موضوع: الواجب النفسی و الغیری
تاریخ جلسه : ١٤٠٤/٧/١٥
شماره جلسه : ۱۶
-
خلاصة البحث السابق
-
كلام المحقق النائيني في الصورة الثالثة
-
كلام المحقق النائيني في «فوائد الأصول»؛ مبنى «التوسُّط في التنجيز»
-
دفع الشبهات المحتملة
-
كلام صاحب «الكفاية» في الصورة الثالثة؛ التفصيل بين فعلية تكليف ذي المقدِّمة وعدمها
-
التحليل الصناعي وصلته بالأصول العملية
-
كلام المحقق النائيني في «أجود التقریرات»؛ حكم المعلوم بالإجمال والتفكيك في التنجُّز
-
دفع توهّم
-
تعليقة السيد الخوئي؛ تحديد محل كلام «الكفاية» وفصله عن الصورة الثالثة محل البحث
-
وجه الفرق والنتيجة
-
فرض بحث المحقق الخراساني؛ الصورة الأولى في «المحاضرات»
-
المصادر
-
الجلسة ۱
-
الجلسة ۲
-
الجلسة ۳
-
الجلسة ۴
-
الجلسة ۵
-
الجلسة ۶
-
الجلسة ۸
-
الجلسة ۹
-
الجلسة ۱۰
-
الجلسة ۱۱
-
الجلسة ۱۲
-
الجلسة ۱۳
-
الجلسة ۱۴
-
الجلسة ۱۵
-
الجلسة ۱۶
-
الجلسة ۱۷
-
الجلسة ۱۸
-
الجلسة ۱۹
-
الجلسة ۲۰
-
الجلسة ۲۱
-
الجلسة ۲۲
-
الجلسة ۲۳
-
الجلسة ۲۴
-
الجلسة ۲۵
-
الجلسة ۲۶
-
الجلسة ۲۷
-
الجلسة ۳۶
-
الجلسة ۳۷
-
الجلسة ۳۸
-
الجلسة ۳۹
-
الجلسة ۴۰
خلاصة البحث السابق
في الصورة الثالثة للمحقق النائيني (قدس سره)، فإنّ تصوير المسألة هو كالتالي: إنّ الوجوب الفعلي «لشيءٍ ما» معلومٌ عندنا، ولكننا لا نعلم هل هذا الوجوب «نفسي» أم «غيري». وفي الوقت نفسه، نشكّ في نفس وجوب «الغير» (وهو ذو المقدِّمة). وبتطبيقٍ أوضح على مثال الوضوء والصلاة: فوجوب الوضوء معلوم. ولكننا نتردد في أنّه لو كان الوضوء «غيرياً» وتابعاً للصلاة، فبما أننا نشكّ في أصل وجوب الصلاة، وأنّ مقتضى الأصل العملي في باب الصلاة هو البراءة من وجوبها، فإنّ وجوب الوضوء الغيري هو الآخر (تبعاً لسقوط وجوب ذي المقدِّمة) ينتفي. وأما لو كان وجوب الوضوء «نفسياً»، فإنّ وجوبه ثابتٌ بالاستقلال.
إنّ المبنى المحوري في استدلال المحقق النائيني هو «التوسُّط في التنجيز»؛ وهو المنطق نفسه الذي يُبنَى عليه جريان البراءة الشرعية في باب «الأقل والأكثر الارتباطيين». والفكرة المحورية هي: أنّه حيثما كان «القدر المتيقَّن» من التكليف ثابتاً في عهدة المكلف على نحو اليقين، وكان التردد منحصراً في «الزائد أو الخصوصية الزائدة»، فإنّ العقل ينجِّز «المقدار المعلوم»، ويُرجَع في «الزائد المشكوك» إلى الأصل المؤمِّن (وهو البراءة). وعليه، فلا يمكن التهرب من امتثال القدر المتيقَّن، ولا يمكن أن يكون الشك في الزائد ذريعةً لترك أصل التكليف.
