موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/٢٧
شماره جلسه : ۲۲
-
خلاصة البحث السابق
-
الإشكال الرابع: تعليق الوجوب على اختيار المكلّف ومحذور «الجعل بلا متعلَّق»
-
المسلك الثاني: تحليلُ التخيير إلى تعيّناتٍ مشروطة
-
البيان الأوّل للمحقّق الأصفهاني: المصالح الملزمة والترخيص التسهيلي
-
الإشكال الأوّل للمحقّق الخوئي على مسلك «التعيّنات المشروطة»
-
دفعُ الإشكال: التفكيك المنهجيّ بين مقامي الثبوت والإثبات
-
الإشكال الثاني للمحقّق الخوئي: الطعن في دعوى «تعدّد الملاك»
-
الجواب عن الإشكال
-
الإشكال الثالث للمحقّق الخوئي: الطعن في مصلحة التسهيل وحجيّة الترخيص
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
فإنّه على القول بأنّ «الواجب هو ما يختاره المكلّف»، يترتّب على ذلك محذورٌ مفاده أنّه لا يكون للوجوب أيُّ تحقّقٍ وثبوتٍ في الخارج قبل اختيار المكلّف لأحد الأطراف، وأنّ الوجوب لا ينشأ إلا بمجرّد اختياره وصدور الفعل عنه. وعلى هذا الأساس، لا يكون هذا البدل واجباً ولا ذاك قبل مرحلة الاختيار؛ إذ يصبح «اختيارُ المكلّف» حينئذٍ حيثيّةً تقييديّةً في موضوع الوجوب، ومع انتفاء هذا القيد (أي: عدم الاختيار)، ينتفي تعلّقُ الوجوب بالكلّية، فلا يبقى للجعل متعلَّقٌ أصلاً، وهو محذور «الجعل بلا متعلَّق».
دفعُ توهّمِ «الوجوب الكلّي مع التعيّن اللاحق»
وليس مرادُ القائل من ذلك أنّ وجوباً كلّياً قد جُعِل، وأنّ ظرفَ تعيّنِ متعلَّقِه هو زمانُ اختيار المكلّف؛ إذ القاعدةُ تقتضي أنّه متى ما جُعِل «الوجوبُ»، وجب أن يكون متعلَّقُه محدَّداً ومعيَّناً في ظرف الجعل نفسه.[1] فتصوّرُ جعلٍ كلّيٍّ بلا متعلَّق —على نحو «ما سيختاره المكلّف لاحقاً»— يستلزم محذورَ لغويّة الجعل أو نسبة الجهل إلى الشارع، وهو أمرٌ غير معقول. بل مرادُه أنّ الاختيارَ قيدٌ مقوِّمٌ لموضوع الوجوب؛ وعليه، فلا وجوبَ واقعاً قبل تحقّق الاختيار. وبانتفاء الشرط ينتفي المشروط، فتكون النتيجة الحتميّة أنّ ترك الجميع لا يعدّ تركاً لأيّ واجب، فينتفي بذلك بالمرّة عنوانُ العصيان واستحقاق العقاب.
