآن ، والذي نطالعه ونبحثه في هذه النكتة هو: هل الاستدلال بالآيات الشريفة من أجل بطلان التحريف يستلزم الدور المحال، أم لا ؟

البعض يعتقد أنّ الاستدلال بالآيات الشريفة يستلزم الدور ، وذكر لذلك تقريرين :

التقرير الأوّل : أنّ نفي تحريف الكتاب متوقّف على حجّية هذه الآيات، في حين أنّ حجّية هذه الآيات متوقّفة على نفي التحريف ، إذن نفي التحريف يكون متوقّفاً على نفي التحريف .

التقرير الثاني : أنّ حجّية الآيات المستدلّ بها متوقّفة على نفي التحريف ، في حين نفي التحريف متوقّف على حجّية هذه الآيات أيضاً ، وفي النتيجة فإنّ حجّية الآيات الشريفة متوقّفة على حجّية هذه الآيات المستدلّ بها، وهذه هي نفس


صفحه 378

الدورالمحال في العلّية .ولقد وردت أجوبة مختلفة عن هذه الشبهة نتناول بحثها الآن :

الجواب الأوّل : ردّ المرحوم المحقّق الخوئي في كتاب البيان القيّم بما يلي :

وهذه شبهة تدلّ على عزل العترة الطاهرة عن الخلافة الإلهيّة، ولم يعتمد على أقوالهم وأفعالهم; فإنّه لا يسعه دفع هذه الشبهة، وأمّا من يرى أنّهم حجج الله على خلقه، وأنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك، فلا ترد عليه هذه الشبهة; لأنّ استدلال العترة بالكتاب، وتقرير أصحابهم عليه يكشف عن حجّية الكتاب الموجود وإن قيل بتحريفه، غاية الأمر أنّ حجّية الكتاب على القول بالتحريف تكون متوقّفة على إمضائهم (1).

وهذا الجواب لا يخلو من إشكال ، وذلك :

أوّلاً : أنّ هذا الجواب إنّما يكون مفيداً بالنسبة للمعتقدين بولاية الأئمـّة صلوات الله عليهم أجمعين ، في حين أنّه يجب علينا إبداء جواب كاف وواف أمام مثل هذه الشبهة بحيث يمكن أن تتقبّله أيّة فرقة .

وثانياً : هذا الجواب في الحقيقة يعتبر تسليماً بأصل الشبهة ، كيف ؟! فإنّه بناءً عليه لا يتمّ الاستدلال على عدم التحريف بالآيات الشريفة، وإنّما الاستدلال بالآيات سيتمّ بضمّ إمضاء وتقرير المعصوم (عليه السلام) ، وهذا المطلب ـ مضافاً إلى كونه خلافاً للمدّعى ـ مخالف لظاهر حديث الثقلين الشريف، الذي يُستفاد منه بوضوح بأنّ القرآن فرضٌ بصفته الثقل الأكبر، وبصفته حجّةً ودليلاً مستقلاًّ .

الجواب الثاني : أنّ الذين يدّعون تحريف القرآن يعتبرون دائرته محدودة بآيات خاصّة والتي أشارت بعض الروايات(2) إليها ، وأنّ الآيات التي استدلّ


(1) البيان في تفسير القرآن: 209.
(2) ستأتي ذكرها في ص 396 ـ 401.

صفحه 379

بواسطتها لأجل عدم التحريف هي ليست ضمن تلك الآيات المحرّفة ، وبعبارة اُخرى: إنّ القائلين بالتحريف هم أنفسهم يعتقدون بعدم تحريف هذه الآيات .

هذا الجواب أيضاً ليس خالياً عن إشكال ; لأنّ فيما يتعلّق بالتحريف توجد نظريّتان : البعض يعتقد أنّه طبقاً لبعض الروايات قد حدث تحريف في موارد معيّنة في آيات القرآن الشريفة ، وطبقاً لهذه النظريّة الجواب صحيح . أمّا النظريّة الثانية فهي بغضّ النظر عن الروايات تظهر وجود العلم الإجمالي بتحريف الكتاب ، ودائرة العلم الإجمالي تشمل مثل هذه الآيات التي استدلّ بها على عدم التحريف ، وبناءً على هذه النظريّة فهذا الجواب الثاني غير صحيح .

الجواب الثالث : في مقام الردّ على هذا الإشكال قال البعض : الإجماع قائمٌ على أنّ هذه الآيات لم تتعرّض للتحريف (1).

وهذا الجواب أيضاً قابلٌ للمناقشة ; لأنّ القائلين بالتحريف إذا ما ادّعوا لديهم العلم الإجماليّ بتحريف الكتاب; فإنّهم لا يتمكّنون من إخراج هذه الآيات من دائرة العلم الإجمالي ، وبتعبير آخر لايمكن عدّهم ضمن المجمعين ، وإلاّ يلزم من ذلك نفي نظريّتهم .

الجواب الرابع : وقد قال الوالد المحقّق الفقيه المعظّم في مقام هذه العويصة مايلي :

إنّ الاستدلال إن كان في مقابل من يدّعي التحريف في موارد مخصوصة; وهي الموارد التي دلّت عليها روايات التحريف، فلا مجال للمناقشة فيه; لعدم كون آية الحفظ من تلك الموارد على اعترافه; ضرورة أنّه لم ترد رواية تدلّ على وقوع التحريف في آية الحفظ أصلاً.

وإن كان في مقابل من يدّعي التحريف في القرآن إجمالاً; بمعنى أنّ كلّ آية عنده


(1) اكذوبة تحريف القرآن: 12.

صفحه 380

محتملة لوقوع التحريف فيها، وسقوط القرينة الدالّة على خلاف ظاهرها عنها.

فتارةً: يقول القائل بهذا النحو من التحريف بحجّية ظواهر الكتاب مع وصف التحريف.

واُخرى: لا يقول بذلك، بل يرى أنّ التحريف مانع عن بقاء ظواهر الكتاب على الحجّية، وجواز الأخذ والتمسّك بها، ويعتقد أنّ الدليل على عدم الحجّية هو نفس وقوع التحريف.

فعلى الأوّل: لا مجال للمناقشة في الاستدلال بآية الحفظ على عدم التحريف; لأنّه بعدما كانت الظواهر باقية على الحجّية، ووقوع التحريف غير مانع عن اتّصاف الظواهر بهذا الوصف، كما هو المفروض، نأخذ بظاهر آية الحفظ، ونستدلّ به على العدم كما هو واضح.

وعلى الثاني: الذي هو عبارة عن مانعيّة التحريف عن العمل بالظواهر والأخذ بها، فإن كان القائل بالتحريف مدّعياً للعلم به، والقطع بوقوع التحريف في القرآن إجمالاً، وكون كلّ آية محتملة لوقوع التحريف فيها، فالاستدلال بآية الحفظ لا يضرّه ، ولو كان ظاهرها باقياً على وصف الحجّية; لأنّ ظاهر الكتاب إنّما هو حجّة بالإضافة إلى من لا يكون عالماً بخلافه; ضرورة أنّه من جملة الأمارات الظنّية المعتبرة، وشأن الأمارة اختصاص حجّيتها بخصوص الجاهل بمقتضاها.

وأمّا العالم بالخلاف المتيقّن له، فلا معنى لحجّية الأمارة بالإضافة إليه، فخبر الواحد مثلاً الدالّ على وجوب صلاة الجمعة إنّما يعتبر بالنسبة إلى من لا يكون عالماً بعدم الوجوب. وأمّا بالإضافة إلى العالم، فلا مجال لاعتباره بوجه، فظاهر آية الحفظ ـ على تقدير حجّيته أيضاً ـ إنّما يجدي لمن لا يكون عالماً بالتحريف، والبحث في المقام إنّما هو مع غير العالم.

وإن كان القائل به لا يتجاوز عن مجرّد الاحتمال، ولا يكون عالماً بوقوع التحريف في الكتاب، بل شاكّاً ، فنقول:


صفحه 381

مجرّد احتمال وقوع التحريف ـ ولو في آية الحفظ أيضاً ـ لا يمنع عن الاستدلال بها لعدم التحريف، كيف، وكان الدليل على عدم حجّية الظواهر والمانع عنها هو التحريف، فمع عدم ثبوته واحتمال وجوده، وعدمه كيف يرفع اليد عن الظاهر، ويحكم بسقوطه عن الحجّية؟ بل اللاّزم الأخذ به والحكم على طبق مقتضاه، الذي عرفت أنّ مرجعه إلى عدم تحقّق التحريف بوجه، ولا يستلزم ذلك تحقّق الدور الباطل; ضرورة أنّ سقوط الظاهر عن الحجّية فرع تحقّق التحريف وثبوته، وقد فرضنا أنّ الاستدلال إنّما هو في مورد الشكّ وعدم العلم.

ومن الواضح: أنّ الشكّ فيه لا يوجب سقوط الظاهر عن الحجّية ما دام لم يثبت وقوعه ، فتدبّر جيّداً(1).

وفي هذا الجواب أيضاً في حالة العلم الإجمالي بالتحريف، سيكون الاستدلال بالآيات مخدوشاً .

الجواب الخامس : أنّ الذي يتبادر بالذهن أنّ التحريف كسائر الاُمور الاُخرى يحتاج إلى داع ودافع، ولكون الدواعي والدوافع على تحريف القرآن كثيرة جدّاً; فإنّ هذه الآيات الشريفة فيما إذا كانت معرّضة للتحريف لابدّ أن تحرّف بشكل بحيث يحدث فيها نقصان، وذلك بالنحو الذي تسقط فيه الدلالة على عدم تحريف الكتاب ، مثلاً أن يحذفوا من آية الحفظ الشريفة (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (2)أو على الأقلّ أن يحذفوا كلمة «له»، التي تعتبرمؤثّرة جدّاً في استفادة عدم التحريف .

بناءً على هذا وجود وبقاء نفس هذه الكلمات قرينة واضحة تفيد العلم والطمأنينة للإنسان بعدم تحريف هذه الآيات .

ولو فرض وجود علمٌ إجماليٌ بالتحريف، فيكون في هذه الآيات لدينا علم عاديّ على الخلاف ، فبالنتيجة تخرج هذه الموارد عن دائرة العلم الإجمالي .


(1) مدخل التفسير لآية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(قدس سره) : 219 ـ 221.
(2) سورة الحجر 15 : 9.

صفحه 382

النكتة العاشرة : نوعين من الادّعاء في التحريف

لقد اتّضح من النكتة السابقة وجود دعويين بالنسبة إلى التحريف :

الاُولى : توهّم البعض(1) بأنّ دائرة التحريف مختصّة ببعض الآيات المعيّنة التي عيّنت حدودها الروايات الواردة بشأنها . وبناءً عليه بقيت سائر الآيات الشريفة مصونة ومحفوظة من دائرة التحريف والتلويث والتغيير ، و هي قابلة لأن يستفاد منها في الاستدلال والاستفادة من الظواهر .

وهذا النوع من الادّعاء عادةً يطرح ممّن سندهم ومدركهم على التحريف، الروايات(2) الموجودة في بعض الكتب الروائيّة .

الثانية : يعتقد البعض(3) بأنّ القرآن الكريم تعرّض للتحريف إجمالاً ، وبتعبير آخر يدّعون العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تحريف القرآن الشريف .

ودليل وسند هذه الطائفة التي قبلت هذه الدعوى في باب التحريف هو دليل الاعتبار ونظائره .

النكتة الحادية عشر : الدليل العقلي والعقلائي في عدم التحريف

يستفاد من بعض كلمات أهل الرأي والنظر التمسّك بالدليل العقلي، وكذلك ببناء العقلاء، لبطلان التحريف . مثلاً السيّد ابن طاووس صرّح في سعد السعود أنّ بطلان التحريف هو مقتضى العقل(4) ، والبعض استدلّ ببناء العقلاء(5) .

أمّا الدليل العقلي :


(1، 2) فصل الخطاب، الدليل الحادي عشرة 211 ـ 227، وسيأتي ذكر بعض الروايات في ص 396ـ401.
(3) كفاية الاُصول: 284 ـ 285.
(4) سعد السعود: 316.
(5) گفتار آسان در نفى تحريف قرآن: 12.

صفحه 383

فلبيان هذا الدليل هناك طريقان :

الطريق الأوّل: أنّ الوارد في كلمات المحقّق الخوئي (رحمه الله) هو بصورة دليل عقليّ غير مستقلّ ، وملخّص ذلك :

إنّ احتمال التحريف لا يخرج عن ثلاث صور، ولا يتصوّر له عقلاً صورة رابعة .

الصورة الاُولى : احتمال وقوع التحريف قبل خلافة عثمان بواسطة أبي بكر وعمر ، هذه الصورة باطلة قطعاً ; لأنّها لا تخرج من ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أنّ التحريف حصل عن غير عمد ; بمعنى أنّ هذين الشخصين جمعا القرآن بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولأسباب ـ منها: قلّة الاطّلاع، وعدم وصول جميع القرآن إليهما، وعدم الدقّة والإحاطة ـ لم يحصلوا على بعض الآيات .

الاحتمال الثاني : أنّ التحريف حصل عمداً بخصول الآيات التي لا تلحق أيّ ضرر بخلافتهما وزعامتهما .

الاحتمال الثالث : التحريف حصل عمداً ، لكن في خصوص آيات كانت مضرّة بزعامتهما ، حيث استند القائلون بالتحريف هذا الاحتمال .

ولكن هذه الاحتمالات الثلاثة منتفية ومرفوضة .

أمّا الاحتمال الأوّل: فإنّه باطل لجهتين :

الاُولى: لا شكّ في أنّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمر القرآن ، بحفظه، وقراءته، وترتيل آياته، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته، يورِثُ القطع بكون القرآن محفوظاً عندهم، جمعاً أو متفرِّقاً، حفظاً في الصدور، أو تدويناً في القراطيس، وقد اهتمّوا بحفظ أشعار الجاهليّة وخطبها، فكيف لا يهتمّون بأمر الكتاب العزيز، الذي عرَّضوا أنفسهم للقتل في دعوته، وإعلان أحكامه، وهجروا في سبيله


صفحه 384

أوطانهم، وبذلوا أموالهم، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم، ووقفوا المواقف التي بيَّضوا بها وجه التاريخ؟!.

الثانية : يتّضح بطلان هذا الاحتمال من روايات الثقلين المتضافرة، فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله ، وعترتي(1)، لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في عصره، فإنّ المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأنّ الكتاب لا يَصدُقُ على مجموع المتفرِّقات، ولا على المحفوظ في الصدور، ومن الواضح بطلان جميع ذلك.

وأمّا بطلان الاحتمال الثاني: فمن الواضح: أنّ تحريف الشيخين للقرآن عمداً في الآيات التي لا تمسّ بزعامتهما و زعامة أصحابهما، فهو بعيدٌ في نفسه; إذ لاغرض لهما في ذلك، على أنّ ذلك مقطوع بعدمه.

وأمّا بطلان الاحتمال الثالث: فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وزوجته الصدِّيقة الطاهرة (عليها السلام) وجماعة من أصحابه قد عارضوا الشيخين في أمر الخلافة، واحتجّوا عليهما بما سمعوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره.

ولو كان في القرآن شيء يمسُّ زعامتهم لكان أحقَّ بالذِّكر في مقام الاحتجاج، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين، ولا سيّما أنّ أمر الخلافة كان قبل جمع القرآن على زعمهم بكثير، ففي ترك الصحابة ذكر ذلك في أوّل أمر الخلافة وبعد انتهائها إلى عليّ (عليه السلام) دلالة قطعيّة على عدم التحريف المذكور.


(1) المسند لابن حنبل 4: 30 ح11104 وج8 : 138 ح21634 و154 ح21711، الكافي 1: 294 ح3، كمال الدِّين: 234 ـ 241 ح44 ـ 64، بحار الأنوار 23: 104 ـ 166 ب7، ويلاحظ مدخل التفسير لآية الله العظمى الفاضل اللنكراني (قدس سره) : 229، ويلاحظ ص390.

صفحه 385

الصورة الثانية : احتمالوقوع التحريف من عثمان، فهو أبعد من الدعوى الاُولى:

أوّلاً: لأنّ الإسلام قد انتشر في زمان عثمان على نحو ليس في إمكان عثمانأن ينقص من القرآن شيئاً، ولا في إمكان من هو أكبر شأناً من عثمان.

وثانياً: لأنّ تحريفه، إن كان للآيات التي لا ترجع إلى الولاية، ولا تمسّ زعامة سلفه بشيء، فهو بغير سبب موجب، وإن كان للآيات التي ترجع إلى شيء من ذلك، فهو مقطوع بعدمه; لأنّ القرآن لو اشتمل على شيء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان.

وثالثاً: أنّه لو كان محرِّفاً للقرآن، لكان في ذلك أوضحُ حجّة، وأكبرُ عذر لقَتَلةِ عثمان في قتله علناً، ولمَا احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين، وإلى ما سوى ذلك من الحجج.

ورابعاً: كان من الواجب على عليّ (عليه السلام) بعد عثمان أن يَرُدَّ القرآن إلى أصله، الذي كان يُقرَأ به في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) .

فيكون إمضاؤه (عليه السلام) للقرآن الموجودفي عصره دليلاًعلى عدموقوع التحريف فيه.

وبناءً عليه : الصورة الثانية مرفوضٌ وباطلٌ أيضاً.

الصورة الثالثة : حدوث التحريف بعد خلافة عثمان بواسطة خلفاء بني اُميّة وعمّالهم ، وهذه الصورة لم يدّعيها أحد من العلماء والمؤرّخين . وبالنظر لعدم وجود صورة رابعة عقلاً نستنتج أنّ دعوى وقوع التحريف لا وجه لها، ومرفوضةٌ من وجهة نظر التحليل العقلي والتاريخي .

ويجدر الانتباه إلى أنّ هذا الدليل ليس بصورة حكم عقليٍّ مستقلٍّ ، وإنّما هو بإضافة التحليل التاريخي (1).

الطريق الثاني : في هذا الطريق يلزم بيان مقدّمتين :


(1) البيان في تفسير القرآن: 215 ـ 219.

صفحه 386

المقدّمة الاُولى : أنّ شريعة الإسلام المقدّسة تعتبر آخر دين بين الأديانالسماويّة، وأكمل دين لجميع الناس إلى يوم القيامة .

المقدّمة الثانية : من اللازم أن يكون لمثل هذا الدِّين سندٌ خالدٌ وأبديّ ليكون أساساً لقوانينه وأحكامه .

ونستفيد من ضمّ هاتين المقدّمتين أنّ الشارع المقدّس يجب عليه أن يصون هذا من التلوّث بالتحريف ، فمن وجهة نظر العقل يجب على الشارع أن يحفظ هذا الكتاب من ظلمة التحريف .

وهذا الدليل العقلي قابل للخدشة; من ناحية أنّ العقل يحكم على نحو القضيّة التعليقيّة بأنّ القرآن إذا ما أُريد له هداية جميع الناس في كافّة شؤون الحياة إلى يوم القيامة، يجب أن يكون مصاناً من التحريف ، لكن هذا المقدار لا ثمرة فيه في محلّ النزاع ; لأنّ ما هو داخل في محلّ النزاع ، هو حدوث وعدم حدوث التحريف، والعقل لا يستطيع أن يتدخّل في هذا المجال بصورة مستقلّة .

وأمّا بناء العقلاء والسيرة العقلائيّة :

من أجل إثبات عدم تحريف القرآن ، كتب بعض العلماء ما يلي :

إنّ تحريف كلام أيّ كاتب، وتغيير موضوعات أيّ كتاب، هو سلوك غير طبيعيّ، وظاهرةٌ منكرةٌ وغير اعتيادية ، لذا جرت سيرة العقلاء على عدم الاهتمام بالتحريف ، وبناءً عليه فإنّ صيانة القرآن من التحريف أمرٌ طبيعيّ ، ومقتضى الأصل والقاعدة الأوّلية(1) .

وهذا الدليل هو تامّ بالنسبة إلى كتاب لا توجد أغراض ودواع مختلفة لتحريفه ، لكن كتاباً مثل القرآن غير مشمول بهذا الدليل ; لأنّ الدواعي لتحريفه من قبل الكفّار والملحدين كانت كثيرة .


(1) گفتار آسان در نفى تحريف قرآن: 12.

صفحه 387

النكتة الثانية عشر : أوضح الآيات دلالةً على عدم التحريف

ادّعى جمع من المحقّقين أنّ قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِنَّهُ لَكِتَـبٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِـلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد) (1) من أصرح الآيات التي تدلّ على إثبات عدم التحريف في الكتاب العزيز . حتّى ادّعى البعض أنّ المفسّرين مجمعين على أنّ هذه الآية هي أكثر الآيات صراحة(2) .

وبهذه الآية الشريفة يمكن الاستدلال على عدم التحريف من عدّة طرق :

الطريق الأوّل : أنّ الله وصف الكتاب الشريف بالعزّة ، وواضحٌ أنّ العزّة من الناحية اللغويّة تتحقّق حينما تكون محفوظة من التغيير والضياع(3) .

الطريق الثاني : وردت في هذه الآية الشريفة نفي الطبيعة ونوعيّة الباطل ، وحسب القاعدة ففي مثل هذا المورد لها مفادٌ عامٌّ ، وبعبارة اُخرى: إنّ الآية الشريفة تنفي جميع أنواع وأصناف وأقسام الباطل عن هذا الكتاب الشريف ، وفي اللغة «الباطل» بمعنى الشيء الفاسد والضائع ، ومن البديهي أنّ التحريف هو من المصاديق البارزة والواضحة للباطل (4).

الطريق الثالث : في هذه الآية علّل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الحكم بكون هذا الكتاب نزل من موجود جانب حكيم وحميد ، إذن لم يبلغه ولم يدخله الباطل . وهذا التعليل هو نفسه له دلالة واضحة على أنّ التحريف لا يتناسب مع كتاب نزل من لدن حكيم (5).

قال المرحوم الحاج نوري : إنّ الحذف والتغيير والتبديل وإن كان باطلاً، لكن ليس المراد من الآية ذلك; لأنّ ظاهرها أنّه لا يجوز أن يحصل فيه ما يستلزم بطلانه


(1) سورة فصّلت 41 : 41 ـ 42 .
(2) صيانة القرآن من التحريف : 49 ـ 50 .
(3) البيان في تفسير القرآن : 210 .
(4، 5) مدخل التفسير: 221 ـ 222.

صفحه 388

من تناقض في أحكامه، وكذب في إخباراته وقصصه (1).

وردّاً على هذا المطلب قال البعض :

إرادة خصوص التناقض والكذب من لفظ الباطل لا تتناسب مع وصف الكتاب بالعزّة . وبعبارة اُخرى: يقتضي هذا الوصف إبعاد جميع أقسام الباطل عن هذا الكتاب(2).

ولا يخفى أنّ هذا الجواب يحتاج إلى توضيح وتكميل، وهو: أنّ ظاهر الآية الشريفة هي أنّ الكتاب عزيزٌ بشكل مطلق، والعزّة المطلقة تقتضي أن لا يكون المراد خصوص الكذب والتناقض ; لأنّ الكتاب إذا كان مصاناً من هذه الجهة يكون عزّته محدودة بهذه الجهة .

ثمّ إنّ أهمّ إشكال ورد على الاستدلال بالآية الشريفة أنّ هذا الاستدلال يتعارض مع التفسير الذي بيّنه الأكابر من العامّة والخاصّة في تفسير الآية . وبعبارة اُخرى: ليس أحد من المفسّرين أبدى احتمال الدلالة على عدم التحريف خلال تفسير الآية الشريفة ، فمثلاً الشيخ الطوسي في كتاب التبيان أبدى خمسة احتمالات في تفسير الآية :

الأوّل: أنّه لا تعلّق به الشبهة من طريق المشاكلة، ولا الحقيقة من جهة المناقضة; وهو الحقّ المخلص والذي لا يليق به الدنس.

الثاني: قال قتادة والسدِّي: معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّاً، ولا يزيد فيه باطلاً.

الثالث: أنّ معناه لا يأتي بشيء يوجب بطلانه ممّا وجد قبله ولا معه، ولا ممّا


(1) فصل الخطاب: 338.
(2) البيان في تفسير القرآن: 210.

صفحه 389

يوجد بعده. وقال الضحّاك: لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله ولا من خلفه; أي ولا حديث من بعده يكذبه.

الرابع: قال ابن عبّاس: معناه لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيله ولا من آخره.

الخامس: أنّ معناه لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم، ولا من خلفه، ولا عمّا تأخّر(1).

ويقول السيّد الرضيّ : ومن أحسن ما قيل في تفسير ذلك: أنّه لا يشبه كلاماً تقدّمه، ولا يشبهه كلاماً تأخّر عنه، ولا يتّصل بما قبله، ولا يتّصل به ما بعده، فهو الكلام القائم بنفسه ، البائن من جنسه، العالي على كلّ كلام قُرن إليه وقيس به(2).

الجواب :

أوّلاً : أنّ بعضاً من هذه التفاسير ـ مثل ما ذُكر عن قتادة والسدّي ـ له تناسبٌ مع تفسير الآية بالتحريف .

وثانياً : على فرض أنّ أيّ أحد من المفسّرين لم يفسّر الآية بمسألة التحريف ، ولكن قد ثبت في محلّه(3) أنّ أحد اُصول التفسير هو ظواهر الكتاب الشريف، وظاهر الآية الشريفة دالّة على هذا المطلب . وأمّا قول المفسّرين فليس دليلاً على اعتباره واعتماده في تفسير الكتاب ، إلاّ أن يكون قولهم مسنداً ببيان المعصوم (عليه السلام) .

وثالثاً : أنّ الروايات(4) التي بيّنت بعض المطالب في تفسير هذه الآية للباطل لم تكن في مقام الحصر ، بل هي في مقام بيان ذكر المصداق (5).

النكتة الثالثة عشر : استلزام التحريف لعدم حجّية ظواهر الكتاب

هل القول بالتحريف يستلزم سقوط ظواهر الكتاب من الحجّية، وعدم جواز


(1) التبيان في تفسير القرآن 9 : 129 ـ 130.
(2) حقائق التأويل في متشابه التنزيل: 102.
(3 ـ 5) مدخل التفسير: 170 ـ 185، 222 و 225.

صفحه 390

الاستدلال به ؟ هذا السؤال صحيح على فرض دعوى العلم الإجمالي بالتحريف من قبل مدّعي التحريف .

قال البعض : في مثل هذا الفرض بالنسبة لكلّ آية يحتمل التحريف فيها، يمكن التمسّك بالأصل العقلائي المهمّ; وهو عدم القرينة، والاستدلال بظاهر الآية الشريفة .

وبعبارة اُخرى: من أجل حجّية الكتاب المحرّف لا نحتاج إلى إمضاء وتقرير المعصومين(عليهم السلام) ، بل عن طريق هذا الأصل العقلائي يمكن الاستدلال بظواهره .

وهذا البيان يكون صحيحاً في حالة أنّ العقلاء يجوّزون التمسّك بهذا الأصل في موارد احتمال وجود القرينة المتّصلة ، في حين حسب التحقيق أنّ العقلاء يُجيزون التمسّك بهذا الأصل في الموارد التي يحتمل المخاطب وجود قرينة منفصلة عن كلام المتكلّم . لكن في موارد احتمال القرينة المتّصلة لا يمكن الاستناد بهذا الأصل ، وفي مسألة التحريف، أنّ ما يمكن احتماله بعد العلم الإجمالي هو وجود قرينة متّصلة حذفت على أثر التحريف .

وبناءً عليه، ففي حالة افتراض العلم الإجمالي بالتحريف ، ليس لدينا أيّ طريق للتمسّك بظواهر الكتاب الشريف سوى تقرير وإمضاء المعصومين(عليهم السلام) . وهذا لايلائم حديث الثقلين .

