درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

درس قبل

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٦/٢٩


شماره جلسه : ۵

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • إطلاق المادة في الأمر بـ"صَلِّ" وأصالة عدم اشتراط الصلاة

  • أصالة الإطلاق اللفظي في المادة وحجية لوازمها العرفية

  • الثمرتان المترتبتان على التمسك بإطلاق مادة الصلاة

  • كفاية أحد الإطلاقين في إثبات النفسية: تأييد المحقق الخوئي لمبنى المحقق النائيني

  • تطبيق أصالة عدم الاشتراط: من وجوب التعلّم إلى الوضوء للزيارة

  • المسلك الثالث: إطلاق المادة في نفس الواجب المشكوك ونسبته إلى النفسية

  • شروط تمامية هذا التقريب

  • المسلك الرابع: الفصل بين مقامي الثبوت والإثبات وأثره في تعيين النفسية

  • نقد هذا التقريب

  • المسلك الخامس: اصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات

  • المسلك السادس: إثبات النفسية من طريق حكم العقلاء في تقرير الإمام الخميني

  • المصادر

الجلسات الاخرى

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


خلاصة البحث السابق

تم استعراض التقريب الرابع التي طرحه الشهيد الصدر (قده) لإمكانية التمسك بأصالة الإطلاق، والتي كان الهدف منها سدّ الفراغ الناشئ عن عدم جريان الإطلاق في الهيئة. وقد تركّز البحث على «التقريب الرابع»، ومفاده أنّه في مقام الإثبات، تُعَدُّ الغيرية عنواناً وجودياً يفتقر إلى قيد، بينما تكون النفسية عنواناً عدمياً لا يحتاج إلى قيد؛ وعليه، فإنّ سكوت الخطاب عن «قيد للغير» يثبت النفسية بمقتضى إطلاق الهيئة. وتعود جذور هذا التقريب إلى حواشي "الكفاية" (للقوچاني والمشكيني) وتقریرات المیرزا جواد التبريزي، وهو يرتكز على الفصل المنهجي بين مقامي الثبوت والإثبات: فثبوتاً، يُعَدُّ كلا العنوانين خصوصيةً وجوديةً زائدةً على طبيعة الوجوب؛ وأما إثباتاً، فتُحرَز النفسية بـ«نفي التقييد». وقد أورد الشهيد الصدر على هذا التقريب ثلاثة نقود رئيسة. الإشكال في الصغرى: إنّ حقيقة النفسية هي الأخرى وجودية (لكونها ناشئة من الملاك القائم في نفس الفعل)، وذلك في مقابل الغيرية (الناشئة من الملاك في الغير)؛ وعليه، فإنّ جعل النفسية قيداً عدمياً لا يتمّ. 
الإشكال في الكبرى: إنّ مقدمات الحكمة لا تقتضي ترجيح «القيد العدمي» على «الوجودي»؛ فالإطلاق لا يفيد إلا نفي لحاظ القيد، لا إثبات «القيد العدمي». التحليل الصحيح لوظيفة الإطلاق (في اسم الجنس): هو إثبات الحكم على جامع الطبيعة، لا اختيار الخصوصية العدمية. وعليه، فإنّ مجرد «عدم ذكر القيد» لا ينهض بإثبات النفسية، ولا يكفي التمسك بإطلاق الهيئة. وقد تمّ تبيين المسلك البديل بالاستناد إلى مبنى المحقق النائيني، وهو التمسك بإطلاق المادة في مثل قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ وتركيب الظهورات في الدليلين. ففي فرض جريان مقدمات الحكمة في المادة، يكون الأصل هو «عدم شرطية الوضوء»؛ فإذا قامت قرينة معتبرة (كدليل الشرطية)، يُقيَّد الإطلاق وتثبت الغيرية. وقد وضع الشهيد الصدر لجريان هذا المسلك أربعة شروط: 1- العلم بالوجوب النفسي لذي المقدِّمة. 2- كون التوقف شرعياً لا تكوينياً. 3- عدم اتصال دليل المقدِّمة بدليل ذي المقدِّمة. 4- كون دليل ذي المقدِّمة لفظياً مطلقاً تجري فيه مقدمات الحكمة. والمتحصّل النهائي هو أنّ مسلك اطلاق المادة، بهذه الشروط، مصونٌ من إشكالات إطلاق الهيئة ومسلكٌ معتبر. وسيأتي الكلام في بقية التقريبات لاحقاً.

إطلاق المادة في الأمر بـ"صَلِّ" وأصالة عدم اشتراط الصلاة

ينعقد البحث في ما إذا كان يمكن استفادة كون التكليف نفسياً من إطلاق الهيئة أو من إطلاق المادة. فإنّ المحقق الآخوند الخراساني (قدس سره) يصرّح في "الكفاية" بأنّ إطلاق صيغة الأمر يقتضي بنفسه كون التكليف نفسياً. وهو البيان عينه الذي سار عليه المحقق العراقي في "نهاية الأفكار"، حيث تبنّى المقالة ذاتها.[1]

وإننا، تبعاً للمحقق النائيني (قدس سره) — وكذلك على ضوء بيان المرحوم الوالد (رضوان الله تعالى عليه) — نرتضي هذا المسلك، وهو أن نتمسك، في مقام دوران الأمر بين نفسية الوضوء وغيريته، بنفس الأمر بـ«صَلِّ» من حيث إطلاق مادته، وهي «الصلاة». وبيان ذلك: أنّه لو كان وجوب الوضوء غيرياً، لكان الوضوء بمثابة قيدٍ وشرطٍ شرعي للصلاة؛ ولو لم يكن كذلك، لكانت الصلاة فاقدةً لمثل هذا الشرط. وعليه، فمتى ما قال المولى: «صَلِّ»، ينعقد الشك فيما إذا كانت هذه الصلاة مشروطةً بقيدٍ (كالوضوء) أم لا. وفي مثل هذا الفرض، فبعد إحراز مقام البيان وجريان مقدمات الحكمة، يكون الأصل هو «عدم الاشتراط»؛ إذ يفيد إطلاق مادة الصلاة أنّ القيد الشرعي الزائد لم يؤخذ، وأنّ الوجوب قد تعلّق بنفس حقيقة الصلاة.

