موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/٨
شماره جلسه : ۱۲
-
خلاصة البحث السابق
-
كلام الإمام الخمیني في الصورة الأولى ونقده للمحقق النائيني
-
توضيحٌ تحليلي لإشكال الإمام الخمیني
-
صلة هذا الإشكال بمبنى المحقق النائيني في الأقل والأكثر الارتباطيين
-
الكبرى العقلية للاشتغال وامتناع الانحلال في الأقل والأكثر الارتباطيين
-
الجواب عن استحالة الانحلال والصياغة المعقولة لـ«العلم التفصيلي بالقدر المتيقَّن»
-
تحقيق الشهيد الصدر لكلام المحقق النائيني
-
الصورة الأولى؛ الخلاصة والرأي المختار
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
في الصورة الأولى، ومع فرض تماثل الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط، يذهب الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) إلى لزوم الاحتياط، ويخالف بذلك النتيجة التي خلص إليها المحقق النائيني. فطرفا العلم الإجمالي في هذا الفرض هما: الوجوب النفسي للوضوء، وتقييد الصلاة بالوضوء. وفي الوقت نفسه، فإنّ العلم التفصيلي بطبيعيّ وجوب الوضوء — الأعمّ من النفسي والغيري — مفروضٌ أيضاً. ويصرّح الإمام (قده) بأنّ هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ بوجهٍ من الوجوه، وأنّ العلم التفصيلي بطبيعيّ الوجوب ليس موجباً للانحلال، بل لو قُبِل مثل هذا الانحلال، للزم المحذور.
صورة محل البحث: بعد دخول الوقت، نعلم بوجوب الصلاة والوضوء معاً؛ ولكن يقع الشك في أنّ وجوب الوضوء هل هو نفسي أم غيري؟ ذهب المحقق النائيني إلى أنّ الشك يرجع في حقيقته إلى تقييد الصلاة بالوضوء؛ وهذا من صغريات «الأقل والأكثر الارتباطيين». وعليه، فإنّ أصالة البراءة تجري بالنسبة إلى القيد الزائد (وهو الوضوء في متعلَّق الصلاة)، فلا يثبت التقييد. وأما الوضوء نفسه، فهو واجبٌ على كل حال (سواء كان نفسياً أم غيرياً)، فلا بد من الإتيان به.
تصوير العلم الإجمالي في هذا المقام: بعد دخول الوقت، نعلم بوجوب الصلاة. ونعلم بوجوب الوضوء أيضاً، ولكنه مردَّدٌ بين النفسي والغيري. فالصياغة العلمية الصحيحة للمسألة هي أنّه إمّا أن يكون الوضوء بنفسه واجباً نفسياً، وإمّا أن تكون الصلاة مقيَّدةً بالوضوء (فتكون نتيجة ذلك أن يصبح وجوب الوضوء غيرياً). وهذا العلم الإجمالي منجِّز، ويمنع من جريان الأصول الترخيصية (كالبراءة) في كلا الطرفين؛ وذلك لأننا: لو أجرينا البراءة في «تقييد الصلاة»، لكان ذلك مستلزماً للترخيص في أحد طرفي العلم الإجمالي. ولو أجريناها في «نفسية الوضوء»، لكان ذلك ترخيصاً في الطرف الآخر. والجمع بين هذين الترخيصين ممنوع.
لماذا لا ينحلّ «العلم التفصيلي بوجوب الوضوء» هذا العلم الإجمالي؟
إنّ ما كان يرتكز عليه المحقق النائيني لتصحيح جريان البراءة هو أنّ «أصل وجوب الوضوء معلوم، فلا تجري البراءة في طرفه؛ فيبقى الشك منحصراً في تقييد الصلاة، فتجري البراءة فيه بلا معارض». إلا أنّ الإمام (قده) يرى أنّ هذا هو بعينه الخطأ الذي رُدَّ سابقاً في باب الأقل والأكثر الارتباطيين. وتوضيح ذلك أنّ علمنا التفصيلي بـ«وجوب الوضوء» هو في حقيقته مردَّدٌ بين اللابشرط (وهو نفسية الوضوء) والبشرط شيء (وهو غيرية الوضوء بواسطة تقييد الصلاة). وهذا «العلم التفصيلي» هو عين ذلك «العلم الإجمالي بالدوران بين الأقل والأكثر»، فلا يمكن أن يكون موجباً للانحلال. وبحسب تعبير المحقق النائيني نفسه في بحث الأقل والأكثر: فإنّ التفصيل عين الإجمال، والانحلال بهذا الوجه محال. فالمتحصّل هو أنّ العلم الإجمالي بـ«نفسية الوضوء أو تقييد الصلاة» باقٍ على قوته؛ وعليه، فلا تجري البراءة من التقييد.
