موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/١
شماره جلسه : ۸
-
خلاصة البحث السابق
-
مقتضى الأصل العملي عند الشك بين النفسية والغيرية
-
تنقيح صور الشك بين النفسية والغيرية في مقام الأصل العملي عند المحقق النائيني
-
الصورة الأولى: تماثل الوجوبين وأصالة البراءة عن التقييد
-
بيان المحقق النائيني
-
تعليقة آية الله الخوئي
-
مناقشاتٌ مبنائيةٌ على تعليقة السيد الخوئي
-
الصورة الثانية: عدم تماثل الوجوبين وجهات الشك الثلاث
-
تحليل الجهات الثلاث والأصل الجاري فيها
-
تعليقة آية الله الخوئي: منجِّزية العلم الإجمالي في التدريجيات وحدود جريان البراءة في الصورة الثانية
-
مناقشاتٌ مبنائيةٌ على تعليقة السيد الخوئي
-
النتيجة والرأي المختار
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
إنّ الصورة الفنية لمحل النزاع وتحريره هي كالتالي: الكلام في فرض إحراز أصل وجوب الفعل، مع التردد في كونه نفسياً أو غيرياً. فلو أنّ إطلاق الدليل، مع تمامية مقدمات الحكمة، قد رفع هذا التردد، لانتفى محل البحث. وأما عند فقدان الإطلاق، فالمرجع هو الأصل العملي، غير أنّه يختلف باختلاف الموارد. ولأجل ذلك، لا بدّ، قبل تعيين الأصل العملي، من تنقيح صور الشك، ليتضح الأثر العملي لكل صورةٍ منها.
تقسيم موارد الشك
يفصِّل المحقق النائيني في «أجود التقريرات» صور المسألة على النحو التالي:
الصورة الأولى: أن يقع الشك في النفسية والغيرية في موردٍ يكون فيه، إلى جانب الواجب المردَّد، وجوبٌ نفسي لفعلٍ آخر معلومٌ أيضاً؛ على نحوٍ يكون الواجب المردَّد، على تقدير غيريته، بمثابة مقدِّمةٍ وتابعٍ لذلك الواجب النفسي نفسه. وهذه الصورة تنحلُّ بدورها إلى فرضين:
1- تماثل الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط بشيءٍ معيّن: أي أن يكون كلا الوجوبين متماثلاً بالنسبة إلى شرطٍ واحد؛ فإمّا أن يكونا مطلقين معاً، وإمّا أن يكونا مقيَّدين معاً. ولتقريب الفكرة، يضرب النائيني مثال «دخول الوقت»، فيقول: «كما إذا علم اشتراط كلٍّ من وجوبي الطهارة والصلاة بدخول الوقت أو عُلِم إطلاق كلٍّ منهما بالقياس إليه».[2]
2- عدم التماثل: وهو أن يكون أحد الوجوبين مطلقاً بالنسبة إلى ذلك الشرط والآخر مشروطاً به؛ نظير ما لو كان الوجوب النفسي للصلاة مشروطاً قطعاً بدخول الوقت، ولكن كان وجوب الطهارة — المردَّد بين النفسية والغيرية — يحتمل فيه الإطلاق والاشتراط معاً.
الصورة الثانية: وهو أن لا يُعلَم وجوبٌ فعلي إلا لذاك الفعل المردَّد بين النفسية والغيرية، مع احتمال وجود واجبٍ آخر في الواقع يكون وجوبه مقيَّداً بنفس هذا الفعل المعلوم الوجوب. وبعبارة المحقق النائيني: «أن لا يُعلم إلاّ وجوبُ ما يُحتمل كونه نفسياً أو غيرياً مع احتمال أن يكون في الواقع واجبٌ آخر مقيّداً بما عُلِم وجوبُه في الجملة».
تحليل الأثر العملي لكل صورة
في صورة التماثل (ضمن الوجه الأول): فإنّ دائرة التكليف من حيث السعة والضيق، زماناً وظرفاً، تكون واحدةً على كلا التقديرين (النفسي والغيري). وعليه، فلا يكون للأصل العملي — في مقام إثبات أثرٍ زائد — مجالٌ للجريان، إلا بناءً على المباني التي ترى ثمرةً مستقلةً لنفس عنوان النفسية أو الغيرية.
