درس بعد

الدرس الثاني والتسعون:مسألة العدول

درس قبل

الدرس الثاني والتسعون:مسألة العدول

درس بعد

درس قبل

موضوع: تقريرات دروس خارج الفقه - الاجتهاد و التقليد


تاریخ جلسه : ١٣٩٠/٦/٢٨


شماره جلسه : ۹۲

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • البحث في مسألة العدول من مجتهد حي الى مجتهد حي أخر

الجلسات الاخرى

الدرس الثاني والتسعون

بيان المرحوم السيد الخوئي:

تعرض المرحوم السيد الخوئي إلى شرط ثان وظاهراً لم يتعرض إليه قبله أحد من الفقهاء، وقد ورد هذا الشرط في كلماته، فقال: من شرائط جواز البقاء على التقليد أن يكون المقلِّد ذاكراً لفتاوى مقلَّده وأن لا يعرض عليه النسيان، وإذا عرض عليه النسيان فلا يستطيع البقاء على تقليده وهذا نص عبارته: «لأنّ النسيان يعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميت قبل موته، لأنّه لا يترتب مع النسيان أثر على الأخذ». وبعبارة أخرى، أخذ زيد بفتوى مجتهد عندما كان ذلك المجتهد حياً، والآن قد توفي، عندئذ ينعدم هذا الأخذ والرجوع إلى كليهما، ولماذا ينعدم؟ لأنّ النسيان عرض الآن على الأخذ السابق ولا يترتب أي أثر على الرجوع السابق حينئذ، ولماذا لا يترتب أثر؟ قال: مثلاً أنّ المقلِّد لا يدري ما هي فتوى المجتهد بالنسبة إلى العصير العنبي هل هو نجس أم طاهر؟ فبعد نسيانه لفتوى مجتهده لا يترتب عليه أثر، ومثّل بمثال آخر وقال: كأنّما تقولون إنّ الحكم الواقعي لا نعلم أنّ حكم عصير العنب هل هو نجس أم طاهر؟ فهناك كذلك لا يمكن أن يترتب عليه أثر مطلوب أصلاً، ثم بعد موته ينعدم الرجوع ولا يترتب عليه أثر بعد النسيان أيضاً، وإذا أراد أن يرجع إلى نفس المجتهد مرة أخرى يكون تقليده تقليداً ابتدائياً، ـ ونحن قلنا إنّ التقليد الابتدائي باطل ـ هذا خلاصة ما أشار إليه (قدس سره) في كتابه (التنقيح) لشرح العروة، وقد ذكرت في البحوث السيد الخوئي (قدس سره) شروح مختلفة على العروة حيث كتبت من قبل تلامذته منها التنقيح في شرح

صفحه 286

العروة حيث طبع في 6 أجزاء لآية الله الغروي الذي استشهد بيد المجرم صدام، ويحتوي هذا الشرح على مباحث الاجتهاد والتقليد والطهارة وبعض الأبواب الاُخرى، كذلك شرح كتاب الحج تحت عنوان «المعتمد». ووردت هذه النظرية في التنقيح، ج1، ص 87.

إشكال صاحب تفصيل الشريعة

أشكل الوالد المعظم (دام ظلّه) في كتابه تفصيل الشريعة(1) على السيد الخوئي (قدس سره) وقال: عندما تقولون: ـ يقصد السيد الخوئي ـ من شرائط جواز البقاء على تقليد الميت الذكر، وإذا عرض عليه النسيان ليس له البقاء، وما هو مرادكم من هذا الكلام؟ هل مرادكم أنّه إذا عرض عليه النسيان يبادر المقلِّد إلى رسالة المجتهد ويتعلمها مرّة أخرى، وبذلك تقولون إنّه تقليد ابتدائي؟ مثلاً إذا نسي المقلِّد أو لم يعمل بفتواه مدّة من الزمن، ثم راجع المجتهد الحي أو راجع فتواه مرّة أخرى، يعني بذلك يتجدد التقليد عنده مرة أخرى، وهذا لا نقبله، ولم يقل به أحد من الفقهاء بأنّه تقليد ابتدائي والرجوع بتقليد جديد، وكذلك بعد موته إذا نسي يرجع إلى فتواه أو رسالته ولا يقال إنّه تقليد ابتدائي. هذا الإشكال الأول.

وأمّا إذا كان مرادكم من الذكر أن يكون المقلِّد ذاكراً، وإذا نسي لا يتمكن من الرجوع، نقول: هنا لا يقال، لا إمكان للبقاء، بل يقال لا مشروعية لبقاء هنا، لأنّه في هذا المورد يمكن البقاء على تقليد الميت بانتفاء موضوعه. لأنّ عدم الجواز إمّا حكماً أو مشروعاً.

بيان الاستاذ المعظم

هذا الإشكال من صاحب كتاب (تفصيل الشريعة) غير وارد، علاوة على ما

1 ـ تفصيل الشريعة، ص 167،

صفحه 287

نضيف عليه، هل نركز على ما ورد في استدلال السيد الخوئي (قدس سره) أنّه استدلال صحيح أم لا؟ حيث قال من عرض عليه النسيان ينعدم أخذ السابق وينعدم رجوعه إلى الميت قبل موته، نسأل السيد الخوئي (قدس سره) : لماذا لا أثر للأخذ السابق مع النسيان؟ وإذا كان المقلِّد عاملاً بفتوى مجتهده في حياته ولم تكن مورد ابتلاء بالنسبة له خصوصاً في باب العبادات، فلماذا ليس له أن يقول إنّها بالنسبة لي غير واجب؟ حتى لو رجع إلى الحي فيكون عمله السابق عليه حجة، مثلاً كان المجتهد يقول في السابق بوجوب صلاة الجمعة وبعد موت المجتهد الحي يقول بعدم الوجوب في زمن الغيبة بل تجب صلاة الظهر، هل يجب عليه اعادة أعماله السابقة خلال عشر سنوات؟ فلم يفتِ أحد من الفقهاء بمثل هذه الفتوى، لأنّ عمله كان مطابقاً للحجة وله أثره مادام العمر فلا اعادة فيه، ولذا هذا الدليل دليل غير تام فمجرّد النسيان ينعدم الأثر، أو انعدام الرجوع بمجرّد النسيان، ولذا لم نر أحداً قبل السيد الخوئي (قدس سره) يذهب إلى هذا الشرط، ولعله قد انفرد بهذا الرأي.

النتيجة: يجوز تقليد الميت تقليداً ابتدائياً، ولكن لا بأس بالبقاء على تقليده، وإن شاء الله سيأتي أصل الجواز في الأعلمية، وما ذكر تارة أنّ يكون البقاء بعد العمل والآخر بعد الذكر، وقلنا بعد البحث والاستدلال بعدم اعتبارهما بل يكفي في التقليد الالتزام فقط.

وقد اتبعنا الإمام الراحل (قدس سره) في بيان الشرائط من كتابه الشريف (تحرير الوسيلة) ولكن لم يذكر الإمام الراحل (قدس سره) سوى ثلاثة أو أربعة من الشروط، وما ذكره قد وصل مجموعاً أحد عشرة شرطاً، وبقي الشرط الرابع هو العدول من الحي إلى حي آخر.

صفحه 288

مسألة العدول

* 1 ـ آراء ونظريات
* 2 ـ عدم الجواز وأدلّته
* 3 ـ الجواز وأدلّته

صفحه 289

آراء ونظريات

العدول في اللغة

العدول في اللغة عبارة: عن الرجوع من شيء إلى شيء آخر أفضل منه أو يساويه.

وقيل: عَدَلَ فلان بفلان أي سوَّى بينهما(1).

وقيل: عَدَلَ بين الأمرين إذا نظر أيّهما أرحج(2).

وقال صاحب «القاموس المحيط» عَدَلَ عَنه عُدولاً حاد عنه، وعدولاً رجع والطريق مال... فلاناً بفلان سوّى بينهما.

العدول في إصطلاح الفقهاء:

هو عبارة عن العدول من مجتهد حي إلى مجتهد حي آخر، وهذا التعريف كان شغلاً شاغلاً للفقهاء حقباً من الدهر حيث يثير هذا التساؤل: هل يجوز العدول في التقليد من الحي إلى الحي آخر سوآء كان مساوياً أو الثاني أعلم من الأول أو بالعكس أم لا؟ يعني هل يحق للشخص العامي أن يختار لنفسه مرجعاً لمدّة معينة ثم يعدل عنه إلى غيره باختياره مع كون الثاني مساوياً له في التقليد، أو الثاني أعلم من الأول أو بالعكس أم لا؟ هنا تأتي الآراء والنظريات لصيقلة هذه المسألة

1 ـ أقرب الموارد، ص757.
2 ـ مفردات الراغب، ص326 باب العين.

صفحه 290

والغوص في أعماقها لاستخرج اللؤلؤة والمرجان.

ففي الفرض الأول لا يجوز العدول من الأعلم إلى غير الأعلم يقيناً، لأنّه مع وجود الفاضل لا يمكن الاستناد إلى رأي المفضول الساقط عن الحجّية عقلاً.

أمّا العكس فلا بأس به، لأنّ حجّته أقوى من غير الأعلم، وكذلك يجوز البقاء بناءاً على عدم جواز تقليد غير الأعلم.

وفي الفرض الثاني جاءت آراء الفقهاء بين الجواز وعدمه.

كلام السيد اليزدي (قدس سره):

تطرق المرحوم المحقق كاظم اليزدي (قدس سره) في كتاب العروة إلى هذه المسألة ـ المسألة الرابعة ـ وقال: «لا يجوز العدول بعد تحقق التقليد من الحي إلى الحي المساوي على الأحوط و يجب العدول إذا كان الثاني أعلم على الأحوط».

وهذه مسألة مهمّة لها تداعياتها وموضوعاتها الكثيرة في عصرنا الحاضر، وقد طرح السيد اليزدي صاحب العروة هذه المسألة تحت عنوان المسألة الحادية عشرة في مباحث الإجتهاد والتقليد، وذهب إلى عدم جواز العدول من الحي المساوي إلى الحي الآخر، ولكن إذا كان الثاني أعلم من الأول يجوز بل يجب، هذا ما ورد في نسخة لها بدل آخر، وقد ورد في بعض النسخ من كتاب «التحرير» للإمام الراحل (قدس سره) : «يجوز العدول بعد تحقق التقليد من الحي إلى الحي المساوي»، ولكن نواجه هنا مشكلة كلمة (الأحوط) الواردة في الفتوى، لأنّه قال يجوز على الأحوط، وهذا كلام يتناسب مع المقام وما ورد في التحرير، بغض النظر من وجود اختلاف بين نسخ التحرير، ولأنّه ورد في بعض الهوامش «لا يجوز» مع أنّه يستفاد من فتوى الإمام الراحل (قدس سره) في حاشيته على العروة إذا كان الحي مساوياً فلا إشكال فيه.

يظهر من مجموع كلماتهم ثلاث صور:

صفحه 291

1 ـ عدم الجواز بناءاً على الفتوى.

2 ـ عدم الجواز بناءاً على الاحتياط.

3 ـ الجواز.

آراء الفقهاء:

قبل أن ندخل في صميم الموضوع نذكر هنا بعض حواشي العروة: ذهب كل من المرحوم المحقق الحائري والمرحوم السيد عبدالهادي الشيرازي والمرحوم السيد الگبايگاني (رحمهم الله) إلى ما اختياره السيد اليزدي (قدس سره) ، ولكن على غرار الاحتياط الوجوبي، يعني أنّ السيد (قدس سره) ذكر في العروة لا يجوز، ولكنّهم اختاروا على الأحوط لا يجوز.

وذهب المرحوم الفيروز آبادي (قدس سره) ـ والد الفيروزآبادي صاحب عناية الاصول في شرح الكفاية ـ وقال: «لا يبعد الجواز».

وقال المرحوم كاشف الغطاء (قدس سره) : «لا يبعد جواز العدول وكونه استمرارياً»، يعني اعتبر أولاً الجواز ثم التخيير وهذا التخيير استمراري، وله ما يشاء من عدول متى ما شاء.

وذهب المرحوم المحقق ضياء الدين العراقي (قدس سره) في حاشية العروة، إلى جواز العدول إلى الحي المساوي ويعتبر هذه العدول عدولاً تخييراً استمرارياً.

النتيجة أنّ السيد (قدس سره) ذكر في العروة «لا يجوز» ولكن عند الدقّة والإمعان يظهر من الحواشي، الجواز وعدم الإشكال فيه، ونفهم من مجموع الكلمات أننا إذا قلنا «لا يجوز» فيجب ذكر كلمة «الأحوط»، وإذا قلنا «يجوز» فعلينا أن نرفع كلمة «الأحوط».

أدلة عدم جواز العدول

نفهم من مجموع كلمات الفقهاء وجود أدلة أربعة على عدم جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر المساوي:

صفحه 292

الدليل الأول: الإجماع

إذا كان الإجماع إجماعاً منقولاً فهو مردود لعدم حجّيته في الاُصول، أمّا لو فرضنا أنّ الإجماع كان إجماعاً محصلاً، فهل نقبل به أم لا؟

هنا يرد على الإجماع إشكال صغروي و إشكال آخر كبروي.