يصرّح المحقق النائيني في باب الأقل والأكثر الارتباطيين بأنّ الامتثال الاحتمالي غير كافٍ، وأنّ العلم الإجمالي منجِّز؛ وذلك لأنّ العلم بوجوب الأقل (مع التردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء) لا يوجب الانحلال. وعليه، فلا تجري البراءة العقلية؛ وإنما يكون «التوسط في التنجيز» ممكناً مع فرض جريان البراءة الشرعية في الأكثر. وقد استند الإمام (قده) إلى هذا المبنى نفسه ليقول: إنّه في الصورة الأولى من بحث النفسي والغيري أيضاً، وبما أنّ العلم الإجمالي قائمٌ بين «نفسية الوضوء» و«تقييد الصلاة»، فإنّ البراءة من التقييد لا تجري، ولا تُقبَل دعوى الانحلال بـ«العلم التفصيلي بوجوب الوضوء بما هو هو». حيث يقول (قده):
أمّا الأصل العمليّ، فقد قال بعض الأعاظم فيه: إنّ الشكّ في الوجوب الغيريّ على أقسام.
الأوّل: إذا علم بوجوب الغير و الغيريّ من دون اشتراط وجوب الغير بشرط غير حاصل، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب الوضوء و الصلاة، و شكّ في وجوب الوضوء أنه غيريّ أو نفسيّ، ففي هذا القسم يرجع الشكّ إلى تقييد الصلاة بالوضوء، فيكون مجرى البراءة، لكونه من صغريات الأقلّ و الأكثر الارتباطيّين، و أمّا الوضوء فيجب على أيّ حال نفسيّا كان أو غيريا[1].
و فيه إنّ إجراء البراءة في الصلاة غير جائز بعد العلم الإجماليّ بوجوب الوضوء نفسيّا أو وجوب الصلاة المتقيّدة به، و العلم التفصيليّ بوجوب الوضوء الأعمّ من النفسيّ و الغيريّ لا يوجب انحلاله إلاّ على وجه محال كما اعترف به القائل في الأقلّ و الأكثر، فراجع كلامه في بابهما[2].[3]
يرتكز المحقق النائيني في نفيه للانحلال في باب الأقل والأكثر الارتباطيين على كبرى عقلية، وهي أنّ: «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني». فمتى ما ثبت التكليف قطعاً، فإنّ الامتثال الاحتمالي لا يكفي. وتطبيق هذه الكبرى بيّن: فالذمة مشغولةٌ بالصلاة قطعاً؛ والشك في ما إذا كان الامتثال يتحقق بـ«الأقل» أم أنه منوطٌ بـ«الأكثر»، معناه أنّ الفراغ اليقيني لا يتحصل بالإتيان بالأقل؛ وعليه، فلا بد من الإتيان بالأكثر حتى يتحقق الامتثال اليقيني. وعلى هذا، فإنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي إلى «علمٍ تفصيلي بالأقل» و«شكٍّ بدوي في الأكثر» وبالتالي جريان البراءة في الأكثر، هي دعوى لا وجه لها. بل فوق ذلك، فإنّه (قده) يعتبر تصوّر هذا الانحلال أمراً «محالاً»؛ وذلك لأنّ لازمَه هو أن يكون «نفسُ العلم الإجمالي سبباً لانحلال نفسه»؛ والحال أنّ الانحلال يفتقر إلى عاملٍ خارجي مستقل. ويشير المحقق النائيني (قده) إلى هذا المبنى بقوله:
النكتة الأولى: إنّ محذور «انحلال العلم الإجمالي من داخله» وارد؛ إلا أنّ المسلك الصحيح هو «تحليل المتعلَّق» وإعمال «أصل البراءة في الزائد»، لا تحليل نفس العلم الإجمالي. فالمعلوم بالإجمال يتضمن قدراً مشتركاً يتحصّل به علمٌ تفصيلي.
