درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

درس قبل

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/٢١


شماره جلسه : ۱۹

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • نفي دخالة الصلاة في أطراف العلم الإجمالي في الصورة الثالثة وإبطال دعوى الانحلال

  • البيان الصناعي للإشكال

  • قاعدة مجاري الأصول: الأصل في «أصل التكليف» لا في «كيفيات الوجوب»

  • تقريب المحقق الخوئي: ضرورة إيراد مثالٍ أدقّ للصورة الثالثة

  • الفرق بين الصورة الثالثة والأولى ونقد معيار «الانحلال» عند السيد الخوئي

  • بيان تقرير السيد الخوئي ونقده

  • الإشكال الأول: الشرط الصناعي للانحلال (وهو انطباق المعلوم بالإجمال)

  • الإشكال الثاني: عدم الانسجام في كبرى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين»

  • إشكالٌ وجوابه

  • الإشكال الثالث: التحديد الصحيح لأطراف العلم في الصورة الثالثة

  • الفارق المبنائي بين الصورة الثالثة والأولى

الجلسات الاخرى
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

خلاصة البحث السابق

يقول صاحب «منتقى الأصول» في تعليقته على الصورة الثالثة من كلام المحقق النائيني (بناءً على تقرير «الأجود» ونقل المحقق الخوئي): إنّ المكلف يعلم الآن أنّ «شيئاً ما» واجبٌ بالفعل، ولكنه يتردد في وجه وجوبه بين النفسي والغيري. ويعلم أيضاً أنّه لو كان وجوبه غيرياً، لكان ذو المقدِّمة هو الآخر فعلياً في الواقع، وإن لم تصله حجة إلزامه. والمثال البيّن هو النذر المردَّد بين الوضوء والصلاة: فإن كان متعلَّق النذر هو الوضوء، ثبت وجوبه النفسي. وإن كان متعلَّق النذر هو الصلاة، كان الوضوء واجباً غيرياً للصلاة المنذورة، وكان وجوب الصلاة فعلياً في الواقع، ولكن لم يصل «بيانه» إلى المكلف. وبحسب نظر المحقق النائيني، يجب الإتيان بالوضوء، وتجري البراءة بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشرائط في الصلاة غير الوضوء؛ وذلك لأنّ ترك الوضوء منشأٌ قطعي لاستحقاق العقاب، إمّا مباشرةً (على تقدير النفسية)، وإمّا بالتسبيب (على تقدير الغيرية وترك الصلاة)، بينما ترك الصلاة من جهاتٍ أخرى ليس معلوم العقاب لعدم وصول الحجة. 
وهذا هو بعينه «الانحلال الحكمي»: فالعلم الإجمالي بـ«إمّا نفسية الوضوء وإمّا نفسية الصلاة» ينحلّ في مقام التنجيز إلى «علمٍ تفصيلي بلزوم الوضوء» و«شكٍّ بدوي في نفسية الصلاة». فلا مجرى للأصل المؤمِّن في طرف الوضوء، فتجري البراءة في طرف الصلاة بلا معارض. وقد ارتضى المحقق الخوئي هذا المبنى، معتبراً أنّ قوام منجِّزية العلم الإجمالي هو «تعارض الأصول في الأطراف»؛ ولما كان الأصل لا يجري في الوضوء، فإنّ الانحلال الحكمي يتحقق. إلا أنّ نقد صاحب «المنتقى» ينصبُّ على التالي: بما أنّ الوجوب الغيري بما هو غيري ليس مجرىً للبراءة، فإنّ موضوع البراءة ينحصر في «النفسية». وعليه، تنعقد براءتان فعليتان (وهما نفي نفسية الوضوء ونفي نفسية الصلاة)، فتتعارضان، فلا يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز، ولا يتمّ الانحلال المدَّعى. الاستثناء: إلا أن يُقبَل مبنى المحقق النائيني في «تعلّق الأمر النفسي الضمني بالشروط كالأجزاء»؛ فحينئذٍ، تكون نفسية الوضوء — إمّا استقلالاً وإمّا ضمناً — معلومةً على كل تقدير، فلا مجرى للبراءة في الوضوء، فتجري البراءة من نفسية الصلاة بلا معارض، ويكون الانحلال الحكمي صحيحاً. وبحسب نظرنا في المقابل: فإنّ جعل الصلاة طرفاً للعلم في هذه الصورة غير صائب، وإنما ينحصر محل العلم الإجمالي في كون «ذلك الوجوب المعلوم نفسياً أم غيرياً» فحسب.

نفي دخالة الصلاة في أطراف العلم الإجمالي في الصورة الثالثة وإبطال دعوى الانحلال

تحرير الإشكال: في الصورة الثالثة، فإنّ علمنا متعلِّقٌ بـ«أصل وجوب شيءٍ معيَّن» (كالوضوء)، والتردد يدور حول كون «ذلك الوجوب نفسه نفسياً أم غيرياً» فحسب. وعلى هذا المبنى، فإنّ جعل «الصلاة» في عداد أطراف العلم الإجمالي لا وجه له؛ وذلك لأنّ الأطراف الحقيقية للعلم في هذه الصورة هي حيثيتان لوجوبٍ واحد معلوم (وهما النفسي/الغيري)، لا تكليفان مستقلان (وهما الوضوء/الصلاة). وعليه، فإنّ مبنى التحليل المشهور القائم على «الانحلال إلى علمٍ تفصيلي وشكٍّ بدوي»، والذي هو متفرّعٌ على جعل الصلاة طرفاً للعلم، ينتفي موضوعاً من الأساس.

البيان الصناعي للإشكال

تحديد طرفي العلم الإجمالي: في الصورتين السابقتين، كان وجوب الصلاة محرزاً على نحوٍ مستقل؛ ولهذا، وُضِع «الوضوء/التقييد» في عرض «الصلاة» على نحوٍ صحيح. وأما في الصورة الثالثة، فإنّ أصل وجوب الوضوء معلوم، والشك منحصرٌ في كيفيته (نفسي/غيري). ولهذا، فإنّ الصلاة ليست طرفاً للعلم الإجمالي في هذه الصورة أساساً حتى يُبنَى «الانحلال» على محور الوضوء والصلاة.

تصوير الشك في فعلية الصلاة: فإن لم يكن وجوب الصلاة فعلياً، كان التردد بالنسبة إليه عديم الأثر، ولا مجال للعلم الإجمالي. وإن كان الشك في «فعلية وجوب الصلاة»، فإنّ هذا الشك «بدويٌّ» من الأساس، ولا يقع طرفاً للعلم الإجمالي إلى جانب «وجوب الوضوء المعلوم»، حتى يُدَّعى الانحلال بعد ذلك. وعليه، ففي كلا الفرضين، لا تكون الصلاة طرفاً للعلم الإجمالي محل البحث.

عدم ترتّب الكشف الإنّي من «احتمال غيرية الوضوء» إلى «الوجوب النفسي للصلاة»: إنّ موضوع الصورة الثالثة هو التردد بين «نفسية وجوب الوضوء وغيريته». فلو ثبتت غيرية الوضوء على نحوٍ فعلي ويقيني، لأمكن حينئذٍ كشف «تقييد الصلاة»، وبالتالي فعلية وجوبها. ولكن في مقامنا، فإنّ لدينا مجرد «احتمال الغيرية»، لا إثباتها. وإنّ «احتمال الغيرية» — بما هو احتمال — لا يقوى على الكشف عن «الوجوب النفسي للصلاة». وعليه، فإنّ التردد في وجوب الصلاة هو «شكٌّ بدوي» من الأساس. وبناءً على ذلك، فإنّ تركيبة «العلم التفصيلي (في الوضوء) والشك البدوي (في الصلاة)» ليست ناتجاً للانحلال، بل هي الصورة الأولية وغير القابلة للانحلال للعلم نفسه.

قاعدة مجاري الأصول: الأصل في «أصل التكليف» لا في «كيفيات الوجوب»

إنّ البراءة ناظرةٌ إلى «أصل التكليف المجعول»، لا إلى «كيفيات الجعل في الوجوب» (نفسي/غيري). وعليه، فهي لا تنفي النفسية ولا الغيرية. وفوق ذلك، فبناءً على مبنى صاحب «المنتقى»، فإنّ «الوجوب الغيري المترشِّح» لا يكون مجرىً للبراءة. وفي مقامنا أيضاً، حيث إنّ أصل وجوب الوضوء معلوم، فإنّ موضوع البراءة بالنسبة إلى الوضوء منتفٍ. النتيجة: لو لم تكن ثمة أمارةٌ أو بيانٌ على فعلية ذي المقدِّمة (وهي الصلاة)، فإنّ البراءة تجري في ذي المقدِّمة نفسه، لا في المقدِّمة معلومة الوجوب.

شرط التنجيز في العلم الإجمالي: إنّ تنجُّز العلم الإجمالي فرعٌ لأن يكون لكلا طرفي العلم «إلزامٌ فعلي»، حتى يستلزم الترخيص في كلا الطرفين مخالفةً قطعيةً عملية. ففي الصورة الثالثة، فإنّ الصلاة — بناءً على فرض عدم فعليتها — خارجةٌ عن الأطراف من الأساس. ولو فُرضت فعلية الصلاة، فإنّ الصلاة هي الأخرى ليست طرفاً للعلم بـ«نفسية الوضوء أو غيريته»؛ بل ترجع المسألة إلى الصورة السابقة (وهي فعلية ذي المقدِّمة)، التي لها بنيةٌ مستقلة. وإنّ كون الوجوب نفسياً أو غيرياً ليس مساوقاً للفعلية أو عدمها. فبناءً على مبنى الجعل الاستقلالي في الغيريات (لا مجرد الترشّح)، من الممكن أن يكون الوجوب الغيري هو الآخر فعلياً من حيث الجعل. وفي هذه الحالة، لا يمكن تعليق فعلية وجوب المقدِّمة على فعلية ذي المقدِّمة على نحوٍ مطلق؛ إلا أن تُفرَض الغيرية إرشاديةً لا تأسيسية. وعليه، فإنّ بناء التعارض بين «البراءة من نفسية الوضوء» و«البراءة من نفسية الصلاة» على أساس «جعل الصلاة طرفاً للعلم» والخلط بين مقام الفعلية وكيفيات الجعل، هو بناءٌ مخدوش.

النتيجة: في الصورة الثالثة، لا تكون الصلاة في أيٍّ من الفرضين (الفعلي وغير الفعلي) طرفاً للعلم الإجمالي. وعليه، فإنّ مبنى «الانحلال» بمعنى تحليل العلم الإجمالي إلى «علمٍ تفصيلي وشكٍّ بدوي» ينتفي موضوعاً. فالتكليف الامتثالي بيّن: وهو أنّ «معلوم الوجوب» (كالوضوء أو الخِتان) يجب امتثاله؛ وإنما تجري البراءة في التكاليف المستقلة الفاقدة للفعلية فحسب (كالصلاة المشكوكة الفعلية). وقياس هذا المقام بباب الأقل والأكثر غير تامّ؛ وذلك لأنّ «الأقل» هناك معلومٌ بالتفصيل و«الأكثر» مجرىً للبراءة، وأما هنا، فإنّ بناء طرفٍ ثانٍ (وهو الصلاة) للعلم الإجمالي لا وجه له أساساً، ولا ترتكز دعوى الانحلال على مثل هذا الأساس.

وهذا المنطق نفسه يجري في مثال الخِتان. فلو أثبت الشارع أصل وجوب الخِتان وكان الشك منحصراً في كونه نفسياً أو غيرياً، فمع فرض ثبوت أصل الوجوب، يكون الامتثال لازماً. فإن لم يكن ذو المقدِّمة (كالحج) فعلياً (في صورة عدم الاستطاعة)، فمن البيّن أنّ الخِتان بوصفه معلوم الوجوب منجَّز، وتجري البراءة بالنسبة إلى الحج. ولو فُرض «احتمال فعلية» ذي المقدِّمة، فإنّ مثل هذا الاحتمال لا يرفع احتمال العقاب. فبناءً على «الرسائل» و«الكفاية»، يبقى التنجُّز قائماً ما لم يوجد «مؤمِّنٌ من العقاب»، وإنما يتحقق المؤمِّن حيثما جرى الأصل ودفع العقاب. وإنّ حديث «رفع ما لا يعلمون» إنما يكون مجرىً للبراءة حيثما لم يكن أصل التكليف محرزاً؛ والحال أنّ أصل الوجوب (للخِتان أو الوضوء) في ما نحن فيه ثابت، و«البيان» قائمٌ عليه. وعليه، فلا تجري البراءة الشرعية ولا العقلية؛ فلا يتحقق مؤمِّن، وتكون النتيجة هي امتثال الواجب المعلوم.

تقريب المحقق الخوئي: ضرورة إيراد مثالٍ أدقّ للصورة الثالثة

ينبّه السيد الخوئي على أنّه كان ينبغي للمحقق النائيني أن يورد مثالاً أنسب للصورة الثالثة. فلو لم يكن «الواجب الآخر» فعلياً، لكان مثال المرأة الحائض ملائماً: ففي حقها، لا فعلية لوجوب الصلاة، ولو كان وجوب الوضوء مردَّداً بين النفسي والغيري، فلا ريب في أنّ البراءة (بالنسبة إلى الوجوب النفسي للوضوء) تجري، كما هو الحال في مثال الخِتان؛ وذلك لأنّه على تقدير الغيرية، لا ينعقد تكليفٌ فعلي أصلاً. وأما للفرض الذي يكون فيه «الواجب الآخر» فعلياً، فإنه (قده) يقترح مثال النذر: وهو أن يكون المكلف قد نذر ولكنه لا يعلم هل متعلَّق النذر هو «الوضوء» أم «الصلاة». وهنا نواجه شبهتين اثنتين: 1- التردد في متعلَّق النذر (وضوء/صلاة). 2- وعلى تقدير تعلّق النذر بالوضوء، التردد في كون وجوب الوضوء نفسياً أم غيرياً.

تحليل السيد الخوئي: بالنسبة إلى الوضوء، فإنّ «استحقاق العقاب على جميع التقديرات» ثابت: فإن كان الوضوء نفسياً، كان تركه مستوجباً للعقاب استقلالاً. وإن كان غيرياً، آل تركه إلى ترك الصلاة المنذورة، فاستتبع العقاب. وعليه، فإنّ «أصالة البراءة» لا مجرى لها في الوضوء. فيبقى «أصالة البراءة من الوجوب النفسي للصلاة»، وهي تجري «بلا معارض»؛ وذلك لأنّه في طرف الوضوء، لا مجرى للأصل المؤمِّن أساساً (لكونه معلوم الوجوب). وعلى هذا الأساس، فإننا نرجع إلى البراءة بالنسبة إلى نفسية وجوب الصلاة، وأما بالنسبة إلى الوضوء — بسبب تنجُّز العلم — فلا يجري أي أصل.

الفرق بين الصورة الثالثة والأولى ونقد معيار «الانحلال» عند السيد الخوئي

في الصورة الأولى للمحقق النائيني، كان العلم التفصيلي بوجوب الوضوء ووجوب الصلاة مفروضاً، وكان الشك في تقييد الصلاة بالوضوء. ولهذا، اعتبر السيد الخوئي أنّ «أصالة البراءة عن التقييد» تتعارض مع «أصالة البراءة عن نفسية وجوب الوضوء»، واستنتج لزوم الاحتياط، على خلاف المحقق النائيني الذي لم يُجرِ إلا البراءة من التقييد. وأما في الصورة الثالثة، فالمفروض هو «علمٌ إجمالي»، لا علمٌ تفصيلي؛ فأصل وجوب شيءٍ ما (وهو الوضوء) معلوم، والشك يدور بين كونه نفسياً أو غيرياً. والسؤال هو أين يكمن مبنى الفرق، وهل معيار السيد الخوئي في «الانحلال الحكمي» تامّ؟

بيان تقرير السيد الخوئي ونقده

تقرير السيد الخوئي: دعواه (قده) هي أنّه لخروج أحد أطراف العلم الإجمالي، يكفي أن يثبت أنّ ذلك الطرف يستتبع تركه «استحقاق العقاب على كلا التقديرين». وفي مقامنا، فإنّ الوضوء كذلك: فإن كان نفسياً، استتبع تركه عقاباً مباشراً. وإن كان غيرياً، استلزم تركه ترك الصلاة (وهي واجبٌ فعلي)، فكان موجباً للعقاب بالتسبيب. وعليه، يتحصّل بالنسبة إلى الوضوء «وجوبٌ معلومٌ بالتفصيل»، وينحلّ العلم الإجمالي «حكماً» إلى «علمٍ تفصيلي وشكٍّ بدوي». وحينئذٍ، تجري البراءة بالنسبة إلى نفسية وجوب الصلاة بلا معارض.

الإشكال الأول: الشرط الصناعي للانحلال (وهو انطباق المعلوم بالإجمال)

الضابطة: في كل انحلال — حقيقياً كان أم حكمياً — لا بد أن «ينطبق المعلوم بالإجمال» على أحد الطرفين، حتى يغدو ذلك المعلوم نفسه «معلوماً بالتفصيل»، ويرجع الطرف الآخر إلى «شكٍّ بدوي». وهذا نظير العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين الذي ينحلّ بعد إحراز نجاسة أحد الإناءين، حيث ينطبق ذلك المعلوم الإجمالي عليه تفصيلاً.

المناقشة: في مقامنا، فإنّ مجرد دعوى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين» بالنسبة إلى الوضوء لا تُثبت «انطباق المعلوم بالإجمال» على الوضوء. إذ لا نزال نحتمل أن يكون متعلَّق النذر هو الصلاة، وأن لا يكون الوضوء متعلَّقاً للنذر أساساً. وعليه، فإنّ «المعلوم بالإجمال» (وهو الوجوب النفسي المردَّد بين الوضوء والصلاة) لم ينطبق بالفعل على أحد الطرفين، حتى يُقال إنّ «الوضوء واجبٌ بالتفصيل» وأنّ الطرف الآخر قد أصبح «شكاً بدوياً». وعليه، فإنّ المعيار اللازم لتحقق الانحلال — حتى على النحو الحكمي — غير حاصل.

الإشكال الثاني: عدم الانسجام في كبرى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين»

إنّ المحقق الخوئي يسلِّم في آنٍ واحدٍ بقضيتين اثنتين: 1- أنّ البراءة تجري بالنسبة إلى الوجوب النفسي للصلاة (وعليه، يكون العقاب على ترك الصلاة — بما هي هي — «عقاباً بلا بيان»). 2- وأنّ ترك الوضوء على تقدير غيريته يوجب العقاب (بملاك ترك الصلاة). وهذا الجمع، عند التدقيق، يجمع بين النقيضين؛ وذلك لأنّه لو كان ترك الصلاة «مؤمَّناً عنه» بالبراءة، فإنّ العقاب المترتب على ترك الوضوء من جهة ترك الصلاة هو الآخر منتفٍ. وفي هذه الحالة، فإنّ «استحقاق العقاب على تقدير الغيرية» لا يكون ثابتاً، فتنهدم كبرى «على كلا التقديرين». النتيجة: حتى مع التنزّل والقبول بالكبرى، فإنّ خروج الصلاة عن الأطراف وتحقق الانحلال — بالمعنى الصناعي الدقيق — لا يثبت.

وبعبارة أخرى، فإنّ المراد من هذا النقد هو تقييم مبنى آية الله الخوئي في الصورة الثالثة؛ حيث يقول لإثبات الانحلال الحكمي إنّ الوضوء يستتبع تركه «استحقاق العقاب على كلا التقديرين»، فيحلّ العلم الإجمالي حكماً إلى «علمٍ تفصيلي (في الوضوء) وشكٍّ بدوي (في الصلاة)»، وتجري البراءة من الوجوب النفسي للصلاة بلا معارض. وهذا التقرير يبدو غير تامٍّ من جهتين:

أولاً) المناقشة في كبرى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين» من حيث النذر: في مثال النذر — الذي يعتبره المحقق الخوئي ملائماً للصورة الثالثة — نواجه فرضين متمايزين: 1- فإن كان النذر قد تعلّق بالوضوء، فإنّ تركه يوجب مباشرةً العقاب الناشئ عن النذر. 2- وإن كان النذر قد تعلّق بالصلاة، فإنّ الالتزام بشروط الصلاة — ومنها الوضوء — إنما يلزم من «حيث شرطية الصلاة»، لا «من ناحية النذر». ففي هذا الفرض، فإنّ ترك الوضوء، إن استتبع عقاباً، فإنما هو من جهة ترك شرط الصلاة، لا من حيث مخالفة النذر؛ إذ إنّ الوضوء لم يكن متعلَّقاً للنذر أساساً. فدعوى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين من جانب النذر» تمثّل خلطاً بين حيثية النذر وحيثية الشرطية. ولازم ذلك هو أنّ إثبات استحقاق العقاب بالنسبة إلى الوضوء — بوصفه متعلَّقاً للنذر — لا يتمّ في كلا التقديرين. وعلى هذا، فإنّ مبنى السيد الخوئي في هذا المثال، بل وبالنسبة إلى مثال المحقق النائيني أيضاً، هو بدقةٍ أسوأ حالاً ومفتقرٌ إلى تنقيح الحيثيات.

ثانياً) السؤال عن الفارق بين الصورة الأولى والثالثة في الحكم بالاحتياط أو الانحلال: ففي الصورة الأولى، كان العلمان التفصيليان بوجوب الوضوء ووجوب الصلاة مفروضين، وكان الشك في تقييد الصلاة. وقد ارتضى المحقق الخوئي — على خلاف المحقق النائيني — تعارض «أصالة البراءة عن التقييد» مع «أصالة البراءة عن نفسية وجوب الوضوء»، وحكم بالاحتياط. وأما في الصورة الثالثة، فمع فرض «العلم الإجمالي» (لا التفصيلي)، فإنه يفتي بـ«الانحلال» وترك الاحتياط. فلو كان المبنى هو أنّ «العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي منجِّزٌ» عند فقدان المؤمِّن، لكان مقتضى الصناعة أن يبقى الاحتياط قائماً (أي لزوم الإتيان بالوضوء والصلاة)، إلا أن يُحرَز الانحلال بمعياره الصحيح واقعاً.

إشكالٌ وجوابه

فإن قيل: إنّ تنجُّز العلم الإجمالي منوطٌ بتعارض الأصول في الأطراف؛ فإذا لم يجرِ الأصل في أحد الطرفين أساساً (كحال الوضوء الذي يستتبع تركه «استحقاق العقاب على كلا التقديرين»)، فإنّ العلم الإجمالي لا أثر له، ويجري الأصل في الطرف الآخر (وهو البراءة من وجوب الصلاة) بلا معارض.

قلنا: أولاً، في كل انحلال — حقيقياً كان أم حكمياً — لا بد أن «ينطبق المعلوم بالإجمال» على أحد الطرفين، حتى يغدو ذلك المعلوم نفسه «معلوماً بالتفصيل»، ويرجع الطرف الآخر إلى «شكٍّ بدوي». وفي مقامنا، فإنّ مجرد دعوى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين» بالنسبة إلى الوضوء لا تُحرِز انطباق المعلوم بالإجمال (وهو الوجوب النفسي المردَّد بين الوضوء والصلاة) على الوضوء؛ وذلك لأننا لا نزال نحتمل أن يكون متعلَّق النذر هو الصلاة، وأن لا يكون الوضوء متعلَّقاً للنذر أساساً. فـ«العلم التفصيلي» بوجوب الوضوء — بوصفه ناتجاً للانحلال — غير متحصِّل، والطرف الآخر هو الآخر لا يرجع إلى «شكٍّ بدوي» محض.

وثانياً، حتى بناءً على التسليم بالكبرى، فإنّ الجمع بينها وبين «البراءة من الوجوب النفسي للصلاة» لا يخلو من تناقض. فلو كانت البراءة بالنسبة إلى نفسية وجوب الصلاة مؤمِّنة، لكان العقاب المترتب على ترك الوضوء من جهة ترك الصلاة — من تلك الحيثية نفسها — منتفياً أيضاً؛ وذلك لأنّ العقاب التبعي فرعٌ لثبوت العقاب الأصلي. فيتزلزل بذلك عنوان «استحقاق العقاب على تقدير الغيرية»، ويضعف مبنى خروج الطرف وتحقق الانحلال.

نكتةٌ مبنائية: هل قوام التنجيز هو حقاً «تعارض الأصول في جميع الأطراف»؟ أم أنّ نفس العلم الإجمالي بالإلزام، عند فقدان المؤمِّن، كافٍ للتنجيز — حتى لو لم يكن في أحد الأطراف مجرىً للأصل رأساً؟ فإن قُبِل بالثاني، فإنّ مجرد عدم جريان الأصل في أحد الطرفين لا يُسقِط التنجيز، ولا يفتح باب العدول عن الاحتياط، إلا أن يُحرَز الانحلال بناءً على معيار «انطباق المعلوم بالإجمال».

الإشكال الثالث: التحديد الصحيح لأطراف العلم في الصورة الثالثة

في الصورة الثالثة، فإنّ العلم متعلِّقٌ بـ«الوجوب المعلوم»، والشك منحصرٌ في «كيفية الوجوب» (نفسي/غيري). فالصلاة ليست «طرفاً للعلم» أساساً حتى يُتحدَّث عن تعارض البراءتين بالنسبة إلى نفسية الوضوء ونفسية الصلاة. وعليه، فإنّ بناء «الانحلال» على مبنى خروج الوضوء وجريان البراءة في الصلاة، يرتكز على جعل الصلاة طرفاً للعلم على نحوٍ غير صائب.

الفارق المبنائي بين الصورة الثالثة والأولى

الصورة الأولى: العلم تفصيليٌ بوجوب الوضوء ووجوب الصلاة، والشك في التقييد. ولهذا، فإن قُبِل بتعارض البراءتين (نفي التقييد/نفي نفسية الوضوء)، كانت النتيجة هي الاحتياط. وإن اعتُبر أنّ مجرى الأصل هو «المجعول» (وهو التقييد)، جرت البراءة من التقييد بلا معارض.

الصورة الثالثة: لدينا علمٌ إجمالي بوجوب شيءٍ واحد (وهو الوضوء) إمّا نفساً وإمّا غيراً، والصلاة خارجةٌ عن أطراف العلم. ولهذا، فإنّ معايير الصورة الأولى لا تُطرَح هنا. فدعوى «الانحلال» في هذه الصورة، من دون إحراز «انطباق المعلوم بالإجمال على أحد الطرفين»، غير تامة.

النتيجة الصناعية: إنّ معيار السيد الخوئي في الانحلال الحكمي، المرتكز على «استحقاق العقاب على كلا التقديرين» بالنسبة إلى الوضوء، قاصرٌ من جهة الشرط اللازم للانحلال (وهو انطباق المعلوم بالإجمال)، وهو يقع في تناقضٍ عند جمعه مع البراءة الجارية في الصلاة. وعليه، فإنّ خروج الصلاة عن أطراف العلم وتحقق «الانحلال» بالمعنى الصناعي الدقيق لم يثبت. فمقتضى الصناعة في الصورة الثالثة هو: أنّ امتثال «معلوم الوجوب» (وهو الوضوء) واجب؛ وإنما تجري البراءة بالنسبة إلى التكليف المستقل الفاقد للبيان (وهو نفسية وجوب الصلاة، على فرض عدم الحجة). فأين الانحلال؟

الخلاصة: إنّ دعوى «استحقاق العقاب على كلا التقديرين من حيث النذر» تمثّل خلطاً بين حيثية النذر وحيثية شرطية الصلاة، وهي غير تامة. وإنّ التفريق الذي يضعه المحقق الخوئي بين الصورة الأولى (حيث الاحتياط) والصورة الثالثة (حيث الانحلال) يفتقر إلى توضيح مبنائي بيّن؛ فمع مجرد العلم الإجمالي وفقدان المؤمِّن، يكون مقتضى الصناعة هو الاحتياط. كما أنّ جعل «تعارض الأصول» قواماً للتنجيز هو بنفسه محل تأمل؛ فالتنجيز فرعٌ للعلم وفقدان المؤمِّن، و«الانحلال» لا يتمّ إلا بإحراز انطباق المعلوم بالإجمال على أحد الطرفين. وعليه، فلا انحلال في البين.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


الملصقات :

الوجوب النفسي الوجوب الغيري العلم الإجمالي أصالة البراءة الانحلال الحكمي تعارض الأصول أصالة الاشتغال الانحلال الحقيقي فعلية التكليف الأقل والأكثر

نظری ثبت نشده است .