النكتة الرابعة عشر : دلالة حديث الثقلين على عدم التحريف

أهمّ حديث يدلّ على عدم تحريف القرآن هو حديث الثقلين، الذي هو من الاحاديث المتواترة ، أروده ما يقارب 33 شخصاً من كبار أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وأبي ذرّ، وعبدالله بن العبّاس، وعبدالله بن عمر، وحذيفة،


صفحه 391

وأبي أيّوب الأنصاري(1) ، وقد أورده ما يقارب 200 شخصاً من كبار علماء أهل السنّة في كتبهم ، والحديث الشريف حسب بعض العبائر المنقولة هو: أنّرسول الله (صلى الله عليه وآله) قال :

إنّي تاركٌ فيكم الثقلين : أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فتمسّكوا بكتاب الله وخذوا به... وأهل بيتي ، اُذكّركم الله في أهل بيتي ، ثلاث مرّات(2) .

ومن أجل الاستدلال بهذا الحديث على عدم تحريف الكتاب يمكن الاستدلال بطريقين :

الطريق الأوّل : أنّ هذا الطريق يتّضح بستّة مطالب :

أ : يدلّ الحديث الشريف على إمكانيّة التمسّك بالكتاب إلى يوم القيامة .

ب : تحريف الكتاب يستلزم عدم إمكان التمسّك به .

ج : معنى التمسّك بالقرآن : التمسّك بجميع الشؤون التي تطرّق لها القرآن ، وليس المراد خصوص التمسّك ببعض الموارد، مثل آيات الأحكام . وبعبارة اُخرى: إنّ مايقصده القرآن ليس مجرّد بيان الأحكام والقوانين العمليّة ، وإنّما هو لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور .

د : الغرض من التحريف هو إخفاء بعض الحقائق وإطفاء بعض أنوار الكتاب الشريف ، والكتاب المحرّف لا يستطيع أن يكون هادياً في جميع الجوانب ونوراً في جميع الأطراف ، في حين الغاية النهائيّة التي يبيّنها القرآن الشريف لنفسه هي إخراج الناس من الظلمات باتّجاه النور ، ورفعهم إلى مرتبة الإنسانيّة الكاملة، والدرجات العليا المادّية والمعنويّة . وهذا الغرض لا يحصل إلاّ بالتمسّك به .


(1) آلاء الرحمن : 100 ـ 101 .
(2) سنن الدارمي 2 : 292 ح3311، سنن الترمذي 5 : 663 ح3797، صحيح مسلم 4 : 1492 ح2408، المستدرك على الصحيحين 3 : 160 ح4711 وغيرها من كتب العامّة والخاصّة، ويلاحظ ص384.

صفحه 392

هـ : إنّ التمسّك بالقرآن يختلف عن التمسّك بالعترة ; إذ أنّه أمرٌ لا يمكن تحقّقه إلاّ عن طريق الوصول إلى القرآن نفسه فقط ، وذلك هو القرآن الذي لدى الناس وبين الناس، وليس القرآن المحفوظ عند أهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام) .

و : يستفاد من الحديث الشريف أنّ التمسّك بالكتاب ليس ممكناً فقط ، وإنّما هو واجب ، والجملة الخبريّة هي في مقام إنشاء الحكم التكليفي . وفي بحوث علم الاُصول ثبت أنّ التكاليف الشرعيّة يلزم أن تكون متعلّقاتها مقدورة للمكلّفين ، ولو كان القرآن متعرّضاً للتحريف فالتمسّك به سيكون غير مقدور .

الطريق الثاني : يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ كلّ واحد من هذين الثقلين حجّةٌ مستقلّةٌ ودليل تامّ إلى جانب الدليل الآخر ; بمعنى أنّ حجّية كلّ منهما ليست متوقّفة على إمضاء وتقرير الآخر . طبعاً هذا لا يعني بأنّ كلاًّ منهما بانفراده كاف للبلوغ إلى الكمال المطلوب، والخروج من الضلالة وإزالة الظُلْمة ، بل إنّ هذه الآثار مترتّبةٌ على مجموع هذين الثقلين .

وبناءً عليه: أنّه إذا كان قد حدث تحريف في الكتاب، فظواهره ساقطة عن الحجّية ، والقائلين بالتحريف عليهم أن يعتقدوا بأنّ الرجوع إلى المحرّف يحتاج إلى إمضاء المعصومين(عليهم السلام)، وهذا خلاف الحديث الشريف ; لأنّ ظاهره يدلّ على استقلال أيّ واحد من هذين الدليلين ، ومبدئياً كيف يمكن أن تكون حجّية الثقل الأكبر متوقّفة على الثقل الأصغر ؟ كلاّ ، ثمّ كلاّ .

من هذين الطريقين نستنتج أوّلاً : ليس التمسّك بالكتاب الشريف ممكناً فقط ، بل لأنّ التكليف يكون لازم التنفيذ أيضاً .

وثانياً : الكتاب الشريف مطروح بعنوان دليل وحجّة مستقلّ .

فمن البديهي والواضح أنّ القول بالتحريف لا ينسجم ولا يتلائم أيّ واحد من هذين المطلبين .


صفحه 393

النكتة الخامسة عشر : نسخ التلاوة والإنساء

يلاحظ من خلال كلمات علماء العامّة وجود عنواني نسخ التلاوة والإنساء، وبعضهم(1) يعتبر جواز نسخ التلاوة أمراً إجماعيّاً دلّ عليه الدليل العقلي والنقلي .

ونحن في هذه النكتة بصدد دراسة ; هل أنّ هذين العنوانين مغايران مع عنوان التحريف ، أو أنّ قبول جواز نسخ التلاوة ملازم مع جواز التحريف ؟

هناك أحاديث موجودة في الكتب الروائيّة جعلت أكابر علماء العامّة يبرّروا نسخ التلاوة ، من جملتها الرواية التي وردت في مسألة الرجم .

روى ابن عبّاس، عن عمر أنّه قال : من الآيات التي نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله) هي آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» ، رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده(2) .

ويقول زيدبن ثابت : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة. وقال عمر: إنّ الشابّ إذا زنى وقد اُحصن رجم(3)، ولم يدّع زيدٌ أنّ كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا كان بعنوان أنّه وحي قرآنيٌّ ، لكن عمر تصوّره وحياً قرآنيّاً، حيث قال للرسول (صلى الله عليه وآله) : أكتبنيها؟ ولم يردّ عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) . وتصوّر أهل السنّة بأنّ هذا الحكم وكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) طرح بعنوان آية من القرآن ، وتلاوتها وقراءتها نُسخت ولكن حكمها ظلّ باقياً .

وهناك إيرادات هامّة وردت على هذا الاعتقاد :

الإيراد الأوّل : النسخ من أيّ نوع كان بحاجة إلى ناسخ ، وهذه الموارد لاوجود لناسخ لها .


(1) الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي 3 : 154 ـ 155.
(2) سنن ابن ماجة 3 : 232 ح2553، السنن الكبرى للبيهقي 12 : 414 ح17384.
(3) المسند لابن حنبل 8 : 142 ح21652، المحلّى بالآثار 12: 176.

صفحه 394

الإيراد الثاني : ثبت في محلّه بأنّ النسخ يجري في حدود الأحكام الشرعيّة فقط ، وليس للتلاوة عنوان شرعيّ .

ثمّ إنّ بعض علمائهم ردّوا على هذا الإيراد ، بأنّ المراد من التلاوة ، ليس وجودها الخارجي ، بل المراد جواز التلاوة الذي هو أحد الأحكام الشرعيّة(1) .

الإيراد الثالث : ما هي الثمرة المترتّبة على هذا النوع من النسخ; بأن تنسخ التلاوة ، أمّا أصل الحكم الذي هو مدلول الآية يظلّ باقياً ؟

الإيراد الرابع : أهمّ إيراد هو ما بيّنه المرحوم المحقّق الخوئي :

إنّ نسخ التلاوة هذا إمّا أن يكون قد وقع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يكون ممّن تصدَّى للزعامة من بعده، فإن أراد القائلون بالنسخ وقوعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فهو أمر يحتاج إلى الإثبات. وقد اتّفق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وقد صرَّح بذلك جماعة في كتب الاُصول وغيرها(2) ، بل قطع الشافعي وأكثر أصحابه، وأكثر أهل الظاهر بامتناع نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، بل إنّ جماعة ممّن قال بإمكان نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة منع وقوعه.

وعلى ذلك فكيف تصحّ نسبة النسخ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأخبار هؤلاء الرواة؟ مع أنّ نسبة النسخ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) تنافي جملة من الروايات التي تضمّنت أنّ الإسقاط قد وقع بعده. وإن أرادوا أنّ النسخ قد وقع من الذين تصدّوا للزعامة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، فهو عين القول بالتحريف(3).

وأمّا ما بيّنوه في مسألة الرجم فبطلانه واضحٌ جدّاً ; لأنّ الرسول الذي كان


(1) الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي 3 : 154 ـ 155.
(2) الموافقات في اُصول الشريعة: 3 / 79.
(3) البيان في تفسير القرآن: 206.

صفحه 395

يولّي الدقّة الكاملة والمراقبة التامّة في تثبيت آيات القرآن الشريفة، وباهتمام منقطع النظير يولّي كتّاب الوحي بهذا الأمر ، في حين كانت مسألة الرجم من آيات القرآن ، فكيف ولماذا لم يأمر بتثبيتها في الكتاب ولم يردّ على سؤال عمر ؟

فبناءً عليه، مسألة نسخ التلاوة أمرٌ بطلانه واضحٌ وبديهيّ جدّاً ، حتّى أنّ بعض المعاصرين من أهل السنّة قد قال : إنّه جائز عقلاً ، لكنّه لم يقع مثل هذا النسخ في كتاب الله عزّ وجلّ(1) .

وابن حزم الأندلسي بعد أن قبل نسخ التلاوة في البداية ، لكنّه في انتهاء الكلام برّر المسألة بشكل بحيث لاتكون مرتبطة بالوحي الإلهي(2) .

النكتة السادسة عشر : لا يمكن للشيعة الاعتقاد بالتحريف

ليست الشيعة لا تعتقد بعدم التحريف فقط ، بل لايمكن أن يكون لديها مثل هذا الاعتقاد ; لأنّ من الأدلّة المهمّة التي تشكِّل المادّة الأساسيّة لمعتقدات الشيعة هي آية التطهير الشريفة :

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (3) .

وقد ثبت في محلّه أنّ هذه الآية لها دلالةٌ واضحةٌ على عصمة أهل البيت(عليهم السلام) ، تلك العصمة التي هي الشرط الأهمّ لزعامة وخلافة المسلمين . ولو أنّ أحداً ادّعى التحريف بشأن القرآن; فإنّه لا يستطيع أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على مسألة العصمة .

إنّ الهدف الأصلي من هذه الآية الشريفة سيتّضح حينما نقبل بأنّ القرآن هو


(1) فتح المنّان في نسخ القرآن: 224.
(2) المحلّى بالآثار 12 : 175 ـ 178.
(3) سورة الأحزاب 33 : 33 .

صفحه 396

كتاب منظّم يبتدأ بسورة الحمد المباركة ، وانتهى جمعه في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يحدث فيه أيّ حدث ، وأنّ كلّ آية موضوعة في الموقع المناسب لها، بحيث إذا وضعت في مكان آخر لم يتّهل مراد الله في هذه الآية الشريفة ، مراد الله تبارك وتعالى فيها هو أنّه مع بيان ما يجب على نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذكر التكاليف الخاصّة لأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام)، وينبّههم بأنّ لهم واجبات خاصّة . على أيّ حال لو اُبدي احتمال التحريف في مثل هذه الآيات، فلا يبقى هناك من أساس لمعتقدات الإماميّة(1) .

النكتة السابعة عشر : دراسة عامّة لروايات التحريف

إنّ أهمّ دليل للقائلين بالتحريف هي الروايات التي ذكرها العامّة والخاصّة فيكتبهم ، وهذه الروايات طبقاً لإحصاء بعض المحقّقين هي في حدود 1122 حديثاً(2) ، وقد قبل بعض الأكابر والفحول التواتر الإجماليّ لهذه الروايات; بمعنى أنّه مع وجود الكثير منها ضعيفة من ناحية السند ، لكن كثرة الروايات بلغ حدّاً أدّى بالقطع بصدور بعض منها ولم يطرح احتمال كذب تمامها(3) .

لقد استفاد القائلين بالتحريف من هذه الروايات أنّه حدث في موارد معيّنة بعض التحريفات والنقصان في هذا الكتاب الشريف .

وفي مقام الجواب على هذه الروايات أشكل الأكابر من العلماء عليهم من جهتين(4) :


(1) لتوضيح المطلب أكثر يراجع آية التطهير رؤية مبتكرة.
(2) صيانة القرآن من التحريف: 239.
(3) البيان في تفسير القرآن: 225.
(4) البيان في تفسير القرآن: 225 ـ 234، آراء السيّد علي الفاني: 67 ـ 114.

صفحه 397

الجهة الاُولى : الإشكال من حيث السند، والكتب التي جُمعت فيها هذه الروايات .

الجهة الثانية : الإشكال من حيث الدلالة ، ولابدّ أن نوضّح كلّ واحدة من هاتين الجهتين :

أمّا توضيح الجهة الاُولى : لقد ورد أحمدبن محمّد السيّاري في سند كثير من هذه الروايات، وحسب تعبير الرجاليّين أنّه ضعيف الحديث، وفاسد المذهب، واتّهمه النجاشي بالغلوّ(1)، وعرّفه ابن الغضائري بأنّه ضعيف، متهالك، غال، محرّف(2) .

ومن الأفراد المندرجين في سند هذه الروايات يونس بن ظبيان، والذي قيل في شأنه : ضعيف جدّاً، لا يلتفت إلى ما رواه، كلّ كتبه تخليط(3)، وعرّفه ابن الغضائري بأنّه غال ، كذّاب، وضّاع للحديث(4) .

والفرد الثالث المذكور في سند هذه الروايات هو عليّ بن أحمد الكوفي، الذي عرّفه مؤلّفوا الرجال بأنّه غلا في آخر عمره ، وفسد مذهبه(5)، كذّاب، غال، صاحب بدعة(6) .

ومنه يتّضح أنّ الأفراد الناقلين والمبيّنين لهذه الروايات هم من الضعفاء، وليس لرواياتهم اعتبار .

وبالإضافة إلى أنّ الكتب التي وردت فيها هذه الروايات على الأغلب تخلوا


(1) رجال النجاشي : 80 ، الرقم 192.
(2) مجمع الرجال 1 : 149.
(3) رجال النجاشي: 448 ، الرقم 1210.
(4) خلاصة الأقوال: 419 ، الرقم 1701.
(5) رجال النجاشي: 265، الرقم 691.
(6) خلاصة الأقوال: 365 ، الرقم 1435 نقلاً من ابن الغضائري.

صفحه 398

من الاعتبار والحجّية :

أ : فبعض هذه الروايات مأخوذ من رسالة منسوبة إلى سعدبن عبدالله الأشعري، وقد نُسبت هذه الرسالة إلى النعماني، وإلى السيّد المرتضى ، وبناءً عليه لم يتّضح صاحبها ، ولا أحدٌ من رجال العلم والحديث عدّها في عداد الاعتبار .

ب : بعض هذه الأحاديث مأخوذ من كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي ، وقال الشيخ المفيد حول هذا الكتاب : كتابٌ غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس ، فينبغي للمتديّن أن يجتنب العمل بكلّ ما فيه، ولايعوّل على جملته(1).

ج : الكتاب الثالث هو كتاب التنزيل والتحريف أو كتاب القراءات ، ومؤلِّفه هو أحمدبن محمّد السيّاري ، وبيّنّا قبل قليل تضعيف الرجاليّين له .

د : بعض هذه الروايات مأخوذ من تفسير أبي الجارود، وهو ملعون من قِبل الإمام الصادق (عليه السلام) (2) ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ كُثَيربن عيّاش الضعيف(3) مذكور في سند هذا التفسير(4) .

هـ : ومن تلك الكتب تفسير علي بن إبراهيم القمّي، وهو تلفيقٌ من إملاءاته على تلميذه أبي الفضل العبّاس بن محمّد العلوي، وهو أيضاً مخلوط مع تفسير أبي الجارود .

و : إنّ أحد مصادر هذه الروايات هو كتاب الاستغاثة لعليّ بن أحمد الكوفي، الذي كذّبه إبن الغضائري واتّهمه بالغلوّ كما تقدّم .


(1) تصحيح اعتقادات الإماميّة (سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 5: 150.
(2) الفهرست لابن النديم: 226 ـ 227.
(3) الفهرست للشيخ الطوسي: 131 ـ 132، الرقم 303.
(4) تفسير القمّي 1: 102 ، 198 و 224.

صفحه 399

ز : بعض من هذه الأحاديث وردت في كتاب الاحتجاج للطبرسي ، وأغلب رواياته مرسلة ، ولا يمكن الاستدلال به بعنوان كتاب روائيّ .

ح : أكثر هذه الروايات قد وردت في كتاب الكافي الشريف ، لكن مجرّد وجود رواية في كتاب لا يعني صحّتها وجواز العمل بها .

وأمّا توضيح الجهة الثانية : فإنّ هذه الروايات لا تتمتّع بمضمون موحّد من حيث الدلالة ، وأنّها تنقسم إلى طوائف :

الطائفة الاُولى : بعض هذه الروايات تعود إلى التحريف المعنوي، وهي خارجة عن محلّ النزاع .

الطائفة الثانية : جزء من هذه الروايات تدلّ على اختلاف القراءة، وهي خارجة عن محلّ بحث التحريف .

الطائفة الثالثة : الروايات التي وردت بمقام توضيح أو تفسير آية، حيث تصوّر البعض بأنّ ما وقع من كلمات بعنوان تفسير الآية هو في الواقع كان من متن القرآن الكريم ، كهذا الحديث الشريف : روى الكليني بإسناده عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في قوله ـ تعالى ـ : (أُو لَـئـِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاَ بَلِيغًا) (1) ، أنّه (عليه السلام) تلا هذه الآية إلى قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، وأضاف : «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب» وتلا بقيّة الآية(2) .

قال المحدّث النوري : فظاهر سياق الخبر أنّ هذه الزيادة من القرآن وليست تفسيراً (3) .


(1) سورة النساء 4 : 63 .
(2) الكافي 8 : 184 ح211 .
(3) فصل الخطاب : ص252 .

صفحه 400

وقد صرّح العلاّمة المجلسي والآخرون بأنّ لهذه الجملة عنواناً تفسيريّاً(1) .

الطائفة الرابعة : الروايات التي تدلّ على ذكر الاسم المبارك لأمير المؤمنين والأئمـّة المعصومين(عليهم السلام) في بعض من آيات الكتاب . وهذه الروايات في مقام التوضيح وتأويل الآيات الشريفة أيضاً ، ولا تدلّ على أنّ أسماء الأئمـّة حذفت من القرآن .

الطائفة الخامسة : الروايات الدالّة على ذكر أسامي اُخرى من قريش في القرآن، وبأنّ المحرّفون حذفوها وأبقوا اسم أبي لهب فقط ، وقد ورد على هذه الروايات إشكالان :

1 ـ وجود التناقض بين نفس هذه الروايات ; لأنّ في بعض منها قدّر عدد المحذوف بسبعين، وفي البعض الآخر سبعة .

2 ـ إنّه بعد ملاحظة مضامين هذه الروايات يظهر شهادتها بالكذب ; إذ أيّ وجه لبقاء اسم أبي لهب محفوظاً من بين الأسماء ؟!

الطائفة السادسة : الروايات الدالّة على أنّه بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله) تغيّرت بعض الكلمات وحلّت محلّها كلمات وألفاظ اُخرى . وبتعبير آخر تدلّ هذه الروايات على حدوث التحريف زيادةً ونقصاناً .

وهذه الطائفة مخالفة مع الإجماع ; لأنّ المسلمين متّفقون في النظر بأنّه لم تُضف حتّى كلمةٌ واحدةٌ على القرآن(2) .

الطائفة السابعة : الروايات الواردة بشأن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، والتي تلزم حضرته بقراءة مصحف عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي لديه .


(1) مرآة العقول 26: 76 .
(2) تقدّم في ص369 ـ 374.

صفحه 401

وهذه الروايات على الرغم من دلالتها على اختلاف مصحف أميرالمؤمنين (عليه السلام) مع المصحف الموجود ، لكن هذا الاختلاف ليس من حيث متن القرآن، بل هو اختلاف في النظم والترتيب وفي بعض الشروح .

الطائفة الثامنة : الروايات التي تدلّ على وجود نقيصة في الكتاب الشريف ، وهي على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : التي تدلّ على أنّ عددآيات الكتاب هي أكثرمن القرآن الموجود .

القسم الثاني : التي تدلّ على أنّ عدد آيات بعض من السور الموجودة في القرآن هي أقلّ من المقدار الواقعي .

القسم الثالث : التي تدلّ على نقصان كلمة، أو آية .

وفي الردّ على هذه الطائفة لابدّ من القول :

أوّلاً : أنّ هذه الروايات مخالفة للقرآن يجب الإعراض عنها .

وثانياً : وجود الروايات الكثيرة المتعارضة في هذه الطائفة .

وثالثاً : لو فرض وجود خبر صحيح فيها فهو خبرٌ واحدٌ ، وفي مثل هذا الأمر لا يمكن التمسّك بالخبر الواحد .

ورابعاً : بعض هذه الأخبار تحكي عن سقط أسماء الأئمـّة(عليهم السلام)المباركة ، وقلنا مسبقاً يجب حمل مثل هذه الروايات على التأويل أو التفسير، أو بيان المصداق .

والحمد لله ربّ العالمين


صفحه 402


صفحه 403

رسالة في

الدراسة الفقهيّة حول الطواف
في الطابق الأوّل من المسجد الحرام

وقد ألّفت في سنة 1425 هـ . ق


صفحه 406

النزاع ، لكن هل يدخل فيه من ذهب إلى وجود حدّ له ـ كالمشهور(1)ـ أم لا؟

الظاهر دخولهم في محلّ البحث ، وذلك بأن يفرض فيما إذا بني في نفس الحدّ الطابق الأوّل والثاني، حال كونهما مرتفعين عن البيت أو مساويين ، إلاّ أنّ المشكلة أنّه لا واقع لهذا الفرض في زماننا هذا .

علاقة البحث بمسألة الزيادة على ارتفاع الكعبة

الثاني: وقع الخلاف في جواز الإضافة وعدمه، من جهة الارتفاع على البيت الشريف، وذلك بعد المفروغيّة عن أنّه لا يجوز التنقيص أو التخريب فيه ، فبناءً على جواز الإضافة ، إذا تحقّقت الإضافة مثلاً إلى حدّ يصير ضعف الموجود الآن، أو أكثر، فلاشكّ في جواز الطواف حوله وإن علا ، لكنّه ـ بناءً على الجواز وعدم تحقّق الإضافة ـ وقع النزاع في جواز الطواف بالنسبة إلى محلّ يكون أعلى من البيت . وأمّا إذا ذهبنا إلى عدم جواز الإضافة إلى البيت ، فالظاهر عدم الخلاف في عدم الجواز بالنسبة إلى ما يكون فوق الكعبة .

والظاهر جواز الإضافة ; فإنّه مضافاً إلى الأصل، وإلى أنّ البيت كسائر الأمكنة والأبنية ، فكما تجوز الإضافة مثلاً إلى المسجد، كذلك تجوز إلى نفس البيت ، ولاينبغي التوهّم أنّه من الاُمور التوقيفيّة، كالأحكام التعبّدية ـ يدلّ عليه بعض الروايات :

منها: ما ذكره عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن سعيد بن جناح ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كانت الكعبة على عهد إبراهيم (عليه السلام) تسعة أذرع ، وكان لها بابان ، فبناها عبدالله بن زبير فرفعها ثمانية عشر ذراعاً ، فهدمها


(1) مجمع الفائدة والبرهان 7 : 85 ، ذخيرة المعاد : 628 ، رياض المسائل 6: 536، مستند الشيعة 12 : 75 ، جواهر الكلام 19: 298 ، المعتمد في شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي) 29: 45.

صفحه 407

الحجّاج وبناها سبعة وعشرين ذراعاً(1) .

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ عدم ردع الإمام (عليه السلام) عن ازدياد ارتفاع الكعبة من قبل ابن الزبير ثمّ ا لحجّاج يدلّ على جواز الإضافة من جهة الارتفاع إلى البيت .

إلاّ أنّ الرواية غير معتبرة من جهة اشتمالها على أحمد بن محمّد ـ وهو مشترك بين جماعة ـ وسعيد بن جناح; فإنّه وإن كان مورداً لتوثيق النجاشي(2)، وموجوداً في أسناد كامل الزيارات(3)، إلاّ أنّه لم يعلم المروي عنه ، ومعه لايصحّ الاستناد إلى الرواية المذكورة .

جريان البحث في الطواف الواجب والمندوب

الثالث: الظاهر عدم اختصاص النزاع بالطواف الواجب ، بل يجري في الطواف المندوب أيضاً ، كما أنّه على القول بوجود حدّ للمطاف ، وهو ما بين البيت والمقام ، لاشكّ في لزوم مراعاته في الطواف المندوب .

ويدلّ عليه إطلاق ما دلّ على الحدّ، وأنّ الطائف الخارج عن هذا الحدّ ليس بطائف(4) ، والانصراف إلى الواجب لا وجه له أصلاً ، كما أنّه لا دليل على تقييد الإطلاق في المقام .

نعم،يستفادمن بعض الأدلّة أنّه فرق بين الطواف الواجبوالمندوب،أهمّهاما يلي:


1 . الكافي 4: 207 ح7 ، وعنه وسائل الشيعة 13 : 213 ، كتاب الحجّ ، أبواب مقدّمات الطواف ب11 ح7. ولكن أحمد بن محمّد في هذه الطبعة إمّا ابن عيسى وإما ابن خالد، وكلاهما من الأجلاّ الثقات.
(2) رجال النجاشي : 191 ، الرقم 512.
(3) كامل الزيارات : 214 ب36 ح1.
(4) الكافي 4 : 413 ح1، تهذيب الأحكام 5 : 108 ح351 ، الفقيه 2 : 249 ح1200، وعنها وسائل الشيعة 13: 350 ـ 351 ، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب28 ح1 و 2.

صفحه 408

أ ـ عدم لزوم الطهارة في الطواف المستحبّ(1)، كما تدلّ عليه الروايات المعتبرة:

منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهما (عليهما السلام) عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهور؟ قال: يتوضّأ ويعيد الطواف، وإن كان تطوّعاً توضّأ وصلّى ركعتين(2)، خلافاً لأبي الصلاح(3); فإنّه ذهب إلى وجوبها فيه أيضاً; لإطلاق بعض النصوص.

ب ـ جواز قطع الطواف المندوب عمداً على قول جمع(4).

ج ـ كراهة الزيادة على السبع في الطواف المندوب بخلاف الواجب(5).