وأما في صورة عدم التماثل: فالثمرة بيّنة؛ إذ لو كان وجوب الفعل مطلقاً (فهو نفسي مطلق)، لكان نطاق اشتغال الذمة أوسع. ولو كان مقيَّداً بوجوب الغير (فهو غيري)، لكان النطاق أضيق. وهنا يكون المرجع هو الأصل العملي لنفي السعة أو إثباتها.
وأما في الصورة الثانية (التي عبّرنا عنها بالثالثة تسلسلاً): فبما أنّ أصل وجوب هذا الفعل ثابتٌ بالفعل، وأنّ الغيرية ملازمةٌ لوجود واجبٍ آخر مفروض العدم (إلا على نحو الاحتمال)، فإنّ البحث ينعقد في أنه هل يكون مجرد احتمال الواجب الآخر مسوِّغاً للبناء على الغيرية، أم أنّ الأصل العملي يرشدنا إلى نفي هذا الارتباط الزائد؟ وتعيين هذه الجهة منوطٌ بالمباني المعتمدة في «أصل العدم» وجريان استصحاب عدم الجعل الزائد.
تنبيه: إنّ غايتنا في هذا المقام لم تتجاوز تصوير الفروض وتحديد نطاق الأثر العملي. وأما حكم الأصل العملي في كل صورةٍ من هذه الصور، ونسبة هذا التقسيم إلى تقريرات «فوائد الأصول»، فسيأتي بيانه في البحث اللاحق.
يقول صاحب «أجود التقریرات» في تبيين هذه الصورة:
فهناك صور (اما الصورة الأولى) و هي ما علم فيه تماثل الوجوبين فالشك فيها متمحض في خصوص تقييد متعلق ما علم كونه نفسياً بالواجب الآخر فتجري البراءة عن التقييد و يثبت بذلك نتيجة الإطلاق ففي مفروض المثال يكون المكلف مخيراً بين الإتيان بالصلاة قبل الطهارة و الإتيان بها بعدها.[3]
ورد في الحاشية على «أجود التقریرات» ما يلي:
لا يخفى ان إجراء البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء في مفروض المثال معارض بجريان البراءة عن الوجوب النفسيّ المحتمل ثبوته للوضوء فان القدر المعلوم ثبوته انما هو أصل تعلق الوجوب بالوضوء و اما خصوص كونه نفسيا أو غيرياً فهو مجهول لكن العلم الإجمالي بثبوت إحدى الخصوصيّتين يمنع من جريان أصالة البراءة في كل منهما فاللازم هو الاحتياط و الإتيان بالصلاة مع الطهارة في مفروض المثال فيكون النتيجة نتيجة الوجوب الغيري لا النفسيّ.[4]
والذي يبدو لنا أنّ هذه التعليقة ترد عليها إشكالاتٌ عدة:
1- عدم الأثر المستقل للبراءة المعارِضة في جانب الوضوء: إنّ الأصل المفروض جريانه في جانب الوضوء هو نفي النفسية؛ والحال أنّ أصل وجوب الوضوء ثابتٌ على كل تقدير. فالبراءة إنما تكون معذِّرةً حيثما رفعت إلزاماً زائداً. ونفي النفسية لا يرفع إلزاماً زائداً؛ إذ على تقدير الغيرية أيضاً، يبقى الإلزام بالوضوء قائماً بواسطة وجوب الصلاة. وعليه، فإنّ الأصل المدَّعى جريانه في جانب الوضوء يفتقر إلى أثرٍ عملي مستقل، وهو بذلك لا يملك صلاحية المعارضة مع البراءة الجارية في تقييد الصلاة.
2- عدم تحقق العلم الإجمالي المنجِّز بالنسبة إلى إلزامين قابلين للمخالفة: إنّ العلم الإجمالي إنما يكون منجِّزاً حيثما آلت أطرافه إلى إلزامين يمكن مخالفتهما في مقام العمل. وأما في ما نحن فيه، فإنّ المخالفة القطعية العملية لوجوب الوضوء غير معقولة؛ إذ إنّ المكلف على كلا التقديرين لا بدّ له من الإتيان بالوضوء. والنزاع إنما هو في تقييد الصلاة بالوضوء ولزوم تقديمه. فحينما انتفى عنوان الاشتراط بأصالة البراءة عن التقييد، لم يعد للعلم الإجمالي بثبوت «إحدى الخصوصيتين» شأنٌ في التنجيز؛ وذلك لأنّ الطرف ذا الأثر (وهو اشتراط الصلاة) قد انتفى بواسطة الأصل الموضوعي.
