درس بعد

الاوامر

درس قبل

الاوامر

درس بعد

درس قبل

موضوع: مادة الأمر و صیغته


تاریخ جلسه : ١٤٠٢/٨/١٣


شماره جلسه : ۲۱

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • حصاد الکلام ضمن المقام

  • نقضٌ و نقدٌ لمبنی حق الطاعة

  • أسلوب السید الخمینيّ في کیفیة تناول الوجوب من الأمر

  • تحریر مُلخّصٌ لمقالة السید الخمینيّ في هذا الحقل

  • إکمال حوار السید الخمینيّ

الجلسات الاخرى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيمْ
الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينْ وَصَلَى الله عَلَىٰ سَيِّدَنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينْ

حصاد الکلام ضمن المقام
لقد حصدنا و حصلنا من کافة المعطیات الماضیة أن مسار المحقق النائینيّ العقليّ تجاه الأمر، سینجرّ به إلی ثورة فقهیة و تحوّل في الاستنباط الفقهيّ، و هو مرفوض و مدحوض لدی الفقهاء، إذ إن الاتکال علی حکم العقل في قاطبة الأوامر الوجوبیة سوف یستتبع في باب التعارضات أن یصبح دلیلُ الاستحبابيّ وارداً علی دلیل الوجوب دوماً فوقتئذ لا یتحقق التعارض أساساً بینهما کما مثّل به الشهید الصدر، و هذا الاتجاه مما لا یلتزم به عملیاً و فقیهاً.[1]

و النکتة التالیة التي استَلهَمناها من کلمات المحقق النائینيّ هو أن نظریّته قد صیغت و تشکّلت علی أساس مبنی حق الطاعة (الذي یلتزم به الشهید الصدر أیضاً) حیث لا نستظهر معنی آخر لدی تحلیل کلمات المحقق النائینيّ لأنه قد تجاهر بکل صراحة بأن وجود الأمر الشرعيّ مفترض و متیقّن لدینا و لکن نتجاهل تواجد القرینة علی الاستحباب و الترخیص فعندئذ سیحکم العقل بوجوب التنفیذ و الامتثال رعایةً لحق المولویة و العبودیة رغم أن الوجوب لا یزال محتملاً.

 
نقضٌ و نقدٌ لمبنی حق الطاعة
منذ السنوات السالفة، قد اعترضنا و رفضنا منهجة حق الطاعة من أساسه، و نشیر هنا إلی استدلال الشهید الصدر بإیجاز: إن الشهید قد استمسک بالوجدان إثباتاً لمسلک حق الطاعة، مُعتقداً بأن الإنسان المتشرّع لو احتمل التکلیف من أیة طریقةٍ حتی من غیر الأمر اللفظي لحَکمَ العقلُ حتماً بلزوم إنجاز المَهام المحتمل أداءً لحق المولی تجاه العبد، ثم استشهد الشهید بموضوع الخالقیة و الرازقیة دعماً لمبناه.

و لکنّآ قد هاجمنا و فنّدنا هذه النظریة بشتی الاعتراضات و التفنیدات، فمنها: قلنا بأن الله سبحانه حین تأسیسه و تقنینه لحکم شرعيّ لا یُلحظ بوصفه خالقاً أو رازقاً بل یُلحظ بوصفه مشرّعاً و مقنّناً فبالتالي سوف یلغو موضوع الخالقیة و الرازقیة التکوینیة في مسار إثبات الأحکام الشرعیة الاعتباریة، و لهذا نعتقد بأن الله لم یؤسّس نهجاً جدیداً في بیان الأحکام أو استنباطها فلو اتخذ منهجیةً مُستجدةً لتحتّم علیه تفسیر تلک المنهجیة الخاصة به، فحیث إن دأبَه في فهم الأحکام هو نفس دیدنة العقلاء في فهم المراد، فبالتالي سوف تتفعّل قاعدة قبح العقاب بلا بیان، والتي یُطبّقها العقلاء لدی ظروف الشک في الأحکام، ثم یُطبّقونها في فهم مقاصد الشارع أیضاً.