لزوم دخول جميع أجزاء البدن في المطاف، وعدمه

الرابع: هل يجب دخول جميع أجزاء بدن الطائف في المطاف ؟ وهل يكفي دخول معظم أجزائه بحيث يصدق عرفاً أنّه يطوف، أم لا؟

الظاهر كفاية الصدق العرفي في ذلك ، والعرف يحكم بأنّه إذا كان معظم أجزائه داخلاً في المطاف ، يصحّ طوافه وإن كان رأسه مثلاً أعلى من البيت ، ولا دليل على لزوم كون جميع الأجزاء داخلة فيه ، وقد صرّح صاحب الجواهر في مسألة الاستقبال: بأنّه يكفي صدق الاستقبال وإن خرج بعض أجزاء البدن عن جهة الكعبة ، ولا يلزم في صدقه كون جميع أجزاء البدن داخلاً في جهة القبلة ، وهذا


(1) شرائع الإسلام 1 : 267 و 270.
(2) الكافي 4 : 420 ح3 ، تهذيب الأحكام 5 : 116 ح380 ، الاستبصار 2 : 222 ح764، الفقيه 2 : 250 ح1202، وعنها وسائل الشيعة 13: 374، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب38 ح3.
(3) الكافي في الفقه: 195.
(4) مسالك الأفهام 2 : 328 و 336 ، جواهر الكلام 19 : 340، وسائل الشيعة 13: 382، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب42.
(5) شرائع الإسلام 1 : 267 ، وسائل الشيعة 13: 363 ، أبواب الطواف ب34.

صفحه 409

معناه: أنّ المولى إذا أمر بالاستقبال كفى في الامتثال تحقّق هذا العنوان عرفاً، وصدقه في الخارج كذلك .

وهذه عبارته، قال:«وكيفيّة استقبالها أمرعرفيّ لامدخليّة للشرع فيه ، والظاهر تحقّق الصدق وإن خرج بعض أجزاء البدن التي لامدخليّة لها في صدق كون الشخص مستقبلاً، وحالته استقبالاً، من غير فرق في ذلك بين القريب والبعيد ، لكن في القواعد: أنّه لو خرج بعض بدنه عن جهة الكعبة بطلت صلاته(1)، بل قيل(2): إنّه كذلك ، في نهاية الإحكام(3)، والتحرير(4)، والتذكرة(5)، والذكرى(6)، والبيان(7)، والموجز(8)،وكشف الالتباس(9)،وجامع المقاصد(10)،وفوائدالقواعد(11) ـ إلى أن قال: ـ

والتحقيق عدم اشتراط ما يزيد على صدق الاستقبال ; للأصل وإطلاق الأدلّة والسيرة القطعيّة في استقبال القبلة، ودعوى توقّف الصدق المزبور على الاستقبال بجميع أجزاء البدن يكذّبها الوجدان فيما لم يذكر فيه متعلّق الأمر بالاستقبال جميع البدن، بل اقتصر على قوله: استقبل»(12) ،(13).


(1) قواعد الأحكام 1: 251.
(2) القائل هو العاملي في مفتاح الكرامة 5: 283 ـ 284.
(3) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1 : 392 ـ 393.
(4) تحرير الأحكام 1 : 185.
(5) تذكرة الفقهاء 3 : 11.
(6) ذكرى الشيعة 3 : 170.
(7) البيان: 114.
(8) الموجز الحاوي (الرسائل العشر لابن فهد الحلّي): 66.
(9) حكى عنه في مفتاح الكرامة 5 : 284، وجواهر الكلام 7 : 329 (ط ق) 528 (ط ج).
(10) جامع المقاصد 2 : 51.
(11) فوائد القواعد للشهيد الثاني: 150.
(12) وسائل الشيعة 4 : 49 ، كتاب الصلاة ب13 ح13 وج5: أبواب أفعال الصلاة ب1 ح1 و...
(13) جواهر الكلام 7 : 329 ـ 330.

صفحه 410

والظاهر أنّ الطواف كالاستقبال ; فإنّ امتثال قوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَطَّوَّفُوا) (1)يكفي فيه صدق الطواف العرفي ، ولا يعتبر فيه أن يكون جميع أجزاء الطائف داخلاً في المطاف، بحيث لو كان رأسه أو يده مثلاً خارجاً عن حدّ المطاف لكان مخلاًّ بطوافه ، ومن الواضح عدم ثبوت حقيقة شرعيّة لهذا المفهوم ، كما أنّه ليس من الموضوعات التي تصرّف فيها الشارع المقدّس ، وأنّه ليس عنده كيفيّة خاصّة من جهة أصل العمل فيه وإن أضاف إليه بعض الشرائط، كالطهارة، والبدو من الحجر الأسود والختم به .

نعم ، لا ثمرة لهذا البحث بعد الذهاب إلى التوسعة، والقول بأنّ ما علا الكعبة محكوم بحكم البيت ويجوز الطواف حوله ; إذ عليه تكون أجزاء الطائف داخلةً على الدوام ، ولا معنى لخروج بعضها .

حكم البناء في مكّة المكرّمة مرتفعاً عن البيت

الخامس: ورد النهي في الروايات عن البناء في مكّة مرتفعاً عن الكعبة .

منها: ما ذكره محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى العطّار ، عن محمّد بن الحسين ، عن علي بن الحكم ، وصفوان جميعاً ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:ولاينبغي لأحد أن يرفع بناءً فوق الكعبة(2) .

والرواية معتبرة من جهة السند ; فإنّ المراد من محمّد بن الحسين هو محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب على ما استظهره السيّد الخوئي(3) ، وهو ثقة جليل ، وعلي


(1) سورة الحجّ 22: 29.
(2) الكافي 4: 230 ح1، الفقيه 2: 165 ح714 ، علل الشرائع: 446 ح4، تهذيب الأحكام 5: 448 ح1563 وص463 ح1616، وعنها وسائل الشيعة 13: 233 ، كتاب الحجّ، أبواب مقدّمات الطاف ب16 ذح 5 وص235 ب17 ح1.
(3) معجم رجال الحديث 15: 290.

صفحه 411

ابن الحكم أيضاً ثقة ، وصفوان وإن كان مشتركاً بين صفوان بن مهران وصفوان ابن يحيى، إلاّ أنّ كليهما ثقتان ، والمراد من العلاء هو علاء بن رزين; وهو ثقة جليل القدر .

ومنها: ما ذكره المفيد في المقنعة قال: نهى (عليه السلام) أن يرفع الإنسان بمكّة بناءً فوق الكعبة(1) .

وبعد الاختلاف في أنّه هل هو محمول على الحرمة، أو دالّ على الكراهة كما يستفاد من عنوان الباب الموجود في الوسائل ، يوجد سؤال آخر، وهو: هل النهي في هذا النصّ شامل لجميع الأبنية الواقعة في مكّة حتّى المسجد الحرام; بمعنى أنّ الشارع نهى أن يرفع بناء فوق الكعبة لشرافتها ، فلايجوز البناء حتّى داخل المسجد، بحيث يصير مرتفعاً عنها، أو أنّ النهي مختصّ بالأبنية التي يصطنعها الناس لأنفسهم ، ومن ثمّ فتكون الروايات منصرفة عن نفس المسجد؟

الظاهر عدم الانصراف; لعدم وجه له، والإنصاف ظهور الكلام في الإطلاق، سيّـما بالنسبة إلى كون لفظ «بناء» نكرة في سياق النفي أو النهي «نهى أن...» ، ويؤيّده قرينة مناسبة الحكم والموضوع; فإنّ شرافة الكعبةوعظمتها يجب أن تحفظ بالنسبة إلى كلّ شيء حتّى بلحاظ البناء الموجود داخل المسجد.

فبناءً على الإطلاق يمكن أن يقال بعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل الموجود فعلاً ; فإنّه بعد التحقيق والسؤال; ظهر في زماننا هذا كونه مرتفعاً عن البيت بمقدار سبعة وعشرين سانتمتراً .

والدليل على ذلك: أنّ الشارع إذا نهى عن البناء نفهم بالملازمة العرفيّة عدم صحّة الطواف منه، أو نفهم عدم جواز كون الإنسان أيضاً مرتفعاً عن الكعبة .

هذا ، والإنصاف أنّ هذه الروايات لا تشمل صورة ما إذا كان نفس الإنسان


(1) المقنعة : 444 ، وعنه وسائل الشيعة 13 : 236 ، كتاب الحجّ، أبواب مقدّمات الطواف ب17 ح3.
صفحه 412

مرتفعاً عن البيت حال الطواف ; فإنّ موردها الأبنية الثابتة لا المتحرِّكة ، فلا تشمل الإنسان نفسه في دورانه حوله مرتفعاً عنه .

كما أنّ شرافة البيت ـ التي هي الحكمة الأصليّة لهذا الحكم ـ لا تشمل ما يتعلّق بهذا البيت من الأبنية الموجودة في المسجد، ممّا هو من شؤونه .

الطواف من الطابق الأعلى من البيت

السادس: وهو المهمّ في المقام ، وحاصله: أنّه قد اشتهر في ألسنة الفقهاء ، بل صار أمراً مجمعاً عليه بينهم ، بل بين المسلمين، كما صرّح به كاشف الغطاء(1); أنّ القبلة تمتدّ محاذية للكعبة علواً وسفلاً من تخوم الأرض إلى أعلى السماء، فالمتوجّه إليه مستعلياً على البنية إلى السماء، أو منخفضاً عنها إلى الثرى مستقبل لها ، ولا مدار على بنيانها، والظاهر أنّ أوّل من صرّح به هو الشهيد الثاني في المسالك(2)، ثمّ تبعه صاحب المدارك(3) ، وتبعهما جميع من تأخّر عنهما إلى زماننا هذا ، إلى أن صار أمراً مسلَّماً عند الجميع(4) .

لكنّ السؤال يكمن في أنّ الطواف هل هو ملحق بالاستقبال ، بحيث يكون الفضاء الموجود فوق البيت وتحت الأرض ملحقاً به ، فيجوز الطواف حوله، أم لا؟ وبعبارة اُخرى: هل أنّ الطواف حول الفضاء طواف حول البيت، أم لا؟ ومن ثمّ لايكون ملحقاً، بل ذاك الحكم مختصّ بالاستقبال؟

الظاهر أنّ المستفاد من الروايات عدم اختصاصه بالاستقبال ; فإنّ بعضها


(1) كشف الغطاء 3 : 100.
(2) مسالك الأفهام 1 : 152.
(3) مدارك الأحكام 3 : 121 ـ 122.
(4) الحبل المتين 2: 230 ـ 231 ، ذخيرة المعاد : 215 ، الحدائق الناضرة 6 : 377 ، غنائم الأيّام 2: 367، جواهر الكلام 7 : 320 ، مصباح الفقيه 10 : 40 ، مستمسك العروة الوثقى 5 : 174.

صفحه 413

يدلّ بالإطلاق على جواز الطواف حول الفضاء أيضاً ، فقد روى الصدوق مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) قال: أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا(1) .

وهذه الرواية وإن كانت مرسلة، إلاّ أنّ هذا النوع من الإرسال غير مضرّ على ما حقّق في محلّه .

كما أنّ دلالتها أيضاً واضحة ; فإنّ قوله (عليه السلام) : «أساس البيت» لا يختصّ بالاستقبال ، بل يشمل الطواف أيضاً ، ولا قرينة في الرواية على اختصاصه بالاستقبال . نعم ، لا يدلّ على كون الفوق ملحقاً بالبيت ، وإنّما يدلّ على أنّ ما تحت البيت من الأرض السفلى إلى الأرض العليا من البيت ، إلاّ أن يقال: إنّ كلمة الأرض لا يراد بها الأرض في قبال السماء ، بل يراد من الأرض السفلى والعليا الامتداد من جهة الفوق والتحت ، ومعه فيكون التعبير كناية عن هذا الأمر .

وقد ورد في بعض الروايات الواردة في ذيل الآية الشريفة: (اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَ ت وَ مِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ) (2) ، أنّ المراد من الأرض العليا هي الأرض السابعة فوق السماء السادسة ، فقد روى العيّاشي بإسناده عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: بسط كفّه ثمّ وضع اليمنى عليها، فقال: هذه أرض الدُّنيا والسماء الدُّنيا عليها قبّة ، والأرض الثانية فوق السماء الدُّنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية ، والسماء الثالثة فوقها قبّة ، حتّى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة ، فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة ، والسماء السابعة فوقها قبّة ، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة ، وهو قوله: ـ تعالى


(1) الفقيه 2 : 160 ح690 ، وعنه وسائل الشيعة 4 : 339 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب18 ح3.
(2) سورة الطلاق 65 : 12 .

صفحه 414

ـ (سَبْعَ سَمَـوَ ت وَ مِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ) (1) .

فهذه الرواية صريحة في الامتداد والتوسعة من جهة الفوق والتحت معاً .

وكيف كان ، فلاشكّ في أنّ هذا التعبير إنّما هو كناية عن الامتداد .

وفي بعض الروايات الواردة في القبلة إشارة إلى الفوق أيضاً، كما في خبر عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سأله رجل قال: صلّيت فوق أبي قبيس العصر، فهل يجزئ ذلكوالكعبة تحتي؟ قال:نعم ، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء (2).

وبعد انضمام هذه الرواية إلى المرسلة ـ مع قطع النظر عن الرواية المذكورة عن العيّاشي ـ نفهم أنّ البيت ممتدّ من الجانبين، ولا يختصّ بالبناء الموجود هذا .

بل يمكن أن نضيف بأنّ التوسعة من جانب التحت فقط دون الفوق ، ووجود الفرق بينهما من هذه الجهة بعيد جدّاً، وغريب حقّاً ، ولا يكون الخبر قرينة على كون المراد من المرسلة القبلة والاستقبال فقط; لعدم جريان التقييد في المثبتين .

اشكالات وأجوبة

إن قلت: إنّ أدلّة الطواف ظاهرة في وجوب كون الطواف محاذياً لنفس البيت ; فإنّ قوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (3) ظاهر في لزوم كون الطواف بنفس البيت لا بفضائها ، والعودة إلى اللغة ـ سيّـما بالنسبة إلى التعبير بكلمة الحول في بعض الروايات(4) ـ تؤيّد ذلك ، وظاهر «طاف بالمكان» يعني أنّه جعل المكان في


(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 10 : 44 ـ 45 ، البرهان في تفسير القرآن 5 : 415 ح2.
(2) تهذيب الأحكام 2 : 383 ح1598 ، وعنه وسائل الشيعة 4 : 339 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب18 ح1.
(3) سورة الحجّ 22 : 29.
(4) وسائل الشيعة 5: 60 ، كتاب الصلاة ، أبواب الملابس ب31 ح10، وج13: 210، كتاب الحجّ، أبواب مقدّمات الطلاق ب11 ذح 2 ، و ص 265 ب30 ح1 و ص391، أبواب الطواف ب47 ح8 وص420 ب67 ح2 وغيرها.

صفحه 415

وسطه، لا فوقه ولا تحته .

قلت: نعم ، وإن كان الظاهر كذلك ، إلاّ أنّ الرواية حاكمة، ومفسِّرة للأمر الذي يوجب التوسعة ، كما أنّ الأدلّة الواردة في الاستقبال ظاهرة في لزوم كون الصلاة محاذية لنفس البيت ، ولا أقلّ لمن كان في المسجد ، والرواية توجب التوسعة في ذلك ، ومن البعيد جدّاً وجود الفرق بين الاستقبال والطواف مع كون التكليف فيهما إلى البيت .

إن قلت: يستفاد من بعض الآيات الشريفة أنّ الواجب على المصلّي أن يجعل وجهه شطر المسجد الحرام ، كقوله ـ تعالى ـ : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِوَ حَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) ، ومعنى ذلك: أنّه لا مدخليّة لنفس البيت ، مع أنّ التكليف في الطواف لا يكون إلى المسجد، بل بالبيت ، لقوله ـ تعالى ـ : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (2) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَ عَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَ هِيمَوَ إِسْمَـعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّـآئِفِينَ) (3) ، ومن الواضح أنّ المراد من البيت في الآية الكعبة لا المسجد .

قلت: ـ مضافاً إلى أنّ هذا التعبير إنّما جاء في قبال بيت المقدس، ولزوم الانصراف عنه، والتوجّه إلى المسجد الحرام ـ لاشكّ في أنّه من كان داخلاً في المسجد يجب عليه أن يتوجّه إلى البيت ، ولايجوز أن يصلّي إلى المسجد ، وعنوان المسجد الحرام في الآيات الشريفة إشارة إلى البيت ، ولا مدخليّة لنفس المسجد .

نعم، ذهب الكثير أو الأكثر ، بل حكي عن مجمع البيان نسبته إلى أصحابنا(4) ،


(1) سورة البقرة 2 : 144 .
(2) سورة الحج 22 : 29 .
(3) سورة البقرة 2 : 125 .
(4) مجمع البيان 1 : 384 .

صفحه 416

وادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع عليه(1) ، وهو: أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لمن خرج عنه ، ولكن لاترديد في أنّ البيت قبلة لمن كان في المسجد .

وكيف كان ، فالظاهر عدم الفرق بين الاستقبال والطواف من هذه الجهة ، والشاهد على ذلك أنّه لو اُزيل البناء تصحّ الصلاة إلى الفضاء ، ولا تصحّ إلى البناء الزائل ، وأيضاً يجوز الطواف حول الفضاء الموجود، ولايسقط وجوبه في هذا الفرض .

نعم ، هذه التوسعة إنّما هي في الطواف ، ولا تجري في السعي ، فلا يتوهّم أنّه كما يجوز الطواف فوق الكعبة، يجوز السعي أيضاً من الفوق ; فإنّ السعي لابدّوأن يكون بين الجبلين لا فوقهما ، ولا دليل على أنّ الفوق فيه ملحق بالبين ، إلاّ أن يقال: إنّ البين ليس مقابلاً للفوق ، بل المراد كون السعي في هذا الحدّ بدواً وختماً ، وهو كما ترى .

إن قلت: ورد في بعض الروايات(2) أنّ الملائكة ينزلون إلى الأرض ويطوفون حول البيت ، أليس هذا شاهداً على أنّ الملاك في الطواف نفس البيت، وإلاّ لما احتاجوا إلى النزول؟

قلت: كلاّ ، لا يثبت بهذا ذاك ، بل يمكن أن يكون نزولهم لاشتراكهم مع المؤمنين، وجعل أنفسهم في صفّهم، هذا أوّلاً ، وثانياً: لا ينكر رجحان الطواف بنفس البيت من باب أنّ الأقرب إليه يكون أكثر ثواباً ، وأيضاً من جهة أنّ الموجود


(1) الخلاف 1 : 295 مسألة 41 .
(2) الكافي 4 : 195 ح2، علل الشرائع : 420 ح3 ، ثواب الأعمال : 121 ح46، تفسير العيّاشي 1: 37 قطعة من ح21، وعنها وسائل الشيعة 13 : 210 ، كتاب الحجّ ، أبواب مقدّمات الطواف ب11 ذح2 وج14: 421، أبواب المزار ب37 ح29، ومستدرك الوسائل 9 : 338 ، كتاب الحجّ ، أبواب مقدّمات الطواف ب12 ح5.

صفحه 417

والمحسوس هو الطواف حول هذا البيت ، وربما يكون هذا موجباً لكون القرب إليه أكثر ثواباً .

إن قلت: إذا كان البيت ممتدّاً حتّى من جهة الطواف ، فما معنى استلام الحجر، أو الركن اليماني؟!

قلت: يمكن استلام الحجر بالإشارة إلى محاذيه ، وكذا الحال في الركن اليماني ، وكيف كان ، فنحن نلتزم بصحّة الطواف من الفوق ، وهذه الاُمور لا توجب رفع اليد عنه .

إن قلت: إنّ العرف يساعدنا في ذلك بالنسبة إلى الاستقبال ، لكنّه لا يوافقنا في الطواف ; بمعنى أنّ الاستقبال إلى الفضاء لا نقص فيه عند العرف، بل هو مقبول عندهم ، بخلاف الطواف فيه ; إذ لا يعدّ عنده طوافاً .

قلت: أوّلاً: نحن لا نوافق في ذلك ، بل ندّعي أنّ العرف لا يفرّق بينهما من هذه الجهة، فيصدق الطواف على الطائف من الفوق عرفاً ، والظاهر عدم وجود مسامحة عرفيّة في هذا الصدق ، وإن كان الصدق ـ ولو بالمسامحة العرفيّة ـ كافياً في حكم العقل بامتثال الأمر ، ألاترى أنّه إذا أمر المولى بإتيان الماء، فأتاه العبد بالمائع المسمّى عند العرف «ماءً» مسامحةً وإن لم يكن بالدقّة العقليّة ماءً، تحقّق الامتثال وكفى .

وثانياً: بعد التسليم نقول: إنّ الشارع قد خالف العرف في هذه الجهة، فجعل البيت فوقاً وتحتاً بيتاً تجوز الصلاة والطواف نحوه مطلقاً، دون أن يكون للبناء مدخليّة فيه عند الشارع . نعم، الظاهر انعقاد الإجماع بين الفريقين على عدم جواز الطواف خارج المسجد، بخلاف الاستقبال ، فالفرق بينهما من هذه الجهة ممّا لاينكر ; بمعنى: أنّه يجب أن يكون الطواف داخلاً في المسجد ، إمّا ما بين البيت


صفحه 418

والمقام، كما ذهب إليه المشهور(1)، أو في المسجد مطلقاً ، كما صرّح به العامّة(2)وبعض علماء الشيعة(3)، ولكن رعاية الحدّ وعدمها أمر آخر غير ما نحن فيه . والنتيجة التي يمكن الخروج بها: أنّه مع قطع النظر عن الرواية المرسلة الدالّة بالإطلاق على صحّة الطواف والصلاة حول الفضاء وتحت الأرض ، يمكن أن يقال:

إنّ المستفاد من أدلّة القبلة والطواف، ووحدة التعبير في كليهما ـ حيث جعلالملاك في كلّ واحد منهما البيت ـ أنّه كما يكون الفوق صالحاً للاستقبال، يكون صالحاً للطواف أيضاً ، ولولا هذه الرواية لأمكن أن يقال: بأنّ هذا أمر عرفيّ لا ريب فيه .

ومراجعة الأسئلة الواردة في الروايات تشعر بذلك ; فإنّ الناس كانوا يصلّون ارتكازاً فوق جبل أبي قبيس ، فهم وإن سألوا بعد العمل، إلاّ أنّ عملهم هذا كان مطابقاً لارتكازهم .

هذا كلّه، مضافاً إلى عموم التنزيل المستفاد من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : الطوافبالبيت صلاة (4); فإنّه دالّ على أنّه كما يمتدّ البيت في الصلاة علوّاً وسفلاً، فكذلك في الطواف.

والدليل على عموم التنزيل: أنّه قد استثنى في الرواية مورداً واحداً وقال: «إلاّ أنّ الله تعالى أحلَّ فيه النطق»، وهذه الرواية وإن كانت غير مسندة من طرقنا سوى


(1) تقدّم في ص406.
(2) المغني لابن قدامة 3 : 388 ، الشرح الكبير 3 : 390.
(3) الفقيه 2 : 249 ح1200 ، كما استظهر في مدارك الأحكام 8 : 131 وذخيرة المعاد : 628.
(4) سنن الدارمي 2 : 32 ح1848 ، سنن النسائي 5 : 222 ، المعجم الكبير للطبراني 11: 29 ح10955، السنن الكبرى للبيهقي 7 : 190ـ 192 ح9384ـ9388 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 630 ح1686 ، وج2 : 293 و 294 ح3056 و 3058، عوالي اللئالي 1 : 214 ح70 وج2 ص167 ح3، وعنه مستدرك الوسائل 9 : 410 ، كتاب الحجّ، أبواب الطواف ب38 ح2.

صفحه 419

ما عن عوالي اللئالي، إلاّ أنّ جمعاً من كبار الفقهاء قد استند إليها واستدلّ بها:

فقد استدلّ الشيخ بها في الخلاف(1)، والعلاّمة في المختلف في باب وجوب القيام في الطواف، وقال: قد ثبت وجوب القيام في الصلاة فكذا فيه(2)، وكذا في المنتهى في شرطيّة الطهارة قال: الطهارة شرط في الطواف الواجب، وفي شرطيّة الستر، فقال: الستر شرط في الطواف(3).

وحكي عن ابن إدريس الفتوى على طبقها، مع كونه ممّن لايعمل بالخبر الواحد(4).

واستدلّ بها الشهيد الثاني في المسالك، مصرّحاً بالإطلاق، حيث قال: مستند ذلك إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله) : الطواف بالبيت صلاة. خرج منه ما أجمع على عدم مشاركته لها فيه، فيبقى الباقي(5).

وقال في الروض: الطواف بالبيت صلاة، فيشترط فيه ما يشترط فيها، إلاّ ما أخرجه الدليل(6).

وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ التشبيه يقتضي الشركة في جميع الأحكام، ومنها هنا الطهارة من النجاسة(7).

نعم، خالفهم سيّد المدارك، حيث ذهب إلى أنّ سند الرواية قاصر، ومتنها مجمل(8).


(1) الخلاف 2 : 323 مسألة 129.
(2) مختلف الشيعة 4: 201 مسألة 156.
(3) منتهى المطلب 10: 313 ـ 314 و 316.
(4) اُنظر مجمع الفائدة والبرهان 7: 70، و رياض المسائل 6: 523 ـ524، والسرائر 1 : 574 .
(5) مسالك الافهام 2 : 339.
(6) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 1: 53.
(7) رياض المسائل 6 : 523.
(8) مدارك الأحكام 1 : 12، وكذا المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 1: 65، حيث قال: هو ـ أي الحديث ـ غير صحيح ولا صريح، وج 7: 69، حيث قال: وأنت تعلم عدم صحّة الخبر; فإنّه ذكر في كتب الاستدلال بغير سند، وما رأيته مسنداً في الاُصول، ثمّ قال: وسيجيء ـ أي في ص 72 و 73 ـ منع حجيّته عن المصنّف في المختلف 4: 315 مسألة 168.

صفحه 420

ولكن يمكن أن يُقال : إنّه يستفاد العموم من نفس التنزيل والتشبيه ; بمعنى أنّ هذا الأمر لو خلّي وطبعه يقتضي العموم ، حتّى لو لم يكن استثناء في الرواية يستفاد هذا العموم أيضاً . نعم ، إنّ الاُمور التي قام الدليل على أنّها مختصّة بالصلاة، يستثنى من هذا العموم.

إن قلت: إنّ الرواية واردة في مقام بيان التنزيل من بعض الجهات ، وهذه الجهة لم تكن واضحة ، فتصير مجملة، مضافاً إلى أنّه لو قلنا بالتعميم يلزم كثرة التخصيص ، وهو مستهجن.

قلنا: إنّ الإطلاق في الرواية مُحكَّمٌ يرفع الإجمال.

وأمّا تخصيص الأكثر ، فلا يكون في حدّ الاستهجان.

وكيف كان، لا ريب في استناد المشهور إلى الرواية، وعليه ينجبر ضعفها، فما ورد من السيّد الخوئي; من أنّه لم يعلم استناد المشهور إليه(1) غير تامّ، وقد صرّح السيّد الحكيم بالانجبار(2).

هذا، وقد ورد من طرق الإماميّة عن معاوية بن عمّار، عن الصادق (عليه السلام) قال: لابأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلاّ الطواف; فإنّ فيه صلاة، والوضوء أفضل(3).

وقد استشعر صاحب الجواهر من هذا الخبر; أنّ أصل المرسل المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله) هكذا: «في الطواف بالبيت صلاة» وقد أسقط من أوّله لفظ (في) فظنّ أنّه


(1) المعتمد، في شرح المناسك (موسوعة الإمام الخوئي) 29 : 37 ـ 38.
(2) دليل الناسك : 245.
(3) تهذيب الأحكام 5 : 154 ح509، الاستبصار 2: 241 ح8415 ، وعنهما وسائل الشيعة 1 : 374 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب5 ح1، و ج13: 493، كتاب الحجّ، أبواب السعي ب15 ح1.

صفحه 421

من التشبيه(1).

