موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٦/٣٠
شماره جلسه : ۶
-
خلاصة البحث السابق
-
إثبات النفسية من مسلك بناء العقلاء في تقرير الإمام الخميني
-
مبنى الإمام في بناء العقلاء والفارق بينه وبين أصالة الإطلاق
-
الإطلاق بوصفه ظرفاً ومورداً لحكم العقلاء بالنفسية
-
التقسيم العقلائي للواجب إلى نفسي وغيري وارتباطه بمنهج الإمام
-
مناقشة مبنى الإمام: إعادة قراءة دلالة الأمر على الوجوب بناءً على نظرية الإنشاءات للمحقق الحائري
-
إعادة النظر في نسبة الخبر إلى الإنشاء: كلاهما حكاية
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
على مبنى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، فإننا نستفيد «نفسية» التكليف من طريق بناء العقلاء؛ تماماً كما أننا لا نرتضي دلالة صيغة «افعل» على الوجوب، لا من جهة الوضع ولا من جهة الإطلاق. فبحسب تعبير الإمام (قده)، فإنّ نفس لفظ صيغة الأمر ليس له دلالةٌ لفظيةٌ على «الوجوب»؛ بل إنّ الصيغة لا تفيد إلا «البعث والتحريك»، وهي بذلك تكون موضوعاً لحكم العقلاء بـ«وجوب الطاعة». وبيان ذلك: أنّه متى ما صدر الأمر المولوي (لفظاً كان أو إشارةً)، فإنّ بناء العقلاء يجري على لزوم امتثاله، والشارع بدوره لم يردع عن هذه السيرة.
والثمرة المترتبة على هذا المبنى هي أننا لا نحتاج في إثبات «النفسية» إلى إطلاق الهيئة أو المادة؛ وذلك لأنّ حكم العقلاء بوجوب الإطاعة إنما يتعلّق بـ«هذا المأمور به بما أنّه مأمورٌ به». وعليه، فما لم تقم قرينة معتبرة على الآلية والارتباط بـ«الغير»، يبقى الظهور العقلائي قائماً على النفسية، وعند ورود القرينة، يُخصَّص بمقدار دلالتها. وعلى هذا النسق نفسه، تكون «التعيينية» و «العينية» هما الأصل أيضاً؛ إذ إنّ البدلية وكفاية فعل البعض كلتيهما تفتقران إلى مؤونةٍ وبيانٍ زائد، وبدونهما، فإنّ بناء العقلاء يفهم التكليف متعلِّقاً بنفس المأمور به المعيّن وعلى عهدة المكلَّف نفسه.
وبهذا، يكون محور الاستظهار هو «حكم العقلاء بوجوب الإطاعة»؛ فصيغة الأمر ليست دالةً على الوجوب، بل هي «موضوعٌ» لذلك الحكم. والفارق الجوهري بين هذه المقاربة ومسلك الإطلاقات هو أننا نصل من طريق السيرة العقلائية المحرَزة إلى «أصالة النفسية والتعيين والعينية» في مقام الإثبات، وحيثما قامت قرينة لفظية أو مقامية على الخلاف، فإنّ تلك القرينة هي التي ترفع ذلك الظهور العقلائي. وإلى جانب مبنى المحقق النائيني (قدس سره) — الذي يرى «العقل» هو الحاكم بوجوب الإطاعة — فإنّ مبنى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) يجعل «بناء العقلاء» هو المحور، ويميّز بذلك بين «حكم العقل» و«بناء العقلاء».