أمّا الإشكال الصغروي فهو أنّ بحث العدول من الحي إلى الحي الآخر من المسائل المستحدثة التي وردت في كلمات المتأخرين دون المتقدمين، وما لم يرد في لسان المتقدمين لا يمكن ادّعاء الإجماع عليه، وأمّا ما ورد على لسان المتأخرين فلا فائدة ولا جدوى فيه(1).

أمّا الإشكال الكبروي فهو أنّ كون الإجماع حجّة فيما إذا كان إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم، أمّا إذا كان إجماعاً مدركياً فلا حجّية له، وما نحن فيه توجد أدلّة اُخرى غير الإجماع، فيكون هذا الإجماع مدركياً ولا يمكن الإلتزام به(2).

إذن فالدليل الأول وهو الإجماع لا يقوم حجّة وواضح البطلان.

الدليل الثاني: المخالفة القطعية العملية:

إنّ جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر يستلزم المخالفة القطعية العملية، وذكروا لذلك أمثلة منها، إذا أراد شخص السفر بعد أن نوى المبيت في محل ما، وعمل في اليوم الأول برأى مقلِّده وهو القصر، ثم أراد أن يعدل إلى رأي المجتهد الثاني الذي يقول بالتمام، فهنا يحصل مخالفة قطعية بين الفتويين، فتكون صلاته

1 ـ أقول: إن عدم قيام الإجماع عند المتقدمين بسبب عدم وجود الموضوعية لتلك المسائل، وقيامها عند المتأخرين لكونها مورد ابتلاء، حيث انكشفت لهم من خلال تنقيح الروايات المنقولة لهم.
2 ـ أقول: ما لم يبثت أنّه إجماع مدركي أو كاشف عن قول المعصوم فلا يمكن رفضه بدون دليل.

صفحه 293

الاُولى أو الثانية باطلة، لأنّ صلاة العصر وقعت قبل صلاة الظهر يقيناً، وكانت صلاة الظهر باطلة إذن لم يراعى الترتيب، ولأنّه قدم صلاة العصر على صلاة الظهر، فعليه إمّا أن تكون الفتوى الثانية باطلة أو الاُولى، ولذا قالوا إنّ العدول من الحي إلى الحي الآخر يستلزم المخالفة القطعية فهو خلاف الواقع وغير جائز(1).

رد الإشكال:

هنا حاول استاذنا المعظم الإجابة على هذا الإشكال وقال: ذكروا هنا أجوبة مختلفة، منها:

الجواب الأول: إنّ هذا الإشكال لا يختص بالعدول من الحي إلى الحي الآخر، وفان كان الإشكال في مقام بيان استلزام المخالفة العملية القطعية، فيمكن ذكر أربعة أمثلة وقع خلالها العدول، بل قيل في بعضها بالوجوب، هذه الأمثلة الأربعة هي:

المثال الأول: الرجوع من تقليد المفضول إلى تقليد الأفضل، يعني عندما يقال الثاني أعلم إختار الفقهاء جميعاً وجوب الرجوع إلى الثاني، يعني في صورة تقليد غير الأعلم الذي يفتي بالقصر ثم رجوعه إلى الأعلم الذي يفتي بالتمام، ونحن على علم ببطلان أحد الفتويين لأنّها مخالف للواقع، وهنا نعلم يقيناً بالمخالفة العملية القطعية، ولكن ليس هناك فقيه يقول إذا قلّدت زيداً لا يحق لك أن تقليد عمرواً، وإن كان عمرو أعلم من زيد، والحال إذا ثبت أعملية عمرو فانّهم يعتبرون العدول إليه واجب.

المثال الثاني: إذا كنّا نقلِّد زيداً ثم عرض عليه مرض أو أمر آخر أفقده شرائط جواز التقليد، وكان زيد يذهب إلى القصر في الصلاة والآن فقد زيد شرائط

1 ـ أقول: لا يتحقق البطلان لأي من الصلاتين لأنّ كلاّ من فتوى مجتهد الأول والثاني حجّة في نفسها، فكل من الصلاتين وقعتا في زمن كانت الحجّة ثابتة على المكلّف.

صفحه 294

التقليد فعلى المكلّف العدول إلى عمرو، ويفتي عمرو بالتمام، وفيه المخالفة العملية القطعية، والجميع يقولون يجب عليه العدول إلى مجتهد آخر.

المثال الثالث: إذا غيّر المجتهد رأيه، وكان زيد مقلّداً له في رأيه بالقصر في الصلاة، والآن تبدّل رأيه إلى التمام فيكون الرأي الثاني قطعاً مخالفاً لرأيه الأول، وهنا تقع المخالفة العملية القطعية، ونعلم أنّ عليه العدول من الرأي الأول إلى الرأي الثاني.

المثال الرابع: إذا سلّمنا بصحة هذا الإشكال، فعليه يجب البقاء على تقليد الميت سواء كان الحي بعده أعلم أو مساوياً أو لا، فعلينا أن نقول بوجوب تقليد الميت كي لا نقع بالمخالفة العملية القطعية، والحال لم يذهب أحد من الفقهاء بوجوب البقاء على تقليد الميت مطلقاً وإن كان الحي أعلم منه.

النتيجة: أوردنا على الأشكال الثاني وهو لزوم المخالفة العملية القطعية أربعة أدلة نقضية حيث لم يذهب أحد من الفقهاء على عدم الجواز في العدول فيها بل ذهب بعضهم إلى وجوب العدول فيها.

الجواب الثاني: إنّ الدليل لا ينطبق على المدعى، فمدعاكم أنّ العدول من الحي إلى الحي الآخر غير جائز، ثم قلتم أنّ العدول يستلزم المخالفة العملية القطعية، والسؤال المطروح هنا، هل أنّ العدول علّة للزوم المخالفة العملية القطعية، أو أنّ هذه المخالفة العملية القطعية لها منشأ آخر؟ مثلاً لو عدل من زيد إلى عمرو وكان زيد يقول بالقصر في الصلاة وعمرو يقول بالتمام، وعندما عدل إلى عمرو قال له أعد الصلوات السابقة، هنا لا يلزم المخالفة العملية القطيعة، إذن متى يلزم المخالفة العملية القطعية؟ عندما نريد أن نحمل على فتوى المجتهد السابق تمام آثار الحجّية، ونقول أنّ فتواه حجّة ولو بعد مدّة اختيارنا مقلَّداً آخر، فإنّ أثر فتواه سارية ولا تجب الإعادة والقضاء، فإذا لم تجب الإعادة و القضاء هنا تأتي المخالفة العملية القطعية، إذن العدول ليس موجباً للمخالفة العملية القطعية، كما

صفحه 295

ذكرنا في الأمثلة الأربعة، هنا العدول لا يكون علّة للمخالفة العملية القطعية، فعلينا أن نعالج الموضع من جانب آخر، لابدّ أن نستفيد من أدلة الإجزاء ونجري قاعدة لا تعاد، نقول لا تعاد الصلاة إلاّ في خمسة موارد وفي غيرها تجب الإعادة، وذكرنا هذا البحث في الاصول في بحث الإجزاء مفصلاً، وعندما نثبت أدلة الإجزاء يتحصل لدينا على أنّ الشارع أو العقل عندما يحكمان بالإجزاء فانج ذلك يكون في المخالفة العملية القطعية، ولكن يكفي العمل ولا تجب الإعادة، وهنا فرق بين الإجزاء والحكم الواقعي، فلو حصلنا على دليل على الإجزاء كفي ذلك.

الدليل الثالث: الاستصحاب

بيانه: أنّ الفتوى التي أصدرها المجتهد الأول لها حجّية فعلية على المقلِّد، ثم نشك في الحجّية الفعلية لهذه الفتوى بقاءاً و حدوثاً أو حدوثاً فقط، هنا نستصحب الحجّية الفعلية بقاءاً، وإذا أراد المقلِّد العدول إلى المجتهد الثاني يلزم منه عدم جواز العدول، إذن الدليل الثالث على عدم الجواز بقاء الحجّية الفعلية مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ المقلِّد عمل بفتوى المجتهد الأول وبذلك لا يجوز له العدول إلى المجتهد الثاني ولا تكون لها حجّية فعلية، بالأخص إذا اختلاف المجتهدان في الفتوى بحيث يقول الأول بالقصر في الصلاة ويقول الثاني بالتمام، فعليه لا يمكن القول أنّ الفتويين في آن واحد لهما الحجّية الفعلية، لأنّه خلاف العقل، نعم لهما حجّية شأنية لأنّ كلاهما فتوى.

فعليه نحن نشك هل أنّ الحجّية الفعلية باقية أم لا؟ نستصحب بقاء الحجّية الفعلية، النتيجة بقاء الحجّية الفعلية للمجتهد الأول وعدم الجواز العدول إلى المجتهد الثاني.

صفحه 296

إشكالان:

أورد استاذنا المعظم على هذا الدليل إشكالين:

الإشكال الأول: عدم جريان الاستصحاب في هذا المورد، ويمكن إثبات ذلك عن طريقين:

الطريق الأول: مبنائي، يعني أنّ هناك من الفقهاء العظام من لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلية، مثل المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) وفيما نحن فيه من هذا القبيل، على أي حال أنّ هذا الإشكال المبنائي ليس مهماً كما يقولون.

الطرق الثاني: أنّ علّة عدم جريان هذا الاستصحاب هو، أنّكم تقولون أنّ هناك حجّية فعلية، نقول: هل أنّ هذه الحجّية الفعلية كانت مشروطة أو مطلقة، إذا قلنا مشروطة بالرجوع إلى المجتهد الأول التزاماً يعني أنّ زيداً مادام لم يقلد ليس له حجّية فعلية، فهذا ليس مشكوك البقاء، والاستصحاب يجري في الشك في بقاء الرجوع الفعلي، لكن لو حصل الرجوع تحقق الفعلية ونحن لا نشك في بقاء الفعلية فلا يجري استصحاب هنا، لأنّ ليس لنا شك كي نشك في البقاء وأمّا اذا كانت الحجية الفعلية مطلقة، يعني سواء حصل الرجوع أم لا فالحجّية الفعلية موجودة، ليس لدينا يقين سابق، فمثل هذه الحجّية لم تثبت من الأول، وفي الاستصحاب يشكّل اليقين السابق ركناً من أركانه.

النتيجة: أنّ هذا الاستصحاب في صورة كون الحجّية الفعلية مشروطة يفقد الركن الثاني وهو البقاء، وإذا كانت مطلقة يفقد الركن الأول وهو اليقين السابق، فعليه لا جريان لهذا الاستصحاب في نفسه سواء كانت الحجّية الفعلية مشروطة أو مطلقة؟

الإشكال الثاني: أننا نقول بجريان الاستصحاب التخييري وذلك بدليل: أنّ المكلّف لما أراد الرجوع على المجتهد الأول والمفروض وجود مجتهدين مساويين، هل كان قبل رجوعه للأول مخيّراً أم لا؟ على سبيل المثال نذكر هنا

صفحه 297

بحثان:

البحث الأول: لو حصل التكليف لزيد في زمن مجتهدين مساويين، فإلى أيّهما يرجع؟ قال البعض عليه الرجوع إلى أحوط القولين وهذا صعب جدّاً، لأنّه يحتاج إلى الأخذ بأحوط القولين في كل مسألة، وقال الآخرون أنّه مخيّر بالأخذ بأيّهما شاء.

والبحث الثاني: إذا رجع المقلِّد إلى أحد المجتهدين، هل يجوز له العدول إلى حي مساو آخر أم لا؟ فنقول في الإشكال الثاني لهذا الاستصحاب أنّه قبل الرجوع إلى المجتهد الأول كان مخيّراً، إذن ليس هنا حجّية فعلية، بل شأنية لكلا الفتويين، عندئذ نستصحب الحجّية التخييرية ونقول إنّه عمل لمدّة بقول المجتهد الأول والآن بعد سنتين يريد العدول إلى المجتهد الحي الثاني، يقول الاستصحاب التخييري يحق لك العدول إلى المجتهد الحي الثاني، وهذا الاستصحاب له حكومة ومقدمية على الحجّية الفعلية.

الدليل الرابع: قاعدة الاشتغال

يعتبر هذا الدليل عمدة أدلة القائل بعدم جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر، واستدل به أكابر الفقهاء، أمثال السيد الخوئي والمرحوم السيد الحكيم (رحمهما الله) ، وبيانه كالآتي، إنّ ما نحن فيه يدور الأمر بين التعيين والتخيير، لأنّه لا نعلم أنّ قول المجتهد الأول حجّة على المقلِّد أم لا، فنحن مخيرون بين الأول والثاني في الدوران بين التعيين والتخيير، والعقل يأمر بالتعيين، أمّا لماذا يأمر العقل بهذا وما دليله؟

الجواب: إنّ العقل يقول إنّ ما كانت حجّته معينة وقطعية يجب الأخذ به، وما كانت حجيّته مشكوكة ومساوية ـ كما درسنا في الاُصول يعني عدم العلم والقطع

صفحه 298

بالحجّية، وقد ذكر هذا الأمر في كتاب اصول الفقه المظفر أنّ الشك في الحجّية المساوية ـ دليل قطعي على عدم الحجّية، وهنا كذلك لأنّ فتوى المجتهد الثاني ليست حجّة لأنّها مشكوكة الحجّية(1) وما كانت مشكوكة الحجّية ندعها ونتمسك بقطعية الحجّية وهي قول المجتهد الأول، ويصطلح عليه في الاصول بالاشتغال.