وثمرة هذا الظهور بيّنة: فما لم يقم دليلٌ معتبر على شرطية الوضوء، يُحمَل الأمر به على النفسية، أو على الأقل تُلحَظ نسبته إلى الصلاة على أنها نسبةٌ غير شرطية. وأما في المقابل، فحيثما قامت قرينة لفظية أو مقامية على الشرطية (كأدلة شرطية الطهور)، فإنّ تلك القرينة هي التي تقيّد الإطلاق، وتؤول نسبة الوضوء إلى الصلاة حينئذٍ إلى الغيرية. وينبغي التدقيق في أنّ مرادنا من «الأصل هو عدم الاشتراط» إنما هو الأصل اللفظي الناشئ من إطلاق المادة، لا الأصل العملي (كالاستصحاب). وإنما تصل النوبة إلى الأصل العملي عند تعذّر التمسك بالإطلاق فحسب (كأن لا يكون ثمة دليلٌ لفظيٌ مطلق، أو لا يكون المتكلم في مقام البيان). وعليه، ففي مقام الإثبات وبعد تحقّق شروط الإطلاق، يكون حمل الأمر بالوضوء على النفسية حملاً منضبطاً ومعقولاً، وهو بذلك يمثّل بديلاً صحيحاً عن المسلك غير التامّ المتمثل في التمسك بإطلاق الهيئة.

ولكي يتضح المبدأ بشكلٍ أعمّ، وبقطع النظر عن بحث النفسي والغيري، نقول: لو أنّ المولى أمر بفعلٍ فقال: «أكرم زيداً»، ودار الأمر عندنا بين كون هذا الإكرام مشروطاً بقيدٍ خاص — كلُبس ثوبٍ معيّن مثلاً — وعدمه، فإنّ المرجع في مقام الإثبات هو التمسك بـ«إطلاق المادة»، والقاعدة المتقررة حينئذٍ هي أنّ الأصل هو عدم الاشتراط. وتوضيح ذلك: أنّ مادة «الإكرام»، لكونها قد أُلقيت في مقام البيان على نحو اللحاظ الاستقلالي ولم يُذكَر لها قيد، فإنّ مقتضى مقدمات الحكمة أن ينعقد لها ظهورٌ في تعلّق الحكم بنفس طبيعتها ومجرّد حقيقتها، لا بـ«الإكرام المقيَّد» بشرطٍ زائد. وهذه قاعدةٌ كليةٌ تجري في سائر الواجبات (كالصلاة والصوم والحج ونظائرها): فمتى ما دار الأمر في شرطية أمرٍ ما لواجبٍ، فما لم يقم دليلٌ معتبر على أخذ ذلك الشرط، فإنّ إطلاق مادة ذلك الواجب يفيد عدم الاشتراط. ومن الطبيعي أنه حيثما قام دليلٌ لفظيٌ مقيّد أو قرينةٌ معتبرة على الشرطية — كنحو قوله تعالى: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتَ﴾ في باب الحج، أو أدلة شرطية الطهارة للصلاة — فإنّ تلك القرينة هي التي تقيِّد الإطلاق، ويُرفَع اليد حينئذٍ عن أصالة عدم الاشتراط.

أصالة الإطلاق اللفظي في المادة وحجية لوازمها العرفية

إنّ الأصل الذي هو مناط البحث والاتكاء في هذا المقام هو «أصالة الإطلاق اللفظي»، لا الاستصحاب. ومرادنا بذلك هو أنّ المولى، حينما ألقى المطلوب في الخطاب، قد ألقاه مطلقاً ولم يقيِّده بقيدٍ خاص؛ وعليه، فإنّ أصالة الإطلاق هي التي تتكفّل بنفي ذلك القيد المدَّعى. وإنما تصل النوبة إلى الأصول العملية (كالبراءة من القيود الزائدة) عند تعذّر التمسك بالإطلاق فحسب (كأن لا يكون ثمة دليلٌ لفظيٌ مطلق، أو يكون الخطاب مجملاً).

والآن، لو أُجرِي هذا الأصل في مادة واجبٍ وقع التردد في كونه نفسياً أو غيرياً، لاتضحت الثمرة بجلاء. ومورد الابتلاء هو «الوضوء»: فلو كان الوضوء واجباً غيرياً، لكان وجوبه مترشّحاً من وجوب الغير (وهو الصلاة)، ولكان مأخوذاً بوصفه قيداً شرعياً للصلاة. وهنا نُجري أصالة الإطلاق في مادة «الصلاة» (في خطاب «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ»). وبمقتضى هذا الإطلاق، لا تكون الصلاة مقيَّدةً بشرطٍ هو الوضوء. واللازم العرفي والعادي لنفي هذا الاشتراط هو أن لا يكون للوضوء وجوبٌ غيريٌ بالنسبة إلى الصلاة، وأن يكون وجوبه بالتبع نفسياً؛ إذ إنّ الجمع بين «نفي شرطية الوضوء للصلاة» وبين «كون وجوب الوضوء غيرياً بالنسبة إليها» يُعَدُّ في العرف أمراً محالاً.

وهذه النتيجة ليست «لازماً شرعياً اصطلاحياً» حتى تقع في معرض البحث عن «مثبتات الأصول العملية»، بل هي «لازمٌ عرفي/عادي» لنفي الاشتراط؛ ومن البيّن أنّ «مثبتات الأصول اللفظية» حجّةٌ بأجمعها (فإنّ النزاع — إن كان — إنما هو في مثبتات الأصول العملية، ونحن قد قرّرنا حجيتها في محلها أيضاً). وعليه، فبتحقّق شروط الإطلاق في مادة ذي المقدِّمة، يثبت نفي الشرطية، وتترتب عليه نفسيةُ الوجوب باللوازم العرفية. ومتى ما قامت قرينة معتبرة على الشرطية، فإنّ تلك القرينة هي التي تقيِّد الإطلاق وتنقل الحكم إلى الغيرية. والعلة في حجية مثبتات الأصول اللفظية هي أنّ هذه الأصول تُعَدُّ من قبيل الأمارات.

