موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٦/٢٥
شماره جلسه : ۴
-
خلاصة البحث السابق
-
التقريبات الخمس للتمسك بأصالة الإطلاق عند الشهيد الصدر
-
التقريب الرابع: النفسية العدمية في مقام الإثبات والتمسك بإطلاق الهيئة
-
التقريب الرابع في بيان المحقق القوچاني
-
الإشكالات الثلاثة للشهيد الصدر على هذا التقريب
-
إشكال آخر
-
التمسك بإطلاق المادة في بيان المحقق النائيني
-
شروط التمسك بإطلاق المادة عند الشهيد الصدر
-
الشرط الأول: العلم بالوجوب النفسي لذي المقدِّمة
-
الشرط الثاني: عدم التوقف التكويني
-
الشرط الثالث: عدم اتصال دليل الأمر بالواجب المردَّد بدليل الوجوب النفسي
-
الشرط الرابع: كون دليل الوجوب النفسي دليلاً لفظياً
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
الحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
خلاصة البحث السابق
بحسب ما يقرّره الشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه)، فإنّ أحد المسالك الخمسة للتمسك بأصالة الإطلاق في نزاع النفسي والغيري هو: ففي «مقام الإثبات»، تكون الغيرية عنواناً وجودياً، وأخذُها في الخطاب يفتقر إلى قيدٍ وبيان؛ وأما النفسية في مقام الإثبات نفسه، فهي عنوانٌ عدمي لا يفتقر إلى قيدٍ زائد. وببيان آخر، فإنّ غرض الآخوند هو أنّه متى ما كان المتكلم في مقام البيان ولم يأتِ بـ«قيد الغيرية»، فإنّ «النفسية» تثبت حينئذٍ بإطلاق الهيئة. ومدار ذلك على أنّ نفي التقييد بما يفيد الغيرية هو مفاد أصالة الإطلاق، وهذا النفي هو بعينه ما ينتج النفسية في مقام الإثبات.
إنّ الهدف من هذا التقريب هو إثبات نفسية الوجوب في مثل أمر «توضّأ» من نفس الدليل وبالدلالة المطابقية (لا بالالتزام كما في التقريبات الأولى). ومدار هذا التقريب على أن تُلحَظ النفسية بوصفها خصوصيةً عدمية (وهي عدمُ انبعاثِ الوجوب من وجوبٍ آخر)، وتُلحَظ الغيرية بوصفها خصوصيةً وجودية (وهي انبعاثُ الوجوب من وجوبٍ آخر). وعندئذٍ، فحيثما دار الأمر بين قيدين، أحدهما وجودي والآخر عدمي، وكان اللفظ ساكتاً عنهما على السواء، فإنّ عدمَ بيان القيد الوجودي يُعَدُّ بنفسه بياناً عرفياً على القيد العدمي. وعليه، ففي مثل «توضّأ»، يكون عدمُ بيان الغيرية (وهي الخصوصية الوجودية) مساوياً في مقام الإثبات لإثبات النفسية (وهي الخصوصية العدمية). ويشير الشهيد الصدر (قده) إلى هذا المسلك بقوله:
الرابع - التمسك بإطلاق الأمر بنحو يثبت النفسيّة ابتداء و بالمدلول المطابقي لا بالالتزام، بدعوى انه كلما دار الأمر بين قيدين أحدهما وجودي و الآخر عدمي كان مقتضى الإطلاق و السكوت في مقام الإثبات إرادة الخصوصية العدمية ثبوتا لأن هذا هو مقتضى الإطلاق. و في المقام خصوصية الغيرية وجودية لأنها عبارة عن الوجوب الناشئ من وجوب آخر بخلاف النفسيّة التي خصوصيتها هي الوجوب الّذي لم ينشأ من وجوب آخر فتكون متعينة بالإطلاق.[1]
يمكن العثور على جذور هذا التقريب الرابع في حاشية "الكفاية" للمحقق القوچاني، وكذلك في كتاب «دروس في علم الأصول» للمیرزا جواد التبريزي (قدس سره). يقول المحقق القوچاني:
أشرنا سابقا انّه لو لم يمكن ارادة القدر المشترك - كما في المقام - و دار الامر بين فردين: يكون بيان أحدهما بعدم ذكر قيد الآخر في مقام الاثبات بأن لم يحتج الى بيان مئونة قيد في التعبير دون الآخر، و ان لم يكن كذلك في مقام الثبوت لكونهما فردين من المطلق المتخصص كل واحد بخصوصية لم تكن في الآخر؛ يكون المتعيّن الحمل على ذلك الفرد - دون الآخر - بضميمة مقدمات الحكمة.[2]
وبناءً على هذا البيان، نفصل بين مقام الثبوت ومقام الإثبات كالتالي:
في مقام الثبوت: فإنّ كلاً من النفسية والغيرية له خصوصيةٌ زائدةٌ على طبيعة «الوجوب»؛ فلا النفسية هي عين طبيعة الوجوب، ولا الغيرية. فكلا العنوانين عارضٌ على هذه الطبيعة.
في مقام الإثبات: فإنّ الغيرية تتطلب قيداً وجودياً وتفتقر إلى بيان (وهو أخذ نسبة «للغير» أو ما يفيدها)؛ وأما النفسية، فيُكتفى في إثباتها بـ«عدمِ التقييد بالقيد المفيد للغيرية»، وهي لا تفتقر إلى بيانٍ مستقل. وعليه، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ولم يذكر قيد الغيرية، فإنّ النفسية تتحصّل في مقام الإثبات بمقتضى أصالة الإطلاق؛ إذ إنّ مفاد الإطلاق ليس إلا نفي ذلك القيد الزائد.
وعلى هذا المبنى، نؤكد على أنّ القول بـ«عدمية النفسية» إنما هو ملحوظٌ في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت؛ أي أنّ النفسية في حقيقة أمرها عنوانٌ إيجابيٌ زائدٌ على طبيعة الحكم، لكنها في ساحة الدلالة اللفظية تُحرَز بـ«نفي التقييد». والمتحصّل العملي من ذلك هو أنّه في خطاب الأمر، ما لم تقم قرينةٌ على قيد «للغير»، فإنّ الإطلاق ينفي ذلك القيد، فيكون بالتبع مُعَيِّناً للنفسية؛ ومتى ما أُخِذ قيد الغيرية في الدليل، يُقيَّد ذلك الظهور المنعقد في النفسية.
وشروط جريان هذا الوجه هي شروط مقدمات الحكمة نفسها، وهي: 1- إحراز كون المتكلم في مقام البيان؛ 2- وإمكان التقييد عرفاً؛ 3- وعدم نصب قرينة على الخلاف، متصلةً كانت أو منفصلة؛ 4- وعدم وجود قدرٍ متيقَّنٍ في مقام التخاطب يوجب التقييد. وعلى هذا المبنى، فمتى ما ورد الأمر المطلق ولم يطرأ عليه القيد المفيد للغيرية، تثبت النفسية بالمدلول المطابقي. ومتى ما قامت قرينة معتبرة على «للغير»، يُقيَّد الظهور المنعقد في النفسية لصالح الغيرية. وعليه، فإننا نسلّم بأنّه ثبوتاً: تُعَدُّ النفسية والغيرية كلتاهما خصوصيةً زائدةً على طبيعة الوجوب. وأما إثباتاً: فلا بدّ للغيرية من أخذ القيد الوجودي «للغير» في الدليل؛ وأما النفسية، فيكفي في إثباتها عدمُ ذكر ذلك القيد، فتُحرَز بمقتضى الإطلاق والسكوت في مقام البيان.
واستكمالاً للبحث في الوجه الرابع، ينبغي توضيح أن مرادنا من إثبات النفسية بنفسها ليس هو أن يؤخذ لها قيدٌ «إيجابي» في مدلول الخطاب، ولا أن تُطرَح بوصفها «قيداً عدمياً يؤخذ في الموضوع»؛ بل المقصود هو أنّ النفسية في «مقام الإثبات» تُحرَز بذاتها ومن خلال «عدمِ ذكرِ قيدِ الغيرية». وببيان آخر، فإنّ للنفسية في ساحة التعبير عنواناً عدمياً؛ بمعنى أنها تثبت بـ«نفيِ التقييد بما يفيد الغيرية»، لا بجعل قيدٍ إيجابيٍّ هو «لِنفسه» في متن الخطاب. وهذا الأمر هو الذي يجعل النفسية في مقام البيان في غنىً عن مؤونة بيانٍ أو تصريحٍ بقيد؛ وذلك في قبال الغيرية التي تفتقر، لكونها عنواناً وجودياً في مقام الإثبات، إلى ذكر القيد والقرينة.
وقد سجّل الشهيد الصدر (قده) ثلاثة نقود على هذا التقريب، نعرضها بادئين بالإشكال الثالث، ثم نتبعه بالثاني فالأول:
1- الإشكال في الصغرى: كون كلٍّ من النفسية والغيرية أمراً وجودياً
إنّ النفسية والغيرية كلتيهما أمران وجوديان. فإنّ الوجوب النفسي، الذي هو موضوعٌ لحكم العقل باستحقاق العقاب المستقل على مخالفته، لا يرجع في حقيقته إلى مجرد «عدم الانبعاث من وجوبٍ آخر»؛ بل له حدٌّ وجودي، وهو كونه ناشئاً من الملاك الكامن في نفس المتعلَّق. وذلك في قبال الوجوب الغيري الذي يكون ناشئاً من الملاك القائم في الغير. وعلى هذا، فإنّ حقيقة النفسية تنطوي هي الأخرى على حيثيةٍ وجودية (وهي الملاك القائم في نفس الفعل)، كما هو حال الغيرية (القائمة على الملاك في الغير). فدعوى جعل النفسية «قيداً عدمياً محضاً» لا تتمّ إذن.
2- الإشكال في الكبرى: عدم اندراج الاستدلال تحت قانون مقدمات الحكمة
إنّ هذا النحو من الاستدلال لا يندرج تحت قانون مقدمات الحكمة. فليس صحيحاً أنّه كلما دار الأمر بين قيدٍ «وجودي» وآخر «عدمي»، صحّ القول بأنّ عدم بيان الوجودي مساوٍ لبيان العدمي. والمثال النقضي على ذلك هو ما لو ورد أمرٌ: «أكرم العالم»، وعلمنا إجمالاً بأخذ خصوصيةٍ ما في الموضوع: إمّا «العدالة» (وهي قيد وجودي)، وإمّا «عدم الفسق» (وهو قيد عدمي). فحتى مع فرض التلازم الخارجي بينهما، لا يقوى الإطلاق على تعيين أنّ المأخوذ في الموضوع هو «عدم الفسق» لمجرد كونه قيداً عدمياً. إذ إنّ كلا الأمرين يمثّل «خصوصيةً زائدة»، والإطلاق ينفيهما معاً؛ وذلك مع العلم الإجمالي بأخذ أحدهما. فدعوى أنّ «القيد العدمي أخفُّ مؤونةً» لا تنهض لتكون قانوناً كلياً.
3- الوظيفة الحقيقية لمقدمات الحكمة (في اسم الجنس) عند الشهيد الصدر
إنّ الوظيفة الحقيقية لمقدمات الحكمة تكمن في إثبات الحكم على «جامع الطبيعة» (وهو المعبَّر عنه بالإطلاق الذاتي أو اللابشرط المقسَمي)، لا في إثبات «الإطلاق اللحاظي» في قبال «التقييد اللحاظي»، ولا في ترجيح «الخصوصية العدمية» على «الوجودية». وبيان ذلك: أنّ المتكلم لمّا كان في مقام البيان ولم يأتِ بقيد، فإنّ ما يُستفاد من ذلك هو أنّ الحكم قد تعلّق بذات الطبيعة ومجرّد حقيقتها، لا أنّ «القيد العدمي» قد ثبت بنفسه بوصفه قيداً في الموضوع. ويوجز (قده) هذه الإشكالات بقوله:
و فيه: ١- ان الإطلاق انما يدل على عدم لحاظ القيد لا على رفضه و لحاظ عدم القيد و هو المسمى عندهم بالإطلاق اللحاظي.
٢- الإطلاق اللحاظي أيضا يعني لحاظ رفض القيود لا لحاظ القيد العدمي كما في المقام و لهذا لو دار الأمر بين أخذ قيد العدالة أو عدم الفسق لم يمكن تعيين الثاني قبال الأول بالإطلاق.
وإشكالٌ آخر يُطرَح في هذا المقام، وهو أنّه في مقام الخطاب، متى ما كان لواجبٍ ارتباطٌ بواجبٍ آخر، فإنّ مجرد عدم ذكر هذا القيد لا ينهض دليلاً على النفسية؛ تماماً كما هو الحال في مقام الثبوت، حيث لا تُفسَّر النفسية أبداً بمجرد «عدم الانبعاث من الغير». وعليه، فإنّ الجواب القائل بأنّ كلا العنوانين (النفسي والغيري) يمثّل ثبوتاً «خصوصيةً وجوديةً زائدةً على طبيعة الوجوب»، ولكنّ منهجهما في الإثبات يختلف، لا ينهض بحلّ مشكلة التمسك بإطلاق الهيئة. فهذا القول لا يعدو كونه دعوى بلا برهان. فالغيرية، لكونها قيداً وجودياً، تفتقر إلى ذكر ذلك القيد في الخطاب؛ وأما النفسية، فإنها في ساحة البيان لا تُحرَز عن طريق «عدم تقييد الحكم بما يفيد الغيرية».
مسلكٌ آخر يقترحه المحقق النائيني (قدس سره) في «فوائد الأصول»، يرتكز على مبدأ «تعدّد الدليل» في فرض الغيرية. وتقرير هذا المبنى هو أنّه متى ما كان الوجوب غيرياً، فلا محالة من مواجهة دليلين اثنين؛ إذ إنّ الغيرية قوامها توقف وجوب المقدِّمة على وجوب ذي المقدِّمة، كما هو الحال في توقف وجود ذي المقدِّمة على وجود المقدِّمة. ولتقريب الفكرة بمثال: ففي مقام الشك في كون الوضوء نفسياً أو غيرياً، يُقال: لو كان الوضوء غيرياً، فما هو ذلك الغير الذي وجب لأجله؟ والجواب بيّنٌ، وهو «الصلاة». وعليه، فلا بدّ في فرض الغيرية من وجود خطابين: أحدهما يوجب الوضوء، والآخر يوجب الصلاة. وهذا التعدّد في الدليل هو نفسه قرينةٌ عرفيةٌ ذات شأنٍ في مقام تفسير النسبة القائمة بينهما. وبناءً على هذا المبنى، تنتظم منهجية التشخيص على النحو التالي:
إحراز وجوب ذي المقدِّمة: أولاً، يُحرَز وجودُ دليلٍ مستقل على وجوب ذي المقدِّمة (وهي الصلاة).
النظر في النسبة بين الدليلين: ثانياً، يُفهَم الأمرُ بالوضوء في ضوء ذلك الدليل المستقل. فإذا قامت القرائن اللفظية أو المقامية على الارتباط الوجودي للوضوء بالصلاة (كسياق التعليل، أو التقييد بالغاية، أو دليل الشرطية نظير قوله: «لا صَلاةَ إلّا بِطَهور»)، فإنّ الأمر بالوضوء يُحمَل غالباً على «الإرشاد إلى الشرطية والغيرية»، ويكون وجوبُه حينئذٍ تابعاً لوجوب الصلاة.
النتيجة المترتبة: وعليه، فبمقتضى سقوط وجوب الصلاة (لعجزٍ أو فواتِ وقتٍ أو انتفاءِ التكليف)، يسقط وجوب الوضوء الغيري أيضاً. وأما في المقابل، فإذا لم تقم قرينة على الارتباط الغيري، وحُفِظَ للأمر بالوضوء استقلالُه وإطلاقُ مادّته، قوي حينئذٍ احتمالُ النفسية (على الأقل من سنخ الرجحان النفسي). ومَزِيَّة مسلك المحقق النائيني تكمن في أنه، بدلاً من الاعتماد على إطلاق الهيئة (الذي لا يجري على مبنى الآخوند)، يستفيد من «تركيب الظهورات» و «القرائن الكاشفة عن النسبة بين الخطابين».
وبيان ذلك: أنّ وجود دليلٍ مستقل على ذي المقدِّمة، إذا انضمّت إليه قرينةٌ دالّةٌ على الارتباط، فإنّ ذلك يصرف الأمر بالمقدِّمة عن النفسية إلى الغيرية. وعند فقدان تلك القرائن، يُحفَظ للأمر بالمقدِّمة استقلالُه الدلالي. وعليه، فبناءً على مبنى المحقق النائيني: إذا كان وجوب الوضوء غيرياً، فلا محالة من أن يكون ذو المقدِّمة (وهي الصلاة) طرفاً في القضية؛ وعليه، ففي فرض الغيرية لا بدّ من مواجهة دليلين اثنين: 1- دليل وجوب الوضوء؛ 2- ودليل وجوب الصلاة. وتقوم منهجية التشخيص على اختبار «إطلاق مادة الصلاة»؛ إذ يُنظَر إلى الأمر في قوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ من حيث المادة. فإذا كان الشارع في مقام البيان ولم يأتِ بقيدٍ للشرطية في الصلاة، فإنّ مادة الصلاة، بمقتضى مقدمات الحكمة، تكون مطلقةً ولا يثبت لها شرط. وعليه، فما لم تقم قرينة زائدة، يبقى الوضوء على كونه واجباً نفسياً (أو على الأقل غير مشروطٍ من حيثية الصلاة). وأما إذا قامت قرينة معتبرة على الشرطية، فإنّ الإطلاق يُقيَّد ويُحكَم بالغيرية؛ نظير قوله: «لا صَلاةَ إِلّا بِطَهورٍ»، أو صدر آية الوضوء الذي يكشف عن النسبة بين الوضوء والصلاة.
والنصّان القرآنيان اللذان يقعان محل الابتلاء هما قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...﴾؛[4] وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.[5] والنتيجة المنهجية المترتبة على هذا المسلك هي أنّه، بدلاً من الاعتماد على إطلاق هيئة الأمر، نلجأ إلى «تركيب الظهورات». فإطلاق مادة الصلاة يفيد أصالة عدم الشرطية؛ فحيثما قام دليلٌ مستقل على شرطية الوضوء، يُقيَّد ذلك الإطلاق ويغدو الوضوء غيرياً. وحيثما انتفت مثل هذه القرينة، يُحفَظ للوجوبِ المتعلقِ بالوضوء ظهورُه الاستقلالي. ويشير المحقق النائيني (قده) إلى هذا المبنى بقوله:
فمجمل القول فيه: هو انّ الواجب الغيري لمّا كان وجوبه مترشّحا عن وجوب الغير، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير، كما انّ وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري، فيكون وجوب الغير من المقدّمات الوجوبيّة للواجب الغيري، و وجود الواجب الغيري من المقدّمات الوجوديّة لذلك الغير، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصّلاة، و تكون نفس الصّلاة مشروطة بوجود الوضوء، فالوضوء بالنّسبة إلى الصّلاة يكون من قيود المادّة، و وجوب الصّلاة يكون من قيود الهيئة بالنّسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدّم من تقييد الهيئة، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى الحرفيّ. و حينئذ يرجع الشّك في كون الوجوب غيريّا إلى شكّين: أحدهما: الشّك في تقييد وجوبه بوجوب الغير، و ثانيهما: الشّك في تقييد مادّة الغير به.
ومفاد الشرط الأول هو أنّه لا بدّ من أن يكون الوجوب النفسي لذي المقدِّمة (وهي الصلاة) معلوماً بالفعل. وببيان آخر: فعند النظر في نسبة الوضوء إلى الصلاة، لا بدّ من إحراز أنّ الأمر في قوله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ جارٍ بالفعل في ذلك المورد بالخصوص. فلو كان أصل وجوب الصلاة في ذلك المورد مشكوكاً، لما انعقد موضوعٌ لإطلاق مادة «الصلاة»، ولم يصحّ التمسك به حينئذٍ.
والمثال الفقهي محل الابتلاء هو: فلو ورد في الروايات «إِذَا زُرْتَ مَشْهَدًا مِنْ مَشَاهِدِ الأَئِمَّةِ فَتَوَضَّأْ»؛ ففي هذا المورد، وما لم نعلم بأنّ الأمر بالصلاة ثابتٌ بالفعل في ظرف الزيارة نفسه، لا يمكننا أن نستنتج من إطلاق مادة «الصلاة» نفي شرطية هذا الوضوء. إذ يُحتَمَل أن يكون هذا الوضوء توصلياً مستقلاً، أو مستحباً نفسياً، لا مقدِّمةً للصلاة المأمور بها في ذلك المورد. وأما في المقابل، فحيثما كان الوجوب النفسي للصلاة محرزاً في ذلك الظرف، أمكن حينئذٍ النظر في إطلاق مادة «الصلاة»: فإذا كان الشارع في مقام البيان ولم يأتِ بقيد الشرطية، فإنّ أصالة الإطلاق في المادة تقتضي نفي الشرطية. ومتى ما قامت قرينة معتبرة على الشرطية، يُقيَّد ذلك الإطلاق ويغدو الوضوء غيرياً.
إنّ التمسك بإطلاق المادة إنما يصحّ حيثما كانت النسبة بين الوجوب النفسي لذي المقدِّمة والوجوب الغيري للمقدِّمة قائمةً على «التوقف الشرعي»، لا «التوقف التكويني». فلو كان الشيء مقدِّمةً لوجود ذي المقدِّمة على نحوٍ تكويني (كالحركة بالنسبة إلى المشي)، فإنّ عدم التصريح به في مادة الأمر لا ينعقد له ظهورٌ في نفيه؛ إذ إنّه يُعَدُّ من سنخ الشروط الطبيعية المفروغ عنها عرفاً. وأما فيما نحن فيه، فإنّ شرطية الوضوء للصلاة هي أمرٌ شرعي محض، ومن هنا بالذات يمكن لإطلاق المادة — عند فقدان القرينة — أن يفيد نفي الشرطية.
وعلى هذا، فلا بدّ أن يكون احتمال الغيرية من سنخ التقييد الشرعي، لا المقدِّمية التكوينية. فإنّ المقدِّمات على نوعين: 1- مقدِّمات تكوينية أو عقلية: كنصب السلّم بالنسبة إلى الأمر بـ«كُن على السطح»؛ حيث يكون التوقف واقعياً وخارجياً. 2- مقدِّمات شرعية أو اعتبارية: كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة، وذلك باعتبار أخذ الوضوء قيداً في المأمور به. وإنّ إطلاق مادة دليل ذي المقدِّمة إنما ينفي التقييد الشرعي فحسب (أي عدم أخذ القيد تشريعاً). وأما التوقف التكويني، فلا ينفيه؛ إذ إنّ نصّ الشارع لا يرفع الواقع الخارجي.
لا بدّ أن يكون دليل ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ دليلاً لفظياً مطلقاً، حتى تكون «أصالة الإطلاق» ومقدمات الحكمة جاريةً فيه. وهذا الشرط يغاير شرط معلومية الوجوب النفسي؛ فقد يثبت أصل وجوب الصلاة بالإجماع (فيتحقق بذلك الشرط الأول)، ولكن، لعدم وجود دليلٍ لفظي مطلقٍ في البين، لا ينعقد مجرىً للإطلاق (فيُفقَد الشرط الرابع). وفي مثل هذا الفرض، يكون التمسك بإطلاق المادة لا وجه له. ويشير الشهيد الصدر (قده) إلى هذه الشروط الأربعة بقوله:
و هذا التقريب يتوقف على:
١- ان يكون ذلك الواجب النفسيّ الآخر معلوم الوجوب لا ان يكون وجوبه امرا محتملا بنفس دليل الأمر بالوضوء كما إذا جاء: إذا زرت إماما فتوضأ و لم يرد امر بالصلاة عند زيارة الإمام و انما احتمل ذلك من نفس دليل الأمر بالوضوء.
٢- ان يكون الوجوب الغيري المحتمل و المراد نفيه هو الوجوب الغيري بملاك التقييد الشرعي لا بملاك التوقف التكويني.
٣- ان لا يكون دليل الأمر بالواجب المردد بين النفسيّ و الغيري متصلا بدليل الواجب النفسيّ و إلاّ فسوف يسري إجماله، و تردده إلى ذلك الدليل أيضا .
٤- ان يكون دليل ذلك الواجب النفسيّ لفظيا مطلقا قد تمت مقدمات الحكمة و الإطلاق في مادته.[8]
النتيجة المترتبة: إنّ هذه الشروط الأربعة تقدّم لنا آليةً واضحةً وخاليةً من الإشكال للتمسك بإطلاق المادة. وبهذا المسلك، فإنّ الإشكالات التي أُوردت سابقاً على «أصالة الإطلاق في الهيئة» (من قبيل دعوى «لا إطلاق ولا تقييد في المعاني الحرفية» وما شاكلها من تهافتاتٍ ظاهرة)، لا تكون جاريةً في هذا المقام. إذ إنّ المرتكز هنا هو المادة اللفظية المستقلة، والإطلاق إنما يجري في مادة «الصلاة»، لا في المعنى الحرفي للهيئة. فحيثما قامت قرينة معتبرة على شرطية الوضوء للصلاة، يُقيَّد ذلك الإطلاق وتثبت الغيرية. وحيثما انتفت مثل هذه القرينة وتحققت الشروط الأربعة، فإنّ إطلاق المادة ينفي الشرطية ويعزّز بذلك الظهور المنعقد في النفسية.
وانسجاماً مع تقرير المحقق النائيني، نبيّن أنّ الوجوب الغيري يرجع في تحليله الثبوتي إلى «الوجوب المشروط». ويعني ذلك أنّه لو كان للوضوء وجوبٌ غيري، فإنّ حقيقته ليست إلا كون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة، أي: «إنْ وجبتِ الصلاةُ وجبَ الوضوءُ». وهذا المسلك يمثّل مساراً استدلالياً معتبراً ومنقَّحاً، وهو في منأى عن الإشكالات التي أُوردت سابقاً على التمسك بأصالة الإطلاق في الهيئة؛ إذ إنّ الارتكاز فيه إنما هو على المادة اللفظية المستقلة، لا على المعنى الحرفي للهيئة.
و صلّی اللّه علی محمّد و آله الطّاهرین
[1]- محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، با محمود هاشمی شاهرودی (قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، 1417)، ج 2، 111.
[2]- علی قوچانی، تعلیقة القوچاني علی کفایة الأصول (قم، 1430)، ج 1، 196-197.
[3]- نفس المصدر.
[4]- المائدة: ۶.
[5]- البقرة: ۴۳.
[6]- محمدحسین نائینی، فوائد الاُصول، با محمد علی کاظمی خراسانی (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376)، ج 1، 220.
[7]- محمد فاضل موحدی لنکرانی، اصول فقه شیعه، با محمود ملکی اصفهانی و سعید ملکی اصفهانی (قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)، 1381)، ج 3، 426-427.
[8]- الصدر، نفس المصدر.
- الصدر، محمد باقر. بحوث في علم الأصول. با محمود هاشمی شاهرودی. ۷ ج. قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامي بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، 1417.
- فاضل موحدی لنکرانی، محمد. اصول فقه شیعه. با محمود ملکی اصفهانی و سعید ملکی اصفهانی. ۱۰ ج. قم: مرکز فقهی ائمه اطهار (ع)، 1381.
- قوچانی، علی. تعلیقة القوچاني علی کفایة الأصول. ۲ ج. قم، 1430.
- نائینی، محمدحسین. فوائد الاُصول. با محمد علی کاظمی خراسانی. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.
نظری ثبت نشده است .