يُضاف إلى ذلك أنّه لمّا كان «العصيانُ والامتثالُ واردَين على موضوعٍ واحد»، فلو لم يكن الفعل واجباً في حال العصيان (بترك الجميع)، لما كان واجباً في حال الامتثال (بفعل أحد الأطراف) أيضاً؛ فإنّ اشتراط الوجوب بالامتثال يستلزم محذور «طلب الحاصل» أو «اشتراط الأمر بالشيء بوجوده»، وكلاهما من المحالات العقليّة. فالحاصلُ أنّ نظريّة «الواجب ما يختاره المكلّف» تؤدّي لا محالة إمّا إلى نفي الوجوب السابق على الاختيار —وبالتالي نفي إمكان العصيان والامتثال معاً—، وإمّا إلى «جعلِ وجوبٍ بلا متعلَّقٍ»، وكلا الأمرين خلافُ الصناعةِ والارتكازِ المتشرّعي. وقد أشار المحقّق الخوئيّ (قدّه) إلى هذا المعنى بقوله:
و رابعاً: إنه إذا لم يكن شيء منهما واجباً في حال العصيان فلا يكون واجباً في حال الامتثال أيضاً، والوجه في ذلك هو أن كلاًّ من العصيان والامتثال واردٌ على موضوع واحد، فيتحقق العصيان فيه مرة والامتثال مرة أخرى، فإذا فُرض أنه لم يكن واجباً في حال العصيان فلا يعقل أن يكون واجباً في حال الامتثال … ضرورة أنها إمّا أن تكون في الواقع واجبة أو ليست بواجبة، ولا ثالث لهما … لوضوح أنّه لا يعقل أن يكون وجوبها مشروطاً بامتثالها والإتيان بها في الخارج فإنّ مردّه إلى طلب الحاصل … فالنتيجة أن هذه النظرية لا ترجع إلى معنى مُحصَّل أصلاً.[2]
عرض المحقّق الأصفهاني في بيانه الأوّل لهذه النظريّة أربعة أمورٍ، استخلص منها نتيجةً، ثم ساق في ختامها استشهاداً. ونشرع أوّلاً في بيان هذه الأمور الأربعة:
أوّلاً: قيامُ مصلحةٍ ملزمةٍ في كلّ بدلٍ من البدائل. ففي خصال الكفّارة، يقوم في كلّ طرفٍ من أطرافها —كعتق الرقبة، وإطعام ستّين مسكيناً، وصوم ستّين يوماً— مصلحةٌ ملزمةٌ قائمةٌ به، وهو بذلك يمتلك الصلاحيّة لأن يتعلّق به الوجوب التعيينيّ.
ثانياً: إنّ هذه المصالح متباينةٌ لا متقابلة. بمعنى أنّ الجمع بينها ممكن، فلو أتى المكلّف بجميع الأطراف، لكان قد استوفى جميع تلك المصالح الكامنة فيها.[3]
ثالثاً: إنّ درجة هذه المصالح تبلغ حدَّ اللزوم. بحيث تقتضي كلّ واحدةٍ منها بنفسها جعلَ الوجوب عليها تعييناً.
رابعاً: وجودُ مصلحةٍ في التسهيل والترخيص. ففي عرض تلك المصالح اللزوميّة القائمة في كلّ طرف، توجد مصلحةٌ أخرى في التسهيل والإرفاق بحال المكلّف؛ وبملاك هذه المصلحة، يجعل الشارع ترخيصاً في ترك سائر البدائل إذا ما أتى المكلّف بواحدٍ منها.
النتيجة: على ضوء هذه المباني، يتحلّل التخييرُ الظاهريّ إلى «تعدّدٍ في الوجوبات التعيينيّة مقترنٍ بترخيصٍ تسهيليٍّ في الترك البدليّ». فكلُّ واحدٍ من الأطراف يكون متعلَّقاً للإرادة والوجوب على نحو التعيين أصالةً، إلا أنّ الوجوب الفعليّ لسائر البدائل يسقط عند الإتيان بأحدها، وذلك بمقتضى الترخيص الناشئ من ملاك التسهيل. وعليه، يكون سقوط الوجوب هنا بمعنى سقوط موضوع المؤاخذة على الترك، لا بمعنى انعدام الملاك في ذات الفعل المتروك. وبهذا النحو يتمّ تبيين النسبة بين التخيير الظاهري والتعيّن الواقعي وتصحيحها.