وفي الاستشعار إشكال، بل منع; لأنّه في بعض الروايات ـ كما أشرنا إليه ـ قد استثنى منه النطق، فقال: «إلاّ أنّ الله أحلّ فيه النطق»، ولعلّه من هذه الجهة استدلّ هو نفسه بهذه الرواية في مواضع عديدة من كتابه، من دون كلمة «في»(2)، فتدبّر.

هذا كلّه، مضافاً إلى أنّه لو كان الطواف مرتفعاً عن الكعبة غير جائز، لصار هذا أيضاً حدّاً من جهة الارتفاع ، ولكان اللاّزم على الشارع ذكره، كما ذكر الحدّ في جهة المساحة ومحيط الدائرة الأرضيّة ، فمن عدم البيان بالنسبة إلى هذه الجهة نستكشف صحّة العمل .

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ عدم البيان إنّما كان من جهة عدم الموضوع الخارجي في ذلك الزمان، وهو كما ترى .

الطواف من الطابق الأوّل عند السنّة

وممّا ذكرنا ظهر ضعف ما حكي عن الشافعي; فإنّه قال: فإن جعل سقف المسجد أعلى لم يجز الطواف على سطحه(3)، ويستفاد من صاحب الجواهر مخالفته له في ذلك ، وقال: مقتضاه كما عن التذكرة(4) أنّه لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصحّ الطواف حول عرصتها، وهو بعيد، بل باطل(5) .

والظاهر ذهاب صاحب الجواهر أيضاً إلى صحّة الطواف من السطح وإن كان أعلى من البيت .


(1) جواهر الكلام 1: 13 ـ 14.
(2) جواهر الكلام 2 : 8 ، وج18 : 58 وج19 : 270 ، 271 ، و ج35 : 360.
(3) المجموع 8 : 43 ، العزيز شرح الوجيز 3 : 395.
(4) تذكرة الفقهاء 8 : 93.
(5) جواهر الكلام 19 : 298 ـ 299.

صفحه 422

والذي يبدو أنّ أكثر العامّة قائلون بصحّة الطواف فيما إذا كان مرتفعاً عنالبيت ، فقد قال النووي: قالوا: ويجوز ـ أي الطواف ـ على سطوح المسجد إذا كان البيت أرفع بناءً من المسجد، كما هو اليوم ، قال الرافعي: فإن جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة، فقد ذكر صاحب العدّة أنّه لايجوز الطواف على سطح المسجد ، وأنكره عليه الرافعي وقال: لو صحّ قوله لزم منه أن يقال: لو انهدمت الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لم يصحّ الطواف حول عرصتها، وهو بعيد(1) .

وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب ، وقد جزم القاضي حسين في تعليقه: بأنّه لو طاف على سطح المسجد صحّ وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة ، ثمّ أضاف قاعدةً كلّيّةً; وهي: أنّه لو وسّع المسجد اتّسع المطاف ، وقال: اتّفق أصحابنا على ذلك»(2) .

وقال الزحيلي: ويصحّ على سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت(3) .

فروع ملحقة:

الأوّل: الطواف في المكان المرتفع من البيت قليلاً

ثمّ إنّه ـ مع قطع النظر عن التوسعة، وبناءً على عدمها، ولزوم الاقتصار على البيت ـ يمكن أن يقال: الظاهر عند العرف أنّ الارتفاع القليل بمقدار متر، أو مترين لا يخرجه عن الطواف حول البيت ، فيصحّ الطواف انطلاقاً من الصدق العرفي .

الثاني: شمول الحكم لحال الاضطرار، وعدمه

ثمّ إنّه يظهر أيضاً أنّ صحّة الطواف فيما إذا كان أعلى من الكعبة ليستمختصّةً بحال الاضطرار ، بل من يقول بعدم وجود حدّ للمطاف يصحّ له القول بذلك


(1) العزيز، شرح الوجيز 3 : 395.
(2) المجموع 8 : 43.
(3) الفقه الإسلامي وأدلّته 3 : 159.

صفحه 423

مطلقاً، والله العالم .

الثالث: الاستنابة ومشروعيّتها

الظاهر أنّه لا تصل النوبة إلى الاستنابة إلاّ على قول من يذهب إلى وجود حدّ للمطاف ; إذ يلزمه طبعاً الإفتاء بلزوم الاستنابة، وعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل ، لا من جهة كونه أعلى من البيت، بل من جهة كونه خارجاً عن حدّ المطاف .

ويأتي هنا بحث، وهو: أنّه على القول بوجود الحدّ إذا أمكنت الاستنابة وجبت عليه ، وأمّا إذا لم يمكن، وعلم الحاجّ ـ ابتداءً قبل الشروع في الإحرام ـ أنّه غير قادر على الطواف لا بنفسه ولا بالاستنابة ، فهل يكون إحرامه صحيحاً، أم لا؟

يمكن أن يقال بعدم وجوب الحجّ في هذا الفرض; إمّا من جهة أنّ عدم القدرة على الجزء أو الشرط، موجب لعدم القدرة على المركّب أو المشروط، فيسقط وجوب الحجّ لأجل عدم توجّه التكليف والخطاب نحو المخاطب ، بناءً على ما أسّسه المحقّق النائيني من أنّ شرطيّة القدرة تستفاد من اقتضاء الخطاب لا من حكم العقل(1) ، أو أنّ عدم القدرة على الجزء أو الشرط موجب لكون توجّه التكليف إليه قبيحاً على مبنى المشهور: القاضي بحكم العقل بقبح تكليف العاجز ، كلّ ذلك بناءً على شرطيّة القدرة في التكليف; إمّا من اقتضاء نفس الخطاب، أو من حكم العقل .

وأمّا بناءً على عدم شرطيّة القدرة فيه، والقول بأنّ الخطاب يشمل العاجز كما أنّه يشمل القادر ، غايته أنّ العاجز معذور في ترك الامتثال ، وهو ما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني(2) والسيّد الخوئي (قدس سرهما) (3)، فيكون العجز عن الجزء مساوقاً


(1) فوائد الاُصول 1 : 314.
(2) تهذيب الاُصول 1 : 440.
(3) محاضرات في اُصول الفقه (موسوعة الإمام الخوئي) 2 : 344 ـ 345.

صفحه 424

للعجز عن المركّب ، فيكون معذوراً في ترك الامتثال .

وبعبارة اُخرى : الوجوب الواحد في المركّب يسقط بتعذّر جزء من الأجزاء ، فإذا تعذّر أحد الأجزاء يسقط الوجوب عن الباقي بمقتضى القاعدة الأوّليّة . نعم،قد يدلّ الدليل الخاصّ على بقاء الوجوب في الباقي، كما في باب الصلاة .

سوال و جواب

إن قلت: قد حقّق في محلّه أنّ الجامع بين المقدور، وغير المقدور مقدور(1) ، فإذا كان بعض أفراد الطبيعة المأمور بها مقدوراً، ولكن بعضها الآخر غير مقدور، يصحّ التكليف بالطبيعة من هذه الجهة .

قلت: نعم ، هذا الكلام إنّما يجري في الكلّي والفرد، لا في الكلّ والجزء ، والكلام هنا إنّما هو في الثاني ; فإنّ العاجز عن الجزء يكون ـ قهراً ـ عاجزاً عن الكلّ ، فتدبّر .

إن قلت: لا ملازمة بين عدم وجوب الحجّ، وعدم صحّة الإحرام ، فيمكنأن يقال بصحّة إحرامه دون وجوب الحجّ عليه ، والخروج من الإحرام له أسباب يمكن الإتيان بها ، ولم يشترط أحد في صحّة الإحرام إمكان الإتيان ببقيّة الأجزاء في الحجّ .

قلت: إنّ الإحرام أيضاً من أجزاء الحجّ ، فبعد عدم القدرة على جزء من أجزائه تكون بقيّة الأجزاء في حكم غير المقدور ، ولا أقلّ لا تكون مشمولةً للطلب المتوجّه إلى المركّب ، والمفروض عدم المطلوبيّة الاستقلاليّة لكلّ من الأجزاء، فلايصحّ الإحرام أيضاً .

وبهذا ظهر ممّا أسلفناه أنّ العاجز عن الطواف الصحيح المشروع مع


(1) هداية المسترشدين 2 : 364 ، محاضرات في اُصول الفقه (موسوعة الإمام الخوئي) 1 : 538 ، بحوث في الاُصول (مباحث الدليل اللفظي) 2: 323 ، 372 و424.

صفحه 425

عدم إمكان الاستنابة أيضاً يسقط عنه الوجوب ، ولا يجب عليه الحجّ، كما لايصحّ منه الإحرام .

نعم ، لا يخفى أنّ القدرة على العمل كافية ولو من طريق الاستنابة ; فإنّ القادر على الاستنابة في العمل الذي يقبل النيابة قادر على العمل أيضاً ، وعلى هذا يتّضح أنّه لو لم يكن الحاجّ قادراً على الطواف والسعي مثلاً، لكنّه كان قادراً على الاستنابة فيهما، وعلى المباشرة في الصلاة والتقصير، لكان إحرامه وعمرته صحيحين .

خلاصة البحث، ونتيجة الدراسة

1 ـ أنّه بناءً على جواز الإضافة في جهة الارتفاع إلى البيت .

2 ـ وبناءً على عدم شمول النهي الوارد في الروايات عن البناء فوق الكعبة(1)للأبنية المتعلِّقة بالمسجد .

3 ـ وبناءً على عدم اختصاص التوسعة ـ علوّاً وسفلاً ـ بالاستقبال ، بل تجري في الطواف أيضاً بمقتضى إطلاق الرواية المرسلة(2) الواردة في المقام أوّلاً ، وانضمام الروايات(3) الدالّة على أنّ البيت قبلة من جهة الفوق ثانياً ; فإنّ الانضمام يدلّ على التوسعة من جهة الفوق أيضاً ، ومن جهة الصدق العرفي، كالاستقبال ثالثاً ، ووحدة السياق والتعبير في أدلّة الطواف، وأدلّة القبلة ـ من جهة أنّ الملاك فيهما هو البيت ـ رابعاً .

4 ـ وعلى عدم وجود حدّ للمطاف .

نستنتج صحّة الطواف من الطابق الأوّل وإن كان أعلى من البيت ، وهو المستفاد أيضاً من كلمات صاحب الجواهر(4) .


(1) تقدّمت في ص410 ـ 411.
(2 و 3) تقدّمت في ص413 ـ 418.
(4) تقدّمت في ص413 ـ 414.

صفحه 426

كما نستنتج ـ مع قطع النظر عن التوسعة ـ صحّة الطواف وإن كان أعلى من البيت بمقدار متر، أو مترين ; فإنّ هذا المقدار لا يضرّ في صدق الطواف عرفاً حول البيت ، والله العالم .

وبما أنّ هذا البحث جديد، ولم أرَ من تعرّض له سابقاً حتّى بنحو الإشارة، يحتاج ـ طبعاً ـ إلى دقّة كثيرة ، وعلى المحقّقين والفقهاء أن يبحثوا حوله، وينظروا إلى ما قلناه نظراً جامعاً وافياً .


صفحه 427

رسالة في

اعتبار الأجهزة الحديثة
في رؤية الهلال

وقد ألّفت في سنة 1426 هـ . ق


صفحه 430

وقد تركت هذه الفتوى انعكاساً وصدى واسعاً في الخارج والداخل ، سيّما بين العلماء والأكابر ، ولعلّه يمكن أن يقال بأنّه لانجد نظيراً لهذه الفتوى بين المراجع العظام بهذه الصراحة والوضوح قبل هذا ، وقد طلب منّي جمع من الأفاضل على إثر ذلك بيان وتوضيح هذه الفتوى .

وحالفني التوفيق ـ ولله الحمد ـ لبحث هذه المسألة التي هي في عداد المسائل المستحدثة بحثاً استدلاليّاً بحسب ما سنحت به الفرصة، وفي حدود الإمكان ، راجياً من ذوي الرأي ملاحظتها بعين الإنصاف .

تحرير محلّ النزاع

قبل الخوض في الآراء واستعراض الأدلّة يلزم أوّلاً تحرير محلّ النزاع، فنقول :

إنّ للهلال من الناحية التكوينيّة والواقعيّة حالتين :

الاُولى : المقارنة ، وهي عندما يكون الهلال واقعاً تحت ضوء الشمس بحيث لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة إطلاقاً .

الثانية : الولادة ، وهي عندما يخرج القمر من المحاق ومن تحت ضوء الشمس ، ويبدأ بذلك شهر جديد ، وهو ما يعبّر عنه في اللغة والعرف بالهلال .

وبعبارة أخرى : إنّ أوّل زمان الولادة هو أوّل زمان الهلال .

والوارد في لسان الأخبار(1) كملاك للمسألة عبارة عن عنوان مركّب هو « رؤية الهلال » ; وهو مكوّن من « الرؤية» و «الهلال » ، ولابدّ من البحث في كلّ منهما ، وسوف نتناول فيما يلي من البحث عند تعريف الرؤية كيفيّة أخذها في الأخبار، وأنّه هل بنحو الموضوعيّة، أو الطريقيّة ؟ وهل إنّ لها إطلاقاً من جهة


(1) وسائل الشيعة 10: 252، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3.

صفحه 431

السبب أو لا ؟ إنّما المهمّ الآن البحث عن تحديد معنى « الهلال » بمعنى « الشهر الجديد »; أي ولادة القمر وإن كان المستفاد من بعض العبائر(1) إمكانيّة أن يكون ثـمّة فاصل زمنيّ يتخلّل بين زمان الولادة وتحقّق الهلال ، ففي تحقّق الهلال لابدّ من مضيّ مدّة بعد ولادته; لشدّة ضعف نوره ، ولكنّ الظاهر أنّه يتحقّق بداية الشهر بمجرّد ولادة الهلال .

تعريف الهلال

والهلال لغة هو الشهر الجديد وإن كان يطلق لليلتين أو إلى ثلاث ليال هلالاً أيضاً عند البعض(2)، أو إلى سبعة عند آخر (3) .

قال في لسان العرب : الهلال غرّة القمر حين يُهِلُّهُ الناس في غرّة الشهر . وقيل : يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر، ثمّ لا يسمّى به إلى أن يعود في الشهر الثاني . وقيل: يسمّى به ثلاث ليال، ثمّ يسمّى قمراً (4) .

ويتّضح من هذا النصّ أنّ الهلال يصدق على الشهر من أوّل ليلة ومنذ الولادة ; لأنّ ابن ليلتين يعني الليلة الاُولى والثانية ، والنتيجة هي صدق الهلال عليه بخروجه من المحاق ولو لم يره الناس، والتعبير بـ « حين يهلّه الناس » ليس مقوّماً لمعناه ، بل هو من آثاره الغالبة ، والشاهد على ذلك ما ورد في القاموس المحيط من تفسيره الهلال بغرّة القمر (5)، ولم يتضمّن عبارة « حين يهلّه الناس ».

ثمّ قال(6) : قال أبو إسحاق : والذي عندي وما عليه الأكثر أن يسمّى هلالاً


(1) لعلّ المراد هو عبارة أقرب الموارد ولسان العرب الآتيين.
(2 ، 3) منتهى الإرب 4: 1370، أقرب الموارد 2: 1399، لسان العرب 6 : 349، القاموس المحيط 3: 641.
(4) لسان العرب 6 : 349.
(5) القاموس المحيط 3 : 641 .
(6) أي في لسان العرب.

صفحه 432

ابن ليلتين ; فإنّه في الثالثة يتبيّن ضوؤه (1) . وعليه: فإنّ الهلال صادق على بداية ضوء القمر الضعيف ، في حين أنّه لا يغلب على ظلمة السماء .

قال في صحاح اللغة : الهلال أوّل ليلة والثانية والثالثة ، ثمّ هو قمر (2) ، حيث اعتبر أوّل ليلة هلالاً ويصدق عليها عنوان الهلال ، وليس فيها « حين يهلّه الناس » .

وعلى هذا فإنّ للهلال معنى لغويّاً بيّناً ، وإن كان ثـمّة مقولة معروفة عن أبي العبّاس بأنّه قال: وسمّي الهلال هلالاً لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه(3)، إلاّ أنّه لا يمكن اعتبار مثل هذا في الهلال مورد البحث ، أي الموضوع للحكم الشرعي ، بعبارة اُخرى : لا يمكن عدّ ذلك ـ أي صيحة الناس ـ ملاكاً في الهلال ، وإن كان هو الغالب فيه .

نعم ، ورد في صحاح اللغة كما يلي : ويقال أيضاً: استهلّ هو بمعنى تبيّن، ولايقال: أهلّ (4). حيث فسّر الاستهلال بمعنى التبيّن والظهور ، والسبب في ذلك هو أنّه لو استهلّ شخص ولم ير الهلال فلا يصدق على ذلك الاستهلال .

والنقطة الجديرة بالإشارة هي: أنّ الاستهلال في الروايات ليس ملاكاً للحكم وأنّ الملاك هو نفس الهلال ورؤيتة .

النقطة الاُخرى الجديرة بالاهتمام هي: أنّه ولو فرضنا القبول بمدخليّة الظهور ورؤية الناس وصيحتهم لذلك في تحقّق الهلال ، إلاّ أنّه قد ثبت في محلّه(5) أنّه لامدخليّة تامّة لوجه التسمية في صدق العنوان ; بمعنى إمكانيّة أن يصدق العنوان


(1) لسان العرب 6 : 349 .
(2) الصحاح 2 : 1375.
(3) لسان العرب 6 : 349.
(4) الصحاح 2 : 1375.
(5) لم نجده عاجلاً.

صفحه 433

في بعض الحالات من دون صدق وجه التسمية .

والنتيجة هي: أنّ الهلال يتحقّق بمجرّد ولادته ، وقوله ـ تعالى ـ : ( يَسْألونَكَ عَنِ الاَْهِلَّةِ ) الآية (1) شامل أيضاً لمثل هذا الهلال قطعاً .

وللفلكيّين أن يسلكوا لتعيين ولادة الهلال طريق الحساب الدقيق كما سلكوه في المقارنة ، إلاّ أنّ المشكلة عدم حجّية مثل هذه الحسابات بنفسها، ومع غضّ النظر عن إمكان إفادتها الاطمئنان وعدمه ، هذا أوّلاً :

وثانياً: الأدلّة(2) نصّت على اعتبار أنّ الرؤية هي الملاك ، ولذا لايمكن الاعتماد على الحسابات الفلكيّة ، فالملاك إذاً بحسب ظاهر الأدلّة هي رؤية الهلال .

وقد وقع البحث في أنّه لو كان الهلال ـ وهو ما كان في زمن الولادة ـ قابلاً للرؤية بالتلسكوب بنحو لا تستوجب الرؤية به تغييراً في الواقع، ولا تعكس إلاّ الهلال الواقعي، فهل مثل هذه الرؤية حجّة أم لا ؟

والوارد في كلمات بعض الأعاظم ـ كالمرحوم المحقّق الخوئي (قدس سره) فيما يرتبط بالهلال محلّ البحث ـ هو: أنّ تكوّن الهلال عبارة عن خروجه عن تحت الشعاع بمقدار يكون قابلاً للرؤية ولو في الجملة (3) .

فهو يشترط في تعريف الهلال ـ مضافاً إلى خروجه من تحت الشعاع ـ أن ينفصل قليلاً عن الشمس، وأن يخرج من تحت شعاعها حتّى يكون قابلاً للرؤية ولو في بعض المناطق .

ولكنّا لا نرى وجهاً لإضافة مثل هذا القيد في تعريف الهلال ، بل يلزم على ذلك ألاّ تكون هناك ضابطة معيّنة ولو أردنا تعريف الهلال كذلك; فإنّه يمكن اعتبار


(1) سورة البقرة 2 : 189 .
(2) وسائل الشيعة 10: 252، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3.
(3) المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22 : 118 .

صفحه 434

النزاع حينئذ لفظيّاً .

توضيح ذلك : أنّا لو التزمنا بهذا التعريف ـ أي خروج الهلال من تحت شعاع الشمس بحيث لا يكون قابلاً للرؤية بالعين الطبيعيّة فعلاً لشدّة ضعف نوره، ولكنّه قابل للرؤية من الناحية العلميّة ، فيرى بالتلسكوب أو الكاميرات ـ فلابدّ أن يفتي الجميع في هذه الصورة بكفاية ذلك وصحّته .

وإن كان ظاهر الفتاوى(1) عدم كفاية ذلك في مثل الفرض ما لم تتحقّق الرؤية بالعين المجرّدة ، إلاّ أنّ الواقع هو أنّه مع حصول الاطمئنان بخروج الهلال من تحت الشعاع لعدّة ساعات ـ بمعنى مضيّ ساعات على الهلال ـ تكون تلك الليلة هي أوّل ليلة للشهر القمري، ولا يكون مجال للتأمّل والتردّد فيه .

ولو لم يوافق على مثل هذه الدعوى، وقيل بأنّ هذه الصورة المفروضة داخلة في محلّ النزاع أيضاً ، فلابدّ حينئذ من البحث بصورة أوسع بما يشمل صورتين :

الصورة الاُولى : أن يولد الهلال ولكن بنحو لا تمكن رؤيته ـ حسب الحسابات الفلكيّة ـ بالعين المجرّدة ، وذلك حين خروجه في اللحظات الاُولى من تحت الشعاع .

الصورة الثانية : أن يخرج من تحت شعاع الشمس بمقدار تكون إمكانيّة الرؤية بالعين المجرّدة من حيث الحسابات الفلكيّة ضعيفة جدّاً ، ولكن مع ذلك لا تستحيل الرؤية وإن كانت بالفعل غير متحقّقة . ففي هاتين الصورتين لم يفكّك بينهما من تعرّض لبحث المسألة، مع أنّ الصورة الثانية كما أسلفنا يمكن إخراجها عن محلّ النزاع ، فحينئذ هل يمكن التعويل على الرؤية بالوسائل والتلسكوب، أم لا ؟

نُسب إلى المشهور(2) من الفقهاء عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة ، والحال أنّ


(1) المقنع: 182 ، النهاية: 150، شرائع الإسلام 1: 199، العروة الوثقى 3: 628، المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصوم 22: 122 ـ 123، توضيح المسائل مراجع 1 : 997.
(2) الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء 2:144، رؤيت هلال 2:1189، فقه أهل بيت (عليهم السلام) : شماره43: 168.

صفحه 435

المسألة هي من المسائل المستحدثة التي لايرجع تأريخها إلى فترة قديمة ، بل يمكن القول بشكل أدّق ـ كما ورد ذلك في بعض الكلمات ـ أنّ فترة الاستخدام المنضبط والمقنن لهذه الأجهزة والوسائل لرؤية الهلال لا تتجاوز بضعة عقود . وعليه: فلا يمكن دعوى الشهرة المعتبرة بين الفقهاء، والتي هي عبارة عن الشهرة بين المتقدّمين . نعم، الحكم مشهور بين المتأخريّن ، ولكنّ الشهرة بينهم ليست حجّة كما هو معلوم .

أدلّة الموافقين بالرؤية بالعين المسلّحة

وقد تمسّك القائلون(1) بكفاية الرؤية بالعين المسلّحة بأصالة الإطلاق في المقام ، وأنّه لم يرد أيُّ دليل أو قرينة تقيّد الرؤية بغير المسلّحة ، وإن كانت أصل الرؤية عندهم معتبرة ، والحسابات الفلكيّة والاُمور الظنّية غير معتبرة عندهم ، ولكنّهم يرون أنّ الرؤية لـمّا كانت مجزئة بالوسائل كالنظّارات مثلاً; فإنّها مجزئة أيضاً إذا كانت بوسائل أقوى وأفضل إذا لم تحدث تغييراً في الواقع المرئي ، فالمهم من الناحية الصناعيّة هو صدق استناد الرؤية إلى الرائي ، ومن يرى بالتلسكوب تُسند إليه الرؤية قطعاً ، وهذا الاستناد حقيقيّ .

وبعبارة اُخرى : إنّ صدق الرؤية محرز ومسلّم في الرؤية بالتلسكوب ، والشاهد على ذلك هو إمكانيّة الشهادة بالقتل إذا شوهد بالتلسكوب، وعلى القاضي ترتيب الأثر عليه ، مع أنّه يشترط في باب الشهادات أن تكون مستندة إلى الرؤية أيضاً .

وشاهد آخر على هذا القول هو: أنّه يشترط في حليّة أكل السمك أن يكون


(1) المسائل الفقهيّة للسيّد محمّد حسين فضل الله 1 : 116 مسألة 3 و 6، رؤيت هلال 2: 1188ـ 1191، 1479.

صفحه 436

ذا فلس ، فقد اعتبرت النصوص(1) والفتاوى(2) الملاك في حلّية أكل السمك هووجود الفلس ، فلو تعذّرت رؤية الفلس في بعض أنواع السمك مثلاً بالعين المجرّدة، وأمكنت بمثل الناظور، أو لم يتمكّن عامّة الناس من تشخيصه الفلس، وتمكّن اُهل الخبرة من ذلك، فالظاهر كفاية هذا المقدار في حليّة أكله، ولا يمكن القول باشتراط كون الرؤية بالعين المجرّدة فقط.

وبعبارة اُخرى : إنّ جواز الأكل منوط بوجود الفلس واقعاً ، وفيما نحن فيه وإن ذكرت الرؤية في الروايات، إلاّ أنّ المستفاد من الأدلّة هو الوجود الواقعي للهلال .

وبشكل عامّ فإنّه ـ مضافاً إلى هذين الشاهدين ـ يمكن إجمالاً استدلال هذا الفريق بثلاثة أدلّة ومؤيّد واحد :

1 ـ إجراء أصالة الإطلاق بالنسبة لسبب الرؤية، وعدم وجود قرينة على الانصراف .

2 ـ استناد الرؤية حقيقة إلى من يستخدم هذه الوسائل في الرؤية .

3 ـ شمول لفظ الأهلّة في قوله ـ تعالى ـ : ( يَسْألونَكَ عَنِ الاَْهِلَّةِ) الآية (3) ، حيث يشمل بإطلاقه الهلال الذي لا يراه الناس بالعين غير المسلّحة، ولكنّهم يرونه بالعين المسلّحة .

ومن المؤيّدات لهذا الرأي بالإضافة إلى هذه الأدلّة الثلاثة هو: أنّه لو لم تمكن الرؤية العادية في الليلة الاُولى، وتـمّت رؤيته بالتلسكوب، فإذا لم نعتبر نهار تلك الليلة اليوم الأوّل من الشهر، واعتبرنا اليوم الذي بعده أوّل الشهر ، فإذا كان ذلك


(1) وسائل الشيعة 24: 127، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب8 .
(2) المقنع: 423، النهاية: 576، جواهر الكلام 36: 243 (ط ـ ق)، وسيلة النجاة: 614 مسألة 2، تحرير الوسيلة 2: 147 مسألة 2.
(3) سورة البقرة 2 : 189 .

صفحه 437

الشهر ثمانية وعشرين يوماً; فإنّه يجب قضاء يوم واحد طبقاً لبعض الروايات(1)وفتوى جميع الفقهاء(2) ، وهذا يكشف عن أنّ ذلك اليوم هو الأوّل للشهر ولو لم تتمّ فيه الرؤية بالعين الطبيعيّة .

وهذا خير شاهد على أنّه لا موضوعيّة للرؤية بالعين العادية .

إن قلت : إنّه في مثل الفرض المذكور نستكشف أنّ الرؤية بالعين المجرّدة في الليلة الاُولى كانت ممكنة، إلاّ أنّها تعذّرت لبعض الموانع .

وبعبارة اُخرى : إنّه قد يدّعى وجود ملازمة بين هذين الأمرين ; أي بين رؤية الهلال في الليلة الثلاثين بالعين المجرّدة، وبين إمكانيّة رؤيته كذلك في الليلة الاُولى(3) .

