درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٦/٢٢


شماره جلسه : ۱

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • النبيّ الخاتم في نهج البلاغة

  • مقطع «اَللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ» وسُنّة البسط الإلهي

  • الخاتمية والفتح: تحليل الأوصاف النبوية في كلام أميرالمؤمنين(ع)

  • انقسام الواجب إلى النفسي والغيري

  • مقتضى الأصل اللفظي

  • نظرية المحقق الخراساني

  • التعريف المشهور للواجب النفسي والغيري

  • نقد المحقق الأصفهاني: الحيثيات الزائدة على حقيقة الوجوب

  • نفي الارتباط بالغير: المعنى العدمي للنفسية في تقرير المحقق الأصفهاني

  • المصادر

الجلسات الاخرى

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


خلاصة البحث السابق

بعد أن بلغ البحث في العام المنصرم غايته في مبحث التعبدي والتوصلي، نستأنف في هذا العام الجديد مواصلة المباحث جرياً على الترتيب المقرر في كتاب "كفاية الأصول" للمحقق الخراساني (قدس سره).

النبيّ الخاتم في نهج البلاغة

تيمّناً وتبرّكاً بتزامن مستهلّ هذه المباحث مع الذكرى العَطِرة لولادة سيّد المرسلين نبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) وحفيده الإمام الصادق(عليه السلام)، يحسن بنا أن نستهلّ البحث بالوقوف عند مقطعٍ من كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام) في النهج، يتعرّض فيه لبيان كيفية الصلاة والسلام على النبيّ الأكرم. وهذا المقطع الشريف قد ورد في الخطبة الثانية والسبعين من نهج البلاغة، وقد أُشير إليها بعنوان «في كيفية تعليم الصلاة على النبيّ»، حيث يرسم الإمام(عليه السلام) للمؤمنين معالم الطريق في كيفية الثناء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإجلال مقامه.

مقطع «اَللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ» وسُنّة البسط الإلهي

يستهلّ الإمام(عليه السلام) هذا الدعاء بالقول: «اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ». إنّ كلمة «داحي» مشتقّة من الجذر اللغوي (دَحْوَ)، وهو الجذر نفسه المستخدم في تعبير «دحو الأرض»، الذي يُراد به بسطُها وامتدادُها وانبثاقُها من تحت الماء. وأما «المدحوات» فهي جمع «مَدْحُوّة»، وهي تطلق على كلّ ما له قابلية البسط والاتساع. ومع أنّ بعض الشروح قد فسّر هذه الكلمة بـ«الأرض» على وجه الخصوص، إلا أنّ ظاهر اللفظ لا يقتضي هذا التخصيص، بل إنّ المفهوم أوسع نطاقاً، فيشمل بعمومه كلَّ موجودٍ له استعدادٌ ذاتيٌ للتوسّع والامتداد.

وعلى ضوء هذا الفهم، فإنّ من أبرز مصاديق هذا البسط الإلهي هو «العلم»؛ تلك الحقيقة الربّانية التي لا تقف عند حدٍّ ولا تنتهي إلى غاية، فمهما تقدّم الإنسان في مسيرته بتوفيقٍ من الله، اتّسعت دائرة معارفه وازدادت. وكذلك حال «المعنوية»؛ فإنّ السير والسلوك إلى الله مقامٌ لا حدود له، وكلّما أمعن السالك في هذا الطريق، أفاض الله عليه من أنواره وزاده نورانيةً وبصيرة. وفي المقابل من ذلك، نجد أنّ التعلّق بالدنيا ومظاهرها الزائلة ملازمٌ بطبعه للمحدودية والضيق.