الثمرة الأولى لهذا البيان: تكثّر الثواب ووحدة العقاب
تكثّر الثواب: إذا أتى المكلّف بالبدائل كلّها دفعةً واحدة، فإنّه يستحقّ الثواب على كلّ واحدٍ منها بنحوٍ مستقلّ. والوجه في ذلك أنّ كلّ بدلٍ —بحسب الفرض— يشتمل على مصلحةٍ ملزمةٍ قائمةٍ بنفسه، ومع الإتيان بها جميعاً يكون المكلّف قد استوفى تلك المصالح اللزوميّة بأسرها، فيترتّب على كلّ فعلٍ منها ثوابُه الخاصّ.[4]
وحدة العقاب: وأمّا في فرض ترك المكلّف لجميع البدائل، فلا يثبت في حقّه إلا عقابٌ واحد. والسرُّ في ذلك أنّ موضوع المؤاخذة ليس هو تركَ كلِّ واحدٍ من هذه الأفعال بما هو هو، بل هو «تركُ ما لا يجوز للمكلّف تركُه». وحيث إنّ الترخيص التسهيليّ قد أذن في ترك أيٍّ من البدائل شريطة الإتيان بالآخر، فإنّ موضوع الحرمة والعقاب ينحصر في «ترك الجميع». فالنتيجة هي أنّه على الرغم من تعدّد المصالح وإمكان تكثّر الثواب بتعدّدها عند الإتيان بالجميع، إلا أنّ دائرة المؤاخذة تقتصر على مخالفة ذلك الإلزام الواحد غير المأذون في تركه، وهو ما لا يتحقّق إلا بترك تمام الأطراف.[5]
استشهاد المحقّق الأصفهاني
وتأييداً لهذه الصياغة الفنّيّة، يستشهد المحقق الأصفهاني بسيرة الشارع ومنهجه في تطبيق مراتب الرفق والتسهيل على المكلّفين. فإنّنا نجد الشارع: تارةً يمنح ترخيصاً كاملاً وتخييراً محضاً (كما في خصال الكفّارة العامة). وتارةً أخرى يمنح تسهيلاً نسبيّاً على نحو الترتّب عند العجز عن الخصلة المتقدّمة (كما هو الحال في كفّارة الظهار). وقد ينتفي الرفق بالكلّية في موردٍ ثالث فيُوجِب الجمع بين الخصال (كما ورد في كفّارة الإفطار على الحرام).[6] ويقول المحقق الأصفهاني (قدّه) في هذا الصدد:
توضيحه: أن القائم بالصوم و العتق و الإطعام أغراض متباينة، لا أغراض متقابلة … فإذا ترك الكلّ كان معاقباً على ما لا يجوز تركه … و ليس هو إلاّ الواحد منها لا كلها، كما أنه إذا فعل الكلّ دفعة واحدة كان ممتثلاً للجميع … كما في كفّارة الإفطار بالحرام، فإنه يجب الجمع بين الخصال، فيعلم منه أنّ الأغراض غير متقابلة.[7]
والسيّد الخوئي (قدّه) أيضاً يقرّر البيان الأوّل لهذه النظريّة فيقول:
المذهب الثاني… أن يكون كلّ من الطرفين أو الأطراف واجباً تعييناً… و لكن يسقط وجوب كلّ منهما بفعل الآخر… .[8]
ثمّ يذكر المقدّمات الأربع (قيام المصالح الملزمة المتباينة، ومصلحة التسهيل) والنتيجة المترتّبة عليها (تعدّد الثواب ووحدة العقاب)، لِيُعقِّبَ على ذلك كلّه بالإشكال والنقد.
يذهب المسلك الثاني في تحليل الواجب التخييري —وبالأخصّ في موارد كخصال الكفّارة— إلى دعوىً ثبوتيّةٍ مفادها أنّ كلّ واحدٍ من البدائل واجبٌ على نحو التعيين، غاية الأمر أنّ وجوبه مشروطٌ بعدم الإتيان بالبدل الآخر، وأنّ الترخيص البدليّ القائم على ملاك التسهيل هو الذي يتولّى تحديد موضوع المؤاخذة. ومن الواضح أنّ محلّ البحث في هذا المقام هو تصوير حقيقة الجعل وتعلّق الإرادة في مرحلة الثبوت، لا مرحلة الإثبات وسبر الظهورات اللفظيّة. إلا أنّ المحقّق الخوئيّ (قدّه) يرى أنّ هذا التحليل، وإن كان بحثاً ثبوتيّاً، يصطدم مع ظاهر الأدلّة الإثباتيّة؛ إذ إنّ ظاهر العطف بـ«أو» في لسان الدليل يدلّ على «وجوب أحدها على سبيل البدل»، لا على «وجوب الجميع» وإن كان كلٌّ منها مشروطاً بترك الآخر. ويقول (قدّه) في هذا الصدد:
والجواب عن هذا الإشكال يكمن في ضرورة التفكيك المنهجيّ بين مرحلتي البحث. فإنّ محور النزاع في المقام هو بحثٌ ثبوتيٌّ محض، والهدف منه هو بيان كيفيّة معقوليّة الواجب التخييري ثبوتاً، وتصوير الآليّة التي تتعلّق بها الإرادة المولويّة في مقام الجعل. والمسلك الثاني إنّما هو في صدد تقديم هذه الصياغة الثبوتيّة تحديداً. وعلى هذا الأساس، فإنّ التقييم الإثباتيّ لظهور الألفاظ —على أهميّته— ليس هو الفاصل والحاسم في هذا الموضع من البحث. إذ لو أمكننا تقديم تصويرٍ ثبوتيٍّ معقول، لأمكننا في مرحلة الإثبات أن نحمل لسان التخيير الوارد في الدليل على بيان «البدليّة في مقام الامتثال» أو على «الترخيص الإرفاقي»، ومن ثمّ التوفيق بين هذا الظهور الإثباتيّ وذلك التحليل الثبوتيّ.