وبهذا المنطق نفسه، ففي الصلاة بدون سورة: فعندما نشكّ في جزئية السورة، فإنّ «الصلاة بدون سورة» (وهي الأقل) داخلةٌ في المأمور به قطعاً؛ فيكون الإتيان بها منجَّزاً. وأما «السورة» (وهي الزائد)، فهي مشكوكة، فتجري فيها البراءة. والنكتة التي يثيرها المحقق النائيني هي أنّه على الرغم من أنّ «ما عدا السورة» يمكن أن يُعَدَّ افتراضاً مقدِّمةً داخليةً للصلاة الكاملة، إلا أنّ هذا الاحتمال لا يمنع من التنجيز بالنسبة إلى القدر المتيقَّن؛ وذلك لأنّ المناط هو العلم بأصل التكليف. تطبيق هذا المنطق نفسه على الصورة الثالثة:
الصغرى: في مقامنا، فإنّ «وجوب الوضوء» معلومٌ على نحو الجامع؛ فإمّا أن يكون «نفسياً»، وإمّا أن يكون «غيرياً» بوصفه جزءاً أو شرطاً لواجبٍ آخر (وهو الصلاة مع الطهارة).
الكبرى: بناءً على «التوسُّط في التنجيز»، فإنّ القدر المتيقَّن من التكليف هو الوضوء نفسه: إمّا بالذات (على تقدير النفسية)، وإمّا بما أنّه داخلٌ في الواجب الكامل (وهو الصلاة مع الطهارة). وعليه، فإنّ الارتكاز العقلائي وقاعدة الاشتغال يحكمان بلزوم الإتيان بالوضوء.
الشبهة الأولى: «إنّ الوضوء على تقدير غيريته مقدِّمةٌ خارجية للصلاة؛ فلا تصل النوبة إليه ما لم يُحرَز وجوب الصلاة». جواب المحقق النائيني: لا فرق في المناط بين المقدِّمة الداخلية والخارجية. فالملاك هو العلم بوجوب مقدارٍ من التكليف، سواء كان ذلك المقدار هو «معظم الواجب» (كالصلاة بدون سورة)، أم كان «جزءاً أو شرطاً خارجياً» (كالوضوء). فعلمنا بـ«وجوب الوضوء» هو علمٌ بجزءٍ من التكليف؛ وعليه، فإنّ التنجيز يجري بالنسبة إلى ذلك الجزء نفسه، ودعوى تركه بحجة الشك في الزائد غير مسموعة.
الشبهة الثانية: «لو أُرجِع المثال إلى المقدِّمة الداخلية، لاختلف الحكم». دفع المحقق النائيني: حتى لو حُوِّل المثال إلى «المقدِّمة الداخلية» (كالعلم بوجوب السورة فحسب، مع الشك في كونها نفسية أو غيرية)، فإنّ المنطق واحد: فما عُلِم وجوبه يجب الإتيان به، وتجري البراءة في الزوائد المشكوكة. وبناءً على هذا المبنى، فالامتثال لازم، وهو الإتيان بالوضوء بوصفه قدراً متيقَّناً من التكليف. ومحل البراءة هو «الزائد»، أي في نفس وجوب الصلاة (على تقدير الشك وعدم الدليل)، لا في الوضوء الذي هو القدر المتيقَّن. ولذا، فإنّ «البراءة من الوضوء» لا وجه لها، وإن كانت «البراءة من وجوب الصلاة» بوصفها ذي المقدِّمة (على تقدير الشك) جاريةً في الجملة. فالمعيار هو أنّ «العلم بالوجوب» حاصلٌ بالنسبة إلى جزءٍ من التكليف؛ وعلى ذلك الجزء نفسه يترتب التنجيز. ويشير المحقق النائيني إلى هذا المبنى بقوله:
القسم الثّالث ما إذا علم بوجوب ما شكّ في غيريّته، و لكن شكّ في وجوب الغير... فقد قيل... بعدم وجوب الوضوء... لاحتمال كونه غيريّا... و لكن الأقوى وجوبه، لأنّ المقام يكون من التّوسّط في التنجيز الّذي عليه يبتنى جريان البراءة في الأقلّ و الأكثر الارتباطي... لا فرق بينهما، سوى تعلّق العلم بمعظم الواجب... و في المقام... بمقدار من الواجب كالوضوء فقط... كما لا يصلح الفرق... بما يحتمل كونه مقدّمة خارجيّة... و في ذلك المقام... مقدّمة داخليّة، فإنّ المناط في الجميع واحد... و لنا أن نفرض مثال المقام بما يحتمل كونه مقدّمة داخليّة... كما إذا علم بوجوب السّورة فقط و شكّ في النّفسيّة و الغيريّة، فتأمل.[1]
من اللازم في هذا المقام، استكمالاً للبحث وتعميقاً له، أن نرجع إلى كلام المحقق الخراساني. فمن وجهة نظره (قده)، فإنّ أمامنا واجباً مردَّداً بين النفسية والغيرية (كالوضوء)، وفي الوقت نفسه، فإنّ ذي المقدِّمة المحتمل (كالصلاة) إمّا أن تكون فعلية وجوبه محرزةً، وإمّا أن لا تكون. والبحث ينعقد في أنّ التكليف العملي للمكلف بالنسبة إلى ذلك الواجب المردَّد ما هو؟ وما هو الأصل العملي المناسب له: هل هو الاشتغال أم البراءة؟ وقد فصّل صاحب «الكفاية» (قدس سره) المسألة إلى حالتين:
الحالة الأولى: إحراز فعلية التكليف بذي المقدِّمة (كالصلاة)
في هذا الفرض، يكون أصل الاشتغال هو الحاكم، ولا بد من الإتيان بـ«ذلك الأمر المردَّد بين النفسية والغيرية» (وهو الوضوء)؛ وذلك لأنّه بعد زوال الشمس — على سبيل المثال — يكون زمان امتثال كلا الواجبين قد حلّ. وعليه، يلزم المكلف أن يأتي بالوضوء حتى يتيقن من حصول الامتثال القطعي للصلاة؛ إذ يُحتَمَل أن يكون الوضوء شرطاً لها. والملاك الأصولي هو أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني؛ وبما أنّ احتمال شرطية الوضوء للصلاة قائمٌ في ظرف فعلية الصلاة، فإنّ ترك الوضوء يستلزم احتمال بطلان امتثال الصلاة. ولذا، لا بد من الإتيان بالوضوء، سواء كان وجوبه نفسياً أم غيرياً.
الحالة الثانية: عدم إحراز فعلية التكليف بذي المقدِّمة (كالصلاة)
في هذا الفرض، يجري أصل البراءة؛ وذلك لأنّ شكّنا في أنّ «الوضوء نفسيٌ أم غيري» يرجع في حقيقته إلى الشك في أصل التكليف الفعلي بالوضوء: فإن كان نفسياً، فهو فعلي. وإن كان غيرياً، فبما أنّ ذي المقدِّمة ليس فعلياً، فلا فعلية له. مثالٌ تطبيقي: وجوب الوضوء على المرأة الحائض بعد زوال الشمس. فبما أنّ الصلاة ليست فعليةً في حقها، فإنّه لو كان الوضوء نفسياً، لكان فعلياً؛ وإن كان غيرياً، لم يكن فعلياً. وهذا من مصاديق «الشك في أصل التكليف»، وهو مجرىً لأصالة البراءة. ويشير صاحب «الكفاية» إلى هذا المبنى بقوله:
في صورة فعلية الصلاة: بما أنّ «التكليف بما احتُمِل كونه شرطاً له» فعلي، فإنّ علماً إجمالياً عملياً بلزوم الوضوء — تحصيلاً للفراغ اليقيني من الصلاة — يكون متحقِّقاً. وعليه، فإنّ أصل الاشتغال جارٍ، ولا وجه لترك الوضوء، وإن لم تكن «جهة الوجوب» (نفسية/غيرية) محرزة.
