درس بعد

الاوامر

درس قبل

الاوامر

درس بعد

درس قبل

موضوع: مادة الأمر و صیغته


تاریخ جلسه : ١٤٠٢/٨/٢٣


شماره جلسه : ۲۸

PDF درس صوت درس
خلاصة الدرس
  • مقالة المحقق الآخوند حول الطلب و الإرادة

  • مُعارضة المحقق النائینيّ تجاه مُعتقد أستاذه

  • مسایرَة السید الخوئيّ إثرَ مسار أستاذه النائینيّ

  • جَودة مواجهةِ المحقق الاصفهانيّ لمبحث الطلب و الإرادة

  • محاجة السید البروجرديّ تجاه الشیخ محمد تقي الاصفهانيّ

الجلسات الاخرى
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيمْ
الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينْ وَصَلَى الله عَلَىٰ سَيِّدَنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينْ

مقالة المحقق الآخوند حول الطلب و الإرادة
لقد استفتح المحقق الآخوند هذه النافذةَ التي انحرفت عن مسار أبحاث الأوامر، نظراً إلی أهمیتها البالغة، فإنه قد شقّق الطلبَ إلی ثلاثِ شُعَب:

1. الطلبَ النفسانيَ الحقیقيَ، و الذي هو عبارة عن صفةٍ قائمة بالنفس کأنه یودّ الماءَ و یتطلَّبُه في داخله، فلو أعلنه بلفظة محدّدة لتحوّل إلی طلبٍ إنشائيٍّ و هو الشق الثالث من الطلب.

2. مفهومَ الطلب فهو عبارة عن تصور المعنی الطلبيّ ذهنیاً بحیث لا یُصدِر طلباً إنشائیاً بالألفاظ بل الطالب یُصوّر مُتطلَّبَه في باله فحسب، بلا حدوث صفة نفسانیة و لا صدور دعوةٍ إنشائیة.

3. الطلبَ الإنشائيَ و الذي یعدّ محطاً للنقاش، حیث إنه یُشکّل موضوعَ الأمر (أي یتحقق الأمر بالطلب الإنشائيّ) و یمتاز الطلب الحقیقيّ عن الإنشائيّ بأن الحقیقيّ یعدّ مصداقاً لکلي الطلب بحیث یقال: إن الطلب الحقیقيَ حصةٌ من الطلب بالحمل الشائع، بینما الطلبُ الإنشائيُّ لا یعدّ مصداقاً لمطلق الطلب بل هو نفس الطلب الإنشائيّ، بأیة لفظةٍ عبّرت عنها.[1]

و الآن قد حان وقتُ استعراض نص عبارته ضمن الکفایة:

الجهة الرابعة: الطلب و الإرادة: الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي بل (معنی الأمر هو) الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا بل (هو نفسه یُعدّ) طلبا إنشائيا سواء أنشئ بصيغة افعل أو بمادة الطلب أو بمادة الأمر أو بغيرها، و لو أبيت إلا عن كونه (الطلب الإنشائيّ) موضوعاً للطلب فلا أقل من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً و ذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي (فلو طلَب الطالب لبان ظاهراً في الانشائيّ لا الطلب الحقیقيّ المطلق) كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب، و المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية (النفسانیة حیث إنها صفة قائمة بالنفس، ثم یتجاهر المرءُ بإرادته الحقیقیة و یُبرزها بکلمة محدّدة نظیر أمرتک، إذن فثمةَ مائز ما بین استعمال الطلب المنصرِف إلی الطلب الإنشائيّ و بین استعمال الإرادة المنصرِفة و المُنبأةِ الصفة الحقیقیة الباطنیّة).

و اختلافُهما في ذلك ألجأ بعضَ أصحابنا (الشیخ محمد تقي الاصفهانيّ صاحبِ هدایة المسترشدین المتوفی 1248) إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب و الإرادة خلافا لقاطبة أهل الحق و المعتزلة من اتحادهما، فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام و إن حققناه في بعض فوائدنا إلا أن الحوالة لمّا لم تكن عن المحذور خالية و الإعادة بلا فائدة و لا إفادة كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضاً.