كان المحقّق الأصفهانيّ قد بنى مسلكه الثاني (تحليل التخيير إلى تعيّنات مشروطة) على مقدّمةٍ أُولى مفادها: أنّ كلّ واحدٍ من أطراف الواجب التخييري، كخصال الكفّارة، يشتمل على مصلحةٍ ملزمةٍ قائمةٍ بنفسه. والإشكال الذي يسجّله المحقّق الخوئيّ على ذلك هو إشكالٌ معرفيٌّ في طريق الكشف، وحاصله: أنّ الطريق الوحيد لإحراز الملاكات الواقعيّة منحصرٌ في الأمر الصادر من الشارع، إذ لا سبيل لنا إلى العلم بها سواه. وحيث إنّ الأمر في المقام قد تعلّق بعنوانٍ واحدٍ هو «أحد الأطراف على البدل»، فلا يمكن أن يُستكشف منه تعدّدُ الملاك في كلّ طرفٍ من الأطراف على نحو الاستقلال. وعليه، فإنّ دعوى وجود مصالح متعدّدة في المقام لا تعدو كونها دعوىً بالغيب، لا شاهد عليها من دليل. وفي هذا يقول (قدّه):
ويرد على هذا الإشكال أيضاً بأنّه يرجع في جوهره إلى مقام الإثبات، في حين أنّ محلّ البحث في تقرير المحقّق الأصفهاني هو «التحليل الثبوتي» المحض. فإنّ مراده بيان أنّه لو افترضنا ثبوتاً أنّ كلّ واحدٍ من الأطراف يشتمل على مصلحةٍ تامّة، وفي عرض ذلك قامت «مصلحةُ التسهيل والإرفاق» التي تقتضي جعل الترخيص البدليّ، لأمكن على أساس هذا الفرض تصويرُ تركيبٍ معقولٍ للواجب التخييري. فالدعوى إذن ليست هي أنّنا نستكشف بالفعل من النصوص تعدّدَ الملاك، حتى يرد محذور ادّعاء علم الغيب؛ بل مدار البحث إنّما هو على «الإمكان الثبوتي» وكيفيّة التصوير العقلي، لا على «الاستظهار الوقوعي» من الأدلّة.