الثمرتان المترتبتان على التمسك بإطلاق مادة الصلاة

بناءً على المبنى الذي ارتضيناه، فحيثما أُجرِيت أصالة الإطلاق في مادة «الصلاة» (لا في الهيئة)، ترتبت على ذلك نتيجتان واضحتان:

1- عدم اشتراط الصلاة بالوضوء: فبعد إحراز مقام البيان وجريان مقدمات الحكمة، وحيث إنّ الشارع لم يذكر قيد «الوضوء» لمادة الصلاة، فإنّ إطلاق المادة ينعقد له ظهورٌ في أنّ الصلاة غير مقيَّدةٍ بهذا القيد.

2- نفي عنوان الوجوب الغيري للوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وبالتبع إثبات النفسية: إنّ اللازم العرفي لنفي شرطية الوضوء للصلاة هو أن لا يكون وجوب الوضوء غيرياً بالنسبة إليها. وهذه النتيجة الثانية إنما هي «لازمٌ عرفي» لنفي الاشتراط، لا «لازمٌ شرعيٌ مصطلح»؛ ومن المقرّر أنّ مثبتات الأصول اللفظية حجّة.

على أنّ حمل الأمر على النفسية بهذه الطريقة مقيَّدٌ بالشروط المعروفة، وهي: 1- العلم بالوجوب النفسي لذي المقدِّمة (وهي الصلاة) في ذلك المورد بالخصوص. 2- كون احتمال التقييد شرعياً، لا ناشئاً عن توقفٍ تكويني. 3- عدم اتصال دليل الأمر بالمقدِّمة بدليل ذي المقدِّمة على نحوٍ يوجب سريان الإجمال. 3- كون دليل ذي المقدِّمة دليلاً لفظياً مطلقاً تجري فيه مقدمات الحكمة. فبتحقّق هذه الشروط، يُعَدُّ التمسك بإطلاق المادة مسلكاً معتبراً لنفي الشرطية واستنتاج النفسية.

كفاية أحد الإطلاقين في إثبات النفسية: تأييد المحقق الخوئي لمبنى المحقق النائيني

جرياً على مبنى المحقق النائيني، يصرّح السید الخوئي (قدس سره) في «المحاضرات» بأنّ الكفاية في مقام إثبات النفسية إنما هي بـ«أحد الإطلاقين»؛ أي أنّه لو أحرز المكلّف أحد الإطلاقين، لتحصّلت نتيجة كون التكليف نفسياً، ولا حاجة إلى إحرازهما معاً. وببيان أدق: فإن جرى «إطلاق هيئة الأمر» (بناءً على المبنى الذي يرى للهيئة إطلاقاً)، فإنّ سكوت الخطاب عن قيد «للغير» ينعقد له ظهورٌ في «عدمِ التقييد بما يفيد الغيرية»، ويفيد بذلك النفسية بالمدلول المطابقي. وإن أُحرِز «إطلاق المادة» (في دليل ذي المقدِّمة)، فإنّ الأصل هو «عدم الاشتراط»؛ ونفي شرطية الوضوء للصلاة لازمه العرفي هو نفي غيرية وجوب الوضوء بالنسبة إليها، وبالتبع إثبات نفسيته.

والثمرة العملية المترتبة على هذا التقرير هي أنّه في موارد من قبيل نسبة الوضوء إلى الصلاة، فمتى ما لم يكن إطلاق الهيئة في متناول اليد أو وقع مورداً للمناقشة، فإنّ إطلاق المادة — مع توفر شروط جريان مقدمات الحكمة — يكفي بنفسه لإثبات المطلوب. وبالعكس، فلو تعذّر التمسك بإطلاق المادة لاتصال الأدلة أو لفقدان الدليل اللفظي المطلق، فإنّ إطلاق الهيئة (بناءً على المبنى المعتبر) يمكن أن يفي بالغرض. ومن الطبيعي أنّه في فرض اجتماع كلا الإطلاقين، يتحقق تقوّي الظهور في النفسية. وفي فرض المعارضة مع دليلٍ مقيِّد، فإنّ مقتضى الصناعة الأصولية هو تقديم المقيِّد على المطلق، ويُرفَع اليد حينئذٍ عن الظهور المنعقد في النفسية. ويشير المحقق الخوئي (قده) إلى هذا المبنى بقوله:

فلا ينبغي الشك في ان مقتضى الأصل اللفظي كعموم أو إطلاق هو النفسيّ، و ذلك لأن بيان وجوب الغيري يحتاج إلى مئونة زائدة باعتبار انه قيد للواجب النفسيّ، و من الواضح ان الإطلاق لا يفي لبيان كونه قيداً له. و على الجملة فالتقييد يحتاج إلى مئونة زائدة، مثلا لو كان لقوله تعالى (أقيموا الصلاة) إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصلاة بالطهارة أو نحوها، فالتقييد يحتاج إلى دليل و مئونة زائدة، و الإطلاق ينفيه و لازم ذلك هو ان وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري. و كذا إذا أخذنا بإطلاق الأمر بالطهارة فان مقتضاه وجوبها مطلقا أي سواء أ كانت الصلاة واجبة أم لا، فتقييد وجوبها بوجوب الصلاة يحتاج إلى دليل و قد تحصل من ذلك انه يمكن إثبات نفسية الوجوب بطريقين:

(الأول) الأخذ بإطلاق دليل الواجب النفسيّ كالصلاة مثلا، و دفع كل ما يحتمل ان يكون قيداً له كالطهارة أو استقبال القبلة أو نحو ذلك و لازم هذا هو ان الواجب المحتمل دخله فيه كالطهارة مثلا نفسي، و هذا اللازم حجة في باب الأصول اللفظية (الثاني) الأخذ بإطلاق دليل الواجب المشكوك في كونه نفسياً أو غيرياً. و ذلك لأن وجوبه لو كان غيريا فهو مشروط بطبيعة الحال بوجوب واجب آخر نفسي، و ان كان نفسياً فهو مطلق و غير مقيد به، و عليه فإذا شك في انه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق دليله و عدم تقييده بما إذا وجب شي‌ء آخر هو الحكم بكونه نفسياً، و الفرق بين الإطلاقين هو ان الأول تمسك بإطلاق المادة، و الثاني تمسك بإطلاق الهيئة فإذا تم كلا الإطلاقين أو أحدهما كفى لإثبات كون الواجب نفسياً.[2]