في صورة عدم فعلية الصلاة: فإنّ الشك في الوجوب الفعلي للوضوء هو شكٌّ بدوي في التكليف؛ فتجري أصالة البراءة بالنسبة إلى الوضوء. ففي هذا الفرض، وبما أنّ ذي المقدِّمة ليس فعلياً، فإنّ احتمال الغيرية مساوٍ لعدم التكليف الفعلي بالوضوء. فمحور التفصيل عند صاحب «الكفاية» هو «فعلية ذي المقدِّمة»، لا مجرد احتمال الشرطية. فحيثما أصبح ذي المقدِّمة فعلياً، لزم الإتيان بما يُحتَمَل كونه شرطاً له، بملاك قاعدة الاشتغال. وحيثما لم يصبح ذي المقدِّمة فعلياً، رجع الشك إلى «تكليفٍ فعلي جديد»، وكانت البراءة هي الحاكمة.
لقد ورد كلام المحقق النائيني في «أجود التقریرات» بصياغةٍ أخرى تقتضي مزيداً من البحث. فبحسب ما ينقله المحقق الخوئي عن أستاذه، فإنّ المفروض في الصورة الثالثة — وهي الصورة الثانية الكلية في صدر مباحث المحقق النائيني — هو أنّه لا يُعلَم إلا «وجوب شيءٍ ما»، ولكن يقع التردد في «جهة الوجوب»: هل هو نفسي أم غيري؟ وفي الوقت نفسه، يُلحَظ احتمال أن يكون في الواقع واجبٌ آخر موجودٌ بالفعل يكون تحققه منوطاً بنفس هذا المعلوم الوجوب بالإجمال. وفي مثال الطهارة والصلاة: فالطهارة معلومة الوجوب. ويُحتَمَل أن تكون الصلاة هي الأخرى واجبةً بالفعل، وأن يكون تحققها متوقفاً على الطهارة. فالوظيفة الامتثالية هي الإتيان بذاك «المعلوم الوجوب إجمالاً»؛ فتركه غير جائز.
التعليل الصناعي: إنّ ترك المعلوم الوجوب يوجب استحقاق العقاب على نحو العلم الإجمالي؛ وذلك لأنّه: إمّا أن يكون وجوبه «نفسياً»، فيكون لتركه عقابٌ بالأصالة. وإمّا أن يكون «مقدِّمةً» لواجبٍ فعلي آخر، فيكون تركه مستلزماً لترك ذي المقدِّمة، وبالتالي موجباً لاستحقاق العقاب. وينبغي التدقيق في أنّ ترك ذلك الشيء من سائر الجهات التي لا ترتكز على هذا المعلوم الإجمالي، يقع تحت أدلة البراءة وله مؤمِّن. إلا أنّ هذا الترخيص لا يزاحم تنجُّز ذاك المقدار المعلوم الأثر. وبعبارة أخرى، فإنّ المقدار من التكليف الذي له «أثرٌ عقابي معلوم»، يكون منجَّزاً بالقدر نفسه، والأصول الترخيصية إنما ترفع الزوائد غير المنجَّزة، لا أصل المعلوم المنجَّز.
مبنى التفكيك في التنجُّز (وهو التوسُّط في التنجيز): يرتكز هذا الحكم على قاعدة «التوسُّط في التنجيز»؛ وهو المنطق نفسه الذي يؤول إليه جريان البراءة في «الأقل والأكثر الارتباطيين». وخلاصة ذلك أنّه متى ما ثبت «قدرٌ متيقَّن» من التكليف بالإجمال، وكان التردد ناظراً إلى «الزائد أو الخصوصية الزائدة»، فإنّ العقل يحكم بتنجُّز القدر المتيقَّن، ولا يقبل البراءة إلا من الزوائد. وفي مقامنا أيضاً، فإنّ «الطهارة» بوصفها قدراً متيقَّناً منجَّزة، ويكون الشك في «توقفها على الوجوب الفعلي للصلاة» أو في سائر الجهات مجرىً للبراءة. وعليه، فبمقدار العلم باستحقاق العقاب على ترك المعلوم، يتحقق الاشتغال؛ فيلزم امتثاله. وأما بالنسبة إلى الجهات التي لا تنجُّز فيها (وهي الزائد المشكوك)، فتجري البراءة. ولكنّ «أصالة البراءة» لا تنفي الفعلية الواقعية للإلزام، ولا ترفع تنجُّزه بمقدار العلم؛ فنطاقها منحصراً في «ما زاد مما هو غير منجَّز».
