موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٨/٤
شماره جلسه : ۲۶
-
خلاصة البحث السابق
-
الإشكال المشترك للسيد الخوئي (قده) على كلا تقريري المسلك الثاني: لزوم تعدّد العقاب عند ترك جميع الأطراف
-
تصوير الشهيد الصدر (قده) للترخيص في الواجب التخييري ونسبته إلى الإشكال المشترك للسيد الخوئي
-
أنحاء الترخيص وثمراتها
-
النحو الأوّل: الترخيص الإسقاطي في نفس وجوب الأطراف
-
النحو الثاني: الترخيص المشروط في نفس الحكم
-
النحو الثالث: الترخيص التجميعي وإرجاع البنية إلى وجوبٍ بدليٍّ واحد (الجامع الانتزاعي «أحدها»)
-
النحو الرابع: الترخيص في مقام المؤاخذة (تحديد موضوع العقاب)
-
نسبة هذه الأنحاء إلى تقرير المحقّق الأصفهاني والإشكال المشترك للسيد الخوئي
-
النحو الأوّل من أنحاء الترخيص عند الشهيد الصدر: تحليل معيار المخالفة ونسبته إلى تقرير المحقّق الأصفهاني
-
مناقشة النحو الأوّل من أنحاء الترخيص عند الشهيد الصدر واضطراب معيار المخالفة (الخطاب/الملاك)
-
النحو الثاني في صياغة الترخيص عند الشهيد الصدر والجامع بينه وبين النحو الأوّل في معيار المخالفة
-
مناقشة: اضطراب المعيار وضرورة تحديد موضوع المؤاخذة
-
نقدٌ على المبنى: معيار الامتثال والمعصية هو الخطاب لا الملاك
-
النحوان الثالث والرابع في صياغة الترخيص: من «الجامع الانتزاعي» إلى «تحديد المؤاخذة» وأثر ذلك في وحدة العقاب
-
السبيل المنقَّح لصيانة وحدة العقاب
-
مناقشة النحوين الثالث والرابع
-
معيار الامتثال والمعصية هو الخطاب لا الملاك
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
سبق وأن أشرنا إلى أنّ المحقّق الخوئي (قدس سره) يقيم إشكالاً مشتركاً على كلا التقريرين المنقولين عن المحقّق الأصفهاني في تحليل الواجب التخييري وإرجاعه إلى «واجباتٍ تعيينيّةٍ مشروطة». وحاصل هذا الإشكال هو أنّه بناءً على كلا هذين التقريرين، لو ترك المكلّف جميع أطراف الواجب التخييري، للزم من ذلك استحقاقه للعقاب بعدد تلك الأطراف؛ والحال أنّه لم يلتزم أحدٌ من الفقهاء بهذه النتيجة، بل إنّ الارتكاز العقلائي والسيرة الفقهيّة يقضيان بأنّ ترك الجميع يمثّل عصياناً واحداً. ووجه هذا اللزوم واضحٌ؛ فإنّ الترخيص في ترك أحد البدائل إنّما هو ترخيصٌ مشروطٌ بالإتيان بالبديل الآخر. وعليه، فمع ترك الجميع، لا يدخل أيُّ ترخيصٍ حيّز الفعليّة، فتتحقّق بذلك مخالفة جميع الخطابات، وتكون النتيجة الحتميّة هي لزوم تعدّد المعصية، وبالتالي تعدّد العقاب.