فاعلم أن الحق كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة و خلافا للأشاعرة هو اتحاد الطلب و الإرادة بمعنى أن لفظيهما (بالحمل الأوليّ) موضوعان بإزاء مفهوم واحد و (أن) ما بإزاء أحدهما في الخارج (بالحمل الشایع) يكون بإزاء الآخر (فهما متّحدان مصداقاً و مفهوماً) و الطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عينُ الإرادة الإنشائية (فکلمة أطلُب عینُ کلمة أرید).

و بالجملة هما متحدان مفهوما و إنشاءً و خارجا، لا أن الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه (الطلب) كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها (الإرادة) أيضا،ً ضرورة أن المغايرة بينهما أظهرُ من الشمس و أبين من الأمس فإذا عرفت المراد من حديث العينية و الاتحاد (الطلب الإنشائيّ و الإرادة المنشأة) ففي مراجعة الوجدان عند طلب شي‏ء و الأمر به حقيقةً، كفايةٌ فلا يحتاج إلى مزيد بيان و إقامة برهان فإن الإنسان لا يجد غيرَ الإرادة القائمة بالنفس صفةً أخرى قائمةً بها يكون هو الطلبَ، غيرَها (إلا الإرادة) سوى ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشي‏ء و الميل و هيجان الرغبة إليه و التصديق لفائدته و هو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها. (فبدایةً یتصوره ثم یَمیل إلیه شوقاً ثم یُصدّقه ثم تتولّد الإرادة تلقائیاً، إذن فالصفة القائمة بالنفس هي الإرادة الحقیقیة و هي نفس الطلب بلا اثنینیّة في البین و هذا أمر وجدانيّ محتوم)

و بالجملة لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة و الإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب فلا محيص‏ عن اتحاد الإرادة و الطلب و أن يكون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك مسمى بالطلب و الإرادة كما يعبر به تارة و بها أخرى كما لا يخفى و كذا الحال في سائر الصيغ الإنشائية و الجمل الخبرية فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجي و التمني و العلم إلى غير ذلك صفة أخرى كانت قائمة بالنفس و قد دل اللفظ عليها .... و قد انقدح بما حققناه ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة كما في صورتي الاختبار و الاعتذار من الخلل فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين لا طلب كذلك فيهما و الذي يكون فيهما إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي الذي هو مدلول الصيغة أو المادة و لم يكن بينا و لا مبينا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

و بالجملة الذي يتكفله الدليل ليس إلا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية و الطلب المنشإ بالصيغة الكاشف عن مغايرتهما و هو مما لا محيص عن الالتزام به كما عرفت و لكنه لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا لمكان هذه المغايرة و الانفكاك بين الطلب الحقيقي و الإنشائي كما لا يخفى.. ثم إنه يمكن مما حققناه أن يقع الصلح بين الطرفين و لم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما و وجودا حقيقيا و إنشائيا و يكون المراد بالمغايرة و الاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب كما هو كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه و الحقيقي من الإرادة كما هو المراد غالبا منها حين إطلاقها فيرجع النزاع لفظيا فافهم.

مُعارضة المحقق النائینيّ تجاه مُعتقد أستاذه
و قد خالف المحقق النائینيّ وجدان أستاذه، مدّعیاً بأنه قد عثَر وجدانُه علی صفة أخری تُسمّی بالطلب و هو یتعقّب الإرادةَ الحقیقیة، حیث یصرّح بأنه:

 لا ينبغي الإشكال في أنّ هناك وراء الإرادة أمر آخر (خلافاً للشیخ الآخوند) يكون هو المستتبعَ لحركة العضلات و يكون ذلك من أفعال النّفس، و إن شئت سمّه بحملة النّفس، أو حركة النّفس، أو تصدّى النّفس، و غير ذلك من التّعبيرات.