قلت : إنّه لم يقم أيُّ دليل لا من الناحية الفلكيّة، ولا غيرها من الطرق الاُخرى على وجود هذه الملازمة ، بل أنّا لو لاحظنا حالات الرؤية لوجدنا في بعض الموارد منها أنّ الفلكيّين يدّعون فيها عدم قابليّة الرؤية في الليلة الاُولى بالعين المجرّدة ، ثمّ يأتون ويدّعون بعد مضيّ تسعة وعشرين يوماً إمكانيّة رؤية الهلال الجديد بالعين المجرّدة ، بل يمكن القول مع غضّ النظر عن هذا المطلب إنّه لا دليل أساساً في علم الفلك على وجود مثل هذا الأمر .

أدلّة المخالفين بالرؤية بالعين المسلّحة

وأمّا من استدلّ على عدم كفاية الرؤية بالعين المسلّحة فمجموع ما استدلّ به عبارة عن دعويين :


(1) تهذيب الأحكام 4 : 158 ح444، وعنه وسائل الشيعة 10 : 296 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب14 ح1.
(2) المهذّب 1 : 190 ، السرائر 1 : 384 ، جواهر الكلام 16 : 376 (ط ـ ق)، العروة الوثقى 3 : 630 مسألة 2، مستمسك العروة الوثقى 8 : 468 ، المستند في شرح العروة الوثقى 22 : 112، رؤيت هلال 2 : 1189.
(3) راجع مجلّة فقه دفتر تبليغات، شماره 50 سال 1385 : 118.

صفحه 438

الدعوى الاُولى : دعوى انصراف الرؤية إلى الرؤية بالعين الطبيعيّة ، قال بعض الأعلام : لا تكفي الرؤية بعين ذات البصر الحادّ، كما لا تكفي الرؤية بالآلات الرصديّة ، وما هذا إلاّ للانصراف (1) .

الدعوى الثانية : دعوى أخذ الرؤية بنحو الطريقيّة لا الموضوعيّة ، على توضيح سيأتي .

الدعوى الاُولى : الانصراف

قال بعض الأعاظم : عندما تطلق الرؤية، فالمنصرف هو الرؤية المتعارفة; وهي الرؤية بالعين غير المسلّحة ; لأنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة (2) .

ولكن ثـمّة اُمور جديرة بالملاحظة في هذا النصّ ; وهي كما يلي :

أوّلاً : لابدّ من ملاحظة ما هو المنشأ في الانصراف ؟ قد ثبت في علم الاُصول(3) صحّة الانصراف لو كان منشؤه غلبة الاستعمال، لا ما إذا كان من غلبة الوجود ، وكما تستعمل الرؤية في الرؤية بالعين غير المسلّحة، فكذلك تستعمل ـ حقيقة ـ في الرؤية بالنظّارات أو المكبّرات أو المنظار .

وثانياً : أنّ ما ذكر دليلاً على هذا المدّعى حقيق بالتأمّل ; لأنّ ما ذكر ـ من أنّ الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع الأبواب الفقهيّة إلى المصاديق المتعارفة ـ علىفرض صحّته هل يمكن اعتبار عمل الفقهاء دليلاً وحجّة في المقام ؟ فإذا كان الفقهاء


(1) الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء 2 : 144 .
(2) فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 169 .
(3) كفاية الاُصول : 289 ، نهاية الأفكار 2 : 575 ـ 577 ، منتقى الاُصول 1 : 380، مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 251.

صفحه 439

إلى ما قبل العلاّمة الحلّي يفتون بلزوم نزح المقدّرات في البئر، فهل يكون هذا حجّة على سائر الفقهاء ؟ ! فإنّه من الواضح لزوم البحث في أدلّة الأقوال في مثل هذه المسألة ، وكذا الأمر فيما نحن فيه .

من الواضح: أنّه كما يجب في أمثال هذا المورد البحث والفحص عن الدليل ، فكذا يجب في هذا المورد الرجوع إلى أدلّة المسألة لكي يتمّ بحثها .

وثالثاً : عدم تماميّة مثل هذه النسبة إلى الفقهاء بمجرّد إحصاء موارد قليلة ، حيث توجد ثـمّة موارد على خلاف ذلك ـ سنشير إليها(1) ـ تؤكّد عدم صحّة مثل هذه الدعوى على إطلاقها ونسبتها إلى جميع الفقهاء .

ولكن نشير قبل التعرّض للموارد ـ سواء قَبِلَ الفقهاء بالانصراف فيها، أو لم يقبلوا ـ إلى بعض النقاط التي ينبغي تدقيقها وتمحيصها من جهة صناعيّة :

النقطة الاُولى : من الواضح: أنّ أصالة الإطلاق من الاُصول اللفظيّة العقلائيّة ، والأصل الأوّلي في الألفاظ هو الإطلاق بمقتضى مقدّمات الحكمة ما لم يتوفّر دليل أو تقم قرينة على التقييد . وبعبارة اُخرى : إنّ رفع اليد عن الإطلاق ودعوى الانصراف بحاجة إلى قرينة دائماً ، وبدونها لا يمكن دعوى الانصراف ، بل لو أردنا حمل المطلقات في جميع الموارد على الفرد المتعارف لفقد الاجتهاد حيويّته وفاعليّته ، فالاجتهاد حيٌ وفاعل ببركة هذه الإطلاقات والعمومات .

ولا توجد أيّة قرينة صارفة في الروايات الواردة في رؤية الهلال أو غيرها من الأدلّة ، والرؤية مطلقة من جهة الأسباب : « إذا رأيت الهلال فصم، وإذا رأيته فأفطر »(2) أو « صم للرؤية وأفطر للرؤية »(3) .


(1) في ص449 ـ 460.
(2) وسائل الشيعة 10 : 252 ، 253 و 260 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح1 ، 3 و27.
(3) وسائل الشيعة 10 : 255 و 257 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح11 و 19.

صفحه 440

لقد وردت « الرؤية » في هذه الروايات إمّا بصيغة الخطاب، أو بغير صيغة الخطاب ، والخطاب إمّا بصورة المفرد، أو بصورة الجمع ، إلاّ أنّه لم يرد في جميع هذه الروايات الثمانية والعشرين في الباب الثالث من أبواب شهر رمضان أيّة قرينة دالّة على الانصراف ، وبذلك نثبت الاكتفاء بالرؤية بكلّ طريقة ; بمعنى: أنّ الملاك هو صدق الرؤية بأيّ طريق اتّفق .

ومن جهة اُخرى: فإنّ من الواضح أنّه في الموارد الاُخر حتّى في حالات كثيرة، بل في جميع موارد الإطلاق، عندما يتمّ الانصراف إلى الأفراد المتعارفة، لابدّ من القول بأنّ مقتضى القاعدة والصناعة توقّف دعوى الانصراف على وجود القرينة ، وبدونها لا يمكن القبول بدعوى الانصراف البتّة .

تحليل الروايات

المستفاد من دراسة الروايات الواردة أنّ الرؤية طريق وكاشف عن ثبوت الهلال ، لكنّها طريق إلى اليقين والاطمئنان بتحقّق الهلال في السماء بعد خروجه عن المقارنة .

إنّ الرؤية الواردة في الروايات قد وردت كمقدّمة لليقين ، كما أنّ مفادها أيضاً أنّ شهر رمضان لا يكون بالرأي والتظنّي :

1 ـ محمد بن الحسن بإسناده عن علي بن مهزيار عن محمّد بن أبي عمير ، عن أبي أيّوب وحمّاد ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، وليس بالرأي ولابالتّظنّي، ولكن بالرؤية، الحديث (1) .


(1) تهذيب الأحكام 4 : 156 ح433 ، الاستبصار 2 : 63 ح203، الكافي 4 : 77 ح6، الفقيه 2 : 76 ح334، المقنعة: 296، وعنها وسائل الشيعة 10 : 252 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح2.

صفحه 441

2 ـ وعنه، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال : صيام شهر رمضان بالرؤية ، وليس بالظّن، الحديث(1) .

3 ـ وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، أنّه قال : في كتاب علي (عليه السلام) : صم لرؤيته وأفطر لرؤيته، وإيّاك والشكّ والظنّ ، الحديث (2) .

4 ـ وبإسناده عن سعد بن عبدالله، عن العبّاس بن موسى ، عن يونس بن عبدالرحمن، عن أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزّاز، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله، فلا تؤدّوا بالتظنّي (3) .

والمستفاد بشكل واضح من هذه النصوص هو :

أوّلاً: أنّ المقصود بالرؤية في الروايات نفي الرأي والظنّ، والتأكيد على لزوم حصول اليقين بالهلال في وجوب الصوم .

ومن الواضح جدّاً: أنّ تحصيل هذا اليقين غير مختصّ بالرؤية المجرّدة ، بل يحصل من طريق الوسائل والأجهزة أيضاً .

وثانياً: أنّ الملاك في شروع شهر رمضان هو نفس الهلال، لا أصل وجود القمر، وإذا تيقّنّا من الهلال فلابدّ من الصوم، ومع تجدّد الهلال يبدأ الشهر ، ومع التيقّن من تحقّق الهلال يبدأ الشهر القمري .

5 ـ روى محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد ، عن محمّد


(1) تهذيب الأحكام 4 : 156 ح432 ، الاستبصار 2 : 63 ح202، وعنهما وسائل الشيعة 10 : 253، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح6.
(2) تهذيب الأحكام 4 : 158 ح441 ، الاستبصار 2 : 64 ح208 ، وعنهما وسائل الشيعة 10: 255، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح11.
(3) تهذيب الأحكام 4 : 160 ح451 ، وعنه وسائل الشيعة 10 : 256 ، كتاب الصوم ، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح16.

صفحه 442

ابن الفضيل ، عن أبي الصباح. وعن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي جميعاً، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، أنّه سُئل عن الأهلّة؟ فقال : هي أهلّة الشهور ، فإذا رأيت الهلال فصم ، وإذا رأيته فأفطر ، الحديث (1) .

المستفاد من هذا الحديث أنّ الملاك في بداية الشهر القمري هو الهلال، والرؤية طريق لليقين بحصول الهلال . ومن جهة اُخرى: فإنّ الهلال غير مشروط بالرؤية الطبيعيّة ، وإلاّ لزم أن يكون هناك أهلّة متعدّدة بتعدّد الأفراد واختلاف البلاد ، وهو واضح البطلان .

ومن الشواهد والمؤيّدات على اعتبار الرؤية طريقاً لليقين بحصول الهلال ماورد في بعض الروايات من أنّه لو استُهل صباحاً في جهة المشرق ولم ير الهلال، فهو هلال جديد في ليلة ذلك اليوم ; سواء رُؤي أم لم ير :

محمد بن الحسن بإسناده عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن زكريّا بن يحيى الكندي الرقّي، عن داود الرقّي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا طلب الهلال في المشرق غدوة فلم ير فهو ههنا هلال جديد رؤي أو لم ير (2) .

وإن كان صاحب الوسائل قد حمل هذه الرواية على الغالب أو التقيّة ، ولكن وجود ما يوافقها من الروايات يمنع من حملها على التقيّة . وبشكل عامّ فإنّ المستفاد أنّ الرؤية طريق لليقين بحصول الهلال ، وأنّها لا موضوعيّة لها .

إنّ المستفاد من تحليل الروايات بطلان القول باحتمال أنّ الشارع الأقدس جعل الخروج عن المحاق بمقدار يراه الناس موضوعاً لوجوب الصوم ، فلا شاهد


(1) تهذيب الأحكام 4 : 156 ح434 ، الاستبصار 2 : 63 ح204، وعنهما وسائل الشيعة 10: 254، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب3 ح7.
(2) تهذيب الأحكام 4 : 333 ح1047 ، وعنه وسائل الشيعة 10 : 282 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب9 ح4.

صفحه 443

ولا دليل على مثل هذا الاحتمال ، بل الرؤية ـ مسلّحة كانت أو غير مسلّحة ـ طريق للعلم بثبوت الهلال . والمتلخّص هو: أنّه لا ترديد في أنّ الرؤية الواردة في الروايات لها دور الطريقيّة ، ولا فرق بين أسباب حصول ذلك ، بل الملاك هو اليقين بحصول الهلال وتحقّقه .

وقد ذكر بعض الأعاظم أنّ لرؤية الهلال موضوعيّة; بمعنى أنّه لا بدّ في احتساب بداية الشهر القمري من إمكانيّة الرؤية بالعين غير المسلّحة وإن كانت الرؤية متعذّرة بالفعل بسبب المانع (1).

ولكن يظهر ممّا تقدّم بطلان هذه الدعوى ; وذلك لخلوّ الروايات من أيّة قرينة دالّة على الإمكان . نعم ، قد يقال بعدم اعتبار الرؤية بالفعل إذا كان هناك ما يمنع منها، إلاّ أنّ هذا لا يلازم القول بأنّ لإمكانيّة الرؤية بالعين غير المسلّحة موضوعيّة في المقام .

بل المستفاد من الروايات بشكل واضح ـ كما أسلفنا ـ عدم اعتماد التظنّي في بداية الهلال، بل لابدّ من حصول اليقين ; فإنّ الطريق الوحيد في ذلك الزمان لحصول اليقين هو الرؤية فقط ، وعليه: فإنّ للرؤية طريقيّة لإثبات الهلال ، وهذا الطريق هو طريق لحصول اليقين ، ولا تطرّق في الروايات للإمكان أو عدمه ، بل إنّ المراد بالرؤية هي الرؤية الفعليّة، كما هو مقرّر في محلّه(2) من أنّ العناوين ظاهرة في الفعليّة .

وليس من المستبعد استفادة هذا المطلب من مجموع الروايات الواردة في المقام ، وهو : أنّ طريق تحصيل اليقين في الأزمنة السابقة كان ينحصر بالرؤية ، ولم تكن الحسابات الفلكيّة موجبةً لحصول اليقين حتّى للفلكي نفسه فضلاً عن


(1) فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 170.
(2) راجع فوائد الأصول 1: 120 ـ127، محاضرات في اُصول الفقه 1: 252، 259، 272، 278ـ291، دراسات في الاُصول 1: 320.

صفحه 444

غيره ، وقد نفت الروايات اعتماد الظنّ .

وأمّا في عصرنا الحاضر، فحيث إنّ الحسابات الفلكيّة الدقيقة تورث الاطمئنان والوثوق، فهي قابلة للاعتماد أكثر ممّا سبق ، فإذا ثبت بالحساباتالفلكيّة الدقيقة في غروب يوم من الأيّام خروج الهلال من تحت الشعاع; فإنّه يمكن اعتبار تلك الليلة أوّل الشهر القمري ; ولأجل هذا يقول الفقهاء(1) بكفاية الاطمئنان ببداية الشهر الجديد إذا كان من طريق الحسابات المفيدة لمثل هذا الاطمئنان .

وممّا يجدر ذكره أنّ الشارع لم يتعبّدنا البتّة بخصوص ثبوت الشهر القمري ، بحيث يكون فرق بين الشهر القمري والشهر الشرعي ، وإنّما اشترط شيئاً واحداً ـ طبعاً هذا في وجوب الصوم لا لبداية الشهر ـ وهو عدم الاعتماد على الظنّ والرأي ، ولم يتعبّدنا بما سوى ذلك البتّة .

النقطة الثانية : ما هو المراد بالمتعارف ؟ والمتعارف في أيّ زمان هو المقصود ؟ نقل صاحب الجواهر عن الشيخ البهائي(2) وعن اللّوامع(3) أنّه يلزم حمل المتعارف على ما كان متعارفاً في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن لم يكن متعارفاً في زمان الأئـمّة (عليهم السلام)، ثمّ استدلّ قائلاً : « لأنّ أحكامهم متلقّاة منه » (4) .

إذاً لا يمكن دعوى الانصراف إلى المتعارف ; لأنّ مسألة الرؤية بالعين المسلّحة لم تكن مطروحة للبحث أساساً في زمن صدور الأحاديث ، وإذا كان في


(1) توضيح المسائل مراجع 1 : 998 مسألة 1732، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصوم: 248ـ 249.
(2) الحبل المتين 2 : 180.
(3) لوامع صاحبقراني 1 : 534 ـ 536.
(4) جواهر الكلام 6 : 184 .

صفحه 445

الزمان الحالي ثـمّة عنوان غير متعارف فهذا لا يبرّر انصراف الروايات السابقة عن هذا المورد والعنوان ، كما أنّه لا يمكن اعتبار الرؤية بالعين المسلّحة من الموارد غير المتعارفة . نعم ، لمّا كانت مثل هذه الوسائل ليست في متناول أيدي الجميع، فلا يتيسّر الإفادة منها واستخدامها من قبل الجميع ، ولكن هذا غير مسألة أنّها غير متعارفة .

وأمّا إذا كان المراد من غير المتعارف هو الندرة، كما هو كذلك في جميع الأزمنة، فيمكن أن يكون لذلك وجه مقبول . أمّا إذا كان نادراً في زماننا مثلاً، غير نادر في الأزمنة الآتية، فلا وجه حينئذ لذلك ; لأنّ مثل هذا الانصراف سيستلزم انسداد باب الإطلاق في الفقه، وهدم كثير من الأحكام الفقهيّة .

النقطة الثالثة : أنّ حقيقة الإطلاق كما يقتضيه التحقيق هي رفض القيود لاجمعها ، فإذا كان الإطلاق كذلك فلا وجه حينئذ لهذه الدعوى إطلاقاً . نعم، لو قلنا إنّه عبارة عن جمع القيود كان وجه لهذه الدعوى ثبوتاً ، وأمّا إثباتاً فهي بحاجة إلى دليل أو قرينة تدلّ عليه .

وتوضيح ذلك أن يقال : إذا كان الإطلاق هو رفض القيود، فلابدّ من الالتزام بأنّ الشارع اعتبر تمام الملاك في الرؤية، دون أن يلحظ أيّ قيد آخر ، بل لم يلتفت أساساً إلى الأفراد والمصاديق ليقال بالانصراف عن بعض، وعدم الانصراف عن الآخر . وأمّا إذا كان الإطلاق هو جمع القيود; فإنّه يمكن القول بأنّ الشارع أخذ جميع الأفراد والمصاديق والقيود بنظر الاعتبار، وقد أراد المعنى المطلق منها جميعاً ، فهنا يمكن دعوى الانصراف بحقّ البعض منها .

وبعبارة أُخرى : إنّه بناءً على هذا المبنى لا يمكن دعوى الانصراف في أيّ مورد من الموارد ، ولا يمكن أن ينصرف اللفظ المطلق بذاته إلى فرد خاصّ بعينه وإن كان يمكن تشخيص ذلك الفرد بقيام القرينة عليه ، إلاّ أنّ هذا بحث آخر غير


صفحه 446

الانصراف .

النقطة الرابعة : وهي التي في غاية الأهمّية; وهي عبارة عن أنّ الألفاظ يجب حملها على معانيها المتعارفة، لا على المعاني النادرة وغير المشهورة ، ولكن ثـمّةفرق بين المعنى المتعارف، وبين المصداق المتعارف ، وفي بحث رؤية الهلال ينطبق على الوسائل الجديدة أنّها من المصاديق غير المتعارفة، لا أنّها معنى غير متعارف ، فالعلاقة بين اللفظ والمعنى أمر واضح وصحيح ، ولكنّ العلاقة بين اللفظ والفرد أو المصداق هو أنّه لايمكن تعيين المصداق فيها من خلال الوضع واللغة ; لأنّ المصداق والفرد يرتبطان بمقام التطبيق ، والتطبيق أمر عقليّ لا علاقة له بالواضع أو العرف(1) . وتأسيساً على ذلك فإنّ الخلط بين المعنى المتعارف والمصداق المتعارف هو الذي سبّب الخلط عند البعض .

ونشير فيما يلي إلى بعض النماذج في المقام :

النموذج الأوّل : قوله (صلى الله عليه وآله) : الطواف بالبيت صلاة(2); فإنّ المعنى المتعارف هو الصلاة الفعليّة ، بينما معناها النادر هو الدعاء ، ولذا لا يمكن القول بأنّ المراد بالصلاة هنا الدعاء ، بل لابدّ من تنزيلها على معناها المتعارف ، قال صاحب المدارك : والألفاظ إنّما تُحمل على المعنى المتعارف ، لا النادر غير المشهور (3) .

النموذج الثاني : في وضوء ذي الوجه الطويل الخارج عن المتعارف ، قال صاحب الجواهر : ويجب عليه الغسل من القصاص إلى الذقن وإن طال وجهه بحيث خرج عن المتعارف ; لصدق اسم الوجه (4) .

فيعلم من ذلك أنّ الموارد التي تكون ذات معنى واضح لا تأثير للمصداق


(1) تقدّم تفصيله في ص234.
(2) تقدّم في ص418.
(3) مدارك الأحكام 1 : 71 .
(4) جواهر الكلام 2 : 261.

صفحه 447

فيها ، ولا توجب المصاديق غير المتعارفة تغييراً في معنى اللفظ . نعم ، بالنسبة إلى معنى الوجه وأنّه هل المراد منه المتعارف يمكن أن يُدّعى ذلك ; ولذا قال صاحب الجواهر في شرح قول المحقّق: ولا عبرة بالأنزع ، ولا بالأغمّ(1) : أنّه يرجع كلّ منهما إلى الغالب في أكثر الناس (2) ، لكن هذا من جهة أنّ المقصود بالوجه هو الوجه المتعارف ، فيجب غسله ما دام يصدق عليه عنوان الوجه ولو لم يكن من المصاديق المتعارفة .

النموذج الثالث : ممّا يدلَ على أنّه إذا كان عامّ ومطلق لغويّ فجميع الأفراد يتساوون بالنسبة إليه ، ولا فرق بين الأفراد الغالبة وغير الغالبة ، ما تعرّض له صاحب الجواهر في غسل الوجه في الوضوءبعدأن ذكرعدم وجوب غسل المسترسل من اللحية ولا تخليله ، ثمّ نقل كلاماً عن الشهيد في الدروس قال فيه : يستحبّ التخليل وإن كثف الشعر (3)، ثمّ عقّب عليه معترضاً بأنّه لم أعثر له على دليل يقتضيه، بل قد يظهر من ملاحظة الأدلّة خلافه ـ إلى أن قال: ـ وحيث اشتملت الرواية على العموم اللغوي التي يتساوى جميع الأفراد بالنسبة إليه، لم يختلف الحال في الموافق للغالب وعدمه ، فالأغمّ مثلاً إن كان كثيف الشعر اجتزأ بغسله (4) .

فيظهر من ذلك انتفاء الفرق بين الفرد الغالب وغير الغالب .

النقطة الخامسة : حتّى في صورة ما إذا كان الانصراف مع القرينة; فإنّ المستفاد مع ذلك من منهجيّة صاحب الجواهر عدم إمكان التعويل عليه لوحده


(1) شرائع الإسلام 1 : 21.
(2) جواهر الكلام 2 : 261.
(3) الدروس الشرعيّة 1 : 91.
(4) جواهر الكلام 2 : 282 ـ 283.

صفحه 448

لدى الفقيه ، بل يجب ألاّ يكون معارضاً لفهم الأصحاب أوّلاً ، وأن يُدعم بالمؤيّدات ثانياً ، ونشير هنا إلى نموذجين :

النموذج الأوّل : مسألة التطهير بالماء القليل، وأنّه هل يشترط ورود الماء على النجاسة، أو لا ؟ خلاف في ذلك . وقد عالج صاحب الجواهر المسألة من خلال الانصراف إلى المتعارف والمعهود بين الناس، حيث يعتبرون ورود الماء مطهّراً ، لكن قد أيّد قبل وبعد هذا الحكم بالإجماع والسيرة المستمرّة(1) .

النموذج الثاني : ما ذكره أيضاً (قدس سره) في صورة تكبيرة الإحرام، حيث قال : فصورتها أن يقول : الله أكبر ، وقد عدّ من أدلّتها أنّها هي المتعارفة والمعهودة من صاحب الشرع ، لكن أورد شواهد اُخرى أيضاً (2) .

والمتحصّل :

أوّلاً: أنّه بعد أن اتّضح أنّ الرؤية بالآلات من مصاديق الرؤية عرفاً، وأنّه لاترديد في صدق الرؤية عليها عرفاً، فلابدّ من القول بأنّ الرؤية الواردة في الروايات مطلقة من جهة السبب .

وثانياً: أنّه لا قرينة على الانصراف . وعليه: فلا يمكن التعويل عليه كدليل يعتمده الفقيه . وقد ذكر البعض: أنّ القرينة هي عبارة عن مناسبات الحكم والموضوع(3) . ولكنّ الصحيح عدم إمكان اعتبار ذلك قرينة ; لأنّ الهلال كما يناسب رؤيته بالعين غير المسلّحة، يناسب أيضاً رؤيته بالعين المسلّحة .

موارد من عدم حمل الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف في الفقه :


(1) جواهر الكلام 6 : 249 ـ 255.
(2) جواهر الكلام 9 : 332.
(3) لم نجده عاجلاً.

صفحه 449

من خلال ملاحظة موارد عديدة من الحالات التي لم يحمل فيها الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف، ومع وجوده نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ الفقهاء لا يحملون المطلق على الفرد المتعارف في جميع الموارد ما لم تكن هناك قرينة في المقام :

1 ـ قال صاحب الذخيرة في مسألة جواز تطهير المخرج من الغائط إذا تعدّى بالماء فقط، أو بالأحجار أيضاً : ولا يخفى أنّ الأخبار(1) الدالّة على الاكتفاء بالأحجار مطلقة من غير تفصيل بالمتعدّي وغيره ، ثمّ قال : فإن لم يكن إجماع على الحكم المذكور كان للتأمّل مجال (2) .

فمع أنّ المتعارف هو موضع الغائط، حتّى أنّ بعض الفقهاء كصاحب الحدائق قد عللّه بقوله : لبناء الأحكام الشرعيّة على ما هو المتعارف المعتاد المتكرّر دون النادر (3)، إلاّ أنّ صاحب المدارك استند إلى الإطلاق(4) ، فلو كان الحمل دائميّاً في جميع الموارد على المتعارف حتّى المصداق المتعارف لما كان ثـمّة مجال للنزاع إذاً !

2 ـ نقل صاحب الجواهر في مسألة الوضوء للمرأة ذات اللحية، وأنّه لا يجب تخليلها، ونقل عن بعض العامّة حمله دليل غسل الشعر أو التخليل على الغالب المتعارف; وهو الرجل دون المرأة(5).

ولكنّه (قدس سره) ضعّف ذلك معلّلاً بقوله : لما عرفت من العموم اللغوي فيه(6)، وعليه: فمع وجود العموم اللغوي لا مجال للانصراف.


(1) وسائل الشيعة 1 : 354 ، كتاب الطهارة ، أبواب أحكام الخلوة ب34.
(2) ذخيرة المعاد : 17 .
(3) الحدائق الناضرة 2 : 27.
(4) مدارك الأحكام 1 : 166.
(5) المغني لابن قدامة 1 : 99 ـ 100 ، المجموع 1 : 439.
(6) جواهر الكلام 2 : 283.

صفحه 450

3 ـ ذكر صاحب الجواهر في مسألة اشتراط كون المسح على الرأس باليد اليمنى كما هو المتعارف، أو لا ؟ أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وبعض الفتاوى عدم ذلك ، وإن كان الظاهر من حسنة زرارة الوجوب; لقوله (عليه السلام) : وتمسح ببلّة يمناكناصيتك(1)، إلاّ أنّ تقييد تلك المطلقات من الكتاب والسنّة مع فتاوى الأصحاب بمجرّد هذه الرواية وإن كانت نقيّة السند لا يخلو من إشكال، خصوصاً مع ظهور إعراض الأصحاب عنها . ثمّ قال : فاحتمال صرف إطلاق النصّ والفتوى إلى المسح باليد اليمنى لكونه الفرد المتعارف بعيد جدّاً (2) .