والذي يبدو لنا أنّ هذا الجمع المنهجي ينسجم مع المسلك الذي ارتضيناه سابقاً: فإنّ مسلك المحقق النائيني (المبتني على إطلاق المادة) تامٌّ باستقلاله، وهو مصونٌ من الإشكالات الواردة على إطلاق الهيئة — بناءً على مبنى "الكفاية". وفي الوقت نفسه، فلو تمّ تبنّي المبنى القائل بإمكان جريان الإطلاق في الهيئة، لكان مبدأ «كفاية أحد الإطلاقين» مسلكاً عملياً وناجعاً في مقام الاستنباط.

تطبيق أصالة عدم الاشتراط: من وجوب التعلّم إلى الوضوء للزيارة

نعود الآن إلى المثال الذي طرحناه في مستهلّ هذه المباحث: فلو دار الأمر في واجبٍ ما بين كونه «نفسياً» أم لا — كـ«وجوب التعلّم» — فإنّ أصل ثبوت وجوب التعلّم مما لا خلاف فيه، وإنما يقع النزاع في كونه نفسياً أو غيرياً. فإذا لم تتمّ عندنا أدلة الطرفين، وبقينا في حيرةٍ من أمرنا في كون تعلّم الأحكام محل الابتلاء (كالصلاة والصوم ونحوهما) نفسياً أو غيرياً، فإنّ المقام يكون حينئذٍ هو مقام إعمال القواعد الإثباتية.

ومثالٌ آخر: فلو ورد في روايةٍ بشأن المشاهد المشرّفة: «إِذا دَخَلْتَ فَتَوَضَّأ» أو «إِذا زُرْتَ فَتَوَضَّأ»؛ وفرضنا أنّه لم يثبت لزيارة السيدة المعصومة (سلام الله عليها) مثلاً صلاةٌ خاصة، ففي مثل هذا الفرض، لو دار الأمر بين كون استحباب الوضوء «نفسياً» أو «غيرياً» بالنسبة إلى ركعتي صلاة الزيارة، فإنّ هذا المسلك الإثباتي نفسه يكون جارياً في المقام. إذ إنّ الزيارة نفسها مستحبة، ولم تُؤخَذ شرطية الوضوء لها في الدليل، كما لم تُؤخَذ الصلاة في دليلها أيضاً؛ وعليه، فلا يكتسب الوضوء عنوان الغيرية بالنسبة إلى الصلاة، ويكون استحبابه «نفسياً». وببيان آخر: فما لم يقم دليلٌ لفظي على أخذ قيد الشرطية الشرعي بالنسبة إلى الصلاة، يثبت استحباب الوضوء على نحو الاستقلال.

المسلك الثالث: إطلاق المادة في نفس الواجب المشكوك ونسبته إلى النفسية

المسلك الثالث في إثبات النفسية هو أن نتمسك بإطلاق «نفس المادة» التي وقع وجوبها محل الترديد؛ أي نفس الفعل الذي يدور أمره بين كونه نفسياً أو غيرياً. ومثال الوضوء يجلّي الفكرة: إذ يمكن لحاظ الوضوء من حيث «إيصاله إلى الصلاة» على نحوين: الوضوء الموصِل إلى الصلاة، والوضوء غير الموصِل إليها. فإذا ألقى الخطاب مادة «الوضوء» مطلقةً، صحّ القول: «الوضوءُ واجبٌ سواء أكان موصِلاً إلى الصلاة أم لم يكن موصِلاً». واللازم من هذا الإطلاق هو أن تكون هيئة الأمر مقتضيةً للوجوب النفسي؛ إذ لو كان وجوب الوضوء غيرياً، لكان الواجب هو «خصوص الوضوء الموصِل»، لا مطلق الوضوء.

فبحسب هذا التقرير، فإنّ إطلاق مادة «الوضوء» نفسها من حيث اتصافها بالإيصالية، ينفي الغيرية وينتج النفسية. وهذه الصياغة — بوصفها تقريراً منطقياً — قد خطرت في أذهان بعض الأعلام، ومنهم الشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه)، حيث يقول (قده):

الثالث - التمسك بإطلاق المادة في الأمر بشيء كالوضوء مثلا بالنسبة للحصة غير الموصلة منه و إثبات انه مصداق للواجب أيضا فيثبت بالالتزام - بناء على ما سوف يأتي تحقيقه من ان الوجوب الغيري مخصوص بالحصة الموصلة فقط - أن هذا الواجب نفسي لا غيري.[3]

شروط تمامية هذا التقريب

يرتكز هذا المسلك على أن تُلحَظ «الموصِلية» بوصفها من القيود التي يمكن أخذها في «متعلَّق الأمر»، حتى يتكفّل إطلاق المادة بنفيها أو إثباتها. فلو حُلِّلت الغيرية على أنها «تقييدٌ للهيئة» (أي إن وجبت الصلاةُ وجبَ الوضوء)، لا «تقييدٌ للمادة» (أي الوضوء الموصِل)، فإنّ إطلاق مادة الوضوء بمفرده لا يكفي لنفي الغيرية. وعليه، ففي مقام الإثبات، حيثما قامت قرينة معتبرة على أنّ نسبة الوضوء إلى الصلاة هي من سنخ الشرطية الشرعية المتمثلة في «الموصِلية» المأخوذة في المتعلَّق، أمكن لإطلاق مادة الوضوء حينئذٍ أن يعزّز الظهور في النفسية من خلال نفي هذا القيد. وأما إذا أرجعت القرائن جهة الغيرية إلى «تقييد الهيئة» (أي كون وجوب الوضوء دائراً مدار وجوب الصلاة)، فإنّ التمسك المذكور لا يتمّ.