الجواب عن كلام صاحب «الكفاية»
لقد طرح صاحب «الكفاية» في هذا المقام التمسك بالبراءة. وبحسب تقرير المحقق النائيني، فبعد التسليم بـ«التفكيك في التنجُّز» في مبحث الأقل والأكثر، فإنّ هذا التمسك لا يتمّ. وذلك لأنّ التفكيك في التنجُّز يعني أنّه من الممكن أن تتنجَّز «بعض جهات التكليف» بواسطة العلم (ولو كان إجمالياً)، وأن لا تتنجَّز جهاتٌ أخرى. واجتماع هذين الأمرين ليس بمحال. وفي ما نحن فيه، فإنّ «استحقاق العقاب على ترك معلوم الوجوب» — المردَّد بين منشأي النفسية والغيرية المتوقفة على واجبٍ فعلي — معلومٌ تفصيلاً «بمقدار الأثر»؛ وهذا المقدار كافٍ للتنجُّز. وكون ذلك الوجوب المحتمل غير منجَّزٍ من جهاتٍ أخرى، لا يخلّ بتنجُّزه من هذه الجهة؛ إذ إنّ «عدم التنجُّز من جهةٍ لا ينافي التنجُّز من جهةٍ أخرى». وعليه، فلا تقوى البراءة على رفع الفعلية الواقعية للتكليف وتنجُّزه بمقدار العلم؛ فوظيفتها تنحصر في رفع الزوائد غير المنجَّزة.
فلو قيل: «مع احتمال الغيرية، لا يكون وجوب الطهارة معلوماً على كل تقدير؛ فتجري البراءة من نفس الطهارة». فالجواب هو أنّ علمنا بـ«استحقاق العقاب على ترك الطهارة» — بأحد المنشأين المذكورين — ثابتٌ بمقدار الأثر. وهذا العلم هو بعينه الذي يحقق موضوع الاشتغال، ويُسقِط البراءة عن هذا المقدار المنجَّز. فالبراءة إنما يكون لها مجرىً في ذلك الجزء من التكليف الذي لم يتنجَّز (وهو الزائد المشكوك) فحسب. وعليه، فإنّ الحكم الصناعي بيّن: وهو الاحتياط بالنسبة إلى «معلوم الوجوب»، والبراءة بالنسبة إلى «الجهات الفاقدة للتنجُّز». ويشير المحقق الخوئي في تقريره لكلمات أستاذه إلى هذا المبنى بقوله:
يصرّح آية الله الخوئي في تعليقته على «أجود التقریرات» بأنّ تمسك صاحب «الكفاية» بالبراءة ليس ناظراً إلى «هذه» الصورة الثالثة محل بحثنا؛ بل هو مرتبطٌ بصورةٍ أخرى تجري فيها البراءة بلا إشكال. ولرفع الخلط، لا بد من التمييز الدقيق بين الصورتين:
أ) الصورة الثالثة محل بحثنا
المفروضات: نعلم أنّ «ألف» (وهو الوضوء مثلاً) واجب، وإن كنا لا نعلم هل وجوبه نفسي أم غيري. ويُحتَمَل أن يكون هناك واجبٌ فعلي آخر هو «باء» (وهو الصلاة مثلاً) موجودٌ في الواقع يكون تحققه متوقفاً على «ألف».
التحليل العقلي: إن كان وجوب «ألف» نفسياً، استتبع تركه العقاب. وإن كان وجوب «ألف» غيرياً وكان «باء» فعلياً، آل ترك «ألف» إلى ترك «باء»، فاستتبع العقاب.