ومن هنا، يمكن أن نفهم هذا الوصف الإلهي، «داحي المدحوات»، بوصفه ناظراً إلى سنّةٍ إلهيةٍ عامّة، ساريةٍ في مختلف شؤون الوجود وميادينه. وهذه السنّة الإلهية ليست مقصورةً على العوالم المعنوية، بل هي ساريةٌ في النعم الظاهرية أيضاً. فقد قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.[1] فزيادة النعمة ليست مؤجّلةً إلى الآخرة فحسب، بل إنّ الشكر في هذه النشأة الدنيوية يترتب عليه أثره الوضعي المتمثّل في بسط النعمة وتوسعتها. وهذا القانون يجري كذلك في الساحات الأخلاقية؛ فكلّما ترسّخت فضيلة «الصبر» في نفس الإنسان، ازدادت سعتها وعمقها. والنتيجة المتحصّلة من ذلك كلّه، هي أنّ كلّ ما له قابلية الامتداد والاتّساع في الميادين المادية والمعنوية، والعلمية والأخلاقية، إنما يتوسّع ويمتدّ بإرادته تعالى ومشيئته؛ لأنه هو وحده «داحي المدحوات».

ثم يواصل الإمام(عليه السلام) في المقطع نفسه فيقول: «وَدَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ، وَجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَىٰ فِطْرَتِهَا، شَقِيِّهَا وَسَعِيدِهَا». فأما «المسموكات» فهي من جذر «سَمَكَ»، وهو يعني الرفع والإقامة، وفيها إشارة إلى السماوات المرفوعة. وأما التنصيص على وحدة الفطرة الإنسانية، بالرغم من اختلاف المآل بين «شقيّها وسعيدها»، فهو تذكيرٌ بأنّ الميول الفطرية الأوّلية مشتركةٌ بين جميع بني الإنسان، وأنّ التمايز في العواقب إنما يرجع إلى ما يختاره الإنسان ويكتسبه بفعله الإرادي. وعلى ضوء هذه المقدّمة التوحيدية التي مهّد بها الإمام(عليه السلام)، يشرع في طلب الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالصيغة التالية: «اِجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَنَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ».

وهنا نكتةٌ دقيقةٌ مستفادةٌ من هذا التعبير؛ وهي أنّ الصلاة الإلهية ذات مراتب متفاوتة، وأنّ أشرف تلك المراتب وأعلاها قد خُصّصت للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله). ومن هذا المنطلق بالذات، يؤسّس لنا أدبُ الدعاء قاعدةً مهمة، وهي أنّه إذا أردنا طلب الرحمة والبركة لذلك الجناب المقدّس، فينبغي لنا أن نسأل الله له أسمى المراتب وأرفع الدرجات.

الخاتمية والفتح: تحليل الأوصاف النبوية في كلام أميرالمؤمنين(ع)

في سياق تعليم الصلاة على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ضمن الخطبة الثانية والسبعين من نهج البلاغة، يذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) أوصافاً جوهريةً لرسول الله، يبتدئها بوصفين محوريين، وهما: «الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، وَالْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ».

وهنا لا بد من تحليل دقيق لمعنى «الخاتمية» النبوية. فالذي يبدو لنا أنّ المقصود بها لا ينحصر في مجرّد الختم الزماني لسلسلة النبوات، بل يُراد به معنى أعمق من ذلك، وهو جامعية شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) واستيعابه لخلاصة جميع الفضائل والمواريث التي كانت للأنبياء السابقين(عليهم السلام). فهو (صلى الله عليه وآله) الوارث لتمام بركات النبوات السالفة، والحائز على كمالاتٍ تسمو على كمالاتهم جميعاً. وبهذا اللحاظ، يكون معنى «الخاتم» ذا بُعدين: فهو من جهةٍ «الجامع» الأكمل لكل ما سبقه، وهو من جهةٍ أخرى «الأسمى والأفضل» من مجموع ما كان قبله.