و بین یدیک الآن بقیةُ مقالته في هذا المضمار:

لا بأس في المقام بالإشارة إلى اتّحاد الطّلب و الإرادة و تغايرهما، حيث جرت سيرة الأعلام على التّعرض لذلك في هذا المقام، و ان لم يكن له كثير ارتباط به. و على كلّ حال، ذهبت الأشاعرة إلى تغاير الطّلب و الإرادة، و ان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. و ذهبت المعتزلة إلى اتّحادهما و انّ الإرادة عين الطّلب، و الطّلب عين الإرادة. و لا يخفى انّ الكلام في المقام أعمّ من إرادة الفاعل و إرادة الآمر، إذ لا خصوصيّة في إرادة الآمر حتّى يختصّ الكلام فيها، فانّ المقدّمات الّتي يحتاج إليها الفعل الاختياري في مرحلة وقوعه من فاعله، هي بعينها يحتاج إليها الأمر في مرحلة صدوره عن الآمر.

و بعد ذلك نقول: لا إشكال في توقّف الفعل الاختياري على مقدّمات: من التّصور و التّصديق و العزم و الإرادة. و هذا ممّا لا كلام فيه، انّما الكلام في انّه هل وراء الإرادة امر آخر؟ يكون هو المحرّك للعضلات يسمّى بالطّلب، أو انّه ليس وراء الإرادة امر آخر يسمّى بالطّلب؟ بل الإرادة بنفسها تستتبع حركة العضلات.

ثمّ لا إشكال أيضا في انّ الإرادة من الكيفيّات النّفسانيّة الّتي تحصل في النّفس قهرا كسائر المقدّمات السّابقة عليها: من التّصور و العلم و غير ذلك و ليست الإرادة من الأفعال الاختياريّة للنّفس بحيث تكون من منشئاتها الاختياريّة، إذا عرفت ذلك، فنقول: لا ينبغي الإشكال في انّ هناك وراء الإرادة امر آخر (و هو الطلب) يكون هو المستتبع لحركة العضلات و يكون ذلك من افعال النّفس، و ان شئت سمّه بحملة النّفس، أو حركة النّفس، أو تصدّى النّفس، و غير ذلك من التّعبيرات.(إذن فالإرادة صفة قائمة بالنفس بینما الطلب یمتاز عن الإرادة بأنه یَبرُز و ینجلي بواسطة الحرکات العضلانیة بحیث یهجُم النفس لکي یصلَ إلی متطلّبه و یتصدی إلیه بإصدار الأمر و الطلب)

و بالجملة: الّذي نجده من أنفسنا (خلافاً لوجدان الآخوند) انّ هناك وراء الإرادة شيئا آخر يوجب وقوع الفعل الخارجي و صدوره عن فاعله. و من قال (و هو الشیخ الآخوند) باتّحاد الطّلب و الإرادة لم يزد على استدلاله سوى دعوى الوجدان، و انّه لم نجد من أنفسنا صفة قائمة بالنّفس وراء الإرادة تسمّى بالطّلب. و قد عرفت: انّ الوجدان على خلاف ذلك، بل البرهان يساعد على خلاف ذلك، لوضوح انّ الانبعاث لا يكون إلّا بالبعث (و الطلب، زائداً علی مرحلة الإرادة) و البعث انّما هو من مقولة الفعل (و هو الطلب البارز بتحریک اللسان) و قد عرفت انّ الإرادة ليست من الأفعال النّفسانيّة، بل هي من الكيفيّات (و الحالات) النّفسانيّة (بینما الطلب یُعدّ من الأفعال النفسانیة الصادرة من فمِ الآمر إضافةً علی حالة الإرادة) فلو لم يكن هناك فعل نفساني (و طلب بارز) يقتضى الانبعاث يلزم ان يكون انبعاث بلا بعث.

و بالجملة: لا سبيل إلى دعوى اتّحاد مفهوم الإرادة و مفهوم الطّلب، لتكذيب اللّغة و العرف ذلك (الاتحاد المفهوميّ) إذ ليس لفظ الإرادة و الطّلب من الألفاظ المترادفة كالإنسان و البشر.

و ان أريد من حديث الاتحاد التّصادقُ المورديّ (خارجاً علی المطلوب) و إن تغايرا مفهوماً فله وجه، إذ يمكن دعوى صدق الإرادة على ذلك الفعل النّفسانيّ (فیقال: أراد ذلک الفعل المطلوب) كما تصدق‏ (الإرادة) على المقدمات السّابقة من التّصديق، و العزم، و الجزم، و يطلق عليها الإرادة.