كان بيان المحقّق الأصفهانيّ يرتكز على أنّ الترخيص البدليّ إنّما يُصاغ على أساس «مصلحةِ التسهيل والإرفاق». فمع أنّ كلّ واحدةٍ من خصال الكفّارة تشتمل على مصلحةٍ ملزمة، إلا أنّ الشارع بملاك التسهيل قد رخّص في ترك سائر البدائل عند الإتيان بواحدٍ منها. والإشكال الذي يورده المحقّق الخوئيّ (قدّه) في هذا المحور يتفرّع إلى شعبتين:
1- الشعبة الأولى: الموازنة بين رتب المصالح. من أين لنا أن نحرز أنّ «مصلحة التسهيل» قد بلغت من القوّة درجةً تقتضي الترخيصَ في ترك واجبٍ ثبت فيه ملاكٌ لزوميّ؟ إنّ إثبات مثل هذا الترخيص يتوقّف على حجّةٍ إثباتيّةٍ مستقلّة، وهذا لا يتمّ إلا بأحد طريقين: فإمّا أن يُستفاد من لسان أدلّة التخيير نفسِها أنّ الشارع قد جعل ترخيصاً بهذه السعة. وإمّا أن يقوم على ذلك بناءٌ عقلائيٌّ معتبر. وأمّا مجرّد الفرض الثبوتيّ لوجود مصلحةٍ في التسهيل، من دون إحراز قوّتها ورتبتها في مقام الموازنة مع الملاكات اللزوميّة الأخرى، فلا يكفي لإثبات جواز الترك.
2- الشعبة الثانية: تحليل لوازم القول. وعلى فرض التسليم جدلاً بأنّ لمصلحة التسهيل من القوّة ما يبرّر الترخيص في الترك، فإنّ اللازم المنطقيّ لذلك هو أنّ هذه المصلحة بعينها سوف تمنع من «أصلِ جعل الوجوب» على جميع الأطراف ابتداءً. والوجه في ذلك أنّ ملاكات سائر الأطراف (ما عدا الفرد الذي يؤتى به) ستكون في حالة «تزاحم» مع مصلحة التسهيل الراجحة. ومن المعلوم أنّ «المصلحة المزاحَمة» لا تصلح أن تكون منشأً للجعل الإلزاميّ. وعليه، يكون «إيجابُ الجميع بلا داعٍ» أمراً ممتنع الصدور من الحكيم. فتكون النتيجة القهريّة هي أنّ «الواجب هو أحدها لا الجميع».
فالنتيجة إذن هي أنّ الإشكال الثالث، بشعبتيه كلتيهما، يوجّه تحدّياً جوهريّاً لصياغة المحقّق الأصفهانيّ لمفهوم «الترخيص التسهيليّ البدليّ»، سواء من حيث البُعد الإثباتيّ لحجيّة هذا الترخيص، أم من حيث البُعد الملاكيّ لتحليل لوازمه. فإنّه يطرح معضلةً لا مفرّ منها: فإمّا أنّه لا يتمّ إحراز مرتبةٍ كافيةٍ لـ«مصلحة التسهيل»، فلا يثبت الترخيصُ أصلاً، وإمّـا أن تُحرز تلك المرتبة، فينتفي حينئذٍ أصلُ جعل الوجوب على جميع الأطراف من الأساس. ويقول المحقّق الخوئي (قدّه) في هذا السياق:
و ثالثاً: إنّه لا طريق لنا إلى أن مصلحةَ التسهيل والإرفاق على حدّ تُوجب جوازَ تركِ الواجب، وعلى فرضِ تسليم أنّها تكون بهذا الحدّ فهي عندئذٍ تمنع عن أصلِ جعلِ الوجوب للجميع، ضرورةَ أنّ مصلحةَ ما عدا واحدٍ منها مزاحمةٌ بتلك المصلحة أعني مصلحةَ التسهيل والإرفاق. ومن الواضح جدّاً أنّ المصلحةَ المزاحمةَ بمصلحةٍ أخرى لا تدعو إلى جعلِ حكمٍ شرعيٍّ أصلاً وغيرُ قابلةٍ لأن تكون منشأً له، فإذن إيجابُ الجميع بلا مقتضٍ … فالنتيجةُ أنّ الواجبَ أحدُها لا الجميع.[11]
[3]- وجديرٌ بالذكر أنّ هذا التحليل إنّما يبتني على فرض «إمكان الجمع بين المصالح الملزمة» في الأطراف. وهذا خلافاً لما يذهب إليه المحقّق الخراسانيّ (قدّه) —على عكس المحقق الأصفهاني— من أنّ هذه المصالح «متقابلةٌ غيرُ قابلةٍ للجمع». وسيأتي تفصيل هذا المبنى عند عرض «المسلك الثالث» في المسألة.