وأما الوصف الثاني، وهو «الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ»، فهو ناظرٌ إلى الوظيفة التاريخية والمستمرة لرسالته (صلى الله عليه وآله). فالنبيّ الأكرم هو الذي يفتح العُقَد المعرفية والعملية التي تواجه البشرية؛ فبه تُحلُّ الانسدادات في حقول العقيدة والشريعة والأخلاق، وبيديه يُعبَّد طريق الرشد والتكامل في العلم والعمل. وهذا الفتح ليس محصوراً بعصر البعثة، بل هو ممتدٌّ إلى يوم القيامة، فمفاتيح حلّ جميع الانسدادات مودعةٌ لديه وفي الدين الذي جاء به. ثم تتوالى الأوصاف الأخرى في شأن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكلٌّ منها يكشف عن بُعدٍ من أبعاد رسالته الشريفة:

«وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ»: والمُراد من ذلك أنّ مضمون دعوته حقٌّ، وأنّ الأسلوب والمعيار الذي اعتمده في إعلان هذا الحقّ هو الحقّ أيضاً؛ فلا يُعرض الحقُّ بآليات الباطل ووسائله. «وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ»: و«الجَيْشات» كنايةٌ عن النهضات والهجمات المتوالية لتيار الباطل الذي يصطفّ في مواجهة دعوة الحق. «وَالدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ»: و«الدامغ» هو الكاسر المُحطِّم الذي يقصم بقوة البرهان وسلطان الهداية هيمنةَ الضلال وسطوته.

والمتحصّل النهائي من مجموع هذه الأوصاف، هو أنّ الرسالة الخاتمة، من جهةٍ جامعةٌ لكلّ الفضائل السابقة، ومن جهةٍ أخرى فاتحةٌ لكلّ الانسدادات اللاحقة؛ فهي في آنٍ واحدٍ تُظهر الحقيقة كما هي بلا نقصٍ أو زيادة، وتدفع هجمات الباطل وتكسر شوكة الضلال. وإننا لنسأل الله المتعال، ببركة الوجود المقدّس لنبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين(عليهم السلام)، أن يرزقنا في عامنا الدراسي الجديد رزقاً علمياً ومعنوياً وفيراً، وأن يفتح علينا أبواب العلم والفقه والحكمة والقرآن، إنه سميعٌ مجيب.

انقسام الواجب إلى النفسي والغيري

بعد أن أنجزنا الكلام في البحث المتقدم حول تقسيمي التعبدي والتوصلي وأوصلناه إلى غايته، ينعقد البحث الآن - جرياً على المنهجية التي رسمها المحقق الخراساني (قدس سره) في كتابه "كفاية الأصول" - في مبحث "انقسام الواجب إلى نفسي وغيري". وينبغي التنبيه على أنّ هذا البحث، على الرغم من استقلاله النسبي، لا يزال منعقداً في سياق المباحث المتفرّعة على «صيغة الأمر»، وضمن اللواحق المرتبطة بهيئة «افعل» ودلالاتها.

مقتضى الأصل اللفظي

إنّ منطلق البحث عند المحقق الآخوند (قدس سره) يبتني على أنّ إطلاق هيئة الأمر، في مقام الإثبات وبعد تمامية مقدمات الحكمة، يقتضي بنفسه ثبوت ثلاث حيثيات للوجوب كأصلٍ أولي، وهي: النفسية، والتعيينية، والعينية.

وبيان ذلك: أنّ الأمر المطلق، أي المجرّد عن أي قرينة صارفة، يُحمل على الوجوب النفسي التعييني العيني. وعلى هذا الأساس، فإنّ موارد اليقين خارجة عن محل النزاع، إذ لو عُلِم بكون وجوبٍ ما نفسيّاً أو غيريّاً على وجه القطع، فلا يبقى موضوع للبحث. وإنما يثمر هذا الأصل أثره في موارد الشك، أي عند دوران الأمر بين النفسية والغيرية، ففي مثل هذه الحالة، يكون لإطلاق الصيغة حينئذٍ ظهورٌ منعقدٌ في النفسية، ولا يُعدَل عنه إلى الغيرية إلا بدليلٍ خاص وقرينةٍ معتبرة. وهذا هو ما يقرّره المحقق الخراساني (قده) بعبارته الصريحة في الكفاية، حيث يقول:

قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيّا تعيينيّا عينيّا، لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب وتضيّق دائرته. فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه، فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شيء آخر أو لا، أتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا، كما هو واضح لا يخفى.[2]

ومرادنا من «الواجب النفسي» هو ما تعلّقت به المطلوبية بالأصالة، أي لذات الفعل نفسه. وأما «الواجب الغيرى» فهو ما ثبتت له المطلوبية بالعرض، وذلك لكونه مقدّمةً لواجبٍ آخر. وعليه، فإنّ إثبات الغيرية منوطٌ بإثبات ارتباطه بواجبٍ آخر، وما لم يرد في الدليل ما يُثبت هذا الارتباط، يبقى الأصل الأولي، وهو ظهور الأمر في النفسية، محكّماً.

ولتوضيح ثمرة هذا البحث في الفقه، نأخذ مثالاً هو محلّ ابتلاءٍ دائم، وهو «تعلّم الأحكام». فهل وجوب التعلّم نفسيٌ أم غيري؟ إنّ المشهور بين الفقهاء والأصوليين - ومنهم الشيخ الأنصاري (قدس سره)[3] - هو أنّ وجوب التعلّم غيريٌ. ومعنى ذلك أنّ معرفة الأحكام إنما وجبت لأجل أن لا يقع المكلّف في مخالفة التكليف أو الخطأ في مقام الامتثال، وليؤدي واجباته على وجهها الصحيح. وبناءً على هذا المبنى، يكون وجوب التعلّم تابعاً للحاجة العملية للمكلّف، فلا يجب إلا بمقدار ما هو محل ابتلائه. وفي مقابل هذا القول، توجد نظرية أخرى تذهب إلى كون وجوب التعلّم نفسيّاً، وتقرير ذلك هو أنّ الشارع قد جعل «نفس العلم بالأحكام» مطلوباً بالأصالة، وإن لم يؤدِّ ذلك العلم إلى عملٍ في بعض الموارد.[4] إذن، فالمسألة ذات قولين بين الفقهاء، ولا بد من النظر في أدلة كلا التقريرين وتقييمها. إلا أننا إذا أردنا أن نتكلّم في مقام الظهور اللفظي فحسب، فإنّ مجرّد ورود الأمر بـ«التعلّم» يكون ظاهراً في النفسية، ما لم تقم قرائن خارجية، شرعية كانت أو عقلية، على إثبات الغيرية.

ويمكن تقريب الفكرة بمثالٍ آخر، وهو «الوضوء». فإنّ نسبة الوضوء إلى الصلاة تُعدّ مثالاً جليّاً لاجتماع عنواني الواجب الغيري والمستحب النفسي في فعلٍ واحد. فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة واجبٌ غيري، أي أنّ وجوبه إنما يثبت بوصفه مقدّمةً لتحقق شرط صحتها. وفي الوقت نفسه، ورد الدليل على ثبوت استحبابٍ نفسيٍ لذات الوضوء، ولذا نجد أنّ أصل مشروعيته ورجحانه الذاتي محفوظٌ حتى في غير حال الصلاة، وإن لم يكن متعلّقاً للوجوب حينئذٍ. وهذا المثال يكشف لنا عن إمكان أن يتّصف فعلٌ واحدٌ بعنوان الغيرية بالقياس إلى غيره، وبعنوان النفسية (من سنخ الرجحان الاستحبابي) بالقياس إلى ذاته.