3- تقدّم الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي: إنّ أصالة البراءة عن التقييد الجارية في جانب الصلاة إنما هي في حقيقتها تنقيحٌ للموضوع، ومفادها أنّ «الصلاة غير مقيَّدةٍ بالوضوء». ومع جريان هذا الأصل الموضوعي، لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي المبتني على العلم الإجمالي (وهو أصالة الاحتياط)؛ لا سيّما مع فرض عدم الأثر المستقل للأصل المقابل في جانب الوضوء.
النتيجة العملية: بناءً على مبنى المحقق النائيني، ففي صورة تماثل الوجوبين، لا يكون المكلف ملزماً بتقديم الوضوء على الصلاة، ويبقى التخيير في ترتيب الامتثال محفوظاً. نعم، الاحتياط بتقديم الوضوء حسنٌ في نفسه، إلا أنه ليس إلزامياً من جهة الأصل العملي.
تقرير محل البحث: الفرض هو أنّ وجوب الوضوء معلومٌ في الجملة، وإنما يقع التردد في كونه نفسياً أو غيرياً. وإلى جانبه، فإنّ الصلاة واجبٌ نفسي مشروطٌ بدخول الوقت. فمن حيث النسبة إلى الوقت، ينتفي التماثل بين الوجوبين: فوجوب الصلاة مقيَّدٌ بالوقت. ووجوب الوضوء بالنسبة إلى ذلك الشرط نفسه، مفروضٌ عدم تقييده به. وقد فصّل صاحب «أجود التقریرات» هذه الصورة إلى ثلاث جهاتٍ للشك، وعيّن لكلٍّ منها الأصل الجاري والنتيجة العملية المترتبة عليه. حيث يقول (قده):
الجهة الأولى: الشك في تقييد الصلاة بالوضوء. مجرى الأصل: أصالة البراءة عن التقييد؛ إذ إنّ الشك من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين في شروط الصلاة. النتيجة: تتحصّل «نتيجة الإطلاق» في جانب الصلاة؛ أي أنّه بحسب مقام العمل، يُفرَض انتفاء الشرطية المشكوكة (وهي شرطية الوضوء) للصلاة، وإن لم يكن ثمة إطلاقٌ لفظيٌ يُثبِت ذلك.
الجهة الثانية: الشك في الوجوب النفسي للوضوء قبل حصول شرط وجوب الصلاة. مجرى الأصل: أصالة البراءة عن التكليف الزائد؛ أي نفي الإلزام قبل حلول الوقت. النتيجة: تتحصّل «نتيجة الغيرية»؛ بمعنى أنّ نطاق فعلية وجوب الوضوء يختصّ بما بعد الوقت؛ وكأنّ منشأ فعلية الإلزام هو الحاجة إلى الصلاة الواجبة.
الجهة الثالثة: الشك في سقوط وجوب الوضوء بعد الوقت لمن توضأ قبله. تقرير الشك: هل وجوب الوضوء بعد الوقت مطلقٌ، أم أنه يختص بمن لم يتوضأ قبله؟ مجرى الأصل: أصالة البراءة عن الوجوب بعد الوقت في حقّ المتوضئ قبله. النتيجة: تتحصّل «نتيجة النفسية»؛ وذلك لأنّه بنفي الإلزام بعد الوقت بالنسبة إلى «من توضأ قبله»، ينطبق الأثر العملي على النفسية، وينتفي لزوم تجديد الوضوء بعد الوقت (بوصفه لازماً للغيرية بقرينة توقيت المنشأ).