ومن الناحية الصناعية، فإنّ هذا المسلك، مقارنةً بمسلك المحقق النائيني (المبتني على إطلاق مادة ذي المقدِّمة)، يتطلب حساسيةً أدقّ لكيفية تحليل القيد، ويفتقر إلى إحراز «قابلية أخذ الموصِلية في متعلَّق الوضوء». ولذا، ففي مقام التطبيق، يُنظَر في كلا الظهورين: فإن تمّ إطلاق مادة «الوضوء» من حيث الموصِلية، أنتج ذلك النفسية. وإلا، عُدِل إلى إطلاق مادة «الصلاة» وتركيب الظهورات. فالمتحصّل هو أنّ المسلك الثالث يمكن أن يُثبت النفسية — وذلك بإحراز قابلية تقييد المادة بوصف الموصِلية، ومع فقدان القرينة على الخلاف. إلا أنه عند عدم إحراز ذلك، يبقى المسلك الأوثق هو التمسك بإطلاق مادة ذي المقدِّمة (على نحو عدم الاشتراط)، و/أو تركيب الظهورات في الدليلين.

المسلك الرابع: الفصل بين مقامي الثبوت والإثبات وأثره في تعيين النفسية

يرتكز المسلك الرابع — الذي طُرح لاحقاً استكمالاً لتقرير المحقق القوچاني — على الفصل الدقيق بين «مقام الثبوت» و«مقام الإثبات». وحاصل هذا التقرير هو التالي: في مقام الثبوت، فإنّ كلا العنوانين، الواجب النفسي والواجب الغيري، يفتقر إلى مؤونةٍ زائدةٍ وقيدٍ وجودي؛ أي أنّ كلاً منهما يتمتع بخصوصيةٍ إيجابيةٍ زائدةٍ على طبيعة «الوجوب» بها يمتاز عن الآخر. وأما في مقام الإثبات: فالوضع مختلف؛ فإثبات النفسية لا يفتقر إلى قيدٍ زائد في الخطاب، بل يكفي أن يكون المتكلم في مقام البيان ولا يذكر القيد المفيد للغيرية (كنحو «للغير» وما شاكله). فإنّ مجرد عدم ذكر هذا القيد يُعَدُّ قرينةً عرفيةً على كون التكليف نفسياً. وبناءً على هذا التقرير، فإنّ محل نزاعنا إنما هو ناظرٌ إلى «مقام الإثبات»، لا إلى عالم الثبوت؛ وفي هذا النطاق بالذات تُعَدُّ النفسية في غنىً عن المؤونة اللفظية. ويمكن أن يُخمَّن أنّ مراد الآخوند (في بعض تعابيره) كان ناظراً إلى هذه النكتة الإثباتية عينها.

نقد هذا التقريب

ومع ذلك كلّه، يبقى الجواب والنقد المتقدم قائماً: فمع أنّ محل النزاع هو مقام الإثبات، إلا أنّ النفسية هي الأخرى، بحسب نظر جماعةٍ من الأعلام — كالإمام الخميني (قدس سرهما) — تفتقر إلى قيدٍ وجودي في مقام الإثبات أيضاً. وبيان ذلك: أنّ مجرد «عدمِ ذكرِ قيدِ الغيرية» لا يفيد في نهايته إلا «رفض القيد»، ولا ينهض بنفسه لإثبات العنوان الوجودي «لنفسه»، ما لم يُعضَّد بقرائن معتبرة، لفظيةً كانت أو مقامية، أو يُستنَد فيه إلى الانصراف وبناء العقلاء. وعلى هذا المبنى، فإنّ عدم ذكر القيد لا يكفي بنفسه لإثبات النفسية، ولا بدّ من قيام قرينةٍ إيجابية. فالخلاصة التي نخلص إليها في هذا الوجه هي أنّ: الفصل بين مقامي الثبوت والإثبات يمهّد السبيل للاستفادة الإثباتية من «عدم ذكر القيد»، إلا أنّه ما لم تقم قرينةٌ محكَمة على النفسية، لا تتحصّل نتيجةٌ قطعية. وعند تعذّر قيام القرينة، تصل النوبة إلى المسالك البديلة (كالتمسك بإطلاق مادة ذي المقدِّمة أو تركيب الظهورات)، وفي نهاية المطاف إلى الأصل العملي.

المسلك الخامس: اصالة التطابق بين مقامي الثبوت والإثبات

يرتكز الوجه الخامس في كلمات الشهيد الصدر (قدس سره) على قاعدةٍ أسّس لها وأطلق عليها اسم «أصالة التطابق بين الثبوت والإثبات». وبيانه (قده) هو:

الخامس - دعوى انه كلما دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيتين و كانت كل واحدة منهما تناسب خصوصية في مقام الإثبات فأصالة التطابق بين مقامي الثبوت و الإثبات تعين الخصوصية المناسبة مع عالم الإثبات. و من هذا الباب يقال: ان السكوت إثباتا يناسب خصوصية الإطلاق اللحاظي أي لحاظ عدم القيود ثبوتا فيما إذا أنكرنا الإطلاق الذاتي. و هذه الكبرى يدعى تطبيقها في المقام بتقريب: ان الوجوب الغيري تبعي و من أجل واجب آخر بخلاف الوجوب النفسيّ‌، و الأمر بشيء إثباتا يناسب ان ذلك الشيء مأمور به أصالة و لنفسه و لا يناسب أن يكون إيجابه لأجل شيء آخر، فمقتضى أصالة التطابق بين عالمي الثبوت و الإثبات إرادة الوجوب النفسيّ‌، و لهذا يستفاد عرفا ذلك من الأمر بشيء ابتداء و مطابقة.[4] بلا حاجة إلى ملاحظة حيثية أخرى.[5]