هذا، و لكن فيه ما فيه، إذ دعوى ذلك لا يكون إلّا بدعوى انّ الإرادة لها مفهوم واسع، يسع المقدّمات السّابقة و ما هو فعل النّفس (و هو الطلب) و الحال انّه ليس كذلك، إذ الإرادة كيفيّة خاصّة للنّفس (قهریة) تحدث بعد حدوث مباديها فيها (تلقائیاً، بینما الطلب هو فعل اختیاريّ فإما أن یطلُب و إما لا) و لذا تسمى بالشّوق المؤكد، إذ التّعبير بذلك انّما هو لبيان انّه ليس كلّ ما يحدث في النّفس يسمّى بالإرادة، بل الإرادة انّما تحدث بعد التّصور و التّصديق و غير ذلك من مباديها، و إطلاق الإرادة على بعض المبادي أحيانا انّما هو لمكان التّسامح في توسعة المفهوم، لا انّ المفهوم (الإرادة) هو بنفسه موسع بحيث يشمل ذلك (المبادئ) فظهر: انّه لا سبيل إلى دعوى الاتّحاد، بل المغايرة بينهما عرفا أوضح من ان تخفى.[2]
 
مسایرَة السید الخوئيّ إثرَ مسار أستاذه النائینيّ
لقد استقبلَ السیدُ الخوئيّ مقولةَ أستاذه و سایره بأن عنصر الإرادة تعدّ من الکیفیّات النفسانیة الکامنة في جوف البشر، إلا أن السید لا یعتقد بأن الطلب النفسانيّ هي نفس الأمور الباطنيّة المکنونة وفقاً للمحقق النائینيّ بل یری الطلبَ النفسانيّ من نمط الأفعال الاختیاریة البارزة و الصادرة علانِیةً، و نستحضر الآن مقالة السید الخوئيّ، حیث یقول:[3]

إن ما أفاده (الأستاذ قدّس سره) يحتوي على عدّة نِقاط:

1- اتحاد الإرادة الحقيقية (الباطنيّ) مع الطلب الحقيقي (المکنون أیضاً).

2- اتحاد الإرادة الانشائية مع الطلب الانشائي (خارجاً).

3- مغايرة الطلب الانشائي (الخارجيّ) للطلب الحقيقي، و (مغایرة) الارادة الانشائية (خارجاً) للارادة الحقيقية، ولم يُبرهن (قدس سره) على هذه النقاط، بل أحالها إلى الوجدان، ولنأخذ بالنظر في هذه النِقاط:

أمّا الاولى: فهي خاطئة جداً، والسبب في ذلك: أنّ الارادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانية ومن مقولة الكيف القائم بالأنفس. وأمّا الطلب فقد سبق أ نّه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن الانسان بالارادة والاختيار، حيث إنّه عبارة عن‏ التصدي‏ نحو تحصيل‏ شي‏ء في الخارج، ومن هنا لا يقال طالب الضالّة، أو طالب العلم إلّا لمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما (بفعله الاختیاريّ الخارجي)، وأمّا من اشتاق‏ إليهما فحسب وأراد فلا يصدق عليه ذلك، ولذا لا يقال طالب المال أو طالب الدُّنيا لمن اشتاق وأرادهما في أفق النفس، ما لم يُظهر في الخارج بقول أو فعل (فمن هذه الناحیة یمتاز الطلب عن الإرادة).

وبكلمة اخرى: أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً، فلا يصدق على مجرد الشوق والارادة النفسانية، ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا: طلبت زيداً فما وجدته، أو طلبت من فلان كتاباً- مثلًا- فلم يعطني، وهكذا، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي، وليس إخباراً عن الارادة والشوق النفساني فحسب، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطلب متعلقاً بفعل نفس الانسان وعنواناً له كطالب الضالّة وطالب العلم وما شاكلها، وأن يكون متعلقاً بفعل غيره. وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الارادة، وقد تحصّل من ذلك: أنّ الطلب مباين للارادة مفهوماً ومصداقاً، فما أفاده (قدس سره) من أنّ الوجدان يشهد باتحادهما خطأ جداً.