النتيجة: إنّ علماً إجمالياً باستحقاق العقاب على ترك «ألف» متحقِّق. والحكم الأصولي هو أنّه مع تحقق هذا العلم الإجمالي، تكون أصالة الاحتياط هي الحاكمة، لا البراءة. فيلزم المكلف أن يأتي بـ«ألف» حتى يأمن من استحقاق العقاب — بأيٍّ من المنشأين المحتملين.
ب) الصورة المنظورة لصاحب «الكفاية» (وهي غير الصورة السابقة)
المفروضات: نعلم أنّ «شيئاً ما واجبٌ في الشريعة»، ولكننا نتردد فيما إذا كان واجباً نفسياً فعلياً بالنسبة «لنا»؛ أم أنّه مقدِّمةٌ لواجبٍ «غير فعلي». والمثال على ذلك هو المرأة الحائض التي «ليست مكلَّفةً بالصلاة فعلاً»، ولكنها تعلم أنّ الوضوء واجبٌ في الشريعة. فيقع التردد عندها في أنّ الوضوء هل هو واجبٌ نفسي عليها الآن، أم أنّ وجوبه غيريٌ بالنسبة إلى صلاةٍ ليست واجبةً عليها فعلاً.
إنّ معيار الفرق هو «فعلية ذي المقدِّمة» وبنية العلم الإجمالي: ففي الصورة الثالثة محل بحثنا، وبسبب احتمال توقف واجبٍ فعلي آخر على «ألف»، ينعقد علمٌ إجمالي منجِّزٌ باستحقاق العقاب على ترك «ألف»؛ فلا تجري البراءة، ويلزم الاحتياط. وفي الصورة المنظورة لصاحب «الكفاية»، فبما أنّ ذي المقدِّمة ليس فعلياً، لا يتحقق علمٌ إجمالي بتكليفٍ فعلي؛ فتجري البراءة. وعليه، فإنّ ما ذهب إليه صاحب «الكفاية» من الرجوع إلى البراءة صحيحٌ تماماً، ولكن في ذلك الفرض الذي «لا يكون فيه ذي المقدِّمة فعلياً». وأما في الصورة الثالثة محل بحثنا — مع احتمال توقف واجبٍ فعلي على «ألف» — فإنّ البراءة لا تجري، والحكم هو الاحتياط. ويشير المحقق الخوئي في بيانه لإشكاله إلى هذا المبنى بقوله:
لا يخفى أنّ ما أفاده في الكفاية من الرجوع إلى البراءة إنّما هو في غير هذه الصورة؛ فإنّ مورد كلامه ما إذا عُلِم وجوبُ شيء في الشريعة إجمالاً لكن تردّد أمرُه بين أن يكون واجباً نفسيّاً وأن يكون مقدّمةً لواجبٍ غير فعلي، كما إذا علمتِ الحائض غيرُ المكلَّفة بالصلاة بوجوبِ الوضوء... ولا ريب أنّ المرجع في هذه الصورة أصالةُ البراءة للشكّ في الوجوبِ الفعلي.[4]
يصوِّر المحقق الخوئي في كتاب «المحاضرات» الصورة التي كانت منظورةً لصاحب «الكفاية» على النحو التالي: إنّ للمكلف يقيناً إجمالياً بأنّ «شيئاً ما» واجبٌ في الشريعة (كالوضوء)، ولكنه مترددٌ بين كونه نفسياً أو غيرياً. وفي الوقت نفسه، يعلم أنّه لو كان وجوب ذلك الشيء غيرياً، لكان ذو المقدِّمة (كالصلاة) غير واجبٍ فعلاً. والمثال البيّن على ذلك هو المرأة الحائض التي تعلم أنّ «الوضوء» واجبٌ في الجملة، ولكنها تتردد بين كونه واجباً نفسياً فعلياً بالنسبة إليها، أو مقدِّمةً للصلاة؛ وهي تعلم أنّ الصلاة ليست واجبةً عليها فعلاً. وفي هذه الصورة: فعلى تقدير النفسية، يكون الإلزام الفعلي بالوضوء متحقِّقاً. وعلى تقدير الغيرية، فبما أنّ وجوب ذي المقدِّمة (وهي الصلاة) ليس فعلياً، فإنّ الإلزام الفعلي بالوضوء هو الآخر منتفٍ. فتردُّد المكلف إذن يرجع في حقيقته إلى الشك في «الوجوب الفعلي»؛ فإمّا أن لا يكون ثمة وجوبٌ أصلاً الآن (على تقدير الغيرية بالنسبة إلى واجبٍ غير فعلي)، وإمّا أن يكون ثمة وجوبٌ نفسي فعلي.