و من الطریف أن النقوض التي أوردها الشهید علی نظریة المحقق النائیني هي بالتحدید تعدّ من نواقض و مُبعّدات نظریة حق الطاعة إذ إنه یجب علی الشهید و المحقق أن یلتزما دوماً بالورود في باب التعارضات لأن حکم العقل مرتهن علی عدم الترخیص، و الحال أن باب التعارضات ملیئة بالمرخّصات المعارِضة بالواجبات، فهل یحکمانِ بعدم الوجوب؟ کلا بل قد أقرّا في الفقه بالتخصیص، و في احتمال القرینة المنفصلة یُطبّقان أصالة عدم القرینة وفقاً للمشهور، و هذا مما یُضادّ مسلک حق الطاعة.

أسلوب السید الخمینيّ في کیفیة تناول الوجوب من الأمر
إن وِجهة نظر السید الخمینيّ تنسجم بل تئول إلی معتقد السید البروجرديّ، و إنما یمتازان في أسلوب تبیین الطریق العقلائي للوجوب، بل إن السید الخمینيّ یرتقي قائلاً إن الدلالة الوضعیة علی الوجوب أو الاستحباب غیر معقولة ثبوتاً، کما سنستعرض مقولته تماماً، فتربّص.

ثم إنه یضرب نظریة المحقق النائینيّ و الشیخ عبد الکریم الحائري و یَطمِسُهما و بالتالي یُحکّم و یُشیّد رأیَه الأصوليّ في المقام، و إلیک نصَ عبارته:

بعد ما عرفت أنّ الهيئة وضعت للبعث و الإغراء، يقع الكلام في أنّها هل وضعت للبعث الوجوبيّ، أو الاستحبابيّ، أو القدر المشترك بينهما، أو لهما على سبيل الاشتراك اللفظيّ؟ لا بدّ في تحقيق ذلك من مقدّمات:

الأولى: أنّه تختلف إرادة الفاعل فيما صدر منه قوّةً و ضعفاً حسبَ اختلاف أهميّة المصالح المدرَكة عنده، فالإرادة المحرّكة لعضلاته لنجاة نفسه عن الهلكة أقوى من الإرادة المحرّكة لها للقاء صديقه، و هي أقوى من المحرّكة لها للتفرّج و التفريح، فمراتب الإرادة قوّة و ضعفاً تابعة لإدراك أهميّة المصالح أو اختلاف الاشتياقات، و اختلاف حركة العضلات سرعة و قوّة تابعٌ لاختلاف الإرادات كما هو ظاهر.

فما في تقريرات بعض أعاظم العصر رحمه اللّه[2] (و کذا السید البروجرديّ المستنکِر لمراتب الإرادة) من أنّ تحريك النّفس للعضلات في جميع الموارد على حدّ سواء كما في تقريرات بعض المحققين‏[3] رحمه اللّه من أنّ الإرادة التكوينية لا يتصوّر فيها الشدّة و الضعف، مخالفٌ للوجدان و البرهان:

أمّا الأوّل (تفاوت درجات الإرادة بالوجدان) فظاهر، ضرورة أقوائيّة إرادة الغريق لخلاص نفسه من إرادة الفاعل لكنس البيت و شراء الزيت.

و أمّا الثاني (اختلاف درجات الإرادة بالبرهان الإنيّ): فلأنّ اختلاف الآثار يدلّ على اختلاف المؤثّرات، و اختلاف حركة العضلات المشاهَد كاشف عن اختلاف الإرادة المؤثّرة فيها، كما أنّ اختلاف الدواعي موجب لاختلاف الإرادات، فالداعي لإنجاء المحبوب من الهلكة موجب لإرادة الحتميّة القويّة، بخلاف الداعي إلى شراء اللحم، و هذا لا ينافي كون الإرادة بفعّاليّة النّفس كما هو التحقيق. و أمّا التفصيل بين الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة، فلا يرجع إلى محصّل.

أقول: فکما استمعنا إلیه، إن السید الخمیني قد خالفَ منهجیة المحقّقین في عدم تدرّج الإرادة قوةً و ضعفاً کالمحقق النائینيّ و العراقي و السید البروجرديّ،حیث إنهم یَحصِرون الإرادة بین الوجود و العدم.

(المقدمة)الثانية: أنّ الإرادة لمّا كانت من الحقائق البسيطة كالعلم و الوجود، يكون التشكيك الواقع فيها خاصّيّاً-ما به الافتراق بين مراتبها عين ما به الاشتراك- (فالإرادة مشکَکَة کالوجود) و لا يكون الاختلاف بينها بتمام الذات المستعمل في باب الماهيّات، أو بعضِها، أو خارجِها، ضرورة عدم التباين الذاتي بين الإرادة القويّة و الضعيفة، و لا يكون اختلافهما ببعض الذات لبساطتها، و لا بأمر خارج، حتّى تكونا في مرتبة واحدة، و الشدّةُ و الضعف لاحقان بها، فالإرادة كسائر الحقائق البسيطة يكون افتراق مراتبها كاشتراكها بتمام الذات، و تكون ذاتَ عرض عريض و مراتب شتّى.