جريان الإشكال في كلا التقريرين
أمّا في التقرير الأوّل، حيث يُفترض أنّ لكلِّ طرفٍ «ملاكاً تامّاً» وغرضاً مستقلاً ومبايناً لغيره وغيرَ مقابلٍ له، فبترك الجميع تفوت جميعُ الأغراض وتُنقَض كافةُ الخطابات؛ فيكون تعدّد المخالفة، وبالتالي تعدّد العقاب، لازماً قهريّاً. ولا تنهض دعوى «مصلحة التسهيل» لدرء هذا المحذور، وذلك لأنّ هذه المصلحة ما لم يتحقّق معها إتيانُ البدل، لا توجد موضوعاً للترخيص يمكنه أن يحدّد دائرة المؤاخذة في واحد. وأمّا في التقرير الثاني، فعلى الرغم من أنّ الغرض المفترض هو غرضٌ واحدٌ نوعيّ، إلّا أنّ «الخطابات» متعدّدة، ومعيارُ العقل في تحديد المخالفة هو «مخالفة الخطاب» نفسه، لا احتساب مقدار ما فات من الغرض. وحيث إنّ جواز ترك أيِّ خطابٍ منوطٌ بالإتيان بالخطاب الآخر، فبترك الجميع لا يتحقّق هذا الشرط أصلاً، فتقع المخالفة لجميع الخطابات. وعليه — حتّى مع افتراض وحدة الغرض — يلزم تعدّد العقاب أيضاً.
وعليه، فما لم يقم الدليل على حصر «موضوع العقاب» في ظلّ هذه البنية التحليليّة في عنوان «ترك ما لا يجوز تركه»، بما يؤدّي عمليّاً إلى تحديده في واحد، فإنّ النتيجة في كلا التقريرين تبقى هي عين ما خلُص إليه المحقّق الخوئي. فإنّ دعوى «مصلحة التسهيل» — على فرض ثبوتها — غايةُ ما تُنتجه هو إثباتُ الترخيص في صعيد الامتثال (أي كفاية الإتيان بواحد)، ولكن لا دلالة فيها بنفسها على «التسهيل في صعيد المؤاخذة» وتقليل العقاب في فرض ترك الجميع. وبناءً عليه، فإنّ إشكال السيد الخوئي المشترك — وهو لزوم تعدّد العقاب على كلا التقريرين — يبقى إشكالاً وارداً، ما لم يُقدَّم مبنىً مستقلٌّ لتحديد موضوع المؤاخذة؛ ومثل هذا المبنى لم يقم في هاتين الصياغتين التحليليّتين.
تصوير الشهيد الصدر (قده) للترخيص في الواجب التخييري ونسبته إلى الإشكال المشترك للسيد الخوئي
تصويره: أن يكون كلُّ طرفٍ واجباً تعيينيّاً في الابتداء، فإذا امتثل المكلّف أحدَهما، سقط وجوبُ الطرف الآخر. والثمرة المترتّبة عليه أنّه في فرض ترك الجميع، لا يدخل أيُّ ترخيصٍ حيّز الفعليّة، فتكون جميع الوجوبات الابتدائيّة قد تُرِكَت، وهو ما يستلزم تعدّد المخالفة، وبالتالي تعدّد العقاب. وهو ما أفاده الشهيد الصدر (قدس سره) في بيانه لهذه الصورة بقوله:
تصويره: أن يكون الترخيص في ترك كلِّ طرفٍ مشروطاً بفعل الطرف الآخر. وبعبارة أخرى، يكون الوجوب متوجّهاً إلى كلٍّ منهما على نحو: «يجب العتق إن لم يأتِ بالإطعام... ويجب الإطعام إن لم يأتِ بالعتق...». والثمرة المترتّبة عليه أنّه بترك الجميع، يتحقّق شرطُ كلٍّ من الخطابين (وهو تركُ الآخر)، فتكون جميع الوجوبات فعليّة، ويصدق على المكلّف أنّه خالفها جميعاً، وهو ما يستلزم تعدّد العقاب. وهو ما أفاده الشهيد الصدر (قدس سره) في بيانه لهذه الصورة بقوله:
تصويره: أن يكون متعلَّق الإلزام هو عنوان «أحد هذه الخصال» بما هو جامعٌ انتزاعيٌّ، فتكون البدائل المختلفة مجرّد مصاديق لذلك العنوان الواحد. والثمرة المترتّبة عليه أنّ ترك الجميع يمثّل تركاً لتكليفٍ واحد، وهو ما يستتبع وحدة المخالفة، وبالتالي وحدة العقاب. وهو ما أفاده الشهيد الصدر (قدس سره) في بيانه لهذه الصورة بقوله:
تصويره: أنّه حتّى وإن تعدّدت التكاليف على مستوى الخطابات، فإنّ الشارع في صعيد المؤاخذة يحصر موضوع العقاب في عنوانٍ واحد، وهو «ترك المجموع». والثمرة المترتّبة عليه أنّه ما دام لم يقع «ترك المجموع» (وذلك بالإتيان بواحدٍ من البدائل على الأقل)، تنتفي المؤاخذة. وأمّا في فرض ترك الجميع، فلا يتحقّق إلّا عصيانٌ واحدٌ مرتبطٌ بهذا العنوان الأوحد، وهو ما يضمن وحدة العقاب. وهو ما أفاده الشهيد الصدر (قدس سره) في بيانه لهذه الصورة بقوله:
إنّ النحوين الأوّلين هما في حقيقة الأمر نفس التصوير الذي حمله السيد الخوئي (قده) بحقٍّ على تقريري المحقّق الأصفهاني في تحليل التخيير وإرجاعه إلى «الوجوب التعييني المشروط» و«الوجوب التعييني الترخيصي». وعليه، فإنّ محذور «تعدّد العقاب» في فرض ترك الجميع يغدو لازماً قهريّاً، وهو ما يصطدم بالارتكاز الفقهي. ولا يمكن ضمان وحدة العقاب إلّا بتجاوز هذا الإطار وتبنّي إحدى الصورتين الأخيرتين: فإمّا أن تُرجَع البنية التحليليّة إلى «وجوبٍ واحدٍ بدليّ» تحت عنوان الجامع الانتزاعي «أحدها» (النحو الثالث)، وإمّا أن يُقال بالتصريح من قِبَل الشارع بـ«تحديد موضوع المؤاخذة» (النحو الرابع). وكلا هذين التصحيحين يفتقر إلى دعامةٍ إثباتيّةٍ تنهض به.
في هذا النحو الأوّل الذي يصوّره الشهيد الصدر، يُفترض أنّ الترخيص الصادر من الشارع هو ترخيصٌ «مطلقٌ» في نفسه، وإن كان متعلَّقه مقيّداً. ففي عالم الجعل، يُفترض وجودُ ترخيصين مطلقين، إلّا أنّ كلا هذين الترخيصين لا يتعلّقان بترك كلِّ فعلٍ على إطلاقه، بل يتعلّقان بعنوانٍ مقيّد، وهو: «تركُ أحد الفعلين المقرونُ بالإتيان بالآخر».
معيار المخالفة والثمرة المترتّبة عليه
بناءً على معيار «الخطاب» (أي مخالفة الإنشاء لا الملاك): فبترك الجميع، لم يتحقّق أيٌّ من قيود الترخيص؛ فيكون كلٌّ من التركين «غير مرخَّصٍ فيه»، ويُنقَض بذلك خطابان مستقلّان. وتكون النتيجة عصيانين، ويستلزم ذلك قهراً تعدّد العقاب. وهذا هو المحذور المشترك عينه الذي أورده المحقّق الخوئي على تقريري المحقّق الأصفهاني.
بناءً على معيار «الملاك»: فإنّ ظاهر عبارة الشهيد الصدر يمكن توجيهه باتجاه القول بوحدة الملاك الفائت. فإنّ ما وقع هو «تركٌ غير مرخَّص فيه»، وبهذا الاعتبار يكون الفائت «ملاكاً واحداً» فحسب. وبتعبيرٍ توضيحيّ، إنّ افتراض «الترخيص المطلق في صعيد الجعل» يمكن أن يُتّخذ قرينةً على إغماض الشارع عن فوات أكثر من ملاك واحد، وجعلِه لموضوع المذمّة والعقاب منحصراً في «عدم تحقّق الواحد منها» على الأقل. وعليه، ففي صعيد الملاك، يُنظر إلى الفائت بوصفه «أحد الملاكين» أو «أحد الملاكات»، فتكون النتيجة هي وحدة المخالفة من حيث الملاك — حتّى في فرض ترك الجميع.