وفي مثل هذا الشك، فإنّ المرجع بلا ريب هو «أصالة البراءة»؛ وذلك بناءً على كلٍّ من بناء العقلاء القائم على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والبراءة الشرعية بلسان الأدلة المؤمِّنة. والعلة في ذلك أنّ «التكليف الفعلي» لم يُحرَز على جميع التقديرات حتى يكون منشأً للاحتياط؛ بل إنّ لدينا شكاً في أصل فعلية التكليف. وعليه، فلو لم يقم دليلٌ خاص على النفسية الفعلية، فإنّ الوضوء لا يكون فعلياً في الذمة. والتمسك بالاحتياط بملاك العلم الإجمالي لا وجه له هو الآخر؛ وذلك لأنّ علماً إجمالياً بـ«تكليفٍ فعلي» لم يتحقق، بل إنّ طرف الغيرية فاقدٌ للفعلية من الأساس.
وهذا هو بعينه المورد الذي ارتضى فيه صاحب «الكفاية» (قدس سره) الرجوع إلى البراءة، ويصرّح آية الله الخوئي (قدس سره) أيضاً بأنّ مراد «الكفاية» هو «هذه» الصورة بالذات، لا الصور الأخرى التي يُحتَمَل فيها توقف واجبٍ فعلي آخر على هذا الشيء، فتصل النوبة فيها إلى الاحتياط بسبب العلم الإجمالي المنجِّز. وبعبارة أخرى، فإنّ محور التمايز بين هذه الصورة والصورة الثالثة محل البحث هو أنّ «ذي المقدِّمة ليس فعلياً» في هذه الصورة؛ ولهذا، لا ينعقد علمٌ إجمالي بتكليفٍ فعلي، فتجري البراءة. وأما حيثما كان ذو المقدِّمة فعلياً، أو احتُمِل عقلائياً توقف واجبٍ فعلي آخر على هذا الشيء، فإنّ البنية ترجع إلى العلم الإجمالي المنجِّز، فتكون بالضرورة مجرىً للاحتياط، لا البراءة. ويشير آية الله الخوئي إلى هذا المبنى بقوله:
… ما إذا علم المكلّف بوجوبِ شيءٍ إجمالاً في الشريعة وتردّد بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً، وهو يعلم بأنّه لو كان واجباً غيريّاً ومقدّمةً لواجبٍ آخر لم يكن ذلك الواجب فعليّاً، … وفي مثل هذا الفرض لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عقلاً ونقلاً… فإنّه لا يعلم بوجوبٍ فعليٍّ على كلّ تقدير… ومعه لا محالة يُشكّ في الوجوبِ الفعلي، ومن الطبيعي أنّ المرجع في مثله هو البراءة… وهذا هو مراد المحقّق صاحب الكفاية (قده) من الرجوع إلى البراءة فيه… .[5]
النتيجة النهائية: في الصورة الأولى في «المحاضرات» (وهي فرض كون ذي المقدِّمة غير فعلي)، فإنّ الشك إنما هو في أصل الوجوب الفعلي، والمرجع هو البراءة الشرعية والعقلية. وأما في الصورة الثالثة، فبسبب احتمال توقف واجبٍ فعلي آخر على هذا الشيء، ينعقد علمٌ إجمالي منجِّزٌ باستحقاق العقاب، فيُحكَم بالاحتياط. ولكن في الصورة الأولى، فبما أنّ طرف الغيرية فاقدٌ للفعلية، فإنّ العلم الإجمالي المنجِّز غير متحقق، وتجري البراءة.[6]
[1]- محمدحسین نائینی، فوائد الاُصول، با محمد علی کاظمی خراسانی (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376)، ج 1، 223-224.