و الذي یبدو وهّاجاً هو أن السید قد اغترف و استسقی بیاناتِه عن معطیاتِ المحقق النائیني لیس أکثر، و لکن نعتقد بأن تبیان المحقق النائینيّ یُعد أدقّ و أعمق تجاه تبیان السید الخوئيّ، إذ المحقق قد أدرجَ الطلب الباطنيّ ضمن الأمور النفسانیّة لا الأفعال الاختیاریة أي عکسَ ما صنعه السید الخوئيّ.

 
جَودة مواجهةِ المحقق الاصفهانيّ لمبحث الطلب و الإرادة
و أما المحقق الاصفهاني، فقد شعب النقاش إلی ثلاث شعوب و نظّمه وفقَ نظام أنیق بحیث قد ابتدأ حوارَه بالتفکیک ما النظرة الکلامیة أو الأصولیة أو اللغویة في مبحث الطلب و الإرادة، فقال:

ينبغي أوّلا تحقيق أن المسألة على أيّ وجه عقلية، و على أيّ وجه اصولية، و على أيّ وجه لغوية؟ فنقول:[4]

1. إن كان النزاع في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني في قبال الإرادة عند الأمر بشي‏ء- كانت المسألة عقلية، و سنبين‏[5]- إن شاء اللّه تعالى- ما عندنا امتناعا و إمكانا.

2. و إن كان‏ النزاع في أنّ مدلول الأمر هل هو الإرادة، و الطلب متحد معها، أو منطبق على الكاشف عنها، أولا- كي تكون الصيغة كاشفة عن الإرادة عند الإمامية و المعتزلة، و كاشفة عن الطلب المغاير لها، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى- كانت المسألة اصولية، و سيجي‏ء توضيحه إن شاء اللّه‏ تعالى‏[6].

3. و إن كان‏ النزاع في مجرّد مرادفة لفظ الطلب مع لفظ الإرادة من دون نظر إلى ثبوت صفة نفسانية، أو إلى مدلول الصيغة و شبهها- كانت المسألة لغوية، فلا ربط لها بالاصول و لا بالكلام، لا يقال: الكلام في مرادفتهما ليس من جهة تشخيص المفهوم بما هو مفهوم، بل من جهة أنه لو ثبت وحدة المعنى كشف كشفا قطعيا عن أن المصداق واحد؛ بداهة استحالة انتزاع الواحد عن المتعدّد، فيبطل الكلام النفسي، و لو ثبت تعدّد المفهوم كشف عن تعدّد المصداق، فيصحّ دعوى الكلام النفسي، لأنا نقول: ليس لازم الالتزام بعدم المرادفة تعدّد المصداق في مرتبة النفس لاحتمال أن يكون مفهوم الطلب- كما سيجي‏ء ان شاء اللّه تعالى‏[7]- أمرا منتزعا عن قول أو فعل مظهر للإرادة.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أن الظاهر كما يستفاد من تتبع كلمات الباحثين عن المسألة في بدو الأمر، أن‏ النزاع في هذه المسألة نشأ من النزاع في الكلام النفسي حيث استدل الأشاعرة بأنّ الأمر الامتحاني و نظائره مدلولها الطلب دون الارادة، فيعلم أن ما عدا الارادة و الكراهة في الأمر و النهي معقول.

و السرّ في دعواهم ذلك و الالتزام بالكلام النفسي تصحيح متكلّميّته تعالى‏[8]- فى قبال سائر الصفات مع التحفظ على قدم الكلام؛ إذ الالتزام بقدم‏ الكلام اللفظي- مع كونه مؤلفا من أجزاء متدرجة متقضّية متصرّمة في الوجود- غير معقول، و من هنا تعرف أن الالتزام بمغايرة الطلب و الإرادة، أو الالتزام بأنّ مدلول الصيغة غير الإرادة- إذا لم يلزم منه ثبوت صفة اخرى في النفس- غير ضائر، و إن التفرد في أحد الأمرين لا يوجب الاستيحاش و لا موافقة الأشاعرة فيما دعاهم إلى دعوى المغايرة.

فنقول: إن كان النزاع في إمكان صفة اخرى أو فعل آخر في مرتبة النفس في قبال الإرادة فالحقّ إمكانه، لكنه لا يكون كلاما نفسيا مدلولا عليه بالكلام اللفظي، فالدعوى مركبة من أمرين: أحدهما- مجرد إمكان أمر آخر غير الإرادة و سائر الصفات المشهورة. ثانيهما- امتناع مدلوليته للكلام اللفظي.