(المقدمة)الثالثة: أنّ صدور الأمر من الآمر- بما أنّه فعل إراديّ له كسائر أفعاله الإراديّة- مسبوق بمقدّمات، من التصوّر إلى الإرادة و تحريكِ العضلات، غاية الأمر أنّ العضلات فيه (صدور الأمر) عضلات اللسان (خلافاً للسید البروجردي حیث یعتقد بأن الأمر و التحریک الوجوبيّ هو فعل من الأفعال بحیث تُعرف الشدة و الخفة من المقارنات لا من اللسان) و تكون الإرادة فيه- قوّة و ضعفاً- تابعة لإدراك أهميّة الفعل المبعوث إليه ضرورةَ أنّ الإرادة الباعثة إلى إنجاء الولد من الغرق أقوى من الباعثة إلى شراء اللحم.

ثمّ إنّه قد يظهر آثار الشدّة في المقال (في التکلم) بل في كيفية تأدية الكلام شدة، أو في الصورة (حالة وجه الشخص أو صوته) علوا و ارتفاعا، و قد يُقرن‏ أمرَه بأداة التأكيد و الوعد و الوعيد، كما أنه قد يقرنه‏ بالترخيص في الترك، أو بما يفهم منه الوجوب أو الاستحباب.

أقول: إن هذه المقولة تدعم مُعتقد السید البروجرديّ في أنه لا تباین بین الوجوب و الاستحباب بتمام الذات بل باختلاف مراتبهما، إلا أن الفارق بین السیدین هو أن السید الخمینيّ یعتقد بتشکّک و تدرّج مراتب الإرادة و عدم البساطة بحیث تتجلی الشدة أو الخفة في سنخ أداء التکلم و المقال، خلافاً للسید البروجردي المعتقد ببساطة الإرادة و أن الفارق بین الحکمین هي نوعیة المقارنات شدةً و ضعفاً.

و بالجملة: أن الأمر بما هو فعل اختياري إرادي صادر من الفاعل المختار، كسائر أفعاله (صادر) من حيث المبادئ و جهات الاختلاف (لا من نفس لفظ الأمر فإنه لا یبعث العبدَ) فقد يحرّك الفاعلُ عضلاتِ يده أو رجله لتحصيل مطلوبه مباشرة، و قد يحرك عضلات لسانه لتحصيل مطلوبه بمباشرة الغير، لا لأن الأمر الّذي مفاده البعث هو الباعث بذاته، فإنه غير معقول، بل لأدائه بمقدمات اخر- على فرض تحققها- إلى انبعاث المأمور، فإذا أمر المولى بشي‏ء و وصل إلى العبد و تصور أمرَه، فإن وجدت في نفسه مباد اخر كالحب و المعرفة و الطمع و الخوف و أمثالها تصير هذه المبادئ داعية للفاعل، فالأمر محقِّقٌ موضوعه الطاعة، لا المحرك بالذات (بحیث یستوجب الأمر حکماً تکلیفیاً علی ذمة العبد لکي یُنفّذ و یَمتثل  لا أن یبعثه نحو العمل فإنه غیر معقول ثبوتاً)[4]
 
تحریر مُلخّصٌ لمقالة السید الخمینيّ في هذا الحقل
إن السید الخمینيّ قد تحاشا و تنحّی عن مبنی المشهور المعتقد بأن مفاد وضع الأمر هي الباعثیة و المرسلیة علی عاتق العبد نحوَ المُتطلَب، إذ إن السید یُقرّ بأن نفس الأمر لا باعثیة له عقلاً و ثبوتاً إلا بلحاظ المنشأ و المبدئ الکامن في الفعل المبعوث إلیه، فالأمر بمفرده لا یُمکنه عقلاً أن یوصلنا إلی الوجوب و الاستحباب بل یُفترَض علینا بدایةً أن نُحرز درجة المصلحة و الأهمیة لکي نستنتج الوجوب أو الاستحباب.