وفي «فوائد الأصول»، صيغ هذا المقام تحت عنوان «الشك بين الإطلاق والاشتراط»، وبناءً على المختار هناك، فإنّ الأصل في الدوران بين الإطلاق والاشتراط هو «أصل الاشتراط». حيث يقول (قده):
القسم الثّاني ما إذا علم بوجوب كلّ من الغير و الغيري، و لكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل،
كالمثال المتقدّم فيما إذا علم قبل الزّوال، ففي هذا القسم يرجع الشّك في غيريّة الوضوء و نفسيّته إلى الشّك في اشتراطه بالزّوال و عدم اشتراطه، إذ لو كان واجبا غيريّا يكون مشروطا بالزّوال لمكان اشتراط الصّلاة به، و حينئذ يكون من افراد الشّك بين المط و المشروط، و قد تقدّم انّ مقتضى الأصل العملي هو الاشتراط، للشّك في وجوبه قبل الزّوال، و أصالة البراءة تنفي وجوبه، كما تنفي شرطية الصلاة بالوضوء، و لا منافاة بين إجراء البراءة لنفي وجوب الوضوء قبل الزوال و إجراء البراءة لنفي قيديّته للصّلاة كما لا يخفى.[6]
وأما في «أجود التقریرات»، فقد انتظم التحليل على أساس الجريان الثلاثي للبراءة، وبذلك استُوفيت الآثار العملية نفسها — من دون حاجةٍ إلى التمسك المباشر بأصل الاشتراط. إذ إنّ: الجهة الأولى تنتج نتيجة الإطلاق في الصلاة. والجهة الثانية تنتج نتيجة الغيرية في الوضوء (وهي اختصاص الإلزام بما بعد الوقت). والجهة الثالثة تنتج نتيجة النفسية (وهي سقوط الإلزام بعد الوقت للمتوضئ قبله).
مناقشاتٌ مبنائية
المناقشة الأولى: هل يقع تعارضٌ بين الأصول الثلاثة؟ إنّ الجواب عن هذا السؤال بيّن. فإنّ موضوعات الأصول الثلاثة متغايرة: فالأول موضوعه تقييد الصلاة. والثاني موضوعه الإلزام بالوضوء قبل الوقت. والثالث موضوعه الإلزام بالوضوء بعد الوقت لمن توضأ قبله. فلا يتحقق اتحادٌ في الموضوع حتى ينعقد تعارضٌ. وإنّ تصريح «أجود التقریرات» بعبارة «بلا معارض» إنما هو مرتكزٌ على هذا الأساس.
المناقشة الثانية: هل يمنع العلم الإجمالي بثبوت إلزامٍ زائد (إمّا قبل الوقت وإمّا بعده) من جريان الأصول؟ والجواب أنّ العلم الإجمالي إنما يكون منجِّزاً حيثما آلت أطرافه إلى إلزامين قابلين للمخالفة في مقام العمل. وأما في ما نحن فيه، فإنّه بجريان البراءة في كل موضوعٍ خاص، ينتفي الطرف ذو الأثر الزائد، ولا يُتصوَّر وقوع مخالفةٍ قطعيةٍ عمليةٍ للإلزام المعلوم (وهو أصل وجوب الوضوء بعد الوقت لمن لم يتوضأ قبله). وعليه، فإنّ العلم الإجمالي المزعوم لا يكتسب شأنية التنجيز.
المناقشة الثالثة: ما هي نسبة هذا التحليل إلى «أصل الاشتغال» والاحتياط؟ والجواب أنّ البراءة في الجهتين الأولى والثالثة هي «أصلٌ موضوعي» في مقام تنقيح التقييد وعدمه، وسعة الموضوع وضيقه؛ ومع جريان الأصل الموضوعي، لا تصل النوبة إلى الأصل الحكمي المتمثل في الاحتياط. وأما في الجهة الثانية، فإنّ الشك إنما هو في تكليفٍ زائدٍ قبل الوقت، وهو مجرىً بيّنٌ للبراءة.
النتيجة العملية للصورة الثانية
فمحصّل الأمر هو التالي: 1- من حيثية الصلاة: تتحصّل «نتيجة الإطلاق»؛ فلا تُعَدُّ الصلاة مقيَّدةً بالوضوء. 2- ومن حيثية زمان فعلية وجوب الوضوء: تتحصّل «نتيجة الغيرية»؛ فيختصّ الإلزام بما بعد الوقت. 3- وبالنسبة إلى من توضأ قبل الوقت: تتحصّل «نتيجة النفسية»؛ إذ يُنفى الإلزام بعد الوقت في حقه بالبراءة. وهذه النتائج الثلاث لا تجتمع في موضوعٍ واحد حتى ينشأ تزاحمٌ أو تعارض.