فلو تُوهِّم أنّ مبنى الإمام (قده) في إثبات النفسية من طريق بناء العقلاء هو بعينه التمسك بـ«أصالة الإطلاق»، لقلنا إنّ هذا يمثّل خلطاً بين سنخين متغايرين من الأدلة. أولاً، من حيث سنخ الدليل: فأصالة الإطلاق، هي دليلٌ لفظي، ومفادها نفي القيد في مدلول المادة أو الهيئة؛ ومرتكزها هو «مقدمات الحكمة» و«مقام البيان»، وهي لا تجري في المعاني الحرفية (على مبنى الآخوند). وأما بناء العقلاء (وهو مبنى الإمام): فهو دليلٌ لُبّي قائمٌ على السيرة. فصيغة الأمر لا تفيد إلا «البعث»، إلا أنّ هذا البعث هو «تمام الموضوع» لحكم العقلاء بوجوب الإطاعة، سواء كان الأمر باللفظ أم بالإشارة. وعليه، فهو متحرّرٌ من القيود الفنية للإطلاق (كاللفظ والهيئة والمعاني الحرفية).
ثانياً، من حيث متعلَّق الدلالة: ففي أصالة الإطلاق، تكون النتيجة هي «رفض القيد»؛ وتتحصّل النفسية غالباً بالملازمة العرفية؛ فبما أنّ قيد «للغير» لم يؤخذ، تُستنتَج النفسية. وأما في مبنى الإمام، فإنّ الإلزام ينصبّ على نفس المأمور به بما أنّه مأمورٌ به؛ وعليه، فإنّ النفسية والتعيينیة والعينية تتحصّل على نحو الظهور العقلائي الأولي، لا بواسطة نفي القيد اللفظي. ثالثاً، من حيث النطاق والشروط المسبقة: فأصالة الإطلاق تفتقر إلى إحراز مقام البيان، وقابلية التقييد، وعدم وجود قرينة متصلة أو منفصلة؛ وهي تواجه إشكالاً في الهيئات (على مبنى "الكفاية"). وأما بناء العقلاء، فلا يقتضي إلا إحراز مولوية الآمر، وكونه في مقام البيان المولوي، وعدم ردع الشارع. وعند ورود قرينة معتبرة على الغيرية أو التخييرية أو الكفائية، فإنّ تلك السيرة نفسها تُخصَّص.
وعليه، فبناءً على مبنى الإمام (قده)، يكون الإطلاق هو مورد بناء العقلاء. وببيانٍ أدقّ: فعندما يُسأل: «في أيّ موردٍ يبني العقلاء على نفسية التكليف؟»، يكون الجواب: حيثما كان كلام المولى «بياناً خالياً من القيد»؛ أي حيثما لم يأتِ بقيدٍ ربطي (كنحو «للغير») وهو في مقام البيان. فهذا هو موضوع السيرة العقلائية؛ إلا أنّ هذا يغاير ما يُصطلح عليه في مسلك المشهور بـ«التمسك بأصالة الإطلاق». فمرادنا إذن من أنّ «الإطلاق مورد بناء العقلاء» ليس هو أننا نتمسك بـ«أصالة الإطلاق»؛ بل نقول: إنّ موضوع حكم العقلاء هو الأمر الخالي من القيد الربطي في مقام البيان؛ وإنّ مجرد عدم ذكر القيد في مقام البيان هو الذي يُفعِّل السيرة، لا أننا نستنتج النفسية بأصلٍ لفظي. وبعبارةٍ أدقّ، فعندما يُسأل: «في أيّ موردٍ يبني العقلاء على نفسية التكليف؟» يكون الجواب: حيثما صدر كلام المولى على نحو الإطلاق ولم يأتِ بقيدٍ للغيرية، فإنّ ذلك القدر كافٍ لتفعيل بناء العقلاء. وهذا يختلف اختلافاً ماهوياً عن التمسك بأصالة الإطلاق — التي تفتقر إلى أركانٍ فنية كإحراز مقام البيان، وإمكان التقييد، وعدم القرينة اللفظية المتصلة والمنفصلة.
وعليه، فإننا في إثبات النفسية، لا نفتقر إلى إجراء أصالة الإطلاق ومقدمات الحكمة؛ فبمجرد أن يرد الكلام مطلقاً ولا يُلحَظ فيه قيد الغيرية، فإنّ بناء العقلاء يفيد النفسية. فإذا قامت قرينة معتبرة على الآلية والارتباط، فإنّ تلك القرينة هي التي تخصّص نطاق السيرة. فالمتحصّل هو أنّ الفارق في المقاربة بيّنٌ: ففي مسلك المشهور، تُستنتَج النفسية من «نفي القيد» بواسطة أصالة الإطلاق. وأما في مبنى الإمام (قده)، فتُستظهَر النفسية مباشرةً من «حكم العقلاء بلزوم إطاعة الأمر الخالي من القيد».