و أما عائدة الأمر الصادر من المولی أنه یُکوّن موضوع الإطاعة المولویة بحیث یعرِف العبد أن علیه إنجاز العمل و الامتثال، فلا یُمکن للأمر أن یبعثه علی أساس الوجوب أو الاستحباب تحدیداً.

و لکن مقولة السید الخمینيّ تُساهم و تُلائم مُعتقد المحقق النائینيّ في أن لفظ الأمر لا یُدلّل علیهما ، و یَمتازان هذان الفاضلان في أن المحقق النائینيّ یعترف بالنسبة الإقاعیة و الباعثیة في الصیغة بینما السید الخمینيّ یأبی أساسَ الباعثیة للأمر عقلیاً.
 
إکمال حوار السید الخمینيّ
(المقدمة)الرابعة: قد ظهر مما مر أن الأمر بما هو فعل إرادي للفاعل تابع‏ لإرادته، فهو (صدور الأمر) كاشف عنها (الإرادة) نحوَ كشفِ المعلول (الأمر) عن علته (الإرادة) فإن العقل يحكم بأن كل فعل إرادي لا يتحقق من الفاعل المختار إلا بإرادته، و بما أنه بعث نحو المبعوث إليه كاشف عن مطلوبيته، نظير كشف المعلول عن علته بوجه، فإن الداعي إلى الأمر مطلوبية فعل المأمور به، فدلالة الأمر على الإرادة المتعلقة بصدوره و (دلالة الأمر) على مطلوبية الفعل المأمور به ليست دلالة لفظية وضعية (إذ اللفظ لم یصّرح بالمطلوبیة أو الوجوب بل العقل قد کشف عن المبادئ و المناشئ کشفاً إنّیّاً) بل دلالة عقلية كدلالة كل ذي مبدأ على تحقق مبادئه.[5]

إذا عرفت ما ذكر يقع البحث في أن هيئات الأوامر هل تدل على الوجوب أم لا؟ و على الأول: هل تكون الدلالة وضعية، أو بسبب الانصراف، أو لا هذا و لا ذاك، بل بمقدمات الحكمة تكون ظاهرة فيه، أولا تحتاج إليها- أيضا- فيه أو أنها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبية كشفا عقلائياً ككاشفية الأمارات العقلائية؟ و على فرض عدم وضعها للوجوب و عدم دلالتها عليه، فهل تكون حجة على الوجوب بحكم العقل و العقلاء أو لا؟ وجوه:

أما الدلالة الوضعيّة: فإن يُرد منها أنها وضعت للبعث المتقيد بالإرادة الحتمية، فهو ظاهر البطلان إن أريد التقيد بهذا المفهوم، ضرورة عدم إمكان تقيد البعث بالحمل الشائع بمفهوم أصلا، و قد عرفت أن الهيئة وضعت له، و إن أريد التقيد بواقعها فلا يمكن، لأن البعث متأخر عن الإرادة بمراتب، فلا يعقل تقيده بها، و المعلول لا يمكن أن يتقيد بعلته، فضلا عن علة علته، أو كعلة علته في التقدم، للزوم كون المتأخر متقدما أو بالعكس.

نعم، يمكن أن يقال: إن الإرادة الحتمية لما كانت منشأ للبعث بآلية الهيئة، فللبعث المنشأ بها تحصل غير تحصل البعث المنشأ بالإرادة الغير الحتمية بحسب نفس الأمر، و الواضع يمكن أن يتصور جامعا عرضيا انتزاعيا بين أفراد البعث الناشئة من الإرادة الحتمية، فيضع الهيئة بإزاء مصاديقه، فتكون هيئة الأمر مستعملة استعمالا إيجاديا، و يكون وضعها عاما و الموضوع له خاصا، و هو إيجاد البعث الخاصّ الناشئ من الإرادة الحتمية من غير تقيد بها.

و هذا التصوير و إن يدفع الاستحالة لكن التبادر و التفاهم العرفي يضاده، ضرورة أن المتفاهم من الهيئة ليس إلا البعث و الإغراء، كإشارة المشير لإغراء غيره، و كإغراء الجوارح من الطيور و غيرها، فكأن لفظ الهيئة قائم مقام تلك الإشارة و ذلك الإغراء.