تبصرة منهجيّة: إرجاع وحدة العقاب إلى الترخيص في صعيد المؤاخذة، لا إلى مجرّد تقييد المرخَّص فيه
إنّ القول بوحدة العقاب في ظلّ هذا التقرير، إنّما يستند في حقيقته إلى «تحديد موضوع المؤاخذة»، لا إلى مجرّد الحفاظ على بنية الواجبات التعيينيّة المشروطة. فإنّه لو جُعِلَ المعيارُ هو «الخطاب»، لعاد محذورُ تعدّد العقاب من جديد. وأمّا إذا اتُّخِذ «الملاك» معياراً، وادُّعِيَ أنّ الشارع من خلال الترخيص قد حدّد موضوع المؤاخذة في عنوان «ترك ما لا يجوز تركه»، فإنّ هذا التحليل لم يَعُد في حقيقته مندرجاً في إطار النحو الأوّل الذي يقتصر على تقييد متعلَّق الترخيص، بل هو في جوهره رجوعٌ إلى النحو الرابع الذي طرحه الشهيد الصدر (وهو الترخيص في صعيد المؤاخذة).
نسبة ذلك إلى تقريرَي المحقّق الأصفهاني
في التقرير الأوّل (تعدّد الملاكات المتباينة): فبترك الجميع، وبناءً على معيار الخطاب، يكون تعدّد المخالفة والعقاب لازماً قهريّاً. وأمّا بناءً على معيار الملاك، فإنّ وحدة العقاب لا تتحقّق إلّا أن يُجعل «ترخيصٌ في صعيد المؤاخذة» على نحوٍ صريح. في التقرير الثاني (الغرض الواحد النوعيّ والخطابات المتعدّدة): فحتّى مع افتراض وحدة الغرض، وحيث إنّ الخطابات متعدّدة، وكلّ ترخيصٍ مقيّدٌ بـ «فعل الآخر»، فإنّ ترك الجميع — بناءً على معيار الخطاب — يفضي إلى تعدّد العقاب؛ وتبقى وحدة العقاب مفتقرةً إلى التحديد الصريح لموضوع المؤاخذة.
في هذا النحو الأوّل الذي يصوّره الشهيد الصدر، يُفترض أنّ الترخيص الصادر من الشارع في كلٍّ من العدلين هو ترخيصٌ «مطلقٌ» في نفسه، وإن كان متعلَّقه مقيّداً. فالمرخَّص فيه ليس هو تركُ كلِّ فعلٍ على إطلاقه، بل هو عنوان «تركُ أحد الفعلين المقرونُ بالإتيان بالآخر». وهو ما أفاده (قدس سره) في متن عبارته بقوله: «أن يرخّص ترخيصاً مطلقاً في ترك كلٍّ منهما، ولكن يقيّد متعلَّق الترخيص بترك كلٍّ منهما المقرون بفعل الآخر». وعليه، ففي عالم الجعل يوجد ترخيصان مطلقان، إلّا أنّ كليهما يتعلّق بذلك العنوان المقيّد — «تركُ هذا مع فعلِ ذاك» و«تركُ ذاك مع فعلِ هذا» — لا بترك كلِّ طرفٍ على إطلاقه.
بناءً على معيار «الخطاب» (أي مخالفة الإنشاء لا الملاك)، فإنّه بترك الجميع لم يتحقّق أيٌّ من قيود الترخيص؛ فيكون كلا خطابي الإلزام قد نُقِض، وهو ما يستلزم «عصيانين، ويترتّب عليه قهراً تعدّد العقاب». وأمّا بناءً على معيار «الملاك»، فبالتمسّك بعبارة «الفائتة أحدُ الملاكين»، يمكن توجيه الأمر بأنّ الترخيص المطلق يُعدُّ كاشفاً عن إغماض الشارع عن فوات ما هو أكثر من ملاكٍ واحد، وأنّه لا يبقى في البين إلّا «ملاكٌ واحدٌ» غير مرخَّصٍ فيه. وعليه، ففي صعيد الملاك، تتحقّق وحدة المخالفة — حتّى في فرض ترك الجميع.