إذاً لا يمكن في مثل هذه الموارد تقييد الإطلاق مع وجود الفرد المتعارف فيها .

4 ـ اختلف الفقهاء في حكم خروج المني، وأنّ المراد هو الخروج من الموضع المتعارف، أو الملاك مطلق الخروج، ولا فرق بين الموضع المعتاد وغيره .

استظهر صاحب الجواهر من كلام المحقّق الحلّي(3) الإطلاق . والمشهور في الحدث الأصغر هو الخروج من الموضع المعتاد ، وقد استبعد صاحب الجواهر تنزيل ما نحن فيه على الحدث الأصغر . قال العلاّمة في المنتهى : لو خرج المنيّ من ثقبة في الإحليل غير المعتاد، أو في خصيتيه، أو في صلبه، فالأقرب وجوب الغسل (4) .

وقال في التذكرة : لو خرج المنيّ من ثقبة في الذكر، أو الاُنثيين، أو الصلب وجب الغسل (5). وثـمّة تردّد في وجود إطلاق شامل لما فوق الصُلب . قال المحقق


(1) الكافي 3 : 25 ح4 ، الفقيه 1 : 24 ح74 ، وعنهما وسائل الشيعة 1 : 388 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ب15 ح2.
(2) جواهر الكلام 2 : 330 ـ 332.
(3) شرائع الإسلام 1 : 26.
(4) منتهى المطلب 2 : 180 ـ 181 .
(5) تذكرة الفقهاء 1 : 222 .

صفحه 451

الثاني : لو خرج من غير الثلاثة المذكورة في المنتهى، فاعتبار الاعتياد حقيق بأن يكون مقطوعاً به (1). ثمّ قال صاحب الجواهر : ولعلّ الوجه خلافه ; وذلك لاشتراك الدليل بالنسبة للمجموع وهو الإطلاقات، كقوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما الماء من الماء (2) . ثمّ قوّى في النهاية القول الثاني القائل بالإطلاق، مستضعفاً دليل القول الأوّل; وهو انصراف المطلقات إلى المتعارف المعهود(3) .

فهذا شاهد آخر على عدم إمكان رفع اليد عن العمومات والإطلاقات حتّى مع وجود الفرد المتعارف .

5 ـ ذكر الفقهاء وجوهاً في مسألة وجوب الغسل لو كان الدخول في الدبر ولم يتحقّق الإنزال ، منها: ما ذكره في الجواهر، قال : إطلاق قولهم: إذا أدخله وأولجه، أو غيّب الحشفة فقد وجب الغسل الشامل للدبر ، ثمّ قال : وما يقال: إنّ المطلق ينصرف إلى المتعارف، يدفعه ـ بعد تسليم كون ذلك من المتعارف الذي يكون سبباً لحمل اللّفظ عليه ـ أنّه كذلك ما لم يعارضه فهم الأصحاب ; لانقلاب الظنّ حينئذ بخلافه (4) .

والمتحصّل من هذه العبارة أوّلاً: أنّ كلّ فرد متعارف ومعهود لا يمكن أن يكون سبباً لحمل اللفظ عليه . وثانياً: أنّ المتعارف لو كان صالحاً للتقييد، فهو مشروط بعدم معارضته لفهم الأصحاب . وفي مقامنا بالرغم من دعوى وجود الفرد المتعارف، إلاّ أنّه (قدس سره) يرى الإطلاق هو المحكّم في المقام .


(1) جامع المقاصد 1 : 277 .
(2) المسند لأحمد 4: 59 ح11243، وج9: 138 ح23590، صحيح مسلم 1: 225 ح343، سنن ابن ماجه 1: 329 ح607، السنن الكبرى للبيهقي 1: 282 ح809، كنز العمّال 9: 379 ح26545.
(3) جواهر الكلام 3 : 13 ـ 15.
(4) جواهر الكلام 3 : 56 ـ 57.

صفحه 452

6 ـ في بحث العصير العنبي وأفراده نجد أنّ صاحب الجواهر وإن كان قد ذهب في بداية البحث إلى تنزيل العموم على المتعارف وقال : إن لم نقل بتنزيل عموم الصحيح على المتعارف من أفراد العصير ، إلاّ أنّه ذهب في الأخير إلى ترجيح العمل بالعموم ، قال (قدس سره) : ومع ذا فهو ليس بأولى من حمله على إرادة العموم بالنظر إلىأفراد العنب وأقسامه، وإلى ما ظهر إسكاره أو اتّخذ له، وعدمه، وإلى ما اُخذمن كافرأو مسلم مستحلّ لما دون الثلثين وعدمه(1).

فيستنتج منه أن لا وجه لدعوى الانصراف مع وجود العموم اللغوي في البين .

7 ـ قال (قدس سره) في بحث حرمة التغطية من محرّمات الإحرام : ثمّ لا فرق بين جميع أفرادها، كالثوب والطين والدواء والحنّاء وحمل المتاع أو طبق ونحوه، كما صرّح به غير واحد ، بل لا أجد فيه خلافاً، بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا(2) .

نعم ، في المدارك وهو غير واضح ; لأنّ المنهيّ عنه في الروايات المعتبرة تخمير الرأس ووضع القناع عليه، والستر بالثوب، لا مطلق الستر، مع أنّ النهي لو تعلّق به لوجب حمله على ما هو المتعارف منه; وهو الستر بالمعتاد(3)، وتبعه في الذخيرة(4) .

ثمّ ناقشه في الجواهر وقال : مضافاً إلى قوله (عليه السلام) : إحرام الرجل في رأسه(5)


(1) جواهر الكلام 6 : 43.
(2) تذكرة الفقهاء 7 : 331 مسألة 251.
(3) مدارك الأحكام 7 : 354.
(4) ذخيرة المعاد : 599 .
(5) الكافي 4 : 345 ح7 ، الفقيه 2 : 219 ح1009، وعنهما وسائل الشيعة 12 : 505 ، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب55 ح2.

صفحه 453

وغيره من الإطلاقات(1)، واستثناء عصام القربة وغير ذلك (2) .

والنتيجة هي: أنّه قدّم العمل بالإطلاق وردّ الانصراف إلى المتعارف .

8 ـ لا شك في أنّ من الأسباب المتعارفة والبيّنة للكسوف هو حيلولة القمر بين الأرض والشمس، أو حيلولة الأرض بين القمر والشمس ، وهذا السبب موجب لصلاة الآيات ، ولكنّ الخلاف فيما لو سبّبت بعض الكواكب للبعض الآخر كسوفاً ، أو فيما لو حصل خسوف أو كسوف للشمس أو القمر بالنسبة إلى الكواكب الاُخرى ، بحيث يكون ذلك سبباً غير متعارف وغير معهود ، فهل تجب صلاة الآيات حينئذ ؟

ذكر صاحب الجواهر أنّ الملاك في تحقّق وجوب صلاة الآيات هو تحقّق الكسوف ، ولا موضوعيّة لأيّ سبب من قبيل حيلولة الأرض ، واستدلّ لذلك بإطلاق النصوص والفتاوى ، قال (قدس سره) : فالمدار في الوجوب تحقّق المصداق المزبور ـ أي الكسوف ـ من غير مدخليّة لسببه من حيلولة الأرض أو بعض الكواكب وغيرها ; لإطلاق النصوص والفتاوى، وعدم مدخليّة شيء من ذلك في المفهوم لغةً وعرفاً وشرعاً .

نعم ، قد يتوقّف في غير المنساق منه عرفاً كانكساف الشمس ببعض الكواكب، الذي لم يظهر إلاّ لبعض الناس; لضعف الانطماس فيه ، فالاُصول حينئذ بحالها ، فما في كشف اللثام من أنّه لا إشكال في وجوب الصلاة لهما وإن كان لحيلولة بعض الكواكب، جيّد إن كان الحاصل والمتعارف ممّا يتحقّق به صدق اسم الانكساف عرفاً .


(1) وسائل الشيعة 12 : 505 ، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام ب55.
(2) جواهر الكلام 18 : 384 (ط ، ق).

صفحه 454

لكن قال: فإنّ مناط وجوبها الإحساس بالانطماس، فمن أحسّ به كلاًّ أو بعضاً وجبت عليه الصلاة، أحسّ به غيره أو لا، كان الانطماس على قول أهل الهيئة لحيلولة كوكب أو الأرض أو لغير ذلك، وإذا حكم المنجّمون بالانطماس بكوكب أو غيره ولم يحسّ به لم تجب الصلاة; لعدم الوثوق بقولهم شرعاً، فإن أحسّ به بعض دون بعض، فإنّما تجب الصلاة على من أحسّ به، ومن يثبت عنده بالبيّنة دون غيره، من غير فرق في جميع ذلك بين أسباب الانطماس.

فلا وجه لما في التذكرة ونهاية الإحكام من الاستشكال في الكسف بشيء من الكواكب: من عدم التنصيص، وأصالة البراءة، وخفائه; لعدم دلالة الحسّ عليه، وإنّما يستند فيه إلى قول من لا يوثق به كالمنجّم، ومن كونه آية مخوفة(1); وذلك لأنّ النصوص كلّها تشمله.

والكلام في الوجوب لما يحسّ به، لا ما يستند فيه إلى قول من لا يوثق به، ولا لما في الذكرى من منع كونه مخوفاً; فإنّ المراد بالمخوف ما خافه العامّة غالباً وهم لا يشعرون بذلك(2)، وذلك لأنّ على صلاة الكسوفين الإجماع والنصوص من غير اشتراط بالخوف.

نعم، قد يتّجه ما فيهما من الاستشكال في انكساف بعض الكواكب من غير ما ذكر، والأقرب الوجوب فيه أيضاً; لكونه من الأخاويف لمن يحسّ به، والمخوف ما يخافه معظم من يحسّ به، لا معظم الناس مطلقاً(3).

وفي المدارك بعد نقل ذلك عنهما قال: والأجود إناطة الوجوب بما يحصل منه


(1) تذكرة الفقهاء 4 : 195 مسألة 498 ، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 2: 76.
(2) ذكرى الشيعة 4 : 228.
(3) كشف اللثام 4 : 364 ـ 365.

صفحه 455

الخوف، كما تضمّنته الرواية(1).(2)

ولا يخفى عليك محالّ النظر من ذلك كلّه، خصوصاً ما في كشف اللثام; لما عرفت من انصراف إطلاق أدلّة الكسوف إلى ما هو المتعارف منه كائناً ما كان سببه، أمّا غيره فلا يدخل تحت الإطلاق المزبور، بل ربما شكّ في صدق الاسم على بعض أفراده، فضلاً عن انصراف الإطلاق إليه(3).

والمتحصّل هو: أنّ صاحب الجواهر لا يرى انحصار سبب وجوب صلاة الآيات بسبب خاصّ وهو الحيلولة ، بل إنّه يوسّع من دائرة ذلك إلى أسباب اُخرى في الكسوف بأنّها توجب صلاة الآيات إذا كانت أسباباً متعارفة ، بل إنّ كاشف اللثام قد توسّع إلى الأسباب غير المتعارفة استناداً إلى الإطلاقات ، فتجب صلاة الآيات مشترطاً استناد الرؤية إلى المكلّف نفسه .

ومن الملفت هنا هو: أنّ الملاك في الكسوف في الروايات والنصوص هو الرؤية أيضاً ، كما هو الأمر في تحديد بداية الشهر القمري على ما بيّناه في تحرير محلّ النزاع(4) :

روي عن الصادقين (عليهما السلام) ، إنّ الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد الزجر لخلقه كسف الشمس وخسف القمر ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله بالصلاة (5) .

وكذا في خبر محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام) قال: إنّ الزلازل والكسوفين والرياح الهائلة من علامات الساعة،فإذارأيتم شيئاً من ذلك


(1) تهذيب الأحكام 3 : 155 ح330 ، الكافي 3 : 464 ح3 ، الفقيه 1 : 346 ح1529، وعنها وسائل الشيعة 7: 486، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب2 ح1.
(2) مدارك الأحكام 4 : 128.
(3) جواهر الكلام 11 : 691 ـ 694.
(4) في ص430 ـ 431.
(5) المقنعة: 208 ، وعنه وسائل الشيعة 7 : 484 ، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب1 ح5.

صفحه 456

فتذكّروا قيام الساعة، وافزعوا إلى مساجدكم(1).

فالمستخلص من المورد الثامن هو : أنّه لو كان الانصراف إلى الفرد المتعارف أمراً متسالماً عليه بين الفقهاء، لما كان هذا الاختلاف بينهم في ذلك ، ولكان الملاك في الكسوف ووجوب صلاة الآيات هو الحيلولة لا غير ، والحال أنّ صاحب الجواهر وغيره من الأكابر لم يوافقوا على انصراف الإطلاق إلى الفرد المتعارف في المورد المذكور طبعاً . نعم، ثـمّة تردّد من جهة اُخرى في صدق عنوان الكسوف .

9 ـ ما تمسّك به بعض الأعاظم ـ كالمحقّق الخوئي(2) ـ من إطلاق قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (3) لإثبات وجوب النفقة على الصغيرة مع وضوح انصرافه إلى الكبيرة; بمعنى أنّه لا اعتبار عندهم لهذا الانصراف .

10 ـ التمسّك بقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَ جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَعَشْرًا) (4) لإثبات العدّة على الزوجة الصغيرة إذا مات عنها زوجها ، مع أنّ الإطلاق في الأزواج منصرف إلى الكبيرة(5) .

11 ـ تمسّك الفقهاء بشكل جليّ بإطلاق قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (6) في موارد البيع كافّة حتى في المصاديق التي لم تكن في السابق، كإنشاء البيع بالتلفون والإنترنيت ، فلم يدّع فقيه إلى الآن أنّ البيع ينصرف إلى خصوص البيع


(1) أمالي الصدوق: 551 ح735، وعنه وسائل الشيعة 7 : 487 ، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الكسوف والآيات ب2 ح4 .
(2) منهاج الصالحين 2 : 287 مسألة 1400 ، موسوعة أحكام الأطفال وأدلّتها 2 : 83 .
(3) سورة البقرة 2 : 233 .
(4) سورة البقرة 2 : 234 .
(5) موسوعة أحكام الأطفال وأدلّتها 2 : 106.
(6) سورة البقرة 2 : 275 .

صفحه 457

المتعارف الموجود بين غالب الناس ، بل قد تمسّك البعض بإطلاقها لإثبات صدق البيع فيما يشك في صدقه (1) .

12 ـ من الواضح أنّه لم يتمسّك أحد بحمل قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ) (2) على الفرد المتعارف للضرب الذي هو بمعنى المشي المعروف، أو المشي مع الحيوانات كالخيل وإن كان هناك شبهات قد طرحت أخيراً في هذاالمجال، إلاّ أنّ أكابر الفقهاء قد تمسّكوا بإطلاقها لكلّ أفراد الضرب وإن لم تكن من أفراده المتعارفة(3) .

13 ـ فسّر المشهور ـ ومنهم الشيخ الأنصاري(4) ـ الباطل في قوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَ لَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـطِـلِ) (5) بالباطل العرفي ، وقد طبّق ذلك على مصاديق للباطل سيّما في عصرنا هذا استناداً إلى الآية الكريمة، كالمعاملات المعبرّ عنها بالمعاملات الهرميّة ، فهي وإن كانت قد لا تُعدّ باطلاً بحسب الظاهر لدى العرف ، ولكن حقيقتها باطلة ، ولو كان العرف يقف على حقيقتها واقعاً لحكم بكونها باطلاً .


(1) كتاب المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3 : 20 ، 40 التنقيح في شرح المكاسب 1 : 197ـ 198، 208،212، 220، 225، وج2: 27، كتاب البيع للإمام الخميني(قدس سره) 2 : 124 ، 536 ، جامع المسائل ، الاستفتاءات 2 : 305 مسألة 971.
(2) سورة النساء 4 : 101 .
(3) رساله استفتاءات 2 : 139 مسألة 1356 و 1357، نماز مسافر با وسائل امروزى : 3 وما بعدها، نكرشى جديد بر نماز و روزه مسافران : 5 وما بعدها، مصباح الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، صلاة المسافر: 13ـ 18.
(4) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 1 : 239 ، و ج3 : 54 ـ 55 ، وج5: 20، حاشية المكاسب للايرواني 3: 20، حاشية المكاسب للاصفهاني 4 : 40 ، كتاب البيع للإمام الخميني 1 : 101، 171، 200، ولكن خالفهم في ذلك السيّد الخوئي في التنقيح، في شرح المكاسب 3 : 33 ـ 34.
(5) سورة النساء 4 : 29 .

صفحه 458

14 ـ النظر للأجنبيّة حرام مطلقاً من غير تقييد بالعين مباشرة ، ولم يذهب فقيه واحد إلى تقييده بذلك ، فلو تمّ النظر إلى الأجنبيّة على بعد عدّة كيلومترات بواسطة الكاميرات القويّة لكان مصداقاً للنظر المحرّم .

15 ـ لقد ورد في بعض الروايات في نفس مقامنا ـ أي مسألة الهلال ـ أنّه لو رُؤي الهلال قبل الزوال نهاراً فذاك هو أوّل شوّال، وإن كان بعده فهو من رمضان (1)، مع أنّ القائلين بالانصراف ينبغي أن يصرفوا الرؤية للرؤية ليلاً ، والحال أنّ الرؤية نهاراً قد اعتبرت جزءاً من الرؤية أيضاً .

قال في الجواهر: قد يستدلّ(2) على حرمة النظر إلى الطفل المميّز بمثل قوله (عليه السلام) : عورة المؤمن على المؤمن حرام(3) (4)، ولم يصرفوا الأحاديث إلى خصوص البالغ.

فالمتحصّل من جميع هذه الموارد عدم صحّة ما ذكره البعض; من أنّا لا يمكننا الأخذ بالأفراد المتعارفة في سائر المطلقات في الفقه، ولكن عندما نصل إلى رؤية الهلال نرجع إلى الأفراد غير المتعارفة (5) .

ولعلّ المتتبّع يظفر بالمزيد من الموارد الاُخرى التي لم يرتّب فيها الفقهاء الحكم على الفرد المتعارف .

وقد ورد في رسالة «چند نكته مهم در باره رؤيت هلال» بعض الموارد التي حمل فيها الفقهاء المطلقات على الفرد المتعارف ، إلاّ أنّ العجيب أنّ في بعض تلك


(1) تهذيب الأحكام 4 : 176 ح489 ، الاستبصار 2 : 74 ح226، وعنهما وسائل الشيعة 10: 279، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب8 ح5.
(2) كالنراقي في مستند الشيعة 16 : 34.
(3) تهذيب الأحكام 1 : 375 ح1152 و 1153، معاني الأخبار: 255 ح3 و2، وعنهما وسائل الشيعة 2: 37، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب 8 ح1 و 2 ، وفي بحار الأنوار 75 : 214 ح9 عن المعاني.
(4) جواهر الكلام 2 : 7 ـ 8 .
(5) فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 170.

صفحه 459

الموارد ما لا علاقة له بالمطلوب إطلاقاً . فمثلاً جاء في المورد الرابع : أنّ الكثير من الفقهاء يجعلون الملاك في المناطق القطبيّة أو القريبة من القطب التي يكون فيها الليل أو النهار قصيراً جدّاً وخارجاً عن المتعارف هو المناطق المتعارفة(1) .

ولكن أيّة علاقة لهذا المورد بالمدّعى ؟ فهل أنّ كلمة « المتعارف » كلّما وردت في الفقه فهي ترتبط بمحلّ الكلام ؟ وهل ثمّـة إطلاق في هذا المورد حتّى يحمل على الفرد المتعارف ؟

ومن الواضح : أنّ المراد بالمتعارف هنا هو ما كان جهة اشتراك المكلّفين في أصل التكليف في أيّة منطقة ومكان كانوا ، فلابدّ أن يأتوا بأعمالهم العباديّة كسائر المكلّفين ، فالمناسب أداء أعمالهم في الأوقات الخمسة كالمناطق المتعارفة الاُخرى ، وإلاّ لم يلتزم فقيه بأنّ قوله ـ تعالى ـ : (أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ) (2) يجب حمله على الطلوع أو الغروب المتعارف للشمس !

وهكذا الكلام فيما ذكره في المورد السادس، حيث ذكر أنّ المتعارف في موارد الجلد بالسوط المتعارف منه(3) ; إذ من الواضح عدم استفادة ذلك من الإطلاق ، بل من القرائن المتوفّرة الدالّة على الفرد المتعارف .

نتائج البحث :

أوّلاً : أنّ الأصل الأوّلي هوأصالة الإطلاق، فيجب التمسّك بها .

وثانياً : أنّ الانصراف إلى فرد معيّن بحاجة إلى قرينة خاصّة ، وقد لوحظ أنّ الفقهاء يتمسّكون في موارد عديدة من الفقه بالإطلاق فيما لو فُقدت هذه القرينة ،


(1) فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 169.
(2) سورة الإسراء 17 : 78 .
(3) فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11، شماره 43 : 170.

صفحه 460

ولا قرينة فيما نحن فيه على الانصراف ، ومناسبات الحكم والموضوع لا تصلح للقرينيّة هنا .

وثالثاً : عدم كفاية القرينة الدالّة على الانصراف لو كانت لوحدها ، بل لابدّ من توفّر القرائن والشواهد الاُخرى التي يمكن أن يستند إليها الفقيه .

ورابعاً : أنّه لو كان الشارع الأقدس يعتبر الرؤية بالعين غير المسلّحة لوحدها شرطاً في ثبوت الهلال، لأكّد ذلك ببيان أوضح وأجلى ممّا هو عليه . وبعبارة اُخرى : إنّه لا يمكن الالتزام بأنّ الشارع قد اكتفى بالانصراف في مثل هذا الأمر المهمّ الذي هو مورد ابتلاء المسلمين في كلّ سنة، بل وفي كلّ شهر من الشهور القمريّة .

وخامساً : أنّه لو قلنا بالانصراف لوجب الالتزام بأنّ الرؤية المعتبرة هي خصوص ما كان على سطح الأرض المستوي دون ما كان منه على رأس جبل أو بناية شاهقة ، مع أنّه ممّا لايمكن الالتزام به . نعم ، قد ورد النهي في بعض الروايات(1) من الصعود على الجبل لرؤية غروب الشمس ، إلاّ أنّه خارج عمّا نحن فيه ; لاختلاف الموضوع بين المقامين .

وعليه : فإنّه يمكن المصير إلى جواز رؤية الهلال بالعين المسلّحة كالعين غير المسلّحة تماماً ، والأدلّة والضوابط الشرعيّة تساعد على إثبات ذلك .

الدعوى الثانية : الطريقيّة والموضوعيّة

طرح البعض(2) في بعض بحوثه حول هذه المسألة مسألة الطريقيّة والموضوعيّة وأنّ الرؤية في باب الهلال ذات عنوان طريقيّ، وفي باب النظر


(1) وسائل الشيعة 4 : 198 ، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب20.
(2) بررسى حكم شرعى رؤيت هلال با چشم مسلّح، محمد سميعى.

صفحه 461

للأجنبيّة ذات عنوان موضوعيّ، ولذا حاولوا حلّ الإشكال عن هذا الطريق ; أي بما أنّ الرؤية في باب النظر إلى الأجنبيّة مأخوذة على نحو الموضوعيّة ، فلذا لا فرق حينئذ بين أقسامها وأسبابها .

وهذا الكلام في غاية الإشكال ، حيث يرد عليه أوّلاً : لا شكّ أنّ الرؤية في أوّل الشهر القمري قد اُخذت على نحو الطريقيّة، وأنّ البيّنة أو العلم الشخصي يمكن أن تقوم مقامها ، إلاّ أنّ نزاعنا ليس في أنّ الرؤية مأخوذة بنحو الطريقيّة أو الموضوعيّة ; لأنّه يمكن بناء النزاع على كلا القولين: الطريقيّة والموضوعيّة ، بل النزاع في أنّه هل مطلق الرؤية طريق، أو الطريق هو خصوص الرؤية الاعتياديّة ؟ وهل أنّ مطلق الرؤية مأخوذة على نحو الموضوعيّة، أو خصوص الرؤية الاعتياديّة ؟

وثانياً : أنّه لا يمكن إثبات انحصار الرؤية بالاعتياديّة من خلال نفي الموضوعيّة . فما ورد في بعض المقالات (1) من أنّه بناءً على التفريق بين موارد الطريقيّة والموضوعيّة يمكن القول بأنّ الملاك ليس هو إلاّ الرؤية الاعتياديّة في غاية الغرابة ; إذ كيف يمكن للتمييز بين الموضوعيّة والطريقيّة أن ينتج القول بأنّ مجرّد نفي الموضوعيّة يثبت أصالة الطريقيّة، وأنّ مجرّد نفي الطريقيّة يثبت أصالة الموضوعيّة . وأمّا الإطلاق وعدم الإطلاق، فلا ربط لأحدهما بالآخر ؟ !

وذهب بعض آخر في بعض المقالات (2) إلى أنّه كلّما ورد السمع أو النظر في الروايات في تحديد شيء معيّن فإنّهما مأخوذان على نحو الطريقيّة، ولا يمكن أن يقوم مقامهما شيء آخر حتى لو كان النظر والسمع حادّين وخارقين للعادة، لاخصوص الرؤية والسماع بالوسائل والأجهزة الحديثة .


(1) بررسى حكم شرعى رؤيت هلال با چشم مسلّح، محمد سميعى.
(2) رؤيت هلال 1 : نود و نه ـ يك صد و يك.

صفحه 462

ويرد عليه أوّلاً: أنّ الطريقيّة لا تعني عدم قيام شيء مقامها ، بل يراد بها العكس ; أي إمكانيّة قيام شيء مقامها .

وثانياً: أنّ التأمّل فيما تقدّم من البحث يكشف وقوع خلط بين أن يؤخذ عنوان ما طريقاً، وبين أن يؤخذ ملاكاً وموضوعاً للحكم . ومن الممكن القول في مثل هذه الموارد أنّ رؤية الموضوع وسماعه إنّما هو للتحديد، وقرينيّة مناسبات الحكم والموضوع تقتضي عدم إمكانيّة أن يقوم مقامهما أيُّ بديل آخر ، بل الذي يقوم هو خصوص ما كان متناسباً مع التحديد دون ما كان منافياً له .

وثالثاً: ذكر كاتب المقال أنّ رؤية الهلال تشبه مسألة حدّ الترخّص ، فكما أنّ الشارع في حدّ الترخّص هو في مقام التحديد، فكذلك هنا .

إلاّ أنّ هذه مجرّد دعوى لا دليل عليها ; وذلك أنّا لا نجيز استعمال الوسائل بدل الرؤية في حدّ الترخّص ; لتوفّر قرينيّة مناسبات الحكم والموضوع ; وذلك باعتبار أنّ الملاك هو الابتعاد عن البلد بحيث لا يسمع أذانه ، في حين أنّ مقامنا هو في قيام الوسائل مقام الرؤية الاعتياديّة ، وذلك لا ينافي بداية الشهر القمري وتحديده .

وأخيراً ، فالمهمّ عند من يناقش في كفاية الرؤية بالوسائل هو دفع جميع الأقوال المقابلة حتى القول بأنّ بداية الشهر هي بخروج الهلال من المحاق ، فهل يمكن أن ندّعي في قبال من يرى أنّ بداية الشهر بالخروج من المحاق، أنّ هذا الرأي يتنافى مع كون المسألة في مقام التحديد ؟ وإذا أجابكم صاحب هذا القول بأنّ الرؤية المأخوذة في النصوص هي على نحو الطريقيّة لإثبات خروج الهلال من المحاق، لا لإثبات إمكانيّة الرؤية الاعتياديّة ، فما هو الجواب على ذلك ؟ !