سؤال: وما هو الاشتغال؟

الجواب: الاشتغال يقتضي البراءة اليقينية، فيحصل الدوران بين التعين والتخيير، فاذا أخذنا بفتوى ذلك الشخص الذي يقول بالتعيين حصلنا على البراءة اليقينية، أمّا إذا أخذنا بالتخيير يعني الرجوع إلى المجتهد الثاني فيحصل لدينا الشك، في حصول البراءة أم لا؟ هنا لا يقين بالبراءة، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، إذن لا دليل على العدول إلى المجتهد الثاني.

وحاول بعض العظام التمسك بهذا الدليل مثل السيد الحكيم والسيد الخوئي، بل أغلب الذين ذهبوا إلى عدم جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر استدلوا بهذا الدليل، وإلاّ يمكن الإجابة عن الأدلة الثلاثة السابقة وهي الإجماع والاستصحاب والمخالقة القطعية، أمّا هذا الدليل فيعتبر من الأدلة المهمّة التي تحتاج إلى تنقيح وتأمل.

تكملة البحث:

ذكروا في تكملة البحث جواباً لهذا الدليل وهو أنّ حجّية الفتوى تحلّ على مبنى الطريقية أو على مبنى السببية:

1 ـ الطريقية: استدلوا بالطريقية على مبنيين وذلك عند تعارض الفتويين:

الأول: إذا تعارضا تساقطا.

الثاني: إذا تعارضا فأنت مخيّر.

1 ـ أقول: إنّ فتوى المجتهد الثاني في نفسها حجّة على الأقل، فلا يمكن القول بمشكوكيتها.

صفحه 299

القائلون بالتساقط عند التعارض يذعنون بعدم بقاء الحجّية الخاصة لأحدهما فأنت مخيّر بأيّهما شئت أخذت(1)، وهذا التخيير في مقام الإمتثال، والعقل يأمرنا بذلك أيضاً، وأمّا القائلين بالتخيير عند التعارض فيعتبرون هذا التخيير تخييراً اصولياً.

2 ـ المبنى السببية: استدلوا على مبنى السببية بحصول التزاحم بين الفتويين، ومع حصول التزاحم علينا بمرجحات باب التزاحم، وهذا يعني الأخذ بالأهم أو محتمل الأهميّة ثم العمل به، وبعبارة اُخرى إذا قلنا أنّ هاتين الفتويين من باب الحجّية الامارتية الموضوعية و من باب السببية فلا تعارض بينهما وإنّما بينهما التزاحم، فاذا حصل التزاحم فعلينا حينئذ الأخذ بمرجحات باب التزاحم(2).

ما الفرق بين التخيير الاصولي والإمثتالي:

سؤال: ما الفرق بين هذين التخييرين؟

الجواب: إذا كان التعارض بين فتويين أو روايتين فأنت مخيّر بالأخذ بأيّهما شئت، وهذا التخيير تخيير اصولي، أمّا إذا كان تعارض الفتويين أو الروايتين يؤدّي إلى التساقط، فالعقل يقول أنت مخيّر بين بالأخذ بأي الفتويين شئت، هذا في مقام الإمتثال.

الردّ على الدليل الرابع:

يقول الاستاذ: إنّ هذا الدليل ليس من موارد الدوران بين التعيين والتخيير، وموارده، إذا كان هناك مجتهدان أحدهما أعلم والثاني غير أعلم، فتردد بينهما هل أنّ قول الأعلم حجّة معينة يجب الأخذ به أم لا؟ يقال أنت مخيّر بين الأعلم وغير

1 ـ أقول: والحال نحن نعلم أنّ هناك حجّة ثابتة بالجعل على أحد الفتويين.
2 ـ أقول: لا أرى فرقاً بين المبنيين لأنّ نتيجة كلاهما قبول العقل بالعمل بأحدى الفتويين، وعند الدقّة العقلية لا يبقى محلاً للتزاحم.

صفحه 300

الأعلم فيكون الدوران بين التعيين والتخيير، وأحياناً يرجع إلى الدوران بين الحجّة وغير الحجّة، يعني نقول مع وجود الأعلم يحتمل أن يكون قول غير الأعلم غير حجّة، هنا يقول العقل من باب قاعدة الاشتغال عليكم تعين الحجّة، أمّا ما نحن فيه فأنّ هذين المجتهدين كانا متساويين من جميع الجهات، ونحن مخيّروين بين هذين المجتهدين والآن إذا أردنا العدول إلى أحد المجتهدين نتمسك بالاستصحاب التخييري، لأنّي كنت سابقاً مخييراً والآن أشك هل أنا مخير أم لا؟ فاتمسك بالاستصحاب التخييري، ومع الاستصحاب فلا مجال للتعيين والتخيير.

نعم، السيد الخوئي (قدس سره) لا يقبل بالاستصحاب التخييري لأنّه يقول ليس هناك حجّية التخييرية، والذين اختاروا غير طريق الحجّية التخييرية والاستصحاب استدلوا باصالة الاشتغال والدوران بين التعيين والتخيير، واصالة الاشتغال تقرر عدم جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر، وهذا خلافاً للقائلين بجواز العدول وتمسكهم بصحة الاستصحاب التخييري أو الحجّية التخييرية.

وقبل أن نذكر أدلة القائلين بالجواز لابدّ من بيان مقدمة وهي:

ما هو حكم المجتهدين المتساوين؟

إذا تساوى المجتهدان في الأفضلية فهل الحكم بالتخيير؟ يعني على المكلّف أن يختار أحدهما أو لابدّ من العثور على المرجحات إذا اختلافا في الفتوى والأخذ بأحوط القولين، فمن هذا المنطلق نريد أن ننقح هذا البحث: يقول السيد كاظم اليزدي (قدس سره) في مسائل الاجتهاد والتقليد تحت عنوان المسألة 13: «إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة يتخير بينهما إلاّ إذا كان أحدهما أورع، فيختار الأورع(1)».

1 ـ أقول: إنّ مسألة الأورعية والإيمانية قضية قلبية لا يمكن الإطلاع عليها بشكل دقيق، فكيف يمكن أن نشخص الأورعية التي يطرحها السيد اليزدي(قدس سره).

صفحه 301

لقد كتب فقهاء عشرة حواشي على العروة ولم يعيروا أهميّة إلى هذه المسألة، والشخص الوحيد الذي تنبه إلى هذه المسألة السيد الخوئي (قدس سره) وقال: «يتخير بينهما» مع عدم العلم بالمخالفة، يعني أنّ المكلّف إذا لم يعلم المخالفة بينهما، مع ثبوت عدم المخالفة قال السيد بالتخيير وإلاّ فيأخذ بأحوط القولين، وإن كانوا قائلين بالأورعية، لأنا لا نقبل بهذه الأورعية.

لو دققنا في صناعية المسألة بصورة عميقة نرى ما هو الأصل الأولي؟ وهل هناك في مقابل هذا الأصل الأولي دليلاً اجتهادياً أو أمارة؟ فاذا عثرنا على الأمارة تركنا الأصل الأولي، وإلاّ يتعين العمل بالأصل، والأصل الأولي هو أصالة الاشتغال، بيان ذلك:

نعلم بالعلم الإجمالي أنّ على عاتقنا مجموعة من التكاليف الواقعية، ونعلم كذلك أنّ فتوى المجتهد طريق إلى ذاك الحكم الواقعي، فهنا إذا عملنا بقول الفتوى المجتهد فقد عملنا بالأحتياط وحصل لدينا البراءة اليقينية، لأننا على يقين أنّ فتوى ذلك المجتهد مطابقة للإحتياط فندرك البراءة اليقينية(1).

وأمّا إذا عملنا بفتوى المجتهد الذي لا تطابق فتواه الاحتياط، فنشك هل حصلت البراءة اليقينية أم لا؟ فعليه حسب اصالة الاحتياط واصالة الاشتغال عند اختلاف الفتوى بين المجتهدين المتساويين يجب الأخذ بأحوط القولين، وإذا لم يكن بينهما اختلاف في الفتوى نأخذ باصالة التخيير يعني الأصل الأولي، عندئذ لنرى هل هناك أدلة في مقابل هذا الأصل الأولي أم لا؟

أمّا في مسألة عدم الاختلاف في الفتوى فقد اتفق الفقهاء قديماً وحديثاً على أنّ المكلّف مخيّر بين الرجوع إلى أيّهما شاء.

ولكن لو اختلافا في الفتوى هنا يقع النزاع والبحث، لنرى ما هو أدلتهم:

1 ـ أقول: تشخيص هذا الاحتياط أمر مهم، لا يمكن العثور أو الوقوف عليه بسهولة، حتى يحصل لدينا البراءة اليقينية.

صفحه 302

أدلة التخيير:

ذكر الفقهاء للتخيير ستة أدلة:

الدليل الأول: اطلاق أدلة حجّية الفتوى

أسلفنا الحديث في أدلة حجّية الفتوى في آية النفر وآية السؤال والروايات مفصلاً، والآن نقول: إنّ هذه الأدلة تقول: إنّ الفتوى لها حجّية مطلقاً، واطلاقها شاملة لفتوى هذا المجتهد لأنّه من أهل الذكر وتشمل المجتهد الثاني أيضاً لأنّه من أهل الذكر، هذا إذا لم يختلفا في فتوى، فإذا شملهما الاطلاق نقول: جعلت أدلة الحجّية الفتوى، فتوى المجتهد الأول والثاني حجّة، وكان المكلّف مخيرّاً بالحجّية التخييرية أن يأخذ بأيّهما شاء.

سؤال: هل أنّ هذا الدليل متين أم لا؟

الجواب: ورد في كلمات الفقهاء إشكال مهم على هذا الدليل، وهو أنّ أدلة حجيّة الفتوى لا تشمل المتعارضين في الفتوى وفي خبر الواحد، يعني إذا كان عندنا خبران أحدهما يقول بالوجوب والآخر بالحرمة حصل التعارض بينهما، فهل أنّ أدلة الحجّية تشملهما؟ فإذا قلنا بشملها يعني أنّ الشارع جمع بين المتضادين أو بين المتناقضيين.

نعم إذا أدرنا أن ندرس هذه المسألة بصياغة اصولية نقول: ما هي الحجّية؟ يعني عندما تقولون أنّ فتوى المجتهد حجّة فما هو المراد من هذه الحجّية؟

والجواب: إنّ الحجّية ترجع إلى المعذرية والمنجزية، يعني إذا طابق الحكم الواقع فهو منجزٌ، وإذا خالف الواقع معذرٌ، وهل للشارع أن يجعل شيئاً نفياً وإثباتاً طريقاً إلى الواقع؟ مثلاً لو ورد خبر وقال: إنّ صلاة الجمعة واجبة يعني ليست بحرام، وورد خبر آخر ويقول بأنّ صلاة الجمعة حرام يعني ليست بواجبة، فإذا

صفحه 303

قلنا أنّ الشارع جعل كلاهما طريقاً إلى الواقع فقد جمع بين النفي والإثبات، فما نحن فيه يقول الشارع فأسألوا أهل الذكر، وأحدهما يقول بوجوب صلاة الجمعة والآخر يقول بحرمتها فلا حجّية هنا لأحد المجتهدين لأنّهما تعارضا فتساقطا، فمغزى هذا الإشكال هو أنّ أدلة حجّية الفتوى لا تشمل المتعارضين، ممّا دفع بعض العلماء إلى اسقاط هذا الدليل بصورة عامة عن دليلته.

ولكن هذا الإشكال ورد عن الأكابر أمثال السيد الحكيم والسيد الخوئي (رحمهما الله) ، فيمكن الإجابة عليه، أنّكم تمسكتم في محل آخر بإمكان الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري، فلو قلنا ما دليلكم؟ قلتم: طرق مختلفة مثلاً ذكر المرحوم الأخوند (قدس سره) اثنين أو ثلاثة طرق للجمع بينهما، ونحن نقول: ما نحن فيه يشبه الحكم الواقعي والظاهري، فقد جمعتم بين الحكمين الظاهرين على ما ذكرتموه في محله وما نحن فيه مثله تماماً(1)، ولكن فعلاً لا يمكن العمل بهما، لأنّه صحيح أنّ المكلّف مخيّر ظاهراً أن يرجع إلى أي المجتهدين شاء ـ إذن يمكن الإجابة على هذا الإشكال كما ذكرنا وإن لم نجد له جواباً في كلمات الفقهاء ـ إذاً ثبت أنّ الدليل الأول من أدلة التخيير هو حجّية الأطلاق وهو دليل تام و صحيح فلا يرد عليه ما ذكره الأعاظم، ولكن إذا قبلنا حجّية التخيير.