و أما دعوى الانصراف إلى البعث الناشئ من الإرادة الحتمية[6]، فلا مجال لها، لأن ملاك الانصراف الحاصل من أنس الذهن بكثرة الاستعمال مفقود، و غيره ليس منشأ له، و من ذلك يعلم ما في دعوى الكشف العقلائي‏[7] فإن الأمر و إن كان كاشفا عن إرادة الآمر في الجملة، لكن كشفه عن الإرادة الحتمية من غير ملاك غير معقول، و ليس ملاك معقول في المقام إلا كثرة الاستعمال، بحيث صار غيره من النادر الّذي لا يعتني به العقلاء، و هو مفقود.

و أما دعوى ظهوره في الوجوب بمقدمات الحكمة، فقد قررها بعض محققي العصر- رحمه اللَّه- بوجهين:

أحدهما: أن الطلب الوجوبيّ هو الطلب التام الّذي لا حد له من جهة النقص و الضعف، بخلاف الاستحبابي، فإنه مرتبة محدودة بحد النقص و الضعف، و لا ريب في أن الوجود الغير المحدود لا يفتقر في بيانه إلى أكثر مما يدل عليه، بخلاف المحدود، فإنه يفتقر إلى بيان حدوده و أصله، و عليه يلزم حمل الكلام الّذي يدل على الطلب بلا ذكر حدٍّ له على المرتبة التامة، و هو الوجوب، كما هو الشأن في كل مطلق. هذا ملخص ما ذكر في مادة الأمر[8].

و قرره في المقام‏ بأن مقدمات الحكمة كما تجري في مفهوم الكلام لتشخيصه من حيث سعته و ضيقه، كذلك يمكن أن تجري في تشخيص الفرد الخاصّ فيما أريد بالكلام فردا مشخصا، كما لو كان لمفهوم الكلام فردان في‏ الخارج، و كان أحدهما يستدعي مئونة في البيان أكثر من الآخر، كالإرادة الوجوبية و الندبية، فإن الأولى تفترق عن الثانية بالشدة، فيكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك، و أما الثانية فيفترق عن الأولى بالضعف، فما به الامتياز فيها غير ما به الاشتراك، فالإرادة الندبية تحتاج إلى دالين بخلاف الوجوبية. انتهى ملخصا.

و فيه محال أنظار:

منها: أن مقدمات الحكمة في المطلق لو جرت فيما نحن فيه، فنتيجتها إثبات نفس الطلب الّذي هو القدر المشترك بين الوجوبيّ و الاستحبابي باعترافه، فإن المادة إذا وضعت للقدر الجامع لا يمكن أن تفيد مقدمات الحكمة دلالتها على غيره مما هو خارج عن الموضوع له، و دعوى عدم الفرق بين القدر الجامع و الطلب الوجوبيّ، واضحة الفساد، ضرورة لزوم افتراق الفرد عن الجامع بخصوصية زائدة.

نعم هاهنا كلام، و هو أن نفس الطلب الجامع ليس له وجود إلا بوجود أفراده، فلا يمكن أن تنتج مقدمات الحكمة ظهور الأمر في نفس الجامع، للقطع بحصوله مع أحد الفردين، لكن هذا يهدم جريان المقدمات و لا يوجب إنتاجها ظهور الأمر في أحد القسمين مع كونه متساوي النسبة إليهما.

و منها: أن كون ما به الاشتراك في الحقائق الوجودية عين ما به الامتياز، لا يوجب عدم الاحتياج- في صرف الجامع إلى أحد القسمين- إلى بيان زائد عن بيان نفس الطبيعة، ضرورة إن الأقسام تمتاز عن المقسم بقيد زائد في المفهوم و لو فرض عدم الزيادة في الوجود، فالوجود المشترك مفهوما بين مراتب الوجودات لا يمكن أن يكون معرِفا لمرتبة منها، بل لا بد في بيانها من قيد زائد و لو من باب زيادة الحد على المحدود، فنفس مفهوم الوجود لا يكون حاكيا إلا عن نفس الحقيقة الجامعة بينها، و لا بد لبيان وجود الواجب من زيادة قيد، كالتام، و المطلق، و الواجب بالذات، و نحوها، فالإرادة القوية كالضعيفة تحتاج إلى بيان زائد، و كذا نظائرها.