خلاصة البحث: كما تقدم، ففي مسلك الإطلاق اللفظي مساران مشهوران: إمّا أن يُقال كما ذهب الآخوند إلى أنّ النفسية لا تفتقر إلى قيد. وإمّا أن تُعَدَّ النفسية مقيَّدةً بـ«قيدٍ عدمي» كما ذهب المحقق الأصفهاني. وفي كلا المسلكين، يكون التمسك بـ«أصالة الإطلاق» هو ركن الاستظهار. وأما على مبنى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، فإننا لا نعنى أساساً بهذا التقسيم إلى «قيدٍ وجودي» و«عدمي». بل نقول: إنّ «الإطلاق» في هذا المقام هو «مورد السيرة العقلائية». ففي مسلك الإطلاق اللفظي، تُستنتَج النفسية من «نفي القيد»، ولا محيص حينئذٍ من الخوض في بحث ما إذا كان قيد النفسية وجودياً أم عدمياً. وأما في مبنى الإمام (قده)، فإنّ الأمر المولوي هو «بعث»، وهذا «البعث» هو تمام الموضوع لحكم العقلاء بوجوب الطاعة. وعليه، فما لم ترد قرينة على الارتباط بالغير (أي الغيرية)، فإنّ الإلزام ينصبّ على «هذا المأمور به بما أنّه مأمورٌ به»، وتثبت بذلك النفسية والتعيينية والعينية جميعاً على نحو الظهور العقلائي الأولي.
وهذه المقاربة منسجمةٌ مع ما ذهبنا إليه في باب تمييز «الوجوب» عن «الندب» أيضاً. فإنّ الإمام (قده) لا يستفيد دلالة الصيغة على الوجوب لا من طريق الوضع ولا من طريق الإطلاق، بل من «حكم العقلاء بلزوم إطاعة الأمر المولوي»؛ إلا أن ترد قرينة معتبرة على الترخيص (أي الندب). فالإطلاق في هذه المنظومة إنما يؤدي دور «ظرف جريان السيرة» (أي حيث لم يُذكَر قيد الغيرية)، لا أن يكون بنفسه «أصلاً لفظياً مثبِتاً». ويشير (قده) إلى هذا المبنى بقوله:
و بعد اللتيا و التي: أن ما لا ريب فيه و لا إشكال يعتريه هو حكم العقلاء كافة بأن الأمر الصادر من المولى واجب الإطاعة و ليس للعبد الاعتذار باحتمال كونه ناشئا من المصلحة الغير الملزمة و الإرادة الغير الحتمية، و لا يكون ذلك للدلالة لفظية، أو انصراف، أو مقدمات حكمة.[1]
على مبنى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، فإنّ «الوجوب» لا يدخل في صميم مدلول هيئة «افعل». فالهيئة لا تدلّ إلا على «البعث والتحريك»، لا على البعث الوجوبي. إلا أنّ هذا البعث نفسه، بمجرد صدوره من المولى ومع فقدان قرينة الترخيص، يُعَدُّ عند العقلاء «تمام الموضوع» للحكم بلزوم الإطاعة. ولهذا، فإنّ العقلاء في مثل هذه الموارد يحملون الأمر على الوجوب، من دون أن يكون الوجوب جزءاً من مدلول اللفظ. وهذا المسلك ليس لفظياً محضاً، بل هو لُبّي، يرتكز على بناءٍ عقلائي لم يردع عنه الشارع. وضوابط هذا الظهور العقلائي بيّنة: لا بد أن يكون الأمر مولوياً (لا إرشادياً أو امتحانياً)؛ وأن يصدر ممن تكون مولويته مفروضة. فإذا قامت قرينة على الترخيص أو على الارتباط الغيري، يُرفَع اليد عن ذلك الظهور العقلائي بمقدار دلالة القرينة. وهذا المنطق يجري في الإشارة وفي كل دالٍّ غير لفظي على البعث أيضاً؛ إذ إنّ المدار هو على السيرة العقلائية، لا على المدلول الوضعي لـ«الوجوب».