والنتيجة النهائية التي نخلص إليها من هذا البحث هي أنّ المعيار الأول في مقام الإثبات هو ظهور إطلاق هيئة الأمر في النفسية. والعدول عن هذا الظهور إلى القول بالغيرية محتاجٌ إلى قرينةٍ معتبرة، سواء كانت لفظية أم لبّية (كارتكازٍ عقلائيٍ على المقدّمية، أو الاستناد إلى دليل آخر يُحرز به نسبة المقدّمية). وعلى هذا النسق نفسه، يجري الكلام في البحثين المجاورين، أي «التعييني والتخييري» و «العيني والكفائي»، فإنه ما لم تقم قرينة على الخلاف، يُحمل إطلاق الهيئة على التعيين والعينية.

نظرية المحقق الخراساني

يستهلّ المحقق الخراساني (قدس سره) هذا المبحث، من دون أن يقدّم له بتعريفٍ اصطلاحي للنفسي والغيري، بل يبادر مباشرةً إلى تقرير هذه الدعوى: «إطلاقُ صيغَةِ الأمرِ يقتضي النفسيّةَ والتعيينيّةَ والعينيّةَ». وببيان آخر نقول: إنّ الظهور الأولي للأمر المطلق، بعد جريان مقدمات الحكمة، منعقدٌ في الوجوب النفسي التعييني العيني، ما لم تقم قرينة معتبرة على الخلاف. والوجه في هذا الظهور بيّنٌ؛ ذلك أنّ العناوين المقابلة - أعني الغيرية والتخييرية والكفائية - تنطوي بأجمعها على قيودٍ زائدة على أصل الطلب ومجرّد ماهيته؛ نظير ربط الفعل بذي المقدمة، أو إفادة البدلية بين أطراف الواجب، أو كفاية تحقق المطلوب بفعل بعض المكلفين. وهذه القيود، لكونها أموراً زائدةً على القدر المتيقّن من الطلب، فإنها تفتقر إلى بيانٍ ودليلٍ يدلّ عليها. فما لم تُنصب قرينة على إثباتها، فإن إطلاق الصيغة يقتضي بطبعه النفسية والتعيينية والعينية. وهذا هو معنى ما يُقال أصولياً من أنّ الأصل في مقام الإثبات هو عدم الزيادة وعدم القيد، وأنّ وظيفة مقدمات الحكمة هي تثبيت الظهور في المطلق الفاقد للقيد.

وقد يُطرح هنا استفهامٌ مفاده: لِمَ لَمْ يقدّم المحقق الآخوند - مع ما عُرف عنه من دقّةٍ فائقةٍ في التصنيف - تعريفاً للواجب النفسي والغيري قبل الشروع في الاستدلال؟ والذي يبدو لنا في مقام الجواب، هو أنّ النتيجة التي يبتغيها (قده) من هذا البحث لا تتوقف في إثباتها على أيٍّ من التعريفات والتقريبات الخاصة لهذين المصطلحين. فمهما اختلفنا في تحديد حقيقة الواجب النفسي والغيري، فإنّ القدر المشترك بين جميع التعريفات هو أنّ «الغيرية» تشتمل على حيثيةٍ ربطيةٍ وقيدٍ إضافي، وهو قيد الغاية أو المقدّمية، بينما تكون «النفسية» فاقدةً لهذا القيد. وعليه، فإنّ البحث منعقدٌ في مقام الظهور اللفظي للإطلاق، وهو بحث إثباتي لا يتأثر بالخلافات الدقيقة في تحليل المفهوم ثبوتاً.

ولأجل إكمال الصورة وتثبيت المفهوم في الذهن، نعيد التذكير بأنّ المراد من «الواجب النفسي» هو الفعل الذي تعلّقت به المطلوبية بالأصالة ولنفسه. وأما «الواجب الغيري» فهو الفعل الذي ثبتت له المطلوبية بالعرض ومن جهة كونه مقدّمةً لواجبٍ آخر. وعلى هذا الأساس، فإنّ إثبات الغيرية موقوفٌ على إحراز نسبة المقدّمية أو دخل هذا الفعل في تحقّق مطلوبٍ آخر؛ وما لم يؤخذ هذا النحو من الارتباط قيداً في الدليل، فإنّ ظهور الإطلاق في النفسية يبقى على حاله.