إنّ دعوى كون الرؤية هي خصوص الرؤية الاعتياديّة ليس إلاّ مصادرة واضحة على المطلوب ، حيث أخذ القائل بذلك في ذهنه مسبقاً هذا المعنى ثمّ حمل الرؤية الواردة في الأخبار عليها بما يشبه أن تكون قضيّة ضروريّة بشرط المحمول .

صفحه 463

وبعبارة أوضح: إنّ لمسألة حدّ الترخّص خصوصيّات ، وهي عبارة عن :

1 ـ إنّ العرف يرى أنّ ثـمّة حدّ معيّن يسمّى بحدّ الترخّص، وما ذكره الشارع يمكن أن يكون طريقاً لإحراز ذلك الحدّ العرفي ليس إلاّ .

2 ـ إنّ كلّ شيء يراد له أن يكون طريقاً إلى حدّ الترخّص لابّد أن يكون موائماً ومنسجماً مع عنوان التحديد . وأمّا في مقامنا، فالتحديد تكوينيّ وواقعيّ ، فالشهر له بداية ونهاية محدّدة تستغرق فترة من 29 إلى 30 يوماً ، وهذا أمر تكوينيّ وليس عنواناً عرفيّاً ، فالحدّ إذن في مسألة حدّ الترخّص له عنوان عرفيّ، بينما في مقامنا له عنوان واقعيّ .

وعليه: فبعد أن اعتبر الشارع الرؤية طريقاً يُطرح التساؤل في أنّه طريق لأيّ شيء ؟ إذا قلنا: إنّه طريق للهلال في حال خروجه من المحاق، حيث لا تتيسّر رؤيته بالعين الاعتياديّة، فهذا إضافة إلى بعده، فهو عين المدّعى .

موضوع الرؤية

وعليه : فما يقتضيه البحث العلمي ليس التركيز على كون الرؤية بنحو الطريقيّة، أو لا ، بل لابدّ من البحث عن نفس الشيء الذي تقع الرؤية موضوعاً له ، فهل هو صرف الخروج من المحاق؟ ليُجاب بما أنّ الخروج من المحاق أمر عقليّ دقيق خارج عن الفهم العرفي، فلا يمكن أن يكون هو الملاك، هذا الاحتمال الأوّل.

الاحتمال الثاني : هو أن يخرج من المحاق بمقدار معيّن، وأن يخرج من تحت شعاع الشمس، ولا تمكن رؤيته إلاّ بالعين المسلّحة .

الاحتمال الثالث : هو أن يخرج وتمكن رؤيته بالعين الاعتياديّة .

ويقع البحث في الصحيح من هذين الاحتمالين: الثاني أو الثالث، وفي الدليل على ذلك ، وصرف الادّعاء بأنّ الرؤية مأخذوة بنحو الطريقيّة لا يعيّن الصحيح


صفحه 464

منهما . وبعبارة اُخرى: الطريقيّة تنسجم مع كلا الاحتمالين . نعم ، يمكن إثبات أحدهما أو نفيه بواسطة الإطلاق وعدمه .

والحاصل من مجموع ما تقدّم عدم صحّة شيء من هاتين الدعويين في عدم حجّية الرؤية بالعين المسلّحة ، فنستنتج أنّ الملاك لـمّا كان هو ثبوت الهلال ، والرؤية ليست إلاّ طريقاً مؤدّياً إليه لتحصيل اليقين بثبوته ـ وأيضاً ليس الملاك في بداية الشهر ووجوب الصيام إلاّ اليقين بثبوت الهلال، وقد سبقت الإشارة إلى أنّ الهلال أمر واقعيّ تكوينيّ يتعلّق بالليلة الاُولى من الشهر ـ فالرؤية بالوسائل والأجهزة الحديثة هي معتبرة شرعاً ومجزئة في ثبوت الهلال .

إيرادات وتوهّمات :

الإيراد الأوّل : أنّه لو كانت الرؤية بالوسائل الحديثة حجّة معتبرة شرعاً، للزم ثبوت النجاسة والطهارة بالميكروسكوب ; بمعنى وجوب غسل الثوب من الذرّات التي يمكن مشاهدتها بالميكروسكوب ، مع أنّه يشكل الالتزام بذلك فقهيّاً ، بل هو غير صحيح(1) .

والجواب على ذلك واضح جدّاً، وهو: أنّ المعيار في باب النجاسات ولزوم تطهيرها ـ كما في الأخبار ـ هو اليقين بالنجاسة; أي يجب التطهير في صورة التيقّن بالنجاسة، كما قال (عليه السلام) : إن كان استبان من أثره شيء فاغسله، وإلاّ لا بأس (2) .

طبعاً هذه الروايات واردة في مقام الشكّ ، فالشارع لايوجب التفحّص عن الواقع في حالات الشكّ ، بل يجب الاجتناب والتطهير عند تيقّن النجاسة . وبعبارة


(1) فقه اهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 170.
(2) تهذيب الأحكام 1 : 424 ح1347، قرب الإسناد: 193 ح729، وعنهما وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح3.

صفحه 465

اُخرى : إنّه لو كان التفحّص عن النجاسة هو الأصل لقلنا بأنّ من طرق ثبوتها هو النظر بالميكروسكوب أو المكبّرة ، ولكنّ الشارع لمّا وسّع على المكلّفين في ذلك نستنتج عدم وجوب الفحص ، بل لو حصل القطع بالنجاسة بشكل عاديّ لوجب التطهير .

وقد يطرح التساؤل التالي : أنّه وإن لم يجب الفحص ولو بالآلات والوسائل، ولكن لو اتّفق ذلك صدفة وتمّ رؤية ذرّات النجاسة بالمكبّرة أو الميكروسكوب على الثوب فما حكم ذلك ؟

يمكن القول بأنّ هذا من مصاديق الاستبانة استناداً إلى الإطلاقات ، وبما أنّه حصل اليقين بالنجاسة فيشترك هذا المورد مع سائر الموارد في الحكم .

ولكن من المحتمل أيضاً أن يستفاد من مجموع الأدلّة الواردة في باب الطهارة والنجاسة أنّ الشارع لم يجعل هذا المقدار موضوعاً للحكم، وأنّه قد تلقّى ذلك بمنزلة العدم ، ولكن هذا لا يعني إسناد ذلك إلى الانصراف .

الإيراد الثاني : قيل في حدّ الترخّص : إنّه المكان الذي يتوارى فيه الجدران ويخفى فيه الأذان ، فلو قلنا: إنّ المعيار هو مطلق الرؤية ومطلق السماع، لكان اللازم اعتبار المكان الذي يبعد عشرين كيلو متراً حدّاً للترخّص فيما لو كان يُرى منه الجُدران بواسطة التسلكوب مثلاً ، والحال أنّ الفقهاء اعتبروا المعيار هو الحالة العاديّة(1) .

الجواب : من الواضح أنّ حدّ الترخّص لا يختلف باختلاف الأفراد ، بل هو أمر عرفيّ ، وتحديد الشرع له ليس تحديداً تعبّدياً محضاً ، بل هو كاشف عن ضابطة عرفيّة ، فالعرف يعتبر الرؤية والسماع الطبيعيّين هما المقياس ، ولا يقيم اعتباراً


(1) رؤيت هلال 1 : يك صد و چهار ، فقه اهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11 ، شماره 43 : 169.

صفحه 466

للأجهزة والوسائل ; وذلك لأنّه لو اُخذ مثل هذه الوسائل بنظر الاعتبار لاختلف حدّ الترخّص باختلاف هذه الوسائل ، ولخرج عن حقيقة الحدّ . وبعبارة اُخرى : إنّ الملاك لحدّ الترخّص هو الابتعاد عن البلد بحيث تخفى الجدران ولا يسمع الأذان ، وهذا الابتعاد نفسه هو أفضل قرينة على وجود حدّ معيّن له في الواقع .

الإيراد الثالث : قيل: إنّه لو شهد اثنان حادّي البصر لاتكفي شهادتهم ، فتلحق الرؤية بالوسائل بذلك في عدم الاعتبار(1) .

والجواب أوّلاً : أن حدّة البصر في نفسها يحتمل معها قويّاً وقوع الخطأ فيه ، في حال أنّ مثل هذا الخطأ في التلسكوب إمّا معدوم أو ضعيف .

وثانياً : إمكانيّة الرؤية بالتلسكوب أو المكبّرات لكلّ أحد ، وهذا بعكس هؤلاء ذوي البصر الحادّ، فإنّ ذلك خاصّ بهم ، ولذا لا يمكن قياس النظر بالتلسكوب على حادّ النظر .

وثالثاً : أنّ هذا الاستدلال لا يعدو أن يكون قياساً، فلا يمكن أن يقال مثلاً في باب النجاسات : إنّه لو رأى النجاسة شخص حادّ البصر بما لا يراها غيره لم يجب عليه الاجتناب ، بل يجب عليه الاجتناب عند التيقّن بالنجاسة وإن لم يجب على الآخرين الاجتناب .

ورابعاً : المستفاد من هذه الفتوى عدم حجّية مثل هذه الشهادة للغير، لكن هي حجّة في حقّهم ويجب عليهم ترتيب آثارها .

الإيراد الرابع : أنّ لازم اعتبار الشارع للرؤية بالعين المسلّحة معناه تخطئة المسلمين لأكثر من ألف سنة ، حيث إنّ هذه الوسائل لم تكن في السابق ، فمعناه أنّ الشهر كان يتأخّر عندهم إمّا دائماً أو غالباً(2) .


(1) لم نجده عاجلاً.
(2) رؤيت هلال 2 : 1335 ـ 1336، مجله فقه ، دفتر تبليغات، شماره 50 : 99 ـ 100، فقه أهل بيت (عليهم السلام) ، سال 11، شماره 43: 170 ـ 171.

صفحه 467

الجواب أوّلاً : أنّ القول بهذا الإشكال ينحصر بصورة منع الشارع الناس من هذه الوسائل ، والحال أنّه لم يمنع منها .

وثانياً : أنّ تماميّة هذا الإشكال تتوقّف على أن تكون الرؤية بالعين المسلّحة هي المتعيّنة والمعيار الحقيقي ، مع أنّه قد تقدّم أنّ القائلين بها يذهبون إليها على نحو مانعة الخلوّ .

وثالثاً : أنّه إذا تمّـت رؤيته في منطقة ما بالعين غير المسلّحة، فهذا لا يعني أبداً عدم إمكانيّة رؤيته في الليلة السابقة ، وعليه: فلا يمكن مناقشة هذا الرأي من خلال الإيراد المذكور .

وبعبارة اُخرى : إنّ اعتبار الرؤية بالعين المسلّحة كافية أو غير كافية لا يؤثّر في الواقع شيئاً، كما هو الحال في الرؤية بالعين غير المسلّحة .

الإيراد الخامس : أنّ القول بحجّية الرؤية بالعين المسلّحة يستتبع إشكاليات عديدة، وهو قابل للنقض ببرهان الخلف . بيان ذلك : أنّ حجّية هذا القول تستلزم القول بأنّ الأحكام الشرعيّة والمصالح والمفاسد هي تابعة لتطوّر الحياة والأجهزة الحديثة ، فإذا تمّ اختراع التلسكوب مثلاً، وأمكن من خلاله رؤية الهلال الذي لم يكن يُر بدونه، فهذا معناه أن تتقدّم ليلة القدر وأن تعجّل الملائكة بنزولها في تلك الليلة التي رُؤي فيها الهلال (1) .

الجواب أوّلاً : أنّ هذه الإشكاليات يمكن أن تكون مشتركة ; بمعنى أنّه حتّى لو كان المعيار هو الرؤية بالعين الاعتياديّة; فإنّ مثل هذه الإشكالات موجودة أيضاً في البلاد التي لم يُر فيها الهلال وليست قريبة الاُفق . وبعبارة أخرى : إنّ هذه الاشكالات ليست ناشئة من استعمال الوسائل الحديثة .


(1) بررسى حكم شرعى رؤيت هلال باچشم مسلّح ، محمد سميعى .

صفحه 468

وثانياً : أنّنا ندّعي أساساً أنّ اعتماد الرؤية بالعين غير المسلّحة تحول دون وقوع مثل هذه الإشكالات ، فهذا الطريق أسلم من الرؤية بالعين الطبيعيّة .

وثالثاً : وهو العمدة في الجواب ، وحاصله : أنّه قد ثبت في علم الاُصول أنّ الأحكام الواقعيّة والظاهريّة هي التابعة للمصالح والمفاسد . وأمّا الأحكام الفعليّة التي تحملالعنوان الظاهري فلها ملاكاتها الخاصّة بها المذكورة في علم الاُصول(1) .

ورابعاً : الوارد في الروايات(2) والفتاوى(3) أنّه لو رأى شخص الهلال لوحده دون سواه، واطمأنّ إلى رؤيته من غير شكّ فيها وجب عليه الصوم وحده . وأمّا إذا كان شاكّاً صام مع سائر الناس . وعلى كلّ حال ، فإنّ وظيفته تختلف عن غيره ، فهل تلتزمون في مثل هذه الصورة بالإشكالات المذكورة ؟ أم أنّ العلاج هو طرق الجمع المذكورة في محلّها(4) بين الحكم الواقعي والظاهري ؟

فالنتيجة هي عدم ترتّب شيء من هذه التوالي الفاسدة على الرأي المختار القاضي بجواز استعمال الأجهزة الحديثة لرؤية الهلال .


(1) راجع أجود التقريرات 3 : 66 ـ 67 ، فوائد الاُصول 3 : 57 ـ 62 ، 89 ـ 96 ، محاضرات في اُصول الفقه 2: 361، وج3: 2 ـ 3، مصباح الاُصول 2 : 21 ـ 22 ، 55 .
(2) وسائل الشيعة 10 : 260 ، كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان ب4.
(3) النهاية: 150، شرائع الإسلام 1 : 199، العروة الوثقى 3 : 628 ، وسيلة النجاة : 250 ، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصوم: 231.
(4) كفاية الاُصول: 322، فرائد الاُصول 1: 121 ـ 122، فوائد الاُصول 3: 100 ـ 119، سيرى كامل در اصولفقه 10: 119ـ 186.

فهرس مصادر التحقيق

ـ أ ـ

ـ آراء السيّد علي الفاني الاصفهاني حول القرآن (1332 ـ 1409) قم المقدّسة، 1399هـ .

ـ آلاء الرحمن في تفسير القرآن، للشيخ محمد جواد بن حسن بن طالب بن عبّاس بن إبراهيم ابن حسين البلاغي الربعي (1282 ـ 1352) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1420هـ .

ـ آية التطهير رؤية مبتكرة، لآية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(قدس سره)، وآية الله الشيخ شهاب الدِّين الإشراقي(قدس سره)، مركز فقه الأئمـّة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1421هـ .

ـ أجود التقريرات، تقريرات أبحاث الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (م 1355) للسيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413) مطبعة ستارة، قم، 1419 هـ .

ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي (من أعلام القرن السادس) دار الاُسوة، قم، الطبعة الثالثة، 1422هـ .

ـ الإحكام في اُصول الأحكام، لأبي الحسن عليّ بن أبي محمّد بن سالم الثعلبي، أو التغلبي، الملقّب سيف الدِّين الآمدي (551 ـ 631) دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1418هـ .

ـ اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي» لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (385 ـ 460) جامعة مشهد، 1348ش.

ـ أخلاق ناصري، لمحمّد بن محمّد بن الحسن، الفيلسوف ، المحقّق الخواجة نصير الدِّين الطوسي (597 ـ672) شركت سهامى انتشارات خوارزمى، طهران، الطبعة الثانية، 1360ش.

ـ إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة (648 ـ 726) مؤسّسة النشرالإسلامي،قم،الطبعة الاُولى، 1410هـ .

ـ أساس البلاغة، لجار الله أبي القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري (467 ـ 538) دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1404هـ .

ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن عليّ الطوسي (385ـ460) دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الثالثة ، 1390 هـ .

ـ الإشارات والتنبيهات، لأبي علي حسين بن عبدالله بن الحسن بن علي بن سينا، ثمّ البخاري، الملقّب بالشيخ الرئيس (370 ـ 428) المطبعة الحيدريّة، طهران، الطبعة الثانية، 1403هـ .

ـ الاُصول العامّة للفقه المقارن، للسيّد محمد تقي بن سعيد الحكيم (تولّد 1921م) مؤسّسة
آل البيت(عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1979 م.

ـ اُصول الفقه، للشيخ محمّد رضا بن محمّد بن عبدالله بن محمد المظفّر النجفي (1322 ـ 1383) مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1415هـ .

ـ الاعتقادات، سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى ابن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1414هـ .

ـ أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد، لسعيد بن عبدالله بن ميخائيل بن إلياس بن يوسف الخوري الشرتوني (1265 ـ 1330) مكتبة لبنان، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.

ـ اُكذوبة تحريف القرآن، للشيخ رسول جعفريان، معاونيّة العلاقات الدوليّة في منظمة الإعلام الإسلامي، طهران، الطبعة الاُولى، 1406هـ .

ـ الأمالي، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ الأمالي، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن عليّ بن الحسن الطوسي (385 ـ 460) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1414 هـ .

ـ الأمالي، لأبي عبدالله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي، الملقّب بالشيخ المفيد
(338 ـ 413) منشورات جماعة المدرّسين، قم المقدّسة، 1403هـ .

ـ الانتصار، لعليّ بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 ـ 436) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم المشرّفة، 1415 هـ .

ـ أنوار الاُصول، تقريراً لأبحاث الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، لأحمد القدسي، مدرسة الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1416هـ .

ـ أوثق الوسائل في شرح الرسائل، لموسى بن جعفر بن أحمد بن لطف علي بن محمد صادق التبريزي (م1307) انتشارات كتبي نجفي، قم، بالاُفست عن الطبعة في سنة 1397هـ .

ـ الإيضاح، لفضل بن شاذان بن الخليل الأزدي النيسابوري (م260) مؤسّسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الاُولى، 1402هـ .

ـ إيضاح الفوائد في شرح مشكلات القواعد، لفخر المحقّقين محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي (682 ـ 771) المطبعة العلميّة، قم، الطبعة الاُولى، 1387هـ .

ـ ب ـ

ـ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمـّة الأطهار(عليهم السلام)، للعلاّمة المولى محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1037 ـ 1110، 1111) دار الكتب الإسلامية، طهران.

ـ بحر الفوائد في شرح الفرائد، لمحمّد حسن بن جعفر بن محمّد الآشتياني (حدود
1248 ـ 1319) مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1403هـ .

ـ بحوث في علم الاُصول (مباحث الدليل اللفظي) تقريراً لأبحاث السيّد محمد باقر الصدر (1353 ـ 1400) للسيّد محمودالهاشمي، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1405 هـ .

ـ بدائع الأفكار في الاُصول، تقرير بحث الشيخ ضياء الدِّين ابن المولى محمد العراقي
(1278 ـ 1361) للشيخ هاشم بن محمّد الآملي (1322 ـ 1413) المطبعة العلميّة، النجف الأشرف، 1370هـ .

ـ البرهان في تفسير القرآن، للسيّد هاشم بن سليمان بن إسماعيل بن عبد الجواد بن عليّ بن سليمان
ابن السيّد ناصر الحسيني البحراني، التوبلي الكتكتاني (م1107) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1415هـ .

ـ بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد(صلى الله عليه وآله)، لأبي جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار (م290) مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدّسة، 1404هـ .

ـ البلد الأمين، لتقيّ الدين إبراهيم بن عليّ بن الحسن بن محمّد بن صالح بن إسماعيل الحارثي الكفعمي العاملي (840 ـ 905) طبع الحجري.

ـ البيان، للشيخ أبي عبدالله شمس الدين محمد بن جمال الدين مكّي بن محمد بن حامد بن أحمد المطّلبي العامليّ النباطي، المشتهر بالشهيد الأوّل (734 ـ 786) بنياد فرهنگي الإمام المهدي(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1412هـ .

ـ البيان في تفسير القرآن، للسيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي
(1317 ـ 1413) مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، الطبعة الثلاثون، 1424 هـ .

ـ ت ـ

ـ التاج المذهّب لأحكام المذهب، لأحمد بن قاسم العنسي اليماني الصنعاني (1320ـ 1390) دار الحكمة اليمانيّة، صنعاء، 1414هـ .

ـ تاريخ التشريع الإسلامي (التشريع والفقه) لمنّاع خليل القطّان، مؤسّسة الرسالة، ناشرون، بيروت، الطبعة السادسة والعشرون، 1419هـ .

ـ تاريخ الفقه الإسلامي، أفكار ورجال، لمحمّد كمال الدين، منشأة المعارف، الاسكندريّة، الطبعة الاُولى، 2000م.

ـ تاريخ فقه أهل البيت(عليهم السلام)، للشيخ محمد مهدي الآصفي، مقدّمة رياض المسائل، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1416هـ .

ـ تاريخ المذاهب الإسلاميّة في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهيّة، لمحمّد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد بن عبدالله، المعروف بـ «محمّد أبو زهرة» (1316 ـ 1394) دار الفكر العربي، القاهرة.

ـ تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، للسيّد شرف الدِّين عليّ الحسيني الأستراباذي الغروي (من علماء النصف الثاني ـ من القرن العاشر) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1409هـ .

ـ تبصرة المتعلّمين في أحكام الدين، لأبي منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الاُولى، 1411 هـ .

ـ التبيان في تفسير القرآن، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي
(385ـ460) مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت، بالاُفست عن مكتبة الأمين في النجف الأشرف.

ـ تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) مؤسّسة الإمام الصادق(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1420ـ1422هـ .

ـ تحرير الوسيلة، للإمام الراحل السيّد روح الله الموسوي الخميني(قدس سره) (1281 ـ 1368ش) مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، الطبعة الاُولى، 1421هـ.

ـ تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، لأبي محمد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني الحلبي (من أعلام القرن الرابع) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1417 هـ .

ـ تذكرة الفقهاء، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم ، الطبعة الاُولى، 1414ـ 1427هـ ، ومكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، طهران.

ـ تشريح الاُصول، لملاّعلي بن فتح الله النهاوندي النجفي(حدود1242ـ1322)طهران، 1316هـ .

ـ تصحيح اعتقادات الإماميّة، سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد، لأبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان العكبري، الملقّب بالشيخ المفيد (336 ـ 413) دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1414هـ .

ـ تفسير الصافي، لمحمد بن المرتضى بن محمود، المدعوّ بالمولى محسن، والمشتهر بالفيض الكاشاني (1007 ـ 1091) المكتبة الإسلاميّة، طهران، 1362 ش.

ـ تفسير العيّاشي، لأبي النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي، المعروف بالعيّاشي (من أعلام القرن الثالث الهجري) المكتبة العلميّة الإسلاميّة، طهران، الطبعة الاُولى،
1380 ـ 1381هـ .

ـ تفسير القمّي، لأبي الحسن عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّي (من أعلام قرني 3 و4) مطبعة النجف، النجف، الطبعة الثانية، بيروت ، 1387 هـ .

ـ التفسير الكبير، المسمّى بـ «مفاتيح الغيب»، لأبي عبدالله محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن علي التيمي البكري الطبرستاني، المعروف بالفخر الرازي (543 ـ 606) دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1420هـ .

ـ تفسير كنز الدقائق وبحر الرغائب، لميرزا محمد المشهدي ابن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمّي (م حدود 1125) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1407 ـ 1413 هـ .

ـ التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري(عليهما السلام)، مدرسة الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه الشريف، قم، الطبعة الاُولى، 1409هـ .

ـ تفسير نمونة، لآية الله العظمى ناصرمكارم الشيرازي، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1380ش.

ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الصوم، لآية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(قدس سره) (1350ـ1428)، مركزفقه الأئمّـة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1426هـ.

ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ، لسماحة الفقيه المحقّق آية الله العظمى الحاجّ الشيخ محمّدالفاضل اللنكراني(قدس سره) (1350ـ 1428) دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، 1418 هـ .

ـ تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود، لسماحة الفقيه آية الله العظمى الحاجّ الشيخ محمدالفاضل اللنكراني(قدس سره) (1350ـ1428) مركز فقه الأئمـّة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1422 هـ .

ـ تلخيص المرام في معرفة الأحكام، لأبي منصور جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قم، الطبعة الاُولى، 1421 هـ .

ـ تمهيد القواعد، لزين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي، المعروف بالشهيد الثاني (911 ـ 965) مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1416 هـ .

ـ التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، لجمال الدين أبي عبدالله المقداد بن عبدالله بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري، المعروف بالفاضل المقداد (م 826) مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الاُولى، 1404 هـ .

ـ التنقيح في شرح العروة الوثقى، تقريراً لأبحاث السيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413) للميرزا عليّ الغروي التبريزي (1349 ـ 1418) مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، الطبعة الثانية، 1421 هـ .

ـ التنقيح في شرح المكاسب، تقريراً لأبحاث السيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413) للميرزا عليّ الغروي التبريزي (1349 ـ 1418) مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، الطبعة الاُولى، 1425هـ.

ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (385 ـ 460) دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1387 هـ .

ـ تهذيب الاُصول، تقرير أبحاث آية الله العظمى السيّد روح الله الموسوي الخميني
(1281 ـ 1368ش) للشيخ جعفر السبحاني، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني(قدس سره)، قم، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ تواتر القرآن، للشيخ محمد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسين، المعروف بالحرّ العاملي (1033 ـ 1104) دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الاُولى، 1426هـ .

ـ التوحيد، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) منشورات جماعة المدرّسين، قم.

ـ توضيح المسائل مراجع، دفتر انتشارات اسلامى قم، الطبعة الرابعة، 1378 ش.

ـ ث ـ

ـ ثابتها ومتغيّرها، لمحمد تقي جعفري (1304 ـ 1377) كيهان انديشه، العدد 10، السنة التاسعة.

ـ ثواب الأعمال، لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) مكتبة الصدوق، طهران، 1391هـ .

ـ ج ـ

ـ جامع الأخبار، أو معارج اليقين في اُصول الدِّين، للشيخ محمد بن محمد الشعيري السبزواري(من أعلام القرن 9) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياءالتراث،قم،الطبعة الاُولى، 1414هـ .

ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) لأبي جعفر محمّد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب (224 ـ 310) دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي (م671) دار إحياء التراث العربي، بيروت ، 1405هـ .

ـ جامع المسائل، استفتاءات، لآية الله العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قدس سره)(1350ـ1428) مطبعة مهر، قم، الطبعة الثانية، 1379ش.

ـ جامع المقاصد في شرح القواعد، لنور الدين أبي الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ بن
عبد العالي الكركي، المعروف بالمحقّق الثاني (868 ـ 940) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)لإحياء التراث، قم، الطبعة الثانية، 1414 ـ 1415 هـ .

ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، للشيخ محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم النجفي (م 1266) دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة السابعة، و مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى.

ـ ح ـ

ـ حاشية فوائد الاُصول، للشيخ ضياء الدِّين ابن المولى محمد العراقي (1278 ـ 1361) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم المقدّسة، 1417هـ .

ـ حاشية الكفاية، للعلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي التبريزي (1321 ـ 1402) بنياد علمي وفكري مؤلّف.

ـ حاشية المكاسب، لميرزا عليّ بن عبد الحسين بن المولى علي أصغر بن محمّد باقر الإيرواني الغروي (1301 ـ 1354) دار ذوي القربى، قم، الطبعة الاُولى، 1421هـ .

ـ حاشية المكاسب، للشيخ محمد حسين بن محمد حسن بن علي أكبر بن آقا بابا بن آقا كوچك النخجواني، المعروف بالمحقّق الاصفهاني (1296 ـ 1361) دار المصطفى(صلى الله عليه وآله) لإحياء التراث، قم، الطبعة الاُولى، 1418هـ .