[4]- المقرِّر: ولمّا كانت الأغراض والمصالح في المقام «متباينةً» وقابلةً للجمع، فإنّ الإتيان بجميع البدائل في آنٍ واحدٍ لا يكون ممتنعاً عقلاً ولا لغواً شرعاً. وعليه، يتحقّق الامتثال بالإتيان بـ«الجميع»، ولا محذور في ذلك من هذه الناحية (وإن كان أصل الامتثال قد تحقّق بالإتيان بالبدل الأوّل، إلا أنّ الإتيان بالثاني والثالث، وإن كان «زائداً على القدر المتيقّن من الامتثال»، يظلّ فعلاً ممكناً بل وراجحاً لاستيفائه مصلحةً إضافيّة).
[5]- المقرِّر: إنّ «موضوع المؤاخذة» في الواجب التخييري ينحصر في تركِ «ما لا يجوز تركه إلا إلى بدل»، ومتعلَّقُ هذا الترك المحرّم في هذا التركيب هو عنوان «أحدها»، لا «كلّ واحدٍ» من الأطراف على نحو الاستقلال. وبيانُ ذلك بعبارةٍ أبسط، إنّ روح هذا الحكم ومفاده هو «لا يجوز لك تركُ الجميع، بل لا بدّ من الإتيان بواحدٍ منها على الأقلّ». وعليه، فإذا ترك المكلّف جميع الأطراف، فإنّما يتحقّق منه عنوانٌ واحدٌ للمخالفة، ألا وهو «ترك أصل الواجب التخييري»، لا ثلاث مخالفاتٍ مستقلّة.
وهذا هو معنى القول المذكور: «فإذا ترك الكلّ كان معاقباً على ما لا يجوز تركه إلا إلى بدل، وليس هو إلا الواحد منها لا كلها»؛ أي إنّ العقاب إنّما يقع على ترك ذلك «الواحد» الذي كان من الواجب الإتيان به على سبيل البَدَل، لا أنّ ترك الكلّ يستوجب عقوباتٍ متعدّدة بتعدّد الأطراف.
[6]- المقرِّر: وتوضيح هذه الشواهد الفقهيّة هو أنّه قد يثبت الرفقُ في الجملة في بعض الكفّارات، كما في كفّارة الظهار والقتل الخطأ. فالنصّ الشرعيّ هناك يوجب العتق ابتداءً، فإن «لم يجد» المكلّف سبيلاً إليه (لعجزٍ أو لفقدان الموضوع)، انتقل الواجب إلى الصوم، ثمّ إلى الإطعام. وهذه السلسليّة في التشريع تكشف عن أنّ السياسة التشريعيّة للمولى ليست قائمةً على أساس «التخيير المطلق» دائماً، بل قد يُطبَّق الرفقُ بمقدار الضرورة والحاجة فقط. وفي المقابل، قد تنتفي مصلحة الرفق بالكلّية، كما في كفّارة الإفطار على الحرام، حيث أُوجب فيها «الجمع بين الخصال»؛ وهذا يعني أنّ الشارع لم يُرخّص في ترك أيٍّ من الأطراف، بل أراد استيفاء جميع الأغراض الكامنة فيها معاً. وهذا الأمر بنفسه خير شاهدٍ على أنّ الأغراض المكنونة في هذه البدائل ليست «متقابلةً» أو متنافية، وإلا لكان الأمرُ بالجمع بينها أمراً بالمحال أو لكان تشريعاً لغواً.
[7]- محمد حسین اصفهانی، نهایة الدرایة فی شرح الکفایة (بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429)، ج 2، 270.
[8]- خویی، محاضرات فی أصول الفقه، ج 4، 28.
[9]- نفس المصدر، 29.
[10]- نفس المصدر.
[11]- نفس المصدر.
- اصفهانی، محمد حسین. نهایة الدرایة فی شرح الکفایة. ۶ ج. بیروت: مؤسسة آل البیت علیهم السلام، 1429.
- خویی، ابوالقاسم. محاضرات فی أصول الفقه. با محمد اسحاق فیاض. ۵ ج. قم: دارالهادی، 1417.
نظری ثبت نشده است .