درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

درس قبل

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/٢٦


شماره جلسه : ۲۱

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • الواجب التعييني والتخييري

  • تحقق الواجب التخييري والإشكالات الثبوتية الثلاثة

  • 1- تعلّق الإرادة بـ«أحدهما»

  • 2- جواز ترك الفرد إلى بدلٍ ولزوم التنقيح الثبوتي

  • 3- الامتثال والثواب والعقاب

  • التخيير العقلي والشرعي

  • حقيقة الواجب التخييري

  • النظرية الأولى: الواجب هو ما يختاره المكلف

  • الإشكال الأول على نظرية «الواجب هو ما يختاره المكلف»: مخالفتها لظهور أدلة التخيير

  • الإشكال الثاني: عدم الانسجام مع قاعدة الاشتراك في التكليف

  • نقدٌ على الإشكال الثاني

  • الإشكال الثالث: تعليق الوجوب على الاختيار ونفي العصيان

  • المصادر

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

خلاصة البحث السابق

في الإشكال الثاني لصاحب «المنتقى»، نُسِب إلى المحقق النائيني أنّه يسري قاعدة «التفكيك في تنجُّز المركب»، التي تُعقَل في باب الأقل والأكثر الارتباطيين بالنسبة إلى الأجزاء، إلى محل الشك بين النفسية والغيرية؛ والحال أنّ هذه القاعدة لا تجري في الشرائط، والقياس هو قياسٌ مع الفارق. إلا أنّه بحسب نظرنا، فإنّ الملاك في التفكيك هو «القدر المتيقَّن من الامتثال»، لا كون المقوِّمات داخليةً أم خارجية. فالعقل في مقام المؤاخذة يفكِّك بين الحيثية المعلومة والحيثية المشكوكة: فما هو دخيلٌ قطعاً في تحقق الامتثال — سواء كان جزءاً معلوماً أم شرطاً معلوماً — يترتب على تركه العقاب؛ وأما ما كانت دخالته مشكوكة — جزءاً كان أم شرطاً — فلا عقاب عليه بسبب الأصل المؤمِّن (وهو البراءة أو عدم البيان). وعليه، فلا وجه للتفصيل بين الأجزاء والشرائط في ساحة التنجُّز. فالصياغة الصحيحة للقاعدة هي «التفكيك في محامل المؤاخذة ونطاق المؤمِّن»، لا دعوى «حكمٍ موجود غير منجَّز». فبعد جريان البراءة في الناحية المشكوكة، ينتفي التكليف الظاهري في تلك الحيثية موضوعاً، ويكون الحديث عن «بقاء حكمٍ غير منجَّز» مضلِّلاً. وبنفس هذا الملاك، فإنّ امتثال الوضوء — بوصفه معلوم الوجوب — لازم، وتجري البراءة بالنسبة إلى نفسية وجوب الصلاة عند فقدان الحجة بلا معارض. كما أنّ دعوى لزوم «تكثُّر التروك» لإمكان التفكيك غير تامة؛ فالمعيار هو استناد ترك المأمور به إلى الحيثية المعلومة أو المشكوكة، لا كثرة طرق الترك. ومن هنا، فإنّ تسوية منطق الأقل والأكثر بالشرائط، بملاك القدر المتيقَّن، هو أمرٌ صحيح. وفوق ذلك، فإنّ انحلال العلم الإجمالي لا ينحصر في قبول «التوسُّط في التنجيز». إذ يمكن إخراج القدر المتيقَّن (من الأجزاء أو الشرائط المعلومة) عن تحت العلم الإجمالي، وإحالة الزائد المشكوك إلى البراءة، من دون افتراض «حكمٍ باقٍ غير منجَّز». وهذه الصياغة منسجمةٌ مع أدلة البراءة (على الأقل بمفاد «رفع المؤاخذة»)، ومع الارتكاز العرفي في محاورات المولى والعبد. فالمتحصّل هو: أنّ نقد صاحب «المنتقى» — القائم على حصر القاعدة في الأجزاء — غير تامّ؛ فالملاك العام لـ«القدر المتيقَّن والبراءة من الزائد» جارٍ في ساحتي الأجزاء والشرائط معاً، ويكون توجيه المحقق النائيني على هذا المبنى قابلاً للدفاع صناعياً.