ولأجل إحكام دعائم هذا البحث وإتقانه، لا بدّ من دراسة بيانات الأعلام الآخرين، فذلك مما يعود بفائدةٍ جمّة. وفي هذا المقام، تكتسب عبارة المحقق الأصفهاني (قدس سره) في كتابه «نهاية الدراية» أهميةً خاصة، حيث إنّ مبنى التحليل الذي تبنّاه الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) يرتكز هو الآخر على تقريرات المحقق الأصفهاني. كما أنّ ما قرّره المحقق النائيني (قدس سره) في هذا الباب يعدُّ مصدراً أساسياً لا غنى عن مراجعته. وعلى هذا الأساس، سوف نتناول في ما يلي، وضمن شرح كلام المحقق الآخوند، النكات التي أثارها هؤلاء الأعاظم (رضوان الله عليهم)، ونقوم بنقلها وتقييمها، وذلك بهدف تحديد نطاق دلالة «إطلاق الهيئة» على النفسية على نحوٍ أدقّ، وتوضيح نسبة هذه الدلالة إلى قيود الغيرية والتخييرية والكفائية بشكلٍ أجلى.

التعريف المشهور للواجب النفسي والغيري

ذهب المشهور في تعريف الواجب النفسي إلى أنّه: «ما وُجِبَ لنفسه»؛ أي الفعل الذي تعلّق به جعل الوجوب بالأصالة والاستقلال لذات عنوانه، كمثل الصلاة التي وجبت لذاتها. كما عرّفوا الواجب الغيري بأنّه: «ما وُجِبَ لغيره»؛ وهو الفعل الذي يثبت له الوجوب تبعاً لوجوب فعلٍ آخر، كالوضوء الذي يتحقق وجوبه بتبع وجوب الصلاة. وهنا يضيف المحقق النائيني (قدس سره) في مقام تبيين حقيقة الواجب الغيري نكتةً دقيقة، حيث يرى أنّ الغيرية يمكن أن تُلحظ من حيثيتين:

1- حيثية الارتباط التشريعي بـ«المقدمات الوجوبية»: فلو لم تكن الصلاة واجبة، لما نشأ للوضوء وجوبٌ غيري. فوجوب الوضوء إذن يدور مدار وجوب الصلاة.

2- حيثية الارتباط التكويني بـ«المقدمات الوجودية»: فالوضوء نفسه شرطٌ في تحقّق الصلاة المأمور بها، وبدونه لا يتحقق الوجود الصحيح للصلاة.

ويوضح (قده) ذلك بعبارته فيقول:

فمجمل القول فيه: هو انّ الواجب الغيري لمّا كان وجوبه مترشّحا عن وجوب الغير، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير، كما انّ وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدّمات الوجوبيّة للواجب الغيري، و وجود الواجب الغيري من المقدّمات الوجوديّة لذلك الغير، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصّلاة، و تكون نفس الصّلاة مشروطة بوجود الوضوء، فالوضوء بالنّسبة إلى الصّلاة يكون من قيود المادّة، و وجوب الصّلاة يكون من قيود الهيئة بالنّسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدّم من تقييد الهيئة، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى‌ الحرفيّ.[5]

وعلى هذا، فالواجب النفسي في تقرير المشهور هو «ما وجب لنفسه»، والواجب الغيري هو «ما وجب لغيره». والمراد من قوله «لغيره» ينطوي على لحاظين معاً: لحاظ التبعية التشريعية في الوجوب لوجوب ذي المقدمة، ولحاظ توقف وجود ذي المقدمة عليه.