و منها: أن ما ذكر- من أن ما به الاشتراك في طرف الناقص غير ما به الامتياز- ليس على ما ينبغي، لأن الإرادة الضعيفة ليست مركبة من إرادة و ضعف، كالإرادة القوية التي ليست مركبة منها و من قوة، فما به الاشتراك في الحقائق البسيطة عين ما به الامتياز في جميع المراتب، قضاء لحق البساطة و كون الحقيقة ذات مراتب، فالوجود الضعيف و الإرادة الضعيفة و أمثالهما مرتبة من الحقيقة البسيطة تكون بنفس ذاتها ممتازة عن القوية ففي الوجود الخارجي تكون كلتا المرتبتين بسيطتين- ما به الاشتراك فيهما عين ما به الامتياز- و تكون الحقيقة ذات عرض عريض، و في مقام البيان و التعريف يحتاج كلاهما إلى معرف غير نفس المفهوم المشترك. و بالجملة: أن ما ذكره من عدم احتياج الطلب التام و الإرادة التامة إلى بيان‏ زائد عن أصل الطلب و الإرادة غير وجيه.

الوجه الثاني:[9]  أن كل طالب إنما يأمر لأجل التوسل إلى إيجاد المأمور به، فلا بد أن يكون طلبه غير قاصر عن ذلك و إلا فعليه البيان، و الطلب الإلزاميّ غير قاصر عنه، دون الاستحبابي، فلا بد أن يحمل عليه الطلب.

و فيه ما لا يخفى من الوهن، فإن دعوى هذه الكلية: إن ترجع إلى أن كل آمر بصدد تحصيل المأمور به على سبيل الحتم و الإلزام، فهي مصادرة، مع كونها ممنوعة أيضا، فإن الأوامر على قسمين، و إن ترجع إلى أن كل آمر بصدد إحداث الداعي و تحصيل المأمور به في الجملة، فهي مسلمة، لكن لا تفيد، فإن بعثه أعم من الإلزاميّ و غيره، و إن ترجع إلى أن الطلب الاستحبابي يحتاج إلى البيان الزائد دون الوجوبيّ، فقد مر ما فيه، لرجوع هذا الوجه إلى الوجه الأول.

و أما ما أفاده شيخنا العلامة- أعلى اللَّه مقامه- من أن الحمل على الوجوب لعله لأجل أن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس إلا، و الندب إنما يأتي من قبل الإذن في الترك منضما إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج إلى قيد زائد[10].

ففيه أن الإرادة في الوجوب و الندب مختلفة مرتبة كما تقدم، و لا يمكن‏ أن تكون الإرادة فيهما واحدة و يكون الاختلاف بأمر خارج، فحينئذ فللإرادة الحتمية نحو اقتضاء غيره في الغير الحتمية.

و أما ما أفاد: من عدم احتياج الحمل على الوجوب إلى مقدمات الحكمة، نظير القضية المسورة بلفظة «كل»[11]، فقياسه مع الفارق، فإن الألفاظ الدالة بالوضع على الاستغراق إذا استعملت لا محالة يكون المتكلم بها في مقام بيان حكم الأفراد المدخولة لها، فإنها بمنزلة تكرار الأفراد، فالقضية المسورة بها متعرضة لكل فرد فرد بنحو الجمع في التعبير، فلا معنى لعدم البيان بالنسبة إليها، نعم أحوال الأفراد لا بد لها من مقدمات الحكمة.

فالحق أن الهيئات لا تدل بالدلالة الوضعيّة إلا على البعث و الإغراء من غير دلالة على الوجوب و الاستحباب، بل لا معنى للدلالة عليهما و لا لاستعمالها فيهما، فإن الوجوب و الاستحباب إن كانا بلحاظ الإرادة الحتمية و غيرها أو المصلحة الملزمة و غيرها، فهما من مبادئ الاستعمال، و لا يعقل أن تكون مستعملة فيهما، و حتمية الطاعة و عدمها منتزعتان بعد الاستعمال، فلا يعقل الاستعمال فيها.

و بعد اللتيا و التي: أن ما لا ريب فيه و لا إشكال يعتريه هو حكم العقلاء كافة بأن الأمر الصادر من المولى واجب الإطاعة و ليس للعبد الاعتذار باحتمال كونه ناشئا من المصلحة الغير الملزمة و الإرادة الغير الحتمية، و لا يكون ذلك للدلالة لفظية، أو انصراف، أو مقدمات حكمة. و الدليل عليه: أن الإغراء و البعث إذا صدر من المولى بأي دال كان، لزم عند العقلاء إطاعته، من غير فرق بين اللفظ و الإشارة مع عدم وضع لها، و لا تجري فيها مقدمات الحكمة، فنفس صدور البعث و الإغراء موضوع حكمهم بلزوم الطاعة من غير حكمهم بكشفه عن الإرادة الحتمية، لعدم الملاك فيه كما عرفت. فكون الأمر للوجوب ليس إلا لزوم إطاعته عند العقلاء حتى يرد منه ترخيص. و لعل ذلك مغزى مرام شيخنا العلامة أعلى اللَّه مقامه.[12]