الواجب التعييني والتخييري

ينعقد البحث في فرضٍ تكون فيه مشروعية الفعل وأصل وجوبه محرزين، ولكن يقع التردد في كيفية تعلّق الوجوب به، أي في كونه تعيينياً أم تخييرياً. والمثال البارز على هذا الفرض هو صلاة الجمعة في عصر الغيبة: فالمكلف يفترض مشروعيتها، وأصل الوجوب مسلَّمٌ عنده، ولكنه يتردد في أنّ الوجوب هل هو ثابتٌ على نحو التعيين أم على نحو التخيير بين عدلين. والسؤال المحوري هو: هل لأصالة الإطلاق في مثل هذا المورد ظهورٌ في التعيينية، أم أنها ساكتةٌ من هذه الجهة؟

بحسب بيان الآخوند الخراساني، فإنّ أصالة الإطلاق تقتضي التعيينية. وظاهر كلامه (قده) هو أنّ المراد بـ«الإطلاق» في هذا المقام هو عدم القرينة على المقابل؛ بمعنى أنّ فقدان القرينة على التخيير كافٍ في حدّ ذاته لإثبات التعيينية. وقبل الخوض في الأدلة والمناقشات، لا بد من تبيين حقيقة الواجب التعييني والتخييري. وقد طرح المحقق الخراساني هذا المبحث في أواخر مباحث الأوامر، ثم فصّله من بعده المحقق النائيني. وفي الوقت نفسه، فإنّ تقرير المحقق الخوئي في «المحاضرات» يتمتع بانسجامٍ أكبر. وفي ما يلي، سنسير على الترتيب المذكور نفسه في «محاضرات» السيد الخوئي.

تحقق الواجب التخييري والإشكالات الثبوتية الثلاثة

إنّ تحقق الواجب التخييري في الشريعة، بحسب مقام الإثبات، أمرٌ مسلَّم، وله نماذج بيّنة؛ ومنها تخيير المكلف بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة بناءً على رأي المشهور، والتخيير في الخصال الثلاث لكفارة إفطار رمضان غير العمدي. كما أنّ هذا السنخ من الإلزام المخيَّر معهودٌ عند العرف العقلائي أيضاً. وعليه، فإنّ تقسيم الواجب إلى تعييني وتخييري لا إشكال فيه من حيث مقام الإثبات. ولكنّ النزاع إنما هو في مقام الثبوت، حيث تُطرَح ثلاثة إشكالات. فما لم تُنقَّح حقيقة الواجب التخييري في مقام الثبوت بدقة — أي كيفية انطباق «الوجوب» على «أحد الأفراد»، وإلى أي حيثيةٍ ينظر «جواز الترك» — فإنّ تصوير التخيير «بين المتباينين» يبقى هو الآخر غير تامّ. وبالطريق الأولى، فإنّ تفسير التخيير «بين الأقل والأكثر»، مع ما فيه من تعقيدٍ إضافي، يكون أشدّ صعوبة، وإن كان أصل تحققه في الشريعة مفروضاً. وسنتناول أولاً هذه الإشكالات الثبوتية الثلاثة في ماهية الواجب التخييري، ثم نستعرض المسالك والمذاهب التي وُجِدت في تبيين حقيقته.[1]

1- تعلّق الإرادة بـ«أحدهما»

الإشكال الأول هو أنّ إرادة المولى في الواجب التعييني تتعلّق بمتعلَّقٍ معيَّن؛ كقوله: «صَلِّ»، حيث تتعلّق إرادة الشارع بطبيعة الصلاة. وأما في الواجب التخييري، فإنّ ظاهر الأمر بـ«أحدهما» أو «أحدها» هو أنّ متعلَّق الإرادة عنوانٌ بدلي، وهو بحسب الظاهر «مردَّد». والسؤال الجوهري هنا هو: كيف يُعقَل تعلّق الإرادة بمثل هذا العنوان؟ فهل تعلّقت الإرادة بنفس التخيير؟ أم بـ«كلِّيٍّ واحد بدلي» له أفرادٌ متعددة؟ أم بـ«جامعٍ انتزاعي» بين البدائل؟ إنّ حلّ هذه العقدة هو الذي يجلّي الهوية الثبوتية للواجب التخييري، ويؤسّس لمبنى تقييم دلالة الإطلاق عند الشك بين التعيين والتخيير.