سؤال: هل أنّ هذا الموضوع ثلبت في الفقه؟

وهل أنّ في فقهنا الحجّية التخييرية أم لا؟

الجواب: قال ذكر السيد الخوئي: ليس لدينا شيئاً تحت عنوان الحجّية التخييرية بل هي خلاف العقل.

ويمكن أن نعثر على مؤيد آخر على حجّية الاطلاقات وذلك أنّ البعض

1 ـ أقول: هناك فرق بين ما نحن فيه والحكم الواقعي و الظاهري، لأن الحكمين الموجودين فيما نحن فيه كلاهما يعتبران حجّة ولا تفاوت بينهما من جانب الحكم، وأمّا الحكم الواقعي والظاهري فبينهما تفاوت في الحجّية والمقبولية والأول منهما مقدّم على الثاني، دون ما نحن فيه في حجّية الفتويين حيث ليس بينهما مقدّم ولا مؤخر.

صفحه 304

استفاد من هذه الروايات مثلاً عندما سئل الإمام(عليه السلام): ممن نأخذ أحكام الدين، قال الإمام: العمري وابنه ثقتان، أو أحياناً أرجع شيعته إلى ثلاثة أشخاص، فنحن هنا نتمكن من التمسك باطلاقه ونقول: أراد الإمام(عليه السلام)من كلامه بأيّهما شئتم أخذتم، وهذا فيه اطلاق يعني هذا الكلام عام سواء اتفق المجتهدان أو اختلافا(1).

الدليل الثاني: سيرة العقلاء

إذا تمعن العقلاء وأهل الخبرة في هذه المسألة، قالوا: بالتخيير في الرجوع إلى أحد المجتهدين، مثلاً طبيبان درسا في مدرسة واحدة وفي جامعة واحدة وفي زمن واحد وتحت نظر استاذ واحد وكانا متساويين من حيث الاستعداد والنبوغ، وعند مراجعة المريض للطبيب الأول يقول شيئاً والطبيب الثاني يقول خلافه، هنا يقول العقلاء: أنتم مخيّرون في الرجوع إلى أيّهما شئتم(2).

إختار بعض الأكابر بالأخص الوالد المعظم هذا الرأي، وهو سيرة العقلاء، ولكن يجب أن ننقح الموضوع كي نرى هل للعقلاء سيرة وبناء في مثل هذا الموضوع أم لا؟ وهل هناك فرق عند العقلاء لدى التوافق والتخالف؟ وكيف نصور الأمر إذا علمنا إجمالاً أنّ هذين الطبيبين ليس لهما رأي واحد، مع علمنا بعلم تفصيلي باختلافهما، وقد قلنا في صورة عدم وجود الاختلاف عقلاً يتخير في الرجوع إلى أحدهما، أمّا إذا كان هناك علم تفصيلي بوجود الاختلاف بينهما كما

1 ـ أقول: لعله توجد بعض المرجحات في بعض من ذكرهم الإمام(عليه السلام) مع وجود الآخرين في طول وعرض العمري وابنه، مثلاً أنّ العمري وابنه كان يحدثنان بالإمام مباشرة فما يقولانه بمنزلة الرواية أو الحكم الصادر من المعصوم مباشرة دون الفتوى التي تمثل جهد المجتهد في إدراك مراد الرواية أو الحكم مع ما يحوط بالرواية الموجودة بين أيدينا من أبهام وما يعلوها من غمام.
2 ـ أقول: بل العكس هو المطلوب أنّ العقل يأمر أن نلتمس طبيباً ثالثاً حاذقاً ماهراً ومتخصصاً أكثر منهما لنتأكد من قول الطبيب الأول والثاني، فاذا أكّد الثالث على الأول أخذنا برأيه وإذا أكّد الثاني أخذنا برأيه، دون أن يسقطا لأنّ أحدهما يقيناً على صواب، ويدور الأمر بينهما فلا مجال لمخالفتهما جميعاً.

صفحه 305

قلنا أنّ الطبيب الأول يقول بوجود السرطان والثاني يقول بعدمه وسلامة المريض، هل هنا أيضاً يحكم العقل بالتخيير أو أنّ العقل يأمر بالتأنى في الموضوع، أو نرجع إلى أوثق القولين . فاذا كان الاختلاف في العلم التفصيلي لا نقبل بالتخيير، ولا العقلاء يقبلون به.

نعم، إذا كان عندنا علم إجمالي أو شك باختلاف رأيهما نقبل بالتخيير، لأنّ بناء العقلاء هنا على التقسيم، ولذا لو كان عندنا دليل لبي فلا نحتاج إلى الأخذ بنظر الاعتبار القدر المتيقن، ولكن لو شككنا في الدليل اللبي وليس عندنا خلاف في العلم التفصيلي بل لدينا علم إجمالي فيقول العقلاء في كلا الموردين بالتخيير، فينعكس الأمر لأنّ العقلاء لا يعتبرونك مخيّراً في العلم التفصيلي، بل يقولون بلزوم الأخذ بأوثق القولين.

الدليل الثالث: سيرة المتشرعة

ذهبت سيرة المتشرعة إلى التخيير في الاختلاف بين فتوى المجتهدين، وهذه السيرة متصلة بعصر المعصومين (عليهم السلام) بل مورد رضاهم وامضائهم، يعني أنّه لم يرد منهم (عليهم السلام) رادع على هذه السيرة، ولكن بعض الأكابر مثل السيد الخوئي (قدس سره) يقول: لم تثبت هذه السيرة، هذا أولاً.

وثانياً: لم يثبت اتصال هذه السيرة بزمن المعصومين (عليهم السلام) .

ثالثاً: قلنا في بحث الإجماع، أنّ حجّية الإجماع ثابتة فيما إذا كان الإجماع تعبدياً، يعني مستند إلى المدرك أو محتمل المدركية، فنفس هذه المقولة تأتي في السيرة(1).

ويرد عليه: يحتمل وجود هذه السيرة لدى بعض الفقهاء، واستناداً على ذلك

1 ـ أقول: إثبات هذه المقولة بعدم اتصال هذه السيرة إلى زمن المعصومين أيضاً يحتاج إلى دليل ولم يقدم لنا السيد الخوئي (قدس سره) دليلاً على مدعاه، لأنّ ما في أيدينا ليست السيرة بحذافيرها ودقتها العقلية كي نجزم ونقطع بأنّها غير متصلة بزمن المعصوم.

صفحه 306

جاءت فتاواهم مستندة عليها، وأفتوا بالتخيير عند تساوى المجتهدين في الفتوى.

فعليه أنّ سيرة المتشرعة لا يمكن أن تكون دليلاً يستند عليه.

الدليل الرابع: الإجماع

أجمع الفقهاء على التخيير وعدم وجوب الاحتياط عند تساوي المجتهدين في الفتوى(1)، قال المحقق (قدس سره) في كتاب المعارج: «فان تساووا في العلم والعدالة جاز استفتاء كل منهم، فان اختلفوا في الفتوى كان المستفتى مخيّراً في العمل بقول أيّهما شاء»، ولذا قالوا: الإجماع على عدم وجوب الاحتياط إجماع على التخيير، وهذا الإجماع مؤيد بالشهرة المحققة، وهذا ما اشتهر عند الفقهاء أنّ الإجماع المنقول مؤيد بالشهرة المحققة.

إشكالان:

الإشكال الأول: إنّ هذا الإجماع منقول بالخبر الواحد فهو ليس حجّة علينا ومضافاً إلى أنّ مثل هذا الإجماع غير ثابت عند الفقهاء لأنّه من المسائل المستحدثة، هذا التعبير ورد في كلمات المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) ، حيث قال: هذه المسائل المستحدثة لم تطرح سابقاً في كلمات الفقهاء، وفي المسائل المستحدثة لا مجال للإجماع.

ويرد عليه: هل أنّ التساوي بين المجتهدين في الفتوى من المسائل المستحدثة؟ والحال أنّ هذه المسألة وردت في كلمات المحقق في كتاب «المعارج» ولعله لو تتبعنا الموضوع لعثرنا أنّ هناك من الفقهاء من قبله تطرق إليها، ومن الغريب أن يصدر مثل هذا الكلام من فقيه كبير مثله، والحال أنّ المسائل

1 ـ أقول: ما هو المراد من الإجماع هنا إمّا أنّه اجماع مدركي حيث لا يمكن رفع اليد عنه ويجب الاحتياط، إمّا إجماع بلا مدرك فلا يجب الاحتياط، بل يكون مخيّراً بينهما.

صفحه 307

المستحدثة من المسائل التي لم يتحقق موضوعها في القديم بل تحقق في الأوان المتأخرة مثلاً مسألة التأمين الإجتماعي والتشريح والصكوك والمعاملات التجارية وغيرها، وقد يكون مراد السيد الخوئي من المسائل المستحدثة أنّها لم تذكر في كلمات الفقهاء ولم يتعرضوا إليها وإن كان موضوعها في زمن الفقهاء موجوداً.

ولابد من بيان المقصود من المسائل المستحدثة فتارة نقول لم يكن لها موضوع سابقاً ثم حصل لها موضوع، مثلاً في السابق لم يكن التشريح والتنقيح الصناعي وغيره، هذا أولاً.

وثانياً: يحتمل أنّ مراد السيد الخوئي هو أنّ موضوع المسائل المستحدثة كان موجوداً في السابق ولكن لم يبيّن حكمها، مثلاً في مسألة الحج هل يجوز الطواف في الطابق الأول أم لا؟ فهذه مسألة مطروحة اليوم على الفقهاء لأنّ الطابق الأول أعلى من البيت بمقدار 30 سم، فهل يصحّ طواف الإنسان المعلول أو العائق الذي لا يستطيع الطواف إلاّ بالكرسي أم لا؟ لأنّه كان مسموح سابقاً أن يطاف بهم في باحة المسجد أمّا اليوم فقد منعوا ذلك ولا يمكن لهم الطواف إلاّ من الطابق الأول، فأمثال هذه المسائل المستحدثة لم تكن مطروحة عند الفقهاء حتى يقال يجواز إضافة مكان مرتفع عن سطح البيت لتحل المشكلة، بل نقول أنّ المسائل المستحدثة هي المسائل التي لم يتعرض إليها الفقهاء سواء كان موضوعها موجوداً في السابق أم لم يكن(1).

1 ـ أقول: إنّ المسائل المستحدثة في العصور الغابرة لم تكن مورد ابتلاء كي يتطرق إليها الفقهاء، ولكن في عصرنا الراهن مورد بتلاء، فعلى الفقهاء الاستفادة من كليات القواعد الاصولية والفقية في كل الميدان الاجتماعية والاقتصادية والتجارية في تطبيق الكليات على هذه الجزئيات ثم اصدار الحكم وفقاً لما ورد عنهم (عليهم السلام) من بيانات في هذه المسائل، عندما يقول الإمام مثلاً: ذكرنا حكم كل شيء حتى الارش في الخدش. فمعناه بيان كل كليات، فعليكم بالإجتهاد في تطبيق تلك الكليات على هذه الجزئيات، وإن كانت موضوعات بعض المسائل غير موجودة في السابق أو كان الموضوع موجوداً ولم يبيّن حكمها.

صفحه 308

وما نحن فيه فأنّ هذا الإجماع لا إشكال فيه يعني بما أنّ المسألة من باب التخيير في تساوي المجتهدين فلا مانع فيه، وهذه المسألة واضحة إلى درجة أنّها لا تحتاج إلى بيان بل ترسل ارسال المسلمات لذا يتحقق الإجماع هنا.

الإشكال الثاني: إنّ هذا الإجماع مدركي أي مستند إلى أحد أدلة الاطلاقات وبناء العقلاء وسيرة المتشرعة، ولذا بما أنّ هذا الإجماع كان محتمل المدرك فهو غير مقبول عندنا، وما ذكر من الأخذ بأحوط القولين فجذوره موجودة في كلمات المتأخرين وإلاّ لم يظهر من المتقدمين مثل هذا الكلام، وما نحن فيه ناهيك عن مدركية الإجماع نؤيد هذا الإجماع(1).

الدليل الخامس: الاحتياط أو التقليد

إذا كان هناك مجتهد واحد، هل يحتاط العامي أو يرجع إلى هذا المجتهد؟ وقلنا في مثل هذه الموارد يكون العامي مخيّراً بين الإحتياط والتقليد، إدّعى البعض بما أنّه مجتهد واحد لا نحتاج إلى الإجماع، ولا إلى الأخذ بأحوط القولين والعمل بالإحتياط مادام الأمر منحصراً في مجتهد واحد، والإجماع في هذه المسألة مسلم، ، فعليه عندما يكون لدينا مجتهدان أو ثلاثة فهو مخيّر فلا لزوم للأخذ بأحوط القولين أو الأقوال.

إشكال: يقول الاُستاذ: هذا الدليل يواجه إشكالاً وهو عدم اقتضاء هذا الدليل للتخيير، لماذا؟ لأنّا نقول على ما تدعون الإجماع؟ أن لا يعمل العامي بالاحتياط، وترك العمل بالاحتياط في نفسه يتناسب مع شيئين:

أولاً: أنّ العامي مخيرّ بين المجتهدين، وهذا نتيجته التخيير لا الاحتياط.