نقد المحقق الأصفهاني: الحيثيات الزائدة على حقيقة الوجوب

يُنبّه المحقق الأصفهاني (قدس سره) على نكتةٍ جوهرية، وهي أنّ «النفسية» و«الغيرية» كلتيهما أمران خارجان عن حقيقة «الوجوب». فالوجوب في حدّ ذاته ليس إلا طبيعةً مهملةً وكلية، تُمثّل مجرد ثبوت الطلب الإلزامي المتعلق بفعلٍ ما، من دون أن يتّصف في ذاته بكونه نفسيّاً أو غيريّاً؛ أي مجرد كونه «ما هو ثابتٌ، ما هو واجبٌ». وعلى هذا، فإنّ انقسام «الواجب» إلى نفسي وغيري ليس انقساماً للماهية إلى أنحائها الذاتية، بل هو انقسامٌ بحسب اعتباراتٍ ولحاظاتٍ طارئةٍ خارجةٍ عن حقيقتها. وهو ما يصرّح به (قده) في عبارته الدقيقة:

لا يخفى عليك: أن النفسية و ما يماثلها قيود للطبيعة نحو ما يقابلها لخروجها جميعا عن الطبيعة المهملة، إلاّ أنّ بعض القيود كأنه لا يزيد على نفس الطبيعة عرفا، كالنفسية و ما يماثلها دون ما يقابلها.[6]

إذن، فبناءً على هذا التحقيق الدقيق للمحقق الأصفهاني، فإنّ كلاً من النفسية والغيرية لا ينبع من صميم حقيقة الوجوب، بل كلاهما عنوانٌ زائدٌ على ذاته. إلا أنّ الفرق بينهما يظهر في مقام الإثبات وبحسب المرتكزات العرفية؛ فالنفسية - وإن كانت في واقعها حيثيةً خارجةً عن حقيقة الوجوب - لا تفتقر إلى قرينةٍ وبيانٍ خاص لإثباتها. والعلة في ذلك أنّ «الغيرية» تشتمل على قيدٍ إضافي، وهو حيثية الارتباط بالغير والمقدمية له «لِلغَیر»، وإثبات مثل هذا الارتباط يفتقر إلى مؤونة بيان زائدة. وأما عند فقدان هذا القيد الزائد، فإنّ الظهور الأولي للطلب يبقى منعقداً في النفسية. ومن هنا، نعود لنؤكد ما قلناه في مقام الظهور اللفظي: إنّ إطلاق صيغة الأمر، بعد جريان مقدمات الحكمة، يقتضي النفسية، ولا يكون العدول إلى الغيرية موجّهاً ومقبولاً إلا بإقامة قرينةٍ معتبرة.

نفي الارتباط بالغير: المعنى العدمي للنفسية في تقرير المحقق الأصفهاني

إنّ حاصل تقرير المحقق الأصفهاني (قدس سره) هو أنّ «النفسية» ليست شيئاً سوى «عدمِ كون الوجوبِ للغير». وبعبارة أخرى، إنّ التمايز بين الواجب النفسي والواجب الغيري هو في جوهره تمايزٌ بين عنوانٍ عدمي وعنوانٍ وجودي. فالواجب النفسي له مفهومٌ عدمي، ومعناه أنّ وجوبه ليس لغيره. ويمكن التعبير عن ذلك بالقول: «وجوبُ الصلاةِ هو وجوبٌ ليس للغير». أما الواجب الغيري، فله مفهومٌ وجودي، وهو «كونُ الوجوبِ للغير»، كوجوب الوضوء الذي يثبت لغيره (وهو الصلاة).

وهذا البيان يرتكز على ذات المبنى الذي أسّسه المحقق الأصفهاني سابقاً، وهو كون النفسية والغيرية كلتيهما أمراً «خارجاً عن حقيقة الوجوب». فحقيقة الوجوب ليست إلا ثبوت الطلب الإلزامي المتعلق بفعلٍ ما، وهي في ذاتها غير متّصفةٍ لا بالنفسية ولا بالغيرية. فالغيرية تتحقق بلحاظ إثبات نسبةٍ إضافية (وهي نسبة الوجوب إلى غير نفس الفعل)، وبهذا الاعتبار تكون أمراً «وجودياً». وأما النفسية، فهي لا تعدو كونها مجرّد فقدانِ هذا الارتباط الزائد، وعليه فهي تُعتبر من سنخ «عدمِ المضافِ إلى الغير».