--------------------------
[1]  و أعتقد أنه لا یستتبع الورود دوماً إذ المحقق النائینيّ سیُدافع عن نفسه بأن الجمع الدلالي بین الوجوب و الاستحباب یُحل مشکلة التعارض فلا یتم استظهار الوجوب أساساً وفقاً للمشهور و للنائینيّ معاً لأنه یحمل علی الترخیص أو الأفضلیة، و أما في التعارض المستقر فحیث قد تعارض الوجوب و الحرمة فلا یحرز الوجوب أیضاً بل سوف یتخیّر العقل في الدوران بین المحذورین في تکافئ المرجحات و هذا أیضاً مما لا خلاف فیه فیلتزم به الجمیع أیضاً، و أما التعارض المستقر الذي یحظی أحدهما بالمرجح فلو ترجّح الوجوب لاتخذنا الوجوب وفقاً لکافة المسالک بلا خلاف، و أما لو ترجّح دلیل الاستحباب فیتخذ الاستحباب بلا خلاف أیضاً، فلا یرد الإشکال علی المحقق النائیني علی الإطلاق و کافة الصور المتعارضة ولا یستتبع المنهجیة الخاصة في الفقه. نعم سیتم الإشکال علیه في الشیهة الوجوبیة في إجمال النص حیث إن الوجوب یعدّ محتملاً فوفقاً للمحقق النائیني سیتوجّب الاحتیاط بینما المشهور و کذا نفس المحقق یُطبّقان البرائة فلا یلتزم بالاحتیاط فیها و هذا هو النقض الرئیسيّ علیه.
[2] فوائد الأُصول 1: 135- 136
[3] بدائع الأفكار( تقريرات العراقي) 1: 213.
[4] و نلاحظ علیه بأن السید الخمیني قد أقرّ ضمن مادة الأمر بدلالة المادة علی الوجوب وضعاً و تبادراً بینما في الصیغة لا یستخرج الوجوب من الصیغة بل یری أن استفادة البعث و الوجوب منه غیر معقول و الحال أنهما مشترکان في الدلالة علی البعث موضوعیاً و تبادریاً ، فما هو الفارق هنا و هناک! و خاصة أنه یصرّح بعد ما عرفت أنّ الهيئة وضعت للبعث و الإغراء.
[5] و نلاحظ علیه بأن الوجوب لا یُقتبس من العقل المستقل أو غیر المستقل کما قاله السید الخمینيّ و المحقق النائینيّ بل الدلالة علی الوجوب قد نبع عن الدلالة الالتزامیة العقلیة بالمعنی الأخص لا بالمعنی الأعم الذي تصوّراه الفاضلان إذن فلفظ الأمر أو صیغته هي الدالة وضعاً و التزاماً علی المطلوبیة و الوجوب بلا فاصلة بین صدور اللفظ و بین لازمه الوجوبيّ، بینما الأعلام المحقق النایئني و السیديِ البروجردي و الخمیني قد تصوروا الوجوب من اللفظ بالدلالة الالتزامیة بالمعنی الأعم فحتاجوا إلی تضمیم المقارنات أو کشف المصالح أو المبادئ من الخارچ لیحکم العقل بالوجوب من اللفظ، بینما قد تبادرت أذهان المشهور الوجوب من اللفظ بالدلالة الالتزامیة بالمعنی الأخص فانبثق الوجوب من الدلالة اللفظیة الوضعیة ثم ثبت الحکم التکلیفي ثم تفعّل حکم العقل بالطاعة و التنفیذ، لا أن یحکم العقل بالوجوب منذ البدایة و بلا دخالة اللفظ أساساً.
[6] نهاية الدراية 1: 126- سطر 16- 18.
[7] نهاية الدراية 1: 126- سطر 6- 8.
[8] بدائع الأفكار( تقريرات العراقي) 1: 197.
[9] بدائع الأفكار( تقريرات العراقي) 1: 197.
[10] درر الفوائد 1: 43.
[11] المصدر السابق.
[12] المنهاج ج1 ص257

الملصقات :


نظری ثبت نشده است .