2- جواز ترك الفرد إلى بدلٍ ولزوم التنقيح الثبوتي

في الواجب التعييني، يكون المكلف موظَّفاً بالإتيان بنفس الفعل المعيَّن، ولا سبيل فيه إلى جواز الترك. وأما في الواجب التخييري، فإنّ كل واحدٍ من البدائل — كنحو خصال الكفارة الثلاث — مع اتصافه بعنوان «الواجب»، فهو قابلٌ للترك إلى بدل؛ أي أنّه «يجوز تركُ الفردِ إلى بدله». والمسألة في مقام الثبوت هي: كيف يُعقَل هذا الجمع بين «الوجوب» و«جواز ترك الفرد» وكيف يمكن تبيينه؟ فإنّ ظاهر القاعدة هو أنّ «الواجب لا يجوز تركه». فلو قيل في كل فردٍ من أفراد البدل: «إنّه واجبٌ، ويجوز تركه»، لبدا ذلك جمعاً بين حكمين متنافيين. فإن كان «واجباً»، فكيف يجوز تركه؟ وإن كان «جائز الترك»، فكيف يصدق عليه عنوان «الوجوب»؟

3- الامتثال والثواب والعقاب

لو اعتُبر كل واحدٍ من البدائل — كنحو خصال الكفارة — «واجباً» في الواجب التخييري، لوجب أن تنتظم نسبة الامتثال والمعصية، وبالتالي الثواب والعقاب، على هذا المبنى نفسه. وهنا يبرز الإشكال: فلماذا يكفي فعل بدلٍ واحد في الامتثال، ويُعَدُّ فعل سائر البدائل امتثالاً زائداً؟ ولماذا يؤول ترك جميع البدائل إلى عقابٍ واحد، لا إلى عقوباتٍ متعددة؟ فلو كان كل بدلٍ «واجباً»، لكان لازمه أنّه في فرض إقدام المكلف على فعل جميع البدائل دفعةً واحدة، يتحقق الامتثال بالنسبة إليها جميعاً؛ والحال أنّ المشهور لا يلتزمون بذلك، وإنما يعتبرون فعل الواحد مصداقاً للامتثال، لا فعل الجميع. وعلى هذا القياس، فلو ترك المكلف البدائل الثلاثة جميعاً، لوجب الالتزام بتعدد العقوبة بناءً على مبنى «تعدد التكاليف»؛ والحال أنّ المشهور قائلون بوحدة العقاب. وهذه الأسئلة تكشف عن أنّه في الواجب التخييري، ليس المراد هو «كون كل فردٍ بما هو فرد واجباً»؛ بل إنّ بنية الإلزام هي على نحوٍ يفيد معه تحقق أحد البدائل امتثالاً تاماً للتكليف، ويشكِّل معه ترك الجميع عنوان معصيةٍ واحدة.

الخلاصة: إنّ الجهات الثبوتية المؤثرة في تحليل حقيقة الواجب التخييري هي ثلاث: 1- تعلّق الإرادة بعنوانٍ غير معيَّن؛ 2- وتصوير جواز ترك الفرد مع اختيار البدل، مع بقاء عنوان الوجوب؛ 3- وتبيين وحدة الامتثال ووحدة العقاب في عرض تعدد البدائل. فما لم تُنقَّح هذه الجهات بدقة، فإنّ التصوير الدقيق للتخيير — لا سيّما في الموارد الأكثر تعقيداً كالتخيير بين الأقل والأكثر — لا يكون تاماً.