إلّا أنّ هذا الجمع إنّما يرتكز على الانتقال بالمعيار من «الخطاب» إلى «الملاك». فما دام أنّ ميزان المخالفة هو «الخطاب»، يظلّ محذور تعدّد العقاب قائماً. وأمّا إذا نُقِل الميزان إلى «الملاك»، فإنّ القول بوحدة العقاب يؤول في حقيقته إلى «تحديد موضوع المؤاخذة» (أي الترخيص في صعيد المؤاخذة الذي يحصر موضوع العقاب في «ترك ما لا يجوز تركه»)، لا إلى مجرّد تقييد متعلَّق الترخيص. ومثل هذا التحديد يفتقر إلى بيانٍ زائدٍ ودعامةٍ إثباتيّة، وهو ما لا يتأمّن بمجرّد افتراض النحو الأوّل بما هو هو.
وفي التقرير الأوّل للمحقّق الأصفهاني — الذي يرتكز على «تعدّد الملاكات المتباينة» وجعلِ «التسهيل» في مقام الامتثال — إنّ القول بـ «الإغماض عن فوات الملاك» أو «الإذن في ترك الملاك مع بقاء الخطاب» لا ينسجم مع هذا الإطار التحليلي؛ وذلك لأنّ التسهيل في هذا التقرير ما هو إلّا تخفيفٌ في صعيد الامتثال، لا أنّه ترخيصٌ في صعيد الملاك نفسه. وعليه، فإنّ نقل المعيار من الخطاب إلى الملاك بغية الحفاظ على وحدة العقاب، من دون التصريح بتحديد موضوع المؤاخذة، يشتمل على تناقضٍ داخليّ. وأمّا في التقرير الثاني — القائم على فرض الغرض الواحد والخطابات المتعدّدة — فبسبب تقيّد التراخيص بـ «فعل الآخر»، فإنّ ترك الجميع — بناءً على معيار الخطاب — يفضي حتماً إلى تعدّد العقاب؛ وتبقى وحدة العقاب مرهونةً بالتحديد الصريح لموضوع المؤاخذة، ولا سبيل إليها إلّا بذلك.
إلّا أنّ هذا الجمع يرتكز على الانتقال بالمعيار من «الخطاب» إلى «الملاك». فما دام أنّ ميزان المخالفة هو «الخطاب»، فإنّ محذور تعدّد العقاب في فرض ترك الجميع يبقى قائماً. وأمّا إذا نُقِل الميزان إلى «الملاك»، فإنّ وحدة العقاب تؤول في حقيقتها إلى كونها متوقّفةً على «تحديد موضوع المؤاخذة» من قِبَل الشارع (أي الترخيص في صعيد المؤاخذة الذي يحصر المؤاخذة في الترك غير المرخَّص فيه)، لا على مجرّد اشتراط الترخيص؛ وهذا يفتقر إلى قرينةٍ إثباتيّةٍ مستقلّة.
الجامع المشترك بين النحوين الأوّل والثاني: إنّ هناك جامعاً مشتركاً جوهريّاً بين النحو الأوّل (الترخيص المطلق مع تقييد المتعلَّق) والنحو الثاني (الترخيص المشروط)، وهو أنّه لو جُعِلَ معيارُ المخالفة هو «الخطاب»، فبترك الجميع، وحيث لم يدخل أيُّ ترخيصٍ حيّز الفعليّة، تتعدّد المعصية والعقاب «بعدد الخطابات الفعليّة». وأمّا لو اتُّخِذ «الملاك» معياراً، فإنّ وحدة العقاب لا يمكن الدفاع عنها إلّا بالقبول بـ «تحديد موضوع المؤاخذة» من قِبَل الشارع؛ فمجرّد تقييد المتعلَّق أو اشتراط الترخيص لا يكفي لتقليل العقاب.
إنّ الميزان الذي يقضي به العقل العملي في تحديد الطاعة والمعصية هو مدى موافقة الخطاب ومخالفته، لا مقدار ما تمّ تحصيله من الملاك أو تفويته. فقد يصلّي المكلّف ولا يجني من آثارها المعنويّة شيئاً، ولكن بما أنّه قد امتثل الخطاب، تبرأ ذمّته من التكليف. وما من فقيهٍ يقول بالتشكيك في حقيقة الصحّة، وإن قيل بالتشكيك في مراتب القبول. وعليه، فما لم يتصدَّ الشارع بنفسه لتحديد موضوع المؤاخذة على نحوٍ مستقلّ، فإنّ تعدّد الخطابات هو المناط في تعدّد المخالفة، ويترتّب عليه بالتبع تعدّد العقوبة؛ وذلك بقطع النظر عمّا قد فات في صعيد الملاك من آثار.