النكتة الثانية: إنّ «أصالة البراءة عن التقييد»، بوصفها أصلاً نافياً للإلزام الزائد، تُمثّل عاملاً خارجياً معتبراً لإسقاط تنجيز طرف التقييد. فبنفي التقييد، تتقلص دائرة الاشتغال إلى القدر المتيقَّن.
النكتة الثالثة: إنّ قاعدة «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني» تبقى محفوظةً بعد تنقيح الموضوع؛ وذلك لأنّ امتثال «الأقل» بعد نفي التقييد، يُعَدُّ عرفاً وعقلاً امتثالاً يقينياً للتكليف المحرَز.
النكتة الرابعة: وبهذا، فإنّ الانحلال المستحيل (أي الناشئ من داخل العلم الإجمالي) يحلّ محله «الانحلال الحكمي» المرتكز على ركنٍ خارجي (وهو الأصل الموضوعي)؛ وذلك من دون الوقوع في محذور الدور.
النتيجة: في الصورة الأولى، فإنّ المجرى الصحيح للأصل هو «التقييد»، وتجري «أصالة البراءة عن التقييد» بلا معارض. وأما النفسية والغيرية، فلكونها من كيفيات الجعل، لا تكون مجرىً للأصول. فالنتيجة الامتثالية هي التخيير في ترتيب الامتثال. وإنّ جوابنا الصناعي ناظرٌ إلى تمييزٍ محوري، وهو أنّ المحال هو «الانحلال من داخل العلم»؛ وأما «الانحلال الحكمي» فهو معقول، ويرتكز على ركنين:
الركن الأول: وهو العلم التفصيلي بالواقع بالقدر المتيقَّن من المتعلَّق. ففي الدوران بين الأقل والأكثر، يكون الأقل هو القدر المشترك الداخل واقعاً في كلا التقديرين؛ وعليه، فإنّ التكليف بالأقل ثابتٌ تفصيلاً و واقعاً، لا أنّ العلم الإجمالي هو الذي ولّد العلم التفصيلي.
الركن الثاني: وهو الأصل الموضوعي النافي للزائد. فإذا كانت الزيادة حيثيةً قابلةً للجعل (كالجزء أو القيد)، فإنّ الشك فيها هو شكٌّ في إلزامٍ زائد، فتجري البراءة الموضوعية بالنسبة إليها (وفي مقامنا هي: «أصالة البراءة عن التقييد»). وبنفي التقييد، تتقلص دائرة الاشتغال إلى القدر المتيقَّن، ويكون الإتيان بالأقل امتثالاً يقينياً. وبهذا، تُحفَظ كبرى «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني» أيضاً؛ وذلك لأنّ الفراغ اليقيني من التكليف المحرَز يتحصّل بعد تنقيح الموضوع.
يرتضي الشهيد الصدر (قده) في الصورة الأولى رأي المحقق النائيني، ولكن مع قيدٍ مهم، وهو وحدة الواقعة وعدم تكرارها. ففي هذا الفرض، تجري أصالة البراءة من تقييد الصلاة بالوضوء بلا معارض، ولا ينعقد عملياً إشكال تعارض البراءتين الذي طرحه السيد الخوئي؛ وذلك لأنّ المكلف لا يمكنه في رتبةٍ واحدة أن يستند إلى كلا الأصلين المؤمِّنين (وهما البراءة من التقييد والبراءة من نفسية الوضوء). وإنّ عدم إمكان الجمع هذا هو ملاك «الانحلال الحكمي». وأما إذا كانت الواقعة قابلةً للتكرار، فإنّ العلم الإجمالي التدريجي يغدو منجِّزاً، ولم يعد لذلك التوجيه أثر.
إعادة بناء استدلال الشهيد الصدر بدقة: إنّ وجوب الصلاة النفسي معلوم. وأصل تعلّق الوجوب بالوضوء هو الآخر معلوم، وإنما يقع التردد في كونه نفسياً أو غيرياً. والشك إذن هو في تقييد متعلَّق الصلاة بالوضوء. وفي هذا الفرض، يمكن تصور أصلين مؤمِّنين: 1- البراءة من تقييد الصلاة بالوضوء. 2- والبراءة من الوجوب النفسي للوضوء. والنكتة المحورية هي أنّ هذين الأصلين لا يمكن الاعتماد عليهما في عرضٍ واحد. فالبراءة من التقييد إنما تكون ناجعةً في فرض «فعلِ ذاتِ الصلاة» فحسب؛ أي أنّ هذه البراءة إنما تؤمِّنك من العقوبة على ترك القيد (وهو الوضوء) حينما تريد أن تأتي بالصلاة «بدون وضوء». وأما لو تركت الصلاة أصلاً، فإنك تكون قد تركت الواجب النفسي للصلاة، فتستحق العقوبة يقيناً؛ وعليه، فلا يكون للبراءة من التقييد موضوعٌ أساساً.