يقول السید الخوئي (قده) في حاشيته على «الأجود» ذيل الصورة الثانية:
إذا كان الوجوب النفسيّ المحتمل ثبوته للوضوء في مفروض المثال مقيّداً بإيقاعه قبل الوقت ليدور الأمر بين لزوم الإتيان به قبل الوقت و لزوم الإتيان به بعد الوقت من جهة دوران الأمر بين الوجوب النفسيّ و الغيري فلا ينبغي الريب في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في شيء منهما على ما هو المختار من كون العلم الإجمالي منجزاً للتكليف في التدريجيات أيضاً.
و أمّا إذا كان الوجوب النفسيّ على تقدير ثبوته متعلقاً به غير مقيد بإيقاعه قبل الوقت فلا معنى للرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه قبل الوقت أصلاً، و حينئذٍ إذا لم يتوضأ المكلف حتى دخل وقت الصلاة فلا بدّ له أن يتوضأ و يوقع الصلاة بعده لأنه مقتضى العلم الإجمالي الموجب للاحتياط كما عرفت.
و أمّا إذا توضأ قبله فلا يجب عليه إعادة الوضوء بعد دخوله لأن تقييد الوضوء بوقوعه فيما بعد الوقت و لو على تقدير كون وجوبه غيرياً مجهول فيرجع معه إلى البراءة...[7]
فالمبنى المرتكز هو أنّ «العلم الإجمالي منجِّزٌ حتى في التدريجيات». فالفرع الأول هو: أنّه لو كانت النفسية المحتملة مقيَّدةً بـ«ما قبل الوقت»، لدار الأمر حينئذٍ بين «وجوبٍ نفسي قبل الوقت» و«وجوبٍ غيري بعد الوقت»؛ فلا تجري البراءة في أيٍّ منهما، ويكون المقتضى هو الاحتياط. والفرع الثاني هو: أنّه لو كانت النفسية المحتملة مطلقةً (أي لا على نحو التقييد بما قبل الوقت)، لكان الرجوع إلى البراءة من «الوجوب قبل الوقت» لا معنى له. وحينئذٍ، فلو لم يتوضأ المكلف حتى دخل وقت الصلاة، وجب عليه أن يتوضأ ويوقع الصلاة بعده (وهو أثر الاحتياط الناشئ من العلم الإجمالي). ولكن، لو كان قد توضأ قبل الوقت، لما وجبت عليه الإعادة؛ وذلك لأنّ «تقييد الوضوء بوقوعه بعد الوقت» مجهول، فتجري البراءة من هذا التقييد.
الآثار العملية بناءً على مبنى السيد الخوئي
المناقشة الكبروية: منجِّزية العلم الإجمالي في التدريجيات
إنّ مبنى آية الله الخوئي قابلٌ للمناقشة. فإنّ كثيراً من الأعلام يقيِّدون تنجيز العلم الإجمالي بإمكان المخالفة أو الموافقة القطعية في ظرف الفعلية. وقبل الوقت، فإنّ طرف «الوجوب الغيري بعد الوقت» لم يبلغ بعدُ مرحلة الفعلية، ويبقى إمكان «الموافقة القطعية» من خلال الإتيان بالوضوء بعد الوقت محفوظاً. وعليه، فإنّ العلم الإجمالي في هذه المرحلة لا يكون محرِّكاً ولا منجِّزاً على نحوٍ يمنع من جريان البراءة «قبل الوقت». وعلى هذا المبنى، فإنّ أصالة البراءة عن الوجوب قبل الوقت جارية.