واستكمالاً لتقرير مبنى الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه)، نضيف هذه النكتة، وهي أننا قد أوردنا سابقاً، في مقام البحث عن دلالة صيغة «افعل» على الوجوب، مناقشةً على كلامه (قده). ويرتكز مبنى هذه المناقشة على تحليلنا لـ«الإنشاءات»، الذي ارتضيناه تبعاً للمحقق الحائري. فقد ذهب المشهور في الفرق بين «الخبر» و«الإنشاء» إلى التالي: فالخبر حكاية — سواء كانت عن الماضي أم الحال أم المستقبل. والإنشاء إيجادٌ لا حكاية فيه. ومن هنا، يُشتَرط قصد الإنشاء في عقد النكاح، فبمجرد القول: «أنكحتُ»، يُوجَد عنوان الزوجية «إيجاداً». وهذا التقرير المشهور هو المبنى الرائج في كثيرٍ من الأبواب.
وأما بناءً على المبنى الذي ارتضيناه، فإنّ تحليل الإنشاء أدقّ من مجرد التقابل بين «الحكاية» و«الإيجاد»: فالإنشاء هو إبرازٌ للاعتبار المولوي، وحكايةٌ عن تحقّق الجعل الاعتباري في نفس الأمر؛ وهذا الجعل له مراتب وحيثيات (منها البعث الإلزامي والبعث الترخيصي). وعلى هذا الأساس، فإنّ البعث الإنشائي في صيغة الأمر ليس مجرد تحريكٍ خالٍ من الجهة، بل ينعقد له ظهورٌ عرفي في «إنشاء الإلزام»، إلا أن ترد قرينة على الترخيص. والنتيجة المترتبة على ذلك هي أنّ «الوجوب» يمكن أن يكون ملحوظاً في صميم إنشاء الأمر (بوصفه مرتبةً من مراتب الجعل الاعتباري المولوي)، لا أن يكون بالضرورة مفتقراً إلى الانتقال إلى سيرةٍ عقلائيةٍ مستقلة.
وعليه، فإنّ مناقشتنا لمبنى الإمام (قده) هی: إنّ حصر مدلول الهيئة في «البعث المحض» وإرجاع الوجوب إلى «بناء العقلاء على لزوم الإطاعة» لا يتمّ. بل يمكن القول، استناداً إلى نظرية الإنشاءات للمحقق الحائري، إنّ صيغة الأمر في مقام الجعل المولوي ينعقد لها ظهورٌ في «البعث الإلزامي»، ويُستظهَر أصل الوجوب من نفس الإنشاء — تماماً كما يُصرَف عنه إلى الندب بالقرينة المعتبرة. وبناءً على هذا التحليل، فإنّ بحث النفسي والغيري ينتظم هو الآخر على مدار هذا الظهور الإنشائي: فما لم تقم قرينة على الآلية (أي الارتباط بالغير)، يُحمَل الأمر على «لنفسه». وقد بينا في «كتاب البيع» أيضاً أنه حتى على مباني المشهور، لا يُشتَرط قصد الإنشاء؛ تماماً كما أنّه في الخبر، لا يُشتَرط قصد الإخبار لتحقق الخبر وصدقه. فحينما تقول: «جاء زيد»، فإنّ هذه الجملة خبريةٌ بطبعها؛ سواء التفتَّ تفصيلاً إلى «قصد الإخبار» أم لم تلتفت. والأمر كذلك في قولك: «بِعتُ» الذي هو إنشاء؛ سواء استحضرت قصد الإنشاء بعنوانه أم لم تستحضره. وكذلك الحال في قولك: «أنكحتُ».