وببيانٍ أجلى: فإذا دار الأمر في عالم الثبوت بين خصوصيتين مميِّزتين (كالنفسية والغيرية)، وكان لكلٍّ منهما في عالم الإثبات «مظهرٌ دلاليٌّ» يناسبه، فإنّ أصالة التطابق تقتضي أن يكون ذلك المظهر الدلالي في عالم الإثبات كاشفاً عن تلك الخصوصية بعينها في عالم الثبوت. وتطبيق هذا القانون في محل البحث هو كالتالي:

ثبوتاً: فإنّ النفسية والغيرية كلتيهما خصوصيتان وجوديتان زائدتان على طبيعة الوجوب. وإثباتاً: فإنّ الغيرية تُعرَف بـ«ذكر القيد الربطي» (كنحو: «للغير»، أو التعليل بالآلية، أو القرائن الإرشادية الدالة على الشرطية)، وتُعرَف النفسية بـ«عدمِ ذكر ذلك القيد» في مقام البيان. وعلى ضوء أصالة التطابق، فإذا سكت خطاب الشارع في مقام البيان عن ذكر القيد المفيد للغيرية، فإنّ هذا السكوت يتناسب مع «عدم التقييد»، فيدلّ على أنّ المراد في عالم الثبوت أيضاً هو «عدمُ أخذِ قيدِ الغيرية»؛ وبذلك، تتعيّن النفسية.

وضوابط جريان هذا القانون هي: 1- إحراز مقام البيان وجريان مقدمات الحكمة؛ إذ بدون ذلك، لا تكون لـ«السكوت» كاشفيةٌ عرفية. 2- تمامية التقابل بين المظهرين الدلاليين في عالم الإثبات: فإمّا «ذكر القيد الربطي» (وهو قرينة الغيرية)، وإمّا «عدم ذكره» (وهو قرينة النفسية). 3- فقدان القرينة على الخلاف (لفظيةً كانت أو مقامية)، وعدم وجود قدرٍ متيقَّنٍ يوجب التقييد.

والأثر العملي المترتب على ذلك هو: بذكر القيد الربطي، تثبت الغيرية. وبالسكوت في مقام البيان مع عدم وجود قرينة على الخلاف، تُحرَز النفسية بملاك التطابق. وهذا التقريب، في حقيقته، ليس إلا صياغةً منهجيةً ومنظَّمةً لمبدأ «الإطلاق المعيِّن للنفسية»؛ غاية الأمر أنه يرتكز في بيانه على قاعدة التطابق، لا على مجرد نفي القيد. وفي الوقت نفسه، لا بد من مراعاة التنبيهات المتقدمة: فالنفسية ثبوتاً عنوانٌ وجودي، وإنما يكون السكوت الإثباتي كاشفاً عنها حيثما تحققت شروط مقام البيان وتكامل «التقابل بين المظهرين الدلاليين». وإلا، بقيت الحاجة إلى قرينةٍ إيجابية قائمة.

وفي ذيل بيانه لـ«أصالة التطابق بين الثبوت والإثبات»، يضيف الشهيد الصدر (قدس سره) نكتةً محورية، وهي: أنّه من هذا القبيل بالذات ما يُقال من أنّ السكوت في مقام الإثبات يتناسب مع خصوصية الإطلاق اللحاظي؛ أي أنّه يقتضي في مقام الثبوت لحاظَ عدمِ القيد. والمراد من ذلك هو أنّه إذا دار الأمر في مقام الثبوت بين خصوصيتين مميِّزتين (كالنفسية والغيرية)، وكان لكلٍّ منهما مظهرٌ إثباتيٌ يناسبه، فإنّ سكوت الشارع في مقام البيان — مع تحقّق مقدمات الحكمة — يكون مطابقاً لـ«عدم أخذ القيد» في مقام الثبوت وكاشفاً عنه.

وعلى مبنانا، فإنّ هذا التقريب إنما يصحّ في إطار «الإطلاق اللحاظي» فحسب؛ وذلك لأننا لا نرتضي «الإطلاق الذاتي»، ونرى أنّ حقيقة الإطلاق قوامها لحاظ المتكلم في مقام البيان. وعليه، ثبوتاً: فإنّ النفسية والغيرية كلتيهما خصوصيتان وجوديتان زائدتان على طبيعة الوجوب. وإثباتاً: فإذا كان المتكلم في مقام البيان، وكان إمكان التقييد العرفي مفروضاً، ولم تكن ثمة قرينة متصلة أو منفصلة على الخلاف، فإنّ «السكوت» يتناسب مع «الإطلاق اللحاظي» ويدلّ على عدم أخذ القيد. وبمقتضى «أصالة التطابق»، فإنّ «عدم التقييد» هذا في عالم الإثبات يكون كاشفاً عن قيد «لنفسه» في عالم الثبوت، وتكون نتيجته العرفية في محل البحث هي النفسية.

ومع ذلك كلّه، نرى لزوماً للتنبيه على أمرين:

1- إنّ هذا الكشف ناظرٌ إلى «نفي القيد»، وإنما يؤول إلى النفسية حيثما استقامت قاعدة التطابق وانتفت القرينة الإيجابية على الغيرية. وإلا، فإنّ مجرد السكوت لا يكفي لإثبات العنوان الوجودي «لنفسه»، ويفتقر حينئذٍ إلى قرينةٍ متمِّمة (لفظيةً كانت أو مقامية، أو من قبيل الانصراف وبناء العقلاء).

2- إنّ وظيفة «أصالة التطابق»، بوصفها آليةً منهجيةً للربط بين «السكوت الإثباتي» و«عدم القيد الثبوتي»، إنما تتحقق بشروط مقدمات الحكمة نفسها. فلو اختلّ أحد أركانها (كمقام البيان، أو إمكان التقييد، أو عدم القرينة)، سقط التطابق عن الحجية أيضاً. فالمتحصّل هو أنّ تقرير الشهيد الصدر، في أفق نفي القيد وعلى مبنى «الإطلاق اللحاظي» — لا «الإطلاق الذاتي» — يقدّم إطاراً منقَّحاً للكشف عن النفسية؛ وذلك شريطة تمامية أركان مقام البيان، وفقدان القرينة على الخلاف.