النتيجة في الواقعة الواحدة: بما أنّ البراءة من نفسية الوضوء لا تكون ناجعةً في موضوع البراءة من التقييد (وهو الإتيان بالصلاة بدون وضوء)، فإنّ الأصل المؤمِّن الوحيد المتبقي هو البراءة من التقييد، وهي تجري بلا معارض. فالنتيجة إذن تتفق مع ما ذهب إليه المحقق النائيني، وهي أنّه في الواقعة الواحدة، تجري البراءة من تقييد الصلاة بالوضوء، وتكون الصلاة بدون وضوء مجزئةً (وذلك في مقام الأصل العملي وعند فقدان الدليل اللفظي الخاص). وأما إذا تكررت هذه الواقعة مراراً (أي مع تعدّد الواقعة)، فإنّ علماً إجمالياً «تدريجياً» ينعقد ويغدو منجِّزاً؛ وذلك لأنّ المكلف يمكنه على نحو التناوب أن يعتمد مرةً على البراءة من التقييد، ومرةً أخرى على البراءة من نفسية الوضوء، على نحوٍ يؤول معه الجمع بين هذه التمسكات المتناوبة في نهاية المطاف إلى مخالفةٍ قطعيةٍ عملية. وفي هذه الحالة، تتعارض الأصول المؤمِّنة في مجموعها، وتصل النوبة إلى الاحتياط.
في الواقعة الواحدة، فإنّ مبنى المحقق النائيني — بتقرير وتكميل الشهيد الصدر — تامّ؛ إذ تجري «أصالة البراءة عن التقييد» بلا معارض، ويتحقق بذلك الانحلال الحكمي؛ ويكون المكلف مخيَّراً في تقديم الوضوء على الصلاة أو تأخيره. وأما في الوقائع المتعددة، فيوجد إمكانٌ للأثر العملي للبراءة من النفسية (بوصفها نافيةً للعقوبة الزائدة)، فتتعارض مع البراءة من التقييد؛ ويكون مقتضى القاعدة في هذه الحالة هو الاحتياط. ومع ذلك، لا بد من ملاحظة الضابطة الكلية القائلة بأنّ «الأصل لا يجري إلا في المجعول» والفارق في ظرف التطبيق، منعاً من الخلط بين الحيثيات والوقوع في التعارض. ويشير الشهيد الصدر (قده) إلى هذا المبنى بقوله:
و الصحيح ما أفاده المحقق النائيني (قده) فيما إذا فرض وحدة الواقعة و عدم تكررها.
فرض المسألة: تماثل الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط. أطراف العلم الإجمالي: 1- الوجوب النفسي للوضوء؛ 2- ووجوب تقييد الصلاة بالوضوء. مع فرض العلم التفصيلي بطبيعيّ وجوب الوضوء أيضاً.
مجرى الأصول: إنّ النفسية والغيرية من كيفيات الجعل، وليستا بما هما هما مجعولاً شرعياً؛ ولهذا، فإنهما لا تقعان مجرىً للأصل العملي. والمجرى الصحيح هو «تقييد الصلاة بالوضوء»؛ فالشك فيه هو شكٌّ في حيثيةٍ قابلةٍ للجعل، فتجري فيه أصالة البراءة عن التقييد.
الآراء المطروحة
القائلون بالاحتياط: الإمام الخميني، والمحقق الخوئي، والسيد الروحاني (قدس سرهم). ومدار كلامهم على أنّ البراءتين (البراءة من التقييد والبراءة من النفسية) متعارضتان، فتتساقطان، ويبقى العلم الإجمالي قائماً بلا انحلال، وذلك بملاك كبرى الاشتغال (وهي «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني»)؛ فتجري أصالة الاحتياط.