فمبنانا هو أنّ الأثر الإنشائي يتحقق بواسطة الاستعمال الجدّي للفظ عند العرف، لا بواسطة «قصد الإنشاء» بوصفه قيداً زائداً. وببيان آخر: فإنّ المشروط هو «قصد الاستعمال الجدّي العرفي» في مقام إفهام ذلك المدلول الإنشائي نفسه (مع ضميمة الاختيار والرضا وسائر الشروط العامة للصحة)، لا استحضار حيثيةٍ قصديةٍ مستقلة باسم «قصد الإنشاء». فكما أنّ الخبر يتحقق بقصد الاستعمال الجدّي للجملة الخبرية، كذلك يتحقق الإنشاء بقصد الاستعمال الجدّي للصيغة الإنشائية. فإنّ «إيجاد الاعتبار» في المنظومة العرفية إنما هو من شأن لسان الموضوع نفسه، لا من شأن القصد الذهني الزائد عليه.
ومن هنا، فإننا نجد في مقام العمل أيضاً أنّ كثيراً من العقود الرائجة لا تكون مقترنةً بالالتفات التفصيلي إلى عنوان «قصد الإنشاء»، ومع ذلك فإنّ العرف والمحاكم، عند فرض وجود قصد الاستعمال الجدّي وسائر الشروط، ترتّب الآثار عليها. والإشكالات التي تُطرَح أحياناً إنما هي ناشئةٌ غالباً من الخلط بين «عدم الالتفات التفصيلي إلى قصد الإنشاء» وبين «فقدان قصد الاستعمال الجدّي». وإلا، فمتى ما وُجِد القصد الجدّي في الاستعمال مع الرضا والاختيار، فإنّ البناء العرفي قائمٌ على ترتّب الأثر، ولا يُرى ثمة حاجةٌ إلى قصدٍ زائد.
والذي يبدو لنا أنّ التمييز المشهور بين «الخبر» و«الإنشاء»، القائم على أنّ «الخبر حكاية» و«الإنشاء إيجاد»، هو تمييزٌ مخدوش. فبناءً على التحقيق الدقيق للمحقق الحائري، فإنّ كلا سنخي الكلام «حكاية»؛ إلا أنّ الحكاية ليست من سنخٍ واحد. ففي الخبر، تكون الحكاية عن واقعٍ خارجي (أو مفروضٍ خارجاً). وأما في الإنشاء، فتكون الحكاية عن واقعٍ نفساني/اعتباري قائمٍ في نفس المنشئ. ومن هنا، فحينما نقول: «إسقِني الماء»، فإنّ هذا ليس مجرد «بعث» أو «مفهوم الطلب»، بل هو حكايةٌ وإبرازٌ لحقيقةٍ نفسانية، وهي الإرادة الحتمية للمنشئ المتعلِّقة بتحقق السقي. وببيان آخر: فإنّ الإنشاء ليس «إيجاداً» للشيء في الخارج، بل هو «إبرازٌ» لإرادةٍ واعتبارٍ مولوي قائمٍ في نفس المنشئ، وإنما يظهر ويتجلّى باللفظ.
والنتائج المترتبة على هذا المبنى هي: إنّ المناط في كلا السنخين هو «قصد الاستعمال الجدّي» وإبراز تلك الحقيقة المحكيّة، لا إحراز عنوان «قصد الإنشاء» بوصفه قيداً زائداً. فكما أنّ صدق الخبر لا يتوقف على «قصد الإخبار» بعنوانه المستقل، كذلك ترتّب الأثر الإنشائي يتحقق بقصد الاستعمال الجدّي وإبراز الإرادة أو الاعتبار. وعلى هذا المبنى، فإنّ صيغة «افعل» هي حكايةٌ وإبرازٌ لـ«الإرادة الإلزامية» للآمر؛ والطلب إنما هو مفادٌ ثانوي لهذا الإبراز، لا أنّه هو الحقيقة المقصودة بالذات. وعليه، فإنّ صيغة «افعل» قد وُضِعت للحكاية عن «الإرادة اللزومية» القائمة في نفس المتكلم؛ أي أنّ الآمر، متى ما قامت في نفسه إرادةٌ حتميةٌ لتحقق فعلٍ ما، عبّر عنها بـ«افعل». فمفاد الصيغة إذن ليس هو «البعث المحض»، ولا هو «مفهوم الطلب» على نحو الإبهام، بل هو الحكاية عن الإرادة الملزمة.