التخيير العقلي والشرعي

وقبل الخوض في تحليل حقيقة الواجب التخييري بدقة، يحسن بنا أن نمهِّد لذلك بتمهيدٍ آخر. فإنّ المراد بـ«التخيير» في هذا البحث هو التخيير الشرعي، لا التخيير العقلي. فالتخيير العقلي إنما يكون في الموارد التي تتعلّق فيها الإرادة والحكم بجامعٍ حقيقي ينطبق على أفرادٍ كثیرة؛ كقولنا: «جِئني بإنسانٍ»، حيث يفهم العقل تخيير المكلف بين أفراد الإنسان. وفي هذا السنخ من التخيير، لا محذور في تصويره؛ وذلك لوجود جامعٍ حقيقي بين المصاديق. وأما في التخيير الشرعي — كنحو خصال الكفارة التي تشمل صوم ستين يوماً، وإطعام ستين مسكيناً، وعتق رقبة — فإنّه لا يُتصوَّر بسهولةٍ وجودُ جامعٍ حقيقي واحد بين هذه البدائل المتباينة. ومن هنا، فإنّ محل الكلام ومنشأ الإشكال هو هذا السنخ من التخيير الشرعي بالذات.

حقيقة الواجب التخييري

وبعد بيان الإشكالات، سنتناول بالبحث والتحليل خمسَ مسالكَ في حقيقة الحكم التخييري.

النظرية الأولى: الواجب هو ما يختاره المكلف

مطابقاً لهذه النظرية، فإنّ الواجب في الواجب التخييري هو بعينه ما يختاره المكلف في الخارج؛ فإن اختار العتق، كان العتق واجبه. وإن اختار إطعام ستين مسكيناً، كان الإطعام هو الواجب. وبعبارة أخرى: فإنّ التخيير قائمٌ في بدو الجعل، ولكنه يؤول إلى التعيّن في مقام الامتثال، ويكون اختيار المكلف هو الذي يعيِّن متعلَّق الوجوب.

ويردّ المحقق الخوئي هذا المبنى، ويشير إلى أنّ كلتا النحلتين (الأشعرية والمعتزلية) قد تبرّأتا منه. والأهم من ذلك هو ما يترتب على هذا التحليل من لوازم، وهي:

1- اختلاف متعلَّق الواجب باختلاف الأشخاص والحالات: فلو اختار مكلفٌ القصر واختار آخر الإتمام، فإنّ واقع الواجب، بناءً على هذا المبنى، يكون القصر بالنسبة إلى الأول والإتمام بالنسبة إلى الثاني. وكذلك بالنسبة إلى شخصٍ واحد في زمانين مختلفين، فإنّ واقع الواجب يتغير. ويجري هذا الاختلاف نفسه في خصال الكفارة.

2- عدم ثبوت الوجوب قبل الاختيار: وتكون النتيجة هي أنّ الوجوب لا ثبوت له في الواقع ونفس الأمر قبل اختيار المكلف، بل هو تابعٌ لاختياره اللاحق.

ومع قبول هذه اللوازم، فإنّ التحليل المذكور يصبح غير منسجمٍ مع مبنى ثبوت الحكم الشرعي بوصفه جعلاً مولوياً متقدِّماً؛ وذلك لأنّ لازمَه هو أن يكون واقع الحكم مقوَّماً باختيار العبد في مقام الامتثال، وأن يكون فاقداً للثبوت قبل ذلك. وعلى هذا الأساس، فإنّ القول بأنّ «الواجب هو ما يختاره المكلف» غير تامّ؛ لا لمجرد استهجانه، بل بسبب اللوازم المذكورة التي لا تنسجم مع ثبوت الحكم المولوي ووحدة واقع التكليف. ويشير السيد الخوئي في بيانه للمسلك الأول إلى هذا المبنى بقوله:

… المذهب الأول: ان الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال … و كيف كان فلازم هذه النظرية هو ان الواجب يختلف باختلاف المكلفين، بل باختلاف حالاتهم … فالنتيجة هي ان وجوب الواجب في هذا الفرض واقعاً تابع لاختيار المكلف في مقام الامتثال بحيث لا وجوب له قبل اختياره في الواقع و نفس الأمر.[2]

الإشكال الأول على نظرية «الواجب هو ما يختاره المكلف»: مخالفتها لظهور أدلة التخيير

يقول المحقق الخوئي في نقده الأول على هذه النظرية: إنّ لسان نصوص باب التخيير — كخصال الكفارة — يدلّ صراحةً على التخيير: «المخيَّر بين هذا وذاك». ومفاد هذا الظهور هو أنّ «وجوباً واحداً بدلياً» ثابت، وأنّ كل واحدٍ من البدائل، قبل تحقق الاختيار، له صلاحية انطباق عنوان الواجب عليه. وبالتعبير الأصولي: «يجب أحد هذه الخصال»، لا «يجب ما تختاره». فالجعل الشرعي لـ«وجوب أحد الأفعال تخييراً» متقدِّمٌ على اختيار المكلف، وغير مقيَّدٍ بتحقق اختياره اللاحق.