1 ـ أقول: نفس مسألة تساوي المجتهدين والحكم بالتخيير من أراء المتأخرين وما كان للمتقدمين في هذا الميدان من جولة، وتبعاً لذلك ظهر «الأخذ بأحوط القولين» فاذا ثبت الأول يثبت الثاني معه بالملازمة، لأنّه نابع من ذات المسألة المبحوثة في تساوي المجتهدين، فلا يحتاج إلى تتبع لأنّها مسألة عقلية.

صفحه 309

وثانياً: إذا تعارض الفتويان وتساقطا يقول العقل عليك بأحد هذين الأمرين، فالعقل هو الذي يعين الامتثال الاحتمالي بدلاً عن الإمتثال قطعي، وبعبارة اُخرى: عندما لا تترددون في الحكم الشرعي والفتوى، مثلاً أنّ صلاة الظهر واجبة، فاذا صلّى صلاة الظهر إمتثل إمتثالاً قطعياً يقيناً، وبهذا يذعن العقل ويقول من كان ذمته مشغولة عليه أولاً أن يأتي بالامتثال القطعي، ويقول العقل أيضاً إذا لم تقدر على الإمتثال القطعي يكفي الامتثال الإجمالي أو الاحتمالي، يعني بدرجة أقل، وما نحن فيه مثلها، حيث نقول بما أنّ المكلّف لا يبقى بلا تكليف بل هناك تكليف عليه يجب الاتيان به، فالعقل يقول: اعمل بأحد الفتويين من باب الإمتثال الاحتمالي يعني تحتمل أنّك تؤدّي ما في ذمتك وهذا يكفي(1).

رأي استاذنا المعظم في هذا الدليل:

نحن سلمنا أنّه لا يجب على العامي أن يعمل بالاحتياط في مقابل مجتهد واحد، وإذا كان هناك مجتهدان فهو مخيّر بينهما وهذا صحيح وتام.

ولكن يرد عليه: أنّ عدم العمل بالاحتياط يعني لمناسبته من شيئين، عدم وجوب الإحتياط، وبسقوط الفتويين عند توفر المجتهدين المتساويين من جميع

1 ـ أقول: هل يمكن حل المسألة بالاحتمالات لاسقاط التكاليف أم لا؟ ومن المسؤول إذا ظهر الخلاف في العمل حيث لم يصب الواقع بل لم يتقرب منه، بل يشم من هذه النظرية رائحة التصويب كما ارتأها أهل السنة حينما قالوا: عمل العامي أو حكمه صحيح لأنّه هو المصوب عند الله يعني أنّ الله سبحانه ليس له حكم في هذا الموضوع إلى أن يختار العبد ما يريد فهو الحكم المراد لله تعالى، وهذا أمر خطير، لأنّه يسلب من الله تعالى سلطانه ويجعل السلطة بيد العبد كالمفوّضية، إذن علينا أن نجد حلاً جذرياً لهذه المسألة وهو كما أتصوره دون أن نستصعب المسألة أنّ هذا العامي عليه تكاليف يجب عليه الأخذ بنظر أحد المراجع ويعمل برأيه، فنرى علاوة على أحوط القولين والإجماع والاطلاقات أيّهما أورع وأتقى وأدق لأنّ الورع والتقوى من ملازمات الفتوى، والورع والتقوى يمنعانه من الخوض في أمر لا يعلمه جيداً ولا يجد مستنداً قوى يعمل به من الروايات والآيات فيترك المسألة للآخرين كي يدققوا فيه و يصلوا إلى نتائج مهمة، وليس هناك إلزام على المجتهد يجب أن يكون له رأي في كل مسألة، بل إنّ للورع والتقوى دور مهم في اجتهاد وتأمين الأحكام للناس في مختلف المجالات.

صفحه 310

الجهات، فماذا نعمل في مقام العمل؟ والعقل يقول: يطبق عمله على أحد الفتويين على أمل تحقق الإمتثال وهذا معناه عدم التخيير كى تكون كلتا الفتويين حجّة، فيكون عدم العمل بالإحتياط مناسباً مع التخيير والتساقط(1).

الدليل السادس: الروايات

ما نستفيده من اطلاقات الروايات التي وردت في باب الخبرين المتعارضين، يعني إذا وردت روايتان متكافئتان دون أن يترجح أحدهما على الآخر، وفي هاتين الروايتين خبر يدل على التخيير، كما سئل بعض الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) عند تعارض الروايتين ماذا نعمل؟ قالوا: بأيّهما أخذت كان صواباً، يعني التمسك بالأخبار العلاجية، ومن هذه النظرية نستفيد في معالجة ما نحن فيه، ويمكن الاستفادة بنحوين:

النحو الأول: أنّه لا فرق بين الخبرين والفتويين، لأنّ الخبر هو ما جاء به الراوي عن الإمام المعصوم(عليه السلام)، بالمعنى، وهذا المعنى في الفتويين مصداق للخبرين المتعارضين، وعليه نتمسك بالأخبار العلاجية(2).

النحو الثاني: أن نمنع الغاء الخصوصية في الخبرين، وذلك إذا تعارض الخبرين نأخذ بكلام الإمام(عليه السلام)حيث قالوا بالتخيير والعمل بأيّهما شئتم حيث ورد في بعض التعابير «موسّع عليكم» ولا خصوصية ولا مرجحية لأحد الخبرين على الآخر، ففي هذا الدليل يستفاد من عموم الأخبار العلاجية للخبرين المتعارضين،

1 ـ أقول: هذا خلاف المطلوب حيث يراد من العبد الوصول إلى الواقع أو قريب من الواقع لكي يطمئن أنّه أدّى وظيفته الشرعية، وإلاّ يبقى العبد مردداً بين إتيان بالواجب أو عدم إتيانه؟
2 ـ أقول: لا شك أنّ هناك فرقاً بين الخبرين والفتويين، لأن الخبرين يحملان في دفتيهما خصوصيات لا يمكن أن تتوفر في الفتويين، أنّ الخبرين قد يكونا خاصيين أو عامين أو يحيط بهما ظروف خاصة أو التقية أو لم يكن مراد الإمام من هذا الكلام هذا المعنى وغير ذلك، أمّا الفتويين وما نقحهما المجتهدين من هذين الخبرين، فلا تلفهما ما ذكرنا من خصوصيات الخبرين.

صفحه 311

وما نحن فيه اطلاق أدلة التقليد في حجّية الفتوى، بل هو مورد الفتوى، (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) .

إشكالات ثلاثة:

أورد استاذنا المعظم على هذا الدليل إشكالات ثلاثة:

الإشكال الأوّل: ما ورد في الروايات حول هذين الخبرين «موسّع عليكم» يدل على التخيير، والحال أنّ التخيير خلاف القاعدة، وما هو المقتضى في هذه الموارد؟ المقتضى هو التساقط، لأنّ الحجيّة من باب الطريقية ولا يمكن أن يكون الفعلين حجّة في آن واحد، والقاعدة تحكم علينا عند تعارض الحجتّين بالتساقط، إذن التخيير خلاف القاعدة، فإذا كان التخيير خلاف القاعدة علينا الإكتفاء بمورده الخاص في الخبرين المتعارضين(1).

الإشكال الثاني: لا وجه أن نعتبر الفتويين مصداقاً للخبرين، لأنّ الخبر يحمل في طياته الخبرية، والحال الفتوى تحمل الإنشائية، والخبر هو ما قاله الإمام كذا، والفتوى ليس إلاّ استنباطاً، إذن هناك فرق بين الخبر والفتوى.

الإشكال الثالث: نمنع من القاء الخصوصية في الخبر بل يحتاج هذا إلى دليل، وإذا احتملنا بوجود الخصوصية يكفي كى لا نتعدى طورنا، نعم إنّ الإمام(عليه السلام) أمرنا بالتخيير بين الخبرين المتعارضين، لماذا لا نقول بعدم اختصاص هذا الأمر بالخبرين المتعارضين؟ فإذا احتملنا بوجود الخصوصية وإن لم نجد دليلاً قطعاً على القاء الخصوصية يكفي ذلك.

وهنا إشكال رابع: بما أنّ الخبرين المتعارضين مقتبسين من الروايات المختلفة حيث يعبر عنها بالأخبار العلاجية، فهناك مرجحات يمكن ذكرها مثلاً، «خذ ما خالف العامة»، ولا يمكن تطبيق هذه المرجحات على الفتويين

1 ـ أقول: ما المراد من المورد الخاص كى نستثني هذين الخبرين؟

صفحه 312

المتعارضين، لأن المرجحات تخص بالخبرين المتعارضين دون الفتويين المتعارضتين(1).

الدليل السابع: رواية في باب القضاء

وردت رواية موثقة ذكرها صاحب وسائل الشيعة في باب القضاء من أبواب صفات القاضي الباب 9، ح 5، موثقة سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر، كلاهما يروي أحدهما يأمره بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ قال(عليه السلام): يرجئه، حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه».

أقول: إنّ الرواية ليست في صدد بيان الاختلاف بين الروايتين، بل مورد في اختلاف فتويين، لأنّها تقول: أحدهما يأمره والآخر ينهاه فلا ربط لها بالرواية، وإن كان الاختلاف في الفتوى اختلاف في الرواية أساساً، ولكن هنا مورده اختلاف الفتوى، ولذا الإمام يقول له «فهو في سعة حتى يلقاه» ثم يسأل من الإمام(عليه السلام) عما يريد، نقول: هل أنّ رواية سماعة تدل على التخيير أم لا؟

بيان صاحب تفصيل الشريعة:

ذكر الوالد المعظم في كتاب تفصيل الشريعة أنّ هذه الرواية لا تدل على التخيير، إذن ما هو دلالتها؟ قال: إنّ هذه الرواية تدل على التأخير، استناداً على «يرجئه» يعني يأخره، لأنّه كما ورد في الآية الشريفة: (ترجى من تشاء منهن) ، ارجاء هنا بمعنى التأخير، يعني لا تسمع لهذا ولا لهذا بل أخره حتى تلقى من يسأل من الإمام(عليه السلام)، ولا دلالة في الرواية على التخيير أبداً، ثم قال الوالد في

1 ـ أقول: لا يمكن التعارض بالدقة العقلية ولابدّ هناك أيضاً من مرجحات في الفتويين يظهر عند التحقيق والتدقيق.

صفحه 313

مطاف كلامه، لا نستفيد من هذه الرواية التخيير أصلاً.

جواب الاستاذ على والده المكرم:

قال الاستاذ: إنّ ما ذكره الوالد (حفظه الله) في تفصيل الشريعة قابل للمناقشة، أمّا قوله في الجواب، الإمام «يرجئه» صحيح، ولكن الإمام أشار في ذيل الرواية «فهو في سعة حتى يلقاه» فهذا يدل على التخيير أم لا؟

أقول: تارة يريد الإمام(عليه السلام) «فهو في سعة» بعنوان أمر قهري يعني مجبور على الموسعية حتى يلقى الإمام، واُخرى أنّه بعنوان حكم إنشائي، حسب رأينا «فهو في سعة» حكم إنشائي مثل الأخبار العلاجية التي تقول «موسّع عليكم» ولا فرق بينهما، وعليه يمكن استفادة التخيير منها، وهذه الرواية تكفي في المدعى.

خلاصة الكلام: كانت هذه الأدلة السبعة أدلة عدم جواز العدول في التقليد من الحي إلى الحي الآخر إذا كان مساويين، وكذلك قلنا نستفيد هذا المعنى من أدلة التخيير.

بحث في كلام السيد الخوئي:

قبل الخوض في أدلة الجواز نشير هنا إلى بحث ورد عن السيد الخوئي (قدس سره) بهذا الصدد، لا شك أنّ لدينا حجّية واحدة ونعبر عنها بالحجّية التعيينية مثلاً يقال إنّ هذا الخبر له حجّة تعيينية، أو إنّ هذه فتوى من المجتهد لها حجّة تعيينية، هل في فقهنا عنوان باسم الحجّية التخييرية أم لا؟ وهل يمكن أن يقول لنا الشارع أنت مخيّر أن تعمل بهذه الحجّية أو بتلك الحجّية؟ ذكر السيد الخوئي في كتاب التنقيح في ج1، ص 137، أربعة صور للحجّية التخييرية، في ثلاث منها نواجه إشكالاً ثبوتياً، والرابع ممكن ثبوتاً دون إثباتاً.

الصورة الاُولى: يقوم الشارع بجعل الحجّية لفتوى هذا المجتهد أو ذلك، فهو

صفحه 314

ممنوع ثبوتاً، لأنّه إذا قال الخبر الأول بالوجوب قال الآخر بالحرمة، فيستلزم الجمع بين النقيضين أو الضدين، الكلام تارة في حقيقة الحجّية كما ورد في اصول المحقق النائيني وتبعه على ذلك السيد الخوئي أنّ الشارع إذا جعل شيئاً حجّة يجعله بمنزلة العلم، ونعبر عنه بالعلم التعبدي، فعندما يقول حرام يعتبرك عالماً بالحرمة ثم يأتي ويعتبرك عالماً بالوجوب فهذا محال.