والنتيجة المترتبة على هذا المبنى هي أنّه في مقام إثبات لزوم الامتثال، وكذلك في مقام تعيين نفسية التكليف، لا يبقى موضوعٌ للتوسل ببناء العقلاء. إذ سواء وُجِد العقلاء أم لم يوجدوا، فإنّ الدلالة «وضعية»، والصيغة بنفسها كاشفةٌ عن الإرادة الحتمية. نعم، لو كان الآمر لا يريد إلا الترغيب غير الإلزامي، لكان عليه أن يعدل عن هذا الظهور الوضعي بقرينة (كسياق الترخيص، أو القرائن الدالة على الندب، أو تغيير القالب البياني). وعلى هذا القياس، فلو كانت الغيرية هي المقصودة، لكان أخذ القيد الربطي أو نصب القرينة المفيدة للآلية لازماً. وإلا، فإنّ أصل الظهور يبقى قائماً على «تعلّق الإرادة اللزومية بنفس الفعل» (أي لنفسه).
وبهذا، فإنّ دلالة الصيغة على الإلزام هي دلالةٌ وضعية ناشئةٌ عن الحكاية عن الإرادة اللزومية، لا أنها مجرد منشأٍ لبناء العقلاء على وجوب الطاعة. والنفسية تُفهَم على هذا المدار نفسه: فبما أنّ الحكاية عن الإرادة اللزومية تتعلّق بـ«نفس الفعل»، فما لم تقم قرينة على آلية الفعل بالنسبة إلى الغير، يتعيّن الحمل على «لنفسه». فموارد الندب أو الغيرية إنما تخصّص هذا الظهور الوضعي بالاستناد إلى القرائن الصارفة؛ فبدون قرينة، لا تثبت الندبية ولا الآلية. وعلى هذا المبنى، فلا حاجة إلى مقدمات الحكمة ومجاري الإطلاق اللفظي في أصل إثبات الوجوب والنفسية. وحيثما قامت قرينة معتبرة على الترخيص أو الآلية، رُفِع اليد عن الظهور الوضعي لـ«افعل». وعند فقدانها، فإنّ «افعل» بنفسه يحكي عن الإرادة اللزومية المتعلِّقة بنفس الفعل.
فالوجوب إذن ليس هو محصّل توافقٍ أو سيرةٍ عقلائية. فإنّ بناء العقلاء إنما يكون له أثرٌ حيثما اتفق العقلاء بما هم عقلاء على مسلكٍ اجتماعي؛ وأما في ما نحن فيه — حتى لو لم يكن ثمة عقلاء في البين — فالحكم واحد؛ تماماً كما أنّ فطرة التوجه إلى الله لا تفتقر إلى إرجاعٍ إلى قول العقلاء. ولو رجعنا إلى نشأة الوضع اللغوي، فإننا لا نقول إنّ العقلاء قد اجتمعوا وقرّروا أن تُحمَل صيغة «افعل» على الوجوب. بل إنّ العربي، كما وضع أدوات التمني والترجي كـ«ليت» و«لعلّ» للحكاية عن الحالات النفسانية، فإنه قد وضع صيغة «افعل» للحكاية عن الإرادة الحتمية. وعليه، فما لم ترد قرينة على الاستحباب، وحتى لو لم تتشكل كثرة استعمال من البداية، فإنّ ذلك التعيّن في الوجوب كافٍ. لا بمعنى أنّ الصيغة «تُوجِد الوجوب» لكونها إنشاءً، بل بمعنى أنها تفيد الإلزام لكونها «حاكيةً عن الإرادة اللزومية».
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
نظری ثبت نشده است .