وعلى خلاف هذا الظهور، فإنّ النظرية الأولى تقول: إنّ الواجب هو ما يختاره المكلف في مقام الامتثال؛ وكأنّ عنوان الوجوب يتعيّن بعد الاختيار. وهذا يمثّل تحويلاً لـ«الوجوب الواحد البدلي» إلى «التعيُّن بالاختيار»، وهو لا ينسجم مع إطلاق الأدلة؛ وذلك لأنّ الأدلة تفيد أنّ كل خصلةٍ من الخصال، بما هي هي، لها قابلية الامتثال — حتى لو لم يكن المكلف قد أوجد لها تعيّناً لفظياً أو قصدياً سابقاً. وببيان آخر: فإنّ ظهور «هو بالخيار بين كذا وكذا» إنما هو في وحدة التكليف وبدلية الأفراد؛ لا في عدم تعيُّن التكليف حتى يتعيّن بواسطة اختيار المكلف. والثمرة المترتبة على ذلك هي أنّه بناءً على ظهور الأدلة، فإنّ الامتثال يتحقق بالإتيان بأي بدل — حتى من دون تقديم اختيارٍ مستقل. وأما بناءً على القول المزبور، فإنّ تعيُّن الواجب منوطٌ بالاختيار السابق والجعل التعييني اللاحق، وهو زائدٌ على مفاد الأدلة ومخالفٌ لظهورها. ويشير المحقق الخوئي إلى هذا المبنى بقوله:

و يرده: أولاً - أنه مخالف لظواهر الأدلة الدالة على وجوب فعلين أو أفعال على نحو التخيير، و لا تعين لما هو الواجب على المكلف في الواقع و نفس الأمر، فما يختاره مصداقٌ للواجب لا أنه الواجب بعينه.[3]

وعليه، فإنّ القول بأنّ «الواجب هو ما يختاره المكلف»، لتعليقه تعيُّن التكليف على اختيار المكلف، يتعارض مع ظهور «وجوب أحدها تخييراً»، وهو غير قابلٍ للالتزام. والذي يبدو لنا أنّ الإشكال الأول على هذا القول واردٌ قطعاً.

الإشكال الثاني: عدم الانسجام مع قاعدة الاشتراك في التكليف

بناءً على القول بأنّ «الواجب هو ما يختاره المكلف»، فإنّ التكليف يختلف باختلاف اختيار الأشخاص: فأحدهم يختار العتق فيكون واجباً عليه؛ والآخر يختار الإطعام فيكون هو الواجب عليه. وهذا اللازم ينافي ظاهراً قاعدة الاشتراك في التكليف. ويشير السيد الخوئي إلى هذا الإشكال بقوله:

و ثانياً: إنه منافٍ لقاعدة الاشتراك في التكليف، ضرورة أن لازم هذا القول كما عرفت هو اختلاف التكليف باختلاف المكلّفين، بل باختلاف حالاتهم … ومن الواضح جدّاً أن هذا منافٍ صريح لقاعدة الاشتراك في التكليف التي هي من القواعد الضرورية، فإذن لا يمكن الالتزام بهذه النظرية أبداً.[4]

وتبيين القاعدة هو: أنّ للاشتراك صوراً عدة، منها اشتراك مكلّفي الأعصار في أصل التكاليف — فإذا كانت الصلاة واجبةً على أهل عصر النزول، فهي واجبةٌ علينا أيضاً. وأما نحوٌ آخر من الاشتراك — وهو اشتراك العالم والجاهل — فلم يُقبَل سابقاً. ومع ذلك كلّه، فإنّ أصل «الاشتراك في التكليف»، بوصفه قاعدةً كليةً عند العامة والخاصة، هو قاعدةٌ ضرورية.