المناقشة الصغروية: انحلال العلم الإجمالي وتغاير موضوعات الأصول الثلاثة
وحتى مع التسليم بأصل التنجيز في التدريجيات، فإنّ موضوعات الأصول الثلاثة الجارية في تقرير «الأجود» متباينة: فالأول موضوعه تقييد الصلاة بالوضوء. والثاني موضوعه الوجوب النفسي للوضوء قبل الوقت. والثالث موضوعه وجوب الوضوء بعد الوقت في حقّ من توضأ قبله. فالعلم الإجمالي، إن منع من جريان الأصل، فإنما هو ناظرٌ إلى التزاحم بين «ما قبل الوقت» و«ما بعد الوقت» في نفس وجوب الوضوء، لا إلى أصل شرطية الوضوء للصلاة (وهو موضوع الجهة الأولى)، ولا إلى الإلزام بعد الوقت في حقّ المتوضئ قبله (وهو موضوع الجهة الثالثة). ولهذا السبب، فإنّ آية الله الخوئي نفسه يرتضي جريان البراءة في الجهة الثالثة، وهذا يكشف عن الانحلال العرفي للعلم الإجمالي بعد الإتيان بالوضوء قبل الوقت.
تقدّم الأصول الموضوعية على الأصول الحكمية
في الجهة الثالثة، وبعد الإتيان بالوضوء قبل الوقت، يكون الشك في «وجوب الوضوء بعد الوقت في حق هذا الشخص» مجرىً للبراءة، وهذا الأصل بدوره يرفع موضوع الاحتياط. وبالتعبير الأصولي: مع جريان الأصل النافي للوجوب بعد الوقت في حقّ المتوضئ قبله، لا تصل النوبة إلى أصل الاحتياط.
عدم الأثر في بعض البراءات والتحديد الصحيح لمحل الأثر
في الصورة الثانية، فإنّ تحليل «أجود التقریرات»، من حيث تفكيكه للجهات الثلاث وجريان الأصول في كلٍّ منها، يُعَدُّ تحليلاً متقَناً من الناحية الفنية. وأما تعليقة آية الله الخوئي في منع البراءة بالنسبة إلى «الوجوب النفسي قبل الوقت»، فهي متفرّعةٌ على مبناه الخاص في «منجِّزية العلم الإجمالي في التدريجيات». وهذا المبنى، أولاً: هو محلُّ منعٍ كبروي. وثانياً: فحتى على فرض التسليم به، فإنه يؤول بعد الإتيان بالوضوء قبل الوقت إلى الانحلال العرفي، فلا يبقي مجالاً للاحتياط في «الإعادة بعد الوقت»؛ تماماً كما صرّح به (قده) نفسه.
وعليه، فإنّ، في الجهة الأولى (الشك في تقييد الصلاة): تجري أصالة البراءة عن التقييد، وتثبت «نتيجة الإطلاق». وفي الجهة الثانية (الشك في الوجوب النفسي قبل الوقت): تجري البراءة على المختار عندنا؛ فمبنى المنع عند المحقق الخوئي غير تامّ. وفي الجهة الثالثة (الشك في الوجوب بعد الوقت للمتوضئ قبله): تجري البراءة، وتتحصّل «نتيجة النفسية» في ساحة العمل.
فالمتحصّل هو: أنّه إن لم يكن قد توضأ قبل الوقت، فإنّ «أصل وجوب الوضوء بعد الوقت لمن لم يتوضأ قبله» مفروغٌ عنه. وإن كان قد أتى بالوضوء قبل الوقت، فإنّ الإلزام بإعادته بعد الوقت يُنفى بالبراءة. وبالإجمال، فإنّ أصالة البراءة تنعقد في الجهات ذات الأثر العملي، ويكون الاحتياط العام على نحو الإلزام خارجاً عن محل البحث.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[1]- محمدحسین نائینی، أجود التقریرات، با ابوالقاسم خویی (قم: مطبعة العرفان، 1352)، ج 1، 169.
[2]- نفس المصدر، 170.
[3]- نفس المصدر.
[4]- نفس المصدر.
[5]- نفس المصدر ، 170-171.
[6]- محمدحسین نائینی، فوائد الاُصول، با محمد علی کاظمی خراسانی (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376)، ج 1، 223.
[7]- نائینی، أجود التقریرات، ج1، 170-171.
- نائینی، محمدحسین. أجود التقریرات. با ابوالقاسم خویی. ۲ ج. قم: مطبعة العرفان، 1352.
- ———. فوائد الاُصول. با محمد علی کاظمی خراسانی. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.
نظری ثبت نشده است .