أما الأول- فتحقيقه يتوقف على بيان وجه الامتناع على الاجمال: و هو أن الأجناس العالية للماهيّات الإمكانية- كما برهن عليه في محله- منحصرة في المقولات العشر- أعني مقولة الجوهر، و المقولات العرضية التسع- و الوجود الحقيقي- الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم- منحصر في العيني و الذهني، غاية الأمر أن طرد العدم في كل منهما بحسب حظه و نصيبه قوة و ضعفا.

و من الواضح أن ما يقبل كلا الوجودين هي الماهيات؛ حيث إنها في حدود ذواتها لا تأبى عن الوجود و العدم. و أما الوجود الحقيقي فحيثية ذاته حيثية الإباء عن العدم، فلا يقبل وجودا آخر- لا من سنخه، و لا من غير سنخه- و هو بمكان من الوضوح.

فالقائل بالكلام النفسي إن كان يدعي: أن سنخه- إجمالا- سنخ‏ الماهيات فالبرهان قائم‏[9] على انحصارها في المقولات العشر، فحاله حالها من حيث قبول الوجودين.

فحينئذ يقال: إن قيامه بالنفس إن كان بنفسه- كالصفات النفسانية من العلم و الارادة و غيرهما- فهو من الكيفيات النفسانية، و البرهان قائم- في محلّه- على ضبطها و حصرها، و مدلولية أحدها للكلام اللفظي- كقولك: (أعلم و اريد) على ثبوت العلم و الإرادة- لا تجعلها كلاما نفسيا. و إن كان قيامه بالنفس قيامه بصورته قياما علميا، فهو أمر مسلم بين الطرفين، فهو من هذه الجهة داخل في مقولة العلم، و المفروض غيره.

و منه يظهر: أن قيام الكلام اللفظي بالنفس- قياما علميا- لا دخل له بالكلام النفسي؛ لأن ماهية الكيف المسموع كماهية الكيف المبصر- في أن لها نحوين من الوجود- هذا إذا كان القائل بالكلام النفسي يدّعي أن سنخه سنخ الماهيات، و إن كان يدعي أن سنخه سنخ الوجود، فهو- على التحقيق المحقق عند أهله في محله- معقول- و إن لم يتفطّن له الأشعري- إلا أن مدلوليته للكلام اللفظي غير معقولة:

أما أصل معقوليته فالوجدان الصحيح شاهد على ذلك، كما في إيقاع‏ النسبة الملازم للتصديق المقابل للتصور، فإن صورة (أن هذا ذاك)- مطابقا لما في الخارج و ناظرا إليه- تصديق داخل في العلوم الانفعالية لانفعال النفس و تكيّفها بالصورة المنتزعة من الخارج. و نفس (هذا ذاك)- من دون نظر إلى صورة مطابقة له في الخارج- من موجودات عالم النفس، و نسبة النفس إليه بالتأثير و الإيجاد، لا بالتكيّف و الانفعال، و حقيقته وجود نوري قائم بالنفس قياما صدوريا، و هو المراد بالعلم الفعلي في قبال الانفعالي، و منه الأحاديث النفسانية، فإن الوجدان أصدق شاهد على أن نسبة النفس إليها بالايجاد و التأثير، و نفس وجودها الحقيقي عين حضورها للنفس، بل هذا حال كل معلول بالنسبة إلى علته؛ حيث إن وجوده عين ارتباطه به، و هو أفضل ضروب العلم؛ إذ ليس العلم إلا حضور الشي‏ء، و أيّ حضور أقوى من هذا الحضور؟! فتوهم انحصار موجودات عالم النفس في الكيفيات النفسانية بلا وجه.

بل التحقيق: أن نسبة النفس إلى علومها مطلقا نسبة الخلق و الإيجاد. قال أمير المؤمنين عليه السلام: «كلّ ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه، فهو مخلوق لكم مردود إليكم»[10].

و إلى ما ذكرنا في تحقيق هذا الوجود النوري- الخارج من الكيفيات النفسانية؛ حيث إنها ماهيات موجودة، و هذا حقيقة الوجود- أشار بعض أكابر فن المعقول في غالب كتبه، و صرح به في رسالته المعمولة في التصور و التصديق‏[11].