[2]- محمد کاظم آخوند خراسانی، کفایة الأصول (قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430)، ج 1، 205.
[3]- محمدحسین نائینی، أجود التقریرات، با ابوالقاسم خویی (قم: مطبعة العرفان، 1352)، ج 1، 171-172.
[4]- همان.
[5]- ابوالقاسم خویی، محاضرات فی أصول الفقه، با محمد اسحاق فیاض (قم: دارالهادی، 1417)، ج 2، 389.
[6]- المقرِّر: بالرجوع المباشر إلى «فوائد الأصول»، يتضح أنّ المحقق النائيني في «القسم الثالث» إنما ينظر إلى الصورة نفسها التي اعتبرها صاحب «الكفاية» محلاً للرجوع إلى البراءة. وهي: أنّ وجوب الشيء (كالوضوء) معلومٌ بالإجمال؛ ونشكّ في كونه نفسياً أو غيرياً؛ وفي ما يتصل بذي المقدِّمة (وهو الصلاة)، فإنّ لدينا «شكاً في أصل وجوبه» (شكٌ في وجوب الغير)، لا أننا نحرز فعليته.
والفرق بين المحقق النائيني وصاحب «الكفاية» ليس في «تصوير الصورة»، بل في «الحكم» و«مبنى التنجيز»: فصاحب «الكفاية»، في فرض عدم فعلية ذي المقدِّمة، قد حكم بالبراءة من الوضوء. وأما المحقق النائيني، فبناءً على مبدأ «التوسُّط في التنجيز»، يقول: بما أنّ القدر المتيقَّن من التكليف (وهو وجوبٌ ما للوضوء، إمّا نفسي وإمّا بما أنّه داخلٌ في الواجب التام) محرز، فإنّ تركه غير جائز، وتجري البراءة في «الزائد المشكوك» (وهو وجوب الصلاة)، لا في الوضوء. وعليه، فإنّ النائيني و«الكفاية» متفقان في «تصوير الصورة» (وهي عدم فعلية ذي المقدِّمة).
فأين يكمن موضع الخلط في تقرير السيد الخوئي؟ في «أجود التقریرات»، يصوِّر «الصورة الثالثة» على النحو التالي: «لا يعلم إلا وجوبُ ما… لاحتمال أن يكون في الواقع واجبٌ آخر فعليٌّ يتوقف حصولُه على ما عُلِم وجوبه إجمالاً». إنّ هذه الإضافة، وهي «احتمال وجود واجبٍ آخر فعلي»، تغيِّر الصورة وتخرجها عن إطار «الكفاية» و«الفوائد»؛ إذ ورد في «الفوائد» صراحةً «شكٌّ في وجوب الغير»، لا احتمال وجود «واجبٍ فعلي آخر». وعلى هذه الصورة الجديدة (وهي احتمال توقف واجبٍ فعلي آخر على الوضوء)، فإنّ الاستدلال بالعلم الإجمالي المنجِّز والحكم بالاشتغال والاحتياط يكون في محله تماماً. إلا أنّ هذه ليست هي الصورة المنظورة لصاحب «الكفاية»، ولا للمحقق النائيني في «الفوائد».
المصادر
- آخوند خراسانی، محمد کاظم. کفایة الأصول. ۳ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1430.
- خویی، ابوالقاسم. محاضرات فی أصول الفقه. با محمد اسحاق فیاض. ۵ ج. قم: دارالهادی، 1417.
- نائینی، محمدحسین. أجود التقریرات. با ابوالقاسم خویی. ۲ ج. قم: مطبعة العرفان، 1352.
- ———. فوائد الاُصول. با محمد علی کاظمی خراسانی. ۴ ج. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمیة بقم، 1376.
نظری ثبت نشده است .