نقدٌ على الإشكال الثاني

إنّ قاعدة الاشتراك لا تبلغ إلى حدّ أن يكون «شخص الفعل المعيَّن» واحداً بالضرورة لدى جميع الأفراد؛ فالاشتراك إنما يتعلّق بـ«نوع الإلزام»، لا بـ«شخص المتعلَّق». ففي الواجب التخييري، يكون المشترك بين الجميع هو «الوجوب الواحد البدلي» نفسه، وهو «يجب أحد هذه الخصال». فكل مكلفٍ لو كان قد اختار بدلاً آخر، لكان ذلك التكليف نفسه منطبقاً عليه. فالاشتراك إذن متحقِّقٌ في الجملة،[5] وهذا القدر كافٍ للوفاء بالقاعدة. وبعبارة أخرى: فإنّ الاشتراك ثابتٌ في «نوع التكليف»، وإن كان «شخص مصداق الامتثال» يتعيّن بواسطة الاختيار.

وفي الأمثلة التي أوردها السيد الخوئي أيضاً، فإنّ الاشتراك — بهذا البيان — متحقِّق. فاختلاف المصداق المختار لا يعني اختلافاً في «نوع التكليف»، بل هو اختلافٌ في «تعيين فرد الامتثال» تحت ظلّ تكليفٍ واحد مشترك. وعليه، فعلى الرغم من أنّ الإشكال الأول يهدم هذا القول من أساسه، إلا أنّ الإشكال الثاني قابلٌ للدفع بحسب الصناعة.

الإشكال الثالث: تعليق الوجوب على الاختيار ونفي العصيان

لو اعتبرنا معيار تعيُّن الواجب هو «اختيار المكلف»، لكان لازمُه أنّه متى ما لم يختر المكلف أيّاً من البدائل — لا العتق، ولا إطعام ستين مسكيناً، ولا صوم ستين يوماً — فإنّه لا يتحقق وجوبٌ في الواقع أساساً؛ وذلك لأنّ الواجب بناءً على هذا المبنى هو «ما يختاره المكلف»، ومع عدم الاختيار، يكون شرط تحقق الوجوب مفقوداً. وتكون النتيجة هي أنّه «لا وجوب واقعاً قبل الاختيار» حتى يصدق تركه ويترتب عليه عنوان العصيان واستحقاق العقاب.

وبعبارة أخرى: فإنّ الجعل الشرعي بالنسبة إلى كل بدلٍ، بناءً على هذا القول، مقيَّدٌ بقيد «الاختيار». ومع فرض عدم الاختيار، ينتفي الشرط، فتنتفي بالتبع جميع الوجوبات؛ لـ«انتفاء المشروط بانتفاء شرطه». ونتيجةُ ذلك أنّ «ترك الجميع» ليس تركاً لأيّ واجب، فيكون خالياً من عنوان «العصيان». وهذه اللوازم لا تنسجم مع الارتكاز الشرعي والعقلائي؛ فمفاد أدلة التخيير هو ثبوت «وجوبٍ واحدٍ بدلي» قبل الاختيار، حتى يكتسب ترك جميع البدائل عنوان معصيةٍ واحدة. ومن هنا، فإنّ الإشكال الثالث يزلزل أساس القول بأنّ «الواجب هو ما يختاره المكلف». ويشير السيد الخوئي إلى هذا المبنى بقوله:

و ثالثاً: ان لازم هذا القول ان لا يكون وجوب في الواقع عند عدم اختيار المكلف أحدهما و ترك امتثاله و عصيانه، ضرورة ان الوجوب إنما يتحقق باختيار المكلف إياه في مقام الامتثال كما هو المفروض، و اما قبل اختياره فلا وجوب واقعاً ليصدق عليه انه تركه و عصاه فيستحق العقوبة.

و ان شئت فقل: ان لازم هذه النظرية هو ان وجوب كل منهما في الواقع مشروط باختيار المكلف إياه في ظرف الامتثال، و لازمه هو انه لا وجوب له قبل اختياره، ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه، كما هو واضح، فاذن لا موضوع للعصيان و استحقاق العقوبة عند ترك المكلف الإتيان بالجميع، ضرورة ان إيجاد الشرط غير واجب عليه، و هذا بديهي البطلان.[6]
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

--------------------------
[1]- إنّ من الثغرات المنهجية الجادة في التدوين الشائع لعلم الأصول هو قلّة إفراد بابٍ مستقل تحت عنوان «ما هو الحكم»؛ مع أنّ هذا البحث لا يُعدّ من المبادئ، بل هو من صميم مسائل علم الأصول. إذ كيف يصحّ أن نعرِّف علم الأصول بأنه «العلم بالقواعد الممهَّدة لاستنباط الحكم الشرعي»، من دون أن نُفرِد لتحقيق حقيقة هذا «الحكم الشرعي» بحثاً مستقلاً؟ وأما إعراض البعض عن طرحه على نحوٍ مستقل، إمّا على نحوٍ ارتكازي أو لاعتقاد بداهته، فإنه لا ينفي كون «الحكم وأقسامه» من صميم مسائل هذا العلم التي تستأهل أن يُفرَد لها بابٌ مستقل.
ومن الأمثلة الشائعة في هذا الصدد التمييز بين الحكم المولوي والإرشادي. وتظهر ثمرة البحث في حقيقة الحكم في هذه المسألة في أنّه لو لم يكن الحكم الإرشادي حكماً، لترتب على ذلك آثارٌ أصوليةٌ هامة؛ منها في الاستصحاب، وفي بحث ما إذا كان «الحكم الوضعي» قابلاً للجعل الاستقلالي أم لا. فحجية خبر الواحد — بوصفها حكماً وضعياً — يجب أن تُبحَث في علم الأصول ضمن إطار «قابليتها للجعل»، لا أن تُحال إلى المبادئ. وهل يمكن للشارع أن يعلِّق التكليف بالحالات النفسانية — كالحسد والحبّ والبغض والتمني والترجي وما شاكلها؟ فبغضّ النظر عن البحوث الإثباتية في الفقه، فإنّ أصل قابلية تعلُّق الحكم بالأفعال الباطنية (الجوانحية) هو مسألةٌ أصولية ينبغي تحقيقها في هذا الموضع.
ومن هنا، نجد أنّ بعض المتون المعتبرة المعاصرة قد أولت مبحث «الحكم وأقسامه» اهتماماً في مستهلّ بحوثها. راجع: ‏محمد تقى بن محمد سعيد حکیم، الأصول العامة في الفقه المقارن‏ (قم: مجمع جهاني اهل بيت( ع)، 1418)، ج 1، 83؛ محمد باقر الصدر، دروس فی علم الأصول (بیروت: دار المنتظر، 1405)، ج 1، 52. كما تعرض المحقق الأصفهاني لهذا البحث في مواضع مختلفة من كتابه. انظر: ‏محمد حسین اصفهانی، نهایة الدرایة فی شرح الکفایة (بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429)، ج 1، 283، 412.
[2]- ‏ابوالقاسم خویی، محاضرات فی أصول الفقه، با محمد اسحاق فیاض (قم: دارالهادی، 1417)، ج 4، 26.
[3]- نفس المصدر.
[4]- نفس المصدر.
[5]- والمراد من تحقق الاشتراك «في الجملة» هو أنّه لو كان المكلف — بدلاً من العتق — قد اختار إطعام ستين مسكيناً (ولو في وقتٍ لاحق)، لكان ذلك الفعل نفسه هو الذي يكتسب عنوان الواجب، والعكس بالعكس.
[6]- نفس المصدر، 27.

------------------------
المصادر
- آخوند خراسانی، محمد کاظم‏. کفایة الأصول. ۳ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430.
- اصفهانی، محمد حسین‏. نهایة الدرایة فی شرح الکفایة. ۶ ج. بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429.
- الصدر، محمد باقر‏. دروس فی علم الأصول. ۳ ج. بیروت: دار المنتظر، 1405.
- حکیم، محمد تقى بن محمد سعيد‏. الأصول العامة في الفقه المقارن‏. قم: مجمع جهاني اهل بيت( ع)، 1418.
- خویی، ابوالقاسم‏. محاضرات فی أصول الفقه. با محمد اسحاق فیاض. ۵ ج. قم: دارالهادی، 1417.


الملصقات :

أصالة الإطلاق الواجب التعييني الواجب التخييري التخيير العقلي التخيير الشرعي القدر الجامع البدل الامتثال الثواب والعقاب قاعدة الاشتراك

نظری ثبت نشده است .