وبهذا يصحّ تصوير «النفسية» في قالب المصطلحات الفلسفية بأنها «اللا بشرط» من حيث الإضافة إلى الغير؛ وذلك في مقابل «الغيرية» التي هي «بشرط شيء»، أي متقوّمةٌ بتلك الإضافة وذلك الارتباط. والنكتة المحورية في فهم هذه الدعوى هي أنّ «عدم الإضافة» لا يُراد به «العدم المطلق» أو ما يُصطلح عليه بـ«السالبة بانتفاء الموضوع»، بل هو «حيثيةٌ سلبيةٌ انتزاعية» تُستفاد من عدم أخذ قيد الارتباط بالغير في الدليل. وعليه، فلا جعلَ مستقلاً للنفسية، وإنما هي نتيجةٌ لعدم أخذ ذلك القيد الإضافي في مقام البيان.

والثمرة الأصولية المترتبة على هذا التحليل تتجلّى في علاقتها الواضحة بالظهور اللفظي للأمر؛ فبما أنّ الغيرية متقوّمةٌ بالقيد الزائد («للغير»)، فإنّ إثباتها يفتقر إلى بيان. وما لم يرد مثل هذا البيان، فإنّ إطلاق صيغة الأمر – بمقتضى مقدمات الحكمة – يُحمل على النفسية. ولهذا السبب، تكون النفسية في مقام الإثبات غير محتاجةٍ عرفاً إلى قرينةٍ خاصة، مع أنها في واقع الأمر عنوانٌ خارجٌ عن حقيقة الوجوب وتُعتبر من سنخ «عدم القيد». ويؤكد المحقق الأصفهاني هذا المبنى بقوله:

و التحقيق: أن النفسية ليست إلا عدم كون الوجوب للغير، و كذا البواقي، و عدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، و إلاّ لزم نقض الغرض، لا أن النفسية و الغيرية قيدان وجوديان، و أحدهما - و هو الاطلاق من حيث وجوب شيء آخر مثلا - كأنه ليس بقيد، بل أحد القيدين عدمي، و يكفي فيه عدم نصب القرينة على الوجودي المقابل له.

فمقتضى الحكمة تعيين المقيّد بالقيد العدمي ... .[7]

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

--------------------
[1]- ابراهیم: ۷.
[2]- ‏محمد کاظم آخوند خراسانی، کفایة الأصول (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430)، ج 1، 148-149.
[3]- ‏مرتضی انصاری، فرائد الاُصول (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم. مؤسسة النشر الإسلامي، بی‌تا)، ج 2، 513.
[4]- نفس المصدر.
[5]- ‏محمدحسین نائینی، فوائد الاُصول‏، با محمد علی کاظمی خراسانی (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376)، ج 1، 220.
[6]- ‏محمد حسین اصفهانی، نهایة الدرایة فی شرح الکفایة (بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429)، ج 1، 353.
[7]- نفس المصدر.

----------------------------------
المصادر
- آخوند خراسانی، محمد کاظم‏. کفایة الأصول. ۳ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430.
- اصفهانی، محمد حسین‏. نهایة الدرایة فی شرح الکفایة. ۶ ج. بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429.
- انصاری، مرتضی‏. فرائد الاُصول. ۲ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم. مؤسسة النشر الإسلامي، بی‌تا.
- نائینی، محمدحسین‏. فوائد الاُصول‏. با محمد علی کاظمی خراسانی. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.

الملصقات :

الوجوب النفسي الوجوب الغيري الإطلاق المقدمات الوجوبية المقدمات الوجودية مقدمات الحكمة

نظری ثبت نشده است .