القائلون بعدم لزوم الاحتياط: المحقق النائيني والشهيد الصدر (قدس سرهما). وتوجيههما هو أنّه في الواقعة الواحدة، لا يجري إلا «البراءة من التقييد»، ولا تكون النفسية مجرىً للأصل. فلا ينعقد تعارضٌ بين البراءتين (لا سيّما مع ضابطة «اختلاف ظرف التطبيق» عند الشهيد الصدر)، ويتحقق بذلك الانحلال الحكمي.
التحليل الصناعي: إنّ الأصل لا يجري إلا في المجعولات، وعنوانا «النفسية» و«الغيرية»، بوصفهما حيثيتين انتزاعيتين، لا يترتب عليهما أثرٌ إلزامي مستقل حتى يرفعه الأصل الترخيصي. وأما في المقابل، فإنّ لـ«التقييد» أثراً شرعياً مباشراً (وهو لزوم الإتيان بالصلاة على نحو التقييد)، وهو يُنفى بالبراءة. وهذا النفي للأثر ليس أصلاً مثبِتاً، وهو نظير البراءة في الجزئية والشرطية. فالبراءة من التقييد تجري في ظرف فعل الصلاة للتأمين من إلزام القيد. وأما «البراءة من النفسية»، فحتى لو صُوِّرت على أنها نفيٌ للعقوبة الزائدة، فإنّ ظرفها هو ترك الوضوء (في فرض ترك الصلاة). فوحدة المورد والزمان مخدوشةٌ، فلا ينعقد تعارض. وفوق ذلك، فإنّ النفسية بما هي كيفيةٌ للجعل، خارجةٌ في الجملة عن مجاري الأصل.
الجواب عن كبرى الاشتغال ودعوى عدم الانحلال: إنّ الانحلال المستحيل هو ذلك الذي ينشأ من داخل العلم الإجمالي. وأما هنا، فإنّ «الانحلال الحكمي» إنما يتحصّل بركنٍ خارجي، وهو الأصل الموضوعي النافي للتقييد، الذي يقلِّص دائرة الاشتغال إلى القدر المتيقَّن. وعليه، فإنّ امتثال الأقل بعد نفي القيد يُعَدُّ امتثالاً يقينياً، فلا يتعارض مع كبرى «الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني».
فالمتحصّل هو أنّه في الواقعة الواحدة، تجري أصالة البراءة عن التقييد بلا معارض؛ فتُرفَع بذلك القيدية المشكوكة، وتثبت نتيجة الإطلاق في جانب الصلاة. ويكون المكلف مخيَّراً في ترتيب الامتثال: فله أن يقدِّم الوضوء ثم يأتي بالصلاة، وله أن يأتي بالصلاة أولاً ثم يمتثل الأمر بالوضوء. وينبغي التنبيه على أنّ هذه النتيجة مرتكزةٌ على الفرض القائم على تماثل الوجوبين والشك في أصل التقييد في مقام الجعل؛ لا على فرض إحراز الشرطية الشرعية للوضوء في الفقه الفرعي. وعليه، فالمختار عندنا، انسجاماً مع المحقق النائيني والشهيد الصدر، هو أنّه في الصورة الأولى (الواقعة الواحدة)، يكون الأصل المؤثر الوحيد هو «أصالة البراءة عن التقييد»؛ فإنّ النفسية والغيرية ليستا مجرىً للأصل، فلا ينعقد تعارضٌ بين البراءتين، ويتحقق الانحلال الحكمي. ونتيجةُ ذلك هي عدم لزوم الاحتياط؛ وإن كان الاحتياط حَسناً على كل حال، وتقديم الوضوء هو الأولى.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[1]- فوائد الأصول ٢٢٢:١-٢٢٣.
[2]- نفس المصدر السابق ١٥٩:٤-١٦٢.
[3]- روح الله خمینی، مناهج الوصول إلى علم الأصول (قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415)، ج 1، 374-375.
[4]- محمدحسین نائینی، فوائد الاُصول، با محمد علی کاظمی خراسانی (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376)، ج 4، 159.
[5]- محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، با محمود هاشمی شاهرودی (قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، 1417)، ج 2، 226.
- الصدر، محمد باقر. بحوث في علم الأصول. با محمود هاشمی شاهرودی. ۷ ج. قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، 1417.
- خمینی، روح الله. مناهج الوصول إلى علم الأصول. قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.
- نائینی، محمدحسین. فوائد الاُصول. با محمد علی کاظمی خراسانی. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.
نظری ثبت نشده است .