و أما استحالة مدلوليته للكلام اللفظي، فلأن المدلولية للكلام ليس إلا كون اللفظ واسطة للانتقال من سماعه إليه، و هذا شأن الماهية، و الوجود الحقيقي- عينيا كان أو نوريا إدراكيا- غير قابل للحصول في المدارك الإدراكية؛ لما عرفت سابقا، فلا يعقل الوضع له، و لا الانتقال باللفظ إليه، إلا بالوجه و العنوان، و مفروض الأشعري مدلوليته بنفسه للكلام اللفظيّ، لا بوجهه و عنوانه. هذا كله إذا كان الكلام على وجه يناسب علم الكلام.

و إن كان النزاع في مدلول الصيغة- كما هو المناسب لعلم الاصول- فالتحقيق: أن مدلول صيغة (افعل) و أشباهها ليس الطلب الانشائي، و لا الإرادة الانشائية، بل البعث المأخوذ على نحو المعنى الحرفي، و المفهوم الأدويّ، كما أشرنا إليه في أوائل التعليقة، و سيجي‏ء- ان شاء اللّه تعالى- عما قريب، و البعث الموجود بوجوده الإنشائي ليس من الطلب و الإرادة في شي‏ء، و لا يوجب القول به إثبات صفة نفسانية أو فعل نفساني يكون مدلولا للكلام اللفظي، إلا بتوهم: أن الانشاء إيجاد أمر في النفس، و سيجي‏ء تحقيق نحو وجود الأمر الإنشائي إن شاء اللّه تعالى‏[12].

و أما أنّ مدلول الصيغة هو البعث تقريبا، دون الإرادة الانشائية، فيشهد له الوجدان‏[13]، فإنّ المريد لفعل الغير، كما أنه قد يحرّكه و يحمله عليه تحريكا حقيقيا و حملا واقعيا، فيكون المراد ملحوظا بالاستقلال، و التحريك- الذي هو آلة إيجاده خارجا- ملحوظا بالتبع. كذلك قد ينزل هيئة (اضرب) منزلة التحريك‏ الملحوظ بالتبع، فيكون تحريكا تنزيليا يقصد باللفظ ثبوته، و لذا لو لم يكن هناك لفظ لحرّكه خارجا بيده نحو مراده، لا أنه يظهر إرادته القلبية، مع أن تحقيق هذا الأمر ليس فيه فائدة اصولية.

 
محاجة السید البروجرديّ تجاه الشیخ محمد تقي الاصفهانيّ
و لهذا قد اعترض السید البروجردي علی مقولة الشیخ محمد تقي الاصفهانيّ بأن البحث کلاميّ و هو حول حالات النفس و أنه هل هناک شیئ آخر في النفس (کالطلب) وراءَ الإرادة الباطنیة وفقاً للأشاعرة حیث التجأوا و اعترفوا في نهایة المطاف إلی وجود الکلام النفسيّ أم لا یوجد عنصر آخر بل هما مندمجان في الجوف البشريّ وفقاً للمعتزلة و الإمامیة حیث قد استنکروا الکلام النفسيّ حینئذ، فلیس النقاش حول تغایر الطلب الإنشائيّ الخارجيّ و الإرادة الحقیقیة المستودَعة في الإنسان أو اندماجهما، إذ إن التنافر بینهما أظهر من الشمس، إذن فلیس الشجار هنا، و نستحضر لک الآن نص مقالة السید البروجرديّ، حیث یقول:

إن العالم المحقق الشيخ‏ محمد تقي‏ الأصفهاني‏ صاحب الحاشية لما صادف عنوان اتحاد الطلب و الإرادة، و لم يتتبع حتى يظهر له ما هو مطرح النزاع بين الفريقين، و كان المتبادر إلى ذهنه من لفظ الطلب، الطلب الإنشائيّ، و من لفظ الإرادة الصفة النفسانيّة الخاصة، حكم بتغاير الطلب و الإرادة، و تخيل أنه وافق في هذه المسألة الأشاعرة، و خالف المعتزلة و الإمامية مع وضوح أنهم لم يتنازعوا في أن الطلب الإنشائيّ هل هو مغاير للإرادة النفسانيّة أو متحد معها؟ فيختار الأشعري التغاير و المعتزلي الاتحاد، إذ التغاير بينهما أظهر من الشمس و أبين من الأمس. بل نازعوا- كما عرفت- في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم و الإرادة و الكراهة، و كان نزاعهم نزاعا مذهبيا، إذ كان مقصودهم إثبات أن القرآن الّذي هو كلام اللّه حادث أو قديم، فما فهمه هذا المحقق من عنوان اتحاد الطلب و الإرادة و تخيل أنه مطرح أنظار الأشاعرة و العدلية بعيد عن الصواب، و يكون ناشئا من عدم تتبع تاريخ المسألة و ما هو محط نظر المتنازعين فيها.[14]

------------------
[1] كفاية الأصول(طبع آل البيت) ص: 65
[2] فوائد الاصول، ج‏1، ص: 131
[3] محاضرات فى أصول الفقه ( طبع موسسة احياء آثار السيد الخوئي )، ج‏1، ص: 354
[4] نهاية الدراية في شرح الكفاية، ج‏1، ص: 261
[5] في نفس هذه التعليقة و في التعليقة: 149.
[6] و ذلك في نفس هذه التعليقة عند قوله:( و إن كان النزاع في مدلول الصيغة ....
[7] و ذلك في أواخر نفس هذه التعليقة عند قوله:( إلا أنّ المظنون قويا ..).
[8] قولنا:( تصحيح متكلّميته تعالى ... الخ) قد مر منا أن الكلام الذي هو من صفات الأفعال- كما ورد في روايتها- هو عين الإحداث و الإيجاد، و أما جعله من صفات الذات، كما في كلمات اهل المعرفة، فهو باعتبار أن وجوده تعالى معرب عن مقام ذاته المقدسة، و أن صفاته و أسماءه معربة عن كمالاته المندمجة في مقام ذاته، كما أن للموجودات التي هي مظاهر اسمائه و صفاته كلمات وجودية معربة عن حقائق أسمائه و صفاته تعالى.[ منه عفي عنه‏].
[9] قولنا:( فالبرهان قائم ... الخ). مع أن المقسم للنفس و اللفظي حيث إنه طبيعة الكلام- و هو من الكيف المسموع- فلا قيام له بالنفس بنفسه، بل قيامه علمي، و إذا اريد من المقسم مدلول الكلام حيث إنه: تارة يوجد في النفس، و اخرى بوجود اللفظ، فمن الواضح أن المداليل مختلفة: فتارة تكون من الامور التي توجد في افق النفس، كالكيفيات النفسانية، و اخرى في خارج النفس كغيرها، و على الأوّل- هو إحدى الكيفيات النفسانية التي لا كلام فيها، و على الثاني- لا قيام له بالنفس إلا بقيام علمي.( منه عفي عنه).
[10] الروايات الواردة بهذا المضمون كثيرة، فراجع بحار الأنوار 3: 287/ باب: 13.
[11] صدر المحققين( رحمه اللّه) في رسالته المومى إليها في المتن- المطبوعة في ذيل الجوهر النضيد للعلّامة( رحمه اللّه)- ص: 312 فما بعدها.
[12] في التعليقة: 150 من هذا الجزء.
[13] قولنا:( فيشهد له الوجدان ... الخ). فإن الانسان بعد اشتياقه لفعل الغير الذي هو تحت اختياره يقوم بصدد تحصيله منه: إما بالبعث إليه، أو بايجاد الداعي له، و نحوهما، فيناسبه وضع الهيئة لمثل هذه الامور حتى تكون الهيئة بعثا تنزيليا أو جعلا للداعي تنزيلا، و أما إنشاء الإرادة مع تحقّق نفس الارادة، فهو أجنبي عن ذلك؛ لأنّ وجودها الواقعي حاصل، و مع ذلك يحتاج إلى توسّط أمر آخر، فكيف يتوسّط بينها و بين المراد إنشاء مفهوم الارادة؟ فتدبر، فإنه حقيق به( منه عفي عنه).
[14] نهایة الأصول ص91



الملصقات :


نظری ثبت نشده است .