ـ حاشية المكاسب (التعليقة على المكاسب) للشيخ محمد كاظم ابن المولى حسين الهروي الخراساني، المعروف بـ «الآخوند الخراساني» (1255 ـ 1329) وزارة الإرشاد الإسلامي، طهران، الطبعة الاُولى، 1406هـ .

ـ حاشية المكاسب، لمحمد كاظم ابن السيّد عبد العظيم الكسنوي النجفي الطباطبائي ، الشهير بالسيّد اليزدي (1247 ـ 1337) دار المصطفى (صلى الله عليه وآله) لإحياء التراث، قم، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ الحبل المتين في إحكام أحكام الدِّين، للشيخ بهاء الدين محمد بن عزّ الدين حسين بن
عبد الصمد بن شمس الدين محمد بن عليّ بن الحسين بن محمد بن صالح بن إسماعيل العامليّ الجبعي الحارثي الهمداني، الملقّب بالشيخ البهائي (953 ـ 1030) مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، الطبعة الاُولى، 1424هـ .

ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، للشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور البحراني (1107 ـ 1186) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1405هـ .

ـ حقائق الاُصول، للسيّد محسن بن مهدي بن صالح بن أحمد بن محمود الطباطبائي الحكيم (1306ـ 1390) المطبعة العلميّة، النجف، 1372هـ .

ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل، لأبي الحسن محمّد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم المجاب بن الإمام موسى بن جعفر الصادق(عليهما السلام)، المعروف بالشريف الرضي (359 ـ 406) دار المهاجر، بيروت.

ـ حكمت و حكومت، للدكتر مهدي الحائري، انتشارات شادي، الطبعة الاُولى، 1995م.

ـ خ ـ

ـ الخصال، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1416 هـ .

ـ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) نشر الفقاهة، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ الخلاف، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي (385 ـ 460) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1417 هـ .

ـ د ـ

ـ دراسات في الاُصول، لآية الله العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قدس سره) (1350ـ1428) انتشارات دار التفسير، قم، الطبعة الاُولى، 1383ش.

ـ دراسات موسّعة حول المسائل المستحدثة، للشيخ على آزاد القزويني، مطبعة سيّد الشهداء(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1416هـ .

ـ الدرّة الباهرة في الأصداف الطاهرة، لأبي عبدالله شمس الدِّين محمّد بن جمال الدِّين مكّي بن محمّد بن حامد بن أحمد العاملي النباطي، المشتهر بـ «الشهيد الأوّل» (734 ـ 786) الآستانة الرضويّة المقدّسة، مشهد، 1365هـ .

ـ درر الفوائد، للشيخ عبد الكريم بن محمّد جعفر مهرجردي الحائري اليزدي (1276 ـ 1355) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الخامسة، 1408 هـ .

ـ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدِّين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمّد ابن سابق الدِّين أبي بكر بن عثمان بن محمّد بن خضر بن أيّوب بن محمد بن همام الدين الأسيوطي، المعروف بالسيوطي (849ـ 911) دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، الطبعة الاُولى 1421هـ .

ـ الدروس الشرعية في فقه الإماميّة، للشيخ شمس الدين محمد بن مكّي العاملي، الشهير بالشهيد الأوّل (734 ـ 786) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1417 هـ .

ـ دروس في علم الاُصول، للسيّد الشهيد محمد باقر الصدر (1353 ـ 1400) مجمع الشهيد آية الله الصدر العلمي، قم، الطبعة الثانية، 1408هـ .

ـ دروس في مسائل علم الاُصول، للميرزاجوادالتبريزي (م1327) دفترمعظّم له، ستارة، قم.

ـ دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام، والقضايا والأحكام، عن أهل بيت رسول الله عليه وعليهم أفضل السلام، لنعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيّون التميمي المغربي (م363) دار المعارف بمصر، القاهرة الطبعة الثانية، 1383 ـ 1385هـ .

ـ دليل الناسك، للسيّد محسن بن مهدي بن صالح بن أحمد بن محمود الطباطبائي الحكيم
(1306 ـ 1390) مدرسة دار الحكمة، الطبعة الثالثة، 1416هـ .

ـ ذ ـ

ـ ذخيرة المعاد في شرح الإرشـاد، للمحقّق المولى محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري (م 1090) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث.

ـ ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، للشيخ شمس الدين محمد بن مكّي العاملي، الشهير بالشهيدالأوّل (734 ـ 786) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، قم، الطبعة الاُولى، 1419هـ .

ـ ر ـ

ـ رجال النجاشي، لأبي العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النجاشي الأسدي الكوفي (372 ـ 450) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة السادسة، 1418هـ .

ـ الرسائل، لآية الله العظمى السيّد روح الله الموسوي الخميني(قدس سره) (1281 ـ 1368 ش) مؤسّسة مطبوعاتي إسماعيليان، قم، الطبعة الثالثة، 1410 هـ .

ـ رسائل فقهيّة، للشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري (1214 ـ 1281) تراث الشيخ الأعظم، قم، الطبعة الاُولى، 1414 هـ .

ـ رسائل المحقّق الكركي، لنورالدين أبي الحسن علي بن الحسين بن علي بن عبدالعالي الكركي، المعروف بالمحقّق الثاني (868 ـ 940) مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الاُولى، 1409 هـ .

ـ رسالة الإثبات، لأحمد نشأت (1887 ـ 1947) الطبعة السابعة.

ـ رسالة المحكم والمتشابه نقلاً من تفسير النعماني، المطبوع مع جامع الأخبار والآثار عن النبيّ والأئمـّة الأطهار(عليهم السلام) ج 3، لعليّ بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام)، المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 ـ 436) مؤسّسة الإمام المهدي(عليه السلام)، قم المقدّسة، الطبعة الثانية، 1414 هـ .

ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدِّين أبي الفضائل محمد بن عبدالله الحسيني الآلوسي(1217ـ1270)دارإحياءالتراث العربي،بيروت،الطبعة الاُولى،1420 هـ .

ـ الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة، لزين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي، المعروف بالشهيد الثاني (911 ـ 965) دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ .

ـ روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان، لزين الدين بن عليّ بن أحمد العاملي، المعروف بالشهيدالثاني (911 ـ 965)مركزالأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قم، الطبعة الاُولى، 1422 هـ .

ـ روضُ الجِنان وروحُ الجَنان في تفسير القرآن، المشهور بـ «تفسير الشيخ أبو الفتوح الرازي»، لجمال الدِّين أبي الفتوح الحسين بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي الرازي النيسابوري (م حدود 554) بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى (مؤسّسة الدراسات الإسلاميّة التابعة للروضة الرضويّة) مشهد، 1371ش.

ـ رؤيت هلال، رضا مختارى ومحمد رضا نعمتى و... ، مؤسّسة بوستان كتاب (مؤسّسة النشر الإسلامي) قم، الطبعة الاُولى، 1425 ـ 1426.

ـ رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل، للسيّد عليّ بن محمد بن عليّ بن أبي المعالي الطباطبائي الحسيني الحائري (1161ـ1231) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية،1416هـ .

ـ ز ـ

ـ زبدة البيان في براهين أحكام القرآن، للمولى أحمد بن محمد، الشهير بالمحقّق والمقدّس الأردبيلي (م993) انتشارات مؤمنين، قم، الطبعة الثانية، 1421 هـ .

ـ س ـ

ـ السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، لمحمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم ابن عيسى العجلي (543 ـ 598) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1410 هـ .

ـ سعد السعود للنفوس ، للسيّد رضيّ الدِّين أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد العلوي الحسني، الحسيني، المعروف بابن طاووس (589 ـ 664) مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قم، الطبعة الاُولى، 1422هـ .

ـ سلسلة الأحاديث الصحيحة، لمحمّد ناصر الدِّين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الاُولى، 1412هـ .

ـ سنن ابن ماجة، لأبي عبدالله محمد بن يزيد بن ماجة الربعي القزويني (209 ـ 273) دار الكتب العلميّة، بيروت، الطبعة الاُولى، 1419 هـ .

ـ سنن الترمذي (الجامع الصحيح) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحّاك السلمي(209 ـ 279) دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1415 هـ .

ـ سنن الدارمي، لأبي محمّد عبدالله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التميمي الدارمي السمرقندي(181 ـ 255) دار الفكر، بيروت، 1414 هـ .

ـ السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي الخسروجردي
(384 ـ 458) دار الفكر، بيروت، الطبعة الاُولى، 1419 هـ .

ـ سنن النسائي، لأحمد بن شعيب بن عليّ بن سنان بن بحر بن دينار النسائي، أبو عبد الرحمان (215 ـ 303) دار الجيل، بيروت.

ـ سيري كامل در اصول فقه، لآية الله العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قدس سره)، انتشارات فيضيّة، قم، الطبعة الاُولى ، 1377 ـ 1388 ش .

ـ ش ـ

ـ شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريّا يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي، المعروف بالمحقّق الحلّي (602 ـ 676) مطبعة الآداب، النجف الأشرف، الطبعة الاُولى، 1389 هـ .

ـ شرح الإشارات والتنبيهات، لمحمّد بن محمّد بن الحسن، الفيلسوف، المحقّق الخواجه
نصير الدِّين الطوسي (597 ـ 672) المطبعة الحيدريّة، طهران، الطبعة الثانية، 1403هـ .

ـ الشرح الكبير، لشمس الدِّين أبي محمّد عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي
(597 ـ 682) دار الكتب العلميّة، بيروت.

ـ ص ـ

ـ الصحاح، المسمّى تاج اللغة وصحاح العربيّة، لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الجوهري الفارابي (م حدود 400) دار الفكر، بيروت، الطبعة الاُولى، 1418هـ .

ـ صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيري النيسابوري (206 ـ 261) دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الاُولى، 1416 هـ .

ـ صحيفه إمام، للإمام الراحل السيّد روح الله الموسوي الخميني(قدس سره) (1281ـ 1368ش) مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، الطبعة الاُولى، 1378ش.

ـ الصوم في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء، لآية الله الشيخ جعفر السبحاني، مؤسّسة الإمام الصادق(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1421هـ.

ـ صيانة القرآن من التحريف، للشيخ محمد هادي معرفة (م 1427) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثانية، 1418هـ .

ـ ع ـ

ـ العروة الوثقى، للسيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي (1247 ـ 1337) مركز فقه الأئمّـة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1422 هـ ، ومؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1417 ـ 1420.

ـ العزيز شرح الوجيز، المعروف بالشرح الكبير، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن القزويني الرافعي الشافعي (555 ـ 623) دار الكتب العلميّة، بيروت، الطبعة الاُولى، 1417هـ .

ـ علل الشرائع، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النجف، 1385 هـ .

ـ العناوين، للسيّد مير عبد الفتاح بن علي الحسيني المراغي (م 1250) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ عوائد الأيّام، للمولى أحمد بن المولى محمد مهدي بن أبي ذرّ، المعروف بالفاضل النراقي
(1185 ـ 1245) مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال، للشيخ عبدالله بن نورالله البحراني الاصفهاني (من أعلام تلامذة المجلسي) مؤسّسة الإمام المهدي(عليه السلام)، قم المقدّسة، الطبعة الاُولى، 1405ـ1416هـ .

ـ عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، لمحمد بن عليّ بن إبراهيم الإحسائي، المعروف بابن أبي جمهور (م 940) مطبعة سيّد الشهداء(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1403 هـ .

ـ العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي (100 ـ 175) انتشارات اُسوة التابعة لمنظمة الأوقاف والاُمور الخيريّة، قم، الطبعة الاُولى، 1414هـ .

ـ عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م 381) دار العلم، قم، 1377 هـ .

ـ غ ـ

ـ الغدير في الكتاب والسنّة والأدب، للشيخ عبد الحسين بن أحمد بن نجف علي بن الله يار بن محمّد التبريزي النجفي، الشهير بالعلاّمة الأميني (1320ـ 1390) مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة، قم الطبعة الاُولى، 1416ـ 1422هـ .

ـ غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام، لأبي القاسم بن محمد حسن بن نظر عليّ الجيلاني الشفتي الجابلاقي القمّي، المعروف بصاحب القوانين، ويعرف بالمحقّق والميرزا القمّي
(1152 ـ 1221) مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الاُولى، 1417هـ .

ـ غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع، للسيّد أبي المكارم حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبي، المعروف بابن زهرة (511 ـ 585) مؤسّسة الإمام الصادق(عليه السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ الغيبة، لأبي عبدالله محمّد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني، يعرف بابن أبي زينب (من أعلام القرن الرابع) مكتبة الصدوق، طهران، 1397هـ .

ـ الغيبة، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (385ـ 460) مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، الطبعة الثانية، 1417هـ .

ـ ف ـ

ـ فتح المنّان في نسخ القرآن، للشيخ علي حسن، مكتبة الخانجي بمصر،الطبعة الاُولى، 1973م.

ـ فرائد الاُصول، المعروف بـ«الرسائل»، للشيخ مرتضى بن محمد أمين الأنصاري
(1214 ـ 1281) تراث الشيخ الأعظم، قم، الطبعة الاُولى، 1419 هـ .

ـ فصل الخطاب، للميرزا حسين بن الميرزا محمّد تقيّ بن الميرزا علي محمّد بن تقي النوري الطبرسي (1254ـ 1320) الطبعة الحجريّة.

ـ الفصول الغرويّة في الاُصول الفقهيّة، للشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني الحائري (م1250) دار إحياء العلوم الإسلاميّة، قم، 1404هـ .

ـ الفقه الإسلامي وأدلّته، للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409هـ .

ـ فقه أهل البيت(عليهم السلام)، سنة إحدى عشر، الرقم ثلاثة وأربعون، قم 1384.

ـ الفقه ومسائل طبّية، لمحمّدآصف المحسني،مكتب الإعلام الإسلامي،قم، الطبعة الاُولى، 1424هـ .

ـ الفقيه = من لا يحضره الفقيه ، لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الخامسة، 1410هـ .

ـ الفهرست، لأبي الفرج محمّد بن إسحاق بن محمّد بن إسحاق الورّاق، المعروف بـ «ابن النديم» (م380) طهران، 1393هـ .

ـ الفهرست، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسي (385 ـ 460) مؤسّسة نشر الفقاهة، قم، الطبعة الاُولى، 1417هـ .

ـ فوائد الاُصول، من إفادات الميرزا محمد حسين بن عبد الرحيم بن محمد سعيد بن عبد الرحيم الغروي النائيني (1276 ـ 1355) للشيخ محمد علي بن حسن بن محمّد القابچي الكاظمي النجفي، المعروف بالجمالي (1309 ـ 1365)مؤسّسة النشرالإسلامي،قم المقدّسة، الطبعة الثامنة، 1417هـ .

ـ فوائد الاُصول، للشيخ محمد كاظم بن حسين الهروي الخراساني، المعروف بـ «الآخوند الخراساني» (1255 ـ 1329) وزارة الإرشاد الإسلامي، الطبعة الاُولى، 1407هـ .

ـ فوائد القواعد، لزين الدِّين بن عليّ بن أحمد العاملي الشامي، المعروف بالشهيد الثاني
(911 ـ 965) مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1419هـ .

ـ ق ـ

ـ القاموس المحيط، لمجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم الفيروزآبادي الشافعي (729 ـ 817) دار الكتب العلميّة، بيروت، الطبعة الاُولى، 1420 هـ .

ـ قراءات فقهيّة معاصرة في الاقتصاد الإسلامي، الغدير للدراسات الإسلاميّة، بيروت، الطبعة الاُولى، 1425هـ .

ـ قرب الإسناد ، لأبي العبّاس عبدالله بن جعفر بن الحسين بن مالك بن جامع الحميري القمّي (من أعلام القرن الثالث) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحياء التراث، بيروت، الطبعة الاُولى، 1413 هـ .

ـ القضاء في الفقه الإسلامي، للسيّد كاظم الحسيني الحائري، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 1415هـ .

ـ قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر، لأحمد بن إسماعيل بن عبد النبي بن سعد الجزائري ، النجفي (م1151) مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1382هـ .

ـ قواعد الأحكام، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1418 هـ .

ـ القواعد الفقهيّة، للميرزا السيّد محمد حسن البجنوردي (1316 ـ 1396) نشر الهادي، قم، الطبعة الاُولى، 1419 هـ .

ـ القواعد الفقهيّة، لسماحة الفقيه المحقّق آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قدس سره)
(1350 ـ 1428)، مركز فقه الأئمـّة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1425هـ .

ـ القواعد والفوائد في الفقه والاُصول والعربيّة، لأبي عبدالله شمس الدين محمد بن جمال الدين مكّي العاملي، المعروف بالشهيد الأوّل (734 ـ 786) مكتبة المفيد، قم.

ـ قوانين الاُصول، لأبي القاسم بن محمد بن نظر عليّ الجيلاني، الرشتي الأصل، المعروف بالميرزا والمحقّق القمّي (1152 ـ 1221) المكتبة العلميّة، طهران، بالاُفست عن الطبعة في سنة 1303هـ .

ـ ك ـ

ـ الكافي، لثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م329) دار الكتب الإسلاميّة ، طهران، الطبعة الثالثة ، 1388 ـ 1389 هـ .

ـ الكافي في الفقه، لأبي الصلاح تقيّ الدين بن نجم الدين بن عبيدالله بن عبدالله بن محمد الحلبي
(374 ـ 447) مكتبة الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، اصفهان، 1403 هـ .

ـ كامل الزيارات، لأبي القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه القمّي (م368) نشر الفقاهة، قم، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ الكامل في ضعفاء الرجال، لأبي أحمد عبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمّد الجرجاني (277ـ365) دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1409هـ.

ـ كتاب البيع، لآية الله العظمى السيّد روح الله الموسوي الخميني(قدس سره) (1281 ـ 1368 ش) مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، الطبعة الاُولى،1421 هـ .

ـ كتاب الصلاة، تقريرات بحث العلاّمة الفذّ الميرزا محمد حسين بن عبد الرحيم بن محمد سعيد بن عبدالرحيم النائيني النجفي (1277 ـ 1355) لمحمد تقي بن محمّد بن علي بن محمّد بن علي الآملي، الطهراني (1304ـ 1391) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) للطباعة والنشر.

ـ الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم جارالله محمود بن عمر بن محمّد بن عمر الخوارزمي الزمخشري (467 ـ 538) دار الكتاب العربي، بيروت، 1366هـ .

ـ كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ جعفر بن خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدِّين الجناجي النجفي، المعروف بـ «كاشف الغطاء» (1156 ـ 1228) مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1422هـ .

ـ كشف اللّثام عن قواعد الأحكام، لأبي الفضل بهاء الدين محمد بن الحسن الاصفهاني، المشهور بالفاضل الهندي (1062 ـ 1137) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى
(1416 ـ 1424) هـ .

ـ كفاية الاُصول، للشيخ محمد كاظم ابن المولى حسين الهروي الخراساني، المعروف بـ «الآخوند الخراساني» (1255 ـ 1329) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الرابعة، 1418هـ .

ـ كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» للمحقّق المولى محمد باقر بن محمد مؤمن الخراساني السبزواري (م1090) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ كمال الدِّين وتمام النعمة، لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، المعروف بالشيخ الصدوق (م381) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1416هـ .

ـ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعليّ بن حسام الدين بن عبدالملك الجونبوري، المشهور بالمتّقي الهندي (885 ـ 975) مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1409 هـ .

ـ كيهان انديشه، العدد 50، آية الله إبراهيم جنّاتي.

ـ ل ـ

ـ لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن عليّ بن أحمد بن أبى القاسم بن حبقة ابن منظور الأنصاري المصري (630 ـ 711) دار صادر، بيروت، الطبعة الاُولى، 1997 م.

ـ اللمعة الدمشقيّة في فقه الإماميّة، للشيخ أبي عبدالله شمس الدين محمد بن مكّي بن محمد بن حامد بن أحمد المطّلبي العامليّ النباطي، المشتهر بالشهيد الأوّل (734 ـ 786) مركز بحوث الحجّ والعمرة، طهران، الطبعة الاُولى، 1406 هـ .

ـ لوامع صاحبقراني، المشتهر بشرح الفقيه، للعلامّة محمّد تقي بن مقصود علي، الملقّب بالمجلسي الأوّل (1003 ـ 1070) مكتبة إسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، 1414هـ.

ـ لؤلؤة البحرين في الإجازات وتراجم رجال الحديث، لشيخ المحدّثين يوسف بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن أحمد بن عصفور البحراني (1107 ـ 1186) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، الطبعة الثانية، قم.

ـ م ـ

ـ المباحث في علم الاُصول، لمحمد حسن القديري، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ المبسوط في فقه الإماميّة، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن بن عليّ الطوسي
(385 ـ 460) المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، طهران، الطبعة الثانية، 1387 هـ .

ـ مجلّه فقه، دفتر تبليغات اسلامى، شماره 50 ، قم، 1385ش.

ـ مجلّة مكتب إسلام، العدد السادس، السنة الثانية، والعدد التاسع، السنة الثانية.

ـ مجمع البحرين، للشيخ فخر الدين بن محمد عليّ بن أحمد بن طريح الرماحي النجفي، المشهور بالطريحي (979 ـ 1085) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الاُولى، 1414 هـ .

ـ مجمع البيان في تفسير القرآن، لأبي علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي
(469 ـ 548) دار الفكر، بيروت، 1414 هـ .

ـ مجمع الرجال، للمولى عناية الله بن شرف الدِّين عليّ بن محمود بن شرف الدِّين علي، زكيّ الدِّين القهبائي ثمّ النجفي (كان حيّاً سنة 1026) مؤسّسة إسماعيليان، قم.

ـ مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للمولى أحمد بن محمد، الشهير بالمحقّق والمقدّس الأردبيلي (م 993) مؤسّسة النشر الإسلامي، قم ، الطبعة الاُولى، 1407 ـ 1416 هـ .

ـ المجموع شرح المهذّب، لمحيي الدين يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد ابن جمعة بن حزام النووي (631 ـ 676) دار الفكر، بيروت، الطبعة الاُولى، 1417 هـ .

ـ مجموعه آثار كنگره بررسى مبانى فقهى امام خمينى(قدس سره)، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار إمام خميني، قم، 1374ش.

ـ المحاسن، لأبى جعفر أحمد بن أبي عبدالله محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن عليّ البرقي الكوفي (م 274، أو 280) المجمع العلمي لأهل البيت(عليهم السلام)، قم، الطبعة الثانية، 1416 هـ .

ـ محاضرات في اُصول الفقه، تقرير أبحاث السيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413) للعلاّمة الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، 1422هـ .

ـ محاضرات في الفقه الجعفري، المكاسب المحرّمة، تقريراً لأبحاث سماحة آية الله العظمى السيّد أبو القاسم بن علي أكبر بن هاشم الموسوي الخوئي (1317 ـ 1413) للسيّد عليّ الحسيني الشاهرودي (م1376) دار الكتاب الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1409هـ .

ـ المحصول في علم اُصول الفقه، لأبي عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين بن عليّ التيمي البكري الطبرستاني، المعروف بالفخر الرازي (543 ـ 606) المكتبة العصريّة، الرياض، الطبعة الثانية، 1420هـ .

ـ المحلّى بالآثار، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي، المعروف بابن حزم
(384 ـ 456) دار الكتب العلميّة، بيروت، 1408 هـ .

ـ مختصر بصائر الدرجات، للشيخ عزّ الدين أبي محمد الحسن بن سليمان بن محمّد بن خالد الحلّي (كان حيّاً 802) دار المفيد، بيروت، الطبعة الاُولى، 1423هـ .

ـ المختصر النافع، لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريّا يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي، المعروف بالمحقّق الحلّي (602 ـ 676) مؤسّسة البعثة، قم، الطبعة الثانية، 1416 هـ .

ـ مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، لأبي منصور الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الأسدي، المعروف بالعلاّمة الحلّي (648 ـ 726) مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الاُولى، 1412 ـ 1418 هـ .

ـ مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام، للسيّد شمس الدين محمد بن عليّ بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي الجبعي (946 ـ 1009) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)لإحياء التراث، قم، الطبعة الاُولى، 1410 هـ .

ـ المدخل إلى اُصول الفقه، للدكتور محمد معروف الله الواليبي.

ـ مدخل التفسير، لسماحة الفقيه المحقّق آية الله العظمى الحاج الشيخ محمد الفاضل اللنكراني(قدس سره)
(1350 ـ 1428) مركز فقه الأئمـّة الأطهار(عليهم السلام)، قم، الطبعة الاُولى، 1428هـ .

ـ المدخل للتشريع الإسلامي، للدكتور محمد فاروق النبهان، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م.

ـ المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة والتعصّب المذهبي، لمحمد تاجا، دار قتيبة، بيروت، الطبعة الاُولى، 1419هـ .

ـ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول(صلى الله عليه وآله) ، للعلاّمة المولى محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (1037 ـ 1110، 1111) دار الكتب الإسلاميّة، طهران، الطبعة الاُولى، 1394ـ1411هـ .

ـ مسائل علي بن جعفر الصادق(عليه السلام) (حوالى 130 ـ 220) مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام) لإحيا

المقدّمة :

الفصل الأوّل :

كلمة التقيّة

الفصل الثاني : تقسيمات التقيّة

الفصل الثالث :

الفصل الرابع :

الفصل السادس : أنواع التقيّة

الفصل السابع : هل العمل الموافق للتقيّة مجزئ عن المأمور به الواقعي، أم لا؟

الفصل الثامن : هل ترك التقيّة يفسد العمل، أم لا؟

الفصل التاسع : جريان التقيّة في الموضوعات وعدمه

الفصل العاشر : اعتبار عدم المندوحة، وعدمه

رسالة في اعتبار الكتابة في الفقه الإسلامي

3 ـ التحيّة على وجه الكتابة

4، 5 ـ تحقّق الكذب والغيبة بالكتابة

مذهب الشافعيّة

مذهب الزيديّة

رسالة في حقيقة الوضع

تمهيد في كيفيّة الدلالة وحقيقة الوضع

الطريق الثاني :

المسلك الأوّل :

المسلك الثالث :

المسلك الرابع :

المسلك الخامس :

رسالة في شرطيّة الابتلاء في منجّزيّة العلم الإجمالي

رسالة في نظريّة العدالة في الحكومة الإسلاميّة وولاية الفقيه

تمهيد

الإجابة على إشكالات ثلاث

رسالة في تأثير الزمان والمكان في الفقه

الفصل الأوّل: كلّيات البحث

3 ـ الزمان والمكان، والمسائل المستحدثة

4 ـ الزمان والمكان، ومسألة النسخ

5 ـ الزمان والمكان، وقاعدة الأهمّ فالأهمّ

1 ـ ملاكات الأحكام العباديّة

2 ـ ملاكات الأحكام المعاملاتيّة

4 ـ ملاكات الأحكام الاجتماعيّة

1 ـ تعريف الموضوع والمتعلّق

2 ـ أقسام التغيير في خصوصيّات وشرائط الموضوع

1 ـ الزمان والمكان، ومفاد الأدلّة

2 ـ الزمان والمكان، ومباني الاجتهاد

1 ـ الزمان والمكان، والحكم الأوّلي والثانوي

2 ـ الزمان والمكان، والأحكام الضروريّة

3 ـ تأثير الزمان والمكان مع وجود النصّ الخاصّ

الفصل الثالث: دور الزمان والمكان، وبعض الشبهات، والإجابة عنه

2 ـ «إنّ لله في كلّ واقعة حكماً»