الصورة الثانية: أن نختار لهذين الفتويين قدراً جامعاً، وإن كان انتزاعياً، فهو متعلق الحجّية أحد الفتويين، يقول السيد الخوئي عندنا مثل هذا العنوان الانتزاعي في باب التكاليف العلم الإجمالي، يعني عندك علم إجمالي بنجاسة أحد الثوبين أو بوجوب الظهر أو الجمعة، بل حتى في الصفات الحقيقية النفسانية مثل، العلم و الشوق و اتلحبّ، كأنّ اشتهي أحد هذين الطعامين حيث يمكن أنّ تصدق في هذه الموارد ولكن ما نحن فيه من مسألة الحجّية غير معقول.

ثلاثة إشكالات:

تعرض استاذنا المعظم إلى هذا الدليل بإشكالات ثلاثة:

الأول: إذا جعل الشارع الحجّية لأحدهما تكون نتيجته أنّ الشارع اعتبر المكلّف عالماً بالوجوب أو الحرمة وهذا محال(1).

الثاني: بما أنّ الفتويين متعارضتين فكل واحدة تنفي الاُخرى بالدلالة الالتزامية، يعني أنّ دلالة الحرمة تنفي دلالة الوجوب بالدلالة الالتزامية وبالعكس، فإذا كان كذلك عليكم اعتبار النفي والإثبات في الحجيّة والجامعية، فالنتيجة أنّ القدر الجامع بين الوجوب وعدمه والحرمة وعدمها محال.

1 ـ أقول: كما أسلفت في ما سبق لا يمكن أن يكون للشارع هنا جعلين في مقابل تكليف واحد، بل هو جعل واحد لتكليف واحد إمّا الوجوب أو الحرمة، فيجب تشخيص موقع الجعل من الحكم لأي الحكمين أراد، فان أراد من الجعل الوجوب نتمسك به، وإن أراد الحرمة نتمسك بها.

صفحه 315

الثالث: لا يمكن أن نقبل الصورة الثانية إثباتاً وإن قبلنا بها ثبوتاً لعدم تناسبها مع أدلة حجيّة الفتوى، لأنّ أدلة حجّية الفتوى لها ظهور في فتوى الفقيه المعين، وذكر سماحته تصويرين لحجّية التخيير.

الصورة الثالثة: هي عودة الحجّية التخييرية إلى الحجّية التعيينية مع اشتراط عدم الأخذ بحجّية اُخرى، وبيانه كالآتي: أنّ الشارع جعل لفتويين أو خبرين أو دليلين حجّية مشروطة بعدم الأخد بفتوى أو خبر أو دليل الآخر، لأنّ حجية هذه الفتوى مترتبة على شكل عدم الأخذ بفتوى اُخرى.

إن قلت: إنّ الحجّية التخييرية جاءت بهذا المعنى.

قلت: عدم إمكانه ثبوتاً أيضاً لماذا؟ لأنّ في باب التكاليف يعتبر الترتب من جانبين، وعندما يقول الشارع أنّ هذين التكليفين واجب يعني أنّ جوب تكليف مرتب على ترك وجوب تكليف آخر، كما ذكروا هذه المسألة في الأهم والمهم، ووجوب الأهم مرتب على عصيان المهم، مثلاً إزالة النجاسة والصلاة، فانّ فعلية المهم مرتبة على عصيان الأهم(1).

يقول (قدس سره) : إذا كان الترتب من الجانبين يعني الفعلية لكل واحد منهما مع عصيان الآخر فهذا معقول، أي سواء كان الترتب من جانب أو جانبين في التكاليف فقط لا بأس به، ولا معنى لهذا الكلام في الأحكام الوضعية، لأنّ الشارع لا يمكنه القول جعلت لهذا الدليل حجّية إذا لم تأخذ بدليل الآخر، وبالعكس إذا تركت هذا تثبت الحجيّة للدليل الآخر، لأنّه إذا لم يعمل المكلّف بأحدهما يجب أن تكون كلا الحجّيتين فعلية، لأنّه أحد الدليلين يقول هذا واجب والآخر يقول هذا حرام، فإذا أراد الشارع جعل الحجّية المشروطة بعدم الأخذ بالآخر فلا يعمل

1 ـ أقول: على أي حال هناك عصيان ومخالفة للمولى في ترك أي منهما سواء الأهم أوالمهم، والعصيان عصيان لا فرق بينهما سواء صدر لترك الأهم أو لترك المهم، إلاّ أن يحصل لنا علم أنّ للمولى وراء هذين الأمرين الأهم والمهم أمرنا بترك أحدهما، وهذا أيضاً يواجه إشكالاً آخر أن يكون للتكليف واحد جعلين في آن واحد.

صفحه 316

المكلّف بكلاهما، لأنّ حجّية كلاهما معاً محال، ويستحيل الشارع أنّ يكلّف المكلّف تارة بالحرمة واُخرى الوجوب، إذن هذه الحجّية التخييرية بهذا البيان ثبوتاً محال.

الصورة الرابعة: الحجّية التخييرية يعني دليل الحجّية بشرط العمل به، حيث قلنا في الصورة الثالثة مشروط بعدم الأخذ بالدليل الآخر، فترجع الحجّية التخييرية في هذه الصورة إلى المكلّف الذي يكون في مقام الأخذ بأحد الدليلين، فتكون حجّية التخيير ملاكها عمل المكلّف بأحد الدليل فبأيّهما عمل فهو الحجّة

سؤال: هل ينقدح إشكال هنا؟

الجواب: نعم، وذلك استحالة ثبوتية، لا تشبه الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها، ولكن يقول: الإشكال في مقام الإثبات يعني الدليل الذي يدلّ على حجّية الفتوى المجتهد ليس مقيداً بالأخذ والعمل، بل هو مطلق سواء عمل به أم لم يعمل، فعليه هذه الصورة ليس لها إشكال ثبوتي بل إشكال إثباتي، فإذا كان كلام السيد الخوئي تاماً، يتبيّن الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية، يعني عندنا واجب تخييري و مستحب تخييري، ولكن ليس لدينا حجّية تخييرية في الأحكام الوضعية، فعلينا إثبات هل لدينا حجّية تخييرية أم لا؟

إشكال صاحب تفصيل الشريعة:

ذكر والدنا المعظم في كتاب تفصيل الشريعة إشكالات ثلاثة على ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) :

الإشكال الأول: أنّ الدليل لا ينطبق على المدعى ـ كان دليل السيد الخوئي أنّ الحجّية التخييرية ثبوتاً محال ـ ومع أنّه قَبِل في الوجه الثاني بالحجّية التخييرية ثبوتاً لا إثباتاً يعني قَبِل ثبوتاً بالصورتين من الصور الأربعة.

الإشكال الثاني: قلتم في الصورة الثانية، نعبر عنه بالعلم التعبدي، فعندما يقول

صفحه 317

حرام يعتبرك عالماً بالحرمة ثم يأتي ويعتبرك عالماً بالوجوب فهذا محال، ومع أننا إذا تمسكنا بالاطلاقات في مقام الإثبات كلّفنا الشارع بالمتناقضين و المتضادين، فإذا جعلنا حجّية الفتوى بناء العقلاء ينتفي تكليف الشارع مباشرة حيث يعتبرنا بمنزلة العالم، لأنّ العقلاء يقولون في مقام الإثبات أنت مخيّر بين أن تعمل بهذا وبذلك، وإذا جعلنا حجّية الفتوى الإجماع فلا يلزمنا الإشكال الإثباتي.

أقول: ذكر استاذنا المعظم أنّ والده المعظم في كتاب تفصيل الشريعة مرّ على الصورة الاُولى مرور الكرام، والحال أنّ السيد الخوئي حينما قال إنّ الاطلاقات اللفظية في حجّية الفتوى لا تشمل فتويين منتاقضين ومتضادين، هل أنّ بين هذه الاطلاقات والإجماع وبناء العقلاء فرق من هذه الجهة أم لا؟ وقلنا أنّ بناء العقلاء على عدم الفرق بين الفتويين وكلاهما حجّة، يعني من يقول إنّ الاطلاقات لا تشمل المتنافيين والمتعارضين، يجب أن يقول كذلك في الأدلة اللفظية وفي بناء العقلاء، هل للعقلاء أن يعبدونا التزاماً على الوجوب والحرمة بالتخيير؟ وقلنا أنّ هاتين الفتويين لهما طريقية إلى الواقع وهذا جمع بين المتنافيين، فالذين يقولون كالسيد الخوئي (قدس سره) إنّ المنتافيين لا تشمل الإطلاقات يجب القول بهذا المعنى في بناء العقلاء والإجماع أيضاً دون أدنى فرق(1).

ولكننا استفدنا في ردّ كلام السيد الخوئي (قدس سره) عن طريق مسألة الجمع بين الحكم الواقع والحكم الظاهري، كيف نعمل هناك نعمل هنا حذو النعل بالنعل؟ كما قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في الرسائل: إذا كان الظن حجّة يمكن الجمع بين المتنافيين، وكما إختار الفقهاء جميعاً الجمع بين الحكم والواقع والحكم والظاهري

1 ـ أقول: أليس للاطلاقات خصوصياتها ومميزاتها وكذا بناء العقلاء والإجماع، فيجب دراسة كل واحد من هذه الأدلة من منطلقاتها الخاصة التي توصلنا إلى نتائج تامة، فالاطلاقات تدور في مدار الالفاظ التي تحكم في معاني التنافي أو التناقض أو التضاد، ولكن العقلاء ينظرون إلى المسائل من مناظر العقل ولا يأبى العقل أن يجمع بين الفتويين في تخيير المكلّف بأحدهما، وأمّا الإجماع فتنبع حجّيته فيما إذا كان محصّلاً أو منقولاً فأيّهما ثبتت له الحجّية اُخذ به.

صفحه 318

وكذلك لا بأس بالجمع بين الحكمين المنتافيين أو أكثر، سواء كان دليلهم الاطلاقات أو الإجماع أو بناء العقلاء، وإذا إخترنا هذا الطريق فإنّ حجّية التخيير في مقام الإثبات معقولة ولا غبار عليها، فيكون الجمع بين المتنافيين بحسب الواقع محال، ولكن بحسب الظاهر لا إشكال فيه، فقول الفقيه الأول بالوجوب والثاني بالحرمة مع عدم التساوي بينهما ولا الأفضلية، يختار الشارع في أدلة حجّية الفتوى والعقلاء التخيير والأخذ بأحدهما على سبيل البدلية، ويأتي عندئذ الإمكان الثبوتي ويتناسب أيضاً مع مقام الإثبات.

وقد تبيّن ممّا قلنا أنّ إشكال الوالد المعظم غير وارد على السيد الخوئي في عدم الاستفادة من الاطلاقات في مقام الإثبات ويأتي نفس الكلام في بناء العقلاء وغيره.

ملاحظة:

ا ذا كان السيد الخوئي يقول: إنّ أدلة الاطلاقات لا تشمل أدلة الفتاوى المتنافية، حتى في باب الخبرين المتعارضين، لزم أن لا يكونا متعارضين وحجّتين كي يتعارضا، في حين أنّ بحث التعارض بعد ثبوت حجّية الدليلين، وحسب ما تقدم به السيد الخوئي يجب علينا أن نرفع اليد عن 90 % من التعارض الواقع بين الأخبار في الفقه، لأن ليس لها حجّية، وكذلك الأخبار العلاجية، وقد ورد في الروايات عن الأئمة (عليهم السلام) : التعارض بين الخبرين بأيّهما نعمل قال: «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»، بل يجب أن نسأل السيد الخوئي والذين ارتضوا بهذا الرأي تقولون: تارة أنّ أدلة الحجّية لا تشمل المتعارضين، واُخرى عندما تدخلون الفقه تحاولون حلّ مسألة التعارض بين الخبرين، فإذا كانت لا تشمل أدلة الحجّية هذين الخبرين المتعارضين فيجب علينا أن نطرح جميع الأخبار ونعتبرها كالعدم، ومع أنّ السيد الخوئي نفسه حاول أن يحلّ مسألة

صفحه 319

التعارض في الأخبار في الفقه، على أية حال يمكن حلّ مسألة حجّية التخيير ثبوتياً كما ذكرنا، ويساعده الدليل في البُعد الإثباتي أيضاً ولا إشكال فيه، لأنّ الشارع كما يأمر العمل بهذا الدليل المعين فله أن يأمرنا بأيّهما أخذت كان صواباً، وبناء العقلاء يؤيده أيضاً، فنقول عند تعارض الدليلين نحن مخيّرون بالعمل بأيّهما شئنا.

خلاصة الكلام: إذا تساوى المجتهدان كان المكلّف في بدو الأمر مخيّراً بالرجوع إلى أيّهما شاء باتفاق المشهور، وفي مقابل المشهور نظرية المرحوم السيد الخوئي قال: إذا كان المجتهدان متساويين وبينهما اختلاف في الفتوى، يجب الأخذ بأحوط القولين، ولكن نحن أثبتنا التخيير كما أثبتنا حجّية التخيير.