المسلك السادس: إثبات النفسية من طريق حكم العقلاء في تقرير الإمام الخميني

بعد أن اتضح أنّ النفسية لا يمكن استفادتها مباشرةً لا من إطلاق الهيئة ولا من إطلاق المادة — بما هو إطلاق —، ينفتح المسلك السادس المرتكز على تقرير الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في «مناهج الأصول».[6] فبناءً على مبناه (قده) في تحليل صيغة الأمر، فإنّ المدلول الوضعي للصيغة ليس إلا «البعث والتحريك». إلا أنّ هذا البعث نفسه يُعَدُّ عند العقلاء «تمامَ الموضوعِ» لـ«حكمِ العقلاءِ بوجوبِ الإطاعة». ومن هذا المسلك بالذات، يؤسّس الإمام (قده) لدلالة الأمر على الوجوب في مقام الإثبات: فالأمر بذاته لا يفيد الوجوب، ولكنه، لكونه متضمناً للبعث المولوي، فإنّ العقلاء يرون لزوم إطاعته، والشارع بدوره لم يردع عن هذا البناء العقلائي. ويشير المرحوم الإمام (قده) إلى هذا المبنى بقوله:

إذا شكّ في كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً أو مقابلاتها، فالظاهر لزوم الحمل عليها دون المقابلات؛ لأنّ أمر المولى وبعثه بأيّ دالّ كان - بلفظ أو إشارة أو غيرهما - تمام الموضوع عند العقلاء لوجوب الطاعة، ومعه يقطع عذر المكلّف - كما مرّ في باب دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب[7] - فإنّ الهيئة وإن لم توضع إلّالمجرّد البعث والإغراء، وما ذكر ومقابلاتها خارجة عن مدلولها، لكن مجرّد صدور الأمر عن المولى موضوع لوجوب الطاعة، فإذا تعلّق أمر بشيء يصير حجّة عليه، فإذا عدل المكلّف إلى غيره باحتمال التخييرية، أو تركه مع إتيان الغير باحتمال الكفائية، أو تركه مع سقوط الوجوب عن غيره باحتمال الغيرية، لا يكون معذوراً لدى العقلاء، لا لدلالة الهيئة وضعاً على شيء منها؛ ولهذا لو أشار المولى بإتيان شيء يجب عقلاً إتيانه، والأعذار المتقدّمة ليست موجّهة، مع أنّه لا وضع للإشارة.[8]

وعلى هذا الأساس، تثبت الخصوصيات الثلاث محل البحث على نحو الأصل الأولي:

1- النفسية: فإنّ وجوب الإطاعة إنما يتعلّق بـ«نفس الأمر الصادر»؛ أي أنّ التكليف متوجِّهٌ إلى «هذا المأمور به بما أنّه مأمورٌ به»، لا من جهة تبعيته لوجوب تكليفٍ آخر. وعليه، فما لم تقم قرينة على الآلية والارتباط الغيري، يكون منشأ الإلزام هو الأمر نفسه، ويكون الوجوب «لنفسه». وعند قيام القرينة المفيدة للآلية، يُخصَّص هذا البناء العقلائي نفسه لصالح الغيرية.

2- التعيينية: فإنّ حكم العقلاء بلزوم الامتثال إنما يستهدف المتعلَّق الخاص للمأمور به؛ فالقول بالبدلية بين الأطراف يفتقر إلى مؤونةٍ زائدةٍ وبيانٍ مستقل. وعليه، فالأصل هو التعيين، إلا أن ترد أداة «أو» أو قرائن واضحة على التخيير.

3- العينية: فإنّ الخطاب المولوي، بحسب بناء العقلاء، متوجِّهٌ إلى كلّ مكلَّف بعينه، لا على نحوٍ يكفي فيه امتثال البعض. فالقول بالكفائية يفتقر إلى تصريحٍ أو قرينةٍ مقاميةٍ معتبرة.

والثمرة المترتبة على هذا التقرير هي أننا، من دون أن نعتمد على المجرى كثير المناقشة لإطلاق الهيئة أو المادة، ننتقل من «مقام البعث» إلى «حكم العقلاء بلزوم الإطاعة»، ونستظهر بذلك الأصل الأولي القائم على النفسية والتعيين والعينية. وحيثما قامت القرائن اللفظية أو المقامية المعتبرة على الغيرية أو التخييرية أو الكفائية، فإنّ هذا البناء العقلائي نفسه يُخصَّص بمقدار دلالة تلك القرائن.

ولا بد من التنبيه على نكتتين:

1- إنّ هذا المسلك ليس لفظياً محضاً؛ إذ إنّ أساسه هو «بناء العقلاء على لزوم إطاعة المولى» وإمضاء الشارع له. وعليه، فإنّ حجيته منوطةٌ بإحراز مولوية الآمر وكونه في مقام البيان المولوي.

2- إنّ ما يُثبَت بهذا الطريق إنما هو «أصل النفسية والتعيين والعينية» في مقام الإثبات؛ فورود أي قيدٍ معارض (كالتصريح بالشرطية، أو البدلية، أو كفاية فعل البعض) يرفع ذلك الظهور العقلائي ويعيِّن العنوان المقابل. وبهذا، يقدّم تقرير الإمام (قده) مسلكاً عملياً وناجعاً يؤمِّن النتائج المطلوبة من دون الحاجة إلى التمسك بالإطلاقات محل النزاع، وهو في الوقت نفسه منفتحٌ تماماً على القرائن المخالفة. ونذكّر بأنّ هذا المسلك يرتكز على أنّ أصل دلالة الأمر على الوجوب هو الآخر يُستفاد من طريق حكم العقلاء.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