النحو الثالث: الترخيص المتعلِّق بالجامع الانتزاعي «أحدها»
في النحوين السابقين، كان الترخيص يتعلّق مباشرةً بترك كلِّ طرفٍ على حدة، إمّا على نحو الإطلاق، أو مشروطاً بفعل الطرف الآخر. أمّا في هذا النحو الثالث، فالبنية مختلفة. فمع افتراض وجوب العتق ووجوب الإطعام، يُجعل الترخيص في «ترك أحدهما» بما هو «جامعٌ انتزاعيّ». فيكون متعلَّق الترخيص هو عنوان «أحدهما» المفهوميّ، لا ترك هذا الفرد أو ذاك بما هو كذلك. والنتيجة واضحة: إنّ ترك «أحدهما» مرخَّصٌ فيه، فإذا ترك المكلّف الجميع، لا تتحقّق إلّا مخالفةٌ واحدةٌ غير مرخَّص فيها، لا اثنتان أو ثلاث. والمآل الحقيقيّ لهذا التصوير هو القول بـ «الوجوب الواحد البدلي»، أي وجود تكليفٍ واحد (وهو تحصيل عنوان «أحدها»)، وله بدائل متعدّدة، ويكون ترك الجميع مساوقاً لترك ذلك التكليف الواحد.
تبصرة: لو كان هذا هو المقصود الحقيقيّ للمحقّق الأصفهاني من فكرة الترخيص، لأصبحت لوازم القول بـ «الوجوبات التعيينيّة المشروطة» أمراً زائداً لا طائل تحته؛ إذ إنّ السبيل المباشر حينئذٍ هو تقرير تعلُّق الوجوب منذ البداية بـ «الجامع الانتزاعي المعبَّر عنه بأحدها».
النحو الرابع: الترخيص في صعيد المؤاخذة وتحديد موضوع العقاب بـ «ترك المجموع»
في هذا النحو، يقوم الشارع — حتّى مع افتراض تعدّد الخطابات — بحصر موضوع المؤاخذة في عنوانٍ واحد، وهو «ترك المجموع». فالمبغوض هو ترك الجميع، لا ترك كلِّ طرفٍ بما هو هو. وعليه، لا يكون العصيان والعقاب إلّا واحداً؛ إذ يُنتزع من صلب تلك الخطابات المتعدّدة عنوانٌ واحدٌ للمؤاخذة، وهو «عدم تحصيل الحدّ الأدنى المطلوب» (أي ترك الجميع)، لا ترك الأطراف فرداً فرداً. وعلى هذا الأساس، فما دام لم يقع «ترك المجموع» (وذلك بالإتيان بأحد البدائل على الأقل)، تنتفي المؤاخذة. وأمّا في فرض ترك الجميع، فلا تتحقّق إلّا مخالفةٌ واحدةٌ ويترتّب عليها عقابٌ واحد.
التقييم والنتيجة: إنّ النحو الثالث، من خلال إرجاعه البنية إلى «وجوبٍ بدليٍّ حقيقيّ» (وهو وجوب الجامع الانتزاعي «أحدها»)، يجتثُّ محذور «تعدّد العقاب» من جذوره، وهو فضلاً عن ذلك أكثر انسجاماً مع ظاهر التخيير (من حيث العطف بأداة «أو» والقول بوجوب أحدها). كما أنّ مكمن القوّة فيه يكمن في تجنّبه لتكديس «الوجوبات التعيينيّة المشروطة» وما يترتّب عليها من لوازم. وأمّا النحو الرابع، فإنّه وإن كان يرتكز على تعدّد الإلزامات في صعيد الخطاب، إلّا أنّه يصون وحدة العقاب من خلال «تحديد صعيد المؤاخذة». بَيْدَ أنّه يفتقر إلى بيانٍ ودعامةٍ إثباتيّةٍ مستقلّةٍ تثبت أنّ الشارع قد أناط موضوع العقاب واقعاً بعنوان «ترك المجموع». فبدون هذا البيان، يفضي المناط العرفيّ للمخالفة (وهو مخالفة الخطاب) إلى القول بتعدّد العقاب عند ترك الجميع.
السبيل المنقَّح لصيانة وحدة العقاب
إذا كان الهدف هو صيانة وحدة العقاب في الواجب التخييري، فإنّ أمامنا مسلكين معقولين:
1- العدول عن إطار «الوجوبات التعيينيّة المشروطة» إلى القول بـ «وجوبٍ واحدٍ بدليّ» على الجامع الانتزاعي «أحدها».
2- أو التصريح بوجود «ترخيصٍ في صعيد المؤاخذة» يتمُّ من خلاله تحديدُ موضوع العقاب في عنوان «ترك مجموع الأطراف».
إنّ أوّل ما يُلحظ، في ضوء الدقّة التي أبداها الشهيد الصدر في صياغة أنحاء الترخيص، هو أنّ النحوين الثالث والرابع يقعان خارج محلّ كلام المحقّق الأصفهاني. فإنّ المحقّق الأصفهاني لا يقول بأنّ: «الوجوب يتعلّق بكلِّ طرفٍ على نحو التعيين، ثمّ يقع الترخيص على الجامع الانتزاعيّ المعبَّر عنه بأحدها» (وهو النحو الثالث)، ولا أنّ: «موضوع المؤاخذة يُحدَّد بترك المجموع» (وهو النحو الرابع). بل إنّ مبناه — في كلا تقريريه — يرتكز على أنّ كلَّ طرفٍ واجبٌ ثبوتاً على نحو التعيين، وأنّ الترخيص في ترك كلِّ طرفٍ إنّما هو، بملاك مصلحة التسهيل، مشروطٌ بالإتيان بالبديل الآخر، على نسق: «هذا الواجبُ التعيينيّ يجوز تركُه بشرطِ الإتيانِ بالآخر». وحتّى في تقريره الثاني الذي يفترض «الغرض الواحد النوعيّ»، يبقى متعلَّق الوجوب هو كلُّ فعلٍ على نحو التعيين، لا العنوان الجامع.
إنّ النقطة الجوهريّة التي يرتكز عليها البحث في الواجب التخييري برمّته هي أنّ الميزان في تحديد الامتثال والعصيان إنّما هو «موافقة الخطاب ومخالفته»، لا «استيفاء الملاك وتفويته»، بقطع النظر عن وحدة ذلك الملاك أو كثرته. فلو أنّ المولى أمر بقوله: «صلِّ»، فبمجرّد أن يصدق على ما أتى به المكلّف عنوان «هذه صلاةٌ»، يسقط التكليف وتبرأ الذمّة؛ حتّى وإن لم تتحقّق في حقّه الآثارُ الباطنيّة أو مراتبُ الكمال المترتّبة على الفعل. فالامتثال، على المستوى العقلائي، لا يتوقّف على تحصيل الأثر، بل إنّما يتقوّم بنفس الإتيان بالمأمور به. ويتّضح ذلك في مثال العبد والمولى؛ فلو قال المولى: «جئني بالماء»، فأتى به العبد، فإنّ ذمّته تبرأ، حتّى وإن لم ترتفع بذلك عُطشة المولى بالكامل، وذلك لأنّ المدار هو على امتثال الخطاب. وهكذا في الفقه، فإنّه لا يُتصوَّر التشكيكُ في حقيقة «الصحّة»، وإنّما يُطرح التشكيك في مراتب «الكمال» أو «القبول». وإن قيل بأنّه حيث إنّ غرض الشارع في بدائل الواجب التخييري هو «غرضٌ واحدٌ نوعيّ»، فإنّ ترك الجميع لا يستتبع إلّا عقاباً واحداً، فالجواب هو أنّ معيار المؤاخذة إنّما هو مخالفة الخطاب، لا مقدار ما يفوت من الغرض.
وعليه، فمع تعدّد الخطابات الفعليّة في ظلّ بنية «الوجوبات التعيينيّة المشروطة»، يكون ترك الجميع مستلزماً لتعدّد المخالفة، ويترتّب عليه بالتبع تعدّد العقاب؛ إلّا أن يكون الوجوب قد تعلّق منذ البداية بـ «الجامع الانتزاعي أحدها» (أي الوجوب الواحد البدلي)، أو أن يكون الشارع قد حدّد موضوع المؤاخذة على نحوٍ مستقلٍّ في عنوان «ترك المجموع». وأمّا في التقريرات التي تجعل «مصلحة التسهيل» في صعيد الامتثال، فإنّ الترخيص يكون ذا شأنٍ امتثاليٍّ (أي كفاية الإتيان بالواحد)، لا ذا شأنٍ مؤاخذاتيٍّ؛ وعليه، ففي فرض ترك الجميع، لا يكون الترخيص الامتثالي جارياً كي ينهض لتقليل العقاب.
نقد اتّخاذ «المقاصد» معياراً للجعل والاستنباط
إنّ التكليف لا بدّ أن يتعلّق بـ «الفعل المقدور المعيَّن»، لا بـ «الأثر والغاية غير المقدورة» التي يخرج حصولها عن دائرة اختيار المكلّف. وعليه، فإنّ تكليفاً من قبيل: «ائتِ بما يوجب المعراجيّة» يستحيل جعله عقلاً. إنّ القانون الحكيم لا يكون إلّا ضابطاً وتفصيليّاً؛ فكما أنّ عقلاء العالم في مقام التقنين لا يقولون: «استوردوا كلَّ ما هو مفيد»، بل يعيّنون المصاديق والحدود، كذلك الشارع الحكيم قد شرّع طرق تحصيل المقاصد من خلال أفعالٍ وقيودٍ محدّدة. فالاكتفاء بالعناوين السيّالة — كالكرامة والعدالة — من دون أن تكون هناك حجّة معتبرة أو نصٌّ ضابط، لا يفضي إلّا إلى الهرج والمرج في صعيد الجعل والاستنباط. إنّ القول بأنّ للدين مقاصد، وأنّ ترك المحرّمات والإتيان بالواجبات هو السبيل إلى نيلها، وأنّ الأحكام تابعةٌ للمصالح والمفاسد، كلُّ ذلك أمرٌ مفروغٌ عنه ولا نقاش فيه. إنّما مكمن النزاع هو في ما إذا كان يمكن لـ «المقاصد» أن تحلّ محلّ الأدلّة التفصيليّة على نحوٍ مستقلّ، فتكون هي المعيار للجعل والاستنباط؟ والجواب الأصوليّ — بناءً على مبنى المحقّق النائيني — هو بالنفي. فالمقاصد هي «موجِّهاتٌ» و«حِكَمٌ للحكم»، لا أنّها «مصدرٌ مولِّدٌ له».
المحصّلة: إنّ معيار الامتثال هو الخطاب لا الملاك. وعلى هذا الأساس، فإنّ كلَّ تحليلٍ ثبوتيٍّ للواجب التخييري يفضي إلى تكثّر الخطابات، يؤول في فرض ترك الجميع إلى تعدّد العقاب؛ إلّا بأحد طريقين: إمّا حمل الوجوب على «الجامع الانتزاعي أحدها»، وإمّا التحديد المستقلّ لموضوع المؤاخذة من قِبَل الشارع. و«المقاصد» لا تنهض لتكون بديلاً عن النصوص والموضوعات المنصوصة؛ فإنّ الجعل والاستنباط المنضبط يفتقر إلى حجّةٍ معتبرةٍ وقوالبَ ضابطة. وهذه الضابطة، كما أنّها تُعدّ ركيزةً في نقد التقعيدات المقاصديّة، فإنّها تشكّل مدخلاً أساسيّاً في التحليل الصناعي للواجب التخييري.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[1]- محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، با محمود هاشمی شاهرودی (قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، 1417)، ج 2، 414.
[2]- همان.
[3]- همان، 414-415.
[4]- همان، 415.
نظری ثبت نشده است .