على أية حال إلى هنا انتهى أدلة عدم الجواز ما طرحه السيد الخوئي في باب تعارض الخبرين وعدم شمول أدلة حجّية الخبرين المتعارضين، والآن نحاول طرح أدلة القائلين بالجواز ونسميه بالتخيير الاستمراري، أي إذا قلّد أحدهما بقي مخيّراً وهذا التخيير يستمر عنده، وجاز له العدول إلى الآخر، أمّا إذا قلنا بأدلة المانعين فلا يجوز له العدول وهذا نسميه بالتخيير البدوي.

أدلة جواز العدول

أورد القائلون بجواز العدول من مجتهد حي إلى مجتهد حي آخر ثلاثة أدلة كما ورد في كلماتهم:

الدليل الأول: الاطلاقات

إنّ الاطلاقات بنفسها تدلّ على حجّية الفتوى ـ ببيان آخر ـ أنّ هذه الأدلة التي تدل على حجّية الفتوى غير مقيدة في رجوعه إلى دليل آخر، مثلاً إذا واجهتم

صفحه 320

فتويين من مجتهدين متساويين فالاطلاقات تشملهما جميعاً، بمعنى إذا قلّدت المجتهد الأول فهذا لا يمنع من حجّية المجتهد الثاني هذا أولاً.

وثانياً: يقتضي هذا الاطلاق التخيير الاستمراري، فكما كنت مخيّراً في البداية فلك العدول إلى المجتهد الثاني ثم إلى الأول مرّة اُخرى، ثم في اليوم الرابع العدول إلى الثاني وكذلك يمكن العدول بالتخيير الاستمراري(1).

وتقدم السيد الخوئي (قدس سره) هنا بنفس الكلام الذي ذكرناه سابق بعدم شمول هذه الإطلاقات المتنافية، والجواب هنا ما ذكرناه هناك حذو النعل بالنعل.

إختار الاستاذ هذا الدليل وقال إنّ هذا الدليل تام.

إشكال:

ولكن لقائل أن يقول: إنّ هذه الإطلاقات تدلّ على أصل التخيير، يعني أنّ المكلّف مخيّر في بدو الأمر في الرجوع إلى أيّهما شاء، دون أن تكون الاطلاقات في صدد بيان حجّية الفتوى، مع أنّ من الشرائط المذكورة للاطلاق هي مقدمات الحكمة، ومنها مقدمات الحكمة أن يكون المولى في مقام البيان، فعليه يمكن القول أنّ المولى كان في مقام بيان أصل جواز التقليد وللمكلّف أن يقلد من شاء، والظاهر أنّ الاستفادة من هذا الاطلاق لأدلة الحجّية في التخيير الاستمراري مشكل.

أقول: وقد لاحظتم في الاُصول، إذا شككننا في هذه الموارد بشيء نتمسك بأصالة الاطلاق، مثلاً إذا شككننا في «أحل الله البيع» هل يعتبر العربية أم لا؟

1 ـ أقول: التقليد الإبتدائي أو البدوي فيه سعة للمقلّد بالرجوع إلى أيّهما شاء، لأنّه في بداية اختياره له من يختار وذلك لمواجهته مجتهدين متساويين، ولكن بعد التقليد ثبت عليه حجّية المجتهد الأول عند تساوي المجتهدين، فما هو الملاك والدافع لعدوله إلى المجتهد الثاني، والحال النتيجة من المجتهدين واحدة في الحجّية العمل بفتواهما، وإذا أراد المكلّف أن يختار هذا ثم يختار آخر ثم يعدل إلى الأول مرة اُخرى يعتبر عمله نوعاً من العبث في التقليد.

صفحه 321

نتمسك بأصالة الاطلاق، وهنا كذلك إذا شككننا هل أنّ المولى كان في مقام البيان أم لا؟ نتمسك بأصالة كونه في مقام البيان، وما نحن فيه من هذا القبيل هل أنّ هنا التخيير الاستمراري أم لا؟ نتمسك أنّ المولى كان في مقام البيان ويكون التخيير تخييراً استمرارياً.

الدليل الثاني: مصلحة التسليم

ورد هذا الدليل على ألسن بعض الفقهاء ولم يطرق إليه السيد الخوئي، والدليل هو أن نأسس للتخيير الاستمراري ملاكاً مصلحياً، كما هو الملاك الموجود في باب التخيير بين الخبرين، فورد عن الإمام(عليه السلام)عندما سئل عن خبرين مختلفين ما نعمل؟ قال: «موسّع عليكم بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»، نستفيد من هذه الرواية التسليم من «أخذت من باب التسليم»، يعني أنّ الشارع والأئمة (عليهم السلام) جعلوا الملاك والمصلحة في الأخذ بأيّهما شاء(1)، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (قدس سره) في باب حجّية الامارات، لأنّه (قدس سره) كان يقول بالمصلحة السلوكية.

إن قلت: ما هو الملاك في التخيير؟

قلنا: من باب التسليم يعني أنّ المكلّف بعد أخذ بفتوى أحد المجتهدين، هل يحق له العدول إلى مجتهد حي آخر أم لا؟ نقول: نعم، لوجود ملاك التخيير في نسلّم، لأننا تسليم للحجّة الإلهية، ففتوى هذا المجتهد حجّة وفتوى المجتهد الحي المساوي حجّة أيضاً، فيكون الدليل الثاني في التخيير الاستمراري دليلاً تاماً أيضاً.

1 ـ أقول: كيف يمكن جمع بين المصلحتين متضادتين منتاقضتين؟ والحال أنّ المصلحة محصورة في الجعل الأول فقط، ولا يمكن تقسيمها إلى مصلحتين، وإلاّ احتجنا إلى جعل آخر تكون فيه مصلحة مناسبة لهذا الجعل.

صفحه 322

الدليل الثالث: الاستصحاب

عمدة ما في الأدلة هو الدليل الثالث وهو الاستصحاب، يعني أنّ هذا المكلّف قبل العدول إلى المجتهد الثاني كان مخيّراً، والآن نشك بعد عدوله هل التخيير باقي أم لا؟ نستصحب بقاء التخيير، فلدينا يقين سابق بالتخيير للمكلّف بينهما في بدو الأمر، والآن نشك ببقاء التخيير البدوي نستصحب البقاء، وبهذا نثبت التخيير الاستمراري، وهذا عمدة وأهم دليل للقائلين بجواز العدول.

إشكال السيد الخوئي:

ذكر السيد الخوئي (قدس سره) على هذا الاستصحاب في كتابه التنقيح، ج1، ص 94 إشكالات أربعة:

الإشكال الأول: إننا نحتاج في الاستصحاب إلى اتحاد بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، وفيما نحن فيه ليس كذلك، وعندئذ نسأل ما هو موضوع التخيير؟ فلابدّ أنّ تقولوا ثبت لديه موضوعه إمّا المكلّف الذي لم تقم عنده الحجّية الفعلية، وإمّا من كان ثبت لديه الحجّية الفعلية، فلا يتعدى هذين احتمالين، فإذا قلنا الأول يعني المكلّف الذي لم تقم عنده الحجّة الفعلية فبعد الأخذ بفتوى أحدهما قام عنده الحجّة فلا يبقى موضوع لكي نستصحب.

وبعبارة آخرى، يجب أن تكون القضية المتيقنة والمشكوكة في الاستصحاب متحدة، ونحتاج أيضاً في الاستصحاب إلى بقاء الموضوع، فلا موضوع هنا، مثلاً عندما تقولون من كان مخيّراً لم تقم عنده الحجّية الفعلية هذه قضية متيقنة، وأمّا القضية المشكوكة، المكلّف الذي قامت عنده الحجّية الفعلية، فتغير الموضوع فلا مجال للشك لكي نستصحب.

وإذا كان موضوع التخيير من كان عنده الحجّية الفعلية يعني في مقابل الفتويين المتعارضين الموضوع باقي، ثم نشك في استصحاب بقاء الموضوع لم

صفحه 323

يحصل لنا باقي الموضوع فلا مجال للاستصحاب.

الجواب على الإشكال الأول:

وقد أجابوا عن إشكال السيد الخوئي بجوابين:

الجواب الأول: إنّ ما ذكره السيد الخوئي (قدس سره) من العناوين ما هي إلاّ عناوين انتزاعية واجتهادية، ونحن لم نذكر تلك العناوين في بحثنا فلا دخل لها في موضوع التخيير، يعني أنّ الفقهاء العظام في بحث الإجتهاد يقولون: أي مكلّف مخيّر؟ يقال: المكلّف الذي لم يأخذ بشيء منهما، المكلّف المتحير الذي ليس له طريق إلى العلم، فيجب علينا أن نبحث عن اصل أدلة التقليد، لكي نرى ما هو أصل أدلة التقليد؟ لا بأس أن اُشير إليه بايجاز، اعلموا أنّ البعض جعل دليل التقليد الفطرة والعقل والعقلاء، ونحن ذكرنا للعقل ثلاثة ملاكات، بل نحتاج معرفة ما هي أدلة التقليد وما هو موضوعها؟ الموضوع عند العقلاء رجوع الجاهل إلى العالم، ونحن نقول إذا رجع الجاهل إلى العالم هل يرتفع الموضوع؟ وهل يرتفع جهل المكلّف؟ نعم، عند رجوع المكلّف إلى المجتهد في التقليد يكون من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم ولكن لم يرتفع جهل الجاهل ولم يصير عالماً، فعليه أنّ قول المجتهد حجّة عليه تعبداً، كما يقول المشهور أنّ التقليد من باب رجوع الجاهل إلى العالم ويحصل العلم للجاهل بعد رجوعه إلى العالم، والحال في باب التقليد بعد رجوع المكلّف إلى المجتهد لا يرتفع جهله الواقعي لأنّه لا يعلم في الواقع أنّ الله أوجب صلاة الجمعة عليه أم لا، بل حتى المجتهد نفسه ليس لديه علم بالأحكام الواقعية وما لديه هو الظن، فلا يمكن القول أنّه من باب الرجوع الجاهل إلى العالم(1).

1 ـ أقول: لكن يحصل عنده الاطمئنان على ما في ذمته وهذا الاطمئنان يؤدّي به إلى العلم بأنّ التكليف ساقط عنه، وكذا المجتهد وإن عمل بالظن.

صفحه 324

ولو سلمنا بتمامية هذا الدليل وأنّه من باب رجوع الجاهل إلى العالم، يبقى السؤال أنّ المقلّد بعد رجوعه إلى المجتهد هل يرتفع جهله؟ الجواب كلا، إذا رجع إلى المجتهد الأول فيبقى ملاك الرجوع إلى المجتهد الثاني بعنوان رجوع الجاهل إلى العالم، وبهذا الملاك يمكن القول بالعدول، وأمّا الأدلة اللفظية مثلاً (فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) التي تعتبر من أدلة جواز التقليد، تحتاج إلى تحقق في موضوعها هل تحقق موضوعها عند السؤال من المجتهد أم لا؟ نقول: نعم تحقق السؤال، النتيجة لا يمكنه العدول إلى مجتهد آخر.

تحقيق الجواب:

ورد هذا الجواب عن المحقق الاصفهاني في رسالة الاجتهاد والتقليد، هل يصحّ هذا الجواب في الاستصحاب في مقابل الإشكال الأول للسيد الخوئي؟ ونقول إنّ السيد الخوئي جعل الموضوع إمّا المكلّف الذي لم يقم عنده حجّة أو مكلّف الذي يواجه فتويين متعارضين، وهذه موضوعات انتزاعية اجتهادية، ولا يحق لنا أنّ نجعلهما موضوعاً، بل نركز الموضوع على أدلة التقليد، والعقل ودليل العقلاء والأدلة اللفظية، ثم ننظر هل يمكن جريان الاستصحاب فيه أم لا؟ فجواب المرحوم الاصفهاني (قدس سره) لا يمكن أن يكون جواباً عن السيد الخوئي.

مناقشة كلام المحقق الاصفهاني:

كل ما يقع موضوعاً للحكم يمكن أن نجعله موضوعاً للمستصحب، وإن كان ظاهراً دليلاً على موضوع آخر، فلا بأس أن يكون الموضوع اجتهادياً أو انتزاعياً أو اصتيادياً حسب التعبير الرائج، ولا يلزمنا الجمود على التعابير الواردة عن لسان الأدلة، وهذا بحث مطروح في الاصول والاستصحاب وله ثمرات جليلة، كما لو أراد الفقيه أن يستنبط من مجموع الأدلة أو الموضوع حكماً، مثلاً يقال في

صفحه 325

أبواب الحج في تروك الاحرام لا يجوز على الرجال لبس المخيط، ولم ترد كلمة المخيط في الروايات، ولكن استفادها كثير من الفقهاء في الحرمة، وفي هذه الصورة لو شككنا أنّ هذا الشخص الذي كان المخيط عليه محرماً وبعد الطواف النساء وقبل الصلاة هل أنّ الحرمة باقية أم لا؟ يرى الفقهاء جميعاً جريان الاستصحاب هنا، وكذلك حرمة استعمال الطيب، وفي فقهنا لها نظائر كثيرة، فلو حاول الفقيه أن يستفيد من مجموع الأدلة والروايات أنّ مطلق الموضوع موضوع للحرمة لا بأس به.