------------------------
[1]- ‏ضیاء الدین عراقی، نهایة الأفکار (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1417)، ج 1، 229.
[2]- ‏ابوالقاسم خویی، محاضرات فی أصول الفقه، با محمد اسحاق فیاض (قم: دارالهادی، 1417)، ج 2، 199-200.
[3]- ‏محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول‏، با محمود هاشمی شاهرودی (قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام‏، 1417)، ج 2، 112.
[4]- هذا راجع بحسب الحقيقة إلى التقريب الثالث و ان الواجب غير مقيد بأنه موصل إلى امر آخر و من دون ملاحظة هذا الفرق لا يبقى فرق بينهما في مقام الإثبات بلحاظ ما يرجع إلى ما هو مدلول الأمر مادة و هيئة و اما حيثيات الأمر و الغرض منه فهو خارج عن المدلول اللفظي لدليل الأمر. نعم يمكن تطوير هذا الوجه بشكل يكون به فنيا و حاصله: ان الوجوب الغيري اما ان يكون على أساس المقدمية و التوقف التكويني أو على أساس التقييد الشرعي و كل منهما خلاف الظاهر الأولي للأمر بشيء اما الأول فلأن ظاهر امر المولى بشيء ان محركيته تأسيسية لا تأكيدية أي ظاهر في ان المولى يتصدى بامره هذا إلى تحصيله بحيث لولاه لما كان يحصل و الأمر الغيري على تقدير إنشاء المولى له لا يكون تأسيسا لأنه لا تكون فيه داعوية و محركية و اما الثاني فلأنه لو أريد من الأمر بالقيد الإرشاد إلى القيدية فهذا من الواضح انه خلاف الظاهر و لو أريد انه إنشاء لإيجابه الغيري الكاشف عن القيدية في الرتبة السابقة حيث انه في طول التقييد يكون المقيد متوقفا تكوينا على إيجاد قيده فإرادة مثل هذا الأمر الغيري إضافة إلى ما ذكرناه يرد عليه: انه في طول ملاحظة ذلك التقييد في الرتبة السابقة فنفس سكوت الخطاب عن التقييد قرينة عرفية على عدم إرادته و لهذا تحمل الأوامر بالقيود و الشرائط الشرعية على الإرشاد لا الإنشاء.
[5]- نفس المصدر، 113.
[6]- وقبل الخوض في صميم التقرير، نرى من اللازم التنبيه على نكتةٍ مهمة، وهي أنّ كتاب «مناهج الأصول» قد صيغ بصبغةٍ تعليميةٍ صريحة؛ فأسلوبه البياني يختلف اختلافاً منهجياً عن سائر الآثار التحقيقية الأخرى للإمام (قده) — ككتاب البيع، وكتاب الصلاة، والمكاسب المحرّمة، وكتاب الطهارة. فـ«المناهج» هو متنٌ درسي، يتميز بهندسةٍ متماسكة، وتبويبٍ واضحٍ للأقوال، وتعزيزٍ للروابط الاستدلالية، بما يخدم غرضي التدريس والتعلّم. ولقد أكّدنا مراراً على الطاقات التعليمية الكامنة في هذا المتن؛ ونذكر أننا في لقاءٍ بحضور المدير المحترم للحوزة العلمية، طالبنا بأن يُؤخَذ هذا المتن على محمل الجد ويوضع في صلب المنهج الدراسي.
فإنّ «المناهج» يعكس بحقّ «المدرسة الأصولية في قم» ضمن إطارٍ محكَمٍ ومتكامل، وهو في الوقت نفسه، يسبر أغوار تراث «مدرسة النجف» ويقيمه تقييماً نقدياً. وتكمن مزيّته في أنه، إلى جانب استعراضه وتحليله لآراء أساتذة مدرسة قم — كآية الله الحائري وآية الله البروجردي — فإنه يعرض وينقد على نحوٍ متوازن آراء المحققين النائيني والعراقي، ليخلص في نهاية المطاف إلى عرض «المختار» مدعَّماً بالبرهان.
وعلى سبيل المقارنة، فمع أنّ مباحث الشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه) تزخر بالابتكارات العميقة والمسالك المنهجية الفريدة، إلا أنّ الإحالة المباشرة إلى آراء مدرسة قم فيها قليلة، وتكون أغلب النقولات فيها من حلقة النجف العلمية (كتأليفات المحقق العراقي وحاشية المحقق الأصفهاني على الكفاية). أما «المناهج»، فعلى العكس من ذلك، فإنه يقدّم رصداً شاملاً للمدرستين معاً، وهو من هذه الحيثية يتمتع بمزيّة خاصة تؤهله ليكون ضمن المنهج الدراسي الحوزوي.
وعليه، فإنّ «مناهج الأصول»، بحسب نظرنا، هو متنٌ جامعٌ ومعتبر، صيغ بقصد أن يكون «متناً دراسياً شاملاً»، وإنّ قابليته ليكون متناً رسمياً في مراحل السطوح العليا والبحث الخارج بيّنةٌ وجلية. نعم، لقد وُجِدت حلقاتٌ وملزماتٌ دراسيةٌ أخرى، ولكلٍّ منها مزاياه؛ إلا أنّ الشرط الجوهري في المتن الدراسي الجامع هو أن يجمع آراء المدارس الرئيسة، وأن يتناولها بالنقد والتحليل، وأن يقدّم في نهاية المطاف خلاصةً كاشفة ومنهجية؛ وهذا الشرط قد تحقّق في «المناهج» على أتمّ وجه.
[7]- تقدّم في الصفحة ١٩٨-١٩٩.
[8]- ‏روح الله خمینی، مناهج الوصول إلى علم الأصول‏ (قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415)، ج 1، 223.

-----------------------
المصادر
- الصدر، محمد باقر‏. بحوث في علم الأصول‏. با محمود هاشمی شاهرودی. ۷ ج. قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام‏، 1417.
- خمینی، روح الله‏. مناهج الوصول إلى علم الأصول‏. قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.
- خویی، ابوالقاسم‏. محاضرات فی أصول الفقه. با محمد اسحاق فیاض. ۵ ج. قم: دارالهادی، 1417.
- عراقی، ضیاء الدین‏. نهایة الأفکار. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1417.



الملصقات :

أصالة الإطلاق أصالة التطابق الوجوب النفسي الوجوب الغيري مقدمات الحكمة إطلاق الهيئة إطلاق المادة الوجوب المشروط حكم العقلاء

نظری ثبت نشده است .