درس بعد

الواجب النفسی و الغیری

درس قبل

الواجب النفسی و الغیری

درس بعد

درس قبل

موضوع: الواجب النفسی و الغیری


تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٦/٢٤


شماره جلسه : ۳

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • خلاصة البحث السابق

  • الإشكال للإمام الخميني على تقرير المحقق الأصفهاني

  • وقفة عند إشكال السالبة المحصَّلة

  • التعريف باللازم أم بالذات؟ نقد الإمام الخميني على تقرير النفسية ونتيجته

  • التقريرات الثلاث في قيد النفسية والغيرية وما يترتب عليها في أصالة الإطلاق

  • ملازمة النفسية للإطلاق عند صاحبِ منتقى الأصول

  • تقييم كلام السید الروحاني

  • النظرية المختارة في التمسك بالإطلاق

  • إشكال السید الروحاني: التهافت الظاهري في "الكفاية"

  • الجمع المحتمل للتهافت الظاهري في "الكفاية" من منظار السید الروحاني

  • امتناع اللحاظ الاستقلالي للهيئة على مبنى الآخوند: نقدٌ على جواب السید الروحاني

  • المصادر

الجلسات الاخرى

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِیم
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین


خلاصة البحث السابق

كان محور البحث يدور حول مقتضى الأصل اللفظي عند دوران الأمر بين الوجوب النفسي والغيري. وعلى مبنى المحقق الخراساني، فإنّ إطلاق هيئة الأمر (أو إطلاق الصيغة) له ظهورٌ منعقدٌ في النفسية؛ إذ إنّ الغيرية متقوّمةٌ بقيدٍ زائد وهو «للغير»، فيفتقر إثباتها إلى قرينة، بينما لا تحتاج النفسية إلى بيانٍ خاص، بل تُحرَز بجريان مقدمات الحكمة. وقد ارتفع الإشكال المنطقي المتمثل في «تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره»، الوارد على ظاهر عبارة الآخوند، من خلال التبيين الذي قدمه المحقق الأصفهاني، وهو الفصل بين «الإطلاق المقسَمي» (أي طبيعة الوجوب المهملة) و«الإطلاق القِسمي» (أي نفي القيد الخاص في مقام التقسيم)؛ فالنفسي ليس عيناً للمقسَم، بل هو «عدمُ أخذِ قيدِ الارتباطِ بالغير»، في مقابل الغيرية التي هي «أخذُ ذلك القيد».
 كما تمّ التنبيه على أنّ «المطلق» في الفلسفة أمرٌ ثبوتي (ناظرٌ إلى حدود الوجود)، بينما «الإطلاق» في علم الأصول أمرٌ إثباتيٌ هو محصّل مقدمات الحكمة؛ وأنّ الخلط بينهما منشأٌ للالتباس. وقد تلخّصت نكات المحقق الأصفهاني الأربع في ما يلي: 1- أنّ كلا العنوانين مقيّد؛ فالنفسي مقيّد بالقيد العدمي (عدمُ كونِ الوجوبِ ناشئاً من الغير)، والغيري مقيّد بالقيد الوجودي (كونُ الوجوبِ ناشئاً من الغير). 2- أنّ أثر التمايز بين القيدين يظهر في أنّ القيد الوجودي يفتقر إلى بيان، بينما يُحرَز القيد العدمي بالإطلاق. 3- أنّ متعلَّق أصالة الإطلاق هو إثبات النفسية بوصفها «عدمَ التقييد بما يفيد الغيرية»، لا إثبات «الوجوب المطلق»، وإلا لزم الخروج عن محل النزاع. 4- عدم معقولية جريان «الإطلاق» من حيثية منشأ الجعل (الانبعاث/عدمه)؛ لكونها حيثية ثبوتية وراء الدلالة، لا تُؤخَذ في مدلول الخطاب. وعليه، فإنّ الإطلاق المعيِّن للنفسية إنما يعني نفي التقييد بالقيد المفيد للغيرية. وهذا المنطق عينه يجري في المبحثين المتناظرين: ففي التعييني/التخييري يُنفى قيد البدلية، وفي العيني/الكفائي يُنفى قيد كفاية فعل البعض. فالمتحصّل العملي هو أنه في موارد الشك، وما لم تقم قرينة معتبرة على «للغير»، فإنّ الإطلاق يدلّ على النفسية؛ وفي فرض انسداد باب الإطلاق أو تعارض القرائن، يُصار إلى الأصل العملي المناسب.

الإشكال للإمام الخميني على تقرير المحقق الأصفهاني

لقد أورد الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) جملةً من النقود على التقرير الذي قدّمه المحقق الأصفهاني (أعلى الله مقامه). وينصبُّ إشكاله الأول على كيفية تعريف «الوجوب النفسي». فإنّ المحقق الأصفهاني قد ذهب إلى أنّ: «النَّفسيّة ليست إلّا عدم كون الوجوب لِلغير»؛ أي أنّ النفسية عنوانٌ عدمي. وهنا يَرِدُ إشكال الإمام (قده)، ومفاده أنّ هذا التقرير، إذا أُخِذ على إطلاقه، يؤول إلى ما يُصطلح عليه بـ«السالبة المحصَّلة». والحال أنّه لا يسعنا أن نعرّف الواجب النفسي على نحوٍ تكون محصّلته النهائية قضيةً من سنخ السالبة المحصَّلة.

وتوضيح ذلك أنّ «السالبة المحصَّلة» في علم المنطق قوامها نفي المحمول عن الموضوع، ومناط صدقها أنها تصدق عند انتفاء الموضوع كما تصدق عند ثبوت الموضوع مع انتفاء المحمول عنه. فإذا قلنا: «زيدٌ ليس بقائم»، فإنّ هذه القضية تكون صادقةً عند انتفاء الموضوع (أي عدم وجود زيد أصلاً)، كما تكون صادقةً عند وجود زيد مع انتفاء القيام عنه. فبحسب نظر الإمام (قده)، لو أخذنا النفسية بمجرد «عدمِ كون الوجوب للغير»، لوقعنا في محذورٍ مماثل؛ فإنّ قضية «وجوب التعلّم ليس للغير» يمكن أن تصدق صورياً حتى مع فرض عدم ثبوت وجوبٍ للتعلّم أصلاً. وحينئذٍ، يصدق عنوان النفسية على نحو السالبة المحصَّلة، من دون أن يستلزم ذلك إثبات «نفس الوجوب» من جهة، أو «نفي الغيرية على تقدير ثبوت الوجوب» من جهة أخرى. والحال أنّ من شأن التعريف الأصولي أن يكون «مميِّزاً مُثبِتاً»، لا مجرّد حكمٍ سلبيٍّ يجتمع مع انتفاء الموضوع أيضاً.

وببيان آخر: إنّ المطلوب في مقام النزاع هو تعيين نسبة الوجوب المفروغ عن ثبوته إلى الغير. فإذا كان «تعريف النفسية» مجرّد نفي النسبة إلى الغير، فإنّ هذا النفي، من دون أن يكون مسبوقاً بفرض «ثبوت نفس الوجوب»، يمكن أن يُحكَم بصدقه على نحو السالبة المحصَّلة، ويفقد بذلك وظيفته التمييزية. ولأجل ذلك، يُنبّه الإمام (قده) على أنه لا ينبغي اختزال تعريف النفسية في مقام الإثبات في قالبٍ يكون منسجماً مع «انتفاء الموضوع» أيضاً. وهو ما يقرّره (قده) بقوله:

وما يقال: إنّ النفسية ليست إلّاعدم كون الوجوب للغير، وكذا البواقي، وعدم القرينة على القيود الوجودية دليل على عدمها، وإلّا لزم نقض الغرض، لا أنّ النفسية والغيرية قيدان وجوديان .

مدفوع؛ ضرورة امتناع كون النفسية عدم الغيرية على نعت السوالب المحصّلة الصادقة مع عدم الوجوب رأساً.[1]

وقفة عند إشكال السالبة المحصَّلة

يمكن أن يُقال في مقام الجواب عن هذا الإشكال: إنّ تقرير المحقق الأصفهاني إنما هو ناظرٌ إلى مرحلة ما «بعد الفراغ عن أصلِ الثبوت»؛ فبعد إحراز أصل الوجوب بواسطة خطاب الأمر، فإنّ نفي «قيد للغير» بالإطلاق لا يؤول إلى السالبة المحصَّلة؛ إذ الموضوع (وهو الوجوب) مفروغٌ عن تحققه، والنفي حينئذٍ إنما ينصبّ على المحمول الرابطي فحسب. بيد أنّ جوهر التنبيه الذي يثيره الإمام (قده) هو ضرورة توخّي الدقة في التعبير وفي مقام أخذ القيد، حتى لا يُفهَم تعريفُ النفسية على أنّه من سنخ السالبة المحصَّلة، فيخرج بذلك عن محل النزاع.

ولأجل ذلك، يرى المرحوم الإمام (قده) أنّ المخرج من هذا الإشكال يكمن في إعادة صياغة التعريف في قالب ما يُصطلح عليه بـ «الموجبة معدولة المحمول»؛ وذلك بأن يُقال: «وجوبٌ لا لغيره»، نظير قولنا: «زيدٌ لا قائمٌ». ففي هذه البنية التركيبية، يكون النفي قد عَدَلَ عن موقعه الأصلي في رابطة الحمل ليصبح جزءاً لا يتجزأ من المحمول نفسه. والفرق بينه وبين قولنا: «زيدٌ ليس بقائم» بيّنٌ؛ ففي «زيدٌ لا قائمٌ»، نفترض وجود الموضوع أولاً ثم نحمل عليه محمولاً مركّباً، لا أننا نكتفي بنفي المحمول على نحو السالبة المحصَّلة. وتطبيق هذه النكتة أصولياً يقتضي أنّه يُحرَز أولاً أصلُ الوجوب بنفس خطاب الأمر، ثم بواسطة أصالة الإطلاق، يُحمَل محمولُ «لا لغيره» على ذلك الوجوب المفروغ عن ثبوته.

وبهذا المسلك، يُحتَرَز من إشكال السالبة المحصَّلة من جهة، ويتحقق مقصود النزاع — وهو تعيين نسبة الوجوب إلى الغير — على نحوٍ إثباتي من جهة أخرى. ويشير (قده) إلى هذا المبنى بقوله:

مع أنّ الوجوب والوجود لا يمكن أن يكونا نفس العدم، بل النفسية إمّا وجوب لذاته، أو لا لغيره على نعت الموجبة المعدولة أو السالبة المحمول، فحينئذٍ كما أنّ الوجوب لغيره يحتاج إلى بيان زائد على أصل الوجوب، كذلك الوجوب لا لغيره.[2]

وببيان آخر: فإنّ إشكال الإمام (قده) ينصبّ على الصياغة المنطقية للتعريف؛ فإذا فُهِمَت النفسية على أنها مجرّد «عدمِ كونه للغير»، من دون أن يُلحَظ معها ثبوت الموضوع، فإنّ ذلك يؤول إلى قضيةٍ سلبيةٍ تفتقر إلى الوظيفة التمييزية. وأما إذا صيغ التعريف على نحو «وجوبٌ لا لغيره»، فإنّ ثبوت الموضوع يكون ملحوظاً من جهة، ووصف «لا لغيره» يُحمَل عليه بوصفه محمولاً موجباً معدولاً من جهة أخرى؛ وبذلك تُحفَظ للتعريف وظيفته التمييزية على أتمّ وجه.

وعلى هذا، فإمّا أن يُقرَّر التعريف في قالب «الموجبة معدولة المحمول» بأن يُقال: «وجوبٌ لا لغيره» — تماماً كما هو الفارق البيّن في علم المنطق بين «زيدٌ ليس بقائم» و «زيدٌ لا قائمٌ»؛ إذ يُفترَض في الثانية وجود الموضوع ويُحمَل عليه محمولٌ مركّب. وإمّا — على أقل تقدير — أن يُصرَّح بأنّ هذا السلب إنما هو ملحوظٌ «بعد الفراغ عن ثبوت أصل الوجوب»؛ أي أنّه بعد إثبات الوجوب بواسطة خطاب الأمر، يُحمَل عليه محمولُ «لا لغيره» بواسطة أصالة الإطلاق. وعلى هذا المبنى، يكون المجرى الصحيح للإطلاق هو كالتالي:

أولاً: يُثبت الأمرُ نفسَ الوجوب. ثانياً: يقتضي إطلاقُ الهيئة «عدمَ التقييد بما يفيد الغيرية». ثالثاً: وبهذا اللحاظ، يُحمَل وصفُ «لا لغيره» على الوجوب المفروغ عن ثبوته. وبهذا المسلك المنهجي، يُحتَرَز من محذور السالبة المحصَّلة من جهة، ويتحصّل مقصود النزاع — وهو تمييز النفسية عن الغيرية — على نحوٍ مثبتٍ ومميِّزٍ من جهة أخرى.

التعريف باللازم أم بالذات؟ نقد الإمام الخميني على تقرير النفسية ونتيجته

بعد الفراغ من إشكال السالبة المحصَّلة، تتوجّه النكتة الثانية التي يثيرها الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) إلى صميم تعريف الواجب النفسي نفسه. فبحسب نظره (قده)، فإنّ تعريف الواجب النفسي بأنّه «واجبٌ لا لغيره» يؤول إلى «تفسير الشيء بلازمه»، لا بحقيقة معناه. إذ إنّ وصف «لا لغيره» هو من لوازم النفسية، وليس هو عين حقيقتها.

وعلى هذا الأساس، يصرّح الإمام (قده) بأنّ التعريف الصحيح إنما هو التعريف المشهور، وهو القائل بأنّ الواجب النفسي هو «ما وُجِبَ لنفسه» أو «الوجوب لذاته»؛ وأنّ الواجب الغيري هو «ما وُجِبَ للغير». وعلى هذا المبنى، يرتكز كلا العنوانين على قيدٍ إيجابي: ففي النفسية، تُمثّل حيثية «لنفسه» قيداً إيجابياً لنسبة الوجوب؛ وفي الغيرية كذلك، تُعَدّ حيثية «للغير» قيداً إيجابياً. وعليه، فإنّ اختزال النفسية في مجرّد «عدم الترشُّح أو عدم الانبعاث من الغير»، وإن كان يكشف عن لازمها، إلا أنه لا يمثّل تعريفاً مميِّزاً لذات المعنى. وبالتعبير المنطقي الدقيق، فإنّ «لا لغيره» يُعَدُّ رسماً لزومياً، لا حدّاً كاشفاً عن الماهية. ويترتب على هذا الإصلاح المفهومي أثرٌ أصوليٌ مهم، وهو أننا لا نثبت النفسية مباشرةً بإطلاق الهيئة، بل إنّ مسار الاستدلال يكون كالتالي:

أولاً: نُحرِز أصلَ الوجوب بنفس الأمر. ثانياً: بواسطة أصالة الإطلاق، نُثبت «عدمَ التقييد بما يفيد الغيرية»؛ وذلك لأنّ قيد «للغير» قيدٌ وجوديٌ زائد يفتقر إلى قرينة. ثالثاً: وبعد نفي هذا القيد، وبحكم انحصار التقسيم الحاصر بين «إمّا لنفسه وإمّا لغيره»، تتحصّل النفسية نتيجةً لذلك. فالنفسية إذن لا تثبت عن طريق حمل «لا لغيره» بوصفه تعريفاً، بل بوصفه لازماً يُنتزَع بعد رفع الضد.

وعلى هذا، فإنّ نقد الإمام (قده) يعلّمنا نكتتين جوهريتين: 1- وجوب رجوع التعريف إلى «لنفسه/لغيره»، لا إلى مجرد السلب. 2- أنّ مجرى الإطلاق يبقى هو «نفي القيد الوجودي للغيرية»، وأنّ النفسية تُحرَز تبعاً لذلك وبعد الفراغ عن ثبوت الموضوع. وهذه الصياغة المنهجية تخلّصنا من محذور التعريف باللازم من جهة، وتحفظ آلية الدلالة اللفظية من جهة أخرى. ويشير المرحوم الإمام (قده) إلى هذا المبنى بقوله:

مع أنّ التحقيق أنّ تعريف النفسي بالوجوب لا لغيره تعريف بلازمه، بل النفسية هو الوجوب لذاته والغيرية لغيره، وهما قيدان وجوديان، وعلى أيّ حال لم يكن النفسي هو نفس الطبيعة والغيري هي مع قيد، لا عقلاً - وهو واضح - ولا عرفاً؛ ضرورة أنّ تقسيم الوجوب إلى النفسي والغيري صحيح بحسب نظر العرف.[3]

التقريرات الثلاث في قيد النفسية والغيرية وما يترتب عليها في أصالة الإطلاق

فالمتحصّل مما تقدم حتى الآن هو أننا في نسبة النفسية إلى الغيرية أمام ثلاث تقريراتٍ رئيسة:

1- تقرير المحقق الخراساني: ومفاده أنّ الوجوب النفسي لا قيد له، وأنّ الوجوب الغيري هو الذي يفتقر إلى قيدٍ وقرينةٍ زائدة.

2- تقرير المحقق الأصفهاني: ومفاده أنّ كلا القسمين مقيّد؛ غاية الأمر أنّ قيد النفسية عدمي (وهو «عدمُ كونِ الوجوبِ ناشئاً مِنَ الغير»)، وقيد الغيرية وجودي (وهو «كونُ الوجوبِ ناشئاً مِنَ الغير»).

3- تقرير الإمام الخميني والمحقق اللنكراني (رضوان الله تعالى عليهما): ومفاده أنّ كلا القسمين ذو قيدٍ وجودي؛ فالواجب النفسي هو «ما وجب لنفسه» أو «الوجوب لذاته»، والواجب الغيري هو «ما وجب للغير».

ويترتب على هذا المبنى الثالث أنّ كلا القيدين خارجٌ عن حقيقة «الوجوب»، وأنّ كليهما يفتقر إلى بيان؛ وعليه، فإنّ «أصالة الإطلاق» بمفردها لا تقوى على إثبات أيٍّ منهما. وبهذا يتضح وجه النقد الموجَّه إلى تقرير المحقق الأصفهاني أيضاً؛ فإنّه إنما جعل النفسية أمراً عدمياً ليقول إنها لا تفتقر عرفاً إلى بيان. إلا أنّ الإمام (قده) قد نبّه على أنّ هذا القيد العدمي يواجه معضلة: فإمّا أن يُفهَم على أنه من سنخ السالبة المحصَّلة، وحينئذٍ يصدق حتى مع «انتفاء الموضوع»، فيفقد التعريف بذلك وظيفته التمييزية. وإمّا أن يُؤخَذ على أنه من سنخ الموجبة معدولة المحمول (كنحو «وجوبٌ لا لغيره» قياساً على «زيدٌ لا قائمٌ»)، وحينئذٍ يصبح هو نفسه مفتقراً إلى بيان، ولم يعد مما يُستفاد بمجرد الإطلاق السكوتي. فالخلاصة النهائية للأقوال هي كالتالي:

على مبنى المحقق الأصفهاني، تكون النفسية قيداً عدمياً يُحرَز بإطلاق الهيئة، بينما تكون الغيرية قيداً وجودياً يفتقر إلى قرينة. وعلى مبنى الإمام والوالد المرحوم (رضوان الله عليهما)، فإنّ النفسية والغيرية كلتيهما قيدان وجوديان («لنفسه» و«لغيره»)، وكلاهما يفتقر إلى بيان. وعليه، فإنّ «أصالة الإطلاق» لا تتكفّل بإثبات أيٍّ منهما، وإنما تكون غاية وظيفتها هي رفض القيود، لا إثبات قيدٍ معيّن. وعلى هذا المبنى الأخير، ففي موارد الشك، وما لم تقم قرينة معتبرة على قيد «للغير»، فإنّ مجرد الإطلاق لا يكفي لإثبات قيد «لنفسه»؛ بل لا بدّ إمّا من إقامة دليلٍ مستقل على النفسية، وإمّا أن تصل النوبة - عند فقدان الحجّة اللفظية - إلى الأصل العملي المناسب. وأما تفصيل الثمرات المترتبة على ذلك في الفروع الفقهية، كوجوب «تعلّم الأحكام»، فهو متفرّعٌ على اختيار أحد هذه المباني، وسيأتي بيانه لاحقاً.

ملازمة النفسية للإطلاق عند صاحبِ منتقى الأصول

بعد استعراض ونقد تقرير المحقق الأصفهاني والإشكالات التي أثارها الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليهما)، نتعرض الآن لكلام المرحوم السيد الروحاني في كتابه «منتقى الأصول». يستهلّ (قده) بحثه بالتنبيه على أنّ كل قسم من أقسام الواجب الثلاثة (النفسي/الغيري، والتعييني/التخييري، والعيني/الكفائي) إنما يقوم على خصوصيةٍ بها يمتاز عن مقابله. أما النكتة المبتكرة في تقريره فتكمن في القول بأنّ «خصوصية النفسية» بالذات تتلاءم مع نحوٍ من أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه. ويبيّن هذا المبنى بعبارته فيقول:

وحل هذا الإشكال واضح: فان التعيينية والنفسيّة والعينية وان كان كل منها خصوصية طارئة على الوجوب، إلا انها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاصّ بالملازمة، فحيث ان خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقا سواء أتى به آخر أو لم يأت به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازما لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينيا، كما ان خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة الإتيان بشيء آخر وعدمه، وخصوصية النفسيّة ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبت الخصوصية الملازمة له فلاحظ.[4]

فبحسب بيانه (قده)، فإنّ النفسية ليست «فرداً خاصاً» من كلّي الوجوب يُؤخَذ في الدليل على نحوٍ مستقل، بل هي خصوصيةٌ تتلاءم وتتلازم مع نحوٍ معيّن من إطلاق الوجوب؛ فمتى ما ثبت ذلك الإطلاق (من السنخ المناسب للنفسية)، ثبتت النفسية بالملازمة. والمراد من هذا «الإطلاق الملازِم» ليس إلا نفيَ أخذِ قيدٍ يفيد الغيرية في مقام البيان. وبعبارة أخرى: فإذا لم يُحمِّل خطابُ الأمر الوجوبَ أيَّ نسبةٍ من سنخ «للغير»، فإنّه يتحصّل عرفاً نحوٌ من إطلاق الوجوب يكون ملازماً للنفسية. وتكمن الثمرة العملية لهذا التقرير في أنّه يحفظ دور أصالة الإطلاق في إحراز النفسية، لا عن طريق تعريف النفسية بالسلب المحض، بل عن طريق إثبات ذاك الإطلاق الذي يكون متلازماً مع النفسية عرفاً.
تقييم كلام السید الروحاني

فإذا كان المراد بـ«أنحاء الإطلاق» هو الإطلاق القِسمي (أي نفي التقييد بالقيد الوجودي «للغير» في مدلول الخطاب)، فإنّ هذا التقرير ينسجم مع التحليل المتقدم، ولا يرجع في حقيقته إلا إلى صياغةٍ أخرى لـ«الإطلاق المعيِّن للنفسية»؛ إذ بمقتضاه، تتحصّل النفسية بالملازمة بعد إثبات عدم التقييد بما يفيد الغيرية. وأما إذا أُريد بـ«الإطلاق» معنى «الوجوب المطلق» (أي الإطلاق المقسَمي أو طبيعة الحكم المهملة)، فإنّ الإشكال حينئذٍ يكمن في التالي:

إنّ إثبات طبيعة الحكم المهملة يمثّل خروجاً عن محل النزاع، ولا يعيّن النفسية من جهة. كما أنّ دعوى الملازمة بين «طبيعة الوجوب المطلق» و«النفسية» هي نفسها دعوى تفتقر إلى برهانٍ مستقل من جهة أخرى. وعليه، يمكن تبنّي قراءة صاحب "المنتقى" على نحوٍ لا ينافي النقد الذي أثاره الإمام (قده):

فالنفسية ليست تعريفاً بالسلب المحض، ولا هي من سنخ «ثبوت مطلق الوجوب»؛ بل هي وصفٌ يتلازم، في عرف البيان، مع الإطلاق القِسمي للوجوب (الذي يرجع إلى نفي قيد «للغير»). وعليه، فحيثما كان لأصالة الإطلاق مجرىً فعال، ولم يُحرَز القيد المفيد للغيرية، تثبت النفسية بالملازمة. وحيثما قامت القرينة المعتبرة على قيد «للغير»، تنقطع هذه الملازمة ويُحكَم بالغيرية.

والآن، نتعرض بالتقييم والنقد للدعوى التي تبنّاها صاحب «منتقى الأصول»، ومفادها أنّ: «خصوصية النفسية تتلاءم مع نحو من أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه؛ فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاص بالملازمة». والذي يبدو لنا أنّ هذه الدعوى تفتقر إلى إقامة برهانٍ كافٍ عليها، وهي بحاجةٍ ماسّةٍ إلى بيان المبنى الذي ترتكز عليه، بحيث يوضّح وجه اختصاص هذه الملازمة بالنفسية دون الغيرية.

ووجه النقد هو التالي: فإن كان المراد بـ«الإطلاق» هو طبيعة الوجوب المهملة (أي الإطلاق المقسَمي)، فإنّ هذا الإطلاق يكون حاضراً في كلا القسمين (النفسي والغيري) على حدٍّ سواء؛ إذ إنّ المقسَم يتحقق في ضمن كل قسم من أقسامه. وعلى هذه القراءة، لا يبقى وجهٌ لاختصاص الملازمة بالنفسية دون الغيرية، وتكون الدعوى خارجةً عن محل النزاع.[5] وأما إذا كان المقصود هو نفي قيد «للغير» في مدلول الخطاب، فإنّ غاية ما يفيده الإطلاق حينئذٍ هو «عدمُ التقييد بما يفيد الغيرية»؛ وهو التقرير نفسه الذي أوضحناه سابقاً تحت عنوان «الإطلاق المعيِّن للنفسية». بيد أنّ تحويل هذا النفي للقيد إلى «ملازمةٍ إيجابيةٍ مع النفسية» هو أمرٌ يفتقر إلى برهانٍ عرفي أو عقلي؛ إذ لا بدّ من البرهنة على أنّه متى ما لم يُؤخَذ قيد «للغير» في مقام البيان، فإنّ العرف يفهم على نحوٍ إثباتي عنوانَ «لنفسه». وهذه هي النكتة عينها التي رفضها الإمام (قده)، حيث اعتبر كلا العنوانين ذا حيثيةٍ وجودية.

وهذا لا يعني انسداد باب الإثبات، بل توجد مسالك أخرى يمكن سلوكها لإثبات النفسية؛ مثل:

1- إطلاق الهيئة والمادة معاً: فقد يُحرَز بإطلاق الهيئة نفيُ قيدِ «للغير» في الطلب، وبإطلاق المادة نفيُ البدلية أو سائر القيود؛ واجتماع هذين الإطلاقين من شأنه أن يولّد ظهوراً أقوى في النفسية، وإن كان ذلك، على مبنى الإمام (قده)، لا يكفي لإثبات «لنفسه» ما لم تنضمّ إليه قرينةٌ إضافية.

2- أو من خلال الانصراف العرفي: فإذا أُحرِز من خلال تتبّع السياقات والاستعمالات المتجانسة أنّ الأمر المطلق ينصرف نوعاً إلى المطلوبية بالأصالة، أمكن التمسك حينئذٍ بالانصراف؛ إلا أنّ هذا المسلك مورديٌّ ومحكومٌ بالقرائن الخاصة.

3- أو بالرجوع إلى بناء العقلاء: وذلك من خلال مراجعة السيرة العقلائية في مقام الإطاعة؛ فهل الأصل في الأمر المطلق عند العقلاء أنه يُحمَل على الغرض النفسي، ما لم تقم قرينة على كونه آلياً (غيرياً)؟ فإذا أُحرِز مثل هذا البناء ومُني بإمضاء الشارع، أمكن أن يكون مستنداً لإثبات النفسية. وقد تمسّك الإمام (قده) بهذا المسلك في بعض المباحث.

الخلاصة النهائية: فالحاصل إذن، هو أنّ دعوى «ملازمة النفسية بالإطلاق» لا يصحّ إرجاعها إلى الإطلاق المقسَمي؛ وإذا أُريد إرجاعها إلى الإطلاق القِسمي، فإنها تفتقر إلى إثبات مصحِّحٍ عرفي أو عقلائي، وهو ما لم يُقِم عليه صاحب "المنتقى" برهاناً. وعلى مبنى الإمام (قده)، وكذلك على ضوء ما تقدم، فإنّ كلا العنوانين يمثّل قيداً وجودياً («لنفسه» و «لغيره»)؛ وإنّ أصل الإطلاق بمفرده لا يقوى على إثبات أيٍّ منهما، ما لم يُعضَّد بالانصراف أو ببناء العقلاء. وعليه، فإنّ المسلك الصحيح في مقام العمل هو كالتالي:

أولاً: النظر في الإطلاقات اللفظية وتقييمها. ثانياً: عند قصورها، يُصار إلى القرائن الانصرافية وبناء العقلاء. ثالثاً: فإذا بقي الشك قائماً، تصل النوبة إلى الأصل العملي المناسب.

النظرية المختارة في التمسك بالإطلاق

والآن نعود إلى السؤال المحوري: هل الإطلاق بما هو أصلٌ لفظي، يقوى بنفسه على إثبات النفسية؟ والذي يبدو لنا هو أنّ الجواب بالنفي. فكما أنّه يُتصوَّر اجتماع النفسية مع الإطلاق، كذلك يُتصوَّر اجتماع الغيرية معه أيضاً. فالقول بأنّ النفسية لا تفتقر إلى بيان، هو في حقيقته يرجع إلى دعوى «الانصراف»، لا إلى التمسك بـ«الإطلاق» بما هو هو. وذلك لأنّ الإطلاق بما هو إطلاق، ليس من شأنه أن يعيِّن فرداً دون فرد.

ومثال ذلك جليٌّ: فلو قيل: «جِئْني بعالِمٍ»، فإنّ هذا اللفظ يصدق على الفقيه كما يصدق على الفيلسوف؛ إذ إنّ لفظ «العالِم» مطلقٌ يصدق على كلا الفردين. نعم، قد يُدَّعى أنّ اللفظ «ينصرف» إلى الفقيه لندرة وجود الفيلسوف، إلا أنّ هذا الانصراف يكون ناشئاً عن القرائن الانصرافية، لا عن ذات الإطلاق. ولو خُلِّينا نحن واللفظ بمجرده، فإنّ الإطلاق لا يفيد إلا السعة الماهوية، لا تعيين الفرد المراد.

وعلى هذا المبنى، نخلص إلى أنّ ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره) — في جعل الواجب النفسي ذا معنىً عدمي ليغدو بذلك في غنىً عن البيان — لا يتمّ. والحقّ مع الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في أنّ «لا للغیر» ليس إلا لازماً للنفسية، لا عين حقيقتها. فلا بدّ للنفسية من معنىً وجودي. والمختار عندنا في المقام هو التعريف المشهور نفسه: فالواجب النفسي هو «ما وُجِبَ لنفسه»، والواجب الغيري هو «ما وُجِبَ للغير». وعليه، فكلا العنوانين مقيّدٌ بقيدٍ وجودي، وكلاهما خارجٌ عن حقيقة «الوجوب»، ومن هنا فإنهما يفتقران كلاهما إلى بيان. نعم، قد يكون هذا البيان هو «العرف» تارةً، أو «الانصراف» أخرى، أو «بناء العقلاء» ثالثة؛ أما اللفظ بما هو هو، فإنه من هذه الحيثية لا يفيدنا شيئاً. وعلى هذا القياس، فإنه عندما يقول المولى: «صَلِّ»، لا يمكن أن تُستفاد النفسية من مجرد إطلاق الهيئة. فغاية ما يُفهَم منها هو «طبيعة الوجوب» فحسب.[6]

فالإنصاف إذن، هو أنّ «أصالة الإطلاق» في ما نحن فيه، لا تقوى بمفردها على إثبات شيءٍ في باب النفسية. فحتى المسلك الذي انتهجه صاحب «المنتقى» — أي دعوى ملازمة خصوصية النفسية للإطلاق — يؤول في نهايته إلى دعوى بلا برهان، ومرجعه إلى العرف. بل إنّ منشأ الإطلاق نفسه هو العرف. فالعرف هو الذي يحكم بأنّ للخطاب إطلاقاً؛ تارةً استناداً إلى الغلبة، وتارةً أخرى بالاعتماد على الارتكاز العرفي. وعليه، يبقى السؤال المحوري قائماً: من أين لنا أن نفهم، حينما يقول المولى: «یجب علیک»، أنّ هذا الوجوب نفسي؟ والجواب الذي يكاد يجمع عليه الأصوليون هو أنّ النفسية تفتقر إلى قرينة؛ وأنّ الإطلاق بما هو هو ليس هو المعيِّن للنفسية.

إشكال السید الروحاني: التهافت الظاهري في "الكفاية"

أثار صاحب «منتقى الأصول» إشكالاً آخر على المحقِّق الآخوند، كاشفاً من خلاله عن وجود تهافتٍ في كلمات "الكفاية". وذلك ببيان أنّ الآخوند في مبحث «مفهوم الشرط» يصرّح بأنّ «المعاني الحرفيّة لا إطلاقَ لها ولا تقييدَ»؛ إذ إنّ المعاني الحرفية، بسبب حيثيتها الربطية، لا تكون مجرىً للإطلاق والتقييد اللفظي. وهنا يبرز الإشكال: فإذا كنتم تقرّرون على نحوٍ قاطع في مبحث «مفهوم الشرط» أنّ الهيئة لا تقبل الإطلاق والتقييد، فكيف يصحّ منكم التمسك بـ«أصالة الإطلاق في الهيئة» في مقام تمييز النفسية عن الغيرية؟ وهذا تهافتٌ ظاهر. لا سيّما وأنكم في مثال الشرط، كقولنا: «إن جاءكَ زيدٌ فأكرمه»، ترفضون التمسك بإطلاق هيئة الشرط لإثبات الحصر (أي أنّ مجيئه هو العلة المنحصرة)، ولكنكم في مقام النفسية، تقبلون التمسك بإطلاق هيئة الأمر لإثباتها. ويشير السید الروحاني إلى هذا التهافت بقوله:

و لا بد من التعرض لأمر، و هو: ما قد يورد على صاحب الكفاية من وجود التهافت في كلماته، و ذلك ببيان: انه قرب في هذا المقام التمسك بإطلاق الصيغة في نفي الغيرية و الكفائية و التخيير كما أنه صحح - في مبحث الواجب المشروط[7] - رجوع القيد إلى الهيئة منكرا على الشيخ ما ذهب إليه من عدم إمكانه، لأن معنى الهيئة معنى حرفي و هو غير قابل للتقييد[8].

و لكنه ذكر في مبحث مفهوم الشرط عدم إمكان التمسك بإطلاق هيئة الشرط لإثبات المفهوم و انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، لأن الهيئة من الحروف غير القابلة للإطلاق و التقييد[9].

فكان هذا الكلام موردا للإشكال النقضي عليه من جلّ من علق على الكفاية أو كلهم. و مطالبته بالفرق بين هيئة الأمر و هيئة الشرط[10].[11]

الجمع المحتمل للتهافت الظاهري في "الكفاية" من منظار السید الروحاني

ولرفع التهافت الظاهري في كلمات الآخوند — حيث يقرّر في مبحث مفهوم الشرط أنّ المعاني الحرفية «لا إطلاقَ ولا تقييدَ فيها»، بينما يتمسك هنا بإطلاق الهيئة — قد عُرض جوابٌ محتمل، ومداره على أن يُحمَل مراد الآخوند من «الصيغة» في هذا المقام على «المادة». ففي قولنا «صَلِّ»، للهيئة دلالةٌ بعثية، وأما المادة فهي «الصلاة». فيمكن أن يُقال إنّ «الصلاة» بما هي مادة لها إطلاق؛ أي أنها مطلوبةٌ على نحوٍ أعمّ من أن يكون هناك وجوبٌ آخر أم لا. بل إنّ بعض عبارات الآخوند في مبحث «الواجب المشروط» لها ظهورٌ في هذا الحمل أيضاً. ويشير المرحوم الروحاني إلى هذا المخرج بقوله:

و اما ما أفاده في هذا المبحث، فالإيراد عليه انما يتم لو كان مراده (قدس سره) التمسك بإطلاق الهيئة، لأنها معنى حرفي لا يلحظ استقلاليا، و لكنه لم يعلم منه ذلك فيمكن ان يكون نظره إلى التمسك بإطلاق المادة - أعني الواجب -، فيكون المراد التمسك بإطلاق الواجب و ان الواجب هو الفعل مطلقا جاء به شخص آخر أو لا، جيء بشيء آخر أو لا، وجب شيء آخر أولا. و لا إشكال في التمسك بإطلاق المادة لأنها ليست من المعاني الحرفية الملحوظة آلة، و يمكن استظهار هذا المعنى من بعض كلماته في مفهوم الشرط فراجع. اما ما ذكره هنا فلا صراحة فيه في كون التمسك بإطلاق الهيئة فلاحظ و تدبر.[12]

والذي يبدو لنا أنّ هذا الجواب، وإن كان في حدود «الجمع المحتمل» قد يساهم في تهدئة التهافت الظاهري، إلا أنه لا يعالج المشكلة الجوهرية. وذلك لأنّ النفسية والغيرية إنما هي من حيثيات نفس «الوجوب» لا «المتعلَّق»؛ و«إطلاق المادة» لا يفيد شيئاً سوى السعة في دائرة المتعلَّق.

واستكمالاً لما تقدم، فقد أورد السید الروحاني توضيحاً يُراد به رفع التهافت في كلمات الآخوند، إلا أنّ هذا البيان — فيما يبدو لنا — لا ينهض بحل الإشكال، بل هو في حقيقته تقريرٌ للإشكال ذاته بصياغةٍ أخرى. حيث يقول (قده):

و لكن الّذي يبدو بعد التأمل إمكان الدفاع عن صاحب الكفاية و نفي ما يدعى ما التهافت في كلامه.

و توضيح ذلك: ان الإطلاق كما يتقوم بعموم المعنى كذلك يتقوم بتعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى الّذي يراد إفادة إطلاقه. و ذلك لأن من قوام الإطلاق كون المتكلم في مقام البيان، و هذه المقدمة تقتضي توجه المتكلم نحو الجهة التي يقصد إطلاقها، و ذلك يستلزم تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمعنى.

و عليه، فصاحب الكفاية و ان التزم بان الموضوع له الحرف كالموضوع له الاسم في كونه عاما، لكنه التزم في الوقت نفسه بامتياز الاسم عن الحرف بان الأول ملحوظ استقلالا و الثاني ملحوظ آلة، و عليه فالمعنى الحرفي لا يمكن التمسك بإطلاقه لأنه ملحوظ آليا، و قد عرفت استلزام الإطلاق للحاظ الاستقلالي، فمن هنا يظهر الوجه في كلامه في مبحث مفهوم الشرط، و ان عدم صحة التمسك بإطلاق هيئة الشرط من جهة كون المعنى ملحوظا آليا لا من جهة خصوص المعنى.

و اما ما ذكره في مبحث الواجب المشروط، فهو لا يرجع إلى التمسك بإطلاق الهيئة، بل يرجع إلى قابلية معنى الهيئة للتقييد لعمومه.

و اما البحث في اعتبار اللحاظ الاستقلالي في التقييد و الكلام في قابلية المعنى الحرفي لأن يكون مقيدا مع عدم قابليته للإطلاق - باعتبار عدم تمامية مقدمات الحكمة - فهو موكول إلى محله في مبحث الواجب المشروط و يتضح هناك إن شاء اللّه تعالى.[13]

ومدار التقرير المذكور على أنّ المحقق الخراساني، في باب تحقيق الموضوع له في الهيئات — التي يلحقها بالحروف — يذهب إلى أنّ الوضع فيها، كما في الحروف، هو من قبيل «الوضع العام والموضوع له العام»؛ وذلك على خلاف المشهور القائلين بـ«الوضع العام والموضوع له الخاص». ثم يقرّر الفرق بين الاسم والحرف بالصياغة التالية: وهي أنّ الاسم يُستعمَل حيثما لُحِظ المعنى «لحاظاً استقلالياً»، وأنّ الحرف يُستعمَل حيثما لُحِظ المعنى «لحاظاً آلياً». فمتى ما كان اللحاظ استقلالياً، جيء بالاسم، ومتى ما كان آلياً، جيء بالحرف.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الهيئة لا تقع بنفسها متعلَّقاً للحاظ الاستقلالي، حتى تكون مجرىً لـ«أصالة الإطلاق» اللفظي؛ ومن هنا جاء تصريحه القاطع بأنّه: «لا إطلاق ولا تقييد في المعاني الحرفية». إذ إنّ جريان الإطلاق في مقام الاستعمال الخارجي منوطٌ بأن يُلحَظ المعنى لحاظاً استقلالياً وبنحوٍ ينطوي على سعةٍ وشمول. وعلى هذا الضوء، فإنّ الاسم — لاعتبار أنّ معناه ملحوظٌ على نحو الاستقلال وينطوي على سعةٍ نوعية — يكون قابلاً لجريان الإطلاق فيه. وأما الهيئة والحروف، فبما أنّ معانيها ملحوظةٌ لحاظاً آلياً، فإنها تفتقر إلى هذه القابلية. فالمتحصّل إذن هو أنّ الاسم ينطوي بذاته على نحوٍ من العمومية والسعة الدلالية، وأما الحرف والهيئة، فلا سبيل لجريان مثل هذه السعة فيهما من سنخ الإطلاق اللفظي.

وعلى هذا المبنى، فحيثما افتقر الأمر في مقام التعريف وتحديد الماهية إلى حيثيةٍ وجودية (كنحو «لنفسه» أو «لغيره» في نسبة الوجوب)، فلا بدّ إمّا أن يتصدّى الشارع لبيانها صراحةً، وإمّا أن يحيل الأمر إلى القرائن المعتبرة عرفاً أو بناء العقلاء؛ وأما التمسك بـ«أصالة الإطلاق» في قلمرو الهيئة، فلا ينهض بإثبات المطلوب من هذه الجهة. وببيان آخر: فإنّ غاية ما يُستفاد من الهيئة — بوصفها معنىً ملحقاً بالحروف — ليس إلا أصل الطلب أو الوجوب، لا حيثيةً من سنخ القيود الوجودية المميِّزة. وعليه، فإنّ إثبات النفسية أو الغيرية من دون قرينةٍ مستقلة لا يكون متيسّراً.

ولكنّ محصّل التقريب الذي يطرحه صاحب «المنتقى» لرفع التهافت في ظاهر متن «الكفاية» هو أنّه على الرغم من أنّ الآخوند يُلحِق الهيئات بالحروف، ويعتبر معانيها ملحوظةً «لحاظاً آلياً» بالذات، إلا أنّه إذا وقعت الهيئة في موردٍ ما متعلَّقاً للحاظ الاستقلالي، فإنّ الإطلاق يجري فيها حينئذٍ.

امتناع اللحاظ الاستقلالي للهيئة على مبنى الآخوند: نقدٌ على جواب السید الروحاني

إلا أنّ مكمن الإشكال هو أنّ هذا البيان لا ينسجم مع المبنى الذي يقرّره الآخوند نفسه في "الكفاية". فإنّ الآخوند يصرّح بأنّ الاسم يُلحَظ دائماً «لحاظاً استقلالياً»، وأنّ الحرف — وكذلك الهيئات الملحقة به — يُلحَظ دائماً «لحاظاً آلياً»؛ ومن هنا جاء تصريحه القاطع: «لا إطلاقَ ولا تقييدَ في المعاني الحرفيّة». ومقتضى هذا المبنى هو أنّ الهيئة لا يمكن أن تقع بنفسها متعلَّقاً للحاظ الاستقلالي، حتى تكون مجرىً للإطلاق اللفظي. وعليه، فإنّ تعليق جريان الإطلاق على فرض «تحوّل لحاظ الهيئة إلى لحاظٍ استقلالي» إنما هو في حقيقته خروجٌ عن مبنى الآخوند، لا توضيحٌ له. ومن هذا المنطلق بالذات، نبّه كثيرٌ من محشّي "الكفاية" على أنّ في كلمات الآخوند تهافتاً ظاهراً قد نشأ: فمن جهةٍ، يقرّر أنّ المعاني الحرفية فاقدةٌ للإطلاق والتقييد، ومن جهةٍ أخرى، يُلاحَظ في مقام إثبات النفسية تمسّكُه بـ«إطلاق الهيئة». وختاماً لهذا المبحث، لا بد من التنبيه على نكتتين جوهريتين:

الأولی: إنّ تفسير التمسك بإطلاق الهيئة من خلال الفصل بين «اللحاظ الاستقلالي» و «اللحاظ الآلي» لمعنى الهيئة، لا ينهض بحل الإشكال، بل هو في حقيقته تقريرٌ للإشكال ذاته. فعلى مبنى المحقق الخراساني، الهيئات ملحقة بالحروف، ومعانيها تُلحَظ لحاظاً آلياً؛ ومن هنا جاء قوله: «لا إطلاقَ ولا تقييدَ فيها». فإذا أُريد لحاظ الهيئة لحاظاً استقلالياً في موردٍ ما حتى تكون مجرىً للإطلاق، فإنّ ذلك يمثّل في حقيقته عدولاً عن ذلك المبنى نفسه. فإمّا أن يُرفع اليد عن ذلك الأصل المنهجي، وإمّا أن يُلتمَس للتمسك بإطلاق الهيئة توجيهٌ آخر.

في عدم كفاية إطلاق المادة لإثبات النفسية: فمع أنّ حمل «الإطلاق» على «المادة» من شأنه أن يخفف من حدة التهافت الظاهري، إلا أنه بمجرده لا ينهض بإثبات النفسية. فإنّ «إطلاق المادة» (كإطلاق «الصلاة») لا يفيد في نهايته إلا السعة في دائرة المتعلَّق، لا حيثية نسبة الحكم المتمثلة في «لنفسه» أو «لغيره». فكون الواجب نفسياً أو غيرياً هو وصفٌ لنفس «الوجوب»، لا وصفٌ لـ«المتعلَّق»؛ وعليه، فإنّ إطلاق المادة لا يمكن أن ينتج بنفسه ومن دون قرينةٍ إضافية نفسيةَ الحكم. فالوجه الأقرب في مقام الجمع هو أحد أمرين:

الأول: أن يُحمَل تمسُّك الآخوند بـ«الإطلاق» في هذا المقام على «الإطلاق المقامي»، لا على إطلاق الهيئة اللفظي؛ أي أن يكون سكوت الشارع عن ذكر قيد «للغير» — في موضعٍ هو في مقام البيان فيه — قرينةً عرفيةً على عدم التقييد.

والثاني: أن يُقال بأنّ مراد الآخوند هو «الإطلاق القِسمي» النافي للقيد الوجودي المفيد للغيرية، لا بوصفه إطلاقاً جارياً في المعنى الحرفي للهيئة،[14] بل بوصفه إطلاقاً جارياً في القضية والحكم في مقام الإفهام.[15] وهذا المسلك بدوره لا ينافي أصل «لا إطلاقَ ولا تقييدَ في المعاني الحرفيّة».

ومع ذلك كلّه، فإذا لم يُقبَل أيٌّ من هذين التوجيهين، بقي التهافت الظاهري قائماً، وتكون النتيجة حينئذٍ واضحةً على ضوء المختار عندنا: وهي أنّ «أصالة الإطلاق» — سواء جرت في الهيئة أم في المادة — لا تقوى باستقلالها على إثبات النفسية. إذ إنّ النفسية والغيرية كلتيهما قيدان وجوديان يفتقران إلى بيان. وعليه، فإنّ تعيين النفسية في مقام الإثبات لا يكون إلا بالقرائن اللفظية والمقامية، أو بالانصراف، أو ببناء العقلاء. وعند فقدان الحجّة، يغدو الخطاب من هذه الحيثية مجملاً، وتصل النوبة إلى الأصل العملي.

و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین

-----------------------------
[1]- ‏روح الله خمینی، مناهج الوصول إلى علم الأصول‏ (قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415)، ج 1، 223.
[2]- نفس المصدر.
[3]- نفس المصدر.
[4]- ‏محمد الروحانی، منتقی الأصول (قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413)، ج 1، 509-510.
[5]- وينبغي التنبيه في هذا المقام على وجود فارقٍ جوهري بين «الملازمة» و«الانصراف». فإنّ القول بانصراف الأمر المطلق إلى النفسية يمثّل مسلكاً آخر، يبتني في إثباته على إحراز الارتكاز العرفي وكثرة الاستعمال، لا على التمسك بمجرد الإطلاق. وأما دعوى صاحب «المنتقى» فهي دعوى «ملازمة النفسية بالإطلاق»، لا دعوى «الانصراف إلى النفسية»؛ ومن هنا، لا ينبغي الخلط بين هذين المسلكين المختلفين.
[6] -وينبغي التنبيه على أنّ بحثنا في هذه المرحلة إنما هو متعلِّقٌ بالهيئة لا بالمادة. وهذه الهيئة التي مدلولها هو «الوجوب»، لا تقوى باستقلالها على إثبات النفسية؛ بل إنّ كلاً من النفسية والغيرية يفتقر إلى قرينة. بطبيعة الحال، فإنّ تحقيق القول في تعريف النفسية والغيرية نفسه يقتضي بحثاً مستقلاً، سوف نتعرض له بالتفصيل في موضعه إن شاء الله.
[7]- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - ٩٥-٩٧ - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
[8]- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار - ٤٥-٥٢ - الطبعة الأولى.
[9]- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - ١٩٥ - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
[10]- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١-٣٢٢ - الطبعة الأولى.
[11]- ‏الروحانی، منتقی الأصول، ج 1، 510.
[12]- نفس المصدر، 511.
[13]- نفس المصدر، 510-511.
[14]- أی: ثبوتاً.
[15]- أی اثباتاً. وهذا يمهّد لمسلكٍ منهجيٍّ آخر، سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله.

--------------------------
المصادر:
- الروحانی، محمد‏. منتقی الأصول. ۷ ج. قم: دفتر آيت الله سيد محمد حسينی روحانی، 1413.
- خمینی، روح الله‏. مناهج الوصول إلى علم الأصول‏. قم: موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني( ره)، 1415.



الملصقات :

أصالة الإطلاق الوجوب النفسي الوجوب الغيري إطلاق الهيئة إطلاق المادة السالبة المحصلة الموجبة معدولة المحمول الإطلاق القسمي الإطلاق المقسمي مفهوم الشرط

نظری ثبت نشده است .