وبعبارة اُخرى: يمكن ايجاز الإشكالات الواردة على المحقق الاصفهاني (قدس سره) :

أولاً: أنّ كلام المرحوم الاصفهاني (قدس سره) مجرد ادّعاء لم يقدم لها دليلاً.

وثانياً: لا فرق في الموضوعات بين ما نريد أن نجعلها موضوعاً للمستصحب سواء كان في لسان الدليل أو كان موضوعاً اصتيادياً أو اجتهادياً أو انتزاعياً واستنباطياً.

وثالثاً: ذكر المرحوم الاصفهاني (قدس سره) نقضاً على كلامه في بحث مفصل في كتاب نهاية الدراية الحاشية على الكفاية ج2، ص283، حيث قال هناك: «لأنّ الموضوع وإن كان بحسب الدليل بل بحكم العقل هو الموقت بما هو موقت والعبرة بنظر العرف والعرف يرى أنّ الموضوع هو الفعل....الخ» هذا ما طرحه الاستاذ في درس الاصول إذا كان الواجب الموقت بوقت خاص، وبعد ارتفاع الوقت هل يمكن استصحاب ذلك الواجب المؤقت، مثلاً نستصحب وجوب صلاة الظهر المقيد بوقت خاص ومنه إلى خارج الوقت أم لا؟ المرحوم الآخوند (قدس سره) يمنع الاستصحاب، لأنّه تغيير موضوعه، أمّا المرحوم الاصفهاني من الذين يقول لا مانع من جريان الاستصحاب في هذا المورد، والعبرة بنظر العرف، والعرف يرى أنّ الموضوع هو الفعل....الخ.

يجب الالتفات بدقّة كي لا يختلط الأمر علينا، هنا أمران:

صفحه 326

أولاً: أنّ أغلب الاُصوليين يشترطون في الاستصحاب بقاء الموضوع، وبقاء الموضوع بيد العرف، والعرف يؤيد بقاء الموضوع أم لا.

ثانياً: أنّ المولى إذا أراد أن يبيّن حكماً ما هو موضوعه؟ موضوعه لسان الدليل.

يقول المرحوم الاصفهاني (قدس سره) الموضوع ما فهمه العرف. والحال كان للمرحوم في رسالة الاجتهاد والتقليد نظر آخر حيث كان يقول: «كلها ـ أنّ المكلّف متحير ـ عناوين انتزاعية باجتهاد منّا في تنقيح موضوع الحكم بالتخيير ببعض المناسبات لا دخل لها بما أخذ شرعاً في موضوع الدليل».

خلاصة الكلام: تارة يقول: الدليل وحده هو الموضوع فقط، واُخرى يقول ليس من ضروري أن يكون الدليل موضوعاً وحده، بل العبرة بالعرف وفهمه، ولكن نقول له: إنّ الموضوع هو «المكلّف المتحير»، لأنّه أمام فتويين مخالفتين فهو مخيّر، لماذا مخيّر؟ لأنّه في البدوي لم يأخد بشي منهما كان مخيّراً بالأخذ بفتوى أحدهما، هنا يأتي إشكال السيد الخوئي بتغيير الموضوع، فإذا قلنا أنّ الموضوع المكلّف الذي لم يأخذ، الموضوع باقي يقيناً، وإذا قلنا الموضوع المكلّف الذي بين يديه فتويين متعارضين، فلا بقاء للموضوع لكي نستصحب.

وإذا أردنا أن نحلل كلام المرحوم الاصفهاني (قدس سره) بدقّة أكثر فنقول للمرحوم الاصفهاني، سلّمنا أنّه ليس لدينا روايات في الأدلة للمكلّف المتحير، يعني المكلّف الذي لم يأخذ بشيء منهما، ولكن هل نحن نستنبط هذه الحيثية القيدية أم لا؟ والحال التخيير، لما كان المكلّف أمام فتويين، وبحث التخيير سالب بانتفاء الموضوع عندما لا يكون هناك سوى فتوى واحدة، ونعلم أنّ المكلّف يكون متحيراً إذا كان أمامه فتويين ثم نقول بالتخيير، نعم، هذه الحيثية التقييدية، والحال أنّ الحيثية التقييدية، تعتبر جزء الموضوع، وبما أنّ هنا الحيثية التقييدية جزء الموضوع، فعليه لا يلزم أن يكون لسان الدليل صريحاً وأمراً حتمياً.

صفحه 327

الجواب الثاني: أن نجعل المستصحب المكلّف نفسه، ونقول أنّ هذا المكلّف كان مخيّراً في البداية الأمر ثم عمل بفتوى أحدهما ثم نشك هل أنّ المكلّف مخيّر أم لا؟ نستصحب التخيير أيضاً.

الإشكال الثاني: إشكال المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) في استصحاب الحجّية التخييرية هو: أنّ جريان الاستصحاب في الحجّية التخييرية إذا كان المجتهدان من بداية الأمر مساويين، فيكون المكلّف حينئذ مخيّراً بينهما، ولكن لو رجع المكلّف إلى من هو أعلم في زمانه دون أن يساويه أحد، وبعد سنوات استطاع أحد الفقهاء أن يقطع مراحل الاجتهاد ويساوي الأعلم الأول، فليس هنا حالة سابقة كي نجري الاستصحاب.

أخذ المرحوم السيد الخوئي (قدس سره) هذا الإشكال من العروة وبعبارة اُخرى أشكل على عبارة السيد اليزدي (قدس سره) في العروة، لأنّ السيد طرح مسألة جواز العدول من الحي إلى الحي الآخر بصورة مطلقة، ونحن نقول لا فرق مادام أنّ المكلّف الآن أمام مجتهدين مساويين فهو مخيّراً بين الفتويين.

الإشكال الثالث: هذا الإشكال الذي طرحه السيد الخوئي إشكال مبنائي، لأنّه لا يرى الكفاية في جريان الاستصحاب في الأحكام سواءً كان أحكاماً تكليفية أو أحكاماً وضعية، والحال ذهب أكثر المشهور إلى جريان الاستصحاب في الأحكام.

الإشكال الرابع: قال السيد الخوئي (قدس سره) في الإشكال الرابع: لو قبلنا بجريان الاستصحاب وقبلنا بهذا الاستصحاب أيضاً، نواجه معارضاً له، وعند التعارض التساقط، فما هو معارض هذا الاستصحاب؟ قال: إنّ المكلّف عندما أخذ بالفتوى الاولى أصبحت في حقه حجّة فعلية، ثم بعدة مدّة نشك هل أنّ الحجّية الفعلية باقية على حالها أم لا؟ فعليه الأخذ بالفتوى الثانية يجعله أمام حجّية فعلية اُخرى، لأنّه لا يمكن أن توجد الحجّية لفعلين في زمان واحد بسبب المخالفة الموجودة بينهما

صفحه 328

بل الفتويين متقابلتين ومتنافيتين، فتتعارض الحجّية التخييريه مع الحجّية الفعلية، وعند التعارض التساقط.

إشكال الشيخ الإنصاري:

قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب الاجتهاد والتقليد، ص 87: إنّ الحجّية التخييرية حاكمة على الحجّية الفعلية ومقدم عليها، لماذا هذه الحكومة؟ قال: إنّ المكلّف قبل أخذه بالفتوى الاُولى كان مخيّراً، أي سواء كان فعلياً أو لا، شبيه للأصل السببي والمسببي، ثم نشك هل أنّ هذه الفتوى بصورة معينة حجّة باقية لذلك الشخص أو لا؟ يرجع شكنا إلى بقاء التخيير أم لا.

نقول: إذا بقي التخيير فهذه الفتوى ليست بصورة معينة له، والحال أنّ الحجّية التخييرية موجودة، وإذا لم يبقى التخيير فهذه الفتوى التي أخذ بها بصورة معينة لها حجّية، النتيجة أنّ استصحاب الحجّية التخييرية حاكمة ومقدمة على الحجّية الفعلية، ويحتاج هذا الكلام إلى تأمل ودقّة.

جواب السيد الخوئي:

حاول السيد الخوئي (قدس سره) أن يجيب على إشكال الشيخ الأنصارى (قدس سره) ، فقال: عدم جريان استصحاب(1) الحجّية التخييرية هنا، لأنّ الآثار المترتبة على هذا الاستصحاب ليس آثاراً شرعية، بل آثار عقلية والاستصحاب لا حجّية له بالنسبة إلى الآثار العقلية التي تكون نتيجتها أصلاً مثبت، لأنّ الحجّية التخييرية معناها ايكال أمر الحجّية بيد المكلّف، فأيّهما شاء تكون حجّة عليه، فإذا قلنا استصحاب

1 ـ ذكر الاستاذ جملة اعتراضية بين كلامه لتلاميذه كارشاد وتنبه إلى الواقع في مسألة الاستصحاب وقال: طرحنا مسألة الاستصحاب في الواجب المؤقت وله أيضاً دور مهم في الفقه ولو حاول الطلاب فهم معنى الاستصحاب في الاصول والفقه بصورة دقيقة قيل يحصل على خمس مسائل الاستنباط نظراً لأهميته في فقهنا.

صفحه 329

الحجّية التخييرية يعني لا حجّية فعلية للفتويين، وهذا أثر عقلي وليس أثراً شرعياً، إذن لا نقبل الحكومة في هذا المورد لتعارض الحجّيتين وإذا تعارضتا تساقطتا.

النتجية: ماذا يجب علينا أن نقوله في الإشكال الرابع للسيد الخوئي ; ، ونحن ذكرنا آنفاً أنّ الاستصحاب نجريه في حق هذا الكلّف مثلاً نقول هذا الشيء كان نجساً ثم بعد مدّة نشك في بقاء النجاسة، نستصحب النجاسة هنا، يعني أنّ هذا المكلّف كان مخيّراً فأخذ بأحد الفتويين ثم نشك هل أنّه مخيّر أم لا؟ نستصحب التخيير ببقاء الموضوع، دون أن نستصحب الحجّية التخييرية، بل نقول كان للمكّلف حكماً باسم التخيير، لأنّه لو قلنا باستصحاب الحجّية التخييرية معناه عدم بقاء الحجّية الفعلية وهذا الأثر ليس أثراً شرعياً.

فعليه يمكن أن نطوي هذا الطريق بصورة أن لا يجري استصحاب الحجّية الفعلية أصلاً ناهيك عن تعارضه، أو نقول أنّ الحجّية التخييرية حاكمة على الحجّيه الفعلية، وذلك لو علم بوجوب صلاة الجمعة في الاسبوع الماضي على فتوى مجتهد وكان مخيّراً بين الرجوع إلى زيد أو عمرو، ثم قلّد زيداً وعمل بفتواه، ثم بعد اسبوع تحضر صلاة جمعة اُخرى، هل في الثانية تكليف جديد، أو هو التكليف الأول؟ والحال هذه الجمعة الثانية تكليف جديد، وهل هو استئناف للفعل القبلي أو فعل جديد؟ فاذا أخذنا في الجمعة الثانية بفتوى المجتهد الأول تكون حجّة فعلية بالنسبة إلى هذا العمل.

سؤال: ما الفرق بين موضوع هذا العمل والعمل الثاني؟

الجواب: هناك فرق لأنّ عملي بقول المجتهد في الجمعة الاُولى له حجّية فعلية في ذلك الزمان، والحال أنّ العمل الثاني تكليف جديد عرفاً وشرعاً.

النتيجة: قال استاذنا المعظم، المختار عدم جريان الاستصحاب في بقاء الحجّية الفعلية.

صفحه 330

إن قلت: ألم يكن قول المجتهدين حجّة في تلك الجمعة؟

قلت: بلى، والآن نستصحب حجّية الفتويين، لأننا نقبل أنّ كلا المجتهدين قولهما حجّية في نفسه، وأقول إنّ المجتهد كان يوم الجمعة قوله حجّة ثم إذا شككت أنّه خرج عن العدالة و العلم أم لا؟ نستصحب حجّيته كما نستصحب حجّية قول المجتهد الثاني، لأنّ الاستصحاب يجري في قول كلاهما، وهذا نتيجته الحجّية التخييرية حيث للمكلّف الأخذ بأيّهما شاء، نهاية فلا يبقى استصحاب ببقاء الحجّية الفعلية بانتفاء موضوعه.

والحاصل: أنّ السيد الخوئي والشيخ الأنصاري (رحمهما الله) عندما يريدان تعريف الحجّية الفعلية يقولان: إذا أخذت الفتوى تكون حجّية فعلية، يعني إنّ الحجّية الفعلية مشروط بالأخذ بهما، والسؤال هل لنا في الجمعة الثانية أخذ جديد أم لا؟ عندئذ لا يمكن الأخذ بالحجّية الفعلية قبل العمل به كي نستصحبها.

في نهاية المطاف وصلنا إلى هذه النتيجة ـ والله العالم ـ بجواز العدول من الحي إلى الحي الآخر، بعد دحض أدلة النافين والإشكالات الواردة على أدلة الجواز.

الملصقات :


نظری ثبت نشده است .