درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

درس قبل

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/٦


شماره جلسه : ۱۰

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • الفرق في تقرير السيد الخوئي وصلته بمحل نزاع التقييد في الصورة الأولى

  • صياغة «العلمين الإجماليين/الأطراف الثلاثة» ودعوى التعارض

  • معيار جريان البراءة ومحل النزاع المؤثر

  • النظرية النهائية للسيد الروحاني: الحق مع المحقق الخوئي في النتيجة؛ ولكن من طريقٍ آخر

  • بحث جريان البراءة الشرعية

  • التقريرات الثلاثة في مفاد حديث الرفع وثمراتها في الوجوب الغيري

  • المختار عند صاحب «المنتقى» في مفاد حديث الرفع وعدم جريان البراءة الشرعية في الغيرية

  • بحث جريان البراءة العقلية

  • إعادة بناء أطراف العلم الإجمالي ومنع الانحلال

  • نسبة هذه النتيجة إلى مبنى السيد الخوئي

  • المصادر

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


خلاصة البحث السابق

في البحث المتقدم، تم تناول الصورة الأولى من النزاع في مقام الأصل العملي عند الشك بين النفسية والغيرية؛ وذلك في فرض العلم بوجوب الوضوء في الجملة، وبكون الصلاة واجباً نفسياً، مع قيام التماثل بين الوجوبين من حيث النسبة إلى شرطٍ كالوقت. وقد استنتج المحقق النائيني من إجراء أصالة البراءة عن التقييد في جانب الصلاة «نتيجة الإطلاق» والتخيير في ترتيب الامتثال. وأما من جهة الوضوء، فبما أنّ أصل وجوبه معلوم، فإنّ البراءة النافية للنفسية تكون عديمة الأثر، ويسقط العلم الإجمالي بالنفسي/التقیید عن التنجيز على نحو «الانحلال الحكمي»؛ وعليه، فلا ينعقد معارِضٌ للبراءة من التقييد. إلا أنّ آية الله الخوئي في تعليقته على «أجود التقریرات»، قد تمسك بتعارض البراءة من تقييد الصلاة مع البراءة من نفسية الوضوء، واستنتج عدم الانحلال ولزوم الاحتياط (أي تقديم الوضوء). 
ولإحكام هذا النقد، عرض صاحب «منتقى الأصول» مقدمتين: 1- عدم جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري (لكونه فاقداً للجعل المستقل). 2- عدم جريان البراءة العقلية (لشمول البيان الإجمالي للتقييد). ثم اعتبر السيد الروحاني كلا المقدمتين مخدوشاً: 1- فالغيرية إذا أُبرزت بإنشاءٍ مستقل، فهي حكمٌ مولويٌ مجعول يشمله حديث الرفع. 2- ومنع البراءة العقلية جدلي، لأنّ المحقق النائيني ملتزمٌ بالانحلال الحكمي، ولم يُؤخَذ التقييد طرفاً فعلياً في العلم الإجمالي. وقد لوحظ الفرق في تقرير المحقق الخوئي: ففي التعليقة، كان أحد طرفي العلم هو «وجوب التقييد»، وأما في المحاضرات، فقد اقتصر على مجرد النفسي/الغيري، وهو ما لا يرتبط بمحل النزاع (التقييد)، ولا ينتج في نهايته إلا الإلزام بالوضوء، لا الإلزام بالصلاة المقيَّدة. والخلاصة النهائية هي: أنّ مبنى المحقق النائيني في جريان البراءة من التقييد وتحقق الانحلال الحكمي هو مبنىً موجَّه. وأما بناءً على مبنى المحقق الخوئي، فمع فرض التعارض، يلزم الاحتياط وتقديم الوضوء.

الفرق في تقرير السيد الخوئي وصلته بمحل نزاع التقييد في الصورة الأولى

في الصورة الأولى، حيث يُفرَض تماثل الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط، فإنّ المحقق النائيني يُجري «أصالة البراءة عن التقييد» في جانب الصلاة، ويلتزم بـ«الانحلال الحكمي». وبيان ذلك: أنّه بنفي تقييد الصلاة بالوضوء، يسقط فرع الغيرية — المتقوِّم بهذا التقييد — عن مدار الأثر.

الفرق في تقرير المحقق الخوئي: ينبّه صاحب «منتقى الأصول» على أنّ للسيد الخوئي تقريرين اثنين للعلم الإجمالي: بناءً على كلامه في التعليقة على «أجود التقریرات»: فإنّ طرفي العلم الإجمالي هما «وجوبُ الوضوء نفسياً» في مقابل «وجوب التقييد». وهذه الصياغة ناظرةٌ مباشرةً إلى نقطة النزاع (وهي لزوم تقييد الصلاة)، ولو تمت لكانت مانعةً من جريان البراءة من التقييد. ولكن بناءً على كلامه في «المحاضرات»: فإنّ طرفي العلم الإجمالي هما مجرد كون وجوب الوضوء «نفسياً» أو «غيرياً»، من دون أن يُؤخَذ عنوان التقييد. وهذا البيان «لا يرتبط بما هو محل الكلام»؛ إذ إنّ حاصله — في نهايته — هو الإلزام بالإتيان بالوضوء، لا الإلزام بالإتيان بالصلاة على نحو التقييد. إذ بحسب عبارته (قده): «فإن مقتضى العلم المذكور ليس إلا الإتيان بالوضوء، أما الإتيان بالصلاة مقيدةً به فلا».

نقد التمسك بـ«البراءة من الغيرية» لنفي التقييد

بيان المحاضرات على نحو الاستدلال: بما أنّ في غيرية وجوب الوضوء شكاً، فتجري «أصالة البراءة عن الغيرية»؛ فتُنفى الغيرية، وينتفي بذلك تقييد الصلاة بالملازمة. وهذا التقرير غير تامّ؛ وذلك لأنّ عدم التقييد ليس أثراً شرعياً مباشراً لـ«البراءة من الغيرية»، بل هو من مقارناتها وملازماتها. وإثبات الملازم منوطٌ بإثبات الملزوم، وأصل البراءة لا حجية له بالنسبة إلى الملازمات. وهذا نظيرُ ما لو شككنا في نجاسة أحد الإناءين، فإنّ التماس مع أيٍّ منهما لا يوجب الحكم بنجاسة الملاقي؛ إذ إنّ ثبوت نجاسة الملاقي فرعٌ لإحراز الملزوم (وهو نجاسة الإناء). ويشير صاحب «المنتقى» إلى هذا المبنى بقوله:

هذا كله حول ما ذكره في تعليقته على: «أجود التقريرات» من تقريب عدم جريان البراءة بتشكيل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا، فطرفا العلم الإجمالي هما وجوب الوضوء النفسيّ و وجوب التقيد النفسيّ‌. و لكنه في تقريرات بحثه قرر العلم الإجمالي بنحو آخر، و قد أشار إليه في ذيل تعليقته على أجود التقريرات، و هو: انا نعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا، أو وجوبه غيريا، و جريان البراءة في الوجوب الغيري معارض بجريانها في الوجوب النفسيّ‌ .

و من الواضح ان هذا المقدار من البيان لا يرتبط بما هو محل الكلام، من لزوم التقيد و عدمه، فان مورد الشك هو لزوم تقيد الصلاة بالوضوء و عدمه، و قد عرفت ان المحقق النائيني ادعى جريان البراءة فيه و لم يرتض السيد الخوئي ذلك، و تقرير الإشكال بما عرفته لا ينفع في الإلزام بالإتيان بالتقيد، و ذلك لأن مقتضى العلم المذكور ليس إلا الإتيان بالوضوء، اما الإتيان بالصلاة مقيدة به فلا، إذ ليس ذلك من آثار الوجوب الغيري - كي يلزم ترتيبه بمقتضى العلم الإجمالي -، و انما هو من ملازماته و المفروض أنه غير معلوم كي يعلم بلازمه، فهو نظير عدم ترتب نجاسة الملاقي لما هو محتمل النجاسة الّذي يكون طرفا للعلم الإجمالي.[1]

صياغة «العلمين الإجماليين/الأطراف الثلاثة» ودعوى التعارض

ولإحكام الإشكال، يقول السيد الروحاني: إنّ العلم الإجمالي الأول هو: «وجوبُ الوضوء إمّا نفسياً أو غيرياً». والعلم الإجمالي الثاني هو: «الوجوب النفسيّ إمّا متعلِّقٌ بالوضوء أو بالتقييد». فتتحصّل بذلك ثلاثة أطرافٍ بالإجمال، ويكون «وجوب النفسي» مشتركاً بين العلمين. وعندئذٍ يُدَّعى أنّ «أصالة البراءة عن التقييد» معارَضةٌ بـ«أصالة البراءة عن النفسية» في طرف الوضوء؛ ومع التعارض تتساقط البراءتان وتصل النوبة إلى الاحتياط. حيث يقول (قده):

فلا بد من تتميم هذا البيان بان يقال: ان هناك علما إجماليا آخر متعلق بالوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء و التقيد، فلدينا علمان إجماليان ذو أطراف ثلاثة لاشتراك أحد الطرفين فيهما، لأن أحدهما متعلق بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ و الغيري، و الآخر متعلق بوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء و التقيد. فوجوب الوضوء النفسيّ طرف لكلا العلمين.

و عليه، فيقال: ان جريان البراءة في كل من أطراف هذين العلمين معارض بجريانه في الطرف الآخر، فيمتنع جريان البراءة في طرف التقيد لمعارضته بجريانها في الوجوب النفسيّ للوضوء. فلا ينحل العلم الإجمالي - كما ادعي -.[2]

النقد: أولاً، إنّ لـ«النفسية» و«الغيرية» بما هما هما لا أثرَ إلزامي لهما؛ فلا تجري البراءة في العناوين الفاقدة للأثر الإلزامي حتى تشكِّل معارِضاً للبراءة من التقييد. ثانياً، إنّ أصل وجوب الوضوء معلومٌ على كل حال، فلا يكون مجرىً للبراءة؛ وعليه، فإنّ «أصالة البراءة عن التقييد» تبقى بلا معارض. ثالثاً، بناءً على مبنى المحقق النائيني، فإنّ «الانحلال الحكمي» يتحقق بحكومة الأصل الموضوعي (وهو نفي التقييد)، فيرفع بذلك الطرف المؤثر في العلم الإجمالي. فالتمسك بـ«البيان الإجمالي الشامل للتقييد» في هذا الفرض هو تمسكٌ جدلي، ومنوطٌ بإنكار هذه الحكومة.

معيار جريان البراءة ومحل النزاع المؤثر

إنّ ضابطة جريان البراءة هي أن ترفع إلزاماً زائداً. وعناوين من قبيل «النفسية» و«الغيرية» بما هما هما، لا تكون محلاً لجريان البراءة، لكونها لا توجب إلزاماً مستقلاً على الذمة. والمحل الصحيح للرجوع إلى البراءة في هذا البحث هو «نفس تقييد الصلاة بالوضوء»؛ وذلك لأنّ نفي التقييد يرفع مباشرةً إلزام تقييد الصلاة، وينتج «نتيجة الإطلاق». وعليه، فإنّ التمسك بـ«البراءة من الغيرية» لإثبات «عدم التقييد» غير ناجع؛ كما أنّ الصورة التي طرحتها «المحاضرات» — والتي لم تُدخِل التقييد في الموضوع أساساً — بعيدةٌ عن محل النزاع. فالمتحصّل هو: أنّه بناءً على هذه المباني، لو أُريد تصوير تعارض الأصول، لوجب أن يُؤخَذ طرفان كلاهما ذو أثرٍ إلزامي، وهما: «البراءة من التقييد» في قبال «البراءة من النفسية». ومع ذلك، فحتى في هذا الإطار، فإنّ البراءة في طرف النفسية غالباً ما تكون عديمة الأثر، وتفتقر إلى صلاحية المعارضة. وعليه، فإنّ البيان الوارد في التعليقة على «الأجود»، لو صيغ مع فرض وجود أثرٍ لكلا الطرفين، لكان أقرب إلى محل النزاع. وأما بيان «المحاضرات»، فهو غافلٌ عن أصل النزاع (وهو التقييد)، ولا ينجِّز في نهايته إلا الإتيان بالوضوء، لا الإتيان بالصلاة على نحو التقييد. ويشير السيد الروحاني إلى هذا المبنى بقوله:

و أنت خبير: بان هذا الوجه إنما يجدي في إثبات الاحتياط و الإتيان بالصلاة مقيدة بالوضوء لو فرض ان لكل من خصوصيتي النفسيّة و الغيرية أثرا خاصا بها غير أصل الإلزام الّذي هو مقتضى أصل الوجوب الجامع. كي يكون إجراء البراءة فيه بلحاظ نفي ذلك الأثر. و لكن الأمر ليس كذلك، إذ ليس لكل منهما أي أثر إلزامي. و عليه فليست النفسيّة و الغيرية موضوعا لأصل البراءة كي يدعى معارضتها بالبراءة في الطرف الآخر. و اما أصل وجوب الوضوء فهو معلوم غير قابل لإجراء البراءة فيه، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض، إذ البراءة لا تجري في أصل وجوب الوضوء للعلم به، و لا تجري في خصوصية النفسيّة و الغيرية لعدم الأثر فيها. فلاحظ.[3]

النتيجة النهائية: في الصورة الأولى، فإنّ مبنى المحقق النائيني متين؛ إذ بجريان البراءة من التقييد، تتحصّل «نتيجة الإطلاق» في جانب الصلاة، وينحلّ العلم الإجمالي «حكماً». وأما الاستدلالات المرتكزة على الصورة المطروحة في «المحاضرات»، فهي بعيدةٌ عن محل النزاع، وقاصرةٌ عن إثبات لزوم الاحتياط بالإتيان بالصلاة على نحو التقييد. كما أنّ الصياغات المرتكزة على «العلمين الإجماليين» هي الأخرى لا تنشئ تعارضاً منتِجاً، وذلك لعدم الأثر المستقل لعنواني النفسي والغيري.

النظرية النهائية للسيد الروحاني: الحق مع المحقق الخوئي في النتيجة؛ ولكن من طريقٍ آخر

من منظار صاحب «المنتقى»، فإنّ الإنصاف في مقام الحكم النهائي يقتضي أن يكون الحق مع المحقق الخوئي في النتيجة لا في الطريق؛ أي أنّ الاحتياط في مقام الامتثال يقتضي تقديم الوضوء والإتيان بالصلاة على نحو التقييد. إلا أنّ هذه النتيجة لا تتمّ بذلك البيان المنقول نفسه عن المحقق الخوئي، ولا بد لإثباتها من سلوك مسلكٍ آخر. ومحور البحث هو نسبة البراءة (الشرعية والعقلية) إلى الوجوب الغيري المشكوك، وأثر ذلك على تقييد الصلاة بالوضوء، وذلك في فرض دوران الأمر بين نفسية الأمر بالوضوء وغيريته. وإنّ الفصل بين «الغيرية» و«التقييد» هو المفتاح في هذا المقام: فالغيرية هي حيثية انتساب الإلزام إلى المقدِّمة. وأما التقييد، فهو حيثيةٌ وضعيةٌ تتعلّق بوجوب الصلاة المشروط بالوضوء. فالخلط بين هذين الأمرين يؤول إمّا إلى جريان الأصل بلا وجه، وإمّا إلى المنع منه بلا مسوِّغ.

بحث جريان البراءة الشرعية

إنّ النتيجة العملية في الصورة الأولى هي الاحتياط؛ وذلك لأنّ البراءة (الشرعية والعقلية) لا تجري في «الوجوب الغيري». وعليه، يبقى العلم الإجمالي قائماً بين «الوجوب النفسي للوضوء» و«الوجوب النفسي للتقييد»، وتكون البراءتان في هذين الطرفين متعارضتين؛ فتصل النوبة إلى الاحتياط. ولكن، لماذا لا تجري البراءة في الوجوب الغيري؟

التقريرات الثلاثة في مفاد حديث الرفع وثمراتها في الوجوب الغيري

والسؤال هو: هل يرفع «حديث الرفع» الحكم المجعول أم المؤاخذة؟ وفي هذا الصدد، يوجد تقريران مشهوران:

1- رفع الحكم المجعول. فلو كان المرفوع هو نفس الحكم المجعول، فإنّه في الغيرية الترشّحية المحضة — التي هي مجرد لازمةٍ عقليةٍ للوجوب النفسي لذي المقدِّمة ولا جعل مستقل لها — يكون موضوع الرفع مفقوداً، فلا يجري حديث الرفع. وأما إذا كان الشارع قد جعل في المقدِّمة بعثاً على نحوٍ مستقل (فهو غيريٌ مجعولٌ بإنشاءٍ مستقل)، فإنّ هذا الحكم يُعَدُّ مجعولاً، وتجري أصالة البراءة الشرعية فيه عند الشك.

2- رفع المؤاخذة (وهو نظر الشيخ الأنصاري قدس سره): وفي هذا الصدد، يمكن فهم «المؤاخذة» على نحوين:

أ) أن تكون المؤاخذة على نفس ترك ذلك العمل (مباشرةً): فبناءً على هذا المبنى، لا يترتب على ترك الواجب الغيري بما هو غيري عقابٌ مباشر؛ إذ إنّ العقاب إنما هو من ناحية ترك الواجب النفسي لذي المقدِّمة. وعليه، فلا يشمل حديث الرفع الوجوب الغيري؛ إذ لا مؤاخذة مترتبة على تركه بما هو هو.

ب) أن تكون المؤاخذة «من جهته» ولو على غيره (تسبيباً): أي أن يكون المرفوع هو المؤاخذة بالمعنى الأعمّ، سواء كانت المؤاخذة على ترك نفس العمل أم المؤاخذة المترتبة على ترك ذي المقدِّمة. فبناءً على هذا المبنى، وبما أنّ ترك الواجب الغيري يؤول إلى ترك الواجب النفسي، فإنّه يدخل في دائرة شمول البراءة الشرعية. وبهذا، تكون أصالة البراءة الشرعية في ما نحن فيه قابلةً للتصور.

وعليه، ففي مفاد حديث «رفع ما لا يعلمون»، يمكن تصور ثلاثة تقريرات. وتكون نتيجة هذه التقريرات الثلاث هي: أنّ جريان البراءة الشرعية، بناءً على التقرير الأول، منوطٌ بإثبات جعلٍ مستقل للغيرية، ولا يكون لها مجرىً في فرض الترشّح. وبناءً على التقرير الثاني، وبما أنّ ترك الواجب الغيري لا يترتب عليه مؤاخذةٌ مستقلة، فلا يبقى مجالٌ للبراءة الشرعية فيه. وأما بناءً على التقرير الثالث، فمع توسعة نطاق رفع المؤاخذة، ينفتح الباب لإمكانية الرجوع إلى البراءة الشرعية، وإن كان لا بد من النظر في حالها مع العلم الإجمالي.

المختار عند صاحب «المنتقى» في مفاد حديث الرفع وعدم جريان البراءة الشرعية في الغيرية

من منظار السيد الروحاني، فإنّ المرفوع هو «المؤاخذة على نفس العمل»، لا أصل الحكم، ولا المؤاخذة بالمعنى الأعمّ (الذي يشمل المؤاخذة التسبيبية). والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنّ البراءة الشرعية لا تجري في الوجوب الغيري؛ وذلك لأنّ ترك الواجب الغيري بنفسه لا يقع موضوعاً للمؤاخذة حتى يرفعه حديث الرفع، كما أنّ فرض الجعل المستقل غير مفروضٍ في محل البحث. وعليه، فبناءً على مبنى السيد الروحاني، لا تجري البراءة في جانب الوجوب الغيري، وإنما تجري بالنسبة إلى الوجوب النفسي فحسب. فتكون البراءة في جانب الواجب النفسي معارَضةً بالبراءة في جانب تقييد مادة الصلاة، فتتعطل بذلك الأصول الترخيصية. وفي نهاية المطاف، يجري الاحتياط، ولا بد من الإتيان بالوضوء قبل الصلاة. و يشير صاحب «المنتقى» إلى هذا المبنى بقوله:

هذا و لكن الإنصاف: ان الاحتياط بالإتيان بالوضوء قبل الصلاة ليتحقق التقيد هو المتعين، بيان ذلك: انه وقع الكلام في جريان البراءة الشرعية التي يتكفلها حديث الرفع في نفي الوجوب الغيري المشكوك.

و السّر في ذلك هو: الخلاف في كون المرفوع في حديث الرفع هل هو الحكم الشرعي المجعول، أو أنه المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي‌؟ فعلى تقدير كون المرفوع نفس الحكم المجعول أمكن القول بجريان البراءة في الوجوب الغيري إذا كان مجعولا، لا الوجوب الغيري المبحوث عنه في علم الأصول و هو الملازم للوجوب النفسيّ‌، لأن هذا غير قابل للوضع و الرفع، لأنه من الأمور التكوينية غير المجعولة شرعا.

نعم قد يتفق إنشاء البعث الغيري - كما ذكرنا ذلك -، فهو المورد القابل لجريان البراءة لو التزم بان المرفوع هو الحكم المجعول، فان مقتضى إطلاق حديث الرفع هو رفع الحكم المجعول مطلقا نفسيا كان أو غيريا.

و على تقدير كون المرفوع رأسا هو المؤاخذة لا الحكم نفسه - كما هو رأي الشيخ - فاما ان يقصد رفع المؤاخذة المترتبة على نفس العمل لأجل مخالفة الحكم المتعلق به، أو يقصد به رفع المؤاخذة المتأتية منه و لو كانت على غيره مباشرة. و بعبارة أخرى: المؤاخذة على العمل اما ان تكون على نفسه مباشرة، أو تكون على غيره و لكن كانت بواسطته و كان هو سببا لتحقق مخالفة الحكم الثابت على غيره، فالكلام في حديث الرفع في أنه يرفع المؤاخذة المترتبة على العمل مباشرة أو الأعم منها و من المؤاخذة المترتبة بواسطة هذا العمل. و بتعبير أوضح:

هل حديث الرفع يرفع المؤاخذة على العمل، أو المؤاخذة من جهة العمل و لو لم تكن عليه بل على غيره‌؟.

فعلى الأول: يمتنع جريان البراءة في نفي الوجوب الغيري، إذ من الواضح انه لا مؤاخذة على ترك الواجب الغيري بما انه كذلك، بل تتحقق المؤاخذة عند تركه لترك الواجب النفسيّ بتركه، فالمؤاخذة على ترك الواجب النفسيّ لا ترك الواجب الغيري. و عليه فلا معنى لشمول حديث الرفع للوجوب الغيري.

و اما على الثاني: فالوجوب الغيري مشمول لحديث الرفع، إذ بترك الواجب الغيري يترتب العقاب على ترك الواجب النفسيّ بتركه.

و بما ان المختار - كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّٰه تعالى - هو كون المرفوع هو المؤاخذة على نفس العمل، لا الحكم المجعول، و لا المؤاخذة المترتبة عند تحقق العمل أعم من ان تكون على نفس العمل أو على غيره، كان القول بعدم جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري هو المتعين.[4]

بحث جريان البراءة العقلية

إنّ ملاك البراءة العقلية هو قبح العقاب بلا بيان؛ وموضوعها هو حيثما كان «الحكم الواقعي مقتضياً للعقاب» على نفس العمل، ولكنه لم يصل إلى المكلف. وأما في الوجوب الغيري، فإنّ ترك الغيري بما هو هو ليس مقتضياً للعقاب؛ إذ إنّ العقاب إنما هو من جهة ترك ذي المقدِّمة. وعليه، فإنّ الوجوب الغيري يقع خارجاً عن موضوع البراءة العقلية.

وعليه، فعلى الرغم من أنّ بيان المحقق النائيني في مباني الأصل العملي وتقصّي كيفية التعارض يُعَدُّ أقرب إلى الصناعة، إلا أنّ المختار في نهاية المطاف هو الاحتياط، أي تقديم الوضوء والإتيان بالصلاة على وجه التقييد، وهو رأيٌ موجَّهٌ أكثر؛ وهو الرأي نفسه الذي يؤكد عليه الإمام (رضوان الله تعالى عليه) في «المناهج». ووجه هذا الاحتياط ليس هو التقرير الوارد في «المحاضرات» أو تعليقة السيد الخوئي على «الأجود»، بل هو مرتكزٌ على عدم جريان البراءة العقلية لوجود البيان الإجمالي، وعدم شمول البراءة الشرعية للغيرية الترشّحية، وكذلك عدم تحقق الانحلال الحكمي الرافع للتنجيز. ويشير السيد الروحاني إلى هذا المبنى بقوله:

و اما البراءة العقلية: فهي غير جارية بلا إشكال، لأن ملاكها هو قبح العقاب بلا بيان، و مرجع ذلك إلى أنه لو كان في الواقعة حكم واقعي تترتب على مخالفته في نفسه المؤاخذة، بحيث يكون مقتضيا لها، فلا تصح المؤاخذة على مخالفته بدون الوصول إلى المكلف و العلم به. فموضوع القاعدة وجود المقتضي للعقاب، و لكنه لا يؤثر بدون البيان. و من الواضح ان الوجوب الغيري لا يقتضي العقاب و المؤاخذة، إذ ليس على مخالفته بنفسه عقاب، فهو خارج عن موضوع ثبوت البراءة العقلية.

فالمتحصل: ان الوجوب الغيري غير قابل للبراءة العقلية و لا الشرعية.

و عليه، فحيث يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا، كان جريان البراءة من وجوب التقيد النفسيّ معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ‌.[5]

إعادة بناء أطراف العلم الإجمالي ومنع الانحلال

بعد إنكار جريان البراءة في الغيرية (شرعاً وعقلاً)، لا بد من إعادة بناء أطراف العلم الإجمالي على نحوٍ صحيح، وهو: «إمّا وجوبُ الوضوء نفساً، وإمّا تقييدُ الصلاة بالوضوء». وعندئذٍ، يقع أصلان مؤثران في عرض بعضهما البعض، وهما: «أصالة البراءة عن النفسية» في جانب الوضوء، و«أصالة البراءة عن التقييد» في جانب الصلاة. وهذان الأصلان متعارضان، وبسقوطهما، يسدُّ باب الانحلال وتصل النوبة إلى أصالة الاحتياط. وعليه، فإنّ مقتضى الامتثال هو تقديم الوضوء والإتيان بالصلاة على نحو التقييد.

والنكتة الصناعية المهمة هي أنّه لا يمكن الجمع بين دعويين اثنتين، وهما: جريان البراءة في الغيرية وعدم انحلال العلم الإجمالي. فلو فُرضت أطراف العلم هي «النفسي/الغيري» وجرت البراءة في الغيرية، لكان العلم الإجمالي منحلاً حكماً، ولما بقي مجالٌ للإلزام الاحتياطي. ولو كان الهدف هو منع الانحلال وإثبات الاحتياط، لوجب أن يُرفَع اليد عن جريان البراءة في الغيرية، وأن تُؤخَذ أطراف العلم هي «نفسية الوضوء/تقييد الصلاة»، حتى يتحصّل تعارض الأصول وبالتالي لزوم الاحتياط على نحوٍ صحيح.

فالمتحصّل هو أنّه بناءً على المبنى المختار في مفاد حديث الرفع وتحليل قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكذلك إعادة بناء أطراف العلم الإجمالي على نحوٍ صحيح، فإنّ النتيجة بيّنة: وهي أنّ الاحتياط لازم؛ أي لا بد من تقديم الوضوء والإتيان بالصلاة على وجه التقييد. ويشير صاحب «المنتقى» إلى هذا المبنى بقوله:

و دعوى: الانحلال بالعلم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسيّ و الغيري، فلا يكون مورد البراءة.

مندفعة: بان كلي الوجوب و طبيعيه ليس مجرى البراءة، لأنه ليس بكلا نحويه قابل لجريانها، و ما هو مجرى البراءة و هو خصوص الوجوب النفسيّ مشكوك و ليس بمعلوم، فالمقتضي للبراءة فيه ثابت، فيعارض البراءة من وجوب التقيد. فالوجه في عدم جريان البراءة هو: عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه.[6]

نسبة هذه النتيجة إلى مبنى السيد الخوئي

يقول صاحب «المنتقى»: بناءً على المبنى الذي ارتضيناه (وهو عدم جريان البراءة في الغيرية)، تكون النتيجة هي الاحتياط. وأما بناءً على مبنى السيد الخوئي نفسه (الذي سلّم في كلماته بجريان البراءة في الوجوب الغيري)، فإنّ لدعوى الانحلال وجهاً؛ وذلك لأنّه على ذلك المبنى، يكون «وجوب الوضوء» — بالجامع بين النفسي والغيري — معلوماً، فلا يكون طرفاً للبراءة؛ ويكون «التقييد» هو المشكوك الوحيد ذا الأثر؛ فتجري البراءة من التقييد بلا معارض. إلا أن يصوِّر (قده) العلم الإجمالي على نحو «وجوبٍ نفسي للوضوء أو وجوبٍ نفسي للتقييد»، حتى يعود تعارض البراءتين؛ ولكنّ هذا خلاف ظاهر تعليقته وتقريراته (حيث صوّر العلم الإجمالي هناك بأنه «بين نفسية وجوب الوضوء وغيريته»). ويشير السيد الروحاني إلى هذا المبنى بقوله:

و لأجل ذلك لا يتجه من السيد الخوئي إنكار الانحلال، و دعوى لزوم الاحتياط، لأن كلامه صريح في جريان البراءة في الوجوب الغيري، و معه تتجه دعوى الانحلال، لأن وجوب الوضوء معلوم و غير قابل لجريان البراءة، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض. إلاّ ان يشكّل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا، فان البراءة في كل منهما معارضة للآخر، لكنه خلاف ظاهر كلامه في تعليقته و تقريرات بحثه كما أشرنا إليه. فتدبر.[7]

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

------------------------
[1]- ‏محمد الروحانی، منتقی الأصول (قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413)، ج 2، 224-225.
[2]- نفس المصدر، 225.
[3]- نفس المصدر.
[4]- نفس المصدر، 226-227.
[5]- نفس المصدر، 227.
[6]- نفس المصدر، 227-228.
[7]- نفس المصدر، 228.

--------------------------
المصادر
- الروحانی، محمد‏. منتقی الأصول. ۷ ج. قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413.



الملصقات :

الوجوب النفسي الوجوب الغيري الأصل العملي العلم الإجمالي أصالة البراءة نتيجة الإطلاق الانحلال الحكمي الأصل الموضوعي تماثل الوجوبين البراءة العقلية البراءة الشرعية أصالة الاحتياط